هنيئا لك أن صدّقتَ الرؤيا...
كلمة وفاء للعلامة محمد سعيد رمضان البوطي
محمد سليمان
الحمد لله الذي يثبت المؤمنين بالقول الثابت ويهيئ لهم من أمرهم رشدا. الحمد لله الذي يتخذ من المؤمنين شهداء ويحشر المتقين إلى رحاب رحمته وفدا. وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلم الهدى.
وبعد، فإن النفس لتتلوى من تباريح الأسى، ويفيض القلب حزنا وجوى لفقدك أيها العالم الرباني يا ذا التقى. وعظم الله أجرنا وأجر جميع المسلمين؛ اللهم اخلفنا في مصيبتنا خيرا منها.
فاسمح لي أيها الشيخ الشهيد أن أخاطبك وقد خرجتَ من سجن الدنيا عابرا باب الانتقال من حياة إلى حياة، كما كنت تكرر وصف الموت في أحاديثك المتلفزة في الأسابيع الأخيرة. لم نلتق في عالم الأشباح فدع روحي تحدث روحك وقد عبرتَ البرزخ فارتقيت حيا ترزق عند ربك إن شاء الله. اسمح لي أن أناديك وأنا ما أزال خلف البرزخ أنتظر سائلا الله التثبيت وأن يجعلني من الذين لم يبدلوا تبديلا.
يا شيخي الحبيب..
نفتقدك وعزاؤنا أن بشائر حسن الخاتمة اكتنفت رحيلك، وسبقتها إليك دلائل التثبيت الإلهي. فقد رحلت وأنت متلبس بطاعة، أو بسببها، وقد نذرت عمرك لها وهي الدعوة إلى الله. والمحراب الذي عرف لوعتك وطرِب لمناجاتك ربك، صار معراج روحك. ولا أزال أذكر أنك قلت على منبر الجمعة قبل أسابيع قليلة إنك كنت ترجو أن ترحل إلى الله بلسانٍ يدعو إليه مستشفعا بقوله تعالى (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله) . فيا لها من كرامة أن يتوفاك الله على أحب عمل تمنيت أن تلقى وجهه الكريم به. وأعظم بها من خاتمة أن يتخذك الله شهيدا ليرفع لك في عليين مقعد صدق عند مليك مقتدر.
يا شيخنا..
لأن سيرتك العطرة عبر رحلتك إلى الله طوال أكثر من ثمانين عاماً تتلخص في مظاهر تثبيت الله وحبه لك، إذ كنت شابا نشأ في طاعة الله، فصرت عالماً أمرت بالقسط والمعروف ونهيت عن البغي والمنكر، وبقيت زاهداً عرف حقيقة الدنيا فعاملها بأنفة، ولأن إشراق البدايات دليل إشراق النهايات، لذلك كله تطوف في وجداني قناعة بأنك إذ كُشف عنك غطاؤك أسلمت روحك الطاهرة وفرحك شديد، وتكاد أذن ذهني تسمع صوتك هاتفاً (فزتُ وربِ الكعبة) كأحلى ما يكون النشيد.
وإنه لمن علامات قبول الله وحبه لك، أن الله عز وجل أمدك بالتثبيت ومنحك الصبر حتى تمر من هذه الفتنة بسلام. فأراك الله المحنة في إقبالها، فلم تتأخر عن التحذير والدعوة للتوبة والإنابة إلى الله، ولم تخش إذ صرحت برؤياك يومها لوم الحاسدين ونقد الجاهلين ولؤم الكائدين؛ فصدْقُك منعك أن تكتم ما أراك الله، ورأفتك بالناس دفعتك إلى تذكير الغافلين وإشفاقك على الناس حملك على تحذير التائهين.
ثم أراك الله المصيبة في إدبارها، ولم تتوان عن إعلان ذلك للناس تثبيتا لهم، وظللت تبيّن الحكم الشرعي الذي انتهى اجتهادك إليه مخلصاً لله لا تحيد عنه طلباً لرضا ناس ولا تداهن فيه لتدفع سخط ناس.
فهنيئاً لك أن صدقت الرؤيا والتزمت ما أراك الله بيقينٍ لا يأتيه ريب وإيمان لا يداخله زيغ.
رحلتَ يا سيدي قبل أن تبصر مصداق رؤياك، فحسبك اليقين بحكمة الله وإيمانك بأن أمر الله آت، والأمر كله لله من قبل ومن بعد، وهو الذي قال لأحَب الخلق إليه:
( وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ?لَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ?لْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا ?لْحِسَابُ )[40: سورة الرعد].
أوليس لورثة النبي صلى الله عليه وسلم - وأنت منهم - نصيب من هذا الخطاب الإلهي: (( وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ?لَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ?لْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا ?لْحِسَابُ ))؟ كيف لا وقد آتاهم الله جزءاً من ستة وأربعين جزءا من النبوة، هو الرؤيا الصالحة. هنيئاً لك أن صدقت الرؤيا.
