إشارات الإعجاز - ص: 46
وانظر الاشارة في (ذلك) المختصة بالرجوع الى الذات مع الصفات لتعلم انها كما تفيد التعظيم - لانها اما اشارة الى المشار اليه بـ "الــم" او المبشّر به في التوراة والانجيل - كذلك تلوّح بدليلها؛ اذ ما أعظم ما أقسم به! وما أكمل ما بشَّر به التوراة والانجيل!.. ثم أمعن النظر في الاشارة الحسية الى الأمر المعقول لترى انها كما تفيد التعظيم والاهمية؛ كذلك تشير الى ان القرآن كالمغناطيس المنجذب اليه الأذهانُ، والمتزاحم عليه الأنظارُ المجْبِر لخيالِ كلٍ على الاشتغال به. فتظاهر بدرجة - تراه العيون من خلفها اذا راجعت الخيال - يرمز بلسان الحال الى وثوقه بصدقه وتبرّيه عن الضعف والحيلة الداعيين الى التستر.. ثم تفكّر في البُعدية المستفادة من "ذلك"؛ اذ انها كما تفيد علوّ الرتبة المفيد لكماله؛ كذلك تومئ الى دليله بأنه بعيد عن ما سلك عليه أمثاله. فإما تحت كلٍ وهو باطل بالاتفاق، فهو فوق الكل.
ثم تدبر في "ال" (الكتاب)؛ لانها كما تفيد الحصر العرفي المفيد للكمال؛ تفتح باب الموازنة وتلمِّح بها الى ان القرآن كما جمع محاسن الكتب قد زاد عليها فهو أكملها..
ثم قف على التعبير بـ "الكتاب" كيف يلوّح بأن الكتاب لايكون من مصنوع الامّيّّ الذي ليس من أهل القراءة والكتابة.
أما (لاريب فيه) ففيه وجهان:
إرجاع الضمير إلى الحكم، أو إلى الكتاب:
فعلى الاول -كما عليه المفتاح 1 - يكون بمعنى يقيناً، وبلا شك، فيكون جهة وتحقيقا لاثبات كماله.
وعلى الثاني - كما عليه الكشاف 2 - يكون تأكيداً لثبوت كماله.
وعلى الكل يناجي من تحت "لاريب" بـ (وان كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله) ويرمز الى دليله الخاص..
_____________________
1 (مفتاح العلوم) للعلامة سراج الدين ابى يعقوب يوسف بن ابى بكربن محمد بن علي السكاكى المتوفى سنة 626هـ. ويعدّ كتابه هذا اوسع ما كتب في البيان في زمانه، وله شروح كثيرة.
2 (الكشاف عن حقائق التنزيل) للامام العلامة ابى القاسم جارالله محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي المتوفي سنة 538هـ.
إشارات الإعجاز - ص: 47
والاستغراق في "لا" بسبب اعدام الريوب الموجودة ينشد:
وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلاً صَحِيحاً وَافَتُهُ مِنَ الْفَهْمِ السَّقِيمِ 1
ويشير الى ان المحل ليس بقابلٍ لتولّد الشكوك؛ اذ أقام على الثغور امارات تتنادى من الجوانب وتطرد الريوب المتهاجمة عليه.
وفي ظرفية (فيه) والتعبير بـ "في" بدل أخواتها اشارة الى انفاذ النظر في الباطن. والى ان حقائقه تطرد وتطيّر الأوهامَ المتوضعة على سطحه بالنظر الظاهر.
فيا من آنس قيمة التركيب من جانب التحليل، وأدرك فرق الكلّ عن كلٍ! انظر نظرة واحدة الى تلك القيود والهيئات لترى كيف يلقي كلٌ حصته الى المقصد المشترك مع دليله الخاص، وكيف يفور نورُ البلاغة من الجوانب.
