دور بريطانيا في تغيير منهجية الأزهر وظهور المدرسة الإصلاحية التجديدية ( البوطي
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الشيخ البوطي حفظه الله تعالى :
ظهر في أوائل هذا القرن باحثون ومفكرون في عالمنا العربي، جنحوا إلى رأي جديد في بحث المعجزات، وبيان ما ينبغي أن يكون عليه موقف المسلمين منها، لا سيما معجزات سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وخلاصة هذا الاتجاه تتمثل في اعتماد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم تسجل له سوى معجزة واحدة هي القرآن، أما الخوارق الأخرى التي ظهرت على أيدي الأنبياء السابقين، مما لا يدركه ويفهمه العقل، فقد كان منكراً لها غير عابئ ولا ملتفت إلى المطالبين بها. وإنك لتقرأ هذا الكلام وتجد هذا الاتجاه في كثير من الكتب الحديثة اليوم، بعد أن تبناه من قبل أفراد معدودون، ارتبطت أسماؤهم بشعار (الإصلاح الديني) الذي شاع لأسباب معينة منذ ذلك اليوم.
إن مولد هذا الاتجاه في عالمنا الإسلامي، يعود إلى تاريخ الاحتلال البريطاني لمصر.
فقد احتلت بريطانيا يومئذ مصر، وهي تعلم ان اعتمادها على القوة العسكرية وحدها لن يفيدها الاستقرار، ولن يمكن لها موطئ قدمها في البلدة التي احتلتها، خصوصا وإن العالم الإسلامي قريب العهد بانهيار الخلافة الإسلامية، فرأت –كما هو شأنها دائماً- أن لابد من الاستعانة بمنهج فكري يغير من تفكير المسلمين تغييرا يقصيهم عن هذه الشدة في التمسك بالدين، والتضحية من أجله، والاعتماد عليه وحده. ويجعلهم يلتقون مع الفكر الأوروبي في أوسع قدر ممكن من سبل الحياة.
وقامت بريطانيا بهذا الدافع، بتطبيق ما أطلقت عليه اسم (الإصلاح الاجتماعي والديني)؛
وكان الميدان الاول لهذا (الإصلاح) هو الجامع الأزهر المتمثل في مناهجه الدرسية وطريقته الفكرية.
ذلك أن قيادة القطر المصري كله كانت إذ ذاك بيد الازهر، وكان إشعاعه يتجاوزه إلى كثير من البقاع الإسلامية الاخرى، فلم تكن هناك من قضية وطنية او دينية أو مشكلة فكرية أو اجتماعية إلا والأزهر هو الرأس المدبر والمفكر فيها، وهو المحرك لها، لذلك فلم يكن لينجح أي (إصلاح) ديني أو فكري من وجهة نظر بريطانيا إلا إذا بدأ بالأزهر.
وينبغي أن نذكرك هنا بأننا لا نتبع فيما نرويه من أحداث ووقائع تاريخية منهج الاسترداد والتوسم الذي يتعلق به دون غيره منهجيو الغرب خصوصا بالنسبة لتاريخنا وإسلامنا ، ولكننا نتبع المنهج العلمي السليم الذي أوضحناه والتزمناه .
ولعلك تتساءل ، فمن أين علمنا أن بريطانيا وضعت لنفسها هذا المخطط وضاقت ذرعا بالإسلام وبأزهره ؟
فاسمع لما يقوله في ذلك اللورد لويد، المندوب السامي لمصر إذ ذاك، في مذكراته التي سماها ( Egypt Since Cromer : مصر منذ أيام كرومر ) :
" إ ن التعليم الوطني عندما قدم الإنكليز كان في قبضة الجامعة الازهرية الشديدة التمسك بالدين، والتي كانت أساليبها الجافة تقف حاجزاً في طريق أي إصلاح تعليمي، وكان الطلبة الذين يتخرجون من هذه الجامعة يحملون معهم قدراً عظيماً من غرور التعصب الديني (تنبه جيداً إلى معنى هذا الكلام)
فلو أمكن تطوير الازهر لكانت خطوة جلية الخطر. فليس من اليسير أن نتصور لنا أي تقدم طالما ظل الازهر متمسكاً بأساليبه هذه، ولكن إذا بدا أن مثل هذه الخطوة غير متيسر تحقيقها، فحينئذ يصبح الامل محصوراً في إيجاد التعليم اللاديني الذي ينافس الأزهر حتى يتاح له الانتشار والنجاح."
