بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعد:
فبداية أيها الإخوة الكرام أقول: اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً, وتفرُّقنا من بعده تفرُّقاً معصوماً, ولا تجعل فينا شقياً ولا محروماً ولا مطروداً ولا ملعوناً, ولا مقتَّراً علينا في الرزق.
اللهمَّ أزِلْ ما بيننا من سوء من بيننا, واجمع قلوبنا على قلب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كما جمعت أبداننا على طاعتك في بيت من بيوتك.
أيها الإخوة: أسأل الله تعالى أن لا يجعل فينا متشاحنين, وأن يطهِّر قلوبنا من الغلِّ والضغينة.
ومن العوامل التي تزيل ما بيننا من سوء من بيننا ما علَّمنا إياه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حيث يقول: (لا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا, وَلا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا, أَوَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ) رواه مسلم.
لذلك أحييكم بتحية الإسلام, بسلام أهل الجنة, سائلين المولى أن يجعلنا من أهلها, فأقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ابتلاء الأمة ببعضها البعض:
أيها الإخوة: إن القلب مجروح ويقطر دماً على ما وصلنا إليه, لقد أصبحنا وأمسينا كلما جاءت ذكرى من ذكريات هذه الأمة, مثل ذكرى الإسراء والمعراج, وذكرى ليلة النصف من شعبان, وذكرى المولد النبوي الشريف, رأينا وسمعنا على أجهزة الإعلام المرئية من تصدَّر على تلك الشاشات وهو يتكلَّم بكلِّ بساطة وهدوء, ويقول: هذه الاحتفالات من البدع الضالة التي ما جاء بها الإسلام, وما ورد فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء.
كلَّما جاءت هذه الذكريات, وقبل حلولها بأيام أخذنا نسمع التحذير من الاجتماع على هذه الذكريات, وكأنَّ الأمة ترتكب جريمة من الجرائم, أو كأنَّ كارثة من الكوارث ستنزل بهذه الأمة, وأن هؤلاء غيورون على دين الله عز وجل, ولا أحد أغير منهم على دين الله عز وجل.
كثرت الأسئلة في هذه الأيام: هل يجوز إحياء ليلة النصف من شعبان؟ هل يجوز صيام نهارها؟ مع العلم بأن الأمة كانت متلقية هذا الأمر بقبول تام وخاصة في بلاد الشام, حيث كان علماء هذه الأمة وخاصة علماء الشام, علماء الأرض المقدسة يوجهون الأمة إلى ما يرضي الله عز وجل وإلى ما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعندما بحثنا عن مصدر هذا التشكيك وجدنا ذلك من أجهزة الإعلام, وهذا أمر لا شك فيه بأنه مقصود, وذلك لتمزيق كيان هذه الأمة, حيث أصبح شبابنا ونساؤنا ينظرون إلى شاشات التلفاز, فإذا برجل تزيَّى بزيِّ أهل العلم, وبكلِّ بساطة وسهولة يقول: ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء حول ليلة النصف من شعبان من حيث قيامها وصيام يومها, وأقبل شبابنا ونساؤنا يتساءلون هل هذا صحيح؟
أيها الإخوة الكرام: أما بقي لنا ثقة بعلمائنا؟ أما بقي لنا ثقة بعلماء الشام؟ التي هي موئل الأمة عند الفتن.
نعم أيها الإخوة, رأيت من الواجب علينا أن نتحدث في هذا الموضوع, مع أنني والله لا أرغب أن أتحدَّث عنه بشكل عام, وخاصة في مثل هذه اللقاءات, ولكن عندما رأيت بأن الأمة قد ابتليت بطائفة من الناس لم يعرفوا من علم الحديث إلا اسمه, ولا من محتواه إلا رسمه, ولم يقرؤوا من العلم الشريف إلا وريقات, وخاضوا في علم هو من أصعب علوم الشريعة, وأخذوا يبحثون في أدقِّ الأمور التي لا يفهمها إلا الجهابذة من علماء الأمة.
رأينا من تصدَّر أجهزة الإعلام وهو يتحدث عن علوم الحديث التي هي من أخطر علوم الشريعة, فصار هؤلاء يصحِّحون من الأحاديث ويضعِّفون على حسب الأهواء, ويلمزون ويجهِّلون علماء هذه الأمة سلفاً وخلفاً, ويطعنون في صحة علومهم, بل ربَّما طعنوا في عقائدهم, بل ربما خلعوا عنهم ربقة الإسلام والعياذ بالله تعالى, وأخذوا ينفون من الأحاديث ويثبتون ما تروق لهم أنفسهم, حتى وقعوا في كثير من التناقضات, تارة يقولون حديث صحيح, وتارة يقولون حديث موضوع, وهكذا.