اعلم! انه لم يربط بين جمل "الــم.. ذلك الكتاب.. لاريب فيه.. هدى للمتقين" بحلقات العطف لشدة الاتصال والتعانق بينها، وأخذِ كلٍ بحجز سابقتها وذيل لاحقتها. فان كل واحدة كما انها دليلٌ لكلٍ بجهة؛ كذلك نتيجة لكلِ واحدة بجهة اخرى. ولقد انتقش الاعجاز على هذه الآية بنسج اثني عشر من خطوط المناسبات المتشابكة المتداخلة..
ان شئت التفصيل تأمل في هذا:
(الــم) فانها تومئ بالمآل الى: "هذا متحدًّى به، ومن يبرز الى الميدان؟" ثم تلوح بأنه معجز..
وتفكر في (ذلك الكتاب) فانها تصرح بأنه ازداد على أخوته وطمَّ عليها. ثم تلمح بأنه مستثنى ممتاز لايماثل..
ثم تدبر في (لاريب فيه) فانها كما تُفصح عن انه ليس محلا للشك تعلن بأنه منوّر بنور اليقين..
ثم انظر في (هدى للمتقين) اذ انها كما تهدى اليك انه يُري الطريق المستقيم؛ تفيدك انه قد تجسم من نور الهداية.
فكل منها باعتبار المعنى الأول برهان لرفقائها وباعتبار المعنى الثاني نتيجة لكل منها.
_____________________
1 للمتنبي في ديوانه 4/246
إشارات الإعجاز - ص: 48
ونذكر على وجه المثال ثلاثا من الروابط الثنتي عشرة لتقيس عليها البواقي:
فـ (الـم) أي: هذا يتحدّى كل معارض، فهو أكمل الكتب، فهو يقيني؛ اذ كمال الكتاب باليقين، فهو مجسَّم الهداية للبشر..
ثم (ذلك الكتاب) اي: هو ازداد على أمثاله فهو معجز - او - اي: هو ممتاز ومستثنى؛ إذ لاشك فيه؛ اذ إنه يُري السبيل السويّ للمتقين..
ثم (هدى للمتقين) اي: يرشد الى الطريق المستقيم، فهو يقيني، فهو ممتاز، فهو معجز.. وعليك باستنباط البواقي.
أما (هدى للمتقين) فاعلم! ان منبع حسن هذا الكلام من أربع نقط:
الاولى: حذف المبتدأ، اذ فيه اشارة الى ان حكم الاتحاد مسلَّم. كأن ذات المبتدأ في نفس الخبر. حتى كأنه لاتغاير بينهما في الذهن أيضا.
والثانية: تبديل اسم الفاعل بالمصدر، اذ فيه رمز الى ان نور الهداية تجسَّمَ فصار نفس جوهر القرآن؛ كما يتجسم لونُ الحمرة فيصير قرْمِزاً. 1
والثالثة: تنكير (هدى) اذ فيه إيماء الى نهاية دقة هداية القرآن حتى لايُكْتنه كُنْهها، والى غاية وسعتها حتى لايُحاط بها علماً. اذ المنكورية إما بالدقة والخفاء، وإما بالوسعة الفائتة عن الاحاطة. ومن هنا قد يكون التنكير للتحقير وقد يكون للتعظيم.
والرابعة: الايجاز في (للمتقين) بدل "الناس الذين يصيرون متقين به" أوجز بالمجاز الاول اشارة الى ثمرة الهداية وتأثيرها، ورمزاً الى البرهان "الإِنِّيّ" 2 على وجود الهداية. فان السامع في عصر يستدل بسابقه كما يستدل به لاحقه.
ان قلت: كيف تتولد البلاغة الخارجة عن طوق البشر بسبب هذه النقط القليلة المعدودة؟
_____________________
1 قرمز: بالكسر، صبغ ارمنى يكون من عصارة دود.
2 البرهان الانيّ واللّمي: اصطلاحان يرد شرحهما، فالانّي - بتشديد النون - مصدر صناعي مأخوذ من "ان " المشبهة بالفعل التى تدل على الثبوت والوجود. اما اللمّي، فهو مصدر صناعي مأخوذ من كلمة "لِمَ " للعلية. وفي (التعريفات): الاستدلال من العلة الى المعلوم برهان لمّي ومن المعلوم الى العلّة برهان إنّي.
إشارات الإعجاز - ص: 49
قيل لك: ان في التعاون والاجتماع سراً عجيباً. لأنه اذا اجتمع حسنُ ثلاثة اشياء صار كخمسة، وخمسة كعشرة، وعشرة كأربعين بسر الانعكاس. اذ في كل شئ نوع من الانعكاس ودرجة من التمثيل. كما اذا جمعت بين مرآتين تتراءى فيهما مرايا كثيرة، أو نوَّرتَهما بالمصباح يزداد ضياء كل بانعكاس الأشعة؛ فكذلك اجتماع النكت والنقط. ومن هذا السر والحكمة ترى كل صاحب كمال وصاحب جمال يرى من نفسه ميلاً فطرياً الى ان ينضم الى مثيله ويأخذ بيد نظيره ليزداد حسناً الى حسنه. حتى ان الحجر مع حَجَريته اذا خرج من يد المعقِّد الباني في السقف المحدب يميل ويُخضع رأسَه ليماسّ رأس أخيه ليتماسكا عن السقوط. فالانسان الذي لايدرك سر التعاون لهو أجمد من الحجر؛ اذ من الحجر من يتقوس لمعاونة اخيه!.
ان قلت: من شأن الهداية والبلاغة البيان والوضوح وحفظ الاذهان عن التشتت، فما بال المفسرين في امثال هذه الآية اختلفوا اختلافاً مشتتاً، واظهروا احتمالات مختلفة، وبينوا وجوه تراكيب متباينة، وكيف يعرف الحق من بينها؟
قيل لك: قد يكون الكل حقاً بالنسبة الى سامعٍ فسامعٍ؛ اذ القرآن ما نزل لأهل عصرٍ فقط بل لأهل جميع الأعصار، ولا لطبقة فقط بل لجميع طبقات الانسان، ولا لصنف فقط بل لجميع أصناف البشر. ولكلٍ فيه حصة ونصيب من الفهم. والحال أن فهم نوع البشر يختلف درجة درجة.. وذوقَه يتفاوت جهة جهة.. وميلَه يتشتت جانباً جانباً.. واستحسانه يتفرق وجهاًً وجهاً.. ولذته تتنوع نوعاً نوعاً.. وطبيعته تتباين قسما قسما. فكم من أشياء يستحسنها نظرُ طائفة دون طائفة، وتستلذها طبقة ولا تتنزل اليها طبقة. وقس!..
فلأجل هذا السر والحكمة أكْثَرَ القرآنُ من حذف الخاص للتعميم ليقدِّر كلٌ مقتضى ذوقه واستحسانه. ولقد نظم القرآن جُمَله ووضعها في مكان ينفتح من جهاته وجوه محتملة لمراعاة الافهام المختلفة ليأخذ كلُ فهمٍ حصته. وقس!.. فإذاً يجوز أن يكون الوجوه بتمامها مرادة بشرط أن لا تردها علوم العربية، وبشرط ان تستحسنها البلاغة، وبشرط ان يقبلها علم أصول مقاصد الشريعة.
فظهر من هذه النكتة ان من وجوه اعجاز القرآن نظمه وسبكه في اسلوب ينطبق على افهام عصر فعصر.. وطبقة فطبقة.
***
إشارات الإعجاز - ص: 50
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغِيْبِ ويُقِيمُونَ الصَّلوةَ ومِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ 3
(اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)
اعلم! أن وجه نظم المحصل مع المحصل انصباب مدح القرآن الى مدح المؤمنين وانسجامه به؛ اذ انه نتيجة له، وبرهان إنّيّ عليه، وثمرة هدايته، وشاهد عليه. وبسبب تضمن التشويق اشارة الى جهة حصة هذه الآية من الهداية، والى انها مثال لها.
اما وجه "الذين" مع "المتقين" فتشييع التخلية بالتحلية التي هي رفيقتها أبداً؛ اذ التزيين بعد التنزيه، ألا ترى ان التقوى هي التخلي عن السيئات وقد ذكرها القرآن بمراتبها الثلاث، وهي: ترك الشرك، ثم ترك المعاصي، ثم ترك ماسوى الله. والتحلية فعل الحسنات: إما بالقلب او القالب او المال. فشمس الاعمال القلبية "الايمان"، والفهرستة الجامعة للاعمال القالبية "الصلاة" التي هي عماد الدين، وقطب الاعمال المالية "الزكاة" اذ هي قنطرة الاسلام.
اعلم! ان (الذين يؤمنون بالغيب) مع انه اذا نظرت الى مقتضى الحال ايجاز، الا انه اذا وازنت بينه وبين مرادفه وهو "المؤمنون" تظنه إطنابا؛ فأبدل "ال" بـ"الذين" الذي من شأنه الاشارة الى الذات بالصلة فقط 1، كأنه لاصفة له الا هي للتشويق على الايمان، والتعظيم له؛ والرمز الى ان الايمان هو المنار على الذات قد تضاءلت تحته سائر الصفات.. وأبدل "مؤمنون" بـ "يؤمنون" لتصوير وإظهارِ تلك الحالة المستحسنة في نظر الخيال، وللاشارة الى تجدده بالاستمرار وتجلّيه بترادف الدلائل الآفاقية والأنفسية، فكلما ازدادت ظهوراً ازدادوا إيمانا.
(بالغيب) أي بالقلب، اي بالاخلاص بلا نفاق. ومع الغائبية.. وبالغائب.. وبعالم الغيب..
_____________________
1 لأن "الذين" من الاسماء المبهمة، لذا فان صلته هى التى تميّزه وتعينه (ت: 43)
إشارات الإعجاز - ص: 51
واعلم! ان الايمان هو النور الحاصل بالتصديق بجميع ما جاء به النبي عليه السلام تفصيلا في ضروريات الدين واجمالا في غيرها.
ان قلت: لايقتدر على التعبير عن حقائق الايمان من العوام من المائة الا واحد؟
قيل لك: ان عدم التعبير ليس عَلَماً على عدم الوجود. فكما ان اللسان كثيراً ما يتقاصر عن ان يترجم عن دقائق مافي تصورات العقل؛ كذلك قد لايتراءى بل يتغامض عن العقل سرائر مافي الوجدان، فكيف يترجم عن كل مافيه؟ ألا ترى ذكاء السكاكي 1 ذلك الامام الداهي قد تقاصر عن اجتناء دقائق ماأبرزته سجية امرئ القيس 2، او بدويّ آخر؟ فبناء على ذلك، الاستدلال على وجود الايمان في العامي يثبت بالاستفسار والاستيضاح منه. بأن تستفسر من العاميّ بالسؤال المردّد بين النفي والاثبات هكذا: أيها العامي! أيمكن في عقلك أن يكون الصانع الذي كان العالم بجهاته الست في قبضة تصرفه أن يتمكّن 3 في جهة من جهاته أو لا؟ فإن قال: لا. فنفي الجهة ثابتٌ في وجدانه، وذلك كافٍ. وقس على هذا..
ثم ان الايمان - كما فسّره السعد 4 - نور يقذفه الله تعالى في قلب من يشاء من عباده، أي بعد صرف الجزء الاختياري. فالايمان نور لوجدان البشر وشعاع من شمس الازل يضئ دفعةً ملكوتيةَ الوجدان بتمامها. فينشر اُنسية له مع كل الكائنات.. ويؤسس مناسبة بين الوجدان وبين كل شئ.. ويلقي في القلب قوة معنوية يقتدر بها الانسان ان يصارع جميع الحوادث والمصيبات.. ويعطيه وُسْعةً
_____________________
1 ابو يعقوب يوسف بن ابي بكر (ت 626هـ/ 1228م) من اعلام البلاغة، مؤلف كتاب «المفتاح» الذي يعد أوسع ما كتب في البيان في زمانه وله شروح كثيرة. وضع علوم البلاغة في قالبها العلمي. مولده ووفاته بخوارزم .
2 (497 - 545م) هو امرؤ القيس بن حُجر بن الحارث الكندي، اشهر شعراء العرب على الاطلاق، يماني الاصل، مولده بنجد ووفاته في انقرة، وقد جُمع بعض ما ينسب اليه من الشعر في ديوان صغير. (الاعلام 2/12).
3 يتحيز في مكان.
4 هــو مسـعـود بــن عمر بن عـبـد الله، ولد بتفـتـازان بخراسان فـي 712 (أو 727هــ) وتـوفي في سـمرقـنـد 793هــ.. إمام في العربية والمنطق والفقه،، سعى لإحياء العلوم الاسلامية بعد كسوفها بغزو المغول فألف كثيراً من امهات الكتب. حتى انه يعد الحد الفاصل بين العلماء المتأخرين والمتقدمين. من كتبه (تهذيب المنطق) و(شرح المقاصد) و (شرح العقائد النسفية) و (المطول).. وكتابه (التلويح في كشف حقائق التنقيح) في الاصول شرح فيه كتاب (التوضيح في حل غوامض التنقيخ) للعلامة عبيد الله ابن مسعود المحبوبي (ت747هـ)
إشارات الإعجاز - ص: 52
يقتدر بها ان يبتلع الماضي والمستقبل. وكما ان الايمان شعاع من شمس الأزل 1؛ كذلك لمعة من السعادة الابدية أي الحشر. فينمو بضياء تلك اللمعة بذور كل الآمال، ونواة كل الاستعدادات المودعة في الوجدان، فتنبت ممتدة الى الابد، فتنقلب نواة الاستعداد كشجرة طوبى.
(وَيُقِيمُونَ الصَّلوةَ)
اعلم! ان وجه النظم أظهر من الشمس في رابعة النهار. وان في تخصيص "الصلاة" من بين حسنات القالب إشارة الى أنها فهرستة كل الحسنات وانموذجها ومَعْكسها. كالفاتحة للقرآن، والانسان للعالم. لاشتمالها على نوع صومٍ وحج وزكاة وغيرها، ولاشتمالها على انواع عبادات المخلوقات، الفطرية والاختيارية من الملائكة الراكعين الساجدين القائمين، ومن الحجر الساجد، والشجر القائم، والحيوان الراكع..
ثم انه أقام "يقيمون" مقام "المقيمين" لإحضار تلك الحركة الحياتية الواسعة والانتباه الروحاني الإلهي في العالم الاسلامي الى نظر السامع. ووضع تلك الوضعية المستحسنة والحالة المنتظمة من نواحي نوع البشر نصب عين الخيال، ليهيج ويوقظ ميلان السامع للتأسِّي؛ إذ من تأمل في تأثير النداء بالآلة المعروفة 2 في نفرات العسكر المنتشرين المغمورين بين الناس وتحريك النداء لهم دفعة، والقاء انتباه فيهم، وافراغهم في وضع مستحسن، وجمعهم تحت نظام مستملح يرى في نفسه اشتياقا لأن ينساب اليهم. فهكذا الاذان المحمَّدي بين الانسان في صحراء العالم (ولله المَثَلُ الاعْلَى)..
وإنما لم يقتصر في مسافة الايجاز على "يصلّون" بل اتمها بـ (يقيمون الصلاة) للاشارة الى اهمية مراعاة معاني "الاقامة" في الصلاة من تعديل الاركان، والمداومة، والمحافظة، والجد، وترويجها في سوق العالم. تأمل!
ثم ان الصلاة نسبة عالية، ومناسبة غالية، وخدمة نزيهة بين العبد وسلطان الازل، فمن شأن تلك النسبة ان يعشقها كل روح.. وأركانها متضمنة للأسرار التي شرحها
_____________________
1 تعبير مألوف بحق الله جلّ جلاله المنور لكل شئ في الادب التركى والفارسى بخلاف الادب العربى.
2 البوق العسكرى.
إشارات الإعجاز - ص: 53
أمثال "الفتوحات المكية"، فمن شأن تلك الأسرار أن يحبها كل وجدان.. وانها دعوة صانع الازل الى سرادق حضوره خمس دعوات في اليوم والليلة لمناجاته التي هي في حكم المعراج. فمن شأنها ان يشتاقها كل قلب.. وفيها ادامة تصور عظمة الصانع في القلوب وتوجيه العقول اليها لتأسيس اطاعة قانون العدالة الالهية، وامتثال النظام الرباني. والانسان يحتاج الى تلك الادامة من حيث هو إنسان لانه مدنيّ بالطبع.. فيا ويلَ من تركها! وياخسارة من تكاسل فيها! وياجهالة من لم يعرف قيمتها! فسحقاً وبعداً وافّاً وتفًّاً 1 لنفسِ مَن لم يستحسنها.
(وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ).
وجه النظم: انه كما ان الصلاة عماد الدين وبها قوامه؛ كذلك الزكاة قنطرة الاسلام وبها التعاون بين أهله.
ثم ان من شروط ان تقع الصدقة موقعها اللائق:
ان لايسرف المتصدق فيقعد ملوماً.. وان لايأخذ من هذا ويعطي لذاك؛ بل من مال نفسه.. وان لايمنّ فيستكثر.. وان لايخاف من الفقر.. وان لايقتصر على المال، بل بالعلم والفكر والفعل أيضا.. وان لايصرف الآخذ في السفاهة، بل في النفقة والحاجة الضرورية.
فلإِحسان هذه النكت، واحساس هذه الشروط تصدَّق القرآن على الأفهام بإيثار (ومما رزقناهم ينفقون) على "يتصدقون" او "يزكّون" وغيرهما؛ إذ أشار بـ "من" التبعيض الى رد الاسراف.. وبتقديم (مما) الى كونه من مال نفسه.. وبـ"رزقنا" الى قطع المنة. أي: ان الله هو المعطي وانت واسطة.. وبالاسناد الى "نا" الى: (لاَتَخَفْ مِنْ ذِي الْعَرْشِ اِقْلاَلاً) 2.. وبالاطلاق الى تعميم التصدق للعلم والفكر
_____________________
1 الاف والتف: وسخ الاذن والاظفار، ثم استعملا عند كل شئ يُضجر منه (الزاهر للانباري).
2 اصل الحديث: عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه، قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم على بلال وعنده صُبرة من تمر، فقال: "ما هذا يا بلال؟ " قال: اُعدُّ ذلك لأضيافك. قال: "أما تخشى ان يكون لك دُخان في نار جهنم؟! انفق بلال! ولا تخشَ من ذي العرش اقلالاً ".
قال المنذري في الترغيب والترهيب: رواه البزار باسناد حسن والطبراني في الكبير وذكر فيه زيادة. والحديث اورده الهيثمي في المجمع وقال: اسناده حسن، وحسّنه الحافظ ابن حجر. والحديث صحيح بطرقه (صحيح الجامع الصغير رقم 1508 وصحيح الترغيب برقم 912، والمشكاة برقم 1885) ومع هذا ضعفه العراقي رحمه الله تعالى.
إشارات الإعجاز - ص: 54
وغيرهما. وبمادة (ينفقون) الى شرط صرف الآخذ في النفقة والحاجات الضرورية.
ثم ان في الحديث الصحيح (الزَّكاةُ قَنْطَرَةُ الاِسْلاَمِ) 1 أي: الزكاة جسر يغيث المسلمُ أخاه المسلم بالعبور عليها؛ اذ هي الواسطة للتعاون المأمور به، بل هي الصراط في نظام الهيئة الاجتماعية لنوع البشر، وهي الرابطة لجريان مادة الحياة بينهم، بل هي الترياق للسموم الواقعة في ترقيات البشر.
نعم! في "وجوب الزكاة" و"حرمة الربا" حكمة عظيمة، ومصلحة عالية، ورحمة واسعة؛ اذ لو أمعنت النظر في صحيفة العالم نظراً تاريخياً وتأملت في مساوي جمعية البشر لرأيت اسّ أساس جميع اختلالاتها وفسادها، ومنبع كل الاخلاق الرذيلة في الهيئة الاجتماعية كلمتين فقط:
إحداهما: "اِنْ شَبِعْتُ فلا عليَّ اَن يموتَ غيرِي من الجُوعِ".
والثـانيـــة: "اِكْتَسِبْ اَنْتَ لآكُلَ اَنَا. واتْعَبْ انتَ لأَستريحَ اَنَا".
فالكلمة الاولى الغدارة النَهِمَة الشنعاء هي التي زلزلت العالم الانسانيَّ فاشرف على الخراب. والقاطعُ لعرق تلك الكلمة ليس الاّ "الزكاة".
والكلمة الثانية الظالمة الحريصة الشوهاء هي التي هارت بترقِّيات البشر فأوشك أن تنهار بها في نار الهَرْج والمَرْج. والمستأصِلُ والدواء لتلك الكلمة ليس إلاّ "حرمة الربا". فتأمل!..
اعلم! ان شرط انتظام الهيئة الاجتماعية ان لا تتجافى طبقات الانسان، وان لاتتباعد طبقةُ الخواص عن طبقة العوام، والأغنياء عن الفقراء بدرجة ينقطع خيط الصلة بينهم. مع ان باهمال وجوب الزكاة وحرمة الربا انفرجت المسافة بين الطبقات، وتباعدت طبقات الخواص عن العوام بدرجة لا صلة بينهما، ولا يفور من الطبقة
_____________________
1 اورده الهيثمي في المجمع (3/62) وقال: رواه الطبراني في الكبير والاوسط ورجاله موثقون إلاّ بقية مدلس وهو ثقة، واورده المنذري في الترغيب والترهيب (1/517) وقال: رواه الطبراني... وفيه ابن لهيعة، والبيهقي وفيه بقية بن الوليد. والحديث ضعفه محقق الجامع الصغير برقم 3191 في ضعيف الجامع الصغير.
إشارات الإعجاز - ص: 55
السفلى الى العليا إلاّ صدى الاختلال، وصياح الحسد، وأنين الحقد والنفرة بدلا عن الاحترام و الاطاعة والتحبب، ولا يفيض من العليا على السفلى بدل المرحمة والاحسان والتلطيف إلاّ نار الظلم والتحكم، ورعد التحقير. فأسفاً!.. لأجل هذا قد صارت "مزيةُ الخواص" التي هي سبب التواضع والترحم سبباً للتكبّر والغرور. وصار "عجزُ الفقراء" و"فقرُ العوام" اللذان هما سببا المرحمة عليهم والاحسان اليهم سبباً لأسارتهم وسفالتهم.. وانشئت شاهداً فعليك بفسادِ ورذالةِ حالة العالم المدنيّ، فلك فيه شواهد كثيرة. ولا ملجأ للمصالحة بين الطبقات والتقريب بينها الاّ جعل الزكاة - التي هي ركن من اركان الاسلامية - دستوراً عالياً واسعاً في تدوير الهيئة الاجتماعية.
***