"الغربال" بين "السرايد" وشبك المعدن



ثمة أدوات لكثرة ما ألفناها نتخيل أنها وُجدت دائماً على هذه الصورة أي كما عرفناها نحن، خصوصاً إذا كانت الأداة قليلة الاستعمال في حياتنا المعاصرة "فالغربال" مثلاً رافق جداتنا زمناً طويلاً وقد لا يتخيل البعض أنه هو الآخر مرّ بمراحل تطور مختلفة.
eSyria حاول تتبع هذه المراحل من خلال اللقاء مع أناسٍ عملوا على صنعه أو استخدامه في العقود الماضية فالتقى أولا بالنجار "عبد الحميد فاكوش" الذي يعتبر أكبر النجارين سناً في سوق خشابي "دير الزور" فحدثنا عن صناعة "الغربال" ومراحل تطور هذه الصناعة قائلاً: «يتألف "الغربال" من إطار وشبك، الإطار كان ولا يزال من خشب "الصفصاف" أو خشب "الجوز"، وخشب "الجوز" أفضل ولكن كونه أكثر ثقلاً من "الصفصاف" يصبح استخدامه أقل.

أما عن الشبك فقد كان يصنع منذ عقود من جلد الحيوانات كالبقر أو الجمل حيث يعالج هذا الجلد وتصنع منه خيوط رفيعة تسمى في منطقتنا "سرايد" مفردها "سريدة" "وهذه التسمية يطلقها "الديريون" حتى اليوم على كل خيط رفيع من الجلد" ، أما "الغربال" نفسه فكان يسمى "غربال السَرَد" .

وكان "القرباط" يختصون بصناعته وتذكر لي أمي أن أحدهم جاء إلى والدي منذ أكثر من 60 عام ووعده أن يصنع له ثلاثة "غرابيل" إن هو أحضر له رقبة جمل وبالفعل صنعها لوالدي وما تزال موجودة في بيتنا حتى اليوم، ولكن هذا النوع من الشبك لم يعد موجوداً منذ أكثر من 10 سنوات وتم استبداله بالمعدن الذي انتشر بسرعة بسبب ماله من مزايا مقارنة بالجلد فهو أولاً أقل تكلفة
غربال يعود عمره لأكثر من75 عام شبكه عبارة عن جلد من رقبة الجمل. مادية وثانياً أقل مجهود وثالثاً وهذا هو الأهم أن الثقوب فيه متساوية كونه آلي أما الجلد فكان يدوياً لذلك قد لا تتحقق فيه هذه الميزة.

وقال مضيفاً للتمييز بين "الغربال" وأداة تشبهه هي "المنخل": «هنالك من يخلط -من الجيل الشاب تحديداً- بين "الغربال" و "المنخل" مع أن الفرق بينهما كبير فلكل منهما وضعه واستخداماته "فالمنخل" مثلاً يستخدم حصراً للدقيق وشبكه إما أن يكون من النحاس أو البرونز أو الفولاذ والثقوب فيه صغيرة جداً، و"منخل" النحاس هو الأغلى من حيث السعر ويستخدم بشكل اقل من غيره خاصة في محلات صناعة الحلويات».

وعن استخدام "الغرابيل" واختلاف هذه الاستخدامات بين حالتي الجلد والمعدن سألنا السيدة "فريدة الخلف"التي أجابتنا بقولها:«كان "الغربال" على أحجام متعددة منها "الغربال" الكبير والمتوسط والصغير وهذه أحجام أساسية قد تأتي بينها "غرابيل" أخرى متفاوتة الحجم، ويستخدم بشكل أساسي للقمح الذي يأتي على أنواع منها بحجم صغير ومنها بالحجم الكبير الذي كان يسمى "مناقير القطا" فيغربل القمح باستخدام "الغربال" الكبير، فما ينزل منه تكون حباته صغيرة وهذا يطحن وتصنع منه "الشعيرية اليدوية" وما تبقى في "الغربال" يُصنع منه "البرغل".

أما الاستخدام الثاني فهو لغربلة "البرغل" فبعد أن يتم سلق القمح حتى النضوج نلجأ إلى تجفيفه ثم يجرش لنحصل نماذج من الغربال الحديث. على "البرغل"، والجرش إما أن يكون بالرحى كالسابق أو بالآلات الحديثة كما يحدث اليوم وبعدها يأتي دور "الغربال" حيث يتم فرز حبوب البرغل الصغيرة من الكبيرة التي يعاد جرشها مجدداً للحصول على الحجم المطلوب، كما يستخدم أيضا في تجفيف "الشعيرية" فيتم قلبه على ظهره ووضع "الشعيرية" التي كان يتم عملها يدوياً فوقه وهذه العملية تضمن جريان الهواء من الأسفل إلى الأعلى وبالتالي تجف "الشعيرية" بسرعة، ولكن النساء اللواتي يخفن على أثاث منازلهن يتجنبن هذا الاستخدام لكي لا يشجع وجود "الشعيرية" -التي تحتوي على "السمن"- والموجودة فوق جلد "الغربال" الفئران على قضمها وبالتالي يؤدي ذلك إلى إفساد "الغربال"، أما عن الاستخدامات الحالية "للغربال" بعد أن أصبح الشبك من المعدن فهي قليلة بسبب تغير شروط الحياة، تكاد تكون هذه الاستخدامات معدومة في المدينة وموجودة بشكل محدود في الريف ».

وعن انقراض "غربال السرد" وموقعه في قلوب السيدات كبيرات السن سألنا السيدة "سعاد الصالح" ،ربة منزل، فأجابت:«قلّ الاهتمام بسلق البرغل إجمالاً وبفتل "الشعيرية" بسبب وجودها بكثرة في الأسواق وهنا قلّ الاهتمام بـ"الغربال" عموما ولكن غربال الجلد حافظ على مكانة مميزة في نفوس كل النساء اللواتي يعتبرنه ذكرى طيبة من الماضي فقبل 15 سنة تقريباً كان ما يزال موجوداً لدى جيران النجار فراس العرفي لنا في الحارة المجاورة وكان الجميع يستعيرونه "للبرغل" ومجرد استعارته كانت تعتبر طقساً بحد ذاتها».

وعن الإقبال على شراء "الغربال" في الوقت الحالي حدثنا النجار "فراس العرفي" قائلاً:«هنالك أشياء لا يمكن الاستغناء عنها وهي موجودة ما وُجِدَ الريف وأهله و"الغربال" أحد هذه الأشياء ولكن له مواسم ينشط فيها أكثر من مواسم أخرى فهو يباع أكثر ما يباع في موسم الحصاد».