وقلتُ في مجلس من مجالس الخير : عن حكم الاحتفال بالمولد النبويّ ؛ أنّ ذلك جائز من وجوه :
الأول : أنّ الاحتفال بالمولد الشريف تعبير عن الفرح والسرور بالمصطفى صلّى الله عليه وسلّم , وقد انتفع به الكافر , فقد جاء في البخاري أنّه يخفف عن أبي لهب كلّ يوم اثنين بسبب عتقه لثويبة جاريته لمّا بشّرته بولادة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم .
ويقول في ذلك الحافظ شمس الدّين محمد بن ناصر الدّمشقي :
إذا كان هذا كافراً جاء ذمّه = بتبّت يداه في الجحيم مُخلّدا
أتى أنّه في يوم الاثنين دائماً = يخفّف عنه للسرور بأحمدا
فما الطنّ بالعبد الذي طول عمره = بأحمد مسروراً ومات موحّدا
الثاني : أنّه صلّى الله عليه وسلّم كان يعظّم يوم مولده , ويشكر الله تعالى فيه على نعمته الكبرى عليه , وتفضله عليه بالوجود لهذا الوجود ؛ إذ سُعد به كلّ موجود , وكان يعبّر عن ذلك التعظيم بالصيام , كما جاء في الحديث عن أبي قتادة : أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سُئل عن صوم يوم الاثنين فقال :
" فيه ولدتُ , وفيه أُنزل عليَّ " . رواه الإمام مسلم في الصحيح في كتاب الصيام .
وهذا في معنى الاحتفال به إلا أنّ الصورة مختلفة , ولكنّ المعنى موجود سواء كان ذلك بصيام , أو إطعام , أو اجتماع على ذكر , أو الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم , أو سماع شمائله الشريفة .
الثالث : أنّ الفرح به صلّى الله عليه وسلّم مطلوب بأمر القرآن من قوله تعالى :
{ قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا} ( يونس : 58 ) , فالله تعالى أمرنا أن نفرح بالرحمة , والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم أعظم رحمة ؛ قال تعالى :
{ وما أرسلناكَ إلا رحمة للعالمين } ( الأنبياء : 107 ) .
ويؤيد هذا تفسير حبر الأمة وترجمان القرآن الإمام ابن عبّاس رضي الله عنهما , فقد روى أبو الشيخ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما في الآية قال : ( فضل الله العلم , ورحمته محمّد صلّى الله عليه وسلّم , قال تعالى :
{ وما أرسلناكَ إلا رحمة للعالمين } ( الأنبياء : 107 ) .
فالفرح به صلّى الله عليه وسلّم مطلوب في كلّ وقت , وفي كلّ نعمة , وعند كلّ فضل , ولكنّه يتأكّد في كلّ يوم الاثنين , وفي كلّ عام في شهر ربيع الأول لقوّة المناسبة وملاحظة الوقت , ومعلوم أنّه لا يغفل عن المناسبة ويعرض عنها في وقتها إلا مغفّل أحمق .
الرابع : أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يلاحظ ارتباط الزمان بالحوادث الدينيّة العظمى التي مضت وانقضت , فإذا جاء الزمان الذي وقعت فيه كان فرصة لتذكرها , وتعظيم يومها ؛ لأجله , ولأنّه ظرف لها :
وقد أصّل صلّى الله عليه وسلّم هذه القاعدة بنفسه , كما صحّ في الحديث أنّه صلّى الله عليه وسلّم لمّا وصل المدينة ورأى اليهود يصومون يوم عاشوراء , سأل عن ذلك , فقيل له : إنّهم يصومونه لأنّ الله نجّى نبيّهم وأغرق عدوهم فيه , فهم يصومون شكراً لله على هذه النعمة , فقال صلّى الله عليه وسلّم :
" نحن أولى بموسى منكم ؛ فصامه وأمر بصيامه " .
الخامس : أنّ الاحتفال بالمولد لم يكن في عهده صلّى الله عليه وسلّم , فهو بدعة ؛ ولكنّها حسنة لاندرجها تحت الأدلّة الشرعيّة , والقواعد الكليّة , فهي بدعة باعتبار هيئتها الاجتماعيّة ؛ لا باعتبار أفرادها لوجود أفرادها في العهد النبويّ كما سنعلم ذلك تطبيقاً أن شاء الله تعالى .
السادس : أنّ المولد الشريف يبعث على الصلاة والسلام المطلوبين بقوله تعلى :
{ إنَّ الله وملائكته يصلُّون على النبيّ يا أيها الذين ءامنوا صلُّوا عليه وسلّموا تسليماً } ( الأحزاب : 56 ) , وما كان يبعث على المطلوب شرعاً فهو مطلوب شرعاً , فكم للصلاة عليه من فوائد نبويّة , وإمدادات محمديّة يسجد القلم في محراب البيان عن تعداد آثارها , ومظاهر أنوارها .
السابع : أنّ المولد الشريف يشتمل على ذكر مولده الشريف , ومعجزاته , وسيرته , والتعريف به ؛ أوَلسنا مأمورين بمعرفته , ومطالبين بالاقتداء به , والتأسي بأعماله , والإيمان بمعجزاته , والتصديق بآياته , وكُتب المولد تؤدي هذا المعنى تماماً .
الثامن : التعرض لمكافأته بأداء بعض ما يجب له علينا ببيان أوصافه الكاملة , وأخلاقه الفاضلة , وقد كان الشعراء يتقرّبون إليه صلّى الله عليه وسلّم بالقصائد , ويرضى عملهم , ويجزيهم على ذلك بالطيّبات والصلات , فإذا كان يرضى عمّن مدحه فكيف لا يرضى عمّن جمع شمائله الشريفة ؟ ففي ذلك التقرّب له عليه الصلاة والسلام باستجلاب محبّته ورضاه .
ا
لتاسع : أنّ معرفة شمائله ومعجزاته وإرهاصاته تستدعي كمال الإيمان به عليه الصلاة والسلام , وزيادة المحبّة إذ الإنسان مطبوع على حبِّ الجميل ؛ خَلْقَاً وخُلقاً , عِلماً وعَملاً , حالاً واعتقاداً , ولا أجمل ولا أكمل ولا أفضل من أخلاقه وشمائله صلّى الله عليه وسلّم , وزيادة المحبّة وكمال الإيمان مطلوبان شرعاً , فما كان يستدعيهما مطلوب كذلك .
العاشر : أنّ تعظيمه صلّى الله عليه وسلّم مشروع , والفرح بيوم ميلاده الشريف بإظهار السرور , ووضع الولائم , والاجتماع للذكر , وإكرام الفقراء من أظهر مظاهر التعظيم والابتهاج والفرح والشكر لله ؛ بما هدانا لدينه القويم , وما منَّ به علينا من بعثه عليه أفضل الصلاة والسلام .
الحادي عشر : يؤخذ من قوله صلّى الله عليه وسلّم في فضل يوم الجمعة , وعدَّ مزاياه ؛
" وفيه خلق آدم " تشريف الزمان الذي ثبت أنّه ميلاد لأيّ نبيّ كان من الأنبياء عليهم السلام , فكيف باليوم الذي ولد فيه أفضل النبيّين وأشرف المرسلين .
ولا يختص هذا التعظيم بذلك اليوم بعينه , بل يكون له خصوصاً ولنوعه عموماً مهما تكرر , كما هو الحال في يوم الجمعة , شكراً للنعمة , وإظهاراً لمزيّة النبوّة , وإحياء للحوادث التاريخيّة الخطيرة ذات الإصلاح المهم في تاريخ الإنسانيّة وجبهة الدهر , وصحيفة الخلو , كما يؤخذ تعظيم المكان الذي ولد فيه نبيّ من أمر جبريل عليه السلام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بصلاة ركعتين ببيت لحم , ثمّ قال له : أتدري أين صلّيتَ ؟ قال : لا , قال : صلّيتَ ببيت لحم حيث ولد عيسى .
الثاني عشر : أنّ المولد أمر استحسنه العلماء والمسلمون في جميع البلاد , وما جرى به العمل في كلّ صقع فهو مطلوب شرعاً للقاعدة المأخوذة من حديث ابن مسعود الموقوف : ( ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن , وما رآه المسلمون قبيحاً فهو عند الله قبيح ) أخرجه أحمد .
الثالث عشر : أنّ المولد اجتماع ذكر وصدقة , ومدح وتعظيم للجناب النبويّ فهو سنّة , وهذه أمور مطلوبة شرعاً , وممدوحة , وجاءت الآثار الصحيحة بها , وبالحثّ عليها .
الرابع عشر : أنّ الله تعالى قال :
{ وكلّاً نقصّ عليكَ من أنباء الرسل ما نثبّتُ به فؤادك } ( هود : 120) ؛ يظهر منه أنّ الحكمة في قصص أنباء الرسل عليهم السلام تثبّتُ الفؤاد الشريف بذلك , ولا شكّ أنّنا اليوم محتاجون إلى تثبيت أفئدتنا بأنبائه وأخباره أشدّ من احتياجه هو صلّى الله عليه وسلّم .
الخامس عشر : ليس كلّ ما لم يفعله السّلف , ولم يكن في الصدر الأوّل بدعة منكرة سيّئة يحرم فعلها ويجب الإنكار عليها , بل يجب أن يعرض ما أحدث على أدلّة الشرع , فما اشتمل على مصلحة فهو واجب , أو على محرّم فهو محرّم , أو على مكروه فهو مكروه , أو على مباح فهو مباح , أو على مندوب فهو مندوب , وللوسائل حكم المقاصد , ثمّ قسّم العلماء البدعة إلى خمسة أقسام :
واجبة : كالرّد على أهل الزيغ , وتعلّم النحو .
ومندوبة : كإحداث الرُّبط والمدارس , والأذان على المنائر , وصنع إحسان لم يعهد في الصدر الأوّل .
ومكروهة : كزخرفة المساجد , وتزويق المصاحف .
ومباحة : كاستعمال المنخل , والتوسّع في المأكل والمشرب .
ومحرّمة : وهي ما أحدث لمخالفة السنّة , ولم تشمله أدلّة الشرع العامّة , ولم يحتوِ على مصلحة شرعيّة .
السادس عشر : كلّ ما لم يكن في الصدر الأوّل بهيئته الاجتماعيّة , لكنّ أفراده موجودة ؛ يكون مطلوباً شرعاً , لأنّ ما تركّب من المشروع فهو مشروع كما لا يخفى .
السابع عشر : ليست كلّ بدعة محرّمة , ولو كانت كذلك لحرّم جمع أبي بكر وعمر وزيد رضي الله عنهم القرآن , وكتابته في المصاحف خوفاً على ضياعه بموت الصحابة القرّاء رضي الله عنهم , ولحرم جمع عمر رضي الله عنه النّاس على إمام واحد في صلاة القيام مع قوله : ( نعمت البدعة هذه ) , ولحرم التصنيف في جميع العلوم النافعة , ولوجب علينا حرب الكفّار بالسهام والأقواس مع حربهم لنا بالرصاص والمدافع والدّبابات والطائرات والغوّاصات والأساطيل , ولحرم الأذان على المنائر واتخاذ الرُّبط والمدارس والمستشفيات والإسعاف , ودار اليتامى , والسجون , ومن ثمَّ قيد العلماء رضي الله عنهم حديث : " كلّ بدعة ضلالة " بالبدعة السيّئة , ويصرح بهذا القيد ما وقع من أكابر الصحابة والتابعين من المحدثات التي لم تكن في زمنه صلّى الله عليه وسلّم .
الثامن عشر : قال الإمام الشّافعي رضي الله عنه : ( ما أحدث وخالف كتاباً أو سنّة أو إجماعاً أو أثراً فهو البدعة الضّالة , وما أحدث من الخير ولم يخالف شيئاً من ذلك فهو المحمودة ) .
وجرى الإمام العزُّ بن عبد السلام والنووي كذلك , وابن الأثير على تقسيم البدعة إلى ما أشرنا إليه سابقاً .
التاسع عشر : كلّ ما تشمله الأدلّة الشرعيّة , ولم يقصد بإحداثه مخالفة للشريعة , ولم يشتمل على منكر فهو من الدّين .
وقول المتعصّب : إنّ هذا لم يفعله السّلف ليس دليلاً له , بل هو عدم دليل , كما لا يخفى على من مارس علم الأصول , فقد سمّى الشارع بدعة الهدى سُنَّة , ووعد فاعلها أجراً فقال عليه الصلاة والسلام :
" من سنَّ في الإسلام سُنَّة حسنة فَعُمِلَ بها بعده كُتب له مثل أجر من عمل بها , ولا يُنقَص من أجورهم شيء " .
العشرون : إنّ الاحتفال بالمولد إحياءٌ لذكرى المصطفى صلّى الله عليه وسلّم , وذلك مشروع عندنا في الإسلام , فأنتَ ترى أنّ أكثر أعمال الحجّ إنّما هي إحياء لذكريات مشهودة , ومواقف محمودة , فالسعي بين الصفا والمروة , ورمي الجمار والذبح بمنى , كلّها حوادث ماضية سابقة , يحيي المسلمون ذكراها بتجديد صورتها في الواقع .
الحادي والعشرون : كلّ ما ذكرنا سابقاً من الوجوه في مشروعيّة المولد إنّما هو في المولد الذي خلا من المنكرات المذمومة التي يجب الإنكار عليها , أمّا إذا اشتمل المولد على شيء ممّا يجب الإنكار عليه كاختلاط الرّجال بالنّساء , وارتكاب المحرّمات , وكثرة الإسراف ممّا لا يرضى به صاحب المولد الشريف صلّى الله عليه وسلّم فهذا لا شكَّ في تحريمه ومنعه لما اشتمل عليه من المحرّمات , لكنّ تحريمه حينئذ يكون أمراً عرضياً لا ذاتيّاً كما لا يخفى على من تأمّل ذلك .