خالد بن الوليد في الشام
فلما سمع أبو بكر ذلك علم أن أبا عبيدة لين العريكة لا يصلح لقتال الروم وعول أن يكتب إلى خالد بن الوليد ليوليه على جيوش المسلمين وقتال الروم قال: واستشار المسلمين في ذلك فقالوا: الرأي ما تراه، وكتب كتاباً يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عتيق بن أبي قحافة إلى خالد بن الوليد سلام عليك: أما بعد فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وإني قد وليتك على جيوش المسلمين وأمرتك بقتال الروم وأن تسارع إلى مرضاة الله عز وجل وقتال أعداء الله، وكن ممن يجاهد في الله حق جهاده ثم كتب "يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم" الصف: 10، الآية وقد جعلتك الأمير على أبي عبيدة ومن معه. وبعث الكتاب مع نجم بن مقدم الكناني فركب على مطيته وتوجه إلى العراق فرأى خالداً رضي الله عنه قد أشرف على فتح القادسية فدفع إليه الكتاب فلما قرأه قال: السمع والطاعة لله ولخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ارتحل ليلاً وأخذ طريقة عن اليمين وكتب كتاباً إلى أبي عبيدة يخبره بعزله وبسيره إلى الشام، وقد ولاني أبو بكر على جيوش المسلمين فلا تبرح من مكانك حتى أقدم عليك والسلام. وبعث الكتاب مع عامر بن الطفيل رضي الله عنه، وكان أحد أبطال المسلمين فأخذه وتوجه يطلب الشام.
وأما خالد فلما وصل إلى أرض السماوة قال: أيها الناس إن هذه الأرض لا تدخلونها إلا بالماء الكثير لأنها قليلة الماء ونحن في جيش عظيم والماء معكم قليل فكيف يكون الأمر? فقال له رافع بن عميرة الطائي رضي الله عنه: أيها الأمير إني أشير عليك بما تصنع، فقال: يا رافع أرشدك الله بما نصنع ووفقك الله مولانا جل وعلا للخير، قال: فأخذ رافع ثلاثين جملاً وعطشها سبعة أيام ثم أوردها الماء فلما رويت حزم أفواهها، ثم ركبوا المطايا وجنبوا الخيول وساروا فكانوا كلما نزلوا منزلاً اخذوا عشرة من الإبل يشقون بطونها ويأخذون ما يجدون من الماء في بطونها فيجعلونه في حياض الادم، فإذا برد سقوه للخيل وأكلوا اللحم ولم يزالوا كذلك حتى تمت الإبل وفرغ الماء وقطعوا مرحلتين بلا ماء وأشرف خالد ومن معه على الهلاك. فقال خالد لرافع بن عميرة: يا رافع قد أشرفنا على الهلاك والتلف أتعرف لنا ماء ننزل فيه.
قال الواقدي: وكان رافع رمدت عيناه. فقال: أيها الأمير أتاني رمد كما ترى، ولكن إذا أشرفتم على أرض سهلة فأعلموني. قال: فلما أشرفوا عليها أعلموا رافعاً بذلك. قال: فرفع طرف عمامته عن عينيه، وسار على راحلته يضرب يميناً وشمالاً والناس من ورائه إلى أن أقبل على شجرة من الأراك فكبر وكبر المسلمون، ثم قال:احفروا هنا. قال: فحفرت العرب وإذ الماء قد طلع كالبحر، فنزل الناس عليه وشكروا الله تعالى وأثنوا عليه وعلى رافع خيراً، ثم وردوا الماء وسقوا خيلهم وإبلهم، ثم جذوا في طلب من انقطع من المسلمين ومعهم القرب بالماء. قال: فسقوهم فارتجعت قوتهم. ثم لحقوا بالجيش وأراحوا أنفسهم، ثم في ثاني يوم جدوا في المسير إلى أن بقي بينهم وبين أركة مرحلة واحدة، فبينما هم كذلك إذ أشرفوا على حلة عامرة وأغنام وإبل قد سدت الفضاء والمستوي، فأسرع المسلمون إلى الحلة وإذا براع يشرب الخمر وإلى جانبه رجل من العرب مشدود. قال: فتبينه المسلمون وإذا هو عامر بن الطفيل الذي أرسله خالد. قال: فأقبل خالد بن الوليد مسرعاً حتى وقف عليه، فلما رآه تبسم وقال: يا ابن الطفيل كيف كان سبب أسرك. قال عامر: أيها الأمير إني أشرفت على هؤلاء القوم في هذه الحلة وقد أصابني الحر والعطش فملت إلى هذا الوادي ليسقيني من اللبن فوجدته يشرب خمراً. فقلت له: يا عدو الله أتشرب الخمر وهي محرمة. فقال لي: يا مولاي إنها ليست بخمر وإنما هي ماء زلال، فأنزل كي تراه واستنشق ما في الجفنة فإن كان خمراً فافعل ما بدا لك، فلما سمعت كلامه أنخت المطية ونزلت عن كورها وجلست على ركبتي في الجفنة وإذا أنا بالعبد قد طلبني بعصا كانت إلى جانبه وضربني على رأسي فشجني شجة موضحة، فانقلبت على جانبي فأسرع العبد إلي وشدني كتافاً وأوثقني رباط وقال لي: أظنك من أصحاب محمد بن عبد الله ولست أدعك من بين يدي أو يقدم سيدي من عند الملك. فقلت له: ومن سيدك من العرب? فقال: القداح بن وائلة وإني عند هذا العبد كلما شرب الخمر أحضرني كما ترى وألقى علي فضلة من كأسه. قال: فلما سمع خالد بن الوليد كلام عامر بن الطفيل اشتد به الغضب ومال على العبد وضرب ضربة هائلة فجندله صريعاً ونهب المسلمون المال والأغنام والإبل وقلعوا الحلة بما فيها وأطلق عامراً وقال له: أين رسالتي يا عامر? فقال: يا مولاي هي في طرف عمامتي لم يعلم بها العبد. فقال خالد: انطلق بها يا عامر على بركة الله تعالى. قال: فركب عامر وسار يطلب الشام وارتحل خالد من موضعه ذلك فنزل بأركة وهي رأس الأمانة لمن يخرج من العراق، وكانت الروم تمسك بها القوافل وكان عليها بطريق من قبل الملك فأغار خالد عليها وأخذ ما كان فيها وتحصن أهلها بحصنها وكان يسكن فيها حكيم من حكماء الروم وقد طالع الكتب القديمة والملاحم، فلما رأى المسلمين وجيشهم انتقع لونه وقال: اقترب الوقت وحق ديني. فقال أهل أركة: وكيف ذلك. قال: إن عندي ملحمة فيها ذكر هؤلاء القوم، وإن أول راية تشرف من خيلهم هي الراية المنصورة وقد دنا هلاك الروم، فانظروا إن كانت رايتهم سوداء وأميرهم عريض اللحية طويل ضخم بعيد ما بين المنكبين واسع الهيكل في وجهه أثر جدري لهو صاحب جيشهم في الشام وعلى يديه يكون الفتح.