يا سيدي..
توقفتُ مليا عند هذه الآية الكريمة ومثيلاتها في محكم التنزيل، واطلعت على كلام مفسريها فكأنهم إذ يشرحون بيان الله لنبيه صلى الله عليه وسلم يصفون حالك أيها الوريث المحمدي وقد انتهجت طريقته والتزمت هديه.
يقول الباري عز وجل: ( فَ?صْبِرْ إِنَّ وَعْدَ ?للَّهِ حَقٌّ فَـإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ?لَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ) [ 77: غافر].
قال القشيري رحمه الله عند تفسير هذه الآية في (لطائف الإشارات): "كُنْ بِقلبكَ فارغاً عنهم، وانظر من بعدُ إلى ما يُفعلُ بهم، واستيقن بأنه لا بقاء لجولة باطلهم.. فإن لقيت بعض ما نتوعدُهم به وإلاّ فلا تكُ في ريبٍ من مقاساتهم ذلك بَعْدُ". أجل وإنك كلما تفاقمت هذه المصيبة كنت تزداد التجاء إلى الله وثباتا على حسن ظنك بالله، فكان قلبك فارغا عن المخاطر التي تتلاطم حولك مستيقنا بصدق وعد الله.
ولأنك يا شيخنا أحببت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبهداه اقتديت، ظللت ثابتاً صابراً بمدد من عند الله، لم يثنك ترغيب ولا ترهيب، ولم يزحزحك نقد أو تجريح، إذ قلت الحق، وأكثر الناس للحق كارهون، ومنهم من يكرهه في كل فريق اقتحم هذه الفتنة.
يكفيك سيدي دليلاً على صدقك أن كل الفرقاء كانوا ينشدون دعمك. حتى مخالفوك طمعوا أن تتبنى كلامهم غثَّه وسمينه. ولسان حال الفرقاء جميعاً يشهد بعلو كعبك في العلم وسمو مكانتك في القلوب. ولا يختلف عاقلان على أن الصورة التي اختارك الله عليها تدل على حسن الخاتمة وأي خاتمة.. يتمناها كل مؤمن، في بيت من بيوت الله بل في المحراب، وأنت تلقي درساً في كتاب الله.
وإذ انتقلت إلى جوار ربك، راح كل فريق (صادقاً أو مستثمراً) يسعى لاعتصار معان من استشهادك تؤيد موقفه، مقرين بلسان الحال أو المقال أن تأثيرك العلمي والدعوي لن ينقطع برحيلك وأن محبتك لن تغيض في القلوب بموتك. تنافسوا على كلمة منك في حياتك، وتباروا في محاولة استنطاق جثمانك. فما أعظمك حياً وما أعظمك ميتاً!
وكل من ألقى السمع لكلامك بأذن واعية أو قلب حاضر أدرك كيف انتقيت كلماتك احترازاً من كلمة قد تتضمن إقرار منكر لدى هذا الفريق أو ذاك. وأُشهد الله أنني لم أكن أجد في كلامك ما يجعلك واقفاً في صف هذا الفريق أو ذاك، بل كنت على منصة الحكم الشرعي تبين اجتهادك بدقة في الحكم على هؤلاء وهؤلاء. فأصل المسألة واضح لديك حيث بسطته في كتابك (الجهاد)، وأما تفاصيل تطورات الأحداث فقد أظهرت الحكم فيها من حيث الجهاد والصيال والدفاع عن النفس وحرمة قتل الأبرياء ولو بالإكراه وواجب الجيش وضرورة اصطلاحه مع الله والتزامه ما ينبغي أن يقوم به وخطر التدخل الأجنبي. وإن وقع في كلامك ما قد يفسر بطرق مختلفة كنت توضحه جليا في موقعك الالكتروني نسيم الشام ، كما أوضحت حكم النفير العام بأنه ينطبق بالنسبة للعدوان الخارجي، وأنه في الظروف الحالية يكون المطلوب من كل واحد الوقوف مع وطنه ضمن اختصاصه وعليه أن يقدّر مآلات ما يدعى إليه حسب ما يغلب على ظنه ويتصرف وفق ذلك.
هل في ذلك انحياز أعمى لفريق ضد آخر؟ لا والله، بل هو بيان دقيق لحكم الشرع (إن جاز لي أن أصف كلامك العلمي).
أجل يا قطب هذا الزمان، هنيئاً لك أن صدَّقت الرؤيا، فكان تعاملك مع الله، تقول ما وفقك إليه لا تأبه بسخط من هاجموك، ولا تنتظر شكوراً ممن وافقوك وقلبك فارغ عن الذين ربما خادعوا الله وخادعوك. صبرتَ على الذين ظلموك وترفعت عن الذين اتهموك، وكلٌ موقوف بين يدي الديان يوم يقوم الناس لرب العالمين. قال تعالى: ( وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ?لَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ ?للَّهُ شَهِيدٌ عَلَى? مَا يَفْعَلُونَ )[46: يونس]
صبرت ولم تبدل جزءاً من كلامك لم يرق لفئة أو استنكرته جمهرة. فهل جزاء الصابرين إلا عطاء من الله بغير حساب؟ ذكر السلمي رحمه الله في (حقائق التفسير) عند قوله تعالى: ( فَ?صْبِرْ إِنَّ وَعْدَ ?للَّهِ حَقٌّ فَـإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ?لَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ): "اصبر على شدائد الدنيا فإن وعد الله حق لمن صبر فيها على الشدائد أن يوصله إلى الراحة الكبرى وهو مقعد صدق عند مليك مقتدر".
