أنت غير مسجل في منتدى الإحسان . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك           

رسائل ووصايا في التزكية كلّ ما يختص بعلوم السلوك وآداب القوم وتزكية النفس والتصوف الإسلامي

إضافة رد
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع
قديم 02-03-2011
  #21
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 15
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: المكتوبات

الاشارة البليغة السابعة

نشير الى بضع امثلة من المعجزات النبوية التي تخص بركة الطعام وثبتت بروايات صحيحة قاطعة وبالتواتر المعنوي. ونرى من الأنسب ان نقدّم بين يديها مقدمة.

المـقدمة

ان الامثلة التي سترد حول معجزة بركة الطعام كل منها قد روي بطرق متعددة، بل ان قسماً منها روي بستة عشر طريقاً، وقد وقع معظم هذه الامثلة امام جماعة غفيرة من الصحابة الكرام المنزّهين عن الكذب والذين لهم المنزلة الرفيعة في الصدق والامانة.

مثال للتوضيح:

يروي احدهم انه: اكل سبعون رجلاً من صاعٍ(1) وشبعوا جميعاً. فالرجال السبعون يسمعون هذه الرواية التي يحكيها احدهم، ثم لا يخالفونه ولا ينكرون عليه، اي أنهم يصدّقونه بسكوتهم.

فالصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم اجمعين كانوا في ذروة الصدق والحق حيث انهم عاشوا في خير القرون وهم محفوظون من الاغضاء على الباطل، فلو كان يرى احدهم شيئاً ولو يسيراً من الكذب في اي كلام كان لما وسعه السكوت عليه قطعاً، بل كان يردّه حتماً.

لذا فالروايات التي نذكرها فضلاً عن انها رويت بطرق متعددة فقد سكت عنها الآخرون تصديقاً بها، اي كأن الجماعة قد رووها فالساكت منهم كالناطق بها فهي اذن تفيد القطعية كالمتواتر المعنوي.

ويشهد التأريخ ـ والسيرة خاصة ـ أن الصحابة الكرام قد وقفوا أنفسهم بعد حفظ القرآن الكريم لحفظ الحديث الشريف، أي حفظ احواله e وافعاله واقواله، سواء منها المتعلقة بالاحكام الشرعية أم بالمعجزات، ولم يهملوا ـ جزاهم الله خيراً ـ اية حركة مهما كانت صغيرة من سيرته المباركة، بل اعتنوا بها وبروايتها، ودوّنوها في مدوّنات لديهم، ولا سيما العبادلة السبعة وبخاصة ترجمـان القرآن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وهكذا حُفظت الاحاديث في عهد الصحابة الكرام حتى جاء كبار التابعين بعد ثلاثين أو أربعين سنة فتسلّموها غضةً طريةً منهم وحفظوها بكل امانة واخلاص، فكتبوها ونقلها عنهم بعد ذلك الائمة المجتهدون وألوف المحققين والمحدّثين وحفظوها بالكتابة والتدوين، ثم تسلّمها ـ بعد مضي مائتي سنة من الهجرة ـ اصحاب الكتب الستة الصحيحة المعروفة وفي مقدمتهم البخاري ومسلم، ثم جاء دور النقّاد واهل الجرح والتعديل، وبرز منهم متشددون ـ امثال ابن الجوزي ـ فميّزوا الاحاديث الموضوعة التي دسّها بعض الملاحدة وجهلة الناس على الاحاديث الصحيحة. ثم اعقبهم علماء أفاضل ذوو تقوى وورع امثال جلال الدين السيوطي وهو العلاّمة الامام الذي تشرف بمحاورة الرسول e فتمثل له في اليقظة سبعين مرة ــ كما يصدّقه أهل الكشف من الاولياء الصالحين ـ فميّزوا جواهر الاحاديث الصحيحة من سائر الكلام والموضوعات.

وهكذا ترى ان الاحاديث ـ والمعجزات التي سنبحث عنها ــ قد انتقلت الينا سليمة صحيحة بعد ان تسلّمها مالا يعد ولا يحصى من الأيدي الأمينة ((فالحمدلله، هذا من فضل ربي)).

وعليه فلا ينبغي أن يخطر بالبال: كيف نعرف أن هذه الحوادث التي حدثت منذ مدة سحيقة قد ظلت مصونة سالمة من يد العبث؟

أمثلة حول معجزات بركة الطعام:

المثال الأول:

T اتفقت الصحاح الستة، وفي مقدمتها البخاري ومسلم في حديث أنس رضي الله عنه ((قال: كان النبي e عروساً بزينب، فعَمِدَتْ أمي أمّ سُلَيم الى تمر وسمن وأقط، فصنعت حيساً فجعلته في تور(1) فقالت: يا أنس! اذهب بهذا الى رسول الله e فقل بعثتْ بهذا اليكَ امي، وهي تقرئك السلام، وتقول: ان هذا لك منّا قليل يا رسول الله! فذهبت فقلت))، فقال: ((ضعْهُ)) ثم قال: ((اذهب فادعُ لي فلاناً)) وفلانا وفلاناً رجالاً سمّاهم ((وادعُ مَن لقيتَ)) فدعوتُ مَن سمّى ومَن لقيتُ فرجعتُ فاذا البيت غاص باهله، قيل لأنس: عددكم كم كانوا؟ قال: زهاء ثلاثمئة. فرأيت النبيe وضع يده على تلك الحيسة وتكلم بما شاء الله ثم جعل يدعو عشرةً عشرةً يأكلون منه، ويقول لهم: ((اذكروا اسم الله، وليأكل كلُّ رجل مما يليه)) قال: فأكلوا حتى شبعوا، فخرجت طائفة، ودخلت طائفة، حتى اكلوا كلهم قال لي: ((يا أنس! ارفع)) فرفعتُ، فما ادرى حين وضعتُ كان اكثر ام حين رفعتُ(1).

المثال الثاني:

T نزل النبي e ضيفاً عند ابي ايوب الانصاري فذات يوم ((صنعَ لرسول الله e ولابي بكر رضي الله عنه من الطعام زُهاء ما يكفيهما. فقال له النبي e : ادعُ ثلاثين من أشرافِ الانصار! فدعاهم فأكلوا حتى تركوا. ثم قال: ادعُ ستين، فكان مثلُ ذلك، ثم قال: ادعُ سبعين فاكلوا حتى تركوه، وما خرج منهم أحدٌ حتى اسلم وبايع، قال ابو ايوب: فأكل من طعامي مئة وثمانون رجلاً))(2).

المثال الثالث:

T ((حديث سلمة بن الاكوع، وابو هريرة، وعمر بن الخطاب (وابو عمرة الانصاري رضي الله عنهم، فذكروا مخمصة أصابت الناس مع النبي e في بعض مغازيه، فدعا ببقية الازواد(3)، فجاء الرجل بالحَثْية من الطعام، وفوق ذلك ، واعلاهم الذي اتي بالصاع من التمر، فَجَمعه على نطْعٍ. قال سلمة: فحرزته، كَربضةِ العنز، ثم دعا الناس باوعيتهم، فما بقي في الجيش وعاء الاّ ملأوه، وبقي منه قدر ما جُعل واكثر، ولو ورده أهلُ الارض لكفاهم))(4).





المثال الرابع:

T ثبت في الصحاح وفي مقدمتها البخاري ومسلم أن عبد الرحمن بن ابي بكر الصديق قال: ((كنا مع النبي e ثلاثين ومئة)) في سفر ((وذكر في الحديث أنه عُجن صاعٌ من طعام، وصُنعَت شاةٌ فشويَ سواد بطنها قال: وايم الله ما من الثلاثين ومئة الاّ وقد حزَّ لهُ حزّةً من سواد بطنها، ثم جعل منها قصعتين فاكلنا اجمعون، وفضل في القصعتين، فحملته على البعير))(1).

المثال الخامس:

ثبت في الصحاح أيضاً:

T ((حديث جابر في اطعامه e يوم الخندق ألف رجل من صاع شعير وعناق(2) وقال جابر: فاُقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وان بُرمَتنا لتَغُط كما هي وان عجيننا ليخبز))(3) وكان الرسول الأكرم e قد وضع في ذلك العجين والقدر من ماء فيه المبارك ودعا بالبركة. فيعلن جابر مقسماً بالله معجزة البركة هذه في حضور الف من الصحابة مُظهراً علاقتهم بها.

فهذه الرواية قطعية وكأن الف رجل قد رواها.

المثال السادس:

T وثبت في الصحاح أن ابا طلحة عمَّ خادم النبي e أنس رضي الله عنه يقول:

ان الرسول الاكرم e اطعَمَ مما أتى به أنسُ تحت ابطه من قليل خبز شعير زهاء ثمانين رجلاً حتى شبعوا. وكان e أمر بأن يجعل ذلك الخبز ارباً ارباً، ودعا بالبركة، وان البيت ضاق بهم فكانوا يأكلون عشرة عشرة، ورجعوا كلهم شباعاً(4).

المثال السابع:

T ثبت في صحيح مسلم والشفا وغيرهما ان جابراً الانصاري يقول: ((ان رجلاً اتى النبي e يستطعمه، فاطعَمَه شطر وَسْق شعير، فما زال يأكل منه هو وأمراتُه وضيفه حتى كالَه)) ليعرفوا ما نقصَ منه، فرأوا أنه زالت منه البركة، وصار ينقص شيئاً فشيئاً. فأتى النبي e فأخبره فقال e : ((لو لم تَكِلْهُ لأكلتم منه ولقام بكم))(1).

المثال الثامن:

T تبين الصحاح كالترمذي والنسائي والبيهقي وكتاب الشفاء ((عن سمرة بن جندب: أتى النبي e بقصعةٍ فيها لحم، فتعاقبوها من غدوة حتى الليل يقوم قوم ويقعد آخرون))(2).

وبناء على ما ذكرناه في المقدمة، هذه الواقعة الواردة في البركة ليست رواية سمرة فقط، بل كأنه ممثلٌ عن تلك الجماعات التي أكلت من ذلك الطعام. فيعلن هذه الرواية بدلاً منهم.

المثال التاسع:

T يروى رجال ثقاة كصاحب الشفاء وابن أبي شيبة والطبراني بسند جيد وعلماء محققون: ((عن ابي هريرة: أمرني النبي e ان ادعوَ له اهلَ الصفة)) وهم فقراء المهاجرين الذين كان ينوف عددهم على مائة. والذين كانوا قد اتخذوا الصفّة في المسجد مأوىً لهم (( فتتبَّعتُهم حتى جمعتُهم. فوُضعَت بين ايدينا صفحةٌ، فأكلنا ما شئنا، وفرغنا، وهي مثلها حين وُضعت، الاَّ أن فيها أثر الاصابع))(3).

فابو هريرة يدلي بهذا الخبر باسم اصحاب الصفة مستنداً الى تصديقهم. فهي رواية قطعية اذاً وكأن جميع أهل الصفة رووها. فهل يمكن ان يكون هذا الخبر خلاف الحق والصواب ثم لا ينكر عليه اولئك الصادقون الكاملون ولا يردّونه؟.

المثال العاشر:

T ثبت برواية صحيحة أن الامام علياً رضي الله عنه قال: ((جمع رسول الله e يوماً بني عبد المطلب وكانوا أربعين، منهم قومٌ يأكلون الجدعة ويشربون الفرق)) اي منهم من يأكل فرع الجمل ويشرب اربع اوقيات من الحليب ((فصنع لهم مُدّاً من طعامٍ فأكلوا حتى شبعوا وبقي كما هو، ثم دعا بعسّ)) اي اناء من خشب حليباً يكفى لثلاثة أو اربعة ((فشربوا حتى رووا. وبقي كأنه لم يشرب))(1).

فهذا مثال واحد لمعجزة بركة الطعام وهو بقطعية شجاعة علي رضي الله عنه وصدقه.

المثال الحادي عشر:

T ثبت برواية صحيحة ((في انكاح النبي e لعلي فاطمة أن النبي e أمر بلالاً بقصعة من اربعة امدادٍ أو خمسة ويذبح جزوراً(2) لوليمتها. قال: فاتيته بذلك فطعن في رأسها، ثم ادخل الناس رُفقة رفقة يأكلون منها، حتى فرغوا، وبقيت منها فضلةٌ، فبرّك فيها وأمر بحملها الى ازواجه، وقال: ((كلن واطعمن مَن غشيكن))(3) حقاً! ان مثل هذا الزواج الميمون لحريٌّ بمثل هذه المعجزة في البركة.

المثال الثاني عشر:

T روى جعفر الصادق عن ابيه محمد الباقر عن ابيه زين العابدين عن علي رضي الله عنه: ((ان فاطمة طبخت قدراً لغذائهما ووجّهت علياً الى النبي e ليتغذى معهما، فأمرها فغرفت منها لجميع نسائه صفحةً صفحة ثم له e ولعلي ثم لها ثم رفعت القدر وانها لتفيض، قالت: فأكلنا منها ما شاء الله))(1).

فعجباً من أمرك ايها الانسان لِمَ لا تصدّق بهذه المعجزة الباهرة تصديق شهود بعد ما سمعت ان رواتها من السلسلة الطاهرة، حتى الشيطان نفسه لا يجد سبيلاً لأنكارها!

المثال الثالث عشر:

T روى الائمة امثال ابي داود وأحمد ابن حنبل والبيهقي عن دُكَين الأحمسي بن سعيد المزين، وعن الصحابي الذي تشرف هو واخوته الستة بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم وهو نعمان بن مقرن الأحمسي المزين، ومن رواية جرير ومن طرق متعددة ان الرسول الأكرم e : ((أمر عمر بن الخطاب ان يزود اربعمائة راكب من أحمس. فقال: يا رسول الله ما هي الاّ أصوع(2) قال: اذهب، فذهب فزوَّدهم منه. وكان قدر الفصيل الرابض من التمر، وبقي بحاله))(3).

هكذا وقعت معجزة البركة هذه، وهي تتعلق باربعمائة رجل، لا سيما بعمر رضي الله عنه. فهؤلاء جميعاً هم الرواة لأن سكوتهم حتماً تصديق للرواية. فلا تقل انها خبر آحاد ثم تمضي الى شأنك فأمثال هذه الحوادث وان كانت خبر آحاد، الاّ انها تورث الطمأنينة في القلب لانها بمثابة التواتر المعنوي.

المثال الرابع عشر:

T ثبت في الصحاح وفي مقدمتها البخاري ومسلم حديث جابر رضي الله عنه ((في دَين أبيه، وقد كان بَذَل لغرماء أبيه أصلَ مالِهِ ليقبلوه ولم يكن في ثمرها سنتين كفافُ دَينهم، فجاءه النبي e بعد أن أمره بجدِّها ــ أي قطعها ــ وجعلها بيادر في أصولها، فمشى فيها ودعا، فأوفي منه جابر غُرماء ابيه وفَضَل مثل ما كانوا يجدُّون كل سنة، وفي رواية مثل ما اعطاهم، قال: وكان الغرماء يهودَ فعجبوا من ذلك))(1).

وهكذا فهذه المعجزة الباهرة في بركة الطعام ليست برواية يرويها جابر واشخاص معدودون فقط وانما هي متواترة من حيث المعنى يرويها جميع هؤلاء الرواة ممثلين لكلّ من تتعلق به هذه الرواية.

المثال الخامس عشر:

T يروى العلماء المحققون رواية صحيحة، وفي مقدمتهم الأمام الترمذي والبيهقي، عن ابي هريرة رضى الله عنه انه قال: أصاب الناس مخمصةٌ في احدى الغزوات ــ وفي رواية في غزوة تبوك ـ ((فقال لي رسول الله e : هل من شئ؟ قلتُ: نعم شئٌ من التمر في المزود(2))) وفي رواية خمس عشرة تمرة ((قال فأتني به، فأدخل يده فأخرج قبضة فبسطها ودعا بالبركة. ثم قال ادعُ عشرة، فأكلوا حتى شبعوا، ثم عشرة كذلك، حتى أطعم الجيش كلهم وشبعوا، قال: خذ ما جئت به وأدخل يدك واقبض منه ولا تكبَّه، فقبضتُ على أكثر مما جئتُ به، فأكلت منه وأطعمت حياة رسول الله e وحياة ابي بكر وعمر الى أن قُتل عثمان فانتهبَ مني فذهب. وفي رواية فقد حملتُ من ذلك التمر كذا وكذا من وسق في سبيل الله))(3).

وهكذا، فان معجزة البركة التي يرويها ابو هريرة، وهو الذي تتلمذ على معلم الكون وسيده محمد e ولازم مدرسة الصفة وبزّ فيها بالحفظ بدعاء النبي له، فهذا الصحابي الجليل يروي هذه الرواية في مجمع من الناس ــ كغزوة تبوك ــ فلا بد ان تكون هذه الرواية متواترة من حيث المعنى، وقوية متينة بقوة الجيش كله اي كما لو كان الجيش كله يرويها.

المثال السادس عشر:

T ثبت في صحيح البخاري والصحاح الاخرى: ان الجوع اصاب ابا هريرة، ((فاستَتَبعَه النبي e ، فوجد لبناً في قدح أهدي اليه، وأمره أن يدعو أهل الصفة. قال: فقلتُ ما هذا اللبن فيهم، كنت أحقَّ أن اصيب منه شربةً أتقوى بها، فدعوتُهم))، وكانوا ينوفون على المائة، فأمر e أن اسقيهم ((فجعلتُ اُعطي الرجل فيشرب حتى يروى. ثم يأخذه الآخر حتى رَوِى جميعهم قال: فأخذ النبي e القدحَ وقال: بقيتُ انا وانت، اقعد فاشرب. فشربت ثم قال: اشرب. وما زال يقولها وأشربُ حتى قُلت: لا، والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكاً. فأخذ القدح وحمد الله وسمّى وشرب الفضلة))(1). فهنيئاً لك مائة الف مرة يا رسول الله.

فهذه المعجزة السليمة من شوائب الشك والخالصة اللطيفة كاللبن قد روتها كتب الصحاح وفي مقدمتها صحيح الامام البخاري الذي كان حافظاً لخمسمائة الف حديث. فهي اذن رواية لا ريب فيها قط وصادقة وثابتة كأنها مشهودة رأي العين، مثلما رواها تلميذ المدرسة الأحمدية المقدسة، مدرسة الصفّة، ذلك التلميذ الموثوق الحافظ ابو هريرة، رواها باسم اصحاب الصفة جميعهم وأشهدهم عليها.

فالذي لا يتلقى هذا الخبر تلقياً كأنه يشاهده، فهو إما فاسد القلب أو فاقد العقل.

تُرى هل من الممكن أن صحابياً جليلاً مثل ابي هريرة الصادق الذي بذل حياته في حفظ الحديث النبوي، أن يحط من قيمة ما حفظه من الاحاديث النبوية فيورد ما يثير الشك والشبهة ويقول ما يخالف الحق والواقع، وهو الذي سمع قول النبي e : ((مَنْ كَذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) حاشاه عن ذلك.

فيارب بحرمة بركة هذا الرسول الكريم e هب لنا البركة فيما منحتنا من ارزاق مادية ومعنوية.



نكتة مهمة

بديهي انه كلما اجتمعت اشياء واهية ضعيفة تقوّت. واذا اُبرمت خيوط رفيعة واتحدت صارت عروة وثقى لا تنفصم. وقد اوردنا هنا ستة عشر مثالاً لقسمٍ من خمسة عشر قسماً من نوع معجزة البركة التي تمثل نوعاً من خمسة عشر نوعاً من انواع المعجزات، وكل مثال اوردناه قويٌ في حد ذاته وكاف وحده لإثبات النبوة. ولو فرضنا ــ فرضاً محالاً ــ بأن بعضاً منها ضعيف غير قوي في ذاته، فلا يجوز الحكم عليه بأن المثال لا يقوى دليلاً على المعجزة لأنه يتقوى بأتفاقه مع القوي.

ثم ان اجتماع هذه الامثلة الستة عشر التي هي في درجة التواتر المعنوي يدل على معجزة كبرى قوية، ولو مُزجَت هذه المعجزة مع سائر الاقسام الاربعة عشر من معجزاته e حول البركة التي لم تذكر هنا، لغدت معجزة هائلة كالحبال المتحدة التي لا انفصام لها. ثم انك لو اضفت هذه المعجزة الهائلة القوية الى سائر انواع المعجـزات الاربع عشرة لرأيـت برهـاناً قوياً لا يـتزلـزل، برهـاناً باهراً على النـبوة الصادقة.

وهكذا فعماد النبوة الأحمدية عماد كالطود الاشم تتشكل من مجموعة هذه المعجزات.

ولا شك انك ادركت الآن مدى سخافة وبلاهة مَن يرى هذا البناء الشامخ العامر للنبوة ثم يظن أنها تهوى بشبهات واهية ترد الى ظنه من جزئيات الامثلة.

نعم! ان تلك المعجزات التي تخص البركة في الطعام تدل دلالة قاطعة على نبوة محمد e وانه مأمور محبوب لدى ذلك الرحيم الكريم الذي يمنح الرزق ويخلقه. وهو عبد كريم لديه بحيث يبعث له مستضافات مملوءة بانواع من الرزق ـ خلافاً للمعتاد ـ من العدم ومن خزائن الغيب التي لا تنفد.

ومعلوم أن الجزيرة العربية شحيحة بالماء والزراعة بحيث ان اهاليها ـ لا سيما في صدر الاسلام ـ كانوا في ضيق من المعيشة وشدة منها وشحة من الماء والتعرض للعطش. فبناء على هذه الحكمة، فقد ظهرت اهم المعجزات الاحمدية الباهرة ظهوراً في الطعام والماء.

فهذه المعجزات انما هي بمثابة اكرام رباني، واحسان الهي، وضيافة رحمانية للرسول الكريم e ، يكرمه حسب الحاجة، فهي اكرام اكثر من ان تكون دليلاً على النبوة. لأن الذين رأوا هذه المعجزات، كانوا مؤمنين ايماناً قوياً بالنبوة. فالمعجزة كلما ظهرت يتزايد الايمان ويتقوى، وهكذا تزيدهم هذه المعجزات نوراً على نور ايمانهم.

الاشارة البليغة الثامنة

تبين قسماً من المعجزات التي تتعلق بالماء.

المـقــدمة

ان الحوادث التي تقع بين اظهر الناس، اذا ما نُقلت بطريق الآحاد ولم تُكذَّب فهي دلالة على صدق وقوعها، لان فطرة الانسان مجبولة على ان يفضح الكذب ويرفضه. ولا سيما اولئك الذين لا يسكتون على الكذب وهم الصحب الكرام، وبخاصة اذا كانت الاحداث تتعلق بالرسول الاكرم e ، وبالاخص ان الرواة هم من مشاهير الصحابة. فيكون راوي ذلك الخبر الواحد حينذاك كأنه ممثل لتلك الجماعة التي شاهَدَتْه شهود عيان. علماً ان كل مثال من امثلة المعجزات المتعقلة بالماء التي سنبحث عنها قد رُوي بطرق متعددة، عن كثير من الصحابة الكرام وتناوله ائمة التابعين وعلماؤهم بالحفظ وسلّموا كل رواية منها بأمانة بالغة الى الذين يأتون من بعدهم في العصور الاخرى. فتلقاه العصر الذي بعدهم بجدّ وامانة ونقلوه بدورهم الى علماء العصر التالي، وهكذا تعاقبت عليه الوف العلماء الأجلاء في كل عصر وكل طبقة، حتى وصل الى يومنا هذا، فضلاً عن ان كتباً للاحاديث قد دوّنت في عصر النبوة وسُلّمت من يد الى يد حتى وصلت الى ايدي ائمة الحديث من امثال البخاري ومسلم فَوعوها وعياً كاملاً، وميّزوا هذه الروايات حسب مراتبها، وقاموا بجمع كل ما هو صحيح خالٍ من شائبة الشبهة في صحاحهم، فارشدونا الى الصواب.. جزاهم الله خيراً.

مثال: ان فوران الماء من اصابع الرسول e ، وسقيه كثيراً من الناس، حادث متواتر. نقلته جماعة غفيرة لا يمكن تواطؤهم على الكذب بل محال كذبهم. فهذه المعجزة اذاً ثابتة قطعاً، فضلاً عن انها قد تكررت ثلاث مرات امام ثلاث جماعات عظيمة.

فقد روت الحادثة برواية صحيحة جماعة من مشاهير الصحابة، وفي مقدمتهم أنس ((خادم الرسول e )) وجابر وابن مسعود ونقلها الينا ـ بسلسلة من الطرق ـ ائمةُ الحديث امثال البخاري ومسلم والامام مالك وابن شُعيب وقتادة رضوان الله تعالى عليهم اجمعين.

وسنذكر تسعة امثلة فحسب من المعجزات المتعلقة بالماء.

المثال الاول:

T ثبت في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما: ((عن انس بن مالك قال رأيت رسول الله e وحانت صلاة العصر فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوه)). ((قال: اُتي النبيُّ e باناء وهو بالزوراء(1)، فوضع يده في الاناء، فجعل الماء ينبع من بين اصابعه، فتوضأ القوم. قال قتادة، قلت لأنس: كم كنتم؟ قال: ثلاثمائة أو زهاء ثلاثمائة))(2).

فأنت ترى ان انساً رضي الله عنه يخبر عن هذه الحادثة بوصفه ممثلاً عن ثلاثمائة رجل. فهل يمكن الاّ يشترك اولئك الثلاثمائة في هذا الخبر معنىً وهل يمكن ألاّ يكذبوه ـ حاشاه ـ إن لم تكن هذه الحادثة قد حدثت فعلاً؟.

المثال الثاني:

T ثبت في الصحاح وفي مقدمتها البخاري ومسلم: ((عن سالم بن ابي الجعد عن جابر بن عبد الله الانصاري رضي الله عنهما قال: عطش الناس يوم الحديبية والنبي e بين يديه ركوةٌ(3)، فتوضأ، فجهش الناس نحوهُ فقال: مالكم؟ قالوا: ليس عندنا ماء نتوضأ ولا نشرب، الاّ ما بين يديك. قال جابر: فوضع النبي e يده في الركوة فجعل الماء يثور من بين اصابعه، كامثال العيون، فشربنا وتوضأنا. قال سالم: قلت لجابر: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة الف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة))(4) فترى ان رواة هذه المعجزة يبلغون الفاً وخمسمائة رجل من حيث المعنى لأن الانسان مفطور على ان يفضح الكذب ويقول للكذب هذا كذب، فكيف بهؤلاء الصحابة الكرام الذين ضحوا بارواحهم واموالهم وآبائهم وابنائهم واقوامهم وقبائلهم في سبيل الحق والصدق؟ فضلاً عن انه محال ان يسكتوا على الكذب بعدما سمعوا التهديد المرعب في الحديث الشريف (من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار . فماداموا لم يعترضوا على الخبر بل قبلوه ورضوا به، فقد أصبحوا اذاً مشتركين في الرواية ومصدِّقين لها من حيث المعنى.

المثال الثالث:

T تروى الكتب الصحاح ((ومنها البخاري ومسلم))(1) في ذكر غزوة (بُواطٍ)(2) أن جابراً قال: ((قال لي رسولُ الله e : يا جابر نادِ الوضوء)) فقيلَ لا يوجد لدينا الماء. فأراد ماء يسيراً. ((فأُتي به النبي e فغمزه(3)، وتكلّم بشئ لا ادري ما هو. وقال: نادِ بجفنة الركب، فاتيتُ فوضعتها بين يديه، وذكر ان النبيe بَسَط يده في الجفنة وفرّق اصابعه. وصبّ جابرٌ عليه وقال: بسم الله! قال: فرأيت الماء يفور من بين اصابعه، ثم فارت الجفنة واستدارت حتى امتلأت، وأمر الناس بالاستقاء، فاستقوا حتى رووا. فقلت هل بقي احدٌ له حاجة؟ فرفع رسول الله e يده من الجفنة وهي ملأى)).

فهذه المعجزة الباهرة متواترة من حيث المعنى، لأن جابراً كان في مقدمة المشاهدين فمن حقه اذاً ان يتكلم هو فيها، ويعلنها على لسان القوم حيث كان يخدم الرسول e آنذاك.

T وفي رواية ابن مسعود في الصحيح: ((ولقد رأيتُ الماء ينبعُ من بين اصابع رسول الله e ))(4).

يا ترى اذا روى صحابة ثقاة اجلاء من امثال انس وجابر وابن مسعود وقال كل منهم: ((رأيت))، أمن الممكن عدم رؤيتهم؟

وبعد؛ وَحِّد هذه الامثلة معاً، لترى مدى قوة هذه المعجزة الباهرة، لأن الطرق الثلاثة اذا ما توحدت فستثبت الرواية اثباتاً قاطعاً بالتواتر المعنوي، من ان الماء كان يفور من أصابعه e فهذه المعجزة أعظم وأسمى من تفجير موسى عليه السلام الماء من اثنتي عشر عيناً من الحجر لأن انفجار الماء من الحجر شئ ممكن له نظيره حسب العادة، ولكن لا نظير لفوران الماء من اللحم والعظم كالكوثر السلسبيل.

المثال الرابع:

T روى الامام مالك في كتابه القيّم (الموطأ(1)) عن أجلة الصحابة ((عن معاذ بن جبل في قصة غزوة (تبوك) انهم وردوا العين وهي تبض بشئ من ماء(2) مثل الشراك)) فأمر رسول الله e أن : اجمعوا من مائها ((فغرفوا من العين بايديهم حتى اجتمع في شئ. ثم غسل رسول الله e فيه وجهه ويديه واعاده فيها فَجَرت بماء كثير فاستقى الناس)) حتى قال في حديث ابن اسحاق ((فانخرق من الماء مالَه حِسّ كحس الصواعق. ثم قال: يوشِك يا معاذ إن طالت بك حياةٌ ان ترى ما هاهنا قد ملئ جناناً)) وكذلك كان.

المثال الخامس:

T روى البخاري عن البراء، ومسلم عن سلمة بن الاكوع، وعن طرق اخرى في كتب الصحاح الاخرى ((كنا يوم الحديبية اربع عشرة مائة، والحديبية بئر، فنزحناها، حتى لم نترك فيها قطرة فجلس النبي e على شفير البئر فدعا بماء فمضمض ومجّ في البئر فمكثنا غير بعيد ثم استسقينا حتى روينا ورَوَت أو صَدَرَت ركائبنا))(3) قال البراء: فأمر e بدلو من مائها، فأتينا بها، فألقى ريقه من فمه المبارك ودعا، ثم بعد ذلك أفرغ الدلو في البئر ففارت وارتفعت ملء فمها فأرووا انفسهم وركابهم.

المثال السادس

T روى ائمة الحديث، امثال مسلم وابن جرير الطبري وغيرهما عن ابي قتادة انه قال: ((ان النبي e خرج بهم ممدّاً لأهل مؤتة عندما بلغه قَتْل الامراء))(4) وكانت لديّ مِيضأة. فقال الرسول e : ((احفظ على مِيضأتك فانه سيكون لها نبأ)) وبعد ذلك أخذ العطش يشتد بنا وكنا اثنين وسبعين ـ وفي رواية الطبري كنا زهاء ثلاثمائة ـ فقال الرسول الكريم e : ((ائت ميضأتك. فأتيتُها فأخَذَها ووضع فمه في فمها ولم ادر أتنفسَ فيها أم لا؟ ثم بعد ذلك جاء أثنان وسبعون رجلاً فشربوا منها وملأوا اوعيتهم ثم بعد ذلك أخذتها ـ أي الميضأة(1) ـ فبقيت مثل ما كان))(2) فتأمل في هذه المعجزة الباهرة وقل:

اللّهم صلّ وسلم عليه وعلى آله بعدد قطرات الماء.

المثال السابع:

T روى البخاري ومسلم عن عمران بن حُصين حين اصاب النبي e وأصحابه عطشٌ في بعض اسفارهم ((كنا في سفر مع النبي e ... فاشتكى اليه الناس من العطش فنزل... ودعا عليا فقال: اذهبا فابتغيا الماء، فانطلقا فتلقيا أمرأة بين مُزادتين... فجاءا بها الى النبي e ... ودعا النبي e باناء ففرّغ فيه من افواه المزادتين، ونودي في الناس اسقوا فاستقوا... وانه ليُخيّل الينا انها اشدّ ملأة منها حين ابتدأ فيها)).

وقال النبي e : ((اجمعوا لها فجمعوا لها... حتى جمعوا لها طعاماً فجعلوه في ثوب وحملوها على بعيرها... قال لها: تعلمين ما رُزئنا من مائكِ شيئاً ولكن الله هو الذي أسقانا... الى اخر الحديث))(3).

المثال الثامن:

T روى ابن خزيمة حديث ((عمر رضي الله عنه في جيش العسرة، وذكر ما اصابهم من العطش حتى ان الرجل لينحُر بعيرَه فيـعـصر فَرْثَه فيشـرَبُه، فرغـب ابو بكر رضي الله عنه الى النبي e في الدعاء. فرفع يديه فلم يُرجعهما حتى قالت(4) السماء فانسكبت فملأوا ما معهم من آنية ولم تجاوز العسكر))(5).

فهذه معجزة احمدية محضة لا دخل للمصادفة فيها قط.

المثال التاسع:

T عن عمرو بن شعيب (حفيد عبد الله بن عمرو بن العاص ) الذي وثّقه الائمة الاربعة من اصحاب السنن في تخريجه الاحاديث: ((أن ابا طالب قال للنبيe وهو رَديفُه بذي المجاز: عطشتُ وليس عندي ماء. فنزل النبي e وضرب بقدمه الارض فخرج الماء، فقال اشرب))(1).

قال احد العلماء المحققين: هذه الحادثة كانـت قبـل النبوة لذا فهي من الارهاصات. وتفجر عينُ عرَفَه بعد مضي الف سنة يُعدّ من الاكرامات الإلـهية للرسول الكريم e .

وهكذا فالمعجزات المتعلقة بالماء، وان لم تبلغ تسعين مثالاً من امثال هذه التسعة الاّ انها رويت بتسعين وجهاً.

والامثلة السبعة الاولى قوية، وقطعية، كالتواتر المعنوي. اما المثالان الاخيران ــ وان لم تكن طرقهما قوية ومتعددة ورواتهما كثيرة الاّ ان اصحاب الحديث كالامام البيهقي والحاكم رووا عن عمر رضي الله عنه معجزة ثانية حول السحاب تأييداً للمعجزة في المثال الثامن التي رواها سيدنا عمر. والرواية هي أنه: ((اصاب الناس في بعض مغازيه e عطش فسأله عمر الدعاء، فدعا، فجاءت سحابة فسقتهم حاجتهم ثم اقلعت))(2) وكأن السحاب كان مأموراً لأن يروى الجيش وحده ـ حيث امطر حسب الحاجة ــ فكما تؤيد هذه الحادثة المثال الثامن وتقويّه، وتبينه رواية ثابتة قاطعة. فان ابن الجوزي ــ الذي يتشدد ويرّد حتى بعض الاحاديث الصحيحة ويجعلها في عداد الموضوعات ــ يقول: ان هذه الحادثة وقعت في غزوة بدر ونزلت في حقها الآية الكريمة: } ويُنزِّلُ عَليكُم مِن السّماء ماء لِيُطَهّركُم بِه{ (الانفال: 11).

فما دامت هذه الآية قد نزلت في حقها وبيَّنتها بوضوح، فلاشك اذاً في وقوعها.

وقد تكرر كثيراً نزول المطر بدعاء النبي e قبل ان تنزل يداه المرفوعتان وهي معجزة مستقلة بحد ذاتها. وقد استسقى النبي e احياناً وهو على المنبر، ونزلت الامطار قبل ان يخفض يده. وقد ثبت هذا عن طريق متواتر.

الاشارة البليغة التاسعة

ان أحد أنواع معجزات الرسول الاكرم e هو امتثال الأشجار لأوامره كامتثال البشر، وانخلاعها من اماكنها ومجيئها اليه. فهذه المعجزة المتعلقة بالاشجار هي متواترةٌ من حيث المعنى كفوران الماء من اصابعه المباركة ولها صور متعددة وقد رُويت بطرق كثيرة.

نعم! يصح ان يقال ان خبر انخلاع الشجرة من موضعها ومجيئها ممتثلة لأمر الرسول الاكرم e متواتر تواتراً صريحاً(1)، حيث قد رويت هذه الرواية من قبل صحابة كرام صادقين معروفين، امثال: علي وابن عباس وابن مسعود وابن عمر ويعلى بن مرة وجابر وانس بن مالك، وبُريدة واسامة بن زيد وغيلان بن سلمة، وغيرهم فأخبر كلٌ منهم عن هذه المعجزة المتعلقة بالاشجار إخباراً ثابتاً قاطعاً. ونقلها عنهم مئات من ائمة التابعين بطرق مختلفة، في بداية كل طريق صحابي جليل، اي كأنها نقلت الينا نقلاً متواتراً مضاعفاً؛ لذا فلا يداخل هذه المعجزة ريبٌ ولا شبهة قط، فهي في حكم المتواتر المعنوي المقطوع به.

فهذه المعجزة وإن تكررت مرات عدة، الاّ اننا سنبين عدداً من صورها الصحيحة الكثيرة، ونوردها في بضعة امثلة:

المثال الاول:

T روى ابن ماجة والدارمي والبيهقي عن انس بن مالك وعلي، وروى البزار والبيهقي عن عمر، ان ثلاثة من الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين قالوا: كان الرسول الاكرم e قد حزن حزناً شديداً من تكذيب الكفار له ((قال: اللّهم! أرني آية لا أبالي من كذّبني بعدها)). وفي رواية أنس ((ان جبريل عليه السلام قال للنبي e ورآه حزيناً: أتحب ان أريك آية. قال: نعم! فنظر رسول الله e الى شجرةٍ من وراء الوادي، فقال: أدعُ تلك الشجرة، فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه، قال: مُرها فلترجع، فعادت الى مكانها))(2).

المثال الثاني:

T روى القاضي عياض ـ علاّمة المغرب ـ في كتابه (الشفاء) بسند عال صحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال:

((كنا مع رسول الله e في سفر، فدنا منه اعرابي، فقال: يا اعرابي: اين تريد؟ قال: الى اهلي. قال: هل لك الى خير؟ قال: وما هو؟ قال: تشهد ان لا إله الاّ الله وحده لا شريك له وان محمداً عبدهُ ورسوله. قال: مَن يشهد لك على ما تقول؟ قال: هذه الشجرةُ السَّمُرة(1)، وهي بشاطيء الوادي، فاقبلت تخدّ الارض، حتى قامت بين يديه، فاستشهدها ثلاثاً فَشهِدت أنه كما قال. ثم رجعت الى مكانها))(2).

وعن بُريْدَة عن طريق ابن صاحب الاسلمي بنقل صحيح: ((سأل اعرابي النبي e آية، فقال له: قل لتلك الشجرة، رسول الله يدعوك. قال: فمالت الشجرة عن يمينها وشمالها وبين يديها وخلفها، فتقطعت عروقُها، ثم جاءت تَخدّ الارض تَجرُّ عروقها(3) مُغيّرة حتى وقفت بين يدي رسول الله e . فقالت: السلام عليك يا رسول الله قال الاعرابي: مُرها فلترجع الى منبتها، فَرَجَعَت فدلّت عروقها فاستوت. فقال الاعرابي: ائذن لي أسجُد لك. قال: لو امرتُ احداً أن يسجُدَ لأحدٍ لأمرتُ المرأةَ أن تسجدَ لزوجها، قال: فأذنْ لي أن أقبِّلَ يديك ورجليك، فأذن له))(4).