قال: فنظر القوم وإذا الراية على رأس خالد وهي كما قال حكيمهم. قال: واجتمعوا على بطريقهم وقالوا له: أنت تعلم أن الحكيم سمعان لا ينطق إلا بالحق والحكمة وقد قال كذا وكذا. والذي وصفه لنا رأيناه عياناً ونرى من الرأي أن نعقد بيننا وبين العرب صلحاً ونأمن على حريمنا وأنفسنا. فلما سمع ذلك بطريقهم قال: أخروني إلى غد لأرى من الرأي. قال: فانصرفوا من عنده وبات البطريق يحدث نفسه ويدبر أمره وكان عارفاً عاقلاً خبيراً بالأمور، وقال: إن أنا خالفتهم خفت أن يسلموني للعرب، وقد تحقق أن روبيس سار بجيش عظيم فهزمهم العرب ولم يزل يراود نفسه إلى أن أصبح الصباح فدعا قومه. وقال: على ماذا عولتم? قالوا: عولنا على أننا نقيم الصلح بيننا وبين العرب. فقال البطريق: أنا واحد منكم مهما فعلتم لا أخالفكم. قال: فخرج مشايخ أركة إلى خالد وكلموه في الصلح، فأجابهم إلى الصلح وألان الكلام لهم وتلقاهم بالرحب والسعة ليسمع بذلك أهل السخنة ويبلغ الخبر لأهل قدمة، وكان الوالي عليهم بطريق اسمه كوكب، فجمع رعيته وقال لهم: بلغني عن هؤلاء العرب أنهم فتحوا أركة والسخنة وأن قومنا يتحدثون بعدلهم وحسن سيرتهم وأنهم لا يطلبون الفساد وهذا حصن مانع لا سبيل لأحد علينا، ولكن نخاف على نخلنا وزرعنا، وما يضرنا أن نصالح العرب، فإن كان قومنا هم الغالبين فسخنا صلحهم، وإن كان العرب ظافرين كنا آمنين. قال: ففرح قومه بذلك وهيئوا العلوفة والضيافة حتى خرج خالد. رضي الله عنه من أركة ونزل عليهم فخرجوا إليه بالخدمة وصالحهم على ثلثمائة أوقية من الذهب وكتب لهم كتاباً بالصلح، ثم ارتحل عنها إلى حوران وبلغ عامر بن الطفيل كتاب خالد إلى أبي عبيدة، فلما قرأه تبسم وقال: السمع والطاعة لله تعالى ولخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أعلم المسلمين بعزله وولاية خالد بن الوليد، وكان أبو عبيدة وجه شرحبيل بن حسنة كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بصرى في أربعة آلاف فارس. قال: فسار على فنائها، وكان على بصرى بطريق عظيم الشأن والقدر عند الملك وعند الروم اسمه روماس، وكان قرأ الكتب السالفة والأخبار الماضية، وكان يجتمع إليه الروم من أقصى بلادها ينظرون إلى عظيم خلقته ويسمعون ألفاظ حكمته، وكانت آهلة بالخلق عامرة بالناس، وكان فيها ألف فارس، وكان العرب يقصدونها ببضائعهم وتجارتهم من أقصى اليمين وبلاد الحجاز، فإذا كان في أيام الموسم ينصب لبطريقهم كرسي ليجلس عليه ويجتمع الناس إليه، ويستفيدون من علمه وحكمته، فبينما هم قد اجتمعوا إليه وقعت الضجة بقدوم شرحبيل بن حسنة وعسكره فبادر إلى جواده فركبه وصاح في قومه فأجابوه وقال: لا تتحدثوا حتى نسمع كلام القوم وما عندهم، ثم سار حتى قرب من شرحبيل بن حسنة وجيشه، ونادى: معشر المسلمين أنا روماس وإني أريد صاحبكم. قال: فخرج إليه شرحبيل، فلما قرب منه قال البطريق: من أنتم. قال شرحبيل: من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم النبي الأمي القرشي الهاشمي المنعوت في التوراة والإنجيل فقال روماس: ما فعل الله به.
فقال شرحبيل: قبضه الله إليه. فقال البطريق: فمن ولي الأمر بعده. قال: عتيق بن أبي قحافة بن بكر بن تيم بن مرة. فقال روماس: وحق ديني لقد أعلم بأنكم على الحق ولا بد لكم أن تملكوا الشام والعراق وأنا أشفق عليكم إذ أنتم في جمع يسير ونحن في جمع كثير، ولكن ارجعوا إلى بلادكم فإنا لا نتعرض لكم. واعلم يا أخا العرب أن بكر هو صاحبي ورفيقي ولو كان حاضراً ما قاتلني. فقال شرحبيل: لو كنت ولده أو ابن عمه لما عفا عنه إلا أن يكون من أهل ملته، وليس له من الأمر شيء لأنه مكلف، وقد أمره الله أن يجاهدكم ولسنا نبرح عنكم إلا بإحدى ثلاث: إما أن تدخلوا في ديننا أو تؤدوا الجزية، أو السيف. فقال روماس: وحق ما أعتقده من ديني: لو كان الأمر إلي أقاتلكم لأني أعلم أنكم على حق، وهؤلاء طواغية الروم وقوم مجتمعون، وإني أريد أن أرجع إليهم وأنظر ما عندهم. فقال شرحبيل: ارجع إليهم فلا بد لكم بما ذكرت. قال: فعاد روماس إلى قومه وجمعهم، وقال: يا أهل دين النصرانية وبني ماء المعمودية الذي كنتم تعتقدونه في كتبكم من الخروج من بلادكم ودياركم ونهب أموالكم قد قرب وهذا وقته وزمانه ولستم بأعظم جيشاً من روبيس سار إلى شرذمة من العرب بأرض فلسطين. فقتل وقتل من معه وانهزم الباقون، ولقد بلغني أن رجلاً منهم قد خرج أرض السماوة صوب العراق اسمه خالد بن الوليد وقد فتح أركة والسخنة وتدمر وحوران، وهو عن قريب يحضر إليكم، والصواب أن تؤدوا الجزية عن يد إلى هؤلاء العرب وينصرفون عنكم. قال: فلما سمع قومه ذلك غضبوا وشوشوا وهموا بقتله. فقال روماس: يا قوم إنما أردت أن أختبركم، وأرى حمية دينكم والآن دونكم والقوم وأنا أولكم. قال: فرجعت الروم إلى عددها وعديدها وتظاهروا بالدروع البيض وقادوا الجنائب وتهيئوا للحملة. فلما رأى شرحبيل بن حسنة ذلك وعظ أصحابه. وقال: اعلموا رحمكم الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الجنة تحت ظلال السيوف" وأحب ما قرب إلى الله قطرة دم في سبيل الله أو دمعة جرت في جوف الليل من خشية الله?. قال الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون" آل عمران: 102، ثم حمل وحمل المسلمون على جيش بصرى. قال عبد الله بن عدي: واجتمع علينا العدو وطمعوا فينا، وحملوا علينا في اثني عشر ألف فارس من الروم، ونحن فيهم كالشامة البيضاء في جلد البعير الأسود وصبرنا لهم صبر الكرام، ولم يزل القتال بيننا وبينهم إلى أن توسطت الشمس في قبة الفلك، وقد طمع العدو فينا، فرأيت شرحبيل بن حسنة قد رفع يده إلى السماء وهو يقول: يا حي يا قيوم يا بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام، اللهم انصرنا على القوم الكافرين. قال: فوالله ما استتم شرحبيل كلامه ودعاءه حتى جاء النصر من عند الله العزيز الحكيم، وذلك أن القوم داروا بنا فرأينا غبرة قد أشرفت علينا من صوب حوران. فلما قربت لنا رأينا تحتها سوابق الخيل، فلاحت لنا الأعلام الإسلامية والرايات المحمدية، وقد سبق إلينا فارسان: أحدهما ينادي ويزعق: يا شرحبيل يا ابن حسنة أبشر بالنصر لدين الله، أنا الفارس الصنديد والبطل المجيد، أنا خالد بن الوليد، والآخر يزعق ويقول: أنا عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وأشرفت العساكر من كل جانب. قال: وأشرفت راية العقاب يحملها رافع بن عميرة الطائي. قال: حدثنا سالم بن عدي عن ورقاء بن حسان العامري عن مسيرة بن مسروق العبسي. قال:
والله لقد خمدت أصوات الروم عند زعقة خالد رضي الله عنه، وأقبل المسلمون يسلم بعضهم على بعض، وأقبل شرحبيل بن حسنة إلى خالد بن الوليد، وسلم عليه. فقال خالد: يا شرحبيل أما علمت أن هذه مينا الشام والعراق، وفيها عساكر الروم وبطارقتهم. فكيف غررت بنفسك وبمن معك من المسلمين. قال: كله بأمر أبي عبيدة. فقال خالد: أما أبو عبيدة فإنه رجل خالص النية، وليس عنده غائلة الحرب ولا يعلم بمواقعها، ثم أمر الناس بالراحة فنزلوا وارتاحوا من أوزارهم. فلما كان في اليوم الثاني زحفت جيوش بصرى على المسلمين فقال خالد: إن الروم زحفوا لعلمهم بتعبنا وتعب خيولنا فاركبوا بارك الله فيكم، واحملوا على بركة الله تعالى. قال: فركب المسلمون، وأخذوا أهبتهم للحرب فجعل في الميمنة رافع بن عمير الطائي، وجعل في الميسرة ضرار بن الأزور وكان غلافاً فاتكاً في الحرب، وجعل على الدرك عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، ثم قسم جيش الزحف فجعل على شطره المسيب بن نجيبة الفزاري، وعلى الشطر الآخر مذعور بن غانم الأشعري، وأمرهم أن يزفوا الخيل إذا حملت. قال: وبقي خالد في الوسط وهو يعظ الناس ويوصيهم، وقد عزموا على الحملة، وإذا بصفوف الروم قد انشقت وخرج من وسطها فارس عظيم الخلقة كثير الزينة يلمع ما عليه من الذهب الأحمر والياقوت. فلما توسط الجمعين نادى بلسان عربي كأنه بدوي: يا معشر العرب لا يبرز لي إلا أميركم، فأنا صاحب بصرى. قال: فخرج إليه خالد رضي الله عنه كالأسد الضرغام وقرب منه. فقال له البطريق: أنت أمير القوم. قال: كذلك يزعمون أني أميرهم ما دمت على طاعة الله ورسوله، فإن عصيته فلا إمارة لي عليهم. قال البطريق: إني رجل عاقل من عقلاء الروم وملوكهم وإن الحق لا يخفى عن ذي بصيرة، واعلم أني قرأت الكتب السابقة، والأخبار الماضية، فوجدت أن الله تعالى يبعث قرشياً واسمه محمد بن عبد الله. قال خالد: والله نبينا. قال: أنزل عليه الكتاب? قال: نعم القرآن. قال روماس البطريق: أحرم عليكم فيه الخمر. قال خالد: نعم من شربها حددناه، ومن زنى جلدناه، وإن كان محصناً رجمناه. قال: أفرضت عليكم الصلوات. قال: نعم خمس صلوات في اليوم والليلة. قال: أفرض عليكم الجهاد? قال خالد: ولولا ذلك ما جئناكم نبغي قتالكم. قال روماس: والله إني لأعلم أنكم على الحق وإني أحبكم وحذرت قومي منكم وإني خائف منكم، فأبوا. فقال خالد: فقل أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله يكون لك ما لنا وعليك ما علينا. فقال: إني أسلمت وأخاف أن يعجل هؤلاء بقتلي: وسبي حريمي، ولكن أنا أسير إلى قومي وأرغبهم فلعل الله أن يهديهم. فقال خالد: وإن رجعت إلى قومك بغير قتال يكون بيني وبينك خفت عليك، ولكن احمل علي حتى لا يتهموك وبعد ذلك أطلب قومك. فحمل بعضهم على بعض، وأرى خالد الفريقين أبواباً من الحرب حتى أبهر روماس. فقال لخالد: شدد علي الحملة حتى يرى الديرجان فإني خائف عليك من بطريق بعث به الملك يقال له الديرجان. فقال خالد: ينصرنا الله عليه، ثم شدد على روماس الحملة حتى إنه انهزم من بين يديه إلى قومه. فلما وصل إلى قومه قال: ما الذي رأيت من العرب? قال: إن العرب أجلاد ما لكم بقتالهم طاقة ولا بد لهم أن يملكوا الشام، وما تحت سريري هذا فادخلوا تحت طاعتهم وكونوا مثل أركة والسخنة قال: فلما سمعوا كلامه زجروه وأرادوا قتله، وقالوا له: ادخل المدينة والزم قصرك ودعنا لقتال العرب، فانصرف روماس، وقال: لعل الله ينصر خالداً. ثم إن أهل بصرى ولوا عليهم الديرجان، وقالوا: إذا فرغنا من المسلمين سرنا معك إلى الملك، ونسأله أن ينزع روماس ويوليك علينا. قال الديرجان: وما الذي تريدون. قالوا: نحمل ونطلب قتال العرب. قال: فخرج الديرجان وطلب خالداً.
فقال عبد الرحمن لخالد: يا أمير أنا أخرج إليه. فقال: دونك يا ابن الصديق، فخرج عبد الرحمن وحمل على الديرجان، فما لبثوا غير ساعة، وقد أحس الديرجان من نفسه بالتقصير فولى منهزماً وراح إلى قومه. فلما رأوا ذلك منه نزل الرعب في قلوبهم وعلم خالد ما عند القوم من الفزع فحمل وحمل عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وحمل المسلمون. فلما نظر أهل بصرى إلى حملة المسلمين حملوا وتلاقى الفريقيان، وضجت الرهبان بكلمة كفرهم. فقال شرحبيل بن حسنة: اللهم إن هؤلاء الأنجاس يبتهلون بكلمة كفرهم ويدعون معك إلها آخر لا إله إلا أنت ونحن نبتهل إليك بلا إله إلا أنت، وأن محمداً عبدك ورسولك، إلا ما نصرت هذا الدين على أعدائك المشركين، ثم حملوا حملة واحدة، فلم يكن للروم ثبات مع العرب، فولى المشركون الأدبار، وركنوا إلى الفرار. فلما حطوا داخل المدينة أغلقوا الأبواب وتحصنوا بالأسوار، ورفعوا الصلبان، وعولوا أن يكتبوا للملك ليمدهم بالخيل والرجال. قال عبد الله بن رافع: فلما تحصنوا رجعنا عنهم وافتقدنا أصحابنا فوجدنا قد قتل منا مائة وثلاثون فارساً، وقتل من الأعيان بدريان. قال: وغنم المسلمون الأموال، وصلى خالد على الشهداء، وأمر بدفنهم. فلما كان الليل تولى الحرس عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ومعمر بن راشد ومائة من جيش الزحف. فبينما هم يدورون حول العسكر، وإذا بروماس صاحب بصرى قد أقبل عليهم. وقال لهم: أين خالد بن الوليد فأخذوه وأتوا به إلى خالد. فلما رآه رحب به. فقال: أيها الأمير بعد أن فارقتك طردني قومي، وقالوا: الزم قصرك وإلا قتلناك فلزمت قصري، وهو ملاصق للسور ولما وقع لهم ما وقع وانهزموا تحصنوا. فلما جن الليل أمرت غلماني بحفر السور وفتحوا فيه باباً فأتيتك فأرسل معي من تعتمد عليه من أصحابك تستلمون المدينة. فلما سمع خالد هذا الكلام أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يأخذ مائة من المسلمين ويسيروا مع روماس. قال ضرار بن الأزور: وكنت ممن دخل المدينة. فلما صرنا في قصر روماس فتح لنا خزانة السلاح، فلبسنا من سلاحهم وقسمنا أربعة أقسام، كل جانب خمسة وعشرون رجلاً. وقال لنا عبد الرحمن: إذا سمعتم التكبير فكبروا. فلما سرنا حيث أمرنا أخذنا أنفسنا بالحملة على القوم.