وإني أقول لكم أيها الإخوة: خذوا دينكم عمَّن تعرفون, خذوا دينكم من أناس تعرفون سلوكهم, تعرفون أخلاقهم, تعرفون تقواهم, تعرفون عمن أخذوا دينهم بسند متصل, لا تغرنَّكم شهادات مزيَّفة, أنتم لا تعرفون عمَّن تلقوا هذه العلوم, لا تعرفون التزامهم, ربما الواحد منهم ما زاحم العلماء في ركبهم, وما مشى ميلاً في طلب العلم الشريف من علماء موثوقين.
أيها الناس: تذكَّروا وصية النبي صلى الله عليه وسلم لسيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حيث قال له: (يا بن عمر دينك دينك, إنما هو لحمك ودمك، فانظر عمن تأخذ، خذ الدين عن الذين استقاموا، ولا تأخذ عن الذين قالوا) رواه ابن عدي.
هؤلاء الذين ترونهم على أجهزة الإعلام فتحوا باب النقد على مصراعيه, صاروا يتَّهمون ويطعنون بعلماء الأمة وحفَّاظها, وربما قاسوا أنفسهم عليهم, بل ربما قالوا: هم رجال ونحن رجال, وهم قد جانبوا الصواب في طعنهم لعلماء الأمة.
حتى قال بعضهم: من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم رواية الحديث الضعيف مع السكوت عنه ومن غير بيان ضعفه, وهو لا يدري خطورة هذا الكلام, حيث حكم على علماء الأمة المتقدمين فضلاً عن المتأخرين بما قاله وهو لا يدري, إذ ما من واحد من هؤلاء الجهابذة جهابذة العلم إلا وقد روى أحاديث ضعيفة, وهي موجودة في كتبهم ولم يبينوا ضعفها, فهل هؤلاء الجهابذة يكذبون على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وحاشاهم من ذلك.
السنة محفوظة:
أيها الإخوة الكرام: إن المخطَّط لهذه الأمة كبير وكبير جداً, وإن محاولة إبعاد الناس عن الحديث الشريف قائم على قدم وساق, وهؤلاء يظنون بل يتوهَّمون بأن هذا الدين سيصبح في ضياع إذا احتفلت الأمة بمثل هذه المناسبات, لأنه لا يوجد حديث صحيح في ذلك.
أقول لكم ولهؤلاء أيها الإخوة:
اطمئنوا فإن الحديث الشريف محفوظ وربِّ الكعبة, وكيف لا يكون محفوظاً وهو من الوحي غير المتلوِّ, والله تعالى يقول في الوحي المتلوِّ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون}, فالوحي المتلوُّ محفوظ بنص القرآن الواضح, ومما جاء في الوحي المتلوِّ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}, وهذا الأمر يقتضي أن يحفظ الحديث الشريف, وإلا وقعنا في التناقض.
لذلك قيَّض الله عز وجل لهذه الأمة منذ صدرها الأول إلى يومنا هذا من حفظ الحديث, وبيَّن لنا صحيحه وحسنه وضعيفه وموضوعه, وانتهت القضية منذ زمن طويل.
ولكن الهجمة شرسة على سنة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وبدأت هذه الهجمة الشرسة على السنة المطهَّرة حيث أخذ هؤلاء الذين يتصدَّرون على أجهزة الإعلام يساوون بين الحديث الضعيف والحديث الموضوع وكأنهما شيء واحد والعياذ بالله تعالى من ذلك الخطر العظيم.
خطورة مساواة الحديث الضعيف بالموضوع:
هؤلاء الذين يبدِّعون الأمة ويفسِّقونها ويطعنون في سلف الأمة وخلفها وبدؤوا يساوون بين الحديث الضعيف والموضوع, ويحرِّمون ذكر الحديث الضعيف والعمل به في فضائل الأعمال, دون تفريق بين ما كان في الأحكام والعقائد, وبين ما كان في الفضائل والرقائق والترغيب والترهيب.
لم يعلم هؤلاء بأن الحديث الضعيف هو خير من آراء الرجال.
ولم يعلم هؤلاء بأن الحديث الضعيف هو في الأصل منسوب إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, بخلاف الحديث الموضوع فهو مكذوب على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولم يعلم هؤلاء أن الحديث الضعيف تحلُّ روايته بإجماع الأمة بدون خلاف, وهذا ما فعله علماء الأمة وجهابذتها, وذكروا ذلك في مصنَّفاتهم, بخلاف الحديث الموضوع حيث لا تجوز روايته إلا لبيان وضعه.
ولم يعلم هؤلاء أن الحديث الضعيف عمل به علماء الأمة بالإجماع في الفضائل والرقائق والترغيب والترهيب, كما عمل به عامة أهل العلم في الأحكام إذا لم يكن حديث مقبول في الباب, وهذا بالإجماع, والأمة لا تجتمع على ضلالة, بخلاف الحديث الموضوع.
ولم يعلم هؤلاء أن الحديث الضعيف مندرج تحت أصل معمول به في الشريعة بخلاف الحديث الموضوع.
ولم يعلم هؤلاء أن الحديث الضعيف هو بين الراجح والمرجوح, فإذا ثبتت صحته فهو الخير, وإلا فلا يضر العمل به.
فكيف يسوِّي هؤلاء بين الحديث الضعيف والموضوع؟
وأنا أنقل لكم هنا كلام الإمام النووي رحمه الله في كتابه الأذكار, يقول رحمه الله:
([فصل]: اعلم أنه ينبغي لمن بلغه شيء في فضائل الأعمال أن يعمل به ولو مرة واحدة, ليكون من أهله، ولا ينبغي أن يتركه مطلقاً, بل يأتي بما تيسر منه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: (إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم).
[فصل]: قال العلماء من المحدثين والفقهاء وغيرهم: يجوز ويستحب العمل في الفضائل والترغيب والترهيب بالحديث الضعيف ما لم يكن موضوعاً.
وأما الأحكام كالحلال والحرام والبيع والنكاح والطلاق وغير ذلك فلا يعمل فيها إلا بالحديث الصحيح أو الحسن, إلا أن يكون في احتياط في شيء من ذلك، كما إذا ورد حديث ضعيف بكراهة بعض البيوع أو الأنكحة، فإن المستحب أن يتنزه عنه, ولكن لا يجب).
حديث صيام وقيام ليلة النصف:
أيها الإخوة الكرام: من خلال ما ذكرت تعالوا لنقف أمام سنن ابن ماجه, لنسمع الحديث الشريف عن سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَقُومُوا لَيْلَهَا وَصُومُوا نَهَارَهَا, فَإِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ فِيهَا لِغُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: أَلا مِنْ مُسْتَغْفِرٍ لِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ أَلا مُسْتَرْزِقٌ فَأَرْزُقَهُ؟ أَلا مُبْتَلًى فَأُعَافِيَهُ؟ أَلا كَذَا؟ أَلا كَذَا؟ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ).
هؤلاء الذين يتصدَّرون أجهزة الإعلام يقولون: لا يوجد حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك مطلقاً, ويا حبذا لو قالوا: يوجد حديث وقد رواه ابن ماجه, وهو حديث ضعيف, ويا حبَّذا لو بيَّنوا للأمة حكم العمل بالحديث الضعيف ومجالات العمل فيه, والله لو فعلوا ذلك لأراحوا واستراحوا.
نعم أيها الإخوة, هذا الحديث ضعيف. ولكن:
أولاً: أليس هو خيراً من آراء الرجال؟ أليس خيراً من كلام هؤلاء المتشدِّقين على شاشات التلفاز؟ أنترك الحديث في فضائل الأعمال إذا كان ضعيفاً, ونأخذ بكلام هؤلاء؟ يا سبحان الله, والله أنا أعجب من بعض الناس عندما يترك العمل في فضائل الأعمال بالحديث الضعيف ويأخذ بآراء هؤلاء.
ثانياً: أليس هذا الحديث الضعيف مندرجاً تحت أصل شرعي معمول به؟ أليس مندرجاً تحت قول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ, فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ, وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ, وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا, وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا, وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ, وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ) رواه البخاري؟
أليس قيام هذه الليلة مندرجاً تحت هذا الحديث القدسي؟ أليس صيام هذا اليوم مندرجاً تحت هذا الحديث القدسي؟
أليس هذا الحديث الضعيف مندرجاً تحت أصل شرعي معمول به, وهو صيام النبي صلى الله عليه وسلم شهر شعبان, كما جاء في سنن النسائي ومسند الإمام أحمد عن سيدنا أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ؟ قَالَ: (ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ, بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ, وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ, فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ).