وبصبرك وثباتك كنت من الربانيين الذين يتمسكون بهدي النبي: ( وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ ?للَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ?سْتَكَانُواْ وَ?للَّهُ يُحِبُّ ?لصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا ?غْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي? أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا و?نْصُرْنَا عَلَى ?لْقَوْمِ ?لْكَافِرِينَ )[ 146-147 : آل عمران].
ومع الصبر جمعت الإحسان إلى من أساء إليك. فوقع ثوابك على الله:
( فَآتَاهُمُ ?للَّهُ ثَوَابَ ?لدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ ?لآخِرَةِ وَ?للَّهُ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ )[148: آل عمران].
يا إمام العصر..
لقد جسدت في هذه المحنة معاني الثقة بالله والرضا عنه وصدق الالتجاء إليه مع اليقين بالاستجابة والصبر على البلاء، فأبيت إلا أن تعطينا دروساً عملية لما أفضت في شرحه في دروسك وبسطت بيانه في كتبك. فكنت دالاً بمقالك وأحوالك على المحجة، وأقام الله بك على المبدِّلين الحجة.
ولقد جسدت وظيفة ورثة الأنبياء إذ كنت تذكر الناس بلهفة وشفقة، وتدعو لهم بصدق وحرقة، وتخشى أن يفتن المسلمون في دينهم، فتثبتهم وتبشرهم لاسيما في تأكيد صدق كلام رسول الله عن بركة الشام ووعد الله لأهل الشام بالنصر والفرج. وإنني لأظن أن إقامة الله لك في الشام من آثار رحمته تعالى بالشام وأهله، فإن أخطر الفتن ما كان في الدين، وقد كنت حصناً له في الشام. وإذا تذكرنا خطر التنصير في الجزائر الذي غذته جرائم كهذه التي تطوف بالشام اليوم، وتصدى له علماء على مثل نهجك، أدركنا ما كنت تذكرنا به من أن الأمن والأمان حين تكون الفتن في الشام، ففيها حصن الإسلام وأيقنا أن الله قيضك للشام وأهله برحمة منه كي لا تكون فتنة في الدين؛ وكل خطب دون ذلك يهون.
بل كأنك تستمر في الدعاء للناس من مقعدك الآن فتقول: ( ي?لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ ?لْمُكْرَمِينَ )[26-27: يـس]
أجل، هذا حسن ظني بك يا سيدي وخالص دعائي. وحسن ظني بربي أنه اتخذك شهيدا وشملك ببشرى المتقين ( إِنَّ ?لْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ ) [54-55: القمر].
وأما الذين عادوك، الخاطئون الذين قتلوك وقتلوا حفيدك البار، قتلوك وأنت تعلِّم الدين وتأمر بالقسط فيبشرهم الله بالعذاب الأليم ( إِنَّ ?لَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ?للَّهِ وَيَقْتُلُونَ ?لنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ ?لَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِ?لْقِسْطِ مِنَ ?لنَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُولَـ?ئِكَ ?لَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ )[21-22: آل عمران].
يا لشقائهم إذ حادّوا الله ورسوله فأعلنوا إرادتهم تحدي السكينة التي ينزلها الله على مجالس الذكر، وتحدوا رسول الله الذي أخبر أن موت العالم ثلمة في الإسلام.
( أَلَمْ يَعْلَمُو?اْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذ?لِكَ ?لْخِزْيُ ?لْعَظِيمُ ) [63: التوبة].
اللهم أسألك بأسرار قولك ( فَ?صْبِرْ إِنَّ وَعْدَ ?للَّهِ حَقٌّ فَـإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ?لَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ) أن ترينا ما وعدت شيخنا من تفريج كرب الشام وأهله.
وأسألك يا ربنا بصدق وعدك ووعيدك ( فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ ?لَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ )[41- 42: الزخرف] أن تطهر الشام من المارقين والبغاة والطغاة وتنتقم من قتلة الشيخ البوطي وحفيده ومن قتلة الأبرياء في الشام.
إلى جنة الخلد يا شيخنا سعيد
إلى جنة الخلد يا أخانا أحمد
جمعنا الله معكم وشهداء الشام بالحبيب المصطفى في الفردوس الأعلى.
هنيئا لك أن صدّقتَ الرؤيا...
رابط المقال
http://naseemalsham.com/ar/Pages.php...d=39313&com=85