قال الواقدي: بلغني ممن أثق به من الرواة أن عبد الرحمن لما فارق أصحابه لبس سلاحه وسار هو وروماس يطلبون الدرج الذي عليه الديرجان، وسار معهم ضرار ورافع وشرحبيل بن حسنة. فلما قرب عبد الرحمن من الدرج الذي فيه الديرجان، قال الديرجان: من أنتم? فقال: أنا روماس. فقال: لا أهلاً ولا مرحباً بك، ومن الذي معك? قال: معي صديق لك ومشتاق إلى رؤياك، قال: ويحك، ومن هو يا روماس. قال: هذا ابن أبي بكر الصديق. فلما سمع الديرجان ذلك هم أن يقتله فلم تطاوعه نفسه فحمل عليه عبد الرحمن، وهز سيفه في وجهه وضربه على عاتقه فتجندل صريعاً يخور في دمه، وعجل الله بروحه إلى النار. قال: وكثر عبد الرحمن فأجابه روماس وسمع أصحابه التكبير فكبروا من جوانب بصرى. قال: وأجابتهم الأحجار والأشجار. قال: وكبر المسلمون من جوانب بصرى ووضعوا السيف في الروم، وسمع خالد التكبير فصرخوا، وإذا بغلمان روماس وأولاده قد فتحوا لهم الأبواب فعبر خالد ومن معه من المسلمين. فلما نظر أهل بصرى إلى الأبواب، وقد فتحت بالسيف قهراً ضجوا بأجمعهم يقولون: الأمان الأمان. فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: ارفعوا السيف عنهم، وأقام خالد إلى الصباح واجتمع إليه أهلها. وقالوا: يا أيها الأمير لو صالحناك ما جرى شيء من ذلك، ولكن نسألك بالذي أيدك ونصرك ما الذي فتح لك أبواب مدينتنا. فاستحى خالد رضي الله عنه أن يقول، فوثب روماس، وقال: أنا فعلت ذلك يا أعداء الله وأعداء رسوله، وما فعلته إلا ابتغاء مرضاة الله وجهاداً فيكم. فقالوا: أولست منا? فقال: اللهم لا تجعلني منهم، رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبالكعبة قبلة وبالقرآن إماماً، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. قال: ففرح خالد بذلك. وأما أهل بصرى فغضبوا وأضمروا له شراً، وعلم بذلك روماس. فقال لخالد: أنا لا أريد المقام عندهم، وإني أسير معك حيث سرت. فإذا فتح الله على يديك الشام وصار لكم الأمر ردوني إليها لأن الوطن عزيز.
قال الواقدي: حدثني معمر بن سالم عن جده قال: كان روماس يجاهد معنا جهاداً حسناً حتى فتح الله على أيدينا الشام، فكان أبو عبيدة يكاتب به عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أيامه فولاه على بصرى فلم يلبث إلا يسيراً حتى توفي رحمه الله، وخلف عقباً يذكر به، قال: وأمر خالد رجالاً يعينونه على إخراج رحله وماله من المدينة ففعلوا ذلك، وإذا بزوجته تخاصمه وتطلب فراقه. فقال لها المسلمون: ما الذي تريدين? قالت: أريد أمير جيشكم يحكم بيننا فجاءوا بها إلى خالد، فقالت له: أنا أستغيث بك من روماس. فقال لها خالد: وكيف ذلك? فقالت: إني كنت البارحة نائمة إذ رأيت شخصاً ما رأيت منه أحسن منه وجهاً كأن البدر يطلع من بين عينيه، وكأنه يقول: إن المدينة فتحت على يد هؤلاء القوم والشام والعراق. فقلت له: ومن أنت يا سيدي?. قال: محمد رسول الله، ثم دعاني إلى الإسلام فأسلمت، ثم علمني سورتين من القرآن. قال: فحدث الترجمان خالد بما كان منها. فقال: إن هذا لعجيب، ثم قال خالد للترجمان: قل لها أن تقرأ السورتين فقرأت الفاتحة، وقل هو الله أحد، ثم جددت إسلامها على يد خالد بن الوليد، وقالت: يا أيها الأمير إما أن يسلم روماس وإلا يتركني أعيش بين المسلمين. قال: فضحك خالد من قولها، وقال: سبحان الله الذي وفقهما جميعاً. ثم قال للترجمان: قل لها إن روماس أسلم قبلها ففرحت بذلك. ثم إن خالداً أحضر أهل بصرى وقررهم على أداء الجزية وولى عليهم من اتفق رأيه عليه. ثم كتب إلى أبي عبيدة كتاباً يبشره بالفتح، ويقول له: يا صاحب رسول الله قد ارتحلنا إلى دمشق فألحقنا إليها. ثم كتب كتاباً آخر إلى أبي بكر الصديق يخبره برحيله، ويقول له: يوم كتبت إليك هذا الكتاب ارتحلت إلى دمشق فادع لنا بالنصر والسلام عليك ومن معك ورحمة الله وبركاته. ثم بعث الكتابين كلاهما، ثم ارتحل خالد إلى نحو دمشق حتى أشرف على موضع يقال له الثنية فوقف هناك وركز راية العقاب فسميت بذلك ثنية العقاب. ثم ارتحل منها إلى الدير المعروف الآن بدير خالد، وكان أهل السواد قد التجئوا إلى دمشق، وقد اجتمعت خلائق وأمم لا تحصى من الرجال. وأما أصحاب الخيل فكانوا اثني عشر ألفاً، وقد زينوا أسوارهم بالطوارق والبيارق والصلبان، وأقام خالد على الدير ينتظر قدوم المسلمين.
قال الواقدي: ووصلت الأخبار إلى الملك هرقل وما فتح خالد من الشام، وكيف قدم على دمشق فغضب وجمع البطارقة وقال: يا بني الأصفر، لقد قلت لكم وحذرتكم فأبيتم وهؤلاء العرب قد فتحوا أركة وتدمر والسخنة وبصرى، وقد توجهوا إلى الربوة ففتحوها فواكرباه لأن دمشق جنة الشام وقد سارت إليها الجيوش وهم أضعاف العرب، ثم قال: أيكم يتوجه إلى قتال العرب ويكفيني أمرهم، فإن هزمهم أعطيته ما فتحوه ملكاً. فقال بطريق من البطارقة اسمه كلوس بن حنا، وكان من فرسانهم، وقد عرفت شجاعته في عساكر الروم والفرس: أيها الملك أنا أكفيك وأردهم على أعقابهم منهزمين. قال: فلما سمع الملك قوله سلم إليه صليبا من الذهب وقدمه على خمسة آلاف فارس، وقال له: قدم صليبك أمامك فإنه ينصرك. قال: فأخذه كلوس وسار من يومه من أنطاكية إلى أن وصل حمص فوجدها مزينة بالسلاح، فلما بلغ أهلها قدومه خرجوا إلى لقائه، وقد خرجت القسس والرهبان واستقبلوه ودعوا له بالنصر وأقام بحمص يوماً وليلة، ثم أرتحل إلى مدينة بعلبك فخرج إليه النساء لاطمات الخدود وقلن: أيها السيد إن العرب فتحوا أركة وحوران وبصرى، فقال لهن: كيف قدرت العرب على حوران وبصرى?. فقلن: أيها السيد إن الذين ذكرتهم لم يبرحوا من أماكنهم، وإن هذا الرجل قد أقبل من العراق، وهو الذي فتح أركة. فقال: وما اسمه. قلن: خالد بن الوليد. قال: في كم يكون من العساكر. قلن: في ألف وخمسمائة فارس. فقال: وحق المسيح لأجعلن رأسه على رأس سناني. ثم رحل فلم ينزل إلا بدمشق، وكان واليها بطريقاً من قبل الملك هرقل اسمه عزازير، فلما قدم كلوس اجتمع عليه عزازير وأصحابه وقرأوا عليهم منشور الملك، ثم قال لهم: أتريدون أن أقاتل عدوكم وأصده عن بلادكم. قالوا: نعم فقال: أخرجوا عزازير عنكم حتى أكون وحدي في هذا الأمر. فقالوا: أيها السيد وكيف ينبغي أن يخرج صاحبنا من بلدنا، وهذا العدو قاصد إلينا. قال: فغضب عزازير في وجه كلوس من كلامه، وقد اتفق رأيهم على أن كل واحد يقاتل العرب يوماً فثبتت عداوة عزازير في قلب كلوس.
قال الواقدي: ولقد بلغني أنهم كانوا يخرجون كل يوم من باب الجابية مقدار فرسخ ينظرون قدوم أبي عبيدة بن الجراح فلم يشعروا حتى قدم إليهم خالد بن الوليد من نحو الثنية، قال: حدثنا يسار بن محمد. قال: أخبرنا رفاعة بن مسلم. قال: كنت في جيش خالد بن الوليد لما نزل على الدير المعروف به، وإذا بجيش الروم قد زحف علينا وهو كالجراد المنتشر، فلما نظر خالد ذلك تدرع بدرع مسلمة، ثم صرخ في وجه المسلمين. وقال: هذا يوم ما بعده يوم، وهذا العدو قد زحف بخيله فدونكم والجهاد فانصروا الله ينصركم وكونوا ممن باع نفسه لله عز وجل وكأنكم بإخوانكم المسلمين قدموا عليكم مع أبي عبيدة بن الجراح، ثم بعد ذلك استقبل الجيش وصرخ بملء رأسه فأرعب المشركين من صرخته وحمل شرحبيل بن حسنة وعبد الرحمن بن أبي بكر وضرار بن الأزور، ومذ حمل ضرار لم يول عنهم بل قتل من الميمنة خمسة فرسان ومن الميسرة كذلك. ثم حمل ثاني مرة فقتل منهم ستة فرسان، ولولا سهام القوم لما رد عن قتالهم فشكره خالد بن الوليد وقال لعبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه: احمل بارك الله فيك. قال: فحمل عبد الرحمن وفعل كما فعل ضرار بن الأزور وقاتل قتالاً شديداً. ثم حمل من بعده خالد بن الوليد ورفع رمحه ورأى العسكر من أمور الحرب حتى جزع الروم من شجاعته. فلما نظر إليه البطريق كلوس علم أنه أمير الجيش وعلم أنه يقصده فتأخر كلوس إلى ورائه من مخافته. فلما نظر خالد إلى قهقرة كلوس إلى ورائه حمل عليه ليرده فوقعت عليه البطارقة ورموه بالسهام فلم يلتفت إليهم خالد، ولم يعبأ بهم ولم يرجع حتى قتل عشرين. ثم انثنى بجواده بين الصفين وجال بجواده بين الفريقين وطلب البراز فلم يجبه أحد، وقالوا: أخرجوا غيره منكم. فقال: ويلكم ها أنا رجل واحد من العرب وكلنا في الحرب سواء فما منهم من فهم كلامه، فأقبل عزازير على كلوس، وقال: أليس الملك قد قدمك على جيشه وبعثك إلى قتال العرب فدونك حام عن بلدك ورعيتك.
فقال كلوس: أنت أحق مني بذلك لأنك أقدم مني، وقد عزمت أنك لا تخرج إلا بإذن الملك هرقل فما بالك لا تخرج إلى قتال أمير العرب. فقال لهما العساكر: تقارعا فمن وقعت عليه القرعة فلينزل إلى قتال أمير العرب. فقال كلوس: لا بل نحمل جميعاً فهو أهيب لنا، قال: وخاف كلوس أن يبلغ الملك ذلك فيطرده من عنده أو يقتله. قال: فتقارعا فوقعت القرعة على كلوس. فقال عزازير: اخرج وبين شجاعتك، فقال كلوس لأصحابه: أريد أن تكون همتكم عندي، فإن رأيتم مني تقصيراً فاحملوا وخلصوني. فقال أصحابه: هذا كلام عاجز لا يفلح أبداً، فقال: يا قوم إن الرجل بدوي ولغته غير لغتي فخرج معه رجل اسمه جرجيس، وقال له: أنا أترجم لك فسار معه. فقال كلوس: اعلم يا جرجيس أن هذا رجل ذو شجاعة فإن رأيته غلبني فاحمل أنت عليه حتى نقضي يومنا معه، ويخرج له غدا عزازير فيقتله ونستريح منه وأتخذك أنا صديقي. فقال له: ما أنا أهل حرب، وإنما أخوفه بالكلام. قال: فسكت وسارا حتى قربا من خالد فنظر إليهما. قال: فهم أن يخرج إليهما رافع بن عميرة فصاح فيه خالد، وقال: مكانك لا تبرح فإني كفء لهما، فلما دنوا من خالد. قال كلوس لصاحبه: قل له من أنت وما تريد وخوفه من سطواتنا فقرب جرجيس من خالد، وقال له: يا أخا العرب أنا أضرب لك مثلاً إن مثلكم ومثلنا كمثل رجل له غنم فسلمها إلى راع وكان الراعي قليل الجرأة على الوحوش فأقبل عليه سبع عظيم فجعل يلتقط منه كل ليلة رأساً إلى أن انقضت الأغنام والسبع ضار عليها ولم يجد له مانعاً عنها. فلما نظر صاحب الغنم ما حل بغنمه علم أنه لم يؤت إلا من الراعي فانتدب لغنمه غلاماً نجيباً فسقمه الغنم فكان كل ليلة يكثر الطوفان حول الغنم. فبينما الغلام كذلك إذ أقبل عليه السبع على عادته الأصلية واخترق الغنم فهجم الغلام على السبع وبيده منجل فضربه فقتله، ولم يقرب الغنم وحش بعدها وكذلك أنتم نتهاون بأمركم لأنه ما كان أضعف منكم لأنكم جياع مساكين ضعفاء وتعودتم أكل الذرة والشعير ومص النوى. فلما خرجتم إلى بلادنا وأكلتم طعامنا وفعلتم ما فعلتم، وقد بعث لكم الملك رجالاً لا تقاس بالرجال ولا تكترث بالأبطال ولا سيما هذا الرجل الذي بجانبي فاحذر منه أن ينزل بك ما أنزل الغلام بالأسد، وقد سألني أن أخرج إليك وأتلطف بك في الكلام فأخبرني ما الذي تريد قبل أن يهجم عليك هذا الفارس. فلما سمع خالد منه ذلك، قال: يا عدو الله والله لا نحسبكم عندنا في الحرب إلا كقابض الطير بشبكة، وقد قبضها يميناً وشمالاً فلم يخرج إلا ما انفلت منه. وأما ما ذكرت من بلادنا وأنها بلاد قحط وجوع فالأمر كذلك إلا أن الله تعالى أبدلنا ما هو خير منه، فأبدلنا بدل الذرة الحنطة والفواكه والسمن والعسل. وهنا كله قد رضيه لنا ربنا ووعدنا به على لسان نبيه وأما قولك: ما الذي تريدونه منا. فنريد منكم إحدى ثلاث خصال إما أن تدخلوا في ديننا أو تؤدوا الجزية، أو القتال. وأما قولك: إن هذا الرجل الذليل الذي هو عندكم مسكين فهو عندنا أقل القليل وإن يكن هو ركن الملك فأنا ركن الإسلام. أنا الفارس الصنديد، أنا خالد بن الوليد. أنا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
معارك الشام
قال الواقدي رحمه الله تعالى: فلما سمع جرجيس كلام خالد تأخر إلى ورائه وقد تغير لونه، فقال له كلوس: يا ويلك رأيتك في بدايتك تهيم كالسبع فما لك قد تأخرت? فقال: وحق المسيح ما أعلم أنه الفارس الجحجاح وبطلهم الفصاح، هذا صاحب القوم الذي ملأ الشام شراً. فقال كلوس: يا جرجيس اسأله أن يؤخر الحرب بيننا إلى غد فالتفت إلى خالد، وقال له: يا سيد قومك هذا صاحبي يريد أن يرجع إلى قومه ليشاورهم. فقال خالد: ويحك أتريد أن تخدعني بالكلام وأقبل برمحه في وجه جرجيس. فلما نظر جرجيس ذلك انعقد لسانه وولى هارباً. فلما رأى خالد ذلك طلب كلوس وحمل عليه وتطاعنا واحترز البطريق من طعنات خالد، فلما نظر خالد احتراز البطريق حط يده في أطواقه وجذبه فقلعه من سرجه. فلما نظر المسلمون فعل خالد كبروا بأجمعهم وتسابق الفرسان إلى خالد، فلما قربوا منه رمى لهم البطريق، وقال أوثقوه كتافاً فصار يبربر بلسانه فأتى المسلمون بروماس صاحب بصرى، وقالوا له: اسمع ماذا يقول? فقال لهم: يقول لكم لا تقتلوني فأني أجبت صاحبكم في المال والجزية. فقال خالد: استوثقوا منه ثم نزل عن جواده وركب جواداً أهداه له صاحب تدمر وعزم أن يهجم على الروم. فقال ضرار بن الأزور: أيها الأمير دعني أنا أحمل على القوم حتى تستريح أنت. فقال: يا ضرار: الراحة في الجنة غداً، ثم عول خالد على الحملة فصاح به البطريق كلوس، وقال: وحق دينك ونبيك إلا ما رجعت إلي حتى أخاطبك فرجع خالد إليه، وقال لروماس: اسأله ما يريد. فقال: أعلمه أني صاحب الملك، وقد بعثني إليكم في خمسة آلاف فارس لأردكم عن بلده وأهله ورعيته، وقد تحاججت أنا وعزازير متولي دمشق وقدم إلي معه كذا وكذا، وأنا أسألك بحق دينك إذا خرج إليك فاقتله، وإن لم يخرج إليك فاستدعه واقتله فإنه رأس القوم. فإن قتلته فقد ملكت دمشق. فقال خالد لروماس: قل له إنا لا نبقي عليك ولا عليه ولا على من أشرك بالله تعالى. ثم إنه بعد ذلك الكلام حمل، وهو ينشد ويقول:
لك الحمد مولانا على كل نـعـمة
وشكراً لما أوليت من سابغ النعـم
مننت علينا بعد كـفـر وظـلـمة
وأنقذتنا من حندس الظلم والظلـم
وأكرمتنا بالهاشـمـي مـحـمـد
وكشفت عنا ما نلاقي من الغمـم
فتمم إله العرش ما قـد تـرومـه
وعجل لأهل الشرك بالبؤس والنقم
وألقهم ربي سريعـاً بـبـغـيهـم
بحق نبي سيد العرب والعـجـم
قال الواقدي: نقد بلغني ممن أثق به أنه لما ولى جرجيس هارباً من بين يدي خالد إلى أصحابه رأوه يرتعد من الفزع. فقالوا له: ما وراءك. فقال: يا قوم ورائي الموت الذي لا يقاتل، والليث الذي لا ينازل، وهو أمير القوم، وقد آلى على نفسه أن يطلبنا أينما كنا، وما خلصت روحي إلا بالجهد فصالحوا الرجل قبل أن يحمل عليكم بأصحابه فلا يبقي منكم أحداً، فقالوا له: ما يكفيك أنك انهزمت، وقد هموا بقتله، فبينما هم كذلك إذ أقبل أصحاب كلوس على عزازير وهم خمسة آلاف وصاحوا به وقالوا له: ما أنت عند الملك أعز من صاحبنا، وقد كان بيننا وبينك شرك فاخرج أنت إلى خالد واقتله أو أسره وخلص لنا صاحبنا وإلا وحق المسيح والمذبح والذبيح شننا عليك الحرب فقال عزازير، وقد رجع به مكره ودهاؤه: يا ويلكم أتظنون أني جزعت من الخروج إلى هذا البدوي من أول مرة، ولكني ما تأخرت عن الخروج إليه وتقاعدت عن قتاله حتى يتبين عجز صاحبكم وسوف ينظر الفريقان أينا أفرس وأشجع وأثبت في مقام القتال إذا نحن تشابكنا بالنصال. ثم إنه في الحال ترجل عن جواده ولبس لامته وركب جواداً يصلح للجولان، وخرج إلى قتال سيدنا خالد بن الوليد، الفارس الصنديد رضي الله عنه، فلما قرب منه قال: يا أخا العرب ادن مني حتى أسألك وكان الملعون يعرف العربية، فلما سمع خالد ذلك قال: يا عدو الله ادن أنت على أم رأسك، ثم هم أن يحمل عليه. فقال: على رسلك يا أخا العرب أنا أدنو منك فعلم خالد أن الخوف داخله فأمسك عنه حتى قرب منه. فقال: يا أخا العرب ما حملك أن تحمل أنت بنفسك.. أما تخشى الهلاك فلو قتلت بقيت أصحابك بلا مقدم. فقال خالد: يا عدو الله قد رأيت ما فعل الرجلان من أصحابي لو تركتهم لهزموا أصحابك بعون الله تعالى، وإنما معي رجال، وأي رجال يرون الموت مغنماً والحياة مغرماً، ثم قال له خالد: من أنت. فقال: أو ما سمعت باسمي أنا فارس الشام أنا قاتل الروم والفرس أنا كاسر عساكر الترك. فقال خالد: ما اسمك? فقال: أنا الذي تسميت باسم ملك الموت اسمي عزرائيل.
قال الواقدي: فضحك خالد من كلامه، وقال: يا عدو الله تخوفني أن الذي تسميت باسمه هو طالبك ومشتاق إليك ليرديك إلى الهاوية. فقال له البطريق: ما فعلت بأسيرك كلوس?. فقال: هو موثق بالقيود والأغلال. فقال له عزازير: وما منعك من قتله، وهو داهية من دواهي الروم. فقال خالد: منعني من ذلك أني أريد قتلكم جميعاً، فقال عزازير: هل لك أن تأخذ ألف مثقال من الذهب وعشرة أثواب من الديباج وخمسة رؤوس من الخيل وتقتله وتأتيني برأسه. فقال له خالد: هذه ديته فما الذي تعطيني أنت عن نفسك. قال: فغضب عدو الله من ذلك، وقال: ما الذي تأخذ مني. قال: الجزية وأنت صاغر ذليل. فقال عزازير: كلما زدنا في كرامتكم زدتم في إهانتنا فخذ الآن لنفسك الحذر فإني قاتلك ولا أبالي، فلما سمع خالد كلام عزرائيل حمل عليه حملة عظيمة كأنه شعلة نار فاستقبله البطريق، وقد أخذ حذره وكان عزازير ممن يعرف بالشجاعة في بلاد الشام فلما نظر خالد إلى عدو الله أظهر شجاعته وبراعته تبسم. فقال عزازير: وحق المسيح لو أردت الوصول إليك لقدرت على ذلك ولكنني أبقيت عليك لأني أريد أن أستأسرك ليعلم الناس أنك أسيري، وبعد ذلك أطلق سبيلك على شرط أنك ترحل من بلادنا وتسلم لنا ما أخذت من بلاد الشام، فلما سمع خالد كلام عزازير قال له: يا عدو الله قد داخلك الطمع فينا، وهذه العصابة قد ملكوا تدمر وحوران وبصرى وهم ممن باعوا أنفسهم بالجنة، واختاروا دار البقاء على دار الفناء، وستعلم أينا من يملك صاحبه ويذل جانبه، ثم إن خالداً أرى البطريق أبواب الحرب. قال: فندم عزازير على ما كان منه من الكلام، وقال: يا أخا العرب أما تعرف الملاعبة. فقال خالد: ملاعبتي الضرب في طاعة الرب، ثم إن الملعون هاجم خالداً ولوح إليه بسيفه وضربه به فلم يقطع شيئاً فذهل عدو الله من جولان خالد وثباته، وعلم أنه لا يقدر عليه ولا على ملاقاته فولى هارباً، وكان جواده أسبق من جواد خالد. قال عامر بن الطفيل رضي الله عنه: وكنت يوم حرب دمشق في القلب وشاهدنا ما جرى بين خالد وعزازير لما ولى هارباً وقصر جواد خالد عن طلبه فوقع في قلبي الطع، وقال: كأن البدوي خاف مني وما لي إلا أن أقف حتى يمحقني وآخذه أسيراً ولعل المسيح ينصرني عليه، فلما وقع ذلك في نفسه وقف حتى لحق به خالد، وقد جلل فرسه العرق، فلما قرب منه صاح عزازير، وقال: يا عربي لا تظن أني هارب خوفاً منك، وإنما أبقيت عليك خوفاً على شبابك فارحم نفسك، وإن أردت الموت أسوقه إليك أنا قابض الأرواح أنا ملك الموت، فعدما ذلك ترتجل عن جواده وسحب السيف وسار إليه كأنه الأسد الضاري.
فلما نظر عزازير إلى ذلك وإلى ترجل خالد زاد طمعه فيه وحام حوله وهم إليه يريد أن يعلو رأسه بالسيف فزاغ خالد عنها وصاح فيه وضرب قوائم فرسه بضربة عظيمة فقطعها فسقط عدو الله على الأرض ثم ولى هارباً يريد أصحابه فسبقه خالد. وقال: يا عدو الله إن الذي تسميت باسمه قد غضب عليك واشتاق إليك وها هو قد أقبل عليك يقبض روحك ليؤديك إلى جهنم، ثم هجم عليه وهم أن يجلد به الأرض ونظرت الروم إلى صاحبها، وهو في يد خالد فهموا أن يحملوا على خالد ويخلصوه من يده إذ قد أقبلت جيوش المسلمين، وأبطال الموحدين مع الأمير أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه كان قد سار من بصرى فوجده، وقد أخذ عزازير في تلك الساعة، فلما نظرت عساكر دمشق إلى جيوش المسلمين قد أقبلت داخلهم الجزع والفزع فوقفوا عن الحملة. قال: حدثني عمر بن قيس عن شعيب عن عبد الله عن هلال القشعمي قال: لما قدم الأمير أبو عبيدة سأل عن خالد فقالوا: إنه في ميدان الحرب، وقد أسر بطريق الروم فدنا أبو عبيدة إليه وهم أن يترجل فأقسم عليه خالد أن لا يفعل وأقبل عليه وصافحه، وكان أبو عبيدة يحب خالداً لمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال أبو عبيدة لخالد: يا أبا سليمان لقد شرحت بكتاب أبي بكر الصديق حين قدمك علي وأمرك علي وما حقدت في قلبي عليك لأني أعلم مواقفك في الحرب. فقال خالد: والله لا فعلت أمراً إلا بمشورتك ووالله لولأ أمر الإمام طاعة ما فعلت ذلك أبداً لأنك أقدم مني في دين الإسلام وأنا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت قال فيك: أبو عبيدة أمين هذه الأمة فشكره أبو عبيدة وقدم لخالد جواده فركبه، وقال خالد لأبي عبيدة: اعلم أيها الأمير أن القوم قد خذلوا ووقع الرعب في قلوبهم، وأهينوا بأخذ كلوس وعزازير قال: وسار مع أبي عبيدة يحدثه بما صار من البطريقين، وكيف نصره الله عليهما إلى أن أتيا الدير فنزلا هناك، وأقبل المسلمون يسلم بعضهم على بعض. فلما كان الغد ركب الناس وتزينت المواكب وزحف أهل دمشق للقتال وقد أمروا عليهم صهر الملك هرقل، ولما أقبلوا قال خالد لأبي عبيدة: إن القوم قد انخذلوا ووقع الرعب في قلوبهم فاحمل بنا على القوم. قال أبو عبيدة: افعل قال: فحمل خالد وحمل أبو عبيدة وحمل المسلمون على عساكر الروم حملة عظيمة وكبروا بأجمعهم فارتجت الأرض من تكبيرهم ووقع القتل في الروم، وجاهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جهاداً عظيماً، وذهلت منهم الكفار. قال عامر بن الطفيل: لقد كان الواحد منا يهزم من الروم العشرة والمائة. قال: فما لبثوا معنا ساعة واحدة حتى ولوا الأدبار، وركنوا إلى الفرار، وأقبلنا نقتل فيهم من الدير إلى الباب الشرقي. فلما نظر أهل دمشق إلى انهزام جيشهم أغلقوا الأبواب في وجه من بقي منهم. قال قيس بن هبيرة رضي الله عنه: فمنهم من قتلناه، ومنهم من أسرناه، فلما رجع خالد عنهم قال لأبي عبيدة: إن من الرأي أن أنزل أنا على الباب الشرقي وتنزل أنت على باب الجابية. فقال أبو عبيدة: هنا هو الرأي السديد.
قال: حدثنا سهل بن عبد الله عن أويس بن الخطاب أن الذي قدم مع الأمير أبي عبيدة من المسلمين من أهل الحجاز واليمن وحضرموت وساحل عمان والطائف وما حول مكة كان سبعة وثلاثين ألف فارس من الشجعان، وكان مع عمرو بن العاص تسعة آلاف فارس، والذين قدم بهم خالد بن الوليد رضي الله عنه من العراق ألف فارس وخمسمائة فارس فكان جملة ذلك سبعة وأربعين ألفاً وخمسمائة غير ما جهز عمر بن الخطاب في خلافته، وسنذكر ذلك إذا وصلنا إليه إن شاء الله تعالى، هذا وإن خالداً نزل بنصف المسلمين على الباب الشرقي ونزل أبو عبيدة بالنصف الثاني على باب الجابية. فلما نظر أهل دمشق إلى ذلك نزل الرعب في قلوبهم، ثم إن خالداً أحضر البطريقين بين يديه وهما كلوس وعزازير فعرض عليهما الإسلام فأبيا فأمر ضرار بن الأزور أن يضرب عنقيهما ففعل. قال: فلما نظر أهل دمشق ما فعلوا بالبطريقين كتبوا إلى الملك كتاباً يخبرونه بما جرى على كلوس وعزازير، وقد نزلت العرب على الباب الشرقي وباب الجابية، وقد نزلوا بشبانهم وأولادهم وقد قطعوا أرض البلقاء وأرض السواد ووصفوا له ما ملك العرب من البلاد فأدركنا وإلا سلمنا إليهم البلد، ثم سلموا الكتاب إلى رجل منهم وأعطوه أوفى أجرة وأدلوه بالحبل من أعلى الأسوار في ظلمة الاعتكار.
قال الواقدي: وإن الرجل وصل إلى الملك هرقل، وهو بأرض أنطاكية فاستأذن عليه فأمر له بالدخول، فلما دخل سلم الكتاب إليه. فلما قرأه الملك رماه من يده وبكى، ثم إنه جمع البطارقة. وقال لهم: يا بني الأصفر لقد حذرتكم من هؤلاء العرب، وأخبرتكم أنهم سوف يملكون ما تحت سريري هذا فاتخذتم كلامي هزوا وأردتم قتلي وهؤلاء العرب خرجوا من بلاد الجدب والقحط وأكل الذرة والشعير إلى بلاد خصبة كثيرة الأشجار والثمار والفواكه فاستحسنوا ما نظروه من بلادنا وخصبنا وليس يزجرهم شيء لما هم فيه من العزم والقوة وشدة الحرب ولولا أنه عار علي لتركت الشام ورحلت إلى القسطنطينية العظمى، ولكن ها أنا أخرج إليهم وأقاتلهم عن أهلي وديني. فقالوا: أيها الملك ما بلغ من شأن العرب أن تخرج إليهم بنفسك وقعودك أهيب قال الملك هرقل: نبعث إليهم، قالوا: عليك أيها الملك بوردان صاحب حمص لأنه ليس فينا مثله في القوة وملاقاة الرجال، ولقد بين لنا شجاعته في عساكر الفرس لما قصدونا. قال: فأمر الملك بإحضماره، فلما حضر وردان قال له الملك: إنما قدمتك لأنك سيفي القاطع وسندي المانع فاخرج من وقتك وساعتك ولا تتأخر، فقد قدمتك على اثني عشر ألفاً، فإذا وصلت إلى بعلبك فانفذ إلى من بأجنادين بأن يتفرقوا في أرض البلقاء وجبال السواد فيكونوا هناك ولا تتركوا أحدا من العرب يلحق بأصحابه، يعني عمرو بن العاص رضي الله عنه، فقال وردان: السمع والطاعة لك أيها الملك وسوف يبلغك الخبر أني لا أعود إلا برأس خالد بن الوليد ومن معه اهزمهم جميعاً وبعد ذلك أدخل الحجاز ولا أخرج حتى أهدم الكعبة ومكة والمدينة. قال: فلما سمع الملك هرقل قوله قال: وحق الإنجيل لن فعلت ذلك ووفيت بقولك لأعطينك ما فتحوه حرثاً وخراجاً وكتبت كتاب العهد أنك الملك من بعدي، ثم سوره وتوجه وأعطاه صليباً من الذهب وفي جوانبه أربع يواقيت لا قيمة لها، وقال: إذا لاقيت العرب فقدمه أمامك فهو ينصرك، قال: فلما تسلم وردان الصليب من وقته دخل الكنيسة وانغمر في ماء المعمودية وبخروه ببخور الكنائس وصلى عليه الرهبان وخرج من وقته فضرب خيامه خارج المدينة. قال: وأخذت الروم على أنفسهم بالرحيل، فلما تكاملوا ركب الملك هرقل وسار لوداعهم وصحبته أرباب دولته فوصل معهم إلى جسر الحديد بها فودعه الملك وسار إلى أن وصل إلى حماة فنزل بها وأنفذ من وقته كتاباً إلى من بأجنادين من جيوش الروم يأمرهم ليتفرقوا في سائر الطرقات ليمنحوا عمرو بن العاص ومن معه أن يصلوا إلى خالد، فلما سار الرسول بالكتاب جمع وردان إليه البطارقة وقال لهم: إني أريد أن أسير على حين غفلة على طريق مارس حتى أكبس على القوم ولا ينجو منهم أحد، فلما كان الليل رحل على طريق وادي الحياة.