أليس صيامه موافقاً لصيام النبي صلى الله عليه وسلم في شعبان؟ أليس موافقاً لصيام الأيام البيض؟
هل اجتماع الأمة يضر في دينها؟
أيها الإخوة: عندما يسمع هؤلاء الكلام الذي قدَّمناه قد يسكتون برهة ثم يرجعون إلى الهجوم على الأمة ثانية فيقولون: إذاً صوموا فرادى وقوموا فرادى, لماذا الاجتماع في هذه الليالي؟ إن هذا الاجتماع في هذه الليالي المخصوصة من البدعة في دين الله عز وجل, وكلُّ بدعةٍ ضلالة, وكلُّ ضلالة في النار.
وحجتهم في ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم ما فعل ذلك, وبأن الصحابة ما فعلوا ذلك, فلماذا نحن نبتدع هذا ونفعل ما لم يفعله السلف الصالح؟
أيها الإخوة: احفظوا هذه القاعدة: (الترك ليس حجة في التحريم), التحريم يحتاج إلى نصٍّ من الكتاب أو السنة, قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}, وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}, وقال صلى الله عليه وسلم: (مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ, وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ, فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ) رواه مسلم.
التحريم يحتاج إلى نصٍّ من كتاب أو سنَّة مطهَّرة, فأين النص يا أدعياء النصوص والتقيُّد بها؟
نعم يكون هذا الأمر بدعة إذا سمعتم من أحد من العلماء ـ علماء الأمة ـ من يقول بوجوب الاجتماع أو بفرضيته أو سنِّيَّته, فهل سمعتم من أحد من العلماء من يقول هذا؟
إنه أمر مباح, لا ننكر على من فعل, ولا ننكر على من لم يفعل, وأنا على سبيل المثال في كلِّ جمعة أقول للإخوة المصلين بعد صلاة الجمعة: لا تنس حصة السؤال والجواب بعد صلاة السنة البعدية, فهل أنا مبتدع في دين الله شيئاً, وخاصة أن مولانا عز وجل يقول: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ}؟
الاجتماع بعد صلاة الجمعة على حصة نتفقَّه فيها في دين الله عز وجل أمر مباح, ولم يقل أحد بوجوبه ولا سنِّيَّته.
ونحن لا نستطيع أن ننكر على أحد لم يحضر مولد النبي صلى الله عليه وسلم, ولم يحضر احتفال ليلة الإسراء والمعراج, ولا ليلة النصف من شعبان, لأننا لا نعتقد بسنِّيَّته, فضلاً عن وجوبه وفرضيَّته, ولكن نستطيع أن ننكر على من لم يحضر صلاة الجماعة, لأن حضورها سنة يعاتب النبي صلى الله عليه وسلم المتخلِّف عنها يوم القيامة.
فهل سمعتم أيها الإخوة من علمائكم من ينكر على من لم يحضر مثل هذه الاحتفالات؟
هذا الاجتماع هل له أصل من الدين؟
ومع كل هذا فأنا أقول أيها الإخوة: إن هذه الاجتماعات ليست سنة ولا فرضاً ولا واجباً, بل هي مباحة, ويؤجر الإنسان عليها من خلال نيَّته, بل أقول: هذه الاجتماعات لها أصل من الكتاب ومن السنة.
فمن الكتاب قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}, أليس هذا مظهراً من مظاهر التعاون على البر وهو القيام؟ هل في ذلك من ضير مع الاعتقاد بعدم سنِّيَّته؟
أما من السنة المطهَّرة, فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ, إِلا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ, وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ, وَحَفَّتْهُمْ الْمَلائِكَةُ, وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ) رواه مسلم, ويقول صلى الله عليه وسلم: (لا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلا حَفَّتْهُمْ الْمَلائِكَةُ, وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ, وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ, وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ) رواه مسلم, ويقول صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ قَوْمٍ اجْتَمَعُوا يَذْكُرُونَ اللَّهَ, لا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ إِلا وَجْهَهُ, إِلا نَادَاهُمْ مُنَادٍ مِنْ السَّمَاءِ: أَنْ قُومُوا مَغْفُورًا لَكُمْ, قَدْ بُدِّلَتْ سَيِّئَاتُكُمْ حَسَنَاتٍ) رواه أحمد وغيره.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَلائِكَةً سَيَّارَةً فُضُلاً, يَتَتَبَّعُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ, فَإِذَا وَجَدُوا مَجْلِسًا فِيهِ ذِكْرٌ قَعَدُوا مَعَهُمْ, وَحَفَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِأَجْنِحَتِهِمْ حَتَّى يَمْلَؤُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا, فَإِذَا تَفَرَّقُوا عَرَجُوا وَصَعِدُوا إِلَى السَّمَاءِ, قَالَ: فَيَسْأَلُهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: مِنْ أَيْنَ جِئْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: جِئْنَا مِنْ عِنْدِ عِبَادٍ لَكَ فِي الأَرْضِ يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيُهَلِّلُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيَسْأَلُونَكَ, قَالَ: وَمَاذَا يَسْأَلُونِي؟ قَالُوا: يَسْأَلُونَكَ جَنَّتَكَ, قَالَ: وَهَلْ رَأَوْا جَنَّتِي؟ قَالُوا: لا أَيْ رَبِّ, قَالَ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا جَنَّتِي؟ قَالُوا: وَيَسْتَجِيرُونَكَ, قَالَ: وَمِمَّ يَسْتَجِيرُونَنِي؟ قَالُوا: مِنْ نَارِكَ يَا رَبِّ, قَالَ: وَهَلْ رَأَوْا نَارِي؟ قَالُوا: لا, قَالَ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا نَارِي؟ قَالُوا: وَيَسْتَغْفِرُونَكَ, قَالَ: فَيَقُولُ: قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ فَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا وَأَجَرْتُهُمْ مِمَّا اسْتَجَارُوا, قَالَ: فَيَقُولُونَ: رَبِّ فِيهِمْ فُلانٌ عَبْدٌ خَطَّاءٌ, إِنَّمَا مَرَّ فَجَلَسَ مَعَهُمْ, قَالَ: فَيَقُولُ: وَلَهُ غَفَرْتُ هُمْ الْقَوْمُ لا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ) رواه مسلم. أليس هذا الاجتماع تجسيداً لهذا الحديث الشريف؟
الله تعالى يقول: (وَلَهُ غَفَرْتُ هُمْ الْقَوْمُ لا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ), وهؤلاء يقولون: هذا بدعة في دين الله عز وجل, وكلُّ بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار, فلمن نصدِّق أيها الإخوة الكرام؟
خاتمة نسأل الله حسنها:
وفي الختام أيها الإخوة الكرام: إن اجتماعنا هذا أمر مباح, ومن حرَّمه علينا فليأتنا بدليل التحريم من الكتاب أو السنة.
أيها الإخوة: هذه الليلة هل ليلة قيام, وأقلُّ القيام فيها أن تصلي العشاء في جماعة, والفجر في جماعة, ثم تصلي صلاة الضحى, فقوموا ليلها امتثالاً لأمر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وصوموا يومها اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم, حيث كان يصوم أكثر شعبان, فإن لم تستطع صيامه فلا أقل من أن تصوم يوم النصف منه, ولو كان الحديث فيه ضعيفاً لأن له أصلاً شرعياً معمولاً به.
وأكثر من الدعاء في هذه الليلة, واعلموا بأن الله تعالى ينزل فيها لغروب الشمس منها حتى يطلع الفجر, كما جاء في الحديث الشريف: (فَإِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ فِيهَا لِغُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: أَلا مِنْ مُسْتَغْفِرٍ لِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ أَلا مُسْتَرْزِقٌ فَأَرْزُقَهُ؟ أَلا مُبْتَلًى فَأُعَافِيَهُ؟ أَلا كَذَا؟ أَلا كَذَا؟ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ).
وهنا ملاحظة تجدر الإشارة إليها: إذا سمعت مثل هذا الحديث وغيره بأن الله ينزل إلى السماء الدنيا فإياك أن تتصور أو تتخيل النزول, لأن الله تعالى يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}, فهو نزول بلا تشبيه ولا تكييف ولا تعطيل, نزول يليق بجلاله جلَّت قدرته.
فأكثروا فيها من الدعاء, وأنا أرجوكم الدعاء لي فيها وفي غيرها من الأوقات, اللهم لا تفرِّق جمعنا إلا بعمل مقبول, وذنب مغفور, وتجارة لن تبور, برحمتك منك يا عزيز يا غفور, وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المؤلف : الشيخ أحمد النعسان