أما مجال هذا التطوير و(الإصلاح) فلقد اعتمد على نقطة الضعف التي كانت الأمة العربية والإسلامية تستشعرها إذ ذاك حيال النهضة العلمية في أوروبا، والاكتشافات والاختراعات المختلفة التي قامت في أنحائها بفضل الانطلاقة العلمية التي لم تكن من قبل.
لقد كان المخطط الإصلاحي إذاً، هو تنبيه قادة الفكر العربي والإسلامي إلى أن وجود مثل هذه النهضة في العالم الإسلامي متوقف على تطوير الطريقة التي يتم بها فهم الدين والعقيدة الإسلامية، بشكل يتفق مع الفكر العلمي المقبول.
وهذا يعني ضرورة تخليص الفكر الديني من كل حقيقة غيبية غير مفهومة أو داخلة في قوالب العلم الحديث.
وسرعان ما استجاب إلى هذه الدعوة، أولئك المفتونون والمأخوذون بالنهضة العلمية الأوروبية الحديثة والحضارة الغربية عامة، ممن لم يرسخ الإيمان في أفئدتهم ولم تتمكن حقائقه في عقولهم، وأخذوا يستيقنون –بدافع ذلك الافتتان الجديد والضعف الإيماني السابق عليه- أن الوسيلة الوحيدة إلى نهضة شبيهة بالنهضة الاوروبية، إنما هي في التحرر من كثير من المبادئ الدينية المتعلقة بالعقيدة.
ولم يكن على بريطانيا –وقد امتص إيحاؤها عدداً لا بأس به من المفكرين العرب المسلمين، أن تتعب نفسها كثيراً بمتابعة المخطط، فقد اطمأنت إلى أن هؤلاء أنفسهم سيقومون بالعمل المطلوب. وما عليها إلا أن تقربهم وتسلمهم قيادة العمل الفكري في الأزهر ليوطدوا مناهجه، وليبثوا منه إلى الفكر الإسلامي كله هذا الوباء (الإصلاحي الجديد).
وفي سبيل هذا (الإصلاح) جيء بالشيخ محمد عبده وأعطيت له مقاليد الامر ليقوم بإصلاح شامل في ميدان الازهر مبتعاً الأساس الذي أوضحناه.
وكان من نتيجة ذلك تنصيب الشيخ مصطفى المراغي شيخاً للجامع الازهر، وتنصيب محمد فريد وجدي رئيساً لتحرير مجلة الأزهر (نور الإسلام) الواسعة الانتشار إذ ذاك، بعد أن كان يرأس تحريرها العلامة المرحوم محمد الخضر حسين.
وما هو إلا أن تسلم هؤلاء وغيرهم مراكزهم الجديدة، حتى بدأ التبشير بالمنهج الجديد في فهم العقيدة الإسلامية، وهو المنهج الذي يهدف إلى تجاهل كل المسائل الغيبية التي لا تقع تحت مجهر العلم التجريبي المحسوس، وفي مقدمتها المعجزات على اختلافها.
فقد رأينا كيف بدأ فريد وجدي ينشر سلسلة مقالاته الجريئة التي خرج بها على الناس بعنوان : (السيرة المحمدية تحت ضوء العلم والفلسفة) والتي يقول فيها ما نصه:
وقد لاحظ قراؤنا أننا نحرص فيما نكتبه في هذه السيرة على ألا نسرف في كل ناحية إلى ناحية الإعجاز، مادام يمكن تعليلها بالأسباب العادية، حتى لو بشيء من التكلف...)
ورأينا كيف يكتب الشيخ محمد عبده في مسائل العقيدة الإسلامية على طريقة غريبة عجيبة يخرج فيها على إجماع المسلمين وبدهيات العقيدة الإسلامية الصحيحة. وذلك حينما يُعرِّف النبي والرسول في تعليقاته على شرح الجلال الدواني [ صـ 3 ] فيقول :
" أقول: قد يُعرّف النبي بإنسان فطر على الحق علما وعملا، أي بحيث لا يعلم إلا حقا، ولا يعمل إلا حقا على مقتضى الحكمة، وذلك يكون بالفطرة، أي لا يحتاج فيه إلى الفكر والنظر. فإن فطر أيضا على دعوة بني نوعه إلى ما جبل عليه، فهو رسول أيضا، وإلا فهو نبي فقط".
ورأينا كيف ينتهي في تفسير سورة الفيل إلى تأويل صريح الآية بأن المقصود بطير الأبابيل وحجارة السجيل إنما هو وباء الجدري .
ورأينا كيف ظهر في تلك الفترة ذاتها كتاب جديد في تحليل السيرة النبوية باسم (حياة محمد) لحسين هيكل، يقول في مقدمته: ( إنني لم آخذ بما سجلته كتب السيرة والحديث لأنني فضلت أن أجري في هذا البحث على الطريقة العلمية..)
