دموع العبيد
دموع العبيد
قال كلوت بك (1) في كتابه (لمحة عامة إلى مصر) (ج1 ص630) أثناء حديثه عن تاريخ استخدام الخصيان في قصور الملوك والأعيان : (أما عملية الجب فلا تجري الآن في غير القطر المصري، فهذا القطر أصبح المورد الذي تستورد منه الخصيان برسم حرَم العظماء والأسرياء في كل مكان... ومدينتا أسيوط وجرجا هما الوحيدتان من مدائن القطر المصري اللتان تباشران تلك العملية الشائنة. ومن كان يخطر بباله أن الموكلين بمباشرتها جماعة من المسيحيين، وأنهم من رجال الأكليروس القبطي، هؤلاء الذين أصبحوا عارا على الدين وخزيا ووصمة مزرية بالإنسانية موضع احتقار السكان في تينك المدينتين.. وقرية زاوية الدير من (أسيوط) عاصمة السفاكين السفاحين الذين يقومون بعملية الجب ، وهم يرتكبون جرمها الشنيع على نحو (300) شخص في كل عام. ويختارون هذه الضحايا من صغار العبيد الذين تختلف أعمارهم من ست سنوات إلى تسع، وتأتي بهم قوافل الجلابة من سنار ودارفور، ويباع هؤلاء التعساء بحسب المزايا المتوفرة فيهم من (1500) قرشا إلى (3000) قرش. وتجري لهم عملية الجب في فصل الخريف، باعتبار أنه أوفق فصول السنة لنجاحها. ولا يقتصر الجب على بتر عضو التذكير وحده، بل يبترون جميع الأجزاء البارزة المرتبطة به، ثم يصبون في الحال مكان البتر شيئا من الزيت المغلي، ويركبونه أنبوبة في الجزء الباقي من مجرى البول، وبعد إلقاء الزيت يذرون على مكان الجرح مسحوق الحناء، ثم يدفنون الفتى المعذب في الأرض إلى ما فوق البطن، وبعد أربع وعشرين ساعة يستخرجونه من التراب، ويدهنون مكان الجرح بعجينة من طين الابليز والزيت. ثم إن نحو الربع من الغلمان المساكين الذين تجري عليهم هذه العملية الشنعاء لا يعيشون بعدها، أما الباقون فيقضون حياتهم في الضعف والآلام. نعم إن المسلمين يحيطونهم بكل ما هو مستطاع من الاحترام والرعاية والتكريم، حتى إن كبير الخصيان في (الأستانة العلية) مثلا يعد من أعاظم رجال الحاشية السلطانية، وإن السلطان محمود رفع أحد خصيانه إلى مرتبة الباشوية وعهد إليه قيادة جيوش الدولة.. ... ولقد حمل كبار الفلاسفة والمفكرين وبعض رجال الحكومات العاملين في أيامنا هذه الحملة الشعواء على الاسترقاق، وها نحن أولاء نرى أوربا تسير سيرا حثيثا في الطريق المؤدي إلى إلغائه، ولكن عادة اتخاذ الخصيان فضيحة كبرى للطبيعة، وهتك مخز لأستار النواميس الطبيعية والخلقية، والغريب مع هذا أنني لا أعلم بين الشعوب التي تتولى زعامة الحضارة العصرية من استجمعوا قواتهم وجهودهم لمكافحة عادة اتخاذ الخصيان. وتدخل أوروبا اليوم في شؤون الدولة العثمانية، ذلك التدخل الذي أصابها ببالغ الضرر كان يمكن أن يكون نافعا ومجديا وجديرا بثناء الإنسانية وشكرها لو كان الغرض منه إدخال الإصلاحات المطابقة لروح الحضارة والمدنية، لا التي يقصد بها تحقيق تلك الأغراض السياسية، وليس من بين هذه الإصلاحات ما هو أوجب للحمد والثناء كمنع الجب واتخاذ الخصيان، وأتمنى صونا لكرامة أوربا وشرفها، ووقاية لمجدها أن تفكر حكوماتها في الحصول على هذا الإلغاء من سلطان تركيا ووالي مصر. وإني لموقن أنه يكفي لتحقيق هذه الأمنية الشريفة أن تعرب تلك الحكومات لهما عن مقاصدها الخيرية نحو الإنسانية المعذبة، لترى منهما الإقبال السريع على إجابة مطالبها، وها هو محمد علي المعروف بالمسارعة إلى اتباع النصائح النافعة والمشورات النبيلة لن يتوانى في العمل بهذه النصائح، وبذا لا تصبح مصر ميدانا لجريمة لا يسع هذا الجيل بعد الآن أن يتهاون في أمرها أو يتغاضى عنها.
--------------------------------------------------------------------------------------------
(1) كتاب (لمحة عامة إلى مصر) من نوادر الكتب التي أرخت لمصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر. ألفه (أ. ب. كلوت بك) رئيس مصلحة الصحة في القطر المصري أيام محمد علي، وعضو أكاديمية الطب الملوكية بباريس وأكاديمية العلوم بنابولي. وأهدى الكتاب إلى محمد علي والي مصر وقام بتعريبه محمد مسعود المحرر الفني بوزارة الخارجية بمصر والمتوفى عام (1940م) انظر ترجمته في الوراق في كتاب (الأعلام) للزركلي. أما كلوت بك فتوفي عام (1868م) ومولده عام (1793م) انظر ترجمته في الوراق في كتاب (إتحاف القنوع) وقارن ما حكاه كلوت بك بما حكاه أولياء جلبي في كتابه (سياحت نامه) عن أسواق النخاسة في مصر
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات