وقال: رأيت عمر بن الخطاب ::ض::فى المنام، فقلت: يا أمير المؤمنين ما علامة حب الدنيا؟ قال: خوف المذمة وحب الثناء. فإذا كان علامة حبها خوف المذمة وحب الثناء، فعلامة الزهد وبغضها أن لا يخاف المذمة ولا يحب الثناء.
وقال: إن إبراهيم سمى فتى لأنه كسر الأصنام، فهو الفتى الخليل عليه السلام ، وجد أصناما حسية فكسرها، وأنت لك أصنام معنوية، فإن كسرتها كنت فتى. ولك أصنام خمسة هى النفس والهوى والشيطان والشهوة والدنيا. وليست الفتوة بالماء والملح وإنما الفتوة الإيمان والهداية، قال الله تعالى: (
إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى).
وقال: لقد خلقنا الله فى أحسن تقويم روحا وعقلا، ثم رددنا أسفل سافلين نفسا وهوى.
وقال: الناس على ثلاثة، عبد يشهد ما منه إلى الله، وعبد يشهد ما من الله إليه، وعبد يشهد ما من الله إلى الله. الأول ذو حزن
وأشجان، والثانى ذو فرح وامتنان،والثالث لم يشغله عن الله خوف نار ولا مثوى جنان. الأول ذو كد وتكليف، والثانى ذو عناية وتعريف، والثالث مشاهد للمولى اللطيف.
وقال: اعلم أن الله خلق هذا الآدمى وقسمه على ثلاثة أجزاء، فلسانه جزء، وجوارحه جزء، وقلبه جزء. وجعل على كل جزء حفيظا، فقال سبحانه وتعالى: (
ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) وقال سبحانه
وتعالى: (
وما تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه). وتولى حفظ القلب بنفسه فقال عز وجل: (
واعلموا أن الله يعلم ما فى أنفسكم فاحذروه). وسلط على الجوارح الشيطان، واقتضى من كل جزء وفاء ما ألزم به. فوفاء القلب أن لا يشتغل بهم دنيا، ولا بمكر ولا بحسد، ووفاء اللسان أن لا يغتاب ولا يكذب ولا يتحدث فيما لا يعنيه، ووفاء الجوارح أن لا يسارع بها إلى معصية ولا يؤذى أحدا من المسلمين.
وقال: الناس على ثلاثة أقسام: قوم غلبت حسناتهم سيئاتهم فهم فى الجنة قطعا، وقوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم فلا يدخلون النار قطعا، وقوم غلبت سيئاتهم حسناتهم فلا يخلدون فى النار قطعا. وقال: صلاح العبد فى ثلاثة أشياء: معرفة الله ومعرفة النفس ومعرفة الدنيا. فمن عرف الله خاف منه، ومن عرف النفس تواضع لعباد الله، ومن عرف الدنيا زهد فيها.
وقال: عليكم بالسبب، وليجعل أحدكم مكوكه سبحته، أو قادومه سبحته، أو تحريكأصابعه فى الخياطة أو الضفر سبحته.
وقال: ليس الشأن من تطوى له الأرض فإذا هو بمكة أو غيرها من البلدان، إنماالشأن من تطوى له صفات نفسه فإذا هو عند ربه.
وقال: رجال الليل هم الرجال، وإن أولياء هذا الوقت ليؤيدون بشئ من الغنى واليقين، فالغنى لكثرة ما عند الناس من الإفلاس، واليقين لكثرة ما عند الناس من الشكوك.
لم يكن التصوف عند أبى العباس تعطلا ولا تبطلا ولا تركا للسعى أو الأسباب. التصوف توفيق بين العقل والقلب، جمع بين الشريعة والحقيقة.
سئل فى قول بعضهم: لا يكون الصوفى صوفيا حتى لا يكتب عليه صاحب الشمال عشرين سنة، فقال: ليس معنى ذلك ألا يقع منه ذنب عشرين سنة، وإنما معناه عدم الإصرار، وكلما أذنب تاب واستغفر على الفور.
وكان يكرم الناس على نحو رتبتهم عند الله، وربما دخل عليه عابد فلا يأبه له وربما دخل عليه عاصى فيحتفى به، لأن العابد جاء وهو متكبر بعلمه ناظر لفعله، أما العاصى فقد دخل بكسر معصيته وذله ومخالفته.
وكان لا يثنى على مريد، ولا يرفع له علما بين إخوانه كى لا يحسد.
صلى قيام رمضان سنة وقال: قرأت القرآن فى هذه السنة كأنما أقرأه على رسول الله
. وفى رمضان من العام التالى قال: قرأت القرآن فى هذه السنة كأنما أقرأه على جبريل
. فلما جاء رمضان من العام الثالث قال: قرأته فى هذه السنة كأنما أقرأه على الله.
وقال: طريقتنا هذه لا تنسب للمشارقة ولا للمغاربة، بل واحد عن واحد إلى الحسن بن على بن أبى طالب، وهو أول الأقطاب.
عاش أبو العباس المرسى كما روى أحباؤه، نظيف الثياب، بشوش الوجه، طلق المحيا، وضاء الجبين، عف اللسان، لا يضمر سوءاً لأحد، متوسطا، معتدلا فى حياته ومعيشته، يتحرز فى دينه، ويحذر الحرام، ويحفظ حقوق أصحابه، ولا يحرم على نفسه الطيبات لأن ربه سبحانه يقول:
قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق، قل هى للذين آمنوا فى الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة.
ومع سعى أبى العباس إلى العمل الصالح فإنه لم يهمل حظه من الحياة، وكان يقتنى الخيل ويعنى بتربيتها وإطعامها وتفقد أحوالها. وكان يرفض الخصوصية فى زى الصوفى ويقول: من لبس الزى فقد ادعى.
لم يؤلف كتبا، وكان يقول: كتبى أصحابى. وتخرج على يديه كبار الأئمة الأقطاب كالبوصيرى وياقوت العرش وابن عطاء الله السكندرى وغيرهم.
مات أبو العباس المرسى فى سنة خمس وثمانين وستمائة عن حياة قاربت السبعين عاما، دفنه أصحابه ومريدوه فى مقبرة باب البحر. فى السنة التالية رأى أحمد الدخاخنى شيخ بنائى الإسكندرية فى منامه سلطان الإسكندرية، سأله: لماذا لا تعتنون بضريحى؟ جعل الدخاخنى تجديد الضريح وبناء المسجد شاغله وهمه، حتى أتم بناء المسجد فوق ضريح السلطان. وفى سنة أربع وأربعين وتسعمائة وألف ميلادية أعيد بناء المسجد فى صورته الحالية.
صار أبو العباس مقصود الناس، يأتون إليه من الإسكندرية، أحيائها القريبة والبعيدة، ومن المدن والقرى خارج المدينة، يلتمسون بركاته ودعواته ومدده، يحيون مولده ثمانية أيام بعد مولد الرسول
فى منتصف رمضان.