قال: حدثني شداد بن أوس قال: لما دخل خالد بن الوليد رضي الله عنه بعد قتل البطريقين أمر المسلمين أن يزحفوا إلى دمشق. قال: فزحف منا الرجال من العرب وبأيديهم الحجف يتلقون بها الحجارة والسهام، فلما نظر أهل دمشق إلينا، ونحن قد زحفنا إليهم رمونا بالسهام والحجارة من أعلى الأسوار، وضيقنا عليهم في الحصار، وأيقن القوم بالدمار. قال شداد بن أوس: فأقمنا على حصارهم عشرين يوماً، فلما كان بعد ذلك جاءنا ناوي بن مرة وأخبرنا عن جموع الروم بأجنادين وكثرة عددهم فركب خالد نحو باب المدينة الجابية إلى أبي عبيدة يخبره بذلك ويستشيره وقال: يا أمين الأمة إني رأيت أن ترحل من دمشق إلى أجنادين، ونلقى من هناك من الروم، فإذا نصرنا الله عليهم عدنا إلى قتال هؤلاء القوم. قال أبو عبيدة: ليس هذا برأي قال خالد: ولم ذلك? قال أبو عبيدة: إذا رحلنا يخرج أهل المدينة فيملكون مواضعنا، فلما سمع خالد ذلك من أبي عبيدة. قال: يا أمين الأمة إني أعرف رجلاً لا يخاف الموت خبيراً بلقاء الرجال قد مات أبوه وجده في القتال. قال: ومن هنا الرجل يا أبا سليمان. قال: هو ضرار بن الأزور بن طارق. قال أبو عبيدة: والله لقد صدقت ووصفت رجلاً باذلاً معروفاً فافعل. قال: فرجع خالد إلى بابه واستدعى بضرار بن الأزور فجاء إليه وسلم عليه. فقال: يا ابن الأزور إني أريد أن أقدمك على خمسة آلاف قد باعوا أنفسهم لله عز وجل واختاروا دار البقاء والآخرة على الأولى، وتسيروا إلى لقاء هؤلاء القوم الذين وردوا علينا، فإن رأيت لك فيهم طمعاً فقاتلهم، وإن رأيت أنك لا تقدر عليهم فابعث إلينا رسولك. فقال ضرار بن الأزور: وافرحتاه، والله يا ابن الوليد ما دخل قلبي مسرة أعظم من هذه فاتركني أسير وحدي. قال خالد: لعمري إنك ضرار، ولكن لا تلق نفسك إلى الهلاك وسر بما ندب معك من المسلمين. قال فقام ضرار رضي الله عنه مسرعاً فقال خالد: ارفق بنفسك حتى يجتمع عليك الجيش فقال: والله لا وقفت ومن علم الله فيه خيراً أدركني ثم ركب ضرار وأسرع إلى أن وصل إلى بيت لهيا، وهو الموضع الذي كان يصنع فيه الأصنام فوقف هناك حتى لحق به أصحابه. فلما تكاملوا نظر ضرار، وإذا بجيش الروم ينحدر كأنه الجراد المنتشر وهم غائصون في الدروع وقد أشرقت الشمس على لاماتهم وطوارقهم.
فلما نظر إليهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لضرار: أما والله إن هذا الجيش عرمرم والصواب أننا نرجع. فقال ضرار: والله لا زلت أضرب بسيفي في سبيل الله وأتبع من أناب إلى الله ولا يراني الله مهزوماً، ولا أولي الدبر لأن الله تعالى يقول "فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله" الأنفال: 16، وتكلم رافع بن عميرة الطائي وقال: يا قوم وما الخيفة من هؤلاء العلوج? أما نصركم الله في مواطن كثيرة والنصر مقرون مع الصبر ولم تزل طائفتنا تلقى الجموع الكثيرة والجموع اليسيرة فاتبعوا سبيل المؤمنين وتضرعوا إلى رب العالمين وقولوا كما قال قوم طالوت عند لقائهم جالوت "ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين" البقرة: 250. فلما سمع ضرار كلامهم وأنهم اشتروا الآخرة على الأولى كمن بهم عند بيت لهيا وأخفى أمره وجلس عاري الجسد بسراويله على فرس له عربي بغير سلاح وبيده قناة كاملة الطول وهو يوصي القوم.
قال الواقدي: هكذا حدثني تميم بن أوس عن جده عمرو بن دارم. قال: كنت لوم بيت لهيا ممن صحب ضرار بن الأزور رضي الله عنه وهو بهذه الصفة رغبة منه في الشهادة. فلما قارب العدو كان أول من برز وكبر ضرار بن الأوزر قبل فأجابه المسلمون بتكبيرة واحدة رعبت منها قلوب المشركين وفاجؤهم بالجملة ونظروا إلى ضرار بن الأوزر وهو في أول القوم وهو في حالته التي وصفناها فهالهم أمره، وكان وردان في المقدمة والأعلام والصلبان مشتبكة على رأسه. قال: فما طلب ضرار غيره لأنه علم أنه صاحبهم فحمل عليه غير مكترث به وطعن فارساً كان في يده العلم فتجندل من على فرسه قتيلاً، ثم إنه طعن آخر في الميمنة فأرداه وحمل يريد القلب، وكان قد عاين وردان والصليب على رأسه يحمله فارس من الروم والجواهر تلمع من أربع جوانبه فعارضه ضرار وطعن حامله طعنة عظيمة فخرج السنان يلمع من خاصرته. قال فسقط الصليب منكساً إلى الأرض. فلما نظر وردان إلى الصليب أيقن بالهلاك، وهم أن يترجل لأخذه أو يميل في ركابه ليأخذه فما وجد لذلك سبيلاً لما قد أحدق به وترتجل عليه قوم من المسلمين ليأخذوه وقد اشتغل كل عن نفسه ونظر ضرار إلى من ترجل لأخذ الصليب. فقال: معاشر المسلمين إن الصليب لي دونكم وأنا صاحبه فلا تطمعوا فإني إليه راجع إذا فرغت من كلب الروم. قال فسمع ذلك وردان وكان يعرف العربية فعطف من القلب يريد الهرب. فقالت البطارقة: إلى أين أيها السيد أتفر من الشيطان فما رأينا أدنى من منظره ولا أهول من مخبره، ونظر إليه ضرار وقد عطف راجعاً فعلم أنه قد عزم على الهرب فصاح بقومه ثم اقتحم في أثره ومد رمحه وهمز جواده فتصارخت به الروم وعطفت عليه المواكب من كل جانب فأنشد يقول:
الموت حق أين لي منه المفـر
وجنة الفردوس خير المستقـر
هذا قتالي فاشهدوا يا من حضر
وكل هذا في رضا رب البشر
ثم اخترق القوم وحمل عليهم وحمل المسلمون في أثره فأحدقوا بهم من كل مكان، ونظروا إلى ضرار وقد قصده وردان صاحب حمص عندما علم أنه اخترق القوم فمد إليه رمحه وقد أحدقت به بطارقته وضرار يمانع عن نفسه يميناً وشمالاً فما طعن أحداً إلا أباده إلى أن قتل من القوم خلقاً كثيراً، وهو يصرخ بقومه: ويقول "إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص" الصف: 4، قال: وأكبت عليه جيوش الروم من كل جانب ومكان واشتعل الحرب بينهم ووصل همدان بن وردان إلى ضرار بن الأزور ورماه بسهم. فأصاب عضده الأيمن فوصل السهم إليه فأوهنه وأحس ضرار بالألم فحمل على همدان وصمصم عليه برمحه وطعنه. فأصاب بالطعنة فؤاده فوصل السنان إلى ظهره فجذب الرمح منه فلم يخرج، وإذا به قد اشتبك في عظم ظهره فخرج الرمح من غير سنان فطمعوا فيه وحملوا عليه وأخذوه أسيراً،