ورأينا كيف اندفع الشيخ مصطفى المراغي شيخ الأزهر إذ ذاك إلى تقريظه وتقديمه قائلاً :
" لم تكن معجزة محمد صلى الله عليه وسلم القاهرة إلا في القرآن وهي معجزة عقلية"
ورأينا كيف أخذت تروج صفة (العبقرية) و (العظمة) و (القيادة) وما شاكلها لنبي صلى الله عليه وسلمتعويضاً عن صفات النبوة والوحي والرسالة، وتغطية لها، وإبعادا للفكر عنها.
وهكذا تكونت من هذا الاتجاه والنهوض به مدرسة فكرية جديدة، أخذت تنشر فلسفتها من فوق منبر الازهر، سرعان ما كان لها تأثيرها المتوقع في الأوساط في ظل ذلك الاحتلال المشؤوم، بعد أن قامت معارك طويلة حول ذلك، لا مجال لسردها هنا.
وتسألني الآن :
فما الذي جنته بريطانيا من وصولها إلى هذه الغاية ومن تطوير الفكر الديني بهذا الشكل في رؤوس الناس؟
إن الذي جنته بريطانيا بذلك، هو إضعاف الوازع الديني في نفوس أولئك الذين كان الدين عندهم أعظم محرك ومهيج، وكان صاحب السلطان في كل شيء، ذلك أن العقيدة الإسلامية إذا ما جردت عنها فكرة المعجزة،انتهت من حيث لا يشعر أربابها إلى إنكار العقيدة الإسلامية في مجموعها إذ إنها في مجموعها ليست قائمة إلا على أساس أعظم معجزة، وهي معجزة الوحي. فمن أخذ يستبعد الخوارق العقلية وينكرها أو يؤولها، فإنه يستبعد ولا ريب ظاهرة الوحي أيضاً لأنها تعد قمة المعجزات كلها، وهذا ما دفع الشيخ محمد عبده إلى تفسير النبوة تفسيراً يبعدها عن حقيقة الوحي بعداً تاماً، كما قد رأيت في تعريفه للنبي.
ولقد كانت بريطانيا لا تتضايق من عقبة تقف أمامها في سبيل ترسيخ قدمها في مصر أعظم من عقبة (التعصب الديني) على حد تعبير اللورد لويد كما قد رأيت. فكان في تحقيقها لهذه الغاية نسف لهذه العقبة من سبيلها، فقد استطاعت بعد ذلك أن تضع العقلية الاوروبية المنحلة في مكان العقلية الاسلامية المعتزة بالمنهج الاسلامي، وأن تطور مناهج الحياة العملية نفسها طبقا لما تريد بعد أن زال عنها السلطان السابق أو ضعف إلى أن غدا إسلاميا شكليا مجردا.
يوضح لك هذه الحقيقة ما يقوله المستشرق الانجليزي المعروف (جب) في كتابه الذي ألفه باللغة الانكليزية (إلى أين يتجه الإسلام):
" لقد استطاع النشاط التعليمي والثقافي عن طريق المدارس العصرية والصحافة وتعليماتنا الخاصة أن يترك في المسلمين –ولو من غير وعي منهم- أثرا جعلهم يبدون في مظهرهم العام لا دينيين إلى حد بعيد. ولا ريب أن ذلك هو اللب المثمر في كل ما تركت محاولات الغرب لحمل العالم الإسلامي على حضارته من آثار. فالواقع أن الإسلام كعقيدة وإن لم يفتقد إلا قليلا من اهميته وسلكانه، ولكن الإسلام كقوة مسيطرة على الحياة الاجتماعية قد فقد مكانه".
ولقد تبين لنا –كما تبين لكل باحث- أن تلك المدرسة الإصلاحية لم تُكسب أربابها ودعاتها أي نهضة علمية كالتي نهضتها أوروبا، كما كانوا يتوهمون، وكما اوهمتهم بريطانيا التي اختصت بفن المكر والخديعة واللعب بالعقول، وليتها كانت عقولا غير عقول المسلمين. كل ما جنته أيدي ذلك (الإصلاح الديني) فقدان الحقيقتين معا، فلا هم على حقيقتهم الدينية أبقوا، ولا على النهضة العلمية عثروا. اهـ
كبرى اليقينيات الكونية صـ 221 - 228
__________________
اللهم يا من جعلت الصلاة على النبي قربة من القربات نتقرب اليك
بكل صلاة صليت عليه من اول النشأة الى ما لا نهاية الكمالات