المثال الثالث:

T روى مسلم واصحاب الكتب الصحاح الاخرى عن جابر رضي الله عنه: أنه قال: كنا في سفر مع رسول الله e ، ((ذهب رسول الله يقضي حاجته، فلم يَرَ شيئاً يستتر به، فاذا بشجرتين بشاطئ الوادي، فانطلق رسولُ الله e الى احداهما، فأخذ بغصنٍ من اغصانها، فقال: انقادي عليّ بأذن الله فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده، وذكر انه فعل بالاخرى مثل ذلك حتى اذا كان بالمنصف(1) بينهما، قال: التئما عليّ باذن الله. فالتأمتا))(2) فجلس خلفها، وبعد ان قضى حاجته، أمر أن يعود كل منهما الى مكانها.

T ((وفي رواية أخرى، فقال: يا جابر! قل لهذه الشجرة: يقول لك رسول الله إلحقي بصاحبتك حتى أجلس خلفكما. فزحفت حتى لحقت بصاحبتها. فجلس خلفهما، فخرجتُ أحضر، وجلستُ احدّث نفسي، فالتفتُّ فإذا رسول الله e مقبلاً، والشجرتان قد أفترقتا، فقامت كل واحدة منهما على ساق، فوقف رسول الله e وقفةً فقال برأسه هكذا يميناً وشمالاً))(3).

المثال الرابع:

T روى اسامة بن زيد ـ احد قواد رسول الله e وخادمه الايمن ـ : كنا في سفر مع رسول الله e ، ولم يكن لقضاء الحاجة مكان خالٍ يستر عن أعين الناس، فقال: ((هل ترى من نخلٍ أو حجارة؟ قلت: أرى نخلات متقاربات، قال: انطلق وقل لهُن إن رسول الله e يأمركن أن تأتين لمخرج(4) رسول الله e وقل للحجارة مثل ذلك. فقلت ذلك لهن، فوالذي بعثُه بالحق لقد رأيتُ النخلات يتقاربن حتى اجتمعن والحجارة يتعاقدن حتى صرن ركاماً خلفهن، فلما قضى حاجته، قال لي: قل لهن يفترقن، فوالذي نفسي بيده لرأيتهن والحجارةُ يفترقن حتى عُدن الى مواضعهن))(5).

وقد روى هاتين الحادثتين اللتين رواهما جابر واسامة كل من يعلى بن مرة، وغيلان بن سلمة الثقفي، وابن مسعود في غزوة حنين.

المثال الخامس:

T ذكر علامة عصره الامام ابن فورك ـ الذي كان يسمى بالشافعي الثاني كناية عن اجتهاده الكامل وفضله ـ: ((انه e سار في غزوة الطائف ليلاً وهو وَسِنٌ، فاعتَرضهُ سدرةٌ(1)، فانفرجت له نصفين حتى جاز بينهما، وبقيت على ساقين الى وقتنا))(2).

المثال السادس:

T ذكر يعلى بن سيابه(3): (( أن طلحة أو سَمُرة جاءت فاطافت به ثم رجعت الى منبتها فقال رسول الله e : انها استأذنت ان تسلّم عليّ)). اي استأذنت من رب العالمين.

المثال السابع:

T روى الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه قال: ((آذنَت(4) النبي e بالجن ليلة استمعوا له شجرةٌ)) وذلك حينما جاء جن نصيبين في بطن النخل الى النبي e للاسلام، فأعلَمَت شجرةٌ خبر مجيئهم النبي.

((وعن مجاهد عن ابن مسعود في هذا الحديث: ان الجن قالوا مَن يَشهَدُ لك؟ قال: هذه الشجرة)) فأمر الشجرَة ((تعالى يا شجرة! فجاءت تجرُّ عروقَها لها قعاقع))(5).

وهكذا، فقد كفت معجزة واحدة طائفة الجن. أفلا يكون مَن يسمع الف معجزة ومعجزة من امثالها ثم يكابر ولا يؤمن اضلَّ من ذلك الشيطان الذي حدّث القرآن عنه بقول الجن: } يقولُ سَفيهُنا على الله شططاً{ ) (الجن: 4) ؟

المثال الثامن:

T روى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنه ((انه e قال لاعرابي: أرأيتَ إن دعوتُ هذا العِذق من هذه النخلة أتشهد اني رسول الله؟ قال: نعم! فدعاه فجعل ينقز حتى أتاه. فقال: ارجع، فعاد الى مكانه))(1).



T T T



وهكذا، فهناك امثلة غزيرة كالتي ذكرناها روُيت كلها بطرق عديدة، ومن المعلوم انه اذا اتحدت بضعة خيوط رفيعة صارت حبلاً قوياً.. فمثل هذه المعجزة المتعلقة بالشجرة وقد رويت بطرق متعددة، وعن مشاهير الصحابة الكرام لابد انها في قوة التواتر المعنوي، بل انها متواترة تواتراً حقيقياً. ولا ريب أنها حينما انتقلت الى التابعين اخذت طابع التواتر، لا سيما الطرق التي سلكها اصحاب الصحاح كالبخاري ومسلم وابن حبان والترمذي وغيرهم، انما هي طريق صحيحة لا شائبة فيها. بل أن رؤية اي حديث كان في البخاري انما هو كاستماعه من الصحابة الكرام بعينهم.

تُرى اذا عَرفت الاشجار رسول الله e وعرَّفَته وصدَّقَتْ رسالته وسلّمت عليه، وزارته، وامتثلت أمره ـ كما رأينا في الامثلة المذكورة آنفاً ـ فكيف لا يَعرف ولا يؤمن به ذلك البليد الجماد الذي يسمي نفسَه إنساناً؟ أليس هو عارٍ عن العقل والقلب؟ أفلا يكون أدنى من الشجر اليابس وأتفه من الحطب الذي لا يستحق الاّ إلقاءه في النار؟.

الاشارة البليغة العاشرة

ان الذي يؤيد هذه المعجزات المتعلقة بالشجرة هو معجزة حنين الجذع المنقولة نقلاً متواتراً.

نعم! ان حنين الجذع اليابس الموجود في المسجد النبوي الى رسول الله e لفراقه عنه - راقاً مؤقتاً - أنينَه امام جماعة غفيرة من الصحب الكرام يؤيد الأمثلة التي اوردناها في المعجزات المتعقلة بالاشجار ويقوّيها. لأن الجذع من جنس الاشجار، فالجنس واحد، الاّ ان هذه المعجزة متواترة بالذات، بينما الاقسام الاخرى متواترة نوعاً، اذ ان اكثر جزئياتها وامثلتها لا يرقى الى مستوى التواتر الصريح.

كان المسجد النبوي مسقوفاً على جذوع نخل فكان النبي e اذا خطب يقوم الى جذع منها، فلما صُنِع له المنبر، وكان عليه، سمع لذلك الجذع صوت كصوت العشار(1) وهو يئن ويبكي، حتى جاءه النبي e ووضع يده عليه، وتكلم معه وعزّاه وسلاّه، فسكت الجذع.

نُقلت هذه المعجزة بطرق كثيرة جداً نقلاً متواتراً.

نعم! ان معجزة حنين الجذع مشهورة ومنتشرة، والخبر بها من المتواتر الصريح(2) فقد رواها مئات من ائمة التابعين بخمسة عشر طريقاً عن جماعة من الصحابة الكرام رضي الله عنهم، وهكذا نقلوها الى مَن خلفهم. وممن رواها من علماء الصحابة: انس بن مالك ـ خادم النبي ـ وجابر بن عبد الله الانصاري، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وسهل بن سعد، وابو سعيد الخدري، وابي بن كعب، وبُريدة، وام المؤمنين أم سلمة رضوان الله عليهم وكلٌ من هؤلاء على رأس طريق من طرق رواة الحديث.

فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما من اصحاب الصحاح هذه المعجزة الكبرى المتواترة ونقلوها الينا.

عن جابر رضي الله عنه، يقول: ((كان المسجد مسقوفاً على جذوع من نخلٍ فكان النبي e اذا خطب يقوم الى جذع منها، فلما صُنع له المنبر وكان عليه فسمعنا لذلك الجذع صوتاً كصوت العشار حتى جاء النبي e فوضع يده عليها فسكت))(1) لم يتحمل الجذع فراقه e .

وعن انس:(2) ((حتى ارتجّ المسجد لخواره)).

وعن سهل بن سعد:(3) ((وكَثُر بكاء الناس لما رأوا به من بكاء وحنين)).

وعن اُبَي بن كعب:(4) ((حتى تصدّع وانشق)) لشدة بكائه.

زاد غيره: فقال النبي e : ((ان هذا بكى لما فقد من الذكر))(5) وزاد غيره: ((والذي نفسي بيده لو لم ألتزمه لم يزل هكذا الى يوم القيامة)) تحزناً على رسول الله e (6) وفي حديث بُريدة: لما بكى الجذع وضع الرسول يده الشريفة عليه وقال: ((ان شئت اردَّك الى الحائط(7) الذي كنت فيه، ينبت لك عروقك ويكمل خلقُك ويجدّد لك خوص وثمرةٌ. وان شئت اغرسك في الجنة فيأكل اولياء الله من ثمرك. ثم اصغى له النبي e يستمع ما يقول، فقال: بل تغرسني في الجنة فيأكل مني اولياء الله واكون في مكان لا ابلى فيه، فسمعه من يليه، فقال النبي e : قد فعلتُ. ثم قال: اختار دار البقاء على دار الفناء))(1).

قال الامام ابو اسحاق الاسفرائني ـ وهو من ائمة علماء الكلام ـ ان الرسول الاكرم e لم يذهب الى الجذع بل ((دعاه الى نفسه فجاءه يخرق الارض فالتزم. ثم امره فعاد الى مكانه))(2).

يقول اُبَي بن كعب: وبعد ظهور هذه المعجزة: ((أمر النبي e به فدفن تحت المنبر))، ((فكان اذا صلى النبي e صلى اليه. فلما هدم المسجد لتجديده اخذه اُبَى فكان عنده الى ان اكلته الأرض وعاد رفاتاً))(3).

وحينما كان الحسن البصري يحدّث بهذا الى طلابه يبكي ويقول:

((يا عباد الله! الخشبةُ تحنّ الى رسول الله e شوقاً اليه لمكانه فانتم أحق ان تشتاقوا الى لقائه))(4).

ونحن نقول: نعم! ان الاشتياق اليه ومحبته انما هو باتباع سنته السنية وشريعته الغراء.



o نكتة مهمة:

فان قيل: لِمَ لم تشتهر تلك المعجزات التي تخص البركة في الطعام والتي اشبعت الفاً من الناس في غزوة الخندق بصاع من طعام، ولا تلك المعجزات التي تخص الماء التي اروت الفاً من الناس بما فار من الماء من اصابع الرسول المباركة e . لِمَ لم تنقلا بطرق كثيرة مثلما اشتهرت معجزة حنين الجذع ونقلت. مع ان كلاً من تلك الجماعتين - لتي وقعت المعجزة امامهما - كثر من جماعة معجزة حنين الجذع؟

الجواب:

ان المعجزات التي ظهرت قسمان:

احدهما: ما يظهر على يد النبي e لتصديق دعوى النبوة، ويكون حجة لها، فيزيد ايمان المؤمنين ويسوق اهل النفاق الى الاخلاص والايمان، ويدعو اهل الكفر الى حظيرة الايمان. ومعجزة حنين الجذع من هذا القبيل، لذلك رآها العوام والخواص واعتُني بنشرها اكثر من غيرها.

اما معجزة الطعام ومعجزة الماء، فهي كرامة اكثر من كونها معجزة، بل اكرام إلهي اكثر من الكرامة، بل ضيافة رحمانية ـ حسب ما دعت اليه الحاجة ـ اكثر من إكرام إلهي. فهما وان كانتا دليلين على دعوى النبوة، ومعجزتين لها، الاّ ان الغاية الاساس هي:

ان الجيش الذي يبلغ قوامه زهاء الف رجل، كان في حاجة ماسة الى الطعام والشراب فأمدّهم الله سبحانه وتعالى من خزائن الغيب بأن اشبع من صاع من طعام ألفَ رجلٍ كما يخلق سبحانه من نواةٍ واحدة ألف رطل من التمر، كذلك أروى زهاء الف من المجاهدين في سبيل الله ، حينما اصابهم العطش، ارواهم بماء مبارك كالكوثر، اذ اجراه سبحانه من اصابع قائدهم الاعظم صلوات الله وسلامه عليه. لذلك لم تصل درجة معجزة الطعام والماء الى درجة حنين الجذع. الاّ ان جنس تينك المعجزتين ونوعهما بحسب الكلية متواتر كتواتر حنين الجذع.

ثم ان كل فرد قد لا يرى بركة الطعام وفوران الماء من الاصابع بالذات بل يرى أثره، ولكن كل من كان في المسجد النبوي قد سمع بكاء الجذع، لذا ذاع اكثر..



فان قيل:

ان الصحابة الكرام رضي الله عنهم اهتموا اهتماماً بالغاً بملاحظة جميع احوالهe وحركاته ونقلوها بأمانة واعتناء، فلِمَ رُويت امثال هذه المعجزة العظيمة بعشرين طريقاً فقط ولم ترو ــ في الاقل ــ بمائة طريق؟ ولِمَ تأتي اكثر الروايات عن أنس وجابر وابي هريرة، ولم يأتِ عن طريق ابي بكر وعمر الاّ القليل منها.

الجواب: الشق الاول من السؤال مضى جوابه في الاساس الثالث من الاشارة الرابعة.

أما جواب الشق الثاني فهو: ان الانسان اذا احتاج الى الدواء يراجع الطبيب، واذا احتاج الى بناء يراجع المهندس واذا احتاج الى تعلم الشريعة يأتي المفتى ويستفتيه.. وهكذا فقد كانت مهمة بعض علماء الصحابة منحصرة في حمل الحديث ونشره ونقله الى العصور الأخرى. فكانوا يسعون بكل ما آتاهم الله من قوة في هذه الغاية. فابو هريرة رضي الله عنه كرّس جميع حياته لحفظ الحديث النبوي في الوقت الذي كان عمر رضي الله عنه منهمكاً في حمل اعباء الخلافة وسياسة الدولة. لذا اعتمد على هؤلاء الصحابة: ابي هريرة وانس وجابر وامثالهم في نقل الحديث الشريف الى الامة، فندرت الرواية عنه. ثم ان الراوي الصادق المصدَّق من قبل الجميع يُكتفى بروايته ولا داعي الى رواية غيره، ولذلك ينقل بعض الحوادث المهمة بطريقين او ثلاث.

الاشارة الحادي عشرة

تبين هذه الاشارة المعجزة النبوية في الاحجار والجبال من الجمادات كما اشارت ((الاشارة العاشرة)) الى المعجزة النبوية في الاشجار، نذكر من بين امثلتها الكثيرة ثمانية امثلة:

المثال الاول:

T روى البخاري وعلاّمة المغرب القاضي عياض عن ابن مسعود - خادم e - انه قال: ((لقد كُنّا نَسْمعُ تَسبيحَ الطعامِ وهو يُؤكَل))(1).

المثال الثاني:

T وثبت كذلك عن انس وابي ذر رضي الله عنهما، قال أنس(2) ((أخذ النبيe كفاً من حصىً فسبّحن في يد رسول الله e حتى سمعنا التسبيحَ، ثم صبَّهن في يد ابي بكر رضي الله عنه فسبّحن، ثم في ايدينا فما سبّحن)).

T وروى مثله ابو ذر رضي الله عنه(3) وذكر انهن سبّحن في كف عمر رضي الله عنه ثم وضعهن على الارض فخرسن، ثم اخذهن ووضعهن في كف عثمان، فسبّحن ثم وضعهن في ايدينا فخرسن.

المثال الثالث:

T ثبت بنقل صحيح عن علي وجابر وعائشة رضي الله عنهم انه ما كان يمر النبي e بجبل ولا حجر الاّ وقال:السلام عليك يا رسول الله، ففي رواية علي رضي الله عنه قال: ((كنا بمكة مع رسول الله e فخرج الى بعض نواحيها، فما استَقبلَهُ شجرةٌ ولا جبلٌ الاّ قال له: السلام عليك يا رسول الله))(1).

T وفي رواية جابر رضي الله عنه قال: ((لم يكن النبي e يمرّ بحجر ولا شجرٍ الاّ سجد له))(2) اي: كل منهما ينقاد له ويقول: السلام عليك يا رسول الله.

T وفي رواية أخرى ((عن جابر بن سمرة رضي الله عنه(3): عنه e : اني لأعرف حجراً بمكة كان يسلّم عليّ)) اي قبل ان ابعث ((قيل: انه اشارة الى الحجر الاسود)).

T ((وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي e : لما استقبلني جبريل بالرسالة جعلتُ لا امرُّ بحجرٍ ولا شجرٍ الا قال: السلام عليك يا رسول الله))(4).

المثال الرابع:

T ((وفي حديث العباس رضي الله عنه(5) اذ اشتمل عليه النبي e وعلى بنيه)) وهم عبدالله وعبيد الله والفضل وقثم ((بملاءة(6) ودعا لهم السّتر من النار)) اذ قال: يا رب هذا عمي صنو ابي وهؤلاء بنوه فاسترهم من النار كستري اياهم بملاءتي. ((فأمّنت أسكُفَة الباب وحوائط البيت: آمين آمين)) واشتركن في الدعاء.

المثال الخامس:

T روت الكتب الصحاح متفقة وفي المقدمة البخاري وابن حبان وابو داود والترمذي عن أنس(1) وابي هريرة(2) وعن عثمان ذي النورين(3) وسعيد بن زيد(4) احد العشرة المبشرين بالجنة انه: ((صعد النبي e وابو بكر وعمر وعثمان اُحُداً، فرجف بهم)) من مهابتهم أو من سروره وفرحه، ((فقال: أثبت اُحُد فانما عليك نبي وصدّيق وشهيدان)).

فبهذا الحديث ينبئ e عن شهادة عمر وعثمان إخباراً غيبياً.

T وقد نقل - تتمة لهذا المثال - انه لما هاجر الرسول e من مكة وطلبته كفار قريش صعد على جبل ثُبير، ((قال له ثبير(5): اهبط يا رسول الله فانّى اخاف ان يقتلوك على ظهري فيعذّبني الله. فقال له حراء: اليّ يا رسول الله)).

من هذا يستشعر أهلُ القلب والصلاح الخوف في ثبير والأمن والاطمئنان في حراء.

يفهم من مجموع هذه الامثلة ان الجبال العظيمة مأمورة ومنقادة كأي فرد من الافراد وهي كأي عبدٍ مخلوق يسبّح الله تعالى وله وظيفة خاصة به، وانه يعرف النبي e ويحبّه.. فما خُلقت الجبال باطلاً.





المثال السادس:

T ((وروى ابن عمر رضي الله عنهما(1) ان النبي e قرأ على المنبر: } وما قَدَروا الله حق قدره{ (الانعام:91) ثم قال: يمجِّد الجبارُ نفسه يقول: انا الجبار انا الجبار انا الكبير المتعال. فَرجَف المنبرُ حتى قلنا ليخرنَّ عنه)).

المثال السابع:

T عن حبر الامة وترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنه، وعن ابن مسعود(2) - من علماء الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين، انه قال: ((كان حول البيت ستون وثلاثمائة صنم مثبتة الأرجل بالرصاص في الحجارة فلما دخل رسولُ الله e المسجدَ عام الفتح جعل يشير بقضيب في يده اليها ولا يمسّها. ويقول: } جَاء الحقُّ وزَهَقَ الباطلُ إنَّ الباطلَ كانَ زَهُوقاً{ (3) (الاسراء:81) فما اشار الى وجه صنمٍ الاّ وقع لقفاه ولا لقفاه الاّ وقع لوجهه حتى ما بقي منها صنم))(4).

المثال الثامن:

T هو قصة بحيراء الراهب المشهورة(5) وهي: ان النبي e خرج قبل البعثة مع عمه ابي طالب وجماعة من قريش الى نواحي الشام. ولما وصلوا الى جوار كنيسة الراهب جلسوا هناك ((وكان الراهب لا يخرج الى أحَد فخرج وجعل يتخللهم حتى اخذ بيد رسول الله e فقال: (هذا سيد العالمين يبعثه الله رحمةً للعالمين) فقال له أشياخ من قريش: ما عِلمُك؟ فقال: انه لم يبق شجر ولا حجر الاّ خرّ ساجداً له ولا يسجد الاّ لنبي)). ((ثم قال واقبل e وعليه غمامةٌ تظلّه فلما دنا من القوم وجدهم سبقوه الى فئ الشجرة فلما جلس مالَ الفئ اليه))(1).



T T T



وهكذا فهناك ثمانون مثالاً كهذه الامثلة الثمانية.

فاذا وحَّدْتَ هذه الامثلة الثمانية لأصبحت قوية لا يمكن ان تنال منها شبهة مهما كانت.

فهذا النوع من المعجزات (اي تكلم الجمادات) يشكّل دليلاً جازماً على اثبات دعوى النبوة، وهو في حكم التواتر من حيث المعنى. فكل مثال يستمد قوة اخرى من قوة الجميع تفوق قوته الفردية. مَثَله في هذا، مثل رجل ضعيف انخرط في سلك الجيش، فيتقوى حتى يستطيع ان يتحدى الفاً من الرجال، او كعمود ضعيف لو ضم مع اعمدة قوية يتقوى.

فكيف اذا كانت الروايات كلها صحيحة ورصينة؟.

الاشارة الثاني عشرة

أمثلة ثلاثة مهمة ترتبط بالاشارة الحادية عشرة.

المثال الاول:

T تصرّح الآية الكريمة } وما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ ولكنّ الله رمى{ (الانفال:17) بنصها القاطع وبتحقيق عموم المفسرين العلماء وائمة الحديث: ان الرسول e أخذ في غزوة بدر قبضة من تراب وحصيات ورماها في وجوه جيش الكفار وقال: ((شاهت الوجوه))(1). فدخلت تلك القبضة من التراب الى اعين كل المشركين، مثلما وصلت كلمة ((شاهت الوجوه)) الى آذان كلٍ منهم فصاروا يعالجون عيونهم من التراب، ففرّوا بعدما كانوا في حالة كرٍّ على المسلمين.

T ويروي الامام مسلم(2): ان الكفار في غزوة حنين عندما كانوا يصولون على المسلمين، أخذ النبي e قبضة من تراب ورمى بها في وجوه المشركين وقال: ((شاهت الوجوه)) فما من أحدٍ منهم الاّ ملأ عينيه - باذن الله - تراباً كما سمعت اذنُه هذه الكلمة فولّوا مدبرين.

فهذه الحادثة الخارقة للعادة قد وقعت في بدر وحنين، فهي حادثة تفوق طاقة البشر، كما انها لا يمكن اسنادها الى الاسباب العادية، لذا قال تعالى } وما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ ولكنّ الله رمى{ اي انها حادثة نابعة من قدرة الهية محضة.

المثال الثاني:

T تذكر كتب ائمة الحديث وفي مقدمتها البخاري ومسلم ((ان يهودية - واسمها زينب بنت الحرث - اهدت للنبي e بخيبر شاة مصليّة(3) سمَّتْها، فأكل رسول اللهe منها ، وأكل القوم، فقال: ارفعوا ايديكم، فانها اخبرتني انها مسمومة، فرفع الجميع ايديهم، إلاّ ان بشر بن البراء مات من اثر السم، فدعا e اليهودية وقال لها: ما حَمَلكِ على ما صنعتِ؟ قالت: إن كنت نبياً لم يضرّك الذي صنعتُ، وان كنتَ مَلِكاً أرَحْتُ الناسَ منك. فأمر بها فقُتلت))(1)، وفي بعض الروايات انه لم يأمر بقتلها. قال العلماء المحققون: لم يأمر بقتلها بل دفعها لأولياء بشر بن البراء، فقتلوها(2).

فاستمع الآن الى هذه النقاط الثلاثة لبيان اعجاز هذه الحادثة.

النقطة الاولى: جاء في احدى الروايات: ان عدداً من الصحابة سمعوا قولَها حينما أخبرتْ الشاة عن انها مسمومة(3).

النقطة الثانية: وفي رواية اخرى انه بعدما أخبر الرسول e عن القضية قال: قولوا بسم الله ثم كلوا، فانه لا يضر السم بعدَه. هذه الرواية وان لم يقبلها ابن حجر العسقلاني الاّ ان علماء آخرين قبلوها.

النقطة الثالثة: لقد اطمأن كلُ من سمع كلامه e : ((انها اخبرتني بأني مسمومة)) وكأنه سمعه بنفسه، اذ لم يُسْمَع منه e قولٌ مخالف للواقع قط، وهذه واحدة منه، فبينما يبيّت اليهود الكيد لينزلوا ضربتهم القاضية بالرسول الكريم e وصحبه الكرام رضوان الله عليهم اذا بالمؤامرة تنكشف على اثر خبرٍِ من الغيب وتبطل الدسيسة والمكر السئ، ويقع الخبر كما أخبر عنه e .

المثال الثالث:

هو معجزة الرسول e في ثلاث حوادث تشبه معجزة سيدنا موسى عليه السلام، في معجزة يده البيضاء وعصاه.

الحادثة الاولى:

T اخرج الامام احمد الحديث الصحيح، عن ابي سعيد الخدري رضي الله عنه(1):

ان الرسول e ((اعطى قتادة بن نعمان - وصلى معه العشاء - في ليلةٍ مظلمة مطِرة عُرجوناً. وقال: انطلق به فانه سيضئ لك من بين يديك عشراً ومن خلفك عشراً. فاذا دخلتَ بيتك فسترى سواداً فاضربه حتى يخرج فانه الشيطان، فانطلق، فاضاء له العرجون(2)، حتى دخل بيته ووجد السواد فضربه حتى خرج)).

الحادثة الثانية:

T انقطع سيف عكاشة بن محصن الاسدي وهو يقاتل به في غزوة بدر الكبرى - تلك المعركة التي هي منبع الغرائب - فاعطاه رسول الله e جذلاً من حطب ـ أي عوداً غليظاً – ((وقال: اضرب به فعاد في يده سيفاً صارماً طويل القامة ابيض شديد المتن، فقاتل به، ثم لم يزل عنده يشهد به المواقف الى ان استشهد في قتال اهل الردة))(3) في اليمامة.

هذه الحادثة ثابتة قطعاً، وكان عكاشة يفتخر بذلك السيف طوال حياته، وكان السيف يسمى بــ ((العَوْن))، فاشتهار السيف بـ ((العون)) وافتخار عكاشة به حجتان ايضاً على ثبوت الحادثة.

الحادثة الثالثة:

T روى ابن عبد البر(4) وهو من اعلام عصره من بين العلماء المحققين: ان عبد الله بن جحش - ابن عمة رسول الله e - ((وقد ذهب سيفُه)) في غزوة أحد وهو يحارب، فاعطاه رسول الله e ((عسيب(5) نخل فرجع في يده سيفاً)).

يقول ابن سيد الناس في ((سيره)): فبقي هذا السيف مدّة ولم يزل يتناقل حتى بيع الى شخص يُدعى بغاء التركي بمائتي دينار(1).

فهذان السيفان معجزتان كمعجزة عصا موسى، الاّ انه لم يبق وجه الاعجاز لعصا موسى بعد وفاته عليه السلام، وبقي هذان السيفان معجزتان بعد وفاته e .

الاشارة الثالثة عشرة

ومن معجزاته e : شفاء المرضى والجرحى بنفثه المبارك. وهذ النوع من المعجزات متواتر معنوي - من حيث النوع - أما جزئياتها فقسم منها بحكم المتواتر المعنوي وقسم آخر آحادي، الاّ انه يورث القناعة العلمية والاطمئنان وذلك لتوثيق العلماء له وتصحيح ائمة الحديث.

سنذكر من امثلة هذا النوع من المعجزات بضعة امثلة فقط من بين امثلتها الغزيرة.

المثال الاول:

T يروي القاضي عياض(1) عن سعد بن ابي وقاص وهو من العشرة المبشرين بالجنة وتولى خدمة النبي e واصبح أحد قواده، وقاد جيش الاسلام في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، انه قال: ((ان رسول الله e لَيُناوِلني السهمَ لا نَصْلَ لَهُ، فيقول: إرمِ به، وقد رمى رسول الله e يومئذٍ عن قوسه حتى اندقّت)) كان ذلك في غزوة اُحد، وكانت السهام التي لا نصلَ لها تَمرقُ كالمرّيشة وتثبت في جسد الكفار.

T وقال ايضاً(2): ((واصيب يومئذٍ عين قتادة (بن النعمان) حتى وقعت على وجنته، فرّدها رسول الله e )) بيده المباركة الشافية ((فكانت أحسنَ عَينيه)) واشتهرت هذه الحادثة حتى ان أحد احفاد قتادة حينما جاء الى عمر بن عبد العزيز عرّف نفسَه بانشاده الابيات الآتية:ـ



انا ابن الذي سالَت على الخدِّ عينُه

فرُدَّتْ بكفِّ المصطفى أحسنَ الردّ

فعــادت كمـا كانت لأول أمرهـا

فيا حُسنَ ما عـينٍ ويا حُســنَ ما ردّ

T وثبت ايضاً: انه جعل ريقَه على جراحة: ((أثر سهمٍ في وجه ابي قتادة في يوم ذي قرد(1) قال: فما ضرب عليّ ولا قاح))(2) اذ مسحه رسول الله e بيده المباركة.

المثال الثاني:

T روى البخاري ومسلم وغيرهما: أن الرسول e اعطى الراية علياً يوم خيبر، وكان رمداً، فلما تفل في عينه اصبح ترياقاً لعينه فبرئت بأذن الله(3).

ولما جاء الغد أخذ علي باب القلعة وهو من حديد وكأنه ترس في يده، وفتح القلعة.

T ((ونفث على ضربةٍ بساق سلمة بن الاكوع يوم خيبر فبرئت))(4).

المثال الثالث:

T ((روى النسائي(5) عن عثمان بن حُنَيف: ان اعمى اتى الى رسول الله e ، فقال: يا رسول الله ادعُ الله ان يكشف لي عن بصري. قال: أوَ أدعك؟ قال: يا رسول الله انه قد شقّ عليّ ذهاب بصري. قال: فانطلق فتوضأ ثم صلِّ ركعتين ثم قل: اللهم اني اسألك واتوجه اليك بنبيي محمد نبيّ الرحمة، يا محمد إني اتوجه الى ربك بك، ان يكشف لي عن بصري، اللّهم شفّعه فيّ، وشفّعني في نفسي. فرجع وقد كشف الله عن بصره)).

المثال الرابع:

T ((قطع ابوجهل يوم بدر يد معوَّذ بن عفراء)) أحد الاربعة عشر الذين استشهدوا في بدر ((فجاء يحمل يده فبصق عليها رسول الله e والصقها فلصقت، رواه ابن وهب))(1)- وهو من ائمة الحديث - ثم عاد الى القتال فقاتل حتى استشهد.

T ((ومن روايته ايضاً: أن خُبيب بن يساف أصيب يوم بدر مع رسول الله e ، بضربةٍ على عاتقه حتى مال شقه، فردّه رسول الله e ، ونفث عليه حتى صحّ))(2).

فهاتان الحادثتان وان كانتا آحادية الاّ ان تصحيح الامام الجليل ابن وهب لهما، وكون وقوعهما في منبع المعجزات، بدر، ولوجود شواهد كثيرة من امثالهما يجعلهما لا يشك أحدٌ في وقوعهما.

وهكذا هناك الف مثال ومثال قد ثبت بالاحاديث الصحيحة، من ان يد الرسول الاعظم e اصبحت شفاء ودواء لذوي العاهات والمرضى.

لو سطرت هذه القطعة بماء الذهب

ورصّعت بالالماس لكانت جديرة

حقاً! وكما مرّ سابقاً:

ان تسبيح الحصى وخشوعه في كفه e ..

وتحول التراب والحصيات فيها كقذائف في وجوه الاعداء حتى ولّوا مدبرين بقوله تعالى: } وما رَميْتَ اذ رَميْتَ ولكن الله رمى{ .

وانفلاق القمر فلقتين بأصبع من الكف نفسها كما هو نص القرآن الكريم:} وانشقّ القَمَر{ ..

وفوران الماء كعينٍ جارية من بين الاصابع العشرة وارتواء الجيش منه...

وكون تلك اليد بلسماً للجرحى وشفاء للمرضى..

ليبيّن بجلاء:

مدى بركة تلك اليد الشريفة..

ومدى كونها معجزة قدرة إلهية عظيمة.

لكأن كف تلك اليد:

زاوية ذكر سبحانية صغيرة بين الأحباب، لو دخلها الحصى لسبّح وذكر..

وترسانة ربانية صغيرة تجاه الاعداء، لو دخلها التراب لتطاير تطاير القنابل..

وتعود صيدلية رحمانية صغيرة للمرضى والجرحى، لو لامست داء لغدت له شفاء..

وحينما تنهض تلك اليد تنهض بجلال فتشق القمر شقين باصبع منها.

واذا التفتت التفاتة جمال فجّرت ينبوع رحمة يَدفُق من عشر عيون تجري كالكوثر السلسبيل

فلئن كانت يد هذا النبي الكريم e موضع معجزات باهرة الى هذا الحد.. ألا يدرك بداهةً:

مدى حظوته عند ربه

مبلغ صدقه في دعوته

ومدى سعادة اولئك الذين بايعوا تلك اليد المباركة ؟.

سؤال: انك تقول في كثير من الروايات انها متواترة، بينما لم نسمع بها الاّ الآن فهل يُجهل التواتر الى هذا الحد؟.

الجواب: هناك امور كثيرة متواترة لدى علماء الشرع بينما هي مجهولة لدى غيرهم فلدى علماء الحديث من الاحاديث المتواترة ما لا يعرف الاّ بالاحاد لدى سواهم.. وهكذا، فبديهيات ونظريات كل علم انما تُبيَّن حسب ما تواضع عليه اهل اختصاص ذلك العلم، أما بقية الناس فهم يعتمدون عليهم في ذلك العلم. فإما أنهم يستسلمون لقولهم، أو يعكفون على دراسة ذلك العلم فيجدون ما وجدوه.

فما أخبرنا عنه من المتواتر الحقيقي أو المعنوي، أو ما هو بحكم المتواتر من الحوادث، قد بيّن حكمَها رجالُ الحديث، وعلماء الشريعة وعلماء الاصول، واغلب العلماء الاخرين. فاذا جَهِلَه العوام الغافلون، أو مَن يغمض عينه عن العلم من الجهال، فلا يقع اللومُ الاّ عليهم.

المثال الخامس:

T أخرج الامام البغوي:(1) اصابت ((ساق علي بن الحكم يوم الخندق اذ انكسرت)) فمسحها رسول الله e (( فبرىء مكانه، وما نزل عن فرسه)).

المثال السادس:

T روى البيهقي وغيره ((اشتكى علي بن ابي طالب، فجعل يدعو، فقال النبي e : اللّهم اشفه أو عافه ثم ضربه برجله، فما اشتكى ذلك الوجع بعدُ))(2).





المثال السابع:

T ((كانت في كف شرحبيل الجعفي سلعةٌ (1) تمنعه القبض على السيف وعنان الدابة فشكاها للنبي e ، فما زال يطحنها(2) بكفه حتى رفعها ولم يبق لها أثرٌ))(3).

المثال الثامن:

ستة من الاطـفال نالوا – كلٌ على حـدة - معــجزة مـن معــجزات الرسول الأكرم e .

الأول:

T روى ابن ابي شيبة - وهو من ائمة الحديث - أنه: ((اتَتْه e أمرأةٌ من خثعم معها صبي به بلاء لا يتكلم، فأتي بماء، فمضمض فاهُ وغسل يديه، ثم اعطاها إياه، وأمرها بسقيه ومسّه به، فبرأ الغلام وعقل عقلاً يفضُلُ عقول الناس))(4).

الثاني:

T ((وعن ابن عباس: جاءت امرأة بابن لها به جنون، فمسح e صدرَه فثعَّ ثعَّة فخرج من جوفه مثل الجرو الاسود))(5)- شئ اسود كالخيار الصغير - فشفي.

الثالث:

T روى الامام البيهقي والنسائي(6): ((انكفأت(7) القدر على ذراع محمد بن حاطب، وهو طفل فمسح عليه e ودعا له)) ونفخ نفخاً فيه ريقه الشريف فبرأ لحينه.

الرابع:

T ((ان النبي e اُتي بصبّي قد شبّ)) أي كَبُر ((لم يتكلم قط، فقال: من أنا؟ فقال: رسول الله))(1) فانطقه الله.

الخامس:

T اخرج امام العصر جلال الدين السيوطي - الذي تشرّف في اليقظة برؤية النبي e مراراً - أنه: جاء رسول الله e رجلٌ من أهل اليمامة بغلام يوم ولد، فقال له رسول الله e : يا غلام من أنا؟. فقال: انت رسول الله. قال: صدقت بارك الله فيك. ثم ان الغلام لم يتكلم حتى شبّ فكان يسمى بمبارك اليمامة لدعاء النبي e له بالبركة(2).

السادس:

T ((ودعا على صبي)) خشن الطبع ((قطع عليه الصلاة ان يقطع الله أثره فاُقْعِد))(3) ونال جزاء فظاظته.

السابع:

T ((سألتْه جارية طعاماً وهو يأكل، فناولها من بين يديه، وكانت قليلة الحياء، فقالت: انما أريد من الذي في فيك، فناولها ما في فيه، ولم يكن يُسأل شيئاً فيمنعه. فلما استقرّ في جوفها اُلقي عليها من الحياء ما لم تكن أمرأةٌ بالمدينة أشدّ حياء منها))(4).



T T T



وهكذا هناك امثلة غزيرة تربو على الثمانمائة مثال كالتي ذكرناها، وقد بيّنت كتب الاحاديث والسير معظمها.

نعم، لما كانت اليد المباركة للرسول الكريم e كصيدلية لقمان الحكيم، وبصاقه كماء عين الحياة لخضر عليه السلام، ونفثه كنفث عيسى عليه السلام في الشفاء، وان بني البشر يتعرضون للمصائب والبلايا، فلا ريب انه قد أتى اليه مالا يحد من المرضى والصبيان والمجانين ولا شك انهم قد شفوا جميعاً من امراضهم وعاهاتهم. حتى ان طاووساً اليماني وهو من ائمة التابعين المشهور بزهده وتقواه إذ حج اربعين مرة وصلى صلاة الصبح بوضوء العشاء اربعين سنة، ولقي كثيراً من الصحابة الكرام، هذا العالم الجليل يخبر جازماً فيقول: ما من مجنون جاء الى النبيe ووضع يده الشريفة على صدره الاّ شفي من جنونه.

فإذا اخبر امام كالطاووس اليماني - الذي ادرك الصحابة الكرام - هذا الخبر الجازم فلا ريب أنه قد جاء الى النبي e كثير جداً من المرضى، ربما يبلغ الالوف وكلهم شفوا من امراضهم.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-03-2011
  #22
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 15
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: المكتوبات

الاشارة البليغة السابعة

نشير الى بضع امثلة من المعجزات النبوية التي تخص بركة الطعام وثبتت بروايات صحيحة قاطعة وبالتواتر المعنوي. ونرى من الأنسب ان نقدّم بين يديها مقدمة.

المـقدمة

ان الامثلة التي سترد حول معجزة بركة الطعام كل منها قد روي بطرق متعددة، بل ان قسماً منها روي بستة عشر طريقاً، وقد وقع معظم هذه الامثلة امام جماعة غفيرة من الصحابة الكرام المنزّهين عن الكذب والذين لهم المنزلة الرفيعة في الصدق والامانة.

مثال للتوضيح:

يروي احدهم انه: اكل سبعون رجلاً من صاعٍ(1) وشبعوا جميعاً. فالرجال السبعون يسمعون هذه الرواية التي يحكيها احدهم، ثم لا يخالفونه ولا ينكرون عليه، اي أنهم يصدّقونه بسكوتهم.

فالصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم اجمعين كانوا في ذروة الصدق والحق حيث انهم عاشوا في خير القرون وهم محفوظون من الاغضاء على الباطل، فلو كان يرى احدهم شيئاً ولو يسيراً من الكذب في اي كلام كان لما وسعه السكوت عليه قطعاً، بل كان يردّه حتماً.

لذا فالروايات التي نذكرها فضلاً عن انها رويت بطرق متعددة فقد سكت عنها الآخرون تصديقاً بها، اي كأن الجماعة قد رووها فالساكت منهم كالناطق بها فهي اذن تفيد القطعية كالمتواتر المعنوي.

ويشهد التأريخ ـ والسيرة خاصة ـ أن الصحابة الكرام قد وقفوا أنفسهم بعد حفظ القرآن الكريم لحفظ الحديث الشريف، أي حفظ احواله e وافعاله واقواله، سواء منها المتعلقة بالاحكام الشرعية أم بالمعجزات، ولم يهملوا ـ جزاهم الله خيراً ـ اية حركة مهما كانت صغيرة من سيرته المباركة، بل اعتنوا بها وبروايتها، ودوّنوها في مدوّنات لديهم، ولا سيما العبادلة السبعة وبخاصة ترجمـان القرآن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وهكذا حُفظت الاحاديث في عهد الصحابة الكرام حتى جاء كبار التابعين بعد ثلاثين أو أربعين سنة فتسلّموها غضةً طريةً منهم وحفظوها بكل امانة واخلاص، فكتبوها ونقلها عنهم بعد ذلك الائمة المجتهدون وألوف المحققين والمحدّثين وحفظوها بالكتابة والتدوين، ثم تسلّمها ـ بعد مضي مائتي سنة من الهجرة ـ اصحاب الكتب الستة الصحيحة المعروفة وفي مقدمتهم البخاري ومسلم، ثم جاء دور النقّاد واهل الجرح والتعديل، وبرز منهم متشددون ـ امثال ابن الجوزي ـ فميّزوا الاحاديث الموضوعة التي دسّها بعض الملاحدة وجهلة الناس على الاحاديث الصحيحة. ثم اعقبهم علماء أفاضل ذوو تقوى وورع امثال جلال الدين السيوطي وهو العلاّمة الامام الذي تشرف بمحاورة الرسول e فتمثل له في اليقظة سبعين مرة ــ كما يصدّقه أهل الكشف من الاولياء الصالحين ـ فميّزوا جواهر الاحاديث الصحيحة من سائر الكلام والموضوعات.

وهكذا ترى ان الاحاديث ـ والمعجزات التي سنبحث عنها ــ قد انتقلت الينا سليمة صحيحة بعد ان تسلّمها مالا يعد ولا يحصى من الأيدي الأمينة ((فالحمدلله، هذا من فضل ربي)).

وعليه فلا ينبغي أن يخطر بالبال: كيف نعرف أن هذه الحوادث التي حدثت منذ مدة سحيقة قد ظلت مصونة سالمة من يد العبث؟

أمثلة حول معجزات بركة الطعام:

المثال الأول:

T اتفقت الصحاح الستة، وفي مقدمتها البخاري ومسلم في حديث أنس رضي الله عنه ((قال: كان النبي e عروساً بزينب، فعَمِدَتْ أمي أمّ سُلَيم الى تمر وسمن وأقط، فصنعت حيساً فجعلته في تور(1) فقالت: يا أنس! اذهب بهذا الى رسول الله e فقل بعثتْ بهذا اليكَ امي، وهي تقرئك السلام، وتقول: ان هذا لك منّا قليل يا رسول الله! فذهبت فقلت))، فقال: ((ضعْهُ)) ثم قال: ((اذهب فادعُ لي فلاناً)) وفلانا وفلاناً رجالاً سمّاهم ((وادعُ مَن لقيتَ)) فدعوتُ مَن سمّى ومَن لقيتُ فرجعتُ فاذا البيت غاص باهله، قيل لأنس: عددكم كم كانوا؟ قال: زهاء ثلاثمئة. فرأيت النبيe وضع يده على تلك الحيسة وتكلم بما شاء الله ثم جعل يدعو عشرةً عشرةً يأكلون منه، ويقول لهم: ((اذكروا اسم الله، وليأكل كلُّ رجل مما يليه)) قال: فأكلوا حتى شبعوا، فخرجت طائفة، ودخلت طائفة، حتى اكلوا كلهم قال لي: ((يا أنس! ارفع)) فرفعتُ، فما ادرى حين وضعتُ كان اكثر ام حين رفعتُ(1).

المثال الثاني:

T نزل النبي e ضيفاً عند ابي ايوب الانصاري فذات يوم ((صنعَ لرسول الله e ولابي بكر رضي الله عنه من الطعام زُهاء ما يكفيهما. فقال له النبي e : ادعُ ثلاثين من أشرافِ الانصار! فدعاهم فأكلوا حتى تركوا. ثم قال: ادعُ ستين، فكان مثلُ ذلك، ثم قال: ادعُ سبعين فاكلوا حتى تركوه، وما خرج منهم أحدٌ حتى اسلم وبايع، قال ابو ايوب: فأكل من طعامي مئة وثمانون رجلاً))(2).

المثال الثالث:

T ((حديث سلمة بن الاكوع، وابو هريرة، وعمر بن الخطاب (وابو عمرة الانصاري رضي الله عنهم، فذكروا مخمصة أصابت الناس مع النبي e في بعض مغازيه، فدعا ببقية الازواد(3)، فجاء الرجل بالحَثْية من الطعام، وفوق ذلك ، واعلاهم الذي اتي بالصاع من التمر، فَجَمعه على نطْعٍ. قال سلمة: فحرزته، كَربضةِ العنز، ثم دعا الناس باوعيتهم، فما بقي في الجيش وعاء الاّ ملأوه، وبقي منه قدر ما جُعل واكثر، ولو ورده أهلُ الارض لكفاهم))(4).





المثال الرابع:

T ثبت في الصحاح وفي مقدمتها البخاري ومسلم أن عبد الرحمن بن ابي بكر الصديق قال: ((كنا مع النبي e ثلاثين ومئة)) في سفر ((وذكر في الحديث أنه عُجن صاعٌ من طعام، وصُنعَت شاةٌ فشويَ سواد بطنها قال: وايم الله ما من الثلاثين ومئة الاّ وقد حزَّ لهُ حزّةً من سواد بطنها، ثم جعل منها قصعتين فاكلنا اجمعون، وفضل في القصعتين، فحملته على البعير))(1).

المثال الخامس:

ثبت في الصحاح أيضاً:

T ((حديث جابر في اطعامه e يوم الخندق ألف رجل من صاع شعير وعناق(2) وقال جابر: فاُقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وان بُرمَتنا لتَغُط كما هي وان عجيننا ليخبز))(3) وكان الرسول الأكرم e قد وضع في ذلك العجين والقدر من ماء فيه المبارك ودعا بالبركة. فيعلن جابر مقسماً بالله معجزة البركة هذه في حضور الف من الصحابة مُظهراً علاقتهم بها.

فهذه الرواية قطعية وكأن الف رجل قد رواها.

المثال السادس:

T وثبت في الصحاح أن ابا طلحة عمَّ خادم النبي e أنس رضي الله عنه يقول:

ان الرسول الاكرم e اطعَمَ مما أتى به أنسُ تحت ابطه من قليل خبز شعير زهاء ثمانين رجلاً حتى شبعوا. وكان e أمر بأن يجعل ذلك الخبز ارباً ارباً، ودعا بالبركة، وان البيت ضاق بهم فكانوا يأكلون عشرة عشرة، ورجعوا كلهم شباعاً(4).

المثال السابع:

T ثبت في صحيح مسلم والشفا وغيرهما ان جابراً الانصاري يقول: ((ان رجلاً اتى النبي e يستطعمه، فاطعَمَه شطر وَسْق شعير، فما زال يأكل منه هو وأمراتُه وضيفه حتى كالَه)) ليعرفوا ما نقصَ منه، فرأوا أنه زالت منه البركة، وصار ينقص شيئاً فشيئاً. فأتى النبي e فأخبره فقال e : ((لو لم تَكِلْهُ لأكلتم منه ولقام بكم))(1).

المثال الثامن:

T تبين الصحاح كالترمذي والنسائي والبيهقي وكتاب الشفاء ((عن سمرة بن جندب: أتى النبي e بقصعةٍ فيها لحم، فتعاقبوها من غدوة حتى الليل يقوم قوم ويقعد آخرون))(2).

وبناء على ما ذكرناه في المقدمة، هذه الواقعة الواردة في البركة ليست رواية سمرة فقط، بل كأنه ممثلٌ عن تلك الجماعات التي أكلت من ذلك الطعام. فيعلن هذه الرواية بدلاً منهم.

المثال التاسع:

T يروى رجال ثقاة كصاحب الشفاء وابن أبي شيبة والطبراني بسند جيد وعلماء محققون: ((عن ابي هريرة: أمرني النبي e ان ادعوَ له اهلَ الصفة)) وهم فقراء المهاجرين الذين كان ينوف عددهم على مائة. والذين كانوا قد اتخذوا الصفّة في المسجد مأوىً لهم (( فتتبَّعتُهم حتى جمعتُهم. فوُضعَت بين ايدينا صفحةٌ، فأكلنا ما شئنا، وفرغنا، وهي مثلها حين وُضعت، الاَّ أن فيها أثر الاصابع))(3).

فابو هريرة يدلي بهذا الخبر باسم اصحاب الصفة مستنداً الى تصديقهم. فهي رواية قطعية اذاً وكأن جميع أهل الصفة رووها. فهل يمكن ان يكون هذا الخبر خلاف الحق والصواب ثم لا ينكر عليه اولئك الصادقون الكاملون ولا يردّونه؟.

المثال العاشر:

T ثبت برواية صحيحة أن الامام علياً رضي الله عنه قال: ((جمع رسول الله e يوماً بني عبد المطلب وكانوا أربعين، منهم قومٌ يأكلون الجدعة ويشربون الفرق)) اي منهم من يأكل فرع الجمل ويشرب اربع اوقيات من الحليب ((فصنع لهم مُدّاً من طعامٍ فأكلوا حتى شبعوا وبقي كما هو، ثم دعا بعسّ)) اي اناء من خشب حليباً يكفى لثلاثة أو اربعة ((فشربوا حتى رووا. وبقي كأنه لم يشرب))(1).

فهذا مثال واحد لمعجزة بركة الطعام وهو بقطعية شجاعة علي رضي الله عنه وصدقه.

المثال الحادي عشر:

T ثبت برواية صحيحة ((في انكاح النبي e لعلي فاطمة أن النبي e أمر بلالاً بقصعة من اربعة امدادٍ أو خمسة ويذبح جزوراً(2) لوليمتها. قال: فاتيته بذلك فطعن في رأسها، ثم ادخل الناس رُفقة رفقة يأكلون منها، حتى فرغوا، وبقيت منها فضلةٌ، فبرّك فيها وأمر بحملها الى ازواجه، وقال: ((كلن واطعمن مَن غشيكن))(3) حقاً! ان مثل هذا الزواج الميمون لحريٌّ بمثل هذه المعجزة في البركة.

المثال الثاني عشر:

T روى جعفر الصادق عن ابيه محمد الباقر عن ابيه زين العابدين عن علي رضي الله عنه: ((ان فاطمة طبخت قدراً لغذائهما ووجّهت علياً الى النبي e ليتغذى معهما، فأمرها فغرفت منها لجميع نسائه صفحةً صفحة ثم له e ولعلي ثم لها ثم رفعت القدر وانها لتفيض، قالت: فأكلنا منها ما شاء الله))(1).

فعجباً من أمرك ايها الانسان لِمَ لا تصدّق بهذه المعجزة الباهرة تصديق شهود بعد ما سمعت ان رواتها من السلسلة الطاهرة، حتى الشيطان نفسه لا يجد سبيلاً لأنكارها!

المثال الثالث عشر:

T روى الائمة امثال ابي داود وأحمد ابن حنبل والبيهقي عن دُكَين الأحمسي بن سعيد المزين، وعن الصحابي الذي تشرف هو واخوته الستة بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم وهو نعمان بن مقرن الأحمسي المزين، ومن رواية جرير ومن طرق متعددة ان الرسول الأكرم e : ((أمر عمر بن الخطاب ان يزود اربعمائة راكب من أحمس. فقال: يا رسول الله ما هي الاّ أصوع(2) قال: اذهب، فذهب فزوَّدهم منه. وكان قدر الفصيل الرابض من التمر، وبقي بحاله))(3).

هكذا وقعت معجزة البركة هذه، وهي تتعلق باربعمائة رجل، لا سيما بعمر رضي الله عنه. فهؤلاء جميعاً هم الرواة لأن سكوتهم حتماً تصديق للرواية. فلا تقل انها خبر آحاد ثم تمضي الى شأنك فأمثال هذه الحوادث وان كانت خبر آحاد، الاّ انها تورث الطمأنينة في القلب لانها بمثابة التواتر المعنوي.

المثال الرابع عشر:

T ثبت في الصحاح وفي مقدمتها البخاري ومسلم حديث جابر رضي الله عنه ((في دَين أبيه، وقد كان بَذَل لغرماء أبيه أصلَ مالِهِ ليقبلوه ولم يكن في ثمرها سنتين كفافُ دَينهم، فجاءه النبي e بعد أن أمره بجدِّها ــ أي قطعها ــ وجعلها بيادر في أصولها، فمشى فيها ودعا، فأوفي منه جابر غُرماء ابيه وفَضَل مثل ما كانوا يجدُّون كل سنة، وفي رواية مثل ما اعطاهم، قال: وكان الغرماء يهودَ فعجبوا من ذلك))(1).

وهكذا فهذه المعجزة الباهرة في بركة الطعام ليست برواية يرويها جابر واشخاص معدودون فقط وانما هي متواترة من حيث المعنى يرويها جميع هؤلاء الرواة ممثلين لكلّ من تتعلق به هذه الرواية.

المثال الخامس عشر:

T يروى العلماء المحققون رواية صحيحة، وفي مقدمتهم الأمام الترمذي والبيهقي، عن ابي هريرة رضى الله عنه انه قال: أصاب الناس مخمصةٌ في احدى الغزوات ــ وفي رواية في غزوة تبوك ـ ((فقال لي رسول الله e : هل من شئ؟ قلتُ: نعم شئٌ من التمر في المزود(2))) وفي رواية خمس عشرة تمرة ((قال فأتني به، فأدخل يده فأخرج قبضة فبسطها ودعا بالبركة. ثم قال ادعُ عشرة، فأكلوا حتى شبعوا، ثم عشرة كذلك، حتى أطعم الجيش كلهم وشبعوا، قال: خذ ما جئت به وأدخل يدك واقبض منه ولا تكبَّه، فقبضتُ على أكثر مما جئتُ به، فأكلت منه وأطعمت حياة رسول الله e وحياة ابي بكر وعمر الى أن قُتل عثمان فانتهبَ مني فذهب. وفي رواية فقد حملتُ من ذلك التمر كذا وكذا من وسق في سبيل الله))(3).

وهكذا، فان معجزة البركة التي يرويها ابو هريرة، وهو الذي تتلمذ على معلم الكون وسيده محمد e ولازم مدرسة الصفة وبزّ فيها بالحفظ بدعاء النبي له، فهذا الصحابي الجليل يروي هذه الرواية في مجمع من الناس ــ كغزوة تبوك ــ فلا بد ان تكون هذه الرواية متواترة من حيث المعنى، وقوية متينة بقوة الجيش كله اي كما لو كان الجيش كله يرويها.

المثال السادس عشر:

T ثبت في صحيح البخاري والصحاح الاخرى: ان الجوع اصاب ابا هريرة، ((فاستَتَبعَه النبي e ، فوجد لبناً في قدح أهدي اليه، وأمره أن يدعو أهل الصفة. قال: فقلتُ ما هذا اللبن فيهم، كنت أحقَّ أن اصيب منه شربةً أتقوى بها، فدعوتُهم))، وكانوا ينوفون على المائة، فأمر e أن اسقيهم ((فجعلتُ اُعطي الرجل فيشرب حتى يروى. ثم يأخذه الآخر حتى رَوِى جميعهم قال: فأخذ النبي e القدحَ وقال: بقيتُ انا وانت، اقعد فاشرب. فشربت ثم قال: اشرب. وما زال يقولها وأشربُ حتى قُلت: لا، والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكاً. فأخذ القدح وحمد الله وسمّى وشرب الفضلة))(1). فهنيئاً لك مائة الف مرة يا رسول الله.

فهذه المعجزة السليمة من شوائب الشك والخالصة اللطيفة كاللبن قد روتها كتب الصحاح وفي مقدمتها صحيح الامام البخاري الذي كان حافظاً لخمسمائة الف حديث. فهي اذن رواية لا ريب فيها قط وصادقة وثابتة كأنها مشهودة رأي العين، مثلما رواها تلميذ المدرسة الأحمدية المقدسة، مدرسة الصفّة، ذلك التلميذ الموثوق الحافظ ابو هريرة، رواها باسم اصحاب الصفة جميعهم وأشهدهم عليها.

فالذي لا يتلقى هذا الخبر تلقياً كأنه يشاهده، فهو إما فاسد القلب أو فاقد العقل.

تُرى هل من الممكن أن صحابياً جليلاً مثل ابي هريرة الصادق الذي بذل حياته في حفظ الحديث النبوي، أن يحط من قيمة ما حفظه من الاحاديث النبوية فيورد ما يثير الشك والشبهة ويقول ما يخالف الحق والواقع، وهو الذي سمع قول النبي e : ((مَنْ كَذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) حاشاه عن ذلك.

فيارب بحرمة بركة هذا الرسول الكريم e هب لنا البركة فيما منحتنا من ارزاق مادية ومعنوية.



نكتة مهمة

بديهي انه كلما اجتمعت اشياء واهية ضعيفة تقوّت. واذا اُبرمت خيوط رفيعة واتحدت صارت عروة وثقى لا تنفصم. وقد اوردنا هنا ستة عشر مثالاً لقسمٍ من خمسة عشر قسماً من نوع معجزة البركة التي تمثل نوعاً من خمسة عشر نوعاً من انواع المعجزات، وكل مثال اوردناه قويٌ في حد ذاته وكاف وحده لإثبات النبوة. ولو فرضنا ــ فرضاً محالاً ــ بأن بعضاً منها ضعيف غير قوي في ذاته، فلا يجوز الحكم عليه بأن المثال لا يقوى دليلاً على المعجزة لأنه يتقوى بأتفاقه مع القوي.

ثم ان اجتماع هذه الامثلة الستة عشر التي هي في درجة التواتر المعنوي يدل على معجزة كبرى قوية، ولو مُزجَت هذه المعجزة مع سائر الاقسام الاربعة عشر من معجزاته e حول البركة التي لم تذكر هنا، لغدت معجزة هائلة كالحبال المتحدة التي لا انفصام لها. ثم انك لو اضفت هذه المعجزة الهائلة القوية الى سائر انواع المعجـزات الاربع عشرة لرأيـت برهـاناً قوياً لا يـتزلـزل، برهـاناً باهراً على النـبوة الصادقة.

وهكذا فعماد النبوة الأحمدية عماد كالطود الاشم تتشكل من مجموعة هذه المعجزات.

ولا شك انك ادركت الآن مدى سخافة وبلاهة مَن يرى هذا البناء الشامخ العامر للنبوة ثم يظن أنها تهوى بشبهات واهية ترد الى ظنه من جزئيات الامثلة.

نعم! ان تلك المعجزات التي تخص البركة في الطعام تدل دلالة قاطعة على نبوة محمد e وانه مأمور محبوب لدى ذلك الرحيم الكريم الذي يمنح الرزق ويخلقه. وهو عبد كريم لديه بحيث يبعث له مستضافات مملوءة بانواع من الرزق ـ خلافاً للمعتاد ـ من العدم ومن خزائن الغيب التي لا تنفد.

ومعلوم أن الجزيرة العربية شحيحة بالماء والزراعة بحيث ان اهاليها ـ لا سيما في صدر الاسلام ـ كانوا في ضيق من المعيشة وشدة منها وشحة من الماء والتعرض للعطش. فبناء على هذه الحكمة، فقد ظهرت اهم المعجزات الاحمدية الباهرة ظهوراً في الطعام والماء.

فهذه المعجزات انما هي بمثابة اكرام رباني، واحسان الهي، وضيافة رحمانية للرسول الكريم e ، يكرمه حسب الحاجة، فهي اكرام اكثر من ان تكون دليلاً على النبوة. لأن الذين رأوا هذه المعجزات، كانوا مؤمنين ايماناً قوياً بالنبوة. فالمعجزة كلما ظهرت يتزايد الايمان ويتقوى، وهكذا تزيدهم هذه المعجزات نوراً على نور ايمانهم.

الاشارة البليغة الثامنة

تبين قسماً من المعجزات التي تتعلق بالماء.

المـقــدمة

ان الحوادث التي تقع بين اظهر الناس، اذا ما نُقلت بطريق الآحاد ولم تُكذَّب فهي دلالة على صدق وقوعها، لان فطرة الانسان مجبولة على ان يفضح الكذب ويرفضه. ولا سيما اولئك الذين لا يسكتون على الكذب وهم الصحب الكرام، وبخاصة اذا كانت الاحداث تتعلق بالرسول الاكرم e ، وبالاخص ان الرواة هم من مشاهير الصحابة. فيكون راوي ذلك الخبر الواحد حينذاك كأنه ممثل لتلك الجماعة التي شاهَدَتْه شهود عيان. علماً ان كل مثال من امثلة المعجزات المتعقلة بالماء التي سنبحث عنها قد رُوي بطرق متعددة، عن كثير من الصحابة الكرام وتناوله ائمة التابعين وعلماؤهم بالحفظ وسلّموا كل رواية منها بأمانة بالغة الى الذين يأتون من بعدهم في العصور الاخرى. فتلقاه العصر الذي بعدهم بجدّ وامانة ونقلوه بدورهم الى علماء العصر التالي، وهكذا تعاقبت عليه الوف العلماء الأجلاء في كل عصر وكل طبقة، حتى وصل الى يومنا هذا، فضلاً عن ان كتباً للاحاديث قد دوّنت في عصر النبوة وسُلّمت من يد الى يد حتى وصلت الى ايدي ائمة الحديث من امثال البخاري ومسلم فَوعوها وعياً كاملاً، وميّزوا هذه الروايات حسب مراتبها، وقاموا بجمع كل ما هو صحيح خالٍ من شائبة الشبهة في صحاحهم، فارشدونا الى الصواب.. جزاهم الله خيراً.

مثال: ان فوران الماء من اصابع الرسول e ، وسقيه كثيراً من الناس، حادث متواتر. نقلته جماعة غفيرة لا يمكن تواطؤهم على الكذب بل محال كذبهم. فهذه المعجزة اذاً ثابتة قطعاً، فضلاً عن انها قد تكررت ثلاث مرات امام ثلاث جماعات عظيمة.

فقد روت الحادثة برواية صحيحة جماعة من مشاهير الصحابة، وفي مقدمتهم أنس ((خادم الرسول e )) وجابر وابن مسعود ونقلها الينا ـ بسلسلة من الطرق ـ ائمةُ الحديث امثال البخاري ومسلم والامام مالك وابن شُعيب وقتادة رضوان الله تعالى عليهم اجمعين.

وسنذكر تسعة امثلة فحسب من المعجزات المتعلقة بالماء.

المثال الاول:

T ثبت في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما: ((عن انس بن مالك قال رأيت رسول الله e وحانت صلاة العصر فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوه)). ((قال: اُتي النبيُّ e باناء وهو بالزوراء(1)، فوضع يده في الاناء، فجعل الماء ينبع من بين اصابعه، فتوضأ القوم. قال قتادة، قلت لأنس: كم كنتم؟ قال: ثلاثمائة أو زهاء ثلاثمائة))(2).

فأنت ترى ان انساً رضي الله عنه يخبر عن هذه الحادثة بوصفه ممثلاً عن ثلاثمائة رجل. فهل يمكن الاّ يشترك اولئك الثلاثمائة في هذا الخبر معنىً وهل يمكن ألاّ يكذبوه ـ حاشاه ـ إن لم تكن هذه الحادثة قد حدثت فعلاً؟.

المثال الثاني:

T ثبت في الصحاح وفي مقدمتها البخاري ومسلم: ((عن سالم بن ابي الجعد عن جابر بن عبد الله الانصاري رضي الله عنهما قال: عطش الناس يوم الحديبية والنبي e بين يديه ركوةٌ(3)، فتوضأ، فجهش الناس نحوهُ فقال: مالكم؟ قالوا: ليس عندنا ماء نتوضأ ولا نشرب، الاّ ما بين يديك. قال جابر: فوضع النبي e يده في الركوة فجعل الماء يثور من بين اصابعه، كامثال العيون، فشربنا وتوضأنا. قال سالم: قلت لجابر: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة الف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة))(4) فترى ان رواة هذه المعجزة يبلغون الفاً وخمسمائة رجل من حيث المعنى لأن الانسان مفطور على ان يفضح الكذب ويقول للكذب هذا كذب، فكيف بهؤلاء الصحابة الكرام الذين ضحوا بارواحهم واموالهم وآبائهم وابنائهم واقوامهم وقبائلهم في سبيل الحق والصدق؟ فضلاً عن انه محال ان يسكتوا على الكذب بعدما سمعوا التهديد المرعب في الحديث الشريف (من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار . فماداموا لم يعترضوا على الخبر بل قبلوه ورضوا به، فقد أصبحوا اذاً مشتركين في الرواية ومصدِّقين لها من حيث المعنى.

المثال الثالث:

T تروى الكتب الصحاح ((ومنها البخاري ومسلم))(1) في ذكر غزوة (بُواطٍ)(2) أن جابراً قال: ((قال لي رسولُ الله e : يا جابر نادِ الوضوء)) فقيلَ لا يوجد لدينا الماء. فأراد ماء يسيراً. ((فأُتي به النبي e فغمزه(3)، وتكلّم بشئ لا ادري ما هو. وقال: نادِ بجفنة الركب، فاتيتُ فوضعتها بين يديه، وذكر ان النبيe بَسَط يده في الجفنة وفرّق اصابعه. وصبّ جابرٌ عليه وقال: بسم الله! قال: فرأيت الماء يفور من بين اصابعه، ثم فارت الجفنة واستدارت حتى امتلأت، وأمر الناس بالاستقاء، فاستقوا حتى رووا. فقلت هل بقي احدٌ له حاجة؟ فرفع رسول الله e يده من الجفنة وهي ملأى)).

فهذه المعجزة الباهرة متواترة من حيث المعنى، لأن جابراً كان في مقدمة المشاهدين فمن حقه اذاً ان يتكلم هو فيها، ويعلنها على لسان القوم حيث كان يخدم الرسول e آنذاك.

T وفي رواية ابن مسعود في الصحيح: ((ولقد رأيتُ الماء ينبعُ من بين اصابع رسول الله e ))(4).

يا ترى اذا روى صحابة ثقاة اجلاء من امثال انس وجابر وابن مسعود وقال كل منهم: ((رأيت))، أمن الممكن عدم رؤيتهم؟

وبعد؛ وَحِّد هذه الامثلة معاً، لترى مدى قوة هذه المعجزة الباهرة، لأن الطرق الثلاثة اذا ما توحدت فستثبت الرواية اثباتاً قاطعاً بالتواتر المعنوي، من ان الماء كان يفور من أصابعه e فهذه المعجزة أعظم وأسمى من تفجير موسى عليه السلام الماء من اثنتي عشر عيناً من الحجر لأن انفجار الماء من الحجر شئ ممكن له نظيره حسب العادة، ولكن لا نظير لفوران الماء من اللحم والعظم كالكوثر السلسبيل.

المثال الرابع:

T روى الامام مالك في كتابه القيّم (الموطأ(1)) عن أجلة الصحابة ((عن معاذ بن جبل في قصة غزوة (تبوك) انهم وردوا العين وهي تبض بشئ من ماء(2) مثل الشراك)) فأمر رسول الله e أن : اجمعوا من مائها ((فغرفوا من العين بايديهم حتى اجتمع في شئ. ثم غسل رسول الله e فيه وجهه ويديه واعاده فيها فَجَرت بماء كثير فاستقى الناس)) حتى قال في حديث ابن اسحاق ((فانخرق من الماء مالَه حِسّ كحس الصواعق. ثم قال: يوشِك يا معاذ إن طالت بك حياةٌ ان ترى ما هاهنا قد ملئ جناناً)) وكذلك كان.

المثال الخامس:

T روى البخاري عن البراء، ومسلم عن سلمة بن الاكوع، وعن طرق اخرى في كتب الصحاح الاخرى ((كنا يوم الحديبية اربع عشرة مائة، والحديبية بئر، فنزحناها، حتى لم نترك فيها قطرة فجلس النبي e على شفير البئر فدعا بماء فمضمض ومجّ في البئر فمكثنا غير بعيد ثم استسقينا حتى روينا ورَوَت أو صَدَرَت ركائبنا))(3) قال البراء: فأمر e بدلو من مائها، فأتينا بها، فألقى ريقه من فمه المبارك ودعا، ثم بعد ذلك أفرغ الدلو في البئر ففارت وارتفعت ملء فمها فأرووا انفسهم وركابهم.

المثال السادس

T روى ائمة الحديث، امثال مسلم وابن جرير الطبري وغيرهما عن ابي قتادة انه قال: ((ان النبي e خرج بهم ممدّاً لأهل مؤتة عندما بلغه قَتْل الامراء))(4) وكانت لديّ مِيضأة. فقال الرسول e : ((احفظ على مِيضأتك فانه سيكون لها نبأ)) وبعد ذلك أخذ العطش يشتد بنا وكنا اثنين وسبعين ـ وفي رواية الطبري كنا زهاء ثلاثمائة ـ فقال الرسول الكريم e : ((ائت ميضأتك. فأتيتُها فأخَذَها ووضع فمه في فمها ولم ادر أتنفسَ فيها أم لا؟ ثم بعد ذلك جاء أثنان وسبعون رجلاً فشربوا منها وملأوا اوعيتهم ثم بعد ذلك أخذتها ـ أي الميضأة(1) ـ فبقيت مثل ما كان))(2) فتأمل في هذه المعجزة الباهرة وقل:

اللّهم صلّ وسلم عليه وعلى آله بعدد قطرات الماء.

المثال السابع:

T روى البخاري ومسلم عن عمران بن حُصين حين اصاب النبي e وأصحابه عطشٌ في بعض اسفارهم ((كنا في سفر مع النبي e ... فاشتكى اليه الناس من العطش فنزل... ودعا عليا فقال: اذهبا فابتغيا الماء، فانطلقا فتلقيا أمرأة بين مُزادتين... فجاءا بها الى النبي e ... ودعا النبي e باناء ففرّغ فيه من افواه المزادتين، ونودي في الناس اسقوا فاستقوا... وانه ليُخيّل الينا انها اشدّ ملأة منها حين ابتدأ فيها)).

وقال النبي e : ((اجمعوا لها فجمعوا لها... حتى جمعوا لها طعاماً فجعلوه في ثوب وحملوها على بعيرها... قال لها: تعلمين ما رُزئنا من مائكِ شيئاً ولكن الله هو الذي أسقانا... الى اخر الحديث))(3).

المثال الثامن:

T روى ابن خزيمة حديث ((عمر رضي الله عنه في جيش العسرة، وذكر ما اصابهم من العطش حتى ان الرجل لينحُر بعيرَه فيـعـصر فَرْثَه فيشـرَبُه، فرغـب ابو بكر رضي الله عنه الى النبي e في الدعاء. فرفع يديه فلم يُرجعهما حتى قالت(4) السماء فانسكبت فملأوا ما معهم من آنية ولم تجاوز العسكر))(5).

فهذه معجزة احمدية محضة لا دخل للمصادفة فيها قط.

المثال التاسع:

T عن عمرو بن شعيب (حفيد عبد الله بن عمرو بن العاص ) الذي وثّقه الائمة الاربعة من اصحاب السنن في تخريجه الاحاديث: ((أن ابا طالب قال للنبيe وهو رَديفُه بذي المجاز: عطشتُ وليس عندي ماء. فنزل النبي e وضرب بقدمه الارض فخرج الماء، فقال اشرب))(1).

قال احد العلماء المحققين: هذه الحادثة كانـت قبـل النبوة لذا فهي من الارهاصات. وتفجر عينُ عرَفَه بعد مضي الف سنة يُعدّ من الاكرامات الإلـهية للرسول الكريم e .

وهكذا فالمعجزات المتعلقة بالماء، وان لم تبلغ تسعين مثالاً من امثال هذه التسعة الاّ انها رويت بتسعين وجهاً.

والامثلة السبعة الاولى قوية، وقطعية، كالتواتر المعنوي. اما المثالان الاخيران ــ وان لم تكن طرقهما قوية ومتعددة ورواتهما كثيرة الاّ ان اصحاب الحديث كالامام البيهقي والحاكم رووا عن عمر رضي الله عنه معجزة ثانية حول السحاب تأييداً للمعجزة في المثال الثامن التي رواها سيدنا عمر. والرواية هي أنه: ((اصاب الناس في بعض مغازيه e عطش فسأله عمر الدعاء، فدعا، فجاءت سحابة فسقتهم حاجتهم ثم اقلعت))(2) وكأن السحاب كان مأموراً لأن يروى الجيش وحده ـ حيث امطر حسب الحاجة ــ فكما تؤيد هذه الحادثة المثال الثامن وتقويّه، وتبينه رواية ثابتة قاطعة. فان ابن الجوزي ــ الذي يتشدد ويرّد حتى بعض الاحاديث الصحيحة ويجعلها في عداد الموضوعات ــ يقول: ان هذه الحادثة وقعت في غزوة بدر ونزلت في حقها الآية الكريمة: } ويُنزِّلُ عَليكُم مِن السّماء ماء لِيُطَهّركُم بِه{ (الانفال: 11).

فما دامت هذه الآية قد نزلت في حقها وبيَّنتها بوضوح، فلاشك اذاً في وقوعها.

وقد تكرر كثيراً نزول المطر بدعاء النبي e قبل ان تنزل يداه المرفوعتان وهي معجزة مستقلة بحد ذاتها. وقد استسقى النبي e احياناً وهو على المنبر، ونزلت الامطار قبل ان يخفض يده. وقد ثبت هذا عن طريق متواتر.

الاشارة البليغة التاسعة

ان أحد أنواع معجزات الرسول الاكرم e هو امتثال الأشجار لأوامره كامتثال البشر، وانخلاعها من اماكنها ومجيئها اليه. فهذه المعجزة المتعلقة بالاشجار هي متواترةٌ من حيث المعنى كفوران الماء من اصابعه المباركة ولها صور متعددة وقد رُويت بطرق كثيرة.

نعم! يصح ان يقال ان خبر انخلاع الشجرة من موضعها ومجيئها ممتثلة لأمر الرسول الاكرم e متواتر تواتراً صريحاً(1)، حيث قد رويت هذه الرواية من قبل صحابة كرام صادقين معروفين، امثال: علي وابن عباس وابن مسعود وابن عمر ويعلى بن مرة وجابر وانس بن مالك، وبُريدة واسامة بن زيد وغيلان بن سلمة، وغيرهم فأخبر كلٌ منهم عن هذه المعجزة المتعلقة بالاشجار إخباراً ثابتاً قاطعاً. ونقلها عنهم مئات من ائمة التابعين بطرق مختلفة، في بداية كل طريق صحابي جليل، اي كأنها نقلت الينا نقلاً متواتراً مضاعفاً؛ لذا فلا يداخل هذه المعجزة ريبٌ ولا شبهة قط، فهي في حكم المتواتر المعنوي المقطوع به.

فهذه المعجزة وإن تكررت مرات عدة، الاّ اننا سنبين عدداً من صورها الصحيحة الكثيرة، ونوردها في بضعة امثلة:

المثال الاول:

T روى ابن ماجة والدارمي والبيهقي عن انس بن مالك وعلي، وروى البزار والبيهقي عن عمر، ان ثلاثة من الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين قالوا: كان الرسول الاكرم e قد حزن حزناً شديداً من تكذيب الكفار له ((قال: اللّهم! أرني آية لا أبالي من كذّبني بعدها)). وفي رواية أنس ((ان جبريل عليه السلام قال للنبي e ورآه حزيناً: أتحب ان أريك آية. قال: نعم! فنظر رسول الله e الى شجرةٍ من وراء الوادي، فقال: أدعُ تلك الشجرة، فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه، قال: مُرها فلترجع، فعادت الى مكانها))(2).

المثال الثاني:

T روى القاضي عياض ـ علاّمة المغرب ـ في كتابه (الشفاء) بسند عال صحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال:

((كنا مع رسول الله e في سفر، فدنا منه اعرابي، فقال: يا اعرابي: اين تريد؟ قال: الى اهلي. قال: هل لك الى خير؟ قال: وما هو؟ قال: تشهد ان لا إله الاّ الله وحده لا شريك له وان محمداً عبدهُ ورسوله. قال: مَن يشهد لك على ما تقول؟ قال: هذه الشجرةُ السَّمُرة(1)، وهي بشاطيء الوادي، فاقبلت تخدّ الارض، حتى قامت بين يديه، فاستشهدها ثلاثاً فَشهِدت أنه كما قال. ثم رجعت الى مكانها))(2).

وعن بُريْدَة عن طريق ابن صاحب الاسلمي بنقل صحيح: ((سأل اعرابي النبي e آية، فقال له: قل لتلك الشجرة، رسول الله يدعوك. قال: فمالت الشجرة عن يمينها وشمالها وبين يديها وخلفها، فتقطعت عروقُها، ثم جاءت تَخدّ الارض تَجرُّ عروقها(3) مُغيّرة حتى وقفت بين يدي رسول الله e . فقالت: السلام عليك يا رسول الله قال الاعرابي: مُرها فلترجع الى منبتها، فَرَجَعَت فدلّت عروقها فاستوت. فقال الاعرابي: ائذن لي أسجُد لك. قال: لو امرتُ احداً أن يسجُدَ لأحدٍ لأمرتُ المرأةَ أن تسجدَ لزوجها، قال: فأذنْ لي أن أقبِّلَ يديك ورجليك، فأذن له))(4).

المثال الثالث:

T روى مسلم واصحاب الكتب الصحاح الاخرى عن جابر رضي الله عنه: أنه قال: كنا في سفر مع رسول الله e ، ((ذهب رسول الله يقضي حاجته، فلم يَرَ شيئاً يستتر به، فاذا بشجرتين بشاطئ الوادي، فانطلق رسولُ الله e الى احداهما، فأخذ بغصنٍ من اغصانها، فقال: انقادي عليّ بأذن الله فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده، وذكر انه فعل بالاخرى مثل ذلك حتى اذا كان بالمنصف(1) بينهما، قال: التئما عليّ باذن الله. فالتأمتا))(2) فجلس خلفها، وبعد ان قضى حاجته، أمر أن يعود كل منهما الى مكانها.

T ((وفي رواية أخرى، فقال: يا جابر! قل لهذه الشجرة: يقول لك رسول الله إلحقي بصاحبتك حتى أجلس خلفكما. فزحفت حتى لحقت بصاحبتها. فجلس خلفهما، فخرجتُ أحضر، وجلستُ احدّث نفسي، فالتفتُّ فإذا رسول الله e مقبلاً، والشجرتان قد أفترقتا، فقامت كل واحدة منهما على ساق، فوقف رسول الله e وقفةً فقال برأسه هكذا يميناً وشمالاً))(3).

المثال الرابع:

T روى اسامة بن زيد ـ احد قواد رسول الله e وخادمه الايمن ـ : كنا في سفر مع رسول الله e ، ولم يكن لقضاء الحاجة مكان خالٍ يستر عن أعين الناس، فقال: ((هل ترى من نخلٍ أو حجارة؟ قلت: أرى نخلات متقاربات، قال: انطلق وقل لهُن إن رسول الله e يأمركن أن تأتين لمخرج(4) رسول الله e وقل للحجارة مثل ذلك. فقلت ذلك لهن، فوالذي بعثُه بالحق لقد رأيتُ النخلات يتقاربن حتى اجتمعن والحجارة يتعاقدن حتى صرن ركاماً خلفهن، فلما قضى حاجته، قال لي: قل لهن يفترقن، فوالذي نفسي بيده لرأيتهن والحجارةُ يفترقن حتى عُدن الى مواضعهن))(5).

وقد روى هاتين الحادثتين اللتين رواهما جابر واسامة كل من يعلى بن مرة، وغيلان بن سلمة الثقفي، وابن مسعود في غزوة حنين.

المثال الخامس:

T ذكر علامة عصره الامام ابن فورك ـ الذي كان يسمى بالشافعي الثاني كناية عن اجتهاده الكامل وفضله ـ: ((انه e سار في غزوة الطائف ليلاً وهو وَسِنٌ، فاعتَرضهُ سدرةٌ(1)، فانفرجت له نصفين حتى جاز بينهما، وبقيت على ساقين الى وقتنا))(2).

المثال السادس:

T ذكر يعلى بن سيابه(3): (( أن طلحة أو سَمُرة جاءت فاطافت به ثم رجعت الى منبتها فقال رسول الله e : انها استأذنت ان تسلّم عليّ)). اي استأذنت من رب العالمين.

المثال السابع:

T روى الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه قال: ((آذنَت(4) النبي e بالجن ليلة استمعوا له شجرةٌ)) وذلك حينما جاء جن نصيبين في بطن النخل الى النبي e للاسلام، فأعلَمَت شجرةٌ خبر مجيئهم النبي.

((وعن مجاهد عن ابن مسعود في هذا الحديث: ان الجن قالوا مَن يَشهَدُ لك؟ قال: هذه الشجرة)) فأمر الشجرَة ((تعالى يا شجرة! فجاءت تجرُّ عروقَها لها قعاقع))(5).

وهكذا، فقد كفت معجزة واحدة طائفة الجن. أفلا يكون مَن يسمع الف معجزة ومعجزة من امثالها ثم يكابر ولا يؤمن اضلَّ من ذلك الشيطان الذي حدّث القرآن عنه بقول الجن: } يقولُ سَفيهُنا على الله شططاً{ ) (الجن: 4) ؟

المثال الثامن:

T روى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنه ((انه e قال لاعرابي: أرأيتَ إن دعوتُ هذا العِذق من هذه النخلة أتشهد اني رسول الله؟ قال: نعم! فدعاه فجعل ينقز حتى أتاه. فقال: ارجع، فعاد الى مكانه))(1).



T T T



وهكذا، فهناك امثلة غزيرة كالتي ذكرناها روُيت كلها بطرق عديدة، ومن المعلوم انه اذا اتحدت بضعة خيوط رفيعة صارت حبلاً قوياً.. فمثل هذه المعجزة المتعلقة بالشجرة وقد رويت بطرق متعددة، وعن مشاهير الصحابة الكرام لابد انها في قوة التواتر المعنوي، بل انها متواترة تواتراً حقيقياً. ولا ريب أنها حينما انتقلت الى التابعين اخذت طابع التواتر، لا سيما الطرق التي سلكها اصحاب الصحاح كالبخاري ومسلم وابن حبان والترمذي وغيرهم، انما هي طريق صحيحة لا شائبة فيها. بل أن رؤية اي حديث كان في البخاري انما هو كاستماعه من الصحابة الكرام بعينهم.

تُرى اذا عَرفت الاشجار رسول الله e وعرَّفَته وصدَّقَتْ رسالته وسلّمت عليه، وزارته، وامتثلت أمره ـ كما رأينا في الامثلة المذكورة آنفاً ـ فكيف لا يَعرف ولا يؤمن به ذلك البليد الجماد الذي يسمي نفسَه إنساناً؟ أليس هو عارٍ عن العقل والقلب؟ أفلا يكون أدنى من الشجر اليابس وأتفه من الحطب الذي لا يستحق الاّ إلقاءه في النار؟.

الاشارة البليغة العاشرة

ان الذي يؤيد هذه المعجزات المتعلقة بالشجرة هو معجزة حنين الجذع المنقولة نقلاً متواتراً.

نعم! ان حنين الجذع اليابس الموجود في المسجد النبوي الى رسول الله e لفراقه عنه - راقاً مؤقتاً - أنينَه امام جماعة غفيرة من الصحب الكرام يؤيد الأمثلة التي اوردناها في المعجزات المتعقلة بالاشجار ويقوّيها. لأن الجذع من جنس الاشجار، فالجنس واحد، الاّ ان هذه المعجزة متواترة بالذات، بينما الاقسام الاخرى متواترة نوعاً، اذ ان اكثر جزئياتها وامثلتها لا يرقى الى مستوى التواتر الصريح.

كان المسجد النبوي مسقوفاً على جذوع نخل فكان النبي e اذا خطب يقوم الى جذع منها، فلما صُنِع له المنبر، وكان عليه، سمع لذلك الجذع صوت كصوت العشار(1) وهو يئن ويبكي، حتى جاءه النبي e ووضع يده عليه، وتكلم معه وعزّاه وسلاّه، فسكت الجذع.

نُقلت هذه المعجزة بطرق كثيرة جداً نقلاً متواتراً.

نعم! ان معجزة حنين الجذع مشهورة ومنتشرة، والخبر بها من المتواتر الصريح(2) فقد رواها مئات من ائمة التابعين بخمسة عشر طريقاً عن جماعة من الصحابة الكرام رضي الله عنهم، وهكذا نقلوها الى مَن خلفهم. وممن رواها من علماء الصحابة: انس بن مالك ـ خادم النبي ـ وجابر بن عبد الله الانصاري، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وسهل بن سعد، وابو سعيد الخدري، وابي بن كعب، وبُريدة، وام المؤمنين أم سلمة رضوان الله عليهم وكلٌ من هؤلاء على رأس طريق من طرق رواة الحديث.

فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما من اصحاب الصحاح هذه المعجزة الكبرى المتواترة ونقلوها الينا.

عن جابر رضي الله عنه، يقول: ((كان المسجد مسقوفاً على جذوع من نخلٍ فكان النبي e اذا خطب يقوم الى جذع منها، فلما صُنع له المنبر وكان عليه فسمعنا لذلك الجذع صوتاً كصوت العشار حتى جاء النبي e فوضع يده عليها فسكت))(1) لم يتحمل الجذع فراقه e .

وعن انس:(2) ((حتى ارتجّ المسجد لخواره)).

وعن سهل بن سعد:(3) ((وكَثُر بكاء الناس لما رأوا به من بكاء وحنين)).

وعن اُبَي بن كعب:(4) ((حتى تصدّع وانشق)) لشدة بكائه.

زاد غيره: فقال النبي e : ((ان هذا بكى لما فقد من الذكر))(5) وزاد غيره: ((والذي نفسي بيده لو لم ألتزمه لم يزل هكذا الى يوم القيامة)) تحزناً على رسول الله e (6) وفي حديث بُريدة: لما بكى الجذع وضع الرسول يده الشريفة عليه وقال: ((ان شئت اردَّك الى الحائط(7) الذي كنت فيه، ينبت لك عروقك ويكمل خلقُك ويجدّد لك خوص وثمرةٌ. وان شئت اغرسك في الجنة فيأكل اولياء الله من ثمرك. ثم اصغى له النبي e يستمع ما يقول، فقال: بل تغرسني في الجنة فيأكل مني اولياء الله واكون في مكان لا ابلى فيه، فسمعه من يليه، فقال النبي e : قد فعلتُ. ثم قال: اختار دار البقاء على دار الفناء))(1).

قال الامام ابو اسحاق الاسفرائني ـ وهو من ائمة علماء الكلام ـ ان الرسول الاكرم e لم يذهب الى الجذع بل ((دعاه الى نفسه فجاءه يخرق الارض فالتزم. ثم امره فعاد الى مكانه))(2).

يقول اُبَي بن كعب: وبعد ظهور هذه المعجزة: ((أمر النبي e به فدفن تحت المنبر))، ((فكان اذا صلى النبي e صلى اليه. فلما هدم المسجد لتجديده اخذه اُبَى فكان عنده الى ان اكلته الأرض وعاد رفاتاً))(3).

وحينما كان الحسن البصري يحدّث بهذا الى طلابه يبكي ويقول:

((يا عباد الله! الخشبةُ تحنّ الى رسول الله e شوقاً اليه لمكانه فانتم أحق ان تشتاقوا الى لقائه))(4).

ونحن نقول: نعم! ان الاشتياق اليه ومحبته انما هو باتباع سنته السنية وشريعته الغراء.



o نكتة مهمة:

فان قيل: لِمَ لم تشتهر تلك المعجزات التي تخص البركة في الطعام والتي اشبعت الفاً من الناس في غزوة الخندق بصاع من طعام، ولا تلك المعجزات التي تخص الماء التي اروت الفاً من الناس بما فار من الماء من اصابع الرسول المباركة e . لِمَ لم تنقلا بطرق كثيرة مثلما اشتهرت معجزة حنين الجذع ونقلت. مع ان كلاً من تلك الجماعتين - لتي وقعت المعجزة امامهما - كثر من جماعة معجزة حنين الجذع؟

الجواب:

ان المعجزات التي ظهرت قسمان:

احدهما: ما يظهر على يد النبي e لتصديق دعوى النبوة، ويكون حجة لها، فيزيد ايمان المؤمنين ويسوق اهل النفاق الى الاخلاص والايمان، ويدعو اهل الكفر الى حظيرة الايمان. ومعجزة حنين الجذع من هذا القبيل، لذلك رآها العوام والخواص واعتُني بنشرها اكثر من غيرها.

اما معجزة الطعام ومعجزة الماء، فهي كرامة اكثر من كونها معجزة، بل اكرام إلهي اكثر من الكرامة، بل ضيافة رحمانية ـ حسب ما دعت اليه الحاجة ـ اكثر من إكرام إلهي. فهما وان كانتا دليلين على دعوى النبوة، ومعجزتين لها، الاّ ان الغاية الاساس هي:

ان الجيش الذي يبلغ قوامه زهاء الف رجل، كان في حاجة ماسة الى الطعام والشراب فأمدّهم الله سبحانه وتعالى من خزائن الغيب بأن اشبع من صاع من طعام ألفَ رجلٍ كما يخلق سبحانه من نواةٍ واحدة ألف رطل من التمر، كذلك أروى زهاء الف من المجاهدين في سبيل الله ، حينما اصابهم العطش، ارواهم بماء مبارك كالكوثر، اذ اجراه سبحانه من اصابع قائدهم الاعظم صلوات الله وسلامه عليه. لذلك لم تصل درجة معجزة الطعام والماء الى درجة حنين الجذع. الاّ ان جنس تينك المعجزتين ونوعهما بحسب الكلية متواتر كتواتر حنين الجذع.

ثم ان كل فرد قد لا يرى بركة الطعام وفوران الماء من الاصابع بالذات بل يرى أثره، ولكن كل من كان في المسجد النبوي قد سمع بكاء الجذع، لذا ذاع اكثر..



فان قيل:

ان الصحابة الكرام رضي الله عنهم اهتموا اهتماماً بالغاً بملاحظة جميع احوالهe وحركاته ونقلوها بأمانة واعتناء، فلِمَ رُويت امثال هذه المعجزة العظيمة بعشرين طريقاً فقط ولم ترو ــ في الاقل ــ بمائة طريق؟ ولِمَ تأتي اكثر الروايات عن أنس وجابر وابي هريرة، ولم يأتِ عن طريق ابي بكر وعمر الاّ القليل منها.

الجواب: الشق الاول من السؤال مضى جوابه في الاساس الثالث من الاشارة الرابعة.

أما جواب الشق الثاني فهو: ان الانسان اذا احتاج الى الدواء يراجع الطبيب، واذا احتاج الى بناء يراجع المهندس واذا احتاج الى تعلم الشريعة يأتي المفتى ويستفتيه.. وهكذا فقد كانت مهمة بعض علماء الصحابة منحصرة في حمل الحديث ونشره ونقله الى العصور الأخرى. فكانوا يسعون بكل ما آتاهم الله من قوة في هذه الغاية. فابو هريرة رضي الله عنه كرّس جميع حياته لحفظ الحديث النبوي في الوقت الذي كان عمر رضي الله عنه منهمكاً في حمل اعباء الخلافة وسياسة الدولة. لذا اعتمد على هؤلاء الصحابة: ابي هريرة وانس وجابر وامثالهم في نقل الحديث الشريف الى الامة، فندرت الرواية عنه. ثم ان الراوي الصادق المصدَّق من قبل الجميع يُكتفى بروايته ولا داعي الى رواية غيره، ولذلك ينقل بعض الحوادث المهمة بطريقين او ثلاث.

الاشارة الحادي عشرة

تبين هذه الاشارة المعجزة النبوية في الاحجار والجبال من الجمادات كما اشارت ((الاشارة العاشرة)) الى المعجزة النبوية في الاشجار، نذكر من بين امثلتها الكثيرة ثمانية امثلة:

المثال الاول:

T روى البخاري وعلاّمة المغرب القاضي عياض عن ابن مسعود - خادم e - انه قال: ((لقد كُنّا نَسْمعُ تَسبيحَ الطعامِ وهو يُؤكَل))(1).

المثال الثاني:

T وثبت كذلك عن انس وابي ذر رضي الله عنهما، قال أنس(2) ((أخذ النبيe كفاً من حصىً فسبّحن في يد رسول الله e حتى سمعنا التسبيحَ، ثم صبَّهن في يد ابي بكر رضي الله عنه فسبّحن، ثم في ايدينا فما سبّحن)).

T وروى مثله ابو ذر رضي الله عنه(3) وذكر انهن سبّحن في كف عمر رضي الله عنه ثم وضعهن على الارض فخرسن، ثم اخذهن ووضعهن في كف عثمان، فسبّحن ثم وضعهن في ايدينا فخرسن.

المثال الثالث:

T ثبت بنقل صحيح عن علي وجابر وعائشة رضي الله عنهم انه ما كان يمر النبي e بجبل ولا حجر الاّ وقال:السلام عليك يا رسول الله، ففي رواية علي رضي الله عنه قال: ((كنا بمكة مع رسول الله e فخرج الى بعض نواحيها، فما استَقبلَهُ شجرةٌ ولا جبلٌ الاّ قال له: السلام عليك يا رسول الله))(1).

T وفي رواية جابر رضي الله عنه قال: ((لم يكن النبي e يمرّ بحجر ولا شجرٍ الاّ سجد له))(2) اي: كل منهما ينقاد له ويقول: السلام عليك يا رسول الله.

T وفي رواية أخرى ((عن جابر بن سمرة رضي الله عنه(3): عنه e : اني لأعرف حجراً بمكة كان يسلّم عليّ)) اي قبل ان ابعث ((قيل: انه اشارة الى الحجر الاسود)).

T ((وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي e : لما استقبلني جبريل بالرسالة جعلتُ لا امرُّ بحجرٍ ولا شجرٍ الا قال: السلام عليك يا رسول الله))(4).

المثال الرابع:

T ((وفي حديث العباس رضي الله عنه(5) اذ اشتمل عليه النبي e وعلى بنيه)) وهم عبدالله وعبيد الله والفضل وقثم ((بملاءة(6) ودعا لهم السّتر من النار)) اذ قال: يا رب هذا عمي صنو ابي وهؤلاء بنوه فاسترهم من النار كستري اياهم بملاءتي. ((فأمّنت أسكُفَة الباب وحوائط البيت: آمين آمين)) واشتركن في الدعاء.

المثال الخامس:

T روت الكتب الصحاح متفقة وفي المقدمة البخاري وابن حبان وابو داود والترمذي عن أنس(1) وابي هريرة(2) وعن عثمان ذي النورين(3) وسعيد بن زيد(4) احد العشرة المبشرين بالجنة انه: ((صعد النبي e وابو بكر وعمر وعثمان اُحُداً، فرجف بهم)) من مهابتهم أو من سروره وفرحه، ((فقال: أثبت اُحُد فانما عليك نبي وصدّيق وشهيدان)).

فبهذا الحديث ينبئ e عن شهادة عمر وعثمان إخباراً غيبياً.

T وقد نقل - تتمة لهذا المثال - انه لما هاجر الرسول e من مكة وطلبته كفار قريش صعد على جبل ثُبير، ((قال له ثبير(5): اهبط يا رسول الله فانّى اخاف ان يقتلوك على ظهري فيعذّبني الله. فقال له حراء: اليّ يا رسول الله)).

من هذا يستشعر أهلُ القلب والصلاح الخوف في ثبير والأمن والاطمئنان في حراء.

يفهم من مجموع هذه الامثلة ان الجبال العظيمة مأمورة ومنقادة كأي فرد من الافراد وهي كأي عبدٍ مخلوق يسبّح الله تعالى وله وظيفة خاصة به، وانه يعرف النبي e ويحبّه.. فما خُلقت الجبال باطلاً.





المثال السادس:

T ((وروى ابن عمر رضي الله عنهما(1) ان النبي e قرأ على المنبر: } وما قَدَروا الله حق قدره{ (الانعام:91) ثم قال: يمجِّد الجبارُ نفسه يقول: انا الجبار انا الجبار انا الكبير المتعال. فَرجَف المنبرُ حتى قلنا ليخرنَّ عنه)).

المثال السابع:

T عن حبر الامة وترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنه، وعن ابن مسعود(2) - من علماء الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين، انه قال: ((كان حول البيت ستون وثلاثمائة صنم مثبتة الأرجل بالرصاص في الحجارة فلما دخل رسولُ الله e المسجدَ عام الفتح جعل يشير بقضيب في يده اليها ولا يمسّها. ويقول: } جَاء الحقُّ وزَهَقَ الباطلُ إنَّ الباطلَ كانَ زَهُوقاً{ (3) (الاسراء:81) فما اشار الى وجه صنمٍ الاّ وقع لقفاه ولا لقفاه الاّ وقع لوجهه حتى ما بقي منها صنم))(4).

المثال الثامن:

T هو قصة بحيراء الراهب المشهورة(5) وهي: ان النبي e خرج قبل البعثة مع عمه ابي طالب وجماعة من قريش الى نواحي الشام. ولما وصلوا الى جوار كنيسة الراهب جلسوا هناك ((وكان الراهب لا يخرج الى أحَد فخرج وجعل يتخللهم حتى اخذ بيد رسول الله e فقال: (هذا سيد العالمين يبعثه الله رحمةً للعالمين) فقال له أشياخ من قريش: ما عِلمُك؟ فقال: انه لم يبق شجر ولا حجر الاّ خرّ ساجداً له ولا يسجد الاّ لنبي)). ((ثم قال واقبل e وعليه غمامةٌ تظلّه فلما دنا من القوم وجدهم سبقوه الى فئ الشجرة فلما جلس مالَ الفئ اليه))(1).



T T T



وهكذا فهناك ثمانون مثالاً كهذه الامثلة الثمانية.

فاذا وحَّدْتَ هذه الامثلة الثمانية لأصبحت قوية لا يمكن ان تنال منها شبهة مهما كانت.

فهذا النوع من المعجزات (اي تكلم الجمادات) يشكّل دليلاً جازماً على اثبات دعوى النبوة، وهو في حكم التواتر من حيث المعنى. فكل مثال يستمد قوة اخرى من قوة الجميع تفوق قوته الفردية. مَثَله في هذا، مثل رجل ضعيف انخرط في سلك الجيش، فيتقوى حتى يستطيع ان يتحدى الفاً من الرجال، او كعمود ضعيف لو ضم مع اعمدة قوية يتقوى.

فكيف اذا كانت الروايات كلها صحيحة ورصينة؟.

الاشارة الثاني عشرة

أمثلة ثلاثة مهمة ترتبط بالاشارة الحادية عشرة.

المثال الاول:

T تصرّح الآية الكريمة } وما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ ولكنّ الله رمى{ (الانفال:17) بنصها القاطع وبتحقيق عموم المفسرين العلماء وائمة الحديث: ان الرسول e أخذ في غزوة بدر قبضة من تراب وحصيات ورماها في وجوه جيش الكفار وقال: ((شاهت الوجوه))(1). فدخلت تلك القبضة من التراب الى اعين كل المشركين، مثلما وصلت كلمة ((شاهت الوجوه)) الى آذان كلٍ منهم فصاروا يعالجون عيونهم من التراب، ففرّوا بعدما كانوا في حالة كرٍّ على المسلمين.

T ويروي الامام مسلم(2): ان الكفار في غزوة حنين عندما كانوا يصولون على المسلمين، أخذ النبي e قبضة من تراب ورمى بها في وجوه المشركين وقال: ((شاهت الوجوه)) فما من أحدٍ منهم الاّ ملأ عينيه - باذن الله - تراباً كما سمعت اذنُه هذه الكلمة فولّوا مدبرين.

فهذه الحادثة الخارقة للعادة قد وقعت في بدر وحنين، فهي حادثة تفوق طاقة البشر، كما انها لا يمكن اسنادها الى الاسباب العادية، لذا قال تعالى } وما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ ولكنّ الله رمى{ اي انها حادثة نابعة من قدرة الهية محضة.

المثال الثاني:

T تذكر كتب ائمة الحديث وفي مقدمتها البخاري ومسلم ((ان يهودية - واسمها زينب بنت الحرث - اهدت للنبي e بخيبر شاة مصليّة(3) سمَّتْها، فأكل رسول اللهe منها ، وأكل القوم، فقال: ارفعوا ايديكم، فانها اخبرتني انها مسمومة، فرفع الجميع ايديهم، إلاّ ان بشر بن البراء مات من اثر السم، فدعا e اليهودية وقال لها: ما حَمَلكِ على ما صنعتِ؟ قالت: إن كنت نبياً لم يضرّك الذي صنعتُ، وان كنتَ مَلِكاً أرَحْتُ الناسَ منك. فأمر بها فقُتلت))(1)، وفي بعض الروايات انه لم يأمر بقتلها. قال العلماء المحققون: لم يأمر بقتلها بل دفعها لأولياء بشر بن البراء، فقتلوها(2).

فاستمع الآن الى هذه النقاط الثلاثة لبيان اعجاز هذه الحادثة.

النقطة الاولى: جاء في احدى الروايات: ان عدداً من الصحابة سمعوا قولَها حينما أخبرتْ الشاة عن انها مسمومة(3).

النقطة الثانية: وفي رواية اخرى انه بعدما أخبر الرسول e عن القضية قال: قولوا بسم الله ثم كلوا، فانه لا يضر السم بعدَه. هذه الرواية وان لم يقبلها ابن حجر العسقلاني الاّ ان علماء آخرين قبلوها.

النقطة الثالثة: لقد اطمأن كلُ من سمع كلامه e : ((انها اخبرتني بأني مسمومة)) وكأنه سمعه بنفسه، اذ لم يُسْمَع منه e قولٌ مخالف للواقع قط، وهذه واحدة منه، فبينما يبيّت اليهود الكيد لينزلوا ضربتهم القاضية بالرسول الكريم e وصحبه الكرام رضوان الله عليهم اذا بالمؤامرة تنكشف على اثر خبرٍِ من الغيب وتبطل الدسيسة والمكر السئ، ويقع الخبر كما أخبر عنه e .

المثال الثالث:

هو معجزة الرسول e في ثلاث حوادث تشبه معجزة سيدنا موسى عليه السلام، في معجزة يده البيضاء وعصاه.

الحادثة الاولى:

T اخرج الامام احمد الحديث الصحيح، عن ابي سعيد الخدري رضي الله عنه(1):

ان الرسول e ((اعطى قتادة بن نعمان - وصلى معه العشاء - في ليلةٍ مظلمة مطِرة عُرجوناً. وقال: انطلق به فانه سيضئ لك من بين يديك عشراً ومن خلفك عشراً. فاذا دخلتَ بيتك فسترى سواداً فاضربه حتى يخرج فانه الشيطان، فانطلق، فاضاء له العرجون(2)، حتى دخل بيته ووجد السواد فضربه حتى خرج)).

الحادثة الثانية:

T انقطع سيف عكاشة بن محصن الاسدي وهو يقاتل به في غزوة بدر الكبرى - تلك المعركة التي هي منبع الغرائب - فاعطاه رسول الله e جذلاً من حطب ـ أي عوداً غليظاً – ((وقال: اضرب به فعاد في يده سيفاً صارماً طويل القامة ابيض شديد المتن، فقاتل به، ثم لم يزل عنده يشهد به المواقف الى ان استشهد في قتال اهل الردة))(3) في اليمامة.

هذه الحادثة ثابتة قطعاً، وكان عكاشة يفتخر بذلك السيف طوال حياته، وكان السيف يسمى بــ ((العَوْن))، فاشتهار السيف بـ ((العون)) وافتخار عكاشة به حجتان ايضاً على ثبوت الحادثة.

الحادثة الثالثة:

T روى ابن عبد البر(4) وهو من اعلام عصره من بين العلماء المحققين: ان عبد الله بن جحش - ابن عمة رسول الله e - ((وقد ذهب سيفُه)) في غزوة أحد وهو يحارب، فاعطاه رسول الله e ((عسيب(5) نخل فرجع في يده سيفاً)).

يقول ابن سيد الناس في ((سيره)): فبقي هذا السيف مدّة ولم يزل يتناقل حتى بيع الى شخص يُدعى بغاء التركي بمائتي دينار(1).

فهذان السيفان معجزتان كمعجزة عصا موسى، الاّ انه لم يبق وجه الاعجاز لعصا موسى بعد وفاته عليه السلام، وبقي هذان السيفان معجزتان بعد وفاته e .

الاشارة الثالثة عشرة

ومن معجزاته e : شفاء المرضى والجرحى بنفثه المبارك. وهذ النوع من المعجزات متواتر معنوي - من حيث النوع - أما جزئياتها فقسم منها بحكم المتواتر المعنوي وقسم آخر آحادي، الاّ انه يورث القناعة العلمية والاطمئنان وذلك لتوثيق العلماء له وتصحيح ائمة الحديث.

سنذكر من امثلة هذا النوع من المعجزات بضعة امثلة فقط من بين امثلتها الغزيرة.

المثال الاول:

T يروي القاضي عياض(1) عن سعد بن ابي وقاص وهو من العشرة المبشرين بالجنة وتولى خدمة النبي e واصبح أحد قواده، وقاد جيش الاسلام في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، انه قال: ((ان رسول الله e لَيُناوِلني السهمَ لا نَصْلَ لَهُ، فيقول: إرمِ به، وقد رمى رسول الله e يومئذٍ عن قوسه حتى اندقّت)) كان ذلك في غزوة اُحد، وكانت السهام التي لا نصلَ لها تَمرقُ كالمرّيشة وتثبت في جسد الكفار.

T وقال ايضاً(2): ((واصيب يومئذٍ عين قتادة (بن النعمان) حتى وقعت على وجنته، فرّدها رسول الله e )) بيده المباركة الشافية ((فكانت أحسنَ عَينيه)) واشتهرت هذه الحادثة حتى ان أحد احفاد قتادة حينما جاء الى عمر بن عبد العزيز عرّف نفسَه بانشاده الابيات الآتية:ـ



انا ابن الذي سالَت على الخدِّ عينُه

فرُدَّتْ بكفِّ المصطفى أحسنَ الردّ

فعــادت كمـا كانت لأول أمرهـا

فيا حُسنَ ما عـينٍ ويا حُســنَ ما ردّ

T وثبت ايضاً: انه جعل ريقَه على جراحة: ((أثر سهمٍ في وجه ابي قتادة في يوم ذي قرد(1) قال: فما ضرب عليّ ولا قاح))(2) اذ مسحه رسول الله e بيده المباركة.

المثال الثاني:

T روى البخاري ومسلم وغيرهما: أن الرسول e اعطى الراية علياً يوم خيبر، وكان رمداً، فلما تفل في عينه اصبح ترياقاً لعينه فبرئت بأذن الله(3).

ولما جاء الغد أخذ علي باب القلعة وهو من حديد وكأنه ترس في يده، وفتح القلعة.

T ((ونفث على ضربةٍ بساق سلمة بن الاكوع يوم خيبر فبرئت))(4).

المثال الثالث:

T ((روى النسائي(5) عن عثمان بن حُنَيف: ان اعمى اتى الى رسول الله e ، فقال: يا رسول الله ادعُ الله ان يكشف لي عن بصري. قال: أوَ أدعك؟ قال: يا رسول الله انه قد شقّ عليّ ذهاب بصري. قال: فانطلق فتوضأ ثم صلِّ ركعتين ثم قل: اللهم اني اسألك واتوجه اليك بنبيي محمد نبيّ الرحمة، يا محمد إني اتوجه الى ربك بك، ان يكشف لي عن بصري، اللّهم شفّعه فيّ، وشفّعني في نفسي. فرجع وقد كشف الله عن بصره)).

المثال الرابع:

T ((قطع ابوجهل يوم بدر يد معوَّذ بن عفراء)) أحد الاربعة عشر الذين استشهدوا في بدر ((فجاء يحمل يده فبصق عليها رسول الله e والصقها فلصقت، رواه ابن وهب))(1)- وهو من ائمة الحديث - ثم عاد الى القتال فقاتل حتى استشهد.

T ((ومن روايته ايضاً: أن خُبيب بن يساف أصيب يوم بدر مع رسول الله e ، بضربةٍ على عاتقه حتى مال شقه، فردّه رسول الله e ، ونفث عليه حتى صحّ))(2).

فهاتان الحادثتان وان كانتا آحادية الاّ ان تصحيح الامام الجليل ابن وهب لهما، وكون وقوعهما في منبع المعجزات، بدر، ولوجود شواهد كثيرة من امثالهما يجعلهما لا يشك أحدٌ في وقوعهما.

وهكذا هناك الف مثال ومثال قد ثبت بالاحاديث الصحيحة، من ان يد الرسول الاعظم e اصبحت شفاء ودواء لذوي العاهات والمرضى.

لو سطرت هذه القطعة بماء الذهب

ورصّعت بالالماس لكانت جديرة

حقاً! وكما مرّ سابقاً:

ان تسبيح الحصى وخشوعه في كفه e ..

وتحول التراب والحصيات فيها كقذائف في وجوه الاعداء حتى ولّوا مدبرين بقوله تعالى: } وما رَميْتَ اذ رَميْتَ ولكن الله رمى{ .

وانفلاق القمر فلقتين بأصبع من الكف نفسها كما هو نص القرآن الكريم:} وانشقّ القَمَر{ ..

وفوران الماء كعينٍ جارية من بين الاصابع العشرة وارتواء الجيش منه...

وكون تلك اليد بلسماً للجرحى وشفاء للمرضى..

ليبيّن بجلاء:

مدى بركة تلك اليد الشريفة..

ومدى كونها معجزة قدرة إلهية عظيمة.

لكأن كف تلك اليد:

زاوية ذكر سبحانية صغيرة بين الأحباب، لو دخلها الحصى لسبّح وذكر..

وترسانة ربانية صغيرة تجاه الاعداء، لو دخلها التراب لتطاير تطاير القنابل..

وتعود صيدلية رحمانية صغيرة للمرضى والجرحى، لو لامست داء لغدت له شفاء..

وحينما تنهض تلك اليد تنهض بجلال فتشق القمر شقين باصبع منها.

واذا التفتت التفاتة جمال فجّرت ينبوع رحمة يَدفُق من عشر عيون تجري كالكوثر السلسبيل

فلئن كانت يد هذا النبي الكريم e موضع معجزات باهرة الى هذا الحد.. ألا يدرك بداهةً:

مدى حظوته عند ربه

مبلغ صدقه في دعوته

ومدى سعادة اولئك الذين بايعوا تلك اليد المباركة ؟.

سؤال: انك تقول في كثير من الروايات انها متواترة، بينما لم نسمع بها الاّ الآن فهل يُجهل التواتر الى هذا الحد؟.

الجواب: هناك امور كثيرة متواترة لدى علماء الشرع بينما هي مجهولة لدى غيرهم فلدى علماء الحديث من الاحاديث المتواترة ما لا يعرف الاّ بالاحاد لدى سواهم.. وهكذا، فبديهيات ونظريات كل علم انما تُبيَّن حسب ما تواضع عليه اهل اختصاص ذلك العلم، أما بقية الناس فهم يعتمدون عليهم في ذلك العلم. فإما أنهم يستسلمون لقولهم، أو يعكفون على دراسة ذلك العلم فيجدون ما وجدوه.

فما أخبرنا عنه من المتواتر الحقيقي أو المعنوي، أو ما هو بحكم المتواتر من الحوادث، قد بيّن حكمَها رجالُ الحديث، وعلماء الشريعة وعلماء الاصول، واغلب العلماء الاخرين. فاذا جَهِلَه العوام الغافلون، أو مَن يغمض عينه عن العلم من الجهال، فلا يقع اللومُ الاّ عليهم.

المثال الخامس:

T أخرج الامام البغوي:(1) اصابت ((ساق علي بن الحكم يوم الخندق اذ انكسرت)) فمسحها رسول الله e (( فبرىء مكانه، وما نزل عن فرسه)).

المثال السادس:

T روى البيهقي وغيره ((اشتكى علي بن ابي طالب، فجعل يدعو، فقال النبي e : اللّهم اشفه أو عافه ثم ضربه برجله، فما اشتكى ذلك الوجع بعدُ))(2).





المثال السابع:

T ((كانت في كف شرحبيل الجعفي سلعةٌ (1) تمنعه القبض على السيف وعنان الدابة فشكاها للنبي e ، فما زال يطحنها(2) بكفه حتى رفعها ولم يبق لها أثرٌ))(3).

المثال الثامن:

ستة من الاطـفال نالوا – كلٌ على حـدة - معــجزة مـن معــجزات الرسول الأكرم e .

الأول:

T روى ابن ابي شيبة - وهو من ائمة الحديث - أنه: ((اتَتْه e أمرأةٌ من خثعم معها صبي به بلاء لا يتكلم، فأتي بماء، فمضمض فاهُ وغسل يديه، ثم اعطاها إياه، وأمرها بسقيه ومسّه به، فبرأ الغلام وعقل عقلاً يفضُلُ عقول الناس))(4).

الثاني:

T ((وعن ابن عباس: جاءت امرأة بابن لها به جنون، فمسح e صدرَه فثعَّ ثعَّة فخرج من جوفه مثل الجرو الاسود))(5)- شئ اسود كالخيار الصغير - فشفي.

الثالث:

T روى الامام البيهقي والنسائي(6): ((انكفأت(7) القدر على ذراع محمد بن حاطب، وهو طفل فمسح عليه e ودعا له)) ونفخ نفخاً فيه ريقه الشريف فبرأ لحينه.

الرابع:

T ((ان النبي e اُتي بصبّي قد شبّ)) أي كَبُر ((لم يتكلم قط، فقال: من أنا؟ فقال: رسول الله))(1) فانطقه الله.

الخامس:

T اخرج امام العصر جلال الدين السيوطي - الذي تشرّف في اليقظة برؤية النبي e مراراً - أنه: جاء رسول الله e رجلٌ من أهل اليمامة بغلام يوم ولد، فقال له رسول الله e : يا غلام من أنا؟. فقال: انت رسول الله. قال: صدقت بارك الله فيك. ثم ان الغلام لم يتكلم حتى شبّ فكان يسمى بمبارك اليمامة لدعاء النبي e له بالبركة(2).

السادس:

T ((ودعا على صبي)) خشن الطبع ((قطع عليه الصلاة ان يقطع الله أثره فاُقْعِد))(3) ونال جزاء فظاظته.

السابع:

T ((سألتْه جارية طعاماً وهو يأكل، فناولها من بين يديه، وكانت قليلة الحياء، فقالت: انما أريد من الذي في فيك، فناولها ما في فيه، ولم يكن يُسأل شيئاً فيمنعه. فلما استقرّ في جوفها اُلقي عليها من الحياء ما لم تكن أمرأةٌ بالمدينة أشدّ حياء منها))(4).



T T T



وهكذا هناك امثلة غزيرة تربو على الثمانمائة مثال كالتي ذكرناها، وقد بيّنت كتب الاحاديث والسير معظمها.

نعم، لما كانت اليد المباركة للرسول الكريم e كصيدلية لقمان الحكيم، وبصاقه كماء عين الحياة لخضر عليه السلام، ونفثه كنفث عيسى عليه السلام في الشفاء، وان بني البشر يتعرضون للمصائب والبلايا، فلا ريب انه قد أتى اليه مالا يحد من المرضى والصبيان والمجانين ولا شك انهم قد شفوا جميعاً من امراضهم وعاهاتهم. حتى ان طاووساً اليماني وهو من ائمة التابعين المشهور بزهده وتقواه إذ حج اربعين مرة وصلى صلاة الصبح بوضوء العشاء اربعين سنة، ولقي كثيراً من الصحابة الكرام، هذا العالم الجليل يخبر جازماً فيقول: ما من مجنون جاء الى النبيe ووضع يده الشريفة على صدره الاّ شفي من جنونه.

فإذا اخبر امام كالطاووس اليماني - الذي ادرك الصحابة الكرام - هذا الخبر الجازم فلا ريب أنه قد جاء الى النبي e كثير جداً من المرضى، ربما يبلغ الالوف وكلهم شفوا من امراضهم.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-03-2011
  #23
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 15
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: المكتوبات

الاشارة الرابعة عشرة

ومن انواع معجزاته e نوع عظيم، وهو الخوارق التي ظهرت بدعائه. فهذا النوع لاشك فيه ومتواتر تواتراً حقيقياً، وامثلتها وجزئياتها وفيرة جداً لا تحصر، وقد بلغ كثير من امثلتها درجة المتواتر، بل صارت مشهورة قريبة من التواتر، ومنها ما نقله ائمة عظام بحيث يفيد القطعية فيه كالمتواتر المشهور.

ونحن هنا نذكر على سبيل المثال بعضاً من امثلتها الكثيرة جداً التي هي قريبة من المتواتر، أو التي هي بدرجة المشهور، كما سنذكر جزئياتٍ من كل مثال:

المثال الاول:

T روى ائمة الحديث وفي مقدمتهم البخاري ومسلم ان دعاء النبي e للاستسقاء كان يستجاب في الحال، وحدث ذلك مراراً كثيرة، حتى انه كان يرفع يديه احياناً للاستسقاء وهو على المنبر، فيستجاب له قبل ان ينزل، وهذه الروايات ثابتة بلغت حد التواتر. وقد ذكرنا آنفاً: انه اصاب الناس عطش في السفر، فكان السحاب يتراكم في كل مرة يحتاجون الى الماء فيسقوا ثم يقلع.

T بل كان دعاؤه e يستجاب حتى قبل النبوة، فكان عبد المطلب جد النبيe يستسقى بوجهه الكريم في صباه، فكان المطر ينزل، وقد اشتهرت هذه الحادثة حتى ذكرها عبد المطلب في بعض اشعاره.

T ولقد استسقى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالعباس عم النبي بعد وفاتهe فقال: ((اللّهم إنا كنا نتوسل اليك بنبينا فتسقينا وانّا نتوسل اليك بعم نبينا فاسقنا، قال فيسقون))(1).

T وروى الشيخان ان الرسول e سئل ان يغيثهم الله بالمطر ((فدعا e في الاستسقاء فسقوا ثم شكوا اليه المطر فدعا فصحوا))(2).

المثال الثاني:

T وردت رواية مشهورة قريبة من التواتر انه e حينما كان المؤمنون قلة ويكتمون ايمانهم وعبادتهم ((دعا بعزّ الاسلام بعمر رضي الله عنه أو بابي جهل فاستجيب له في عمر)) اذ قال: ((اللّهم اعزّ الاسلام بابي جهل بن هشام او بعمر بن الخطاب، فأصبح فغدا عمر على رسول الله e فأسلم))(1) فكان سبباً لعزّ الاسلام ولذلك دُعي بالفاروق.

المثال الثالث:

ولقد دعا النبي الكريم e لبعض الصحابة لمقاصد شتى فاستجيب له استجابةً خارقة، حتى وصلت كرامة تلك الادعية درجة الاعجاز.

T من ذلك ما روى البخاري ومسلم وغيرهما أنه: ((دعا لابن عباس: اللهم فقهه في الدين وعلّمه التأويل))(2) فَسُمّي بعدُ الحبر وترجمان القرآن حتى كان عمر رضي الله عنه يأذن لابن عباس - مع حداثة سنّه - ان يجلس في مجلس اكابر الصحابة الاجلاء(3).

T وروى البخاري وغيره ((عن انس رضي الله عنه قال: قالت امي: يا رسول الله خادمك أنس ادعُ الله له. قال: اللّهم أكثر ماله وولَده وبارك له فيما آتيته، وفي رواية عكرمة قال انس: فوالله ان مالي لكثير وان وَلَدي وولد ولدى ليعادّون اليوم على نحو المائة. وفي رواية فما اعلم أحداً اصاب من رخاء العيش ما اصبتُ، ولقد دفنتُ بيديّ هاتين مائة من ولدي لا اقول سقطاً ولا ولد ولد))(1) وكان كل ذلك ببركة دعاء النبي e .

T وروى الامام البيهقي وغيره من ائمة الحديث انه e ((دعا لعبد الرحمن بن عوف بالبركة)) وهو احد العشرة المبشرين بالجنة فاصاب مالاً وفيراً ببركة ذلك الدعاء حتى أنه ((تصدّق مرّةً بعَير فيها سبعمائة بَعير وَرَدَتْ عليه تحمل من كل شئ فتصدق بها وبما عليها وبأقتابها واحلاسها))(2) فما شاء الله في هذه البركة وتبارك الله.

T وروى البخاري وغيره انه e دعا لعروة بن ابي الجعد بالبركة في تجارة له. فقال: ((فلقد كنت اقوم بالكناسة(3) فما أرجع حتى أربح أربعين الفاً. وقال البخاري في حديثه، فكان لو اشترى التراب ربح فيه))(4).

T ((ودعا لعبد الله بن جعفر بالبركة في صفقة يمينه فما اشترى شيئاً الاّ ربح فيه))(5) حتى اشتهر في زمانه بالثروة والمال بمثل ما اشتهر بالكرم والسخاء.

ولهذا النوع امثلة كثيرة جداً اوردنا هذه الاربعة على سبيل المثال.





T وروى الامام الترمذي: انه e دعا لسعد بن ابي وقاص فقال: اللّهم استجب لسعد اذا دعاك(1). فكان مستجاب الدعوة يرهب الناس من دعائه عليهم.

T ((وقال لابي قتادة: افلح وجهُك، اللّهم بارك له في شَعره وَبَشَره. فمات وهو ابن سبعين سنة وكأنه ابن خمس عشرة سنة))(2). وقد اشتهرت هذه الرواية الثابتة.

T وعندما أنشد الشاعر المشهور النابغة بين يديه e :

بَلَغنا السما في مجدنا وسَنائِنا وإنّا نريد فوق ذلك مظهراً

قال له الرسول e : الى اين يا أبا ليلى؟ قال: الى الجنة يا رسول الله.

ثم أنشد قصيدة اخرى تحمل معاني جليلة، فقال الرسول e : ((لا يَفْضُض الله فاك)) ((فما سقطت له سن، وكان احسن الناس ثغراً، اذا سقطت له سنٌ نبتت له اخرى. وعاش عشرين ومائة. وقيل اكثر من هذا))(3).

T وفي رواية صحيحة انه e دعا لعلي رضي الله عنه، فقال: اللّهم اكفه الحر والقر، فكان ببركة هذا الدعاء ((يلبس في الشتاء ثياب الصيف، وفي الصيف ثياب الشتاء ولا يصيبه حرّ ولا برد))(4).

T ((ودعا لابنته فاطمة الاّ يجيعها الله. قالت: فما جعتُ بعد))(1).

T ((وسأله الطفيل بن عمرو آيةً لقومه، فقال: اللّهم نوِّر له. فسطع له نورٌ بين عينيه، فقال: يا رب اخاف ان يقولوا: مُثْلَة، فتحول الى طرف سوطه، فكان يضئ في الليلة المظلمة، فسمي ذا النور))(2).

فهذه الحوادث لا ريب في رواياتها قط.

T ((عن ابي هريرة قال: قلت: يا رسول الله انى اسمع منك حديثاً كثيراً أنساه. قال: ابسط رداءك فبسطتُه. قال: فغرف بيديه، ثم قال: ضمه، فضممته، فما نسيتُ شيئاً بعده))(3).

فهذه الحوادث من الاحاديث المشهورة.

المثال الرابع:

نبين عدة امثلة في صدد استجابة ادعيةٍ دعا بها النبي e على بعض من الناس.

T الأول: جاء الخبر الى النبي e بتمزيق ملك الفرس المسمى بَرْويز كتابَ النبيe فقال: اللّهم مَزّقه. فمُزِّق كلَّ ممزق اذ قتل شيرويه ابن الملك اباه بالخنجر، ومزَّق سعد بن ابي وقاص مُلكه ((فلم تبق له باقية ولا بقيت لفارس رياسة في اقطار الدنيا))(4) بينما ظل مُلك قيصر وسائر الملوك لاحترامهم كتب الرسول e اليهم.

T الثاني: ثبت بالحديث المشهور القريب من المتواتر - وبما ترمز اليه الآية الكريمة - انه اجتمع رؤساء قريش في المسجد الحرام وعاملوا النبي e معاملة سيئة فدعا عليهم، وسمّاهم. قال ابن مسعود: ((فلقد رأيتُهم قُتلوا يوم بدر))(1).

T الثالث: ودعا على مضر وهي قبيلة عظيمة، بما كذبته، ((فأُقحطوا حتى استعطفته قريش فدعا لهم فسُقوا))(2) هذه الرواية قريبة من التواتر.

المثال الخامس:

هو استجابة دعاء النبي e الذي دعا به على رجال معينين، نذكر على سبيل المثال ثلاثة من بين امثلته الكثيرة.

T الاول: دعا على عتبة بن ابي لهب، وقال: ((اللّهم سلّط عليه كلباً من كلابك))(3). فسافر عتبة بعد ذلك فجاء اسد يبحث عنه، فاخذه من بين القافلة وأكله. هذه الحادثة مشهورة نقلها ائمة الحديث وصححوها.

T الثاني: بعث الرسول e سرية وعلى رأسها عامر بن الأضبط ، وكان محلـِّم بن جثَّامة في معيته، فاغتاله محلـِّم غدراً، فلما جاء الخبر الى النبي e غضب وقال: اللّهم لا تغفر لمحلِّم، فمات محلـِّم بعد سبعة أيام. ((فلفظته الارض ثم وورى فلفظته مرات، فالقوه بين صُدِّين وضموا عليه بالحجارة - الصُّدُّ جانب الوادي))(1).

T الثالث: ((وقال لرجل رآه يأكل بشماله: كل بيمينك، قال: لا استطيع فقال: لا استطعت، فلم يرفعها الى فيه))(2).

المثال السادس:

سنذكر عدة خوارق ثابتة ثبوتاً قطعياً من تلك التي ظهرت بدعاء النبي e وبلمسه.

T الاول: ان النبي e اعطى شعرات من شعره الى خالد بن الوليد (سيف الله) ودعا له بالنصر، فوضعها خالد في قلنسوته ((فلم يشهد بها قتالاً الاّ رُزق النصر))(3).

T الثاني: ان سلمان الفارسي كان عبداً لليهود، فكاتبه ((مواليه على ثلاثمائة ودية يغرسها لهم كلها تَعْلَقُ وتُطعم وعلى اربعين اوقية من ذهب، فقام e وغرسها له بيده الاّ واحدةً غرسها غيره، فأخذت كلها الاّ تلك الواحدة فقلعها النبي e وردّها فأخذت - وفي كتاب البزار - فاطعم النخلُ من عامه الاّ الواحدة فقلعها رسول الله e وغرسها فاطعمت من عامها. واعطاه مثل بيضة الدجاجة من ذهب بعد أن ادارها على لسانه، فوزن منها لمواليه اربعين اُوقية وبقي عنده مثل ما اعطاهم))(4) هذه الحادثة هي من الخوارق المهمة التي مرت بحياة سلمان الفارسي رضي الله عنه، رواها الائمة الثقات.

T الثالث: ((كان لأم مالك الصحابية عكةٌ(1) تُهدي فيها للنبي e سمناً فأمرها النبي e أن لا تعصرها ثم دفعها اليها، فاذا هي مملوءة سمناً فيأتيها بنوها يسألونها الأدْمَ وليس عندهم شئ، فتعمد اليها، فتجد فيها سمناً، فكانت تقيم إدمَها حتى عصرتها))(2) فلم يجدوا فيها شيئاً بعد ذلك.

المثال السابع:

ان المياه المرة تتحول الى عذبة حلوة وتفوح منها رائحة طيبة ببركة دعاء النبيe ولمسه لها. نسوق بضعة امثلة فقط:

T الاول: روى البيهقي وائمة الحديث ان بئر ((قبا)) كانت تنزف في بعضالاحيان ((وسكب من فضل وضوئه في بئر قبا فما نَزَفَت بعد))(3).

T الثاني: روى ابو نعيم في دلائلالنبوة، ورجال الحديث. انه كان في دار أنس بئر فبزق e فيها ودعا ((فلم يكن في المدينة اعذب منها))(4).

T الثالث: روى ابن ماجه انه ((اُتي بدلو من ماء زمزم فمجّ فيه فصار اطيب من المسك))(5).

T الرابع: روى الامام احمد بن حنبل أنه e اُتي بدلو من بئر فمجّ فيه ثم افرغ فيها فصارت اطيب من المسك(6).

T الخامس: روى حماد بن سلمة وهو من الرجال الموثوقين الذين يروي عنهم الامام مسلم، أنه e ملأ ((سقاء ماء بعد أن أوكاه ودعا فيه)) وأعطاه لصحابة كرام وأمرهم ألاّ يحلّوه الاّ للوضوء. ((فلما حضرتهم الصلاة نزلوا فحلّوه فاذا به لبن طيب وزبدة في فمه))(1).

هذه الامثلة الخمسة الجزئية مشهورة بعضها، وينقلها ائمة اعلام. فهذه والتي لم نذكرها هنا بمجموعها تحقق بالتواتر المعنوي هذه المعجزة تحققاً كاملاً.

المثال الثامن

الشياه التي درّ ضرعها باللبن ببركة دعاء النبي e ولمسه إياه بعد أن كان قد جفّ. هناك امثلة كثيرة جداً لهذا الاّ اننا نذكر ثلاثة منها مشهورة وثابتة.

T الاول: روت جميع كتب السير الموثوق بها أن الرسول الاكرم e لما هاجر ومعه ابو بكر الصديق مرّ على خباء عاتكة بنت خالد الخزاعي المدعوة بأم معبد، فنزل عندها وكان لها شاة عجفاء لا لبن فيها. فقال لها: أليس بها لبن؟ فقالت أم معبد: ليس فيها دم فمن اين اللبن؟. فمسّ e ظهرها ومسح ضرعها، ثم قال: ائتوا باناء واحلبوها، فحلبوها فشرب e هو وابو بكر الصديق وبقيت في الاناء بقية فشرب مَن كان في الخباء الى ان شبعوا جميعاً. وهكذا بقيت تلك الشاة مباركة قوية(2).

T الثاني: قصة شاة ابن مسعود رضي الله عنه وهي:

((عن ابن مسعود قال: كنت ارعى غنماً لعقبة بن ابي معيط، فمر بي رسول الله e وابو بكر، فقال: يا غلام هل من لبن؟ قال: قلت: نعم ولكني مؤتمن. قال: فهل من شاة لم ينز عليها الفحل؟. فأتيته بشاة فمسح ضرعها، فنزل لبن فحلبه في اناء، فشرب وسقى ابا بكر…))(3) وكان هذا سبب اسلام ابن مسعود رضي الله عنه.

T الثالث: قصة ((غنم حليمة السعدية(1) مرضعته e ))، وهي قصة مشهورة حيث كان في تلك السنة قحطٌ اصاب أرض قومها، فكانت الأغنام عجافة، جافاً الضروع، لم ترع حتى الشبع. فلما اُرسل الرسول e الى حليمة السعدية صارت اغنامها تأتي المرعى وقد رعت كثيراً ودرّ لبنـها، وغــنم قومـها على خلاف ذلك. وما ذاك الاّ ببركته e .

وهـنـاك امثلة كثيرة اخرى في كتب السير، والـتـي اوردنـاها تكـفي ما نـحن بصدده.

المثال التاسع:

نذكر بضعة امثلة من الامثلة الكثيرة المشهورة للخوارق التي ظهرت عند مسح الرسول e رؤوس بعضهم ووجوههم بيده ودعائه لهم:

T الاول: ((مسح على رأس عُمير بن سعد وبرّك، فمات وهو ابن ثمانين، فما شاب))(1).

T الثاني: ((ومسح على رأس قيس بن زيد الجذامى ودعا له، فهلك وهو ابن مائة سنة، ورأسه أبيض وموضع كف النبي e وما مرّت يدُه عليه من شعره أسود، فكان يُدعى الأغر))(2).

T الثالث: ((ومسح رأس عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وهو صغير، وكان دميماً ودعا له بالبركة فَفَرَع الرجال طولاً وتماماً))(3).

T الرابع: ((سَلَت(4) الدم عن وجه عائذٍ بن عمرو وكان جُرحَ يوم حُنين ودعا له فكان له غرّة كغُرة الفرس))(5).

T الخامس: ((مسح وجه قتادة بن مِلحان فكان لوجهه بريقٌ حتى كان يُنظَر في وجهه كما يُنظَر في المرآة))(6).

T السادس: ((نضح في وجه زينب (وهي صغيرة) بنت ام سلمة نضحة من ماء)) كان يتوضأ به ((فما يُعرف كان في وجه امرأة من الجمال مابها))(7).

وهناك امثلة كثيرة كهذه الجزئيات التي اوردناها رواها ائمة الحديث فهي بمجموعها تفيد التواتر المعنوي وتبين وقوع المعجزة الاحمدية المطلقة. فحتى لو فرضنا كل واحد من هذه الامثلة خبراً آحادياً، وضعيفاً، فان مجموعها يكون بحكم المتواتر المعنوي، لانه لو نقلت حادثة ما في صور متباينة وروايات مختلفة، فهذا يعني ان الحادثة واقعة لا شك فيها الا ان رواياتها وصورها مختلفة او ضعيفة.

فمثلاً: اذا سُمع في مجلس دويّ، فقال بعضهم: انهدم بيت فلان، وقال آخر: انهدم بيت شخص آخر. وقال آخر: بيت فلان.. وهكذا فكل رواية من هذه الروايات مع انها آحادية وضعيفة أو مخالفة للواقع الا ان الحادثة الاصلية لاشك في وقوعها، وهي انهدام بيت. فالروايات بمجموعها تفيد قطعية وقوع الحادثة وهي متفقة في الاصل. بينما الامثلة الجزئية التي ذكرناها روايات صحيحة كلها، حتى أن بعضاً منها بلغ درجة المشهور. فلو فرضنا كلاً منها ضعيفة لكانت دلالة مجموعها ايضاً دلالة قطعية على وجود المعجزة الاحمدية مثلما دلت الروايات في المثال على انهدام بيت من البيوت .

وهكذا فكل نوع من انواع المعجزات الاحمدية الباهرة ثابت لا ريب فيه. وما جزئياتها الا نماذج وصور مختلفة لتلك المعجزة المطلقة.

وكما ان يده e واصابعه وريقه ونفثه واقواله - اي دعاءه - منشأ لكثيرمن المعجزات، فان جميع لطائفه الاخرى وحواسه واجهزته مدار لكثيرمن الخوارق ايضاً. وقد بينت كتب السيرة والتاريخ تلك الخوارق واوضحت كثيراً من دلائل النبوة التي هي في سيرته وصورته وجوارحه ومشاعره e .

الاشارة الخامسة عشرة

ان الحيوانات والأموات والجن والملائكة تعرف ذلك النبي الكريم e ، فتبرز كل طائفة منها بعضاً من معجزاتها تصديقاً لنبوته واعلاناً عنها مثلما أظهرتها الأحجار والاشجار والقمر والشمس، وبيّنت انها تعرف النبي e وتصدق نبوته.

هذه الاشارة الخامسة عشرة تتضمن ثلاث شعب:

الشعبة الاولى

هي معرفة جنس الحيوان للنبي e واظهاره معجزاته. لهذه الشعبة أمثلة كثيرة نذكر هنا بعض ما هو مشهور ومقطوع به بالتواتر المعنوي من الحوادث، أو ما هو مقبول لدى ائمة العلم، أو تلقته الأمة بالقبول.

الحادثة الاولى:

T حادثة الغار المشهورة الى حدّ التواتر المعنوي، وهي ان الرسول الاكرم e ، عندما تحصّن في الغار مع ابي بكر الصديق نجاةً من طلب قريش له، ((أمر الله حمامتين فوقفتا بفم الغار وفي حديث آخر؛ ان العنكبوت نسجت على بابه(1)))حتى ان اُبي بن خلف – وهو من صناديد قريش، وقد قتله الرسول الكريم e يوم بدر – حين طلب منه كفرة قريش دخول الغار، قال: ((ما أربُكم(2) فيه، وعليه من نسج العنكبوت ما أرى انه قبل ان يولد محمد)) ووقفت حمامتان على فم الغار، فقالت قريش ((لو كان فيه أحد لم تكن الحمامتان ببابه والنبي e يسمع كلامهم، فانصرفوا))(1).

T ((وروى ابن وهب، ان حمام مكة، أظلّت النبي e ، يوم فتحها، فدعا لها بالبركة))(2).

T ((وعن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: كان عندنا داجن(3)، فاذا كان عندنا رسول الله e قرّ وثبت مكانه، فلم يجئ ولم يذهب واذا خرج رسول الله e جاء وذهب))(4). اي ان ذلك الحمام كان يوقر النبي e فيهدأ ويسكن في حضوره.

الحادثة الثانية

T وهي قصة الذئب المشهورة، وقد رويت بطرق كثيرة حتى أخذت حكم التواتر، وقد نقلت هذه القصة العجيبة بطرق كثيرة عن مشاهير الصحابة الكرام رضي الله عنهم، منهم: أبو سعيد الخدري، وسلمة بن الاكوع، وابن ابي وهب، وأبو هريرة، وصاحب القصة: الراعي اُهبان.

فقد روى هؤلاء بطرق عديدة أنه:

((بينا راعٍ يرعى غنماً له، عرض الذئب لشاةٍ منها، فأخذها منه، فاقعى(5) الذئب، وقال للراعي: ألا تتقي الله، حُلْتَ بيني وبين رزقي، قال الراعي: العجب من ذئب يتكلم بكلام الأنس! فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب من ذلك؟ رسول الله بين الحرتين يحدِّث الناس بأنباء ما سبق)) ((قد فتحت له ابواب الجنة)) ((ويدعوكم اليها)).

ومع ان كل الطرق مجمعةٌ على تكلم الذئب، الا ان اقواها هو الحديث الذي رواه ابو هريرة رضي الله عنه ففيه: ((قال الراعي: مَن لي بغنمي؟ قال الذئب: أنا أرعاها حتى ترجع، فأسلم الرجل اليه غنمه ومضى، وذكر قصته، واسلامه، ووجودَه النبي e يقاتل))(1) فرجع فوجد الذئب راعياً أميناً، ولا نقص في الاغنام ((وذبح للذئب شاةً منها)) جزاء إرشاده له.

T وفي طريق آخر ((انه جرى لأبي سفيان بن حرب وصفوان بن أمية مع ذئب وجداه أخذ ظبياً فدخل الظبي الحرم، فانصرف الذئب، فعجبا من ذلك، فقال الذئب: أعجبُ من ذلك محمد بن عبد الله بالمدينة يدعوكم الى الجنة)) ((فقال ابو سفيان: واللات والعزّى لئن ذكرتَ هذا بمكة لتتركنها خلوفاً))(2)(3).

نحصل من هذا: ان قصة الذئب تورث قناعة واطمئناناً كالمتواتر المعنوي.

الحادثة الثالثة:

T هي قصة الجمل المروية بخمسة او ستة طرق عن مشاهير الصحابة: أبو هريرة، وثعلبة بن مالك، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن جعفر، وعبد الله بن أبي أوفى، وأمثالهم، فهؤلاء جميعاً متفقون على ان: الجمل قد جاء النبي e وسجد بين يديه سجدة تعظيم واكرام وتكلـّم معه. ويخبرون بطرق اخرى؛ أن ذلك الجمل قد ثار في بستان ((وكان لا يدخل أحدٌ الحائط الاّ شدّ عليه الجمل، فلما دخل عليه النبي e دعاه فوضع مِشْفَره(1) على الارض وبَرك بين يديه فخطمه))(2).

((وفي خبر آخر في حديث الجمل ان النبي e سألهم عن شأنه فأخبروا انهم أرادوا ذبحه))(3).

((وفي رواية: انه شكى اليَّ أنكم أردتم ذبحه بعد ان استعملتموه في شاق العمل من صغره، فقالوا: نعم)).

T وأيضاً ان ناقة النبي e المسماة بالعضباء ((لم تأكل ولم تشرب بعد موته e حتى ماتت))(4) وذكر أبو اسحاق الاسفرائني ((من قصة العضباء وكلامها للنبي e )) في أمر مهم.

وثبت في الصحيح(5) ان جمل جابر بن عبد الله الأنصاري أعيى في سفر فلم يمكن له ان يدوم على المسير فنخسه النبي e نخسة خفيفة ((فنشط حتى كان لا يملك زمامه)) وذلك بما رأى من لطف معاملته e .

الحادثة الرابعة:

T روى البخاري وأئمة الحديث: ((لقد فزع أهل المدينة ليلةً فانطلق ناسٌ قِبَل الصوت فتلقاهم رسول الله e راجعاً قد سَبَقَهم الى الصوت وقد استبرأ الخبر على فرسٍ لأبي طلحة عُريٍ والسيف في عنقه وهو يقول: لن تُراعوا))(6)(7) وقال لأبي طلحة: وجدنا فرسك بحراً وكان به قطاف، أي يبطئ. فاصبح بعد تلك الليلة لا يجارى.

T وثبت برواية صحيحة انه ((قال لفرسه - عليه السلام - وقد قام الى الصلاة في بعض أسفاره: لا تبرح بارك الله فيك حتى نَفْرغَ من صلاتنا. وجعله قبلته، فما حرّك عضواً حتى صلّى e ))(1).

الحادثة الخامسة:

T هي ((تسخير الأسد لسفينة - مولى رسول الله e -(2) اذ وجهه الى مُعاذ باليمن فلقي الأسد فعرّفه: أنه مولى رسول الله e ومعه كتابَهُ فَهَمْهَمَ وتنحّى عن الطريق. وذكر في منصرفه مثل ذلك)) وفي رواية أخرى عنه: ان سفينة ضل الطريق في العودة فرأى الأسد، قال: ((جعل يغمزني بمنكبه حتى أقامني على الطريق)).

T ((وروى عن عمر ان رسول الله e كان في محفل من أصحابه اذ جاء اعرابي قد صاد ضباً، فقال: من هذا؟ قالوا: نبي الله، فقال واللات والعزّى لا آمنتُ بك أو يؤمن بك هذا الضب وطرحه بين يدي النبي e فقال النبي e له: يا ضب، فأجابه بلسان بيّن يسمعه القوم جميعاً: لبيك وسعديك…))(3) فآمن الأعرابي.

T ((وعن أم سلمة: كان النبي e في صحراء، فنادته ظبية: يا رسول الله)) الى آخر الحديث ((فخرجت تجري وهي تقول: اشهد ان لا اله الاّ الله وانك رسول الله))(1).

وهكذا فهناك امثال هذه النماذج كثيرة جداً. لم نبين الاّ ما اشتهر من الأمثلة القاطعة. فيا أيها الانسان ويا من لا يعرف هذا الرسول الكريم e ولا يطيعه، اعتبر! واسع لئلا تتردّى في ما هو أدنى من الذئب والاسد، فهذه الحيوانات تعرف الرسول الكريم وتطيعه.

الشعبة الثانية

هي معرفة الموتى والجن والملائكة الرسول الكريم e ، ولها وقائع كثيرة جداً سنذكر منها على سبيل المثال بضعة أمثلة مشهورة نقلها الأئمة الثقات.. سنذكر أولاً أمثلة الموتى، أما الجن والملائكة فأمثلتها متواترة وكثيرة جداً.

المثال الاول:

T روى الامام الحسن البصري ـ وهو امام علماء الظاهر والباطن(2) ومن اصدق تلاميذ الامام علي كرم الله وجهه في عهد التابعين: ((أتى رجل النبي e ، فذكر له أنه طرح بُنيَّةً له في وادي كذا)) فرقّ عليه رسول الله e ((فانَطلق معه الى الوادي وناداها باسمها: يا فلانة أجيبي باذن الله تعالى، فخرجت وهي تقول: لبيك وسعديك: فقال لها:ان ابويك قد أسلما – فان أحببت – ان أردّك عليهما. قالت: لا حاجة لي فيهما، وجدتُ الله خيراً لي منهما))(3).

المثال الثاني:

T روى الامام البيهقي والامام ابن عَدي - مسنداً – ((عن أنس ان شاباً من الأنصار توفي، وله أمٌ عجوز عمياء - وهو وحيدها - فسجيناه، وعزّيناها، فقالت: ابني! قلنا: نعم. قالت: اللّهم ان كنتَ تعلم اني هاجرتُ اليك والى نبيك رجاء ان تعينني على كل شدة، فلا تحملن عليّ هذه المصيبة. فما برحنا ان كشف الثوبَ عن وجهه، فطعم وطعمنا))(1).

وقد أشار الى هذه الحادثة العجيبة الامام البوصيري في قصيدته ((بردة المديح)) قائلاً:

لــو ناسَبـَــتْ قَدْرَه آيــاته عِظــماً احيى اسمُه حين يُدعى دارس الرمم

الحادثة الثالثة:

T روى الامام البيهقي وغيره عن عبد الله بن عبيد الله الأنصاري: ((كنت فيمن دفن ثابت بن قيس، وكان قُتل في اليمامة، فسمعناه حين أدخلناه القبر يقول: محمد رسول الله، أبو بكر الصديق وعمر الشهيد، عثمان البرُّ الرحيم. فنظرنا اليه فاذا هو ميت))(2) فأخبر عن استشهاد عمر قبل توليه الخلافة.

الحادثة الرابعة:

T ((ذكر عن النعمان بن بشير أن زيد بن خارجة خرّ ميتاً في بعض أزقة المدينة فرفع وسُجّي، اذ سمعوه بين العشاءين والنساء يصرخن حوله يقول: انصتوا انصتوا، فَحسر عن وجهه، فقال: محمد رسول الله...)).. ((ثم قال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته. ثم عاد ميتاً كما كان))(3).

فاذا كان الموتى الذين لا حياة لهم يصدّقون رسالته e فكيف إن لم يصدّقه من له حياة؟

T T T

أليس هؤلاء الأحياء الاشقياء هم أكثر فقداً للحياة من أولئك الموتى؟

اما خدمة الملائكة للنبي e وظهورهم له وايمان الجن به وطاعتهم له، فهو ثابت بالتواتر، وقد صرّح القرآن الكريم بذلك في كثير من اياته الكريمة، وكانت خمسة آلاف من الملائكة طوع أمره - كالصحابة الكرام - في غزوة بدر كما ورد في القرآن الكريم، حتى ان اولئك الملائكة نالوا - بين الملائكة الآخرين - شرف الاشتراك في المعركة كما ناله اصحاب بدر(1).

في هذه المسألة جهتان:

الأولى: وجود الجن والملائكة وعلاقاتهم معنا. فهذا ثابت ثبوتاً قاطعاً كوجود الحيوان والانسان الذي لا يشك فيه أحد. وقد أثبتنا هذا بيقين جازم في ((الكلمة التاسعة والعشرين)) فنحيل الاثبات الى تلك الكلمة.

الجهة الثانية: هي رؤية افراد الأمة وتكلمهم مع الملائكة والجن بما حازوا من شرف الانتساب الى الرسول الكريم e واظهاراً لأثر من آثار معجزاته.

T فقد روى البخاري ومسلم وائمة الحديث بالاتفاق(2): ((عن عمر رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله e ذات يوم اذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يُرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحدٌ حتى جلس الى النبي e )).. فسأله عن الاسلام والايمان والاحسان وقد عرّف له الرسول e كلاً مما سأل. ((ثم قال: يا عمر أتدري مَن السائل، قلتُ: الله ورسوله أعلم، قال: فانه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)).

T وثبت بروايات صحيحة مقطوع بها وفي درجة التواتر المعنوي يرويها أئمة الحديث: ان الصحابة كثيراً ما كانوا يرون جبريل عليه السلام عند النبي e في صورة دحية الكلبي رضي الله عنه صاحب الحسن والجمال(3)، منهم عمر وابن عباس واسامة وحارث وعائشة الصديقة وأم سلمة رضي الله عنهم فيقولون: إنا نرى جبريل عند النبي e في صورة دحية الكلبي في كثير من الأحيان. أفيمكن ان يقول هؤلاء لشئ: نرى، وهم لم يروه؟!.

T وثبت باسناد صحيح عن سعد بن ابي وقاص – أحد المبشَّرين بالجنة وفاتح فارس – قال: اننا رأينا في غزوة اُحد ان الرسول e ((على يمينه ويساره جبريل وميكائيل في صورة رجلين عليهما ثياب بيض))(1) وهما على هىئة حارسين محافظين له. فاذا قال بطل من أبطال الأسلام مثل سعد: رأينا، فهل يمكن أن يحدث الخلاف؟.

T ثم ان أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب – ابن عم الرسول e - رأى يوم بدر ((رجالاً بيضاً على خيل بُلقٍ(2) بين السماء والأرض))(3).

T ((وارى النبي e لحمزة جبريل في الكعبة فخرّ مغشياً عليه))(4).

فأمثلة رؤية الملائكة هذه كثيرة جداً، وجميع هذه الوقائع تظهر نوعاً من المعجزات الأحمدية وتدل على ان الملائكة تحوم كالفراش حول نور نبوته.

T T T

أما اللقاء مع الجن ومشاهدتهم، فيقع كثيراً جداً حتى مع عامة الناس، فكيف بالصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، الاّ ان أئمة الحديث ينقلون الينا أصح الأخبار وأثبتها.

T ((رأى عبد الله بن مسعود الجن ليلة الجن - أي اهتدائهم - وسمع كلامهم وشبّههم برجال الزط))(5) وهم قوم من السودان طوال.

T ثم ان حادثة مشهورة ينقلها ويخرّجها أئمة الحديث ويقبلون بها وهي ((قتل خالد بن الوليد - عند هدمه العُزّى (1)- للسوداء التي خرجت له ناشرة شعرها عريانة فجزَلَها بسيفه واعْلَم النبي e فقال: تلك العزّى))(2)، فكان الناس يعبدونها وهي في صنم العزى. ولن تُعبد أبداً.

T ((وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، انه قال: بينا نحن جلوس مع النبيe اذ أقبل شيخٌ بيده عصاً فسلّم على النبي e فردّ عليه. وقال e : نغمة الجن، مَن انت؟ قال: أنا هامه)). ((في حديث طويل وأن النبي e علّمه سوراً من القرآن))(3) فهذه الحادثة رغم انها انتقدت من قبل رجال الحديث(4) الاّ ان ائمة آخرين قد حكموا بصحتها... وعلى كل حال فلا نرى ضرورة في الاسهاب، فالامثلة في هذا الباب كثيرة جداً.

ونقول ايضاً:

ان الذين تنوروا بنور النبي e وتربوا بتعاليمه واقتفوا أثره وهم يربون على الألوف من أمثال الشيخ الكيلاني من الأولياء الأقطاب والعلماء الأصفياء قد التقوا الملائكة والجن وتكلموا معهم، فالروايات متواترة وموفورة وقطعية(5).

نعم ان لقاء الأمة المحمدية الملائكة والجن وتكلمهم معهم انما هو أثر من آثار التربية النبوية وهدايتها الخارقة.

الشعبة الثالثة

ان عصمة الله تعالى للرسول الكريم e وحفظه له من اذى الناس معجزة باهرة وحقيقة جلية نص عليها القرآن الكريم في قوله تعالى: } والله يَعْصمُكَ مِن النّاس{ (المائدة: 67).

ففي هذه الآية الكريمة معجزات كثيرة. اذ لما أعلن الرسول الكريم e نبوته فانه لم يتحدَّ طائفة واحدة ولا قوماً ولا ساسة ولا حكاماً معينين ولا مجتمعه بل تحدى جميع السلاطين وجميع أهل الأديان، تحداهم جميعاً ولا عاصم له الا الله، وحتى عمه قد ناصبه العداء وقومه وقبيلته كانوا اعداء له، ومع هذا ظل ثلاثاً وعشرين سنة من غير حارس يحرسه، رغم تعرّضه لمخاطر ومهالك كثيرة، ولقد عصمه الله من الناس وحفظه حتى انتقل الى الملأ الأعلى باطمئنان كامل. مما يدلنا دلالة الشمس في وضح النهار مدى رصانة الحقيقة التي تنطوي عليها الآية الكريمة: } والله يَعْصِمُكَ مِنَ النّاس{ ومدى كونها نقطة استناد له e .

وسنذكر بضعاً من الحوادث التي هي ثابتة ثبوتاً قطعياً ونسوقها على سبيل المثال:

الحادثة الأولى:

T يروي أهل السيرة والحديث متفقين على انه: عندما اجتمعت قريش على قتله e جاءهم ابليس في هيئة شيخ ودلّهم على ان يؤخذ من كل قبيلة فتىً - لئلا يَقع النزاع بينهم - فسار ما يناهز مائتي رجل بقيادة أبي جهل وأبي لهب نحو بيت النبي e وكان عنده علي رضي الله عنه فأمره ان ينام على فراشه وانتظرهم الرسول e حتى أتت قريش وحاصروا البيت ((فخرج عليهم e من بيته فقام على رؤوسهم وقد ضرب الله تعالى على أبصارهم وذرّ التراب على رؤوسهم، وخَلَصَ منهم))(1).

T وأيضاً ((حمايته عن رؤيتهم في الغار بما هيأ الله من الآيات ومن العنكبوت الذي نسج عليه.. ووقفت حمامتان على فم الغار))(1).

الحادثة الثانية:

وهي قصة سراقة بن مالك(2) ((حين الهجرة، وقد جعلتْ قريش فيه - e - في ابي بكر الجعائل(3) فأنذر به، فركب فرسه واتبعه حتى اذا قرُب منه دعا عليه النبي e فساخت قوائم فرسه فخرّ عنها... ثم ركب ودنا حتى سمع قراءَة النبي e وهو لا يلتفت وأبو بكر رضي الله عنه يلتفت وقال للنبي e أوتينا، فقال: لا تحزن ان الله معنا)) كما قاله في الغار ((فساخت ثانية الى ركبتيها وخرّ عنها فزجرها فنهضت ولقوائمها مثلُ الدخان، فناداهم بالأمان، فكتب له النبي e أماناً... وأمره النبي e ان لا يترك أحداً يلحق بهم. فانصرف)).

T ((وفي خبر آخر ان راعياً عرف خبرهما، فخرج يشتد يُعلمُ قريشاً فلما ورد مكة ضُرب على قلبه، فمايدري ما يصنع واُنسيَ ما خرج له حتى رجع الى موضعه))(4) ثم عرف انه قد اُنسي.

الحادثة الثالثة:

T يروي ائمة الحديث بطرق متعددة أنه في غزوة (غطفان) و (أنمار) اراد رئيس قبيلته وهو ((غورث بن الحارث المحاربي ان يفتك بالنبي e فلم يَشعرُ به -e الاّ وهو قائم على رأسه منتضياً سيفه فقال: اللـّهم اكفنيه بما شئت فانكب لوجهه من زُلـَّخةٍ زُلـَّخها بين كتفيه وندر(5) سيفه من يده))(6).

T وروى انه e أتاه أعرابي ((فاخترط سيفه ثم قال: مَن يمنعك مني؟ فقال: الله! فارتعدت يدُ الأعرابي وسقط سيفُه))(1) فأخذه النبي e وقال: ومن يمنعك الآن؟ ثم عفا عنه النبي e ((فرجع الى قومه وقال: جئتكم من عند خير الناس. وقد حكيت مثل هذه الحكاية أنها جرت له يوم بدر وقد انفرد من اصحابه لقضاء حاجته فتتبعه رجل من المنافقين، وذكر مثله)) انه رفع سيفه ليهوي به على رسول الله e واذا به ينظر اليه فيرتعد المنافق ويسقط السيف من يده.

الحادثة الرابعة:

T روى أئمة الحديث برواية مشهورة قريبة من التواتر، وذكر أكثر علماء التفسير؛ ان سبب نزول الآية الكريمة: } اِنّا جعلنا في أعناقِهِم أغلالاً فهي الى الأذقانِ فَهُم مُقمَحون ` وَجَعلنا من بين أيديهم سَداً ومَِن خَلْفِهم سَداً فأغشيناهم فهم لا يـبصِرون{ (يس8ـ 9) ان أبا جهل أقسم؛ لئن أرى محمداً ساجداً لأضربنّه بهذه الصخرة ((فجاءه بصخرةٍ وهو ساجد وقريش ينظرون، ليطرحها عليه فلزقت بيده ويبسَتْ يداه الى عنقه))(2) وبعد أن أتم الرسول e صلاته انصرف وانطلقت يد أبي جهل. إما بدعائه e أو لأنتفاء الحاجة.

T ان الوليد بن المغيرة ((اتى النبي e ليقتله فطمس الله على بصره فلم ير النبي e ، وسمع قوله فرجع الى اصحابه فلم يرهم حتى نادوه))(3) حتى اذا خرج الرسول e من المسجد عاد بصرُه، لانتفاء الحاجة.

T وثبت عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه انه: بعدما نزلت سورة } تَبّتْ يدا أبي لهب{ أتت ام جميل ، امرأة أبي لهب الملقبة بحمالة الحطب (( رسول الله e وهو جالس في المسجد ومعه أبو بكر وفي يدها فِهر(1) من حجارة فلما وقفَتْ عليهما لم تر الاّ ابا بكر وأخذ الله تعالى ببصرها عن نبيه e فقالت: يا أبا بكر أين صاحبك فقد بلغني انه يهجوني، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه))(2).

نعم. لا ترى حطّابة جهنم - بلاشك - سلطاناً عظيماً كهذا الذي خصّه الله بالدرجة الرفيعة.

الحادثة الخامسة:

ثبت بالنقل الصحيح(3) ((خبر عامر بن الطفيل وأربد بن قيس حين وفدا على النبي e ، وكان عامر قال له: أنا اُشغل عنك وجه محمد، فاضربه أنت، فلم يره فَعَلَ شيئاً، فلما كلَّمه في ذلك، قال له: والله ما هممتُ أن أضربه الاّ وجدتك بيني وبينه، أفاضربك؟)).

الحادثة السادسة:

T وثبت بالنقل الصحيح أيضاً ((ان شيبة بن عثمان الحجبي أدركه يوم حُنين)) أو اُحد ((وكان حمزة قد قَتَل أباه وعمه، فقال: اليوم أدرك ثأري من محمد، فلما اختلط الناس اتاه من خلفه ورفع سيفه ليصبَّه عليه. قال: وأحس بي النبي e فدعاني فوضع يده على صدري وهو أبغض الخلق اليّ فما رفعها الاّ وهو أحبُّ الخلق اليّ. وقال لي:

ادنُ، فقاتِل، فتقدمتُ أمامه اضرب بسيفي وأقِيه بنفسي، ولو لقيتُ أبي تلك الساعة لأوقعتُ به دونه))(4).

T ((وعن فضالة بن عمرو قال: اردت قتل النبي e ، عام الفتح، وهو يطوف بالبيت، فلما دنوتُ منه قال: أفُضالة؟ قلت: نعم! قال: ما كنتَ تُحدِّث به نفسك؟. قلتُ: لاشئ. فضحك واستغفر لي ووضع يده على صدري، فسكن قلبي، فو الله ما رفعها حتى ما خلق الله شيئاً أحبّ اليّ منه))(1).

الحادثة السابعة

T ثبت بالنقل الصحيح: ان اليهود تآمروا عليه عندما ((جلس الى جدار.. فانبعث احدهم ليطرح عليه رمىً فقام النبي e فانصرف))(2) فبطل ما كانوا يفعلون بحفظ الله.

وهناك حوادث كثيرة من أمثال هذه الحادثة. فيروي الأمام البخاري ومسلم وائمة الحديث ((عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي e يُحرس حتى نزلت هذه الآية } والله يعصمك من الناس{ فاخرج رسول الله e رأسه من القبة: يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني ربي عزّوجل))(3).

T T T

هذه الرسالة توضح منذ البداية الى هنا:

ان كل نوع من أنواع هذه الكائنات، وكل عالم منها، يَعْرف النبي e وله معه رابطة وعلاقة. اذ تظهر معجزاته e من كل نوع من أنواع الكائنات، أي ان هذا النبي الكريم e رسول ومبعوث من قبل الله بوصفه رب العالمين وخالق الكون.

نعم! كما ان موظفاً مرموقاً ومفتشاً ذا منزلة عند السلطان تعرفه كلُ دائرة من دوائر الدولة، واذا ما دخل اياً منها سيلقى ترحاباً حاراً؛ لأنه مأمور من قِبَل السلطان الأعظم، اذ لو فرضنا أنه كان مفتشاً للعدل فحسب، فسوف ترحب به دوائر العدل فقط، ولا تعرفه جيداً الدوائر الأخرى، ولو كان مفتشاً عاماً للجيش فلا تعرفه الدوائر الرسمية الأخرى للدولة.. بينما يُفهم من الأمثلة السابقة ان جميع دوائر السلطنة الإلهية تعرفه e معرفةً جيدة أو يعرّفه الله لهم ابتداءً من الملائكة الى الذباب والعنكبوت. فهو بلا شك خاتم الانبياء ورسول رب العالمين، وان رسالته عامة للكائنات قاطبة لا تختص بأمة دون أمة كغيره من الأنبياء والمرسلين.

الاشارة السادسة عشرة

وهي الارهاصات: اي الخوارق التي ظهرت قبل النبوة، وتُعدّ من دلائل النبوة، لعلاقتها بها، وهي على ثلاثة اقسام:

القسم الاول

ما أخبرت به التوراة والانجيل والزبور وصحف الانبياء عليهم السلام عن نبوة محمد e وهو ثابت بنص القرآن الكريم.

نعم، فما دامت تلك الكتب كتباً سماوية، واصحابها هم انبياء كرام عليهم السلام، فلابد ان اخبارها عمن سيضئ بالنور الذي يأتيه نصف المعمورة، وينسخ الاديان الاخرى، ويغيّر ملامح الكون، اقول لابد ان ذكرها لهذه الذات المباركة ضروري وقطعي. أفيمكن لتلك الكتب التي لا تهمل حوادث جزئية الاّ تذكر اعظم حادثة في تاريخ البشرية تلك هي حادثة البعثة المحمدية؟ واذا كان لابد لها أن تبحث عنها وتذكرها، فهي إما ستكذّبها كي تصون دينها وكتابها من النسخ والتخريب، أو ستصدّقها، أي تصدق ذلك النبي الحق كي تحافظ على دينها وكتابها من تسرب الخرافات وتسلل التحريفات، ولما كان الاصدقاء والاعداء متفقين على عدم وجود اية امارة في تلك الكتب للتكذيب مهما كانت، فهناك اذاً امارات التصديق. فما دام التصديق قائماً بصورة مطلقة، وان هناك علة قاطعة، وسبباً اساساً يقتضي وجود هذا التصديق، فنحن بدورنا سنثبت ذلك التصديق بثلاث حجج قاطعة تدل على وجوده:

الحجة الاولى:

ان الرسول الاعظم e تلى عليهم آيات كريمة يتحداهم بها، وكأنه يقول لهم بلسان القرآن الكريم: ان كتبكم تصدّق ما تشتمل عليه شمائلي واوصافي وتصدّق ما ابلّغه للعالمين.

} قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين{ (آل عمران: 93) } فَقُل تعالوا ندعُ ابناءنا وابناءكم ونساءنا ونساءكم وانفسنا وانفسكم ثم نبتهل فنجعل لَعْنَتَ الله على الكاذبين{ (آل عمران: 61).

ومع هذا التحدي الواضح لم يتقدم حبر من أحبار اليهود، ولا قس من قسس النصارى الى اظهار خلاف ما يقوله e . فلو كان هناك شئ مهما كان طفيفاً من هذا القبيل لأعلنه اولئك الكفار والمنافقون من اليهود ذوو العناد والحسد، وهم كثيرون في كل مكان وزمان.

فكان التحدي؛ إما ان يجدوا أيّ خلاف كان فيما يبلّغ من اوامر الله سبحانه، أو سيجاهدهم جهاداً لا هوادة فيه، وهم لعجزهم عن الأتيان بخلاف ما يبلّغ آثروا الحرب والدمار والهجرة، اي انهم لم يجدوا شيئاً كي يلزموه. ولو وجدوا خلاف قوله لكان اظهاره أهون عليهم من بذل النفوس والاموال وتخريب الديار.

الحجة الثانية:

لقد خالطت آيات التوراة والانجيل والزبور كلماتٌ غريبة عنها، لتوالي ترجماتها، والتباس كلام المفسرين وتأويلاتهم الخاطئة مع آياتها، حيث ان آياتها ليس فيها الاعجاز الذي في آيات القرآن الكريم، فضلاً عما قام به الجهلاء وذوو الاغراض السيئة من تحريفات في تلك الكتب، فزادت من تلك التحريفات والتغييرات حتى ان العلامة المشهور رحمة الله الهندي(1) ألزم الحجة علماء اليهود والنصارى باظهار الوف من التحريفات في الكتب السابقة.

ومع هذا القدر من التحريفات، فقد استخرج في هذا العصر العالم المشهور حسين الجسر - رحمه الله - مائة وعشرة أدلة على نبوته e من تلك الكتب واثبتها في كتابه المسمى بــ ((الرسالة الحميدية)) وقام المرحوم اسماعيل حقي المناسطري بترجمة الكتاب الى اللغة التركية، فمن اراد فليراجعه.

ثم ان كثيراً من علماء اليهود والنصارى قد أقروا: ان في كتبنا أوصاف النبي محمد e ، منهم هرقل من ملوك الروم الذي اعترف قائلاً: ((ان عيسى عليه السلام

قد بشّر بمحمد e )) كما اعترف صاحب مصر ((المقوقس، وابن صوريا، وابن أخطب واخوه كعب بن أسد والزبير بن باطيا وغيرهم من علماء اليهود)) ورؤسائهم قائلين: ((نعم، ان اوصافه موجودة في كتبنا، ومذكورة فيها)).

كما ان كثيراً من مشاهير علماء اليهود والنصارى قد نبذوا الخصومة والعناد وآمنوا بالاسلام بعدما رأوا أوصاف النبي e في كتبهم، وبيّنوها لغيرهم من العلماء، فألزموهم الحجة. منهم: عبد الله بن سلام، ووهب بن منبه، وابي ياسر، وشامول - صاحب تُبعّ - كما آمن تبّع قبل البعثة غياباً، وإبناسَعْية وهما أسيد وثعَلبة اللذان ناديا في قبيلة بني النضير منددَين بهم عندما حاربت الرسول e قائلَين: ((والله هو الذي عَهِد اليكم فيه ابن هَيْبان)). وابن هيْبان هذا هو الرجل العارف بالله الذي كان قد نزل ضيفاً على بني النضير قبل البعثة، وقال لهم: ((قريبٌ ظهور نبي هذا دار هجرته)) وتوفي هناك، الاّ ان قبيلة بني النضير لم تلق بالاً لهما، فأصابهم ما أصابهم.

كما آمن من علماء اليهود: ابن ياسين، ومخيريق، وكعب الاحبار، وامثالهم كثير ممن رأوا نعت الرسول e في كتبهم وألزموا الحجة من لم يؤمنوا.

وممن اسلم من علماء النصارى بحيراء الراهب - كما مرّ سابقاً - وذلك عندما ذهب e مع عمه ابي طالب الى الشام، وهو ابن اثنتي عشرة سنة، فصنع بحيرا طعاماً لقافلة قريش، اكراماً للنبي e ثم نظر واذا بالغمامة التي تظل القافلة باقية في مكانها، قال فالذي اريده اذاً ما زال باقياً هناك فارسل عليه من يأتي به، وقال لعمه ابي طالب: عُدْ به الى مكة، فاليهود حسّاد يكيدون له، فإنا نجد اوصافه في التوارة.

وقد آمن كل من نسطور الحبشة ومليكها النجاشي، لمّا رأيا اوصاف النبي e في كتابهم. واعلن العالم النصراني المشهور ضغاطر اوصافه e بين الروم، فاستشهد. وقد آمن ايضاً حارث بن ابي شمر الغساني - العالم النصراني المشهور - ورؤساء الروحانيين في الشام، وملوكها اي صاحب ايليا، وهرقل، وابن ناطور، وجارود، وامثالهم، لمّا رأوا اوصافه e في كتبهم. الاّ ان هرقل لم يعلن ايمانه حرصاً على الحكم والسلطة.

وامثال هؤلاء كثير مثل سلمان الفارسي الذي كان نصرانياً، وما ان رأى اوصافه e حتى أخذ يتحرى عنه ولما رآه أسلم. وكذلك تميم وهو عالم جليل، والنجاشي ملك الحبشة المشهور، ونصارى الحبشة، واساقفة نجران.. فهؤلاء كلهم يخبرون بالاتفاق: اننا آمنا لما رأينا اوصافه e في كتبنا.

الحجة الثالثة:

سنذكر على سبيل المثال فحسب، آيات من التوراة والأنجيل والزبور(1) التي تبشر بالرسول e .

الاول: هناك آية في الزبور ما معناه.

((الـّلـّهم ابعث لنا مقيم السنة بعد الفترة)) ومقيم السنة هو من اسمائه e .

وآية الأنجيل:

((قال المسيح اني ذاهب الى أبي وابيكم ليبعث فيكم الفارقليطا))(2) اي ليبعث فيكم أحمد.

وآية اخرى من الانجيل:

((واني اطلب من ربي فيعطيكم فارقليطاً يكون معكم الى الابد))(3).

والفارقليط: الفارق بين الحق والباطل، وهو اسم النبي e في تلك الكتب(4).

وآية التوراة:

((ان الله قال لأبراهيم. إنّ هاجر تلد ويكون من ولدها مَن يدُه فوق الجميع ويد الجميع مبسوطة اليه بالخشوع))(1).

وآية اخرى في التوراة:

((وقال يا موسى اني مقيم لهم نبياً من بني اخوتهم مثلك وأجري قولي في فمه والرجل الذي لا يقبل قول النبي الذي يتكلم باسمي فانا انتقم منه))(2).

وآية ثالثة في التوراة:

((قال موسى: رب اني اجد في التوراة أمة هم خير امة اخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله، فاجعلهم امتي، قال: تلك امة محمد)).

تنبيه:

لقد عبّرت الكتب عن اسم محمد e باسماء سريانية ضمن اسماء عبرية فمثلاً: (مشفَّح، مُنْحَمنا، حمياطا) وغيرها من الاسماء التي ترد بمعنى محمد في اللغة العربية. أما الاسم الصريح ((محمد)) e فلم يأت الاّ نادراً، وهذا قد حرّفه اليهود لحسدهم وعنادهم، منها آية الزبور:

((يا داود يأتي بعدك نبي يسمى احمد ومحمداً صادقاً سيداً، امته مرحومة)). وقد اعلن عن وجود هذه الآية الآتية في التوراة قبل ان تلعب فيها ايدي التحريف كثيراً، كلٌ من عبد الله بن عمرو بن العاص وهو احد العبادلة السبعة الذين لهم اطلاع واسع على الكتب السابقة، وعبد الله بن سلام وهو من مشاهير علماء اليهود الذي سبق أقرانه في الاسلام، وكعب الاحبار وهو من علماء اليهود. الآية تخاطب سيدنا موسى عليه السلام، ثم تتجه الى النبي الذي سيأتي:

((يا ايها النبي انا ارسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وحرزاً للاميين، أنت عبدي، سمّيتُك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخّاب في الاسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، بل يعفو ويغفر ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا اله الاّ الله))(3).

وآية اخرى من التوراة:

((محمد رسول الله مولده بمكة، وهجرته بطيبة، وملكه بالشام. وامته الحمّادون)) ولفظ ((محمد)) في هذه الآية قد ورد باسم سرياني يعني محمد.

وايضاً آية اخرى من التوراة:

((انت عبدي ورسولي سميتك المتوكل)). فهذه الآية تخاطب الذي سيبعث بعد موسى عليه السلام من بني اسماعيل الذين هم اخو بني اسحاق(1).

وآية اخرى من التوراة:

((عبدي المختار ليس بفظٍ ولا غليظ))(2) والمختار هو المصطفى وهو اسم من اسماء النبي e .

وقد جاءت تعاريف متنوعة تخص ((رئيس العالم)) الذي بُشّر به بعد عيسى عليه السلام في الانجيل، منها: ((معه قضيب من حديد يقاتل به وامته كذلك)) فقضيبٌ من حديد يعني السيف. اي سيأتي من هو صاحب السيف، وامته مأمورة بالجهاد، كما وصفهم القرآن الكريم في ختام سورة الفتح:

} وَمَثلُهم في الانجيل كَزَرعٍ أخَرَجَ شَطْئَهُ فآزَرَه فاستَغْلظَ فاستوى على سُوقه يُعجِبُ الزُرّاعَ ليغيظَ بهم الكفّار{ (الفتح: 29)

وهناك آيات كثيرة اخرى مشابهة لهذه في الانجيل(3).

جاءت في الباب الثالث والثلاثين من الكتاب الخامس من التوراة هذه الآية:

((وقال: جاء الرب من سيناء واشرق لنا من ساعيرا ستعلن من جبل فاران ومعه الوف الاطهار في يمينه)).

فهذه الآية مثلما تخبر عن نبوة موسى عليه السلام باقبال الحق من طورسينا، فهي تخبر عن نبوة عيسى عليه السلام بــ ((اشرق لنا من ساعيرا)) وفي الوقت نفسه تخبر عن نبوة محمد e بظهور الحق من فاران التي هي جبال الحجاز بالاتفاق، فالآية تخبر بالضرورة عن نبوته e . أما ((ومعه الوف الأطهار في يمينه)) فهي تصدّق حكم الآية الكريمة في ختام سورة الفتح في: } ذلك مَثَلهُمْ في التوراة{ ... اذ تصف اصحابه e بالاطهار القديسين وهم الاولياء الصالحون.

وجاءت هذه الآية في الباب الثاني والاربعين من كتاب اشعيا:

((ان الحق سبحانه سيبعث صفيه في آخر الزمان وسيرسل اليه الروح الأمين وهو جبرائيل يعلّمه ثم بعد ذلك يعلم الناس كما علّمه جبرائيل، ويحكم بين الناس بالحق، وهو نورٌ سيُخرج الناس من الظلمات الى النور. وقد علمني ربي ما سيقع فاقول لكم)). فهذه الآية تبين بوضوح تام اوصاف الرسول e .

وفي الباب الرابع من كتاب النبي ميخائيل الآية الآتية:

((ستكون في آخر الزمان أمة مرحومة تعبد الحق وتوثر الجبل المقدس، ويجتمع اليها خلق كثير هناك من كل اقليم تعبد الرب ولا تشرك به)).

فهذه الآية تبين ((عَرَفة)) والخلق الكثير هم الحجاج الذين يقصدون ذلك الجبل المقدس ويعبدون الله، وان الامة المرحومة هي امة محمد، حيث ان هذا الوصف شعارهم.

وفي الباب الثاني والسبعين من الزبور هذه الآية:

((انه يملك من البحر الى البحر، ومن الانهار الى اقاصي الارض، وترده الهدايا من اليمن والجزائر، وتسجد له الملوك وتنقاد اليه، ويصلّى عليه كل وقت ويدعى له بالبركة كل يوم. وتشع انواره من المدينة، وسيدوم ذكره ابد الآباد، وان اسمه موجود قبل ان تخلق الشمس، وسيبقى اسمه ما بقيت الشمس)).

فهذه الآية صريحة في وصف النبي e ، فهل جاء بعد نبي الله داود عليه السلام نبيٌ غير محمد e الذي اعلن الدين شرقاً وغرباً، وجعل الملوك يعطون له الجزية صاغرين، وانقاد له الملوك والسلاطين انقياد خضوع ومحبة، وتوهب له الصلوات والادعية يومياً من خمس البشرية، وبزغت انواره من المدينة؟.. فهل هناك غيره؟.

والآية العشرون من الباب الرابع عشر من انجيل يوحنا (المترجم الى التركية) هي: ((لا اتكلم ايضاً معكم كثيراً لأن رئيس هذا العالم يأتي، وليس له فيّ شئ او ليس له عندي مثيل))(1).

فعبارة سيد العالم هو فخر العالم، وهو عنوان مشهور لسيدنا الرسول e .

والآية السابعة من الباب السادس عشر من انجيل يوحنا:

((لكني اقول لكم الحق انه خير لكم ان انطلق، لأنه ان لم انطلق لا يأتيكم المعزّي))(1) فهل المسلّي بعد عيسى عليه السلام غير محمد e . فهو الذي ينقذ البشرية من حكم الزوال والاعدام الابدي فيسليها، وهو سيد العالمين وفخر الكائنات.

والآية الثامنة من الباب السادس عشر من انجيل يوحنا:

((ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية وعلى برٍ وعلى دينونة)) (اي يلزمهم على الخطيئة والصلاح والحكم) فالذي يبدل فساد العالم الى صلاح، وينقذ الناس من الآثام والخطايا والشرك، ويبدل اسس السياسة والحاكمية في الدنيا، من يكون غير محمد e ؟.

والآية الحادية عشرة من الباب السادس عشر من انجيل يوحنا: ((لقد جاء زمان قدوم سيد العالم)) أو ((وأما على دينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دِينْ)). فلابد ان المراد بسيد العالم(2) هو سيد البشرية محمد e .

والآية الثالثة عشرة من الباب الثاني من انجيل يوحنا: ((اذا جاء روح الحق ذاك، فهو الذي يرشدكم الحق كله، لأنه لا ينطق من عنده، بل يتكلم بكل ما يسمع ويخبركم بالآتي من الامور)).

فهذه الآية صريحة في حق الرسول الكريم e . فمن غيره e دعا الناس جميعاً الى الحق؟ ومن غيره لا ينطق الاّ بالوحي، ويقول ما يسمعه من جبرائيل عليه السلام؟ ومن غيره يخبر عن احداث القيامة والآخرة إخباراً مفصلاً؟

ثم ان في صحف الانبياء اسماء للرسول e تفيد معنى ((محمد)) ((احمد)) ((المختار)) ((مصطفى)) وذلك باللغة السريانية والعبرية:

ففي صحف شعيب عليه السلام؛ هناك: (مشفّح) وهي بمعنى: ((محمد)) كما انه في التوراة اسم (منحمنّا) وهذا بمعنى اسم ((محمد)). كما جاء في الزبور (حمياطا) وهو بمعنى نبي الحرم. وفيه ايضاً (المختار)، وقد جاء في التوراة اسم (الحاتم، الخاتم)، وجاءت كلمة (مقيم السنة) في كل من التوراة والزبور. وفي صحف ابراهيم والتوراة: (مازماز). وفي التوراة ايضاً (أحيد).

وقد قال الرسول e :

((اسمى في القرآن محمد وفي الانجيل أحمد وفي التوراة اُحيد، وانما سميت اُحيِدَ لأني اُحيد عن امتي نار جهنم))(1) ومن الاسماء النبوية التي وردت في الانجيل ((صاحب القضيب والهراوة)) فلا شك انه اعظم نبي بين الانبياء بجهاده وجهاد امته. وكذلك: ((انه صاحب التاج)) فهذه الصفةخاصة به e اذ الامة العربية هم المعروفون بالعمامة والعقال بين الامم والتاج والعمامة بمعنى واحد. فصاحب التاج المذكور في الانجيل ليس الاّ الرسول e . وفيه كذلك: البارقليط أو الفارقليط، ومعناه كما جاء في تفسير الانجيل: انه الفارق بين الحق والباطل، وهو اسم النبيe الذي يدعو الناس الى الحق. وقد قال عيسى عليه السلام في الانجيل: ((ساذهب كي يجئ سيد العالم)) فهل غير محمد e قد جاء بعد عيسى عليه السلام، وترأس العالم وفرّق بين الحق والباطل، وارشد الناس الى الخير والصلاح. اي ان عيسى عليه السلام كان يبشّر دوماً انه سيأتي احدهم بعدي ولا تبقى الحاجة اليّ فانا مقدمة له. كما يصرح بذلك القرآن الكريم: } واذ قال عيسى ابن مريم يا بني اسرائيل اني رسولُالله اليكُم مُصَدقاً لما بين يَديّ من التوراة ومبشّراً برسولٍ يأتي من بعدي اسمُه احمد{ (الصف: 6).

نعم ان عيسى عليه السلام قد بشّر أمته كثيراً بانه سيجئ سيد العالم(2) ورئيسه ويذكره باسماء مختلفة سواء بالسريانية أو العبرية. فالعلماء المحققون يرون ان هذه الاسماء تعني: أحمد، محمد، الفارق بين الحق والباطل.

سؤال: لِمَ بشّر عيسى عليه السلام بقدوم النبي e اكثر من غيره من الانبياء عليهم السلام بينما اكتفى الآخرون بالاخبار عنه فقط؟

الجواب: لأن الرسول الكريم e قد انقذ عيسى عليه السلام من تكذيب اليهود ومن افتراءاتهم الشنيعة، وانقذ دينه من تحريفات فظيعة، فضلاً عن انه اتى بشريعة سمحاء بدلاً من تلك الشريعة التي ارهقت بني اسرائيل الذين لا يؤمنون بعيسى عليه السلام فهذه الشريعة الغراء جامعة للاحكام مكملة لما هو ناقص في شريعة عيسى عليه السلام. ومن هنا تأتي بشارة عيسى عليه السلام بالرسول الكريم e بأنه سيأتي رئيس العالم..

T T T

وهكذا نرى كيف ان التوراة والانجيل والزبور وسائر صحف الانبياء قد اعتنت بنبي آخر الزمان وتضم آيات كثيرة نعوته، كما بينا نماذج منها. فهو مذكور باسماء ونعوت مختلفة في تلك الكتب. تُرى من يكون نبي آخر الزمان الذي ذكرته جميع كتب الانبياء ذكراً جاداً الى هذا الحد، في آيات مكررة منها، غير محمد e !

القسم الثاني

من الارهاصات ودلائل النبوة هو: اخبار الكهان والاولياء العارفين بالله في عهد ((الفترة)) (اي قبل البعثة النبوية) عن مجيئه e فقد اعلنوا عنه امام الملأ، وتركوا اخبارهم لنا في اشعارهم. هذه الاخبارات كثيرة جداً، فلا نذكر منها الاّ ما هو منتشر ومشهور ومقبول لدى رجال السير والتأريخ.

الاول: ما رآه الملك تُبعّ - من ملوك اليمن - من أوصاف الرسول e في الكتب القديمة، وآمن. واعلن ذلك شعراً:

شــهدتُ عــلى أحـمــد أنه رسولٌ من الله باري النَسَم

فلو مُدَّ عمري الى عمره لكنــتُ وزيـراً له وابــن عــم

اي كنت له كعلي رضي الله عنه.

الثاني: اعلان قس بن ساعدة الشهير بابلغ خطباء العرب والموحـِّد، عن الرسالة الأحمدية شعراً قبل البعثة بالابيات الاتية

ارسـل فيـنا أحمـد خير نـبـي قـد بُعـث

صلى عليه الله ما عجّ له ركبٌ وحُث

الثالث: ما قاله كعب بن لؤي وهو أحد أجداد النبي e . فأُلهم هذا البيت عن الرسالة الأحمدية.

على غفلةٍ يأتي النبي محمد فيخبر اخباراً صدوقاً خبيرها

الرابع: ما رآه سيف بن ذي يزن احد ملوك اليمن في الكتب السابقة من اوصاف الرسول e ، وآمن به واشتاق اليه، وعندما ذهب جدّ النبي e الى اليمن مع قافلة قريش دعاهم الملك سيف بن ذي يزن وقال لهم:

اذا ولد بتهامة (اي: الحجاز) ولدٌ بين كتفيه شامةٌ كانت له الامامة وانك عبدالمطلب لجدّه.

الخامس: عندما نزل الوحي لأول مرة على الرسول الكريم e أخذه الخوف والروع، فانطلقت به خديجة حتى اتت ورقة بن نوفل (ابن عم خديجة) فقالت: ياابن عم اسمع من ابن اخيك. فقال له ورقة: يا ابن اخي ماذا ترى؟ فاخبره رسول الله e ما رأى. فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى ياليتني فيها جدعاً، ليتني اكون حياً اذ يخرجك قومك…(1)

ومما قاله ورقة: بشّر يا محمد إنّي أشهد أنّك أنت النبي المنتظر وبَشَّر بكَ عيسى.

السادس: لما رأى عثكلان الحميري العارف بالله قريشاً قبل البعثة قال لهم: هل فيكم من يدّعي النبوة؟ فأجابوه: لا، ثم سأل السؤال نفسه زمن البعثة، فقالوا: نعم، اِن فينا من يدّعي النبوة، فقال: ان العالم ينتظره.

السابع: اخبر احد علماء النصارى وهو ابن العلا عن النبي e قبل البعثة، ثم جاء بعد البعثة فرأى النبي e وقال له: والذي بعثك بالحق لقد وجدتُ صفتك في الانجيل وبشّر بك ابن البتول.

الثامن: قال النجاشي ملك الحبشة الذي سبق ذكره: ليتَ لي خِدْمَتُه بدلاً عن هذه السلطنة.

T T T

وبعد ما ذكرنا ما تنبأ به هؤلاء العارفون بالهام من الله عن مجئ الرسول e نورد ما قاله الكهان وتنباؤا به من أخبار الغيب بوساطة الارواح والجن، فقد صرّحوا بمجئ النبي e وتنبأوا عن نبوته وهم كثيرون، الاّ اننا سوف لا نذكر الاّ ما هو في حكم المتواتر ومذكور في كتب السيرة والتأريخ ونحيل قصصهم المطولة واقوالهم المسهبة الى كتب السيرة. فلا نذكر هنا الاّ الخلاصة.

الاول: الكاهن الموسوم بــ ((شِق)) الذي كان شق انسان يداً واحدة ورجلاً واحدة وعيناً واحدة. أخبر هذا الكاهن عن النبي e مراراً حتى وصلت اقواله حدّ التواتر.

الثاني: كاهن الشام المسمى بــ ((سطيح)) الذي كان اعجوبة من العجائب حيث كان جسداً لا جوارح له ولا عظم فيه الاّ الرأس ووجهه في صدره، وقد عاش كثيراً، اشتهرت اخباره الغيبية الصادقة كثيراً حتى ان كسرى ملك فارس عندما رأى الرؤيا العجيبة التي هالته - زمن ولادة الرسول e - من انشقاق شرفات ايوانه الأربعة عشرة وسقوطها، بعث عالماً اسمه ((مويزان)) ليسأل سطيحاً عن حكمة هذه الرؤيا، فأرسل الى كسرى كلاماً بهذا المعنى: ((سيحكم فيكم اربعة عشر ملكاً ثم ستُمحى سلطتكم وتُزال دولتكم، وسيأتي من يظهر ديناً جديداً، فيكون سبباً في زوال دينكم ودولتكم)). وهكذا اخبر سطيح خبراً صريحاً عن مجئ نبي آخر الزمان.

وقد اخبر سواد بن قارب الدوسي، وخنافر وأفعى نجران (من ملوكها)، وجذل بن جذل الكندي، وابن خلصة الدوسي، وفاطمة بنت النعمان النجارية وامثالهم من الكهان المشهورين. قد اخبروا جميعاً عن مجئ نبي آخر الزمان وانه محمد e كما ذكرته كتب التاريخ والسيرة مفصلاً.

وان سعد بن بنت كريز وهو من اقارب عثمان رضي الله عنه قد تلقى بطريق الكهانة خبر نبوة محمد e من الغيب، فأشار الى عثمان رضي الله عنه بالايمان في اول ظهور الاسلام قائلاً: انطلق الى محمد وآمن، فآمن عثمان واورده سعد شعراً:

هدى الله عثمان بقولي الى التي بها رُشْدُه والله يَهدِي الى الحق

T T T

واخبرت الهواتف ايضاً كما اخبر الكهان عن مجئ الرسول e . والهاتف هو الصوت العالي الذي يُسمَع ممن لا يُرى شخصه.

منها: سماع ذياب بن الحارث هاتفاً من جني، واصبح سبباً لأسلامه واسلام غيره:

يـا ذيـاب يـا ذياب اسمع العَجَب العُجاب

بُعث محمدٌ بالكتاب يدعو بمكة فلا يُجاب

ومنها: سماع ابن قرة الغطفاني هاتفاً يقول:

جـاء الـحق فـسَطع ودُمـِّر باطـلٌ فانقمع

فكان سبباً في ايمان بعض الناس.

وهكذا فبشارة الكهان والهواتف مشهورة وكثيرة جداً.

T T T

وقد سُمع من جوف الاصنام وذبائح النُصب خبر مجئ النبي e كما سمع من الكهان والهواتف.

منها: ان صنم قبيلة مازن اخبر عن الرسالة الاحمدية اذ نادى فقال: هذا النبي المرسَل جاء بالحق المنزَل.

وكذلك فان سبب اسلام عباس بن مرداس هذه الحادثة المشهورة: انه كان له صنم يسمى بـ ((ضمار)) فقال ذلك الصنم يوماً(1).

اودى ضمار وكان يُعبد قبل البيان من النبي محمد

وقد سمع عمر رضي الله عنه قبل اسلامه صوتاً من عجل قرَّبَه رجلٌ ليذبحه قرباناً لصنم يقول:

يا آل الذبيح، أمرٌ نجيح، رجلٌ فصيح، يقول: لا اله إلاّ الله(2).

وهكذا فهناك حوادث مشابهة كثيرة جداً امثال ما ذكرناه قد نقلته الكتب الموثوقة في السيرة والتاريخ.

T T T

وكما ان الكهان والعارفين بالله والهواتف حتى الاصنام والذبائح اخبروا عن الرسالة الأحمدية، واصبح كل حادث سبباً لاسلام قسم من الناس كذلك بعض الاحجار وشواهد القبور وجدت عليها عبارات بالخط القديم ((محمد مصلح أمين)) وقد آمن لسبب ذلك قسم من الناس.

نعم ان عبارة ((محمد مصلح أمين)) حريَّة بالنبي e اذ هو المتصف بالمصلح الامين ولأنه لم يكن قبل ذلك من يتسمى باسم محمد سوى رجال وهم غير حريين بهذا الاسم.

القسم الثالث من الارهاصات

هو الآيات والحوادث التي ظهرت عند مولده e ، فالحوادث التي يرتبط ظهورها بمولده والتي حدثت قبل البعثة يُعدّ كل منها معجزة من معجزاته وهي كثيرة جداً، الاّ اننا سنورد هنا امثلة مشهورة قبلها ائمة الحديث. وثبتت لديهم صحتها.

الأول: ما رأته امه(1) e ((من النور الذي خرج معه عند ولادته)) ورأته ام عثمان بن العاص وام عبد الرحمن بن عوف اللتان باتتا عندها ليلة الولادة. فقد قلن: رأينا نوراً حين الولادة اضاء لنا ما بين المشرق والمغرب...

الثاني: انتكاس معظم الاصنام التي كانت في الكعبة.

الثالث: ((ارتجاج ايوان كسرى وسقوط شرفاته)) الاربعة عشرة.

الرابع: ((غيض بحيرة)) ساوة تلك الليلة وهي التي كانت تقدَّس . ((وخمود نار فارس وكان لها الف عام لم تخْمد))(1) حيث كانت توقد في اصطخراباد ويعبدها المجوس.

فهذه الحوادث الاربعة انما هي اشارات الى أن ذلك المولود الجديد سيحظر عبادة الاصنام وسيدمّر سلطنة فارس، وسيحرم تقديس مالا يأذن به الله.

الخامس: حادثة الفيل: وهي مع انها ليست من حوادث تلك الليلة الاّ انها قريبة الحدوث للولادة، لذا فهي من الارهاصات ايضاً، وقد بينّها القرآن الكريم في قوله تعالى. } ألَمْ تَر كَيفَ فعَلَ ربُّك باصحاب الفيل{ ... الآية. وخلاصة قصتها: ان أبرهة ملك الحبشة اراد هدم الكعبة، فساق امام الجيش فيلاً عظيماً يقال له: محمود، فلما وصل الفيل قرب مكة بَرَك ولم يمض مهما حاولوا معه، فلما عجزوا عادوا، الاّ أن طيور أبابيل لم تتركهم سالمين فرمتهم بحجارة من سجيل واذلتهم فانهزموا شر هزيمة. هذه القصة مشهورة في كتب التاريخ وهي من علائم نبوته e حيث نَجتْ قِبلَتُه واحبّ موطن اليه، الكعبة، من دمار ابرهة نجاة خارقة للعادة.

السادس: اظلال الله له بالغمام في سفره ((وقد روى أن حليمة - السعدية - رأت غمامة تظله وهو عندها))(2) في صباه وشهدها زوجها، فأخبر الناس بذلك فاصبحت حادثة معروفة مشهورة.

((كما رأى الغمام بحيرا الراهب وأراه الناس لما سافر للشام مع عمه وهو في الثانية عشرة من عمره))(3).

((وفي رواية ان خديجة ونساءها رأينه لما قدم)) e من سفره من الشام. ((وملكان يظلانه - كالغمام - فذكرت ذلك لميْسرة)) غلام خديجة ((فأخبرها انه رأى ذلك منذ خرج معه في سفره))(1).

السابع: وثبت بالنقل الصحيح(2) ((انه نزل في بعض اسفاره قبل البعثة تحت شجرة يابسة فاعشوشب ما حولها واينعت هي فأشرقت)) اي نمت وعلت ((وتدلت عليه اغصانها)).

الثامن: ((وانه كان اذا أكل مع عمه ابي طالب وآله وهو صغير شبعوا ورووا واذا غاب، فأكلوا في غيبته لم يشبعوا))(3) وهذه حادثة مشهورة وصحيحة.

وقد قالت أم ايمن - مولاة رسول الله e وحاضنته: ((ما رأيته e شكى جوعاً ولا عطشاً صغيراً ولا كبيراً))(4).

التاسع: البركة التي حصلت في غنم وجمال مرضعته حليمة السعدية خلافاً للقوم. وهذه حادثة مشهورة ولا ريب في صحتها(5).

و ((ان الذباب كان لا يقع على جسده ولا ثيابه))(6) وما كان يؤذيه. ولقد ورث الشيخ عبد القادر الكيلاني (قدس سره) هذا عن جدّه الاعظم e ، اذ كان لا يقع عليه الذباب ايضاً.

العاشر: كثرة الرجم بالشهب السماوية بعد مجئ النبي e للدنيا، ولا سيما ليلة مولده.

ولقد أثبتنا سقوط الشهب السماوية ورجم الشياطين في ((الكلمة الخامسة عشرة))، وبيّنا أن المراد من سقوط الشهب السماوية هو الاشارة الى قطع رصد الشياطين والجن عن السماء ومنعهم من استراق السمع.فما دام الرسول e قد برز بالوحي الى العالم اجمع لزم اذاً ان تمنع اقوال الكهان ومن يتكلم عن الغيب من اقوال الجن الملفقة بالكذب وخلاف الواقع حتى لا يلتبس الوحيُ بغيره ولا تكون هناك اية شبهة كانت في امر الوحي. فلقد كانت الكهانة كثيرة جداً قبل النبوة، ولكن بعد نزول القرآن الكريم حظرت بتاتاً، حتى أن كثيرين منهم آمنوا، لأنهم لم يجدوا مخبريهم من الجن ليتنبأوا لهم الاخبار الغيبية. فسدَّ القرآن الكريم اذاً الطريق عليهم. ولقد ظهر نوع من الكهانة السابقة في اوربا في الوقت الحاضر لدى الوسائط الذين يريدون تحضير الارواح... وعلى كل حال...

الحاصل: لقد ظهرت حوادث كثيرة وأشخاص كثيرون لتأييد نبوة محمد e قبل بعثته.

نعم! ان الذي سيكون سيد العالم(1) معنىً، والذي سيبدل ملامح العالم المعنوية، والذي سيحول الدنيا مزرعة للآخرة، والذي سيعلن عن علو منزلة المخلوقات ونفاستها، والذي سيهدي الجن والانس الى الرشد وطريق السعادة، وينقذهم - وهم الفانون - من العدم المطلق، والذي سيحلّ حكمة الخلق واللغز المحيّر للعالم، والذي سيعلم ويعلّم مقاصد رب العالمين، والذي سيعرف ويعرّف ذلك الخالق العظيم... ان انساناً كهذا لابد ان يكون كل شئ، وكل نوع، وكل طائفة من المخلوقات، مشتاقاً الى مجيئه وسيرقبه بلهفة، ويستعد احتفاءً بمقدمه العظيم، بل سيبشر الاخرين بقدومه - اذا ما أعلمه خالقُه بذلك - كما رأينا مصداق ذلك في الاشارات والامثلة السابقة من ان كل نوع من المخلوقات قد اظهر معجزاته بما يشبه الترحيب به، وكأنه يقول بلسان المعجزة: انت صادق في دعوتك.

الاشارة السابعة عشرة

ان أعظم معجزة للرسول الكريم e بعد القرآن الكريم هو ذاته المباركة، اي ما اجتمع فيه e من الاخلاق السامية والخصال الفاضلة، وقد اتفق الاعداء والاولياء على انه اعلى الناس قدراً واعظمهم محلاً واكملهم محاسن وفضلاً. حتى ان بطل الشجاعة الامام علي رضي e عنه يقول: ((انا كنا اذا حمي البأس - ويروى اشتد البأس - واحمرّت الحدق اتقينا برسول الله e ))... وهكذا كان e في ذروة ما لا يرقى اليها احد غيره من كل خصلة حميدة كما هو في الشجاعة.

نحيل هذه المعجزة الكبرى الى كتاب ((الشفا في حقوق المصطفى)) للقاضي عياض المغربي، فقد اجاد فيه حقاً وفي بيانها ايّما اجادة، واثبتها في اجمل تفصيل.

T T T

ثم ان الشريعة الغراء التي لم يأت ولا يأتي مثلها هي معجزة اخرى عظيمة للرسول الكريم e حتى اتفق الاعداء والاصدقاء عليها..

نحيل تفصيل هذه المعجزة وبيانها الى جميع ما كتبناه من ((الكلمات)) الثلاث والثلاثين، و((المكاتيب)) الثلاثة والثلاثين و((اللمعات)) الاحدى والثلاثين و((الشعاعات)) الثلاثة عشر.

ثم المعجزة العظمى.. تلك هي معجزة ((انشقاق القمر)) التي رويت روايات متواترة وهي ثابتة ثبوتاً قاطعاً لا تقترب منها شبهة. فقد رويت بطرق عديدة وبصورة متواترة عن: ابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، والامام علي، وانس، وحذيفة، وامثالهم كثير من الصحابة الاجلاء رضوان الله تعالى عليهم اجمعين. فضلاً عن تأييد القرآن الكريم واعلانه تلك المعجزة في: } اقتربت الساعةُ وانشقّ القمر{ بل لم يسع كفار قريش وهم اهل عناد وتعنت ان ينكروا هذه المعجزة، ولكنهم قالوا: ((انه سحر)) اي ان انشقاق القمر أمر ثابت مقطوع به حتى من قبل الكفار انفسهم الا انهم أوّلوا الحادثة بأنها سحر.

نحيل الى رسالة انشقاق القمر التي هي ذيل ((رسالة المعراج)).

T T T

ثم ان الرسول الكريم e اظهر المعجزة العظمى معجزة ((المعراج)) لأهل السماء كما اظهر لأهل الارض معجزة ((انشقاق القمر)). فنحيل الى رسالة ((المعراج)) وهي الكلمة الحادية والثلاثون، التي اثبتت صدق تلك المعجزة واظهرتها بوضوح، الاّ اننا سنذكر هنا ما هو مقدمةٌ لتلك المعجزة وهي سفره e الى بيت المقدس، وطلب قريش منه وصف بيت المقدس صبيحة المعراج، وما حصل في هذا السفر من معجزة ايضاً.

فعندما اخبر الرسول الكريم صبيحة ليلة المعراج عن سفره، كذّبته قريش وقالوا : ان كنت حقاً قد ذهبت الى بيت المقدس فصف لنا ابوابه وجدرانه واحواله.

قال الرسول الكريم e : ((فكربتُ كرباً ما كربتُ مثله قط، فرفعه الله لي انظر اليه))(1) اي رُفع له بيت المقدس وبدأ يصفه وهو ينظر اليه، فتيقنتْ قريش من الخبر ((وقالوا: متى تجئ)) اي القافلة التي رآها الرسول في الطريق، ((قال يوم الاربعاء. فلما كان ذلك اليوم اشرفت قريش ينتظرون وقد ولّى النهار، ولم تجئ: فدعا رسول الله e ، فزيد له في النهار ساعة وحبست الشمس))(2).

فانت ترى ان الارض تعطّل وظيفتها ساعة من نهار تصديقاً لخبره e ، وتشهد على صدقه الشمس الضخمة.. ترى ما اشقاه ذلك الذي لا يصدق كلام هذا النبي الكريم e الذي عطلت الارض وظيفتها وحبست الشمس نفسها تصديقاً لكلامه. وما اسعد اولئك الذين نالوا شرف امتثال اوامره e ... تأمل في هذا وقل:

الحمد لله على الايمان والاسلام.

الاشارة الثامنة عشرة

ان اعظم معجزة من معجزات الرسول الأكرم e هو القرآن الكريم؛ الذي يضم مئات دلائل النبوة، وقد ثبت اعجازه بأربعين وجهاً كما في الكلمة الخامسة والعشرين، لذا سنحيل بيان هذا الكنز العظيم للمعجزات الى تلك الكلمة، ونكتفي هنا ببيان ثلاث نكات دقيقة.



النكتة الاولى

سؤال:

ان قيل: ان سر اعجاز القرآن الكريم انما هو في بلاغته الفائقة، بينما لا يرقى إلا واحد من الألف من علماء البلاغة الفطاحل الى ادراك هذا السر، مع أنه كان ينبغي ان تكون لكل طبقة من طبقات الناس حظها من هذا الاعجاز؟

الجواب:

ان للقرآن الكريم اعجازاً لكل طبقة من طبقات الناس، الاّ انه يُشعر اعجازه هذا بأسلوب معين وبنمط خاص.

فمثلاً؛ يبيّن اعجازه الباهر في البلاغة (( لأهل البلاغة والفصاحة)).

ومثلاً؛ يبين اسلوبه الرفيع الجميل الفريد ((لأرباب الشعر والخطابة)). هذا الأسلوب مع أنه تستسيغه كل طبقة من الناس الاّ ان أحداً لا يجرأ على تقليده، فلا تخلقه كثرة الرد ولا يبليه مرور الزمان، فهو اسلوب غض طري يحتفظ بفتوته وشبابه ونضارته دائماً، وهو اسلوب يحمل من النثر المنظوم والنظم المنثور ما يجعله رفيعاً عالياً ولذيذاً ممتعاً في الوقت نفسه.

ثم انه يبين اعجازه فيما يخبر من أنباء معجزة عن الغيب فيتحدى به طبقة الكهان ((والذين يدّعون انهم يخبرون اشياء عن الغيب)).

ثم انه يقصّ ((لأهل التاريخ)) والذين يتتبعون أحداث العالم من العلماء ما يشعرهم اعجازه، وذلك بذكره أحداث الأمم الغابرة وأحوالها، وما سيحدث في المستقبل من وقائع، سواء في الحياة الدنيا أو في البرزخ أو في الآخرة، فيتحداهم باعجازه الرائع هذا.

ويعرض ايضاً اعجازه ((لعلماء الإجتماع والسياسة والحكم)) وذلك بعرض ما في الدساتير القرآنية المقدسة من اعجاز.. نعم! ان الشريعة الغراء المنبثقة من القرآن الكريم تظهر اظهاراً تاماً سر ذلك الأعجاز.

ويبين كذلك لأولئك الذين توغلوا في ((المعارف الإلهية والحقائق الكونية)) اعجازاً باهراً في سوقه الحقائق الإلهية السامية المقدسة، أو يشعرهم بوجود هذا الاعجاز.

ولأولئك الذين يسلكون ((طرق الولاية والتصوف)) يبين القرآن الكريم اعجازه لهم بكنوز الأسرار التي ينطوي عليها بحر آياته الزاخرة.

وهكذا تُفتح امام كل طبقة من الطبقات الأربعين للناس نافذة مطلة الى الاعجاز الباهر. بل انه يبين اعجازه حتى لأولئك الذين لا يملكون سوى قدرة الاستماع من دون ان يقدروا على التوغل في الفهم من ((عوام الناس)). فنراهم يصدِّقون اعجازه ويشعرون به بمجرد سماعهم له، اذ يحاور ذلك العامي نفسه ويقول: ((ان اسلوب هذا القرآن يختلف تماماً عن اساليب الكتب الاخرى، فإما أنه في مستوى من الاسلوب هو أدنى منها وهذا محال - بل لم يتفوه به ألد الأعداء وأهل الخصومة - أو هو اسلوب أرقى من الجميع، أي انه معجز)).

فالعامي الذي لا يستطيع الاّ الاستماع، يفهم الاعجاز على هذه الشاكلة، ولأجل ان نساعده شيئاً في ادراكه هذا نوضح ما يلي:

لقد اثار القرآن الكريم لدى الناس من أول ما برز الى ميدان التحدي رغبتين شديدتين:

أولاهما:

رغبة التقليد لدى أوليائه، اي حبّهم الشديد بالتشبه باسلوبه الرفيع، فاشتاقوا الى تشبيه اسلوبهم به.

ثانيتها:

الرغبة في المعارضة والنقد التي تولدت لدى الأعداء والخصماء، أي اتيان اسلوب مثله لدحض دعوى الاعجاز.

فهاتان الرغبتان الشديدتان سببتا ظهور ملايين الكتب العربية الماثلة أمامنا، ولكن لو قارنا أبلغ هذه الكتب وأوضحها قاطبة بالقرآن الكريم، أي لو قرأناهما معاً لقال كل سامع وقارئ بلا تردد، ان القرآن لا يشبه أياً من هذه الأساليب، فهو اذاً ليس بمستوى تلك الكتب، فإما أنه أدنى اسلوباً من الجميع، وهذا محال بلا أدنى ريب، ولم يتفوه به أحد قط بل حتى الشيطان يعجز عن أن يتفوه بهذا(1)، فثبت اذاً ان اسلوب القرآن الكريم فوق الجميع وذلك باعجازه الرائع.

بل ان ((العامي الجاهل)) الذي لا يفهم شيئاً من معاني القرآن الكريم يشعر باعجاز القرآن من عدم سأمه في التلاوة. فيحاور ذلك العامي الجاهل قائلاً: ان الاستمرار على تلاوة هذا القرآن لا يولد السأم قط، بل تزيد كثرة تلاوته حلاوتَه، بينما لو أستمعت الى قصائد جميلة رائعة لمرات عدة فاني اشعر بالملل، لذا فالقرآن ليس بكلام بشر بلا شك.

ثم ان ((الاطفال)) الذين يرغبون في حفظ القرآن الكريم، يظهر لهم اعجازه في قدرتهم على حفظه في عقولهم اللطيفة الصغيرة، على الرغم من وجود مواضع متشابهة تلتبس عليهم، فتراهم يحفظون القرآن الكريم بكل سهولة ويسر بينما يعجزون عن حفظ صحيفة واحدة من غيره.

بل حتى ((المرضى والمحتضرين)) في سكرات الموت ممن يتألمون بأدنى كلام، تراهم يستمعون الى القرآن الكريم وتنزل آياته على اسماعهم كأنه السلسبيل، وبهذا يشعرون باعجازه.

نحصل مما سبق: ان القرآن الكريم لا يدع أحداً محروماً من تذوق اعجازه، فلكل طبقة من أربعين طبقة من الطبقات المتباينة للناس لهم حظهم من هذا الاعجاز أو يشعرهم القرآن باعجازه، حتى انه بيّن نوعاً من اعجازه لأولئك الذين ليس لهم نصيب من العلم ولا يملكون ((سوى الرؤية))(2) من دون القدرة على الاستماع أو الفهم أو الادراك القلبي. وذلك كالاتي:

ان كلمات المصحف المطبوع بخط (الحافظ عثمان) تتقابل وينظر بعضها الى بعض.

فمثلاً: ان كلمة } وثامنُهم كلبُهم{ التي هي في سورة الكهف تناظر كلمة } قطمير{ التي هي في سورة فاطر، فلو ثُقبت الصفحات ابتداءً من الكلمة الأولى لتبينت الكلمة الثانية بانحراف يسير ولَفُهِم اسمُ الكلب.

وكذا كلمة } مُحـضَرون{ المكررة مرتين في سورة يس نرى أحداهما فوق الأخرى. وهما يقابلان كلمة } محضَرونَ{ ، (محضَرينَ) التي في سورة الصافات، فاذا ما ثقبت احداها لظهرت من خلال الصفحات الكلمة نفسها مع انحراف قليل.

وكذا كلمة } مثنى{ التي في آخر سورة سبأ تنظر الى الكلمة نفسها التي هي في مستهل سورة فاطر ، ففي القرآن تتكرر كلمة } مثنى{ ثلاث مرات، وتناظر أثنتين منها ليس موضع المصادفة قطعاً.

ولهذا النوع من التناظر والتقابل أمثلة كثيرة جداً في المصحف الشريف حتى ان الكلمة الواحدة تتكرر في ما يقرب من ست مواضع، فاذا اُوصل بينها بثقب لتراءت الأخريات بانحرافٍ يسير.

ولقد شاهدتُ مصحفاً خُطَّت الجمل المتناظرة في كل صحائفه المتقابلة بخط أحمر، فقلت آنذاك: ((هذه الأوضاع انما هي أمارات لنوع من الاعجاز))، ثم بعد ذلك أخذتُ انظر الى جمل القرآن الكريم فرأيت أن كثيراً منها تتناظر من خلال الصفحات تناظراً ينم عن معنى دقيق.

ولما كان ترتيب القرآن المتداول توقيفياً بارشاد من الرسول e ، وقد خطَّه خطاطون مُلهَمون، فان في نقشه البديع وفي خطه الجميل اشارة الى نوع من علامات الاعجاز، وذلك لأن هذا الوضع لا يمكن أن يكون مصادفة ولا نابعاً من نتاج فكر انسان. فلولا قصور الطبع لطابقت الكلمات المتناظرة مطابقة تامة.

ثم اننا نرى ان في السور المدنية المطولة والمتوسطة تكراراً بديعاً منسقاً للفظ الجلالة (الله)، فهو في الغالب يتكرر باعداد معينة، اما خمس أو ست أو سبع أو ثمان او تسع مرات أو احدى عشرة مرة فضلاً عن انه يبين مناسبة عددية لطيفة على وجهي ورقة المصحف والمتقابلتين(1)(2)(3)(4).
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-03-2011
  #24
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 15
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: المكتوبات

النكتة الثانية
كان السحر رائجاً في عهد موسى عليه السلام، فجاءت معجزاته العظيمة بما يشبه السحر، وكان الطب رائجاً في عهد عيسى عليه السلام فجرت اغلب معجزاته من هذا الجنس، كما كانت هناك اربعة اشياء رائجة في الجزيرة العربية زمن بعثة الرسول e :
اولاها: البلاغة والفصاحة.
ثانيتها: الشعر والخطابة.
ثالثتها: الكهانة والانباء عن الغيب.
رابعتها: معرفة الحوادث الماضية والوقائع الكونية.
وجاء القرآن الكريم يتحدّى أرباب هذه المعارف الاربعة.
فجثا البلغاء والفصحاء اولاً مبهوتين أمام بلاغته المعجزة، منصتين اليه في حيرة واعجاب.
وجعل الشعراء والخطباء في ذهول من امرهم، حتى انه حطّ من شأن ما كانوا يعتزون به من ((المعلقات السبع)) التي تمثل افضل نماذج شعرهم، بل كتبوها بماء الذهب وعلقّوها على جدار الكعبة.
وأفقد الكهان والسحرة صوابهم وأنساهم ما كانوا يتكلمون به من انباء الغيب، حيث طرّد جِنَّهم وأسدل الستار على الكهانة وسد ابوابها الى الأبد.
وانقذ قراء تاريخ الامم السالفة وحوادث العالم مما يطرأ عليها من الخرافات والافتراءات والاكاذيب، وارشدهم الى احداث الماضي ووقائع الكون النيرة.
وهكذا جثت على الركب هذه الطبقات الاربعة أمام عظمة القرآن الكريم، والحيرة والاجلال يغمرهم، فشرعوا يتتلمذون على يديه، ويتلقون منه الهداية والرشاد، فلم يظهر قط ان استطاع احدٌ من هؤلاء على القيام بمعارضة القرآن بشئ مهما كان ، ولو بسورة واحدة.
o وان قيل:
كيف نعرف انه لم يبرز احدٌ في ميدان المعارضة، ولم يتمكن احد من الإتيان بمثل القرآن، وكيف نعرف ان إتيان النظير بحد ذاته امرٌ مستحيل؟.
الجواب: لو كانت المعارضة ممكنة، فلا محالة كانوا يحاولونها. وما كان أحد يتوانى في هذا الأمر، اذ الحاجة الى المعارضة كانت ماسة، وذلك للنجاة من خطر التحدي لانقاذ دينهم واموالهم وانفسهم واهليهم؛ لذا لو كانت المعارضة ممكنة لما احجم احدٌ عنها ابداً، ولكان الكفار والمنافقون - وهم الأغلبية - يشيعون خبرها في الاوساط، بل يبثونها في الارجاء كافة مثلما كانوا يبثون كل ما يعادي الاسلام.. ثم لو كانوا ناشرين لها - فيما لو كان الاعتراض ممكناً - لكان المؤرخون يسجلونها في كتبهم العديدة. ولكن ها هو التاريخ وكتبه كلها امامنا، لا نرى فيها شيئاً من معارضة القرآن سوى فقرات تقوّلها مسيلمة الكذاب. علماً ان القرآن الكريم قد تحداهم طوال ثلاث وعشرين سنة، وقرع اسماعهم بآياته المعجزات، وعلى هذا النمط من التحدي:
ها هو القرآن الكريم امامكم، فأتوا بمثله من ((اميّ)) كمحمد الأمين!.
فان كنتم عاجزين عن هذا، فليكن ذلك الشخص ((عالماً)) عظيماً، وليس اميّاً!
وان كنتم عاجزين عن هذا ايضاً، فأتوا بمثله ((مجتمعين)) وليس من فرد واحد! فلتجتمع عليه علماؤكم وبلغاؤكم، وليعاون بعضهم بعضاً، بل ادعوا شهداءكم من دون الله، فليأتوا بمثله.
وان كنتم عاجزين عن كل هذا، فأتوا ((بالكتب السابقة)) البليغة جميعها واستعينوا بها في المعارضة، بل ادعوا ((الاجيال)) المقبلة ايضاً!
وان كنتم عاجزين ايضاً، فليكن المثل ((بعشر سورٍ)) فحسب، وليس ضرورياً ان يكون بالقرآن كله.
وان كنتم عاجزين كذلك فليكن كلاماً بليغاً مثل بلاغة القرآن، ولو كان من ((الحكايات المفتريات)).
وان كنتم عاجزين كذلك فأتوا ((بسورة واحدة)) ولتكن سورة قصيرة...
وان كنتم عاجزين كذلك:
فاديانكم وانفسكم اذن مهددة بالخطر في الدنيا كما هي في الآخرة.
وهكذا تحدى القرآن الكريم بثماني تحديات طبقات الانس والجن، ولم يحصر تحديه في ثلاث وعشرين سنة بل استمر الى الألف وثلاثمائة سنة بل لا يزال يتحدى العالم وسيبقى هكذا الى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ولهذا فلو كانت المعارضة ممكنة لما اختار اولئك الكفار طريق الحرب والدمار ويلقون أنفسهم واموالهم واهليهم الى التهلكة ويَدَعون طريق المعارضة القصيرة السهلة. اذن فالمعارضة غير ممكنة وليست في طوق البشر. اذ هل يمكن لعاقل فطن - ولا سيما اهل الجزيرة العربية ولا سيما قريش الاذكياء - ان يعرّض نفسه وماله واهله للخطر ويختار طريق الحرب والدمار ان كان باستطاعته سلوك طريق المعارضة ولو بسورة من القرآن من اديب منهم، فينقذ نفسه وماله من التحدي القرآني، ان كان إتيان مثله سهلاً ميسوراً؟
وحاصل الكلام: ما قاله الجاحظ: لمّا لم يمكن المعارضة بالحروف اضطروا الى المقارعة بالسيوف.
o فإن قيل:
لقد قال بعض العلماء المحققين: ((لا يمكن معارضة أية آية من آيات القرآن الكريم ولا جملة منها ولا كلمة منها، فكيف بالسورة؟ ولم يبرز أحد في ميدان المعارضة. أي لم يعارض القرآن اذن)). ونرى ان في هذا الكلام مجازفة ومبالغة لا يقبلها العقل، لأن هناك كثير من الجمل في كلام البشر يشبه جمل القرآن وعباراته. اذن فما معنى هذا القول، وما حكمته؟
الجواب:
هناك مذهبان في بيان اعجاز القرآن:
المذهب الأول: وهو الغالب والراجح وهو مذهب الاكثرية من العلماء وهو ان لطائف بلاغة القرآن ومزايا معانيه هي فوق طاقة البشر.
اما المذهب الثاني: وهو المرجوح فهو ان معارضة سورة واحدة من القرآن ضمن طاقة البشر، إلاّ أن الله سبحانه قد منعها عن الخلق، ليكون القرآن معجزة الرسول e ، ويمكن ان يوضح هذا بمثال:
ان قيام الانسان وقعوده ضمن قدرته ونطاق استطاعته، فاِن قال نبيٌ كريم لشخصٍ ما: لا استطعتَ من القيام، اظهاراً للمعجزة، ولم يستطع الشخص من القيام فعلاً، فقد وقعت المعجزة.
يطلق على هذا المذهب المرجوح: مذهب الصَرفة. اي أن الله سبحانه هو الذي صرف الجن والانس عن القدرة على المعارضة، فلو لم يصرفهم الله سبحانه عن الاتيان بالمثل لكان الجن والانس بمقدورهم الاتيان بمثله.
وهكذا فالعلماء الذين يقولون وفق هذا المذهب: ((لا يمكن معارضة القرآن حتى بكلمة واحدة)) هو كلام حق لا مراء فيه؛ لأن الله سبحانه قد منعهم عن ذلك اظهاراً للاعجاز، فلا يستطيعون اذن ان يتفوهوا بشئ للمعارضة، ولو ارادوا قول شئ ما للمعارضة فلا يقدرون عليه من غير ارادة الله ومشيئته.
أما بالنسبة للمذهب الاول وهو الراجح والذي ارتضاه معظم العلماء، فلهم فيه وجه دقيق:
ان كلمات القرآن الكريم وجُمله ينظر بعضها الى البعض الآخر، فتتواجه وتتناظر الكلمات والجمل، فقد تكون كلمة واحدة متوجهة الى عشرة مواضع، وعندها تجد فيها عشر نكات بلاغية، وعشر علاقات تربطها مع الكلمات الاخرى، وقد ذكرنا هذه العلاقات في تفسيرنا ((اشارات الاعجاز في مظان الايجاز)) سواء في سورة الفاتحة أم في مقدمة سورة البقرة. } الم ` ذلك الكتاب لا ريب فيه{ .
ولنوضح ذلك بمثال:
لو تصورنا قصراً عظيماً جدرانُه منقشة بنقوش بديعة، ومزيّنة بزخارف رائعة، فإنّ وضعَ حجرٍ يحمل العقدة الاساس لتلك الزخارف والنقوش في موضعه اللائق به - بحيث يرتبطمعها جميعاً ويشرف عليها جميعاً - يحتاج الى معرفة كاملة بتلك النقوش جميعها وبتلك الزخارف التي تملأ جدران القصر.
ومثال آخر؛ نأخذه من جسم الانسان: ان وضع بؤبؤ عين الانسان في موضعه اللائق يتوقف على معرفة علاقة العين بالجسم كله، ومعرفة مدى علاقة وارتباط بؤبؤ العين بكل جزء من اجزاء الجسم وبوظيفته.
فقس على هذين المثالين لتعلم كيف بيّن السابقون من اهل الحقيقة ما في كلمات القرآن من الوجوه العديدة والعلاقات والاواصر والارتباطات التي تربطها مع سائر جمله وآياته. ولا سيما علماء علم حروف القرآن، فقد اوغلوا كثيراً في هذا الموضوع، واثبتوا بدلائل: أن في كل حرف من القرآن الكريم اسراراً دقيقة تَسَع صحيفة كاملة من البيان والتوضيح.
نعم، ما دام القرآن الكريم كلام رب العالمين وخالق كل شئ، فكل كلمة من كلماته اذن بمثابة نواة، اي يمكن ان تكون تلك الكلمة نواة تنبت منها شجرة معنوية من الاسرار والمعاني، أو بمثابة قلب تتجسد حوله المعاني والاسرار.
لذلك نقول:
نعم، ان في كلام البشر ما يشبه كلمات القرآن وجمله وآياته، اِلاّ أن تلك الآية الكريمة أو الكلمة والجملة القرآنية قد وضعت في موضعها الملائم لها بحيث روعي في وضعها كثيرٌ جداً من الارتباطات والعلاقات مما يلزم علماً محيطاً كلياً كي يضعها في ذلك الموقع اللائق به.
النكتة الثالثة
لقد انعم الله سبحانه وتعالى عليّ يوماً تفكراً حقيقياً حول مجمل ماهية القرآن الحكيم فادوّن ذلك التفكر كما ورد للقلب - باللغة العربية - ثم اورد معناه.
سبحانَ مَن شَهِدَ على وحدانيتِه وصرَّح بأوصافِ جمالِه وجلالِه وكمالِه: القرآنُ الحكيمُ، المنوَّرُ جهاته الستُّ، الحاوي لسرّ اجماع كلِّ كتب الانبياء والاولياء والموحِّدين المختلفين في الاعصار والمشارب والمسالك، المتفقين بقلوبهم وعقولهم على تصديق اساسات القرآن وكلّيات احكامه على وجه الأجمال، وهو محضٌ الوحي باجماع المُنزلِ والمنزَل والمنزَّل عليه، وعينُ الهداية بالبداهة، ومعدنُ انوار الايمان بالضرورة، ومجمعُ الحقائق باليقين، وموصِلٌ الى السعادة بالعيان، وذو الاثمار الكاملين بالمشاهدة، ومقبولُ المَلَك والأنسِ والجان بالحدس الصادق من تفاريق الامارات، والمؤيَّدُ بالدلائل العقلية باتفاق العقلاء الكاملين، والمصدَّقُ من جهة الفطرة السليمة بشهادة اطمئنان الوجدان، والمعجزةُ الابدية الباقي وجهُ اعجازه على مرّ الزمان بالمشاهدة، والمنبسطُ دائرةُ ارشاده من الملأ الأعلى الى مكتب الصبيان، يستفيد من عَين درسٍ الملائكةُ مع الصّبيين، وكذا هو ذو البصر المطلقِ يرى الاشياء بكمال الوضوح والظهور ويحيط بها ويقلـّبُ العالَمَ في يده ويعرِّفُه لنا كما يُقلـِّب صانعُ الساعةِ الساعةَ في كفّه ويعرّفُ للناس. فهذا القرآنُ العظيمُ الشأن هو الذي يقول مكررَّاً: } الله لا اِله الاّ هو{ } فاعلم أنه لا اِله الاّ الله{ .
أما معنى هذا التفكر فكما يأتي:
ان الجهات الست للقرآن الكريم منوّرة وضّاءة لا تدنو منها الشبهات والاوهام، لأن:
من ورائه العرش الاعظم، يستند اليه، فهناك نور الوحي.
وبين يديه سعادة الدارين، يستهدفها، فقد امتدت ارتباطاته وعلاقته بالأبد والآخرة فهناك نور الجنة ونور السعادة.
ومن فوقه تتلألأ آية الاعجاز وتسطع طغراؤه.
ومن تحته اعمدة البراهين الرصينة والدلائل الدامغة، ففيها الهداية المحضة.
وعن يمينه يقف استنطاق العقول وتصديقها، لكثرة ما فيه ((أفلا يعقلون)).
وعن يساره استشهاد الوجدان حتى ينطق من اعجابه: ((تبارك الله)) بما ينفخ من نفحات روحية للقلب.
فمن اين يمكن يا ترى أن تتسلل اليها الاوهام والشبهات؟
فالقرآن الكريم جامع لسّر اجماع كتب الانبياء والاولياء والموحدين قاطبة، رغم اختلاف عصورهم ومشاربهم ومسالكهم. اي أن جميع ارباب العقول السليمة والقلوب المطمئنة يصدّقون مجمل احكام القرآن الكريم واساس ما يدعو اليه، حيث يذكرونه في كتبهم. فهم اذن بمثابة اصول شجرة القرآن السماوية.
ثم ان القرآن الكريم يستند الى الوحي الإلهي، بل هو وحي محض، لأن الله سبحانه الذي أنزله على قلب محمد e يبينه بمعجزات رسوله الكريم وحياً محضاً. والقرآن النازل من عند الله يبين باعجازه الظاهر انه من العرش الاعظم. وان اطوار المنزل عليه وهو الرسول الكريم e واضطرابه في اول نزول الوحي، واثناء نزوله، وما يظهره من توقير وتبجيل اكثر من كل ما عداه، يبين انه وحي خالص ينزل عليه ضيفاً من الملك الأزلي.
ثم ان ذلك القرآن العظيم وحي محض بالبداهة، لأن خلافه ضلالة وكفر.
ثم انه بالضرورة معدن الانوار الايمانية، فليس خلاف الانوار الاّ الظلمات الدامسة. وقد اثبتنا هذه الحقيقة في كلمات كثيرة.
ثم ان القرآن الكريم مجمع الحقائق يقيناً فالخيال والخرافات بعيدة عنه بعداً مطلقاً، اذ ان ما شكله من عالم الاسلام، وما أتاه من شريعة غراء، وما يبينه من مُثُل سامية، بل حتى عند بحثه عن عالم الغيب - كما هو عند بحثه عن عالم الشهادة - هو عين الحقائق، لا يدنو منه شئ من خلاف للحقيقة ابداً.
ثم ان القرآن الكريم - كما هو واقع - يوصل الى سعادة الدارين بلا ريب، ويسوق البشرية اليها، فمن يساوره الشك فليراجع القرآن مرة واحدة، وليستمع اليه وليرى بعد ذلك ماذا يقول القرآن؟
ثم ان الثمار التي يجنيها الانسان من القرآن الكريم انما هي ثمار يانعة ذات حياة وحيوية. فلا غرو ان جذور شجرة القرآن متوغلة في الحقائق ممتدة في الحياة، وان حياة الثمرة تدل على حياة الشجرة. فإن شئت فانظر كم اعطى القرآن من ثمار الاصفياء المنورين والاولياء الصالحين الكاملين على طول العصور.
ثم ان القرآن الكريم موضع رضى الانس والجن والملائكة وذلك بالحدس الصادق، الناشئ من امارات عديدة، حيث يجتمعون حوله عند تلاوته كالفراش حول النور.
ثم ان القرآن مع أنه وحي الهي فهو مؤيدٌ بالدلائل العقلية، والشاهد على هذا: اتفاق العقلاء الكاملين وفي مقدمتهم ائمة علم الكلام ودهاة الفلسفة امثال ابن سينا وابن رشد، فجميعهم بالاتفاق قد اثبتوا اسس القرآن باصولهم ودلائلهم.
ثم ان القرآن الكريم مصدَّق من قبل الفطرة السليمة - ما لم يعترها عارض أو مرض - حيث ان اطمئنان الوجدان وراحة القلب انما ينشآن من انواره، اي أن الفطرة السليمة تصدّقه باطمئنان الوجدان. نعم! ان الفطرة بلسان حالها تقول للقرآن الكريم: "لا يتحقق كمالُنا من دونك" وقد اثبتنا هذه الحقيقة في مواضع متفرقة من الرسائل.
ثم ان القرآن معجزة دائمة ابدية بالمشاهدة والبداهة، فهو يبين اعجازه كل حين، فلا يخبو نوره - كبقية المعجزات - ولا ينتهى وقته، بل يمتد زمنه الى الأبد.
ثم ان منزلة ارشاد القرآن الكريم لها من السعة والشمول بحيث أن درساً واحداً منه يتلقاه جبريل عليه السلام جنباً الى جنب صبي صغير. ويجثو امامه فلاسفة دهاة - امثال ابن سينا - مع ابسط شخص أمي، يتلقيان الدرس نفسه. بل قد يستفيض ذلك الرجل العامي من القرآن بما يحمل من قوة الايمان وصفائه مالا يستفيضه ابن سينا.
ثم ان في القرآن الكريم عيناً باصرة نافذة بحيث ترى جميع الوجود وتحيط به، وتضع جميع الموجودات امامه، كأنها صحائف كتاب فيوضح طبقاتها وعوالمها. فكما اذا استلم الساعاتي ساعة صغيرة بيده يقلبها، ويعرّفها ويفتحها، كذلك الكون بين يدي القرآن الكريم يعرّفه ويبين اجزاءه.
فهذا القرآن العظيم يثبت الوحدانية بـ} فاعلم أنه لا اله الاّ الله{ (سورة محمد:19)
اللَّهُمَّ اجعل القرآن لنا في الدنيا قريناً وفي القبر مؤنساً وفي القيامة شفيعاً، وعلى الصراط نوراً، ومن النار ستراً وحجاباً، وفي الجنة رفيقاً والى الخيرات كلها دليلاً وإماماً،اللَّهُم نوّر قلوبنا وقبورنا بنور الايمان والقرآن، ونوّر برهان القرآن بحق وبحرمة مَن اُنزل عليه القرآن، عليه وعلى آله الصلاة والسلام من الرحمن الحنان. آمــين.
الاشارة البليغة التاسعة عشرة
لقد أثبت يقيناً وبدلائل قاطعة، في الاشارات السابقة ان الرسول الاكرم e الذي ثبتت رسالتُه بالوف الدلائل القاطعة لهو برهان باهر للوحدانية الإلهية، ودليل ساطع للسعادة الابدية. وسنعرّف في هذه الاشارة تعريفاً مجملاً بشكل خلاصة الخلاصة لذلك البرهان الصادق والدليل الساطع على الوحدانية؛ لأنه: يلزم معرفة الدليل والاحاطة بوجه دلالته ما دام هو دليلاً الى المعرفة الإلهية.
لذا سنبين هنا باختصار شديد وجه دلالته e على التوحيد ومدى صدقه وصوابه فنقول: ان الرسول الكريم e دليل بذاته على وجود الخالق العظيم وعلى وحدانيته كما يدل عليه اي موجود من موجودات الكون. وقد اعلن e وجه دلالته هذا على التوحيد والوجود مع دلالة الموجودات قاطبة. ومن حيث انه e دليل على التوحيد سنشير الى صدق دلالته وحجيته وصوابه وأحقيته ضمن خمسة عشر اساساً:
الاساس الاول:
ان هذا الدليل الذي يدل على خالق الكون بذاته وبلسانه وبدلالة احواله وبلسان اطواره، لهو صادقٌ مصدَّق من قبل حقائق الكون؛ لأن دلالات جميع الموجودات الى الوحدانية انماهي بمثابة شهادات تصديقٍ لمن ينطق بالوحدانية. اي ان ما يدعو اليه مصدَّقٌ لدى الكون كله. وحيث ان ما يبينه من الوحدانية، التي هي الكمال المطلق، وما يبشرّه من السعادة الابدية التي هي الخير المطلق، مطابقان تماماً للحسن والكمال المتجليين في حقائق العالم. فهو صادق في دعواه قطعاً فالرسول الكريم e اذاً برهان صادق مصدَّق للوحدانية الإلهية والسعادة الابدية.
الاساس الثاني:
ان ذلك الدليل الصادق المصدَّق الذي يملك ألوفاً من المعجزات - اكثر مما لدى الانبياء السابقين - والذي أتى بشريعة سمحة غراء لا تنسخ ولا تُبدل، وبدعوة شاملة للجن والانس، لاشك انه سيد المرسلين عليهم السلام؛ فهو اذن جامع للحِكَم والاسرار التي تنطوي عليها معجزات الانبياء عليهم السلام واتفاقهم. اي ان قوة اجماع الانبــياء كلهـم اذن، وشـهادة معجزاتهم، تـشكل ركيزة لصـدقه وصواب دعوته.
ثم ان الاصفياء والاولياء الصالحين الذين بلغوا من الكمال ما بلغوا انما كان بتربيته السامية وبهدي شريعته الحقة فهو مرشدهم وسيدهم؛ لذا فهو جامعٌ لسر كراماتهم وتصديقهم بالاجماع وقوة دراساتهموتحقيقاتهم، حيث انهم سلكوا طريقاً فتح ابوابه استاذُهم، وتركها مفتوحة، فوجدوا الحقيقة. فجميع كراماتهم وتحقيقاتهم العلمية واجماعهم انما تمثل ركيزة لصدق استاذهم الطاهر وصواب دعوته.
ثم ان ذلك البرهان الباهر للوحدانية - كما تبين في الاشارات السابقة - يملك من المعجزات الباهرة القاطعة اليقينية، والارهاصات الخارقة، ودلائل نبوة لا ريب فيها، كل منها تصدّقه تصديقاً عظيماً، بحيث لو اجتمع الكون كله ليجرح ذلك التصديق لعجز دونه.
الاساس الثالث:
ان ذلك الداعي الى الوحدانية والمبشر بالسعادة الابدية الذي له هذه المعجزات الباهرات يملك من الاخلاق السامية في ذاته المباركة، ومن السجايا الرفيعة في مهمة رسالته، ومن الخصال الفاضلة فيما يبلّغه من شريعة ودين، ما يضطر الى تصديقه ألدّ اعدائه فلا يجد سبيلاً للانكار.
فما دام يملك في ذاته وفي مهمته وفي دينه اسمى الاخلاق واجملها، واكمل السجايا واثمنها، وارفع الخصال وافضلها، فلاريب انه مثال لكمال الموجودات، وممثلٌ لفضائل الاخلاق ومثالها المجسم، والقدوة الحسنة لها؛ ولهذا فالكمالات التي تشع من ذاته ومن مهمته ومن دينه لهي ركيزة قوية عظيمة لصدقه بما لا يمكن ان يزحزحها شئ.
الاساس الرابع:
ان ذلك الداعي الى الوحدانية والسعادة الابدية الذي هو معدن الكمالات ومعلم الاخلاق الفاضلة. لا ينطق عن نفسه وحسب هواه - حاشاه - وانما ينطق بالوحي الإلهي. فهو يستلم الوحي من ربه الجليل ويبلّغ به الاخرين. لأنه قد ثبت بالوف من دلائل النبوة، كما ذُكر في الاسس السابقة ووضح قسم منها:
اِن رب العالمين سبحانه الذي خلق جميع تلك المعجزات واجراها بيد رسولهe ، انما يبين أن رسوله الكريم e ينطق لأجله وفي سبيله ويبلّغ كلامه المبين.
وان القرآن الكريم الذي نزل عليه يبيّن باعجازه الظاهر والباطن انه e مبلّغ عن رب العالمين.
وذاته الشريفة e وما يتحلى به من عظيم الاخلاص والتقوى وجديّة بالغة في تبليغ امر الله، وامانة صادقة فيه، تبين - في جميع احواله واطواره - أنه لا يتكلم باسمه الشخصي، ولا من بنات فكره الذاتي وانما يتكلم باسم الله رب العالمين.
ثم ان الذين استمعوا اليه من اهل الحقيقة قاطبة قد صدّقوا بالكشف والتحقيق العلمي، وآمنوا ايماناً يقينياً بانه لا ينطق عن الهوى إن هو الاّ وحي يوحى، فهو مبلّغ أمين عن رب العالمين، يدعو الناس الى الرشاد بالوحي الإلهي.
وهكذا فان صدق هذا الدليل e وأحقيته يستند الى هذه الاسس الاربعة الثابتة الرصينة.
الاساس الخامس:
ان ذلك المبلغ الأمين لكلام الله الازلي يرى الارواح، ويتكلم مع الملائكة، ويرشد الجن والانس معاً. فلا يتلقى العلم من عوالم الملائكة والارواح التي هي اسمى من عالم الانس والجن بل يتلقى العلم من فوق تلك العوالم كلها، بل يطّلع على ما وراءها من شؤون إلهية، فالمعجزات المذكورة سابقاً، وسيرته الشريفة التي نقلت الينا بالتواتر تثبتان هذه الحقيقة. لذا فلا يتدخل الجن ولا الارواح ولا الملائكة فيما يبلّغه من امور بل لا يتقرب الى تبليغه حتى المقربين من الملائكة سوى جبريل عليه السلام، بل يتقدم احياناً حتى رفيقه جبريل عليه السلام الذي كان يصحبه معظم الاوقات.
الاساس السادس:
ان ذلك الدليل الذي هو سيد المَلَك والجن والانس انما هو أنور ثمار شجرة الكائنات وأكملها، وتمثال الرحمة الإلهية، ومثال المحبة الربانية، والبرهان النير للحق، والسراج الساطع للحقيقة، ومفتاح طلسم الكائنات، وكشاف لغز الخلق، وشارح حكمة العالم والداعي الى سلطان الالوهية. والمرشد البارع لمحاسن الصنعة الربانية، فتلك الذات المباركة، بما تملك من صفات جامعة انما تمثل اكمل نموذج لكمالات الموجودات. لذا فهذه المزايا التي يمتلكها ذلك النبي الكريم e وما يتصف به من شخصية معنوية تظهران بوضوح:
ان ذلك النبي الكريم e هوعلة الكون الغائية، اي أنه موضع نظر خالق الكون.
نـظـر اليه وخلق الـكون، ويصح القول انـه لـو لم يكن قـد أوجـده ما كان يـوجد الكون.
نعم؛ ان ما أتى به هذا النبي الكريم من حقائق القرآن وانوار الايمان الى الانس والجن كافة، وما يشاهَد في ذاته المباركة من اخلاق سامية وكمالات فائقة، شاهد صادق قاطع على هذه الحقيقة.
الاساس السابع:
ان ذلك البرهان الساطع للحق والسراج المنير للحقيقة قد اظهر ديناً قيماً، وابرز شريعة شاملة بحيث تضم من الدساتير الجامعة ما يحقق سعادة الدارين، كما انه بيّن اكمل بيان حقيقة الكون ووظيفته واسماء الخالق الجليل وصفاته. فالذي يمعن النظر في ذلك الاسلام الحنيف والشريعة الغراء الشاملة في طرز تعريفها للكون يدرك يقيناً ان ذلك الدين انما هو نظام خالق هذا الكون الجميل الذي يعرّف ذلك الخالق. اذ كما ان بنّاءً بارعاً لقصر بديع يضع تعريفاً يليق بالقصر، ويكتبه تبياناً لمهارته الفائقة، كذلك هذا الدين العظيم والشريعة السمحة وما فيه من الشمول والاحاطة والسمو يظهر بوضوح ان الذي وضعه على هذه الصورة الرفيعة انما هو واضع الكون ومدبّره. نعم، ان من كان منظِّماً لهذا الكون البديع وبهذا التنظيم الرائع لابد انه هو الذي نظّم هذا الدين الأكمل بهذا النظام الأجمل.
الاساس الثامن:
إن من يتصف بهذه الصفات الجميلة المذكورة، و تستند رسالته الى تلك الادلة والركائز الرصينة، ذلك الرسول الحبيب e ، يتكلم باسم عالم الغيب متوجهاً الى عالم الشهادة، معلناً على رؤوس الأشهاد من الجن والأنس، مخاطباً الاقوام المتراصين وراء العصور المقبلة، فيناديهم جميعاً نداء رفيعاً سامياً يسمعهم قاطبة في جميع الاعصار اينما وجدوا وحيثما كانوا... نعم .. نعم نسمع!.
الاساس التاسع:
ان خطابه هذا رفيع الى حد تسمعه العصور جميعاً.. نعم، ان كل عصر يسمع رجع صدى كلامه.
الاساس العاشر:
اننا نرى في احواله وسيرته المطهرة انه يرى ثم يبلّغ في ضوء ما يرى، لأنه يبلّغ حتى عندما تحدق به المخاطر، بلا تردد ولا اضطراب وبكل ثقة واطمئنان بل قد يتحدى وحده العالم كله.
الاساس الحادي عشر:
انه قد اعلن دعوته بكل ما آتاه الله من قوة اعلنها جهاراً حتى جعل نصف الارض وخمس البشرية يلبون اوامره ويقولون لكل كلمة صدرت منه: سمعنا واطعنا.
الاساس الثاني عشر:
انه يدعو باخلاص كامل وبجدية تامة فيرّبي تربية راسخة، بحيث ان دساتيرها تنقش في جباه العصور وصحائف الاقطار ووجوه الدهور.
الاساس الثالث عشر:
انه يتكلم بكلام ملؤه الثقة والاطمئنان فيبلّغ الاحكام وهو واثق كل الثقة من صدقها وصوابها، ويدعو اليها دعوة صريحة لا لبس فيها بحيث لو اجتمع العالم كله ما صرفه عن دعوته ولا عن حكم من تلك الأحكام. وسيرته المطهرة وتاريخ حياته المباركة أصدق شاهد على هذه الحقيقة.
الاساس الرابع عشر:
انه يدعو باطمئنان بالغ واعتماد تام ويبلّغ بثقة كاملة، بحيث لا يتنازل في دعوته عن شئ، ولا يتردد امام اية مشكلة مهما كانت، فلا يداخله الخوف والدهشة، بل يدعو بصفاء كامل واخلاص تام. وينفذ ما يدعو اليه من الاحكام على نفسه اولاً ويذعن اليه ثم يعلّمه الاخرين. والشاهد على هذا زهده العظيم واستغناؤه عن الناس واعراضه عن زخارف الدنيا الفانية، كما هو معلوم لدى الاصدقاء والاعداء.
الاساس الخامس عشر:
انه كان اخشى الناس لله وأخضعهم لأوامره سبحانه وأعبدهم له واتقاهم عن نواهيه، مما يدلنا على أنه مبلّغ أمين لسلطان الأزل والابد، فهو رسوله الحبيب واخلص عباده، ومبلغ رسالاته.
نخلص من هذه الأسس الخمسة عشرة:
ان هذا الرسول الكريم e الموصوف بتلك الاوصاف المذكورة قد أعلن الوحدانية فنادى بكل ما آتاه الله من قوة، وعلى مدار حياته المباركة كلها:
لاإله الا الله
اللّهم صلّ وسلم عليه وعلى آله عدد حسنات امته
} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{
اكرام إلهي واثر عناية ربانية
على أمل ان نحظى بسر الآية الكريمة } وأما بنعمة ربك فحدِّث{ نقول:
ان أثر عناية ربانية ولمسة رحمة إلهية قد ظهر اثناء تأليف هذه الرسالة، اذكره لقرائها الكرام كي يلتفتوا اليها باهتمام بالغ:
كانت الكلمةالحادية والثلاثون و التاسعة عشرة اللتان تبحثان في الرسالة الأحمدية مؤّلفتين؛ لذا لم يرد الى قلبي شئ حول تأليف هذه الرسالة.. فاذا بخاطرة ترد الى القلب مباشرة، تلحّ عليّ بالتأليف في وقت كانت حدّة حافظتي قد كلّت وخبت جذوتها تحت وطأة المصائب والبلايا، فضلاً عن انني لم اسلك في مؤلفاتي – وفق مشربي – سبيل النقل من الكتب (قال فلان.. قيل كذا)، وعلاوة على أنه ما كان لديّ أي مصدر كان من مصادر الحديث الشريف او السيرة المطهرة… ولكن على الرغم من كل هذا قلت: ((توكلت على الله))، وشرعت بتأليف هذه الرسالة متوكلاً عليه وحده، فحصل من التوفيق الإلهي ما جعل حافظتي قوية بحيث كانت تمدني امداداً يفوق بكثير حافظة ((سعيد القديم)) حتى كُتبتْ نحو اربعين صحيفة في سرعة فائقة خلال ما يقرب من اربع ساعات، بل كُتبت خمس عشرة صحيفة في ساعة واحدة. وكانت النقول على الاغلب من كتب الاحاديث كالبخاري ومسلم والبيهقي والترمذي والشفا للقاضي عياض وابو نعيم والطبري وامثالها. وكان قلبي يخفق ويرجف بشدة، اذ لو وقع الخطأ في هذا النقل لترتب عليه الاثم، حيث انه حديث شريف.
ولكن ادركنا يقيناً ان العناية الإلهية معنا وان الحاجة الى هذه الرسالة شديدة. فكُتبت الاحاديث بفضل الله سليمة صحيحة. ومع هذا، فاذا ما ورد في الفاظ الحديث الشريف أو في اسم الراوي خطأ فالرجاء من الاخوة الاعزاء تصحيحه والصفح عن الخطأ.
سعيد النورسي
نعم ! لقد كان الاستاذ يملي علينا ونحن نكتب المسودة، ولم يكن لديه أي مصدر كان، ولم يراجع في كلامه قط. كان كلامه في منتهى السرعة، وكنا نكتب حوالي اربعين صحيفة في ساعتين او ثلاث. فأيقنا نحن ايضاً ان هذا التوفيق الإلهي في التأليف هو كرامة من كرامات المعجزات النبوية على صاحبها الصلاة والسلام.
(الحافظ توفيق) (الحافظ خالد) (سليمان سامي) (عبدالله جاووش)
كاتب المسودة اخوة في الآخرة خادمه خادمه المقيم
والمبيضة وكاتب المسودة وكاتب المسودة
الذيـل الأول
من رسالة ((المعجزات الأحمدية))
[لمناسبة المقام ضُمت هنا الكلمة (التاسعة عشرة) وهي تخص الرسالة الأحمدية مع ذيلها الذي يبحث في معجزة انشقاق القمر].
بسم الله الرحمن الرحيم
تتضمن هذه الكلمة ((اللمعة الرابعة عشرة)) أربع عشرة رشحة:
o الرشحة الأولى:
إن ما يُعرّف لنا ربَّنا هو ثلاثة معرّفين أدلاّء عظام:
أوله: كتاب الكون، الذي سمعنا شيئاً من شهادته في ثلاث عشرة لمعة (من لمعات المثنوي العربي النوري)(1).
ثانيه: هو الآية الكبرى لهذا الكتاب العظيم، وهو خاتم ديوان النبوة e .
ثالثه: القرآن الحكيم.
فعلينا الآن أن نعرف هذا البرهان الثاني الناطق، وهو خاتم الانبياء وسيد المرسلين e وننصت اليه خاشعين.
إعلم! ان ذلك البرهان الناطق له شخصية معنوية عظيمة. فإن قلت: ما هو؟ وما ماهيته؟
قيل لك: هو الذي لعظمته المعنوية صار سطحُ الأرض مسجده، ومكةُ محرابه، والمدينة منبره.. وهو امام جميع المؤمنين يأتمون به صافّين خَلْفَه.. وخطيب جميع البشر يبيّن لهم دساتير سعاداتهم.. ورئيس جميع الأنبياء يزكّيهم ويصدّقهم بجامعية دينه لأساسات أديانهم.. وسيد جميع الأولياء يرشدهم ويربّيهم بشمس رسالته.. وقطبٌ في مركز دائرة حلقة ذكر تركّبَت من الأنبياء والأخيار والصديقين والأبرار المتفقين على كلمته الناطقين بها.. وشجرةٌ نورانية عروقُها الحيوية المتينة هي الأنبياء باساساتهم السماوية، واغصانها الخضرة الطرية وثمراتها اللطيفة النيّرة هي الأولياء بمعارفهم الالهامية. فما من دعوى يدّعيها الاّ ويشهدُ لها جميعُ الأنبياء مستندين بمعجزاتهم، وجميعُ الأولياء مستندين بكراماتهم. فكأن على كل دعوىً من دعاويه خواتمُ جميع الكاملين، اذ بينما تراه قال: (لا إله الا الله) وادّعى التوحيد فاذا نسمع من الماضي والمستقبل من الصفّين النورانيين – أي شموس البشر ونجومه القاعدين في دائرة الذكر – عينَ تلك الكلمة، فيكررونها ويتفقون عليها، مع اختلاف مسالكهم وتباين مشاربهم. فكأنهم يقولون بالاجماع: ((صَدَقت وبالحق نطقت)). فأنّى لوهمٍ أن يَمدَّ يده لردِّ دعوىً تأيّدتْ بشهادات مَنْ لا يُحَد من الشاهدين الذين تزكّيهم معجزاتُهم وكراماتُهم.
o الرشحة الثانية:
إعلم! إن هذا البُرهان النوراني الذي دلَّ على التوحيد وأرشد البشر اليه، كما أنه يتأيد بقوة ما في جناحَيه :نبوةً وولايةً من الاجماع والتواتر.. كذلك تصدّقُه مئاتُ إشارات الكتب السماوية من بشارات التوراة والانجيل والزبور وُزُبرِ الأولين(1).. وكذلك تصدِّقُه رموز ألوف الارهاصات الكثيرة المشهودة، وكذا تصدقّه بشارات الهواتف الشائعة المتعددة وشهادات الكهان المتواترة، وكذا تصدِّقُه دلالات معجزاته من أمثال: شق القمر، ونبعان الماء من الأصابع كالكوثر ومجئ الشجر بدعوته، ونزول المطر في آن دعائه، وشبع الكثير من طعامه القليل، وتكلّم الضب والذئب والظبي والجمل والحجر، الى ألفٍ من معجزاته كما بينّه الرواة والمحدثون المحققون.. وكذا تصدِّقه الشريعة الجامعة لسعادات الدارين.
واعلم! أنه كما تصدِّقه هذه الدلائل الآفاقية، كذلك هو كالشمس يدل على ذاته بذاته، فتصدقّه الدلائل الأنفسية؛ اذ اجتماع اعالي جميع الاخلاق الحميدة في ذاته بالاتفاق.. وكذا جمعُ شخصيته المعنوية في وظيفته أفاضل جميع السجايا الغاليةوالخصائل النزيهة.. وكذا قوة إيمانه بشهادة قوة زهده وقوة تقواه وقوة عبوديته.. وكذا كمال وثوقه بشهادة سيره، وكمال جدّيته وكمال متانته، وكذا قوة أمنيته في حركاته بشهادة قوة إطمئنانه.. تصدِّقه كالشمس الساطعة في دعوى تمسّكه بالحق وسلوكه على الحقيقة.
o الرشحة الثالثة:
إعلم! إن للمحيط الزماني والمكاني تأثيراً عظيماً في محاكمات العقول. فإن شئت فتعال لنذهب الى خير القرون وعصر السعادة النبوية لنحظى بزيارته الكريمةe - ولو بالخيال - وهو على رأس وظيفته يعمل. فافتح عينيك وانظر! فإنّ أولَ ما يتظاهر لنا من هذه المملكة: شخصٌ خارق، له حسنُ صورة فائقة، في حُسن سيرة رائقة. فها هو آخذٌ بيده كتاباً معجِزاً كريماً، وبلسانه خطاباً موجزاً حكيماً، يبلّغ خطبةً أزليةً ويتلوها على جميع بَني آدم، بل على جميع الجن والانس، بل على جميع الموجودات.
فيا للعجب! ما يقول؟.. نعم! إنه يقول عن أمرٍ جسيم، ويبحث عن نبأٍ عظيم، إذ يشرح ويحل اللغز العجيب في سرِّ خِلْقة العالم، ويفتح ويكشف الطلسم المغلق في سرِّ حكمة الكائنات، ويوضـِّح ويبحث عن الأسئلة الثلاثة المعضلة التي أشغلت العقول وأوقعتها في الحيرة، إذ هي الأسئلة التي يسأل عنها كلُّ موجود. وهي: مَنْ أنتَ؟ ومِن أين؟ والى أين؟.
o الرشحة الرابعة:
انظر! الى هذا الشخص النوراني كيف ينشر من الحقيقة ضياءً نوّاراً، ومن الحق نوراً مضيئاً، حتى صيَّر ليلَ البشر نهاراً وشتاءه ربيعاً؛ فكأن الكائنات تبدَّل شكلُها فصار العالَم ضاحكاً مسروراً بعدما كان عبوساً قمطريراً.. فإذا ما نظرت الى الكائنات خارجَ نور إرشاده؛ ترى في الكائنات مأتماً عمومياً، وترى موجوداتها كالأجانب الغرباء والأعداء، لا يعرف بعضٌ بعضاً، بل يعاديه، وترى جامداتها جنائز دهّاشة، وترى حيواناتها واناسيّها أيتاماً باكين بضربات الزوال والفراق.
فهذه هي ماهية الكائنات عند مَنْ لم يدخل في دائرة نوره. فانظر الآن بنوره، وبمرصاد دينه، وفي دائرة شريعته، الى الكائنات. كيف تراها؟.. فانظر! قد تبدّل شكلُ العالم، فتحوّل بيتُ المأتم العمومي مسجدَ الذكر والفكر ومجلسَ الجذبة والشكر، وتحوّل الأعداءُ الأجانب من الموجودات أحباباً وإخواناً، وتحوّل كلٌ من جامداتها الميتة الصامتة حيّاً مؤنساً مأموراً مسخَّراً ناطقاً بلسان حاله آيات خالقه، وتحوّل ذوو الحياة منها - الأيتام الباكون الشاكون - ذاكرين في تسبيحاتهم، شاكرين لتسريحهم عن وظائفهم.
o الرشحة الخامسة:
لقد تحوّلت بذلك النور حركاتُ الكائنات وتنوعاتُها وتغيراتُها من العبثية والتفاهة وملعبة المصادفة الى مكاتيب ربانية، وصحائف آياتٍ تكوينية، ومرايا اسماء إلهية . حتى ترقّى العالمُ وصار كتاب الحكمة الصمدانية.
وانظر الى الانسان كيف ترقَّى من حضيض الحيوانية الذي هوى اليه بعجزه وفقره وبعقله الناقل لأحزان الماضي ومخاوف المستقبل، ترقّى الى أوج الخلافة بتنور ذلك العقل والعجز والفقر. فانظر كيف صارت أسبابُ سقوطه - من عجز وفقر وعقل - أسبابَ صعوده بسبب تنورها بنور هذا الشخص النوراني.
فعلى هذا، لو لم يوجد هذا الشخص لسقطت الكائناتُ والأنسان، وكلُ شئ الى درجة العدم؛ لاقيمة ولا أهمية لها. فيلزم لمثل هذه الكائنات البديعة الجميلة من مثل هذا الشخص الخارق الفائق المعرِّف المحقق، فإذا لم يكن هذا فلا تكن الكائنات، اذ لا معنى لها بالنسبة إلينا.
o الرشحة السادسة:
فان قلت: مَنْ هذا الشخص الذي نراه قد صار شمساً للكون، كاشفاً بدينه عن كمالات الكائنات؟ وما يقول؟.
قيل لك: انظر واستمع الى ما يقول: ها هو يُخبر عن سعادة أبدية ويبشّر بها، ويكشف عن رحمة بلا نهاية، ويعلنها ويدعو الناس اليها. وهو دلالُ محاسن سلطنة الربوبية ونَظَّارُها، وكشّافُ مخفيّات كنوز الأسماء الألهية ومعرِّفُها.
فانظر اليه من جهة وظيفته (رسالته)؛ تَرهُ برهانَ الحق وسراجَ الحقيقة وشمس الهداية ووسيلة السعادة.
ثم انظر اليه من جهة شخصيته (عبوديته)؛ تَرَهُ مثالَ المحبة الرحمانية وتمثالَ الرحمة الربانية، وشرفَ الحقيقة الأنسانية، وأنورَ أزهرِ ثمرات شجرة الخلقة.
ثم انظر! كيف أحاط نورُهُ ودينُه بالشرق والغرب في سرعة البرق الشارق، وقد قَبِل بإذعان القلب ما يقرُب من نصف الأرض ومن خُمس بني آدم هديةَ هدايته، بحيث تفدي له ارواحها. فهل يمكن للنفس والشيطان أن يناقشا بلا مغالطة في مدّعيات مثل هذا الشخص، لاسيما في دعوىً هي أساس كل مدّعياته، وهو: ((لا إله إلا الله)) بجميع مراتبه؟...
o الرشحة السابعة:
فإن شئت أن تعرف ان ما يحرّكه، إنما هو قوة قدسية، فانظر الى إجراآته في هذه الجزيرة الواسعة! ألا ترى هذه الأقوام المختلفة البدائية في هذه الصحراء الشاسعة، المتعصبين لعاداتهم، المعاندين في عصبيتهم وخصامهم، كيف رفع هذا الشخص جميعَ أخلاقهم السيئة البدائية وقلعها في زمان قليل دفعة واحدة؟ وجهّزهم بأخلاق حسنة عالية؛ فصيّرهم معلمي العالم الأنساني وأساتيذ الامم المتمدنة.
فانظر! ليست سلطنتُه على الظاهر فقط؛ بل ها هو يفتح القلوب والعقول، ويسخِّر الأرواح والنفوس، حتى صار محبوبَ القلوب ومعلّمَ العقول ومربي النفوس وسلطان الأرواح.
o الرشحة الثامنة:
من المعلوم أن رفعَ عادةٍ صغيرة - كالتدخين مثلاً - من طائفة صغيرة بالكلية، قد يَعْسَرُ على حاكم عظيم، بهمّةٍ عظيمة، مع انا نرى هذا النبي الكريم e قد رفع بالكلّية، عاداتٍ كثيرة، من أقوام عظيمة، متعصبين لعاداتهم، معاندين في حسيّاتهم، رفعها بقوةٍ جزئية، وهمّة قليلة في ظاهر الحال، وفي زمان قصير، وغَرَسَ بدَلَها برسوخ تامٍ في سجيتهم عادات عالية، وخصائلَ غالية. فيتراءى لنا من خوارق اجراآته الأساسية ألوف ما رأينا، فمَن لم يَر هذا العصر السعيد نُدخل في عينه هذه الجزيرة ونتحداه. فليجربْ نفسه فيها. فليأخذوا مائةً من فلاسفتهم وليذهبوا اليها وليعملوا مائة سنة هل يتيسر لهم أن يفعلوا جزءاً من مائة جزء مما فعله e في سنة بالنسبة الى ذلك الزمان؟!
o الرشحة التاسعة:
إعلم! إن كنت عارفاً بسجية البشر أنه لا يتيسّر لعاقل أن يدّعي - في دعوىً فيها مناظرة - كذباً يخجل بظهوره، وأن يقوله بلا حرج وبلا تردد وبلا إضطراب يشير الى حيلته، وبلا تصنع وتهيج يوميان الى كذبه، أمام أنظار خصومه النقّادة، ولو كان شخصاً صغيراً، ولو في وظيفة صغيرة، ولو بمكانة حقيرة، ولو في جماعة صغيرة، ولو في مسألة حقيرة. فكيف يمكن تداخل الحيلة ودخول الخلاف في مدّعيات مثل هذا الشخص الذي هو موظف عظيم، في وظيفة عظيمة، بحيثية عظيمة، مع أنه يحتاج لحماية عظيمة، وفي جماعة عظيمة، مقابل خصومة عظيمة، وفي مسألة عظيمة، وفي دعوىً عظيمة؟
وها هو يقول ما يقول بلا مبالاة بمعترض، وبلا تردّد وبلا تحرج وبلا تخوف وبلا إضطراب وبصفوة صميمية، وبجدّية خالصة، وبطرز يثير اعصاب خصومه، بتزييف عقولهم وتحقير نفوسهم وكسر عزتهم، باسلوب شديد علويّ. فهل يمكن تداخل الحيلة في مثل هذه الدعوى من مثل هذا الشخص، في مثل هذه الحالة المذكورة؟ كلا! } إن هو إلاّ وحْيٌ يُوحى{ (النجم: 4).
نعم! إن الحق أغنى من أن يَدلس، ونظر الحقيقة أعلى من أن يُدلس عليه! نعم! إن مسلكه الحق مستغنٍ عن التدليس، ونظرَه النفّاذ منزّهٌ من أن يلتبس عليه الخيالُ بالحقيقة..
o الرشحة العاشرة:
انظر واستمعْ الى ما يقول! ها هو يبحث عن حقائق مدهشة عظيمة، ويبحث عن مسائل جاذبة للقلوب، جالبة للعقول الى الدقة والنظر؛ إذ من المعلوم أن شوق كشف حقائق الأشياء قد ساق الكثيرين من أهل حب الاستطلاع واللهفة والاهتمام الى فداء الأرواح. ألا ترى أنه لو قيل لك: إن فديتَ نصفَ عمرك، أو نصفَ مالك؛ لنزل من القمر أو المشتري شخصٌ يُخبرك بغرائب أحوالهما، ويخبرك بحقيقة مستقبل أيامك؟ أظنك ترضى بالفداء. فيا للعجب؟ ترضى لدفع ما تتلهف اليه بنصف العمر والمال، ولا تهتم بما يقول هـذا النـبي الـكريم e ويصـدِّقه إجماعُ اهل الشهود وتواتر أهل الاختصاص من الأنبياء والصديقين والأولياء والمحققين! بينما هو يبحث عن شؤون سلطانٍ، ليس القمر في مملكته إلاّ كذباب يطير حول فراش، وهذا يحوم حول سراج من بين ألوف القناديل التي أسرجها في منزل - من بين ألوف منازله - أعدّه لضيوفه.. وكذا يخبر عن عالمٍ هو محل الخوارق والعجائب، وعن انقلاب عجيب، بحيث لو انفلقت الارضُ وتطايرت جبالُها كالسحاب ما ساوتْ عُشر معشار غرائب ذلك الانقلاب. فإن شئت فاستمع من لسانه أمثال السور الجليلة:
} اِذا الشَّمْسُ كُوِّرتْ{ و } اِذا السّمآء انْفَطَرَتْ{ و} اِذا زُلْزِلَت الأرضُ زِلْزَالَها{ و} الْقارعة{ .
وكذا يخبر بصدق عن مستقبل، ليس مستقبل الدنيا بالنسبة اليه إلا كقطرة سراب بلا طائل بالنسبة الى بحر بلا ساحل. وكذا يبشّر عن شهود بسعادة، ليست سعادة الدنيا بالنسبة اليها الاّ كبرقٍ زائلٍ بالنسبة الى شمس سرمدية.
o الرشحة الحادية عشرة:
ان تحت حجاب هذه الكائنات - ذات العجائب والأسرار - تنتظرنا أمورٌ أعجب. ولابدَّ للإخبار عن تلك العجائب والخوارق شخصٌ عجيبٌ خارقٌ يُستَشفّ من أحواله أنه يشاهِد ثم يَشهد، ويَبصُر ثم يُخبر.
نعم! نشاهد من شؤونه واطواره أنه يشاهد ثم يشهَد فيُنذر ويبشر. وكذا يُخبر عن مرضيات رب العالمين - الذي غمرنا بنعمه الظاهرة والباطنة - ومطالبه منا وهكذا...
فيا حسرة على الغافلين! ويا خسارة على الضالين! ويا عجبا من بلاهة اكثر الناس! كيف تعامَوا عن هذا الحق وتصامّوا عن هذه الحقيقة؟ لا يهتمون بكلام هذا النبي الكريم e مع أن من شأن مِثله أن تُفدى له الأرواحُ ويُسرع اليه بترك الدنيا وما فيها؟
o الرشحة الثانية عشرة:
اعلم أن هذا النبي الكريم e المشهود لنا بشخصيته المعنوية، المشهور في العالم بشؤونه العلوية، كما أنه برهانٌ ناطق صادق على الوحدانية، ودليل حقٍ بدرجة حقانية التوحيد، كذلك هو برهان قاطع ودليل ساطع على السعادة الأبدية؛ بل كما أنه بدعوته وبهدايته سببُ حصول السعادة الأبدية ووسيلة وصولها، كذلك بدعائه وعبوديته سببُ وجود تلك السعادة الأبدية ووسيلة ايجادها ..
فإن شئت فانظر اليه وهو في الصلاة الكبرى، التي بعظمة وسعتها صيّرت هذه الجزيرة بل الارض مصلين بتلك الصلاة الكبرى.. ثم انظر انه يصلي تلك الصلاة بهذه الجماعة العظمى، بدرجة كأنه هو امامٌ في محراب عصره واصطفَّ خلفَه، مقتدين به جميعُ أفاضل بني آدم، من آدم(عليه السلام) الى هذا العصر الى آخر الدنيا في صفوف الاعصار مؤتميّن به ومؤمِّنين على دعائه. ثم استمع ما يفعل في تلك الصلاة بتلك الجماعة.. فها هو يدعو لحاجةٍ شديدة عظيمة عامة بحيث تشترك معه في دعائه الأرضُ بل السماء بل كل الموجودات، فيقولون بألسنة الأحوال: نعم يا ربنا تقبّل دعاءه؛ فنحن ايضاً بل مع جميع ما تجلّى علينا من أسمائك نطلب حصولَ ما يطلب هو.. ثم انظر الى طوره في طرز تضرعاته كيف يتضرع؛ بافتقار عظيم، في اشتياق شديد، وبحزن عميق، في محبوبية حزينة؛ بحيث يهيّج بكاء الكائنات فيبكيها فيُشركها في دعائه. ثم انظر لأي مقصد وغاية يتضرع؟ ها هو يدعو لمقصد لولا حصول ذاك المقصد لسقط الانسانُ، بل العالم، بل كل المخلوقات الى أسفل سافلين ، لا قيمة لها ولا معنى. وبمطلوبه تترقّى الموجودات الى مقامات كمالاتها.. ثم انظر كيف يتضرع باستمداد مديد، في غياث شديد، في استرحام بتودد حزين، بحيث يُسمع العرش والسموات، ويهيّج وَجْدها، حتى كأن العرشَ والسموات يقول: آمين اللّهم آمين.. ثم انظر ممن يطلب مسؤلَه؛ نعم! يطلب من القدير السميع الكريم ومن العليم البصير الرحيم، الذي يَسمَع أخفى دعاء من أخفى حيوان في أخفى حاجة؛ إذ يجيبه بقضاء حاجته بالمشاهدة، وكذا يبصر أدنى أملٍ في أدنى ذي حياةٍ في أدنى غايةٍ، اذ يوصله اليها من حيث لا يحتسب بالمشاهدة، ويكرم ويرحم بصورة حكيمة، وبطرز منتظم. لا يبقى ريب في أن هذه التربية والتدبير من سميع عليم ومن بصير حكيم.
o الرشحة الثالثة عشرة:
فيا للعجب!.. ما يطلب هذا الذي قام على الأرض، وجَمَع خلفه جميع افاضل بني آدم ورفع يديه متوجهاً الى العرش الاعظم يدعو دعاءً يؤمّن عليه الثقلان. ويُعلَم من شؤونه أنه شرفُ نوع الانسان، وفريدُ الكون والزمان، وفخرُ هذه الكائنات في كل آن، ويستشفع بجميع الاسماء القدسية الإلهية المتجلية في مرايا الموجودات، بل تدعو وتطلب تلك الأسماء عينَ ما يطلب هو. فاستمع! ها هو يطلب البقاء واللقاء والجنة والرضا. فلو لم يوجد مالا يعد من الأسباب الموجبة لإعطاء السعادة الأبدية من الرحمة والعناية والحكمة والعدالة المشهودات - المتوقف كونها رحمة وعناية وحكمة وعدالة على وجود الآخرة - وكذا جميع الأسماء القدسية أسباباً مقتضية لها، لكفى دعاء هذا الشخص النوراني لأن يبني ربُه له ولأبناء جنسه الجنة، كما يُنشىء لنا في كل ربيع جناناً مزينة بمعجزات مصنوعاته. فكما صارت رسالته سبباً لفتح هذه الدار الدنيا للامتحان والعبودية، كذلك صار دعاؤه في عبوديته سبباً لفتح دار الآخرة للمكافآت والمجازاة.
فهل يمكن أن يتداخل في هذا الانتظام الفائق، وفي هذه الرحمة الواسعة، وفي هذه الصنعة الحسنة بلا قصور، وفي هذا الجمال بلا قبح، بدرجة أنطق أمثال الغزالي بـ ((ليس في الامكان أبدع مما كان)).. وأن تتغير هذه الحقائق بقبح خشين، وبظلم موحش، وبتشوش عظيم، أي بعدم مجئ الآخرة؟ إذ سماع أدنى صوت من أدنى خلق في أدنى حاجة وقبولها بأهمية تامة، مع عدم سماع أرفع صوت ودعاء في أشد حاجة، وعدم قبول أحسن مسؤول، في أجمل أمل ورجاء؛ قبحٌ ليس مثله قبح وقصور لا يساويه قصور، حاشا ثم حاشا وكلاّ.. لا يقبل مثل هذا الجمال المشهود بلا قصور مثل هذا القبح المحض.
فيا رفيقي في هذه السياحة العجيبة، ألا يكفيك ما رأيت؟ فإن أردت الإحاطة فلا يمكن، بل لو بقينا في هذه الجزيرة مائة سنة ما احطنا ولا مللنا من النظر بجزء واحد من مائة جزء من عجائب وظائفه، وغرائب اجراآته..
فلنرجع القهقرى، ولننظر عصراً عصراً، كيف اخضرت تلك العصور واستفاضت من فيض هذا العصر؟ نعم، ترى كل عصر نمر عليه قد انفتحت أزاهيرُه بشمس عصر السعادة، وأثمر كلُ عصر من امثال أبي حنيفة والشافعي وأبي يزيد البسطامي وجنيد والشيخ عبد القادر الكيلاني.. والامام الغزالي والشاه النقشبندي والامام الرباني ونظائرهم ألوف ثمراتٍ منوراتٍ من فيض هداية ذلك الشخص النوراني. فلنؤخر تفصيلات مشهوداتنا في رجوعنا الى وقت آخر، ونصلّي ونسلّم على ذلك الذات النوراني الهادي، ذي المعجزات بصلوات وسلام تشير الى قسم من معجزاته:
من اُنزل عليه القرآن الحكيم من الرحمن الرحيم من العرش العظيم.
على سيدنا محمد ألفُ ألفِ صلاةٍ وسلام بعدد حسنات أمته.
على مَن بشّر برسالته التوراة والانجيل والزبور والزبر.
وبشّر بنبوّته الارهاصات وهواتف الجن واولياء الانس وكواهن البشر وانشقّ باشارته القمر.. سيدنا محمد ألفُ ألفِ صلاةٍ وسلام بعدد أنفاس أمته.
على من جاءت لدعوته الشجرُ، ونزل سرعةً بدعائه المطر، واظلّته الغمامة من الحر، وشبع من صاعٍ من طعامه مآتٌ من البشر، ونبع الماء من بين أصابعه ثلاث مرّات كالكوثر، وانطق الله له الـضب والظبي والذئب والجذع والذراع والجمل والجبل والحجر والمدر والشجر..
صاحب المعراج وما زاغ البصر..
سيدنا وشفيعنا محمد ألف ألف صلاة وسلام بعدد كل الحروف المتشكلة في الكلمات المتمثلة بإذن الرحمن في مرايا تموجات الهواء عند قراءة كل كلمة من القرآن من كل قارئ من أول النزول الى آخر الزمان واغفر لنا وأرحمنا يا إلهنا بكل صلاة منها.. آمين.
[إعلم: إن دلائل النبوة الأحمدية لا تعدّ ولا تحدّ، ولقد صنّف في بيانها أعاظم المحققين. وأنا مع عجزي وقصوري قد بينّت شعاعاتٍ من تلك الشمس في رسالة تركية مسّماة بـ((شعاعات من معرفة النبي e )) وفي ((المكتوب التاسع عشر)). وكذا بينت اجمالاً وجوه إعجاز معجزته الكبرى – أي القرآن – وقد اشرتُ بفهمي القاصر الى أربعين وجهاً من وجوه أعجاز القرآن في رسالة ((اللوامع))، وقد بينت من تلك الوجوه واحداً وهو البلاغة الفائقة النظمية في مقدار أربعين صحيفة من تفسيري العربي المسمى بـ ((اشارات الاعجاز)). فإن شئت فارجع الى هذه الكتب الثلاثة..].
o الرشحة الرابعة عشرة:
اعلم! ان القرآن الكريم الذي هو بحر المعجزات والمعجزة الكبرى يثبت النبوة الأحمدية والوحدانية الإلهية إثباتاً، ويقيم حججاً ويسوق براهين ويبرز أدلة تغني عن كل برهان آخر.
فنحن هنا سنشير الى تعريفه، ثم نشير الى لمعاتٍ من اعجازه تلك التي اثارت تساؤلاً لدى البعض.
فالقرآن الحكيم الذي يعرّف ربّنا لنا:
هو الترجمة الأزلية لهذه الكائنات والترجمان الأبدي لألسنتها التاليات للآيات التكوينية، ومفسّر كتاب العالم.. وكذا هو كشافٌ لمخفيات كنوز الأسماء المستترة في صحائف السموات والارض.. وكذا هو مفتاح لحقائق الشؤون المـُضْمَرة في سطور الحادثات.. وكذا هو لسان الغيب في عالم الشهادة.. وكذا هو خزينة المخاطبات الازلية السبحانية والالتفاتات الابدية الرحمانية... وكذا هو أساسٌ وهندسةٌ وشمسٌ لهذا العالم المعنوي الاسلامي.. وكذا هو خريطة للعالم الأخروي.. وكذا هو قولٌ شارحٌ وتفسير واضحٌ وبرهان قاطعٌ وترجمان ساطعٌ لذات الله وصفاته واسمائه وشؤونه.. وكذا هو مربٍّ للعالم الانساني.. وكالماء وكالــضياء للأنسانية الكبرى التي هي الاسلامية.. وكذا هو الحكمة الحقيقية لنوع البشر، وهو المرشد المهدي الى ما خُلِقَ البشرُ له.. وكذا هو للأنسان: كما أنه كتاب شريعة كذلك كتاب حكمة، وكما أنه كتاب دعاء وعبودية كذلك هو كتاب أمر ودعوة، وكما أنه كتاب ذكر كذلك هو كتاب فكر، وكما أنه كتاب واحد، لكن فيه كتب كثيرة في مقابلة جميع حاجات الانسان المعنوية، كذلك هو كمنزل مقدسٍ مشحون بالكتب والرسائل. حتى انه ابرز لمشرب كل واحدٍ من أهل المشارب المختلفة، ولمسلكِ كل واحدٍ من أهل المسالك المتباينة من الأولياء والصديقين ومن العرفاء والمحققين رسالةً لائقةً لمذاق ذلك المشرب وتنويره، ولمساق ذلك المسلك وتصويره حتى كأنه مجموعة الرسائل.
فانظر الـى بيان لمعة الاعـجاز في تكرارات القرآن التي يتوهمها القاصرون نقصاً في البلاغة.
اعلم! أن القرآن لأنه كتاب ذكر، وكتاب دعاء، وكتاب دعوة، يكون تكراره أحسن وأبلغ بل ألزم، وليس كما ظنّه القاصرون، إذ الذكر يُكرَّر، والدعاء يردَّد. والدعوة تؤكَّد. إذ في تكرير الذكر تنويرٌ وفي ترديد الدعاء تقريرٌ وفي تكرار الدعوة تأكيدٌ.
واعلم انه لا يمكن لكلِ أحدٍ في كل وقتٍ قراءة تمام القرآن الذي هو دواء وشفاء لكل أحدٍ في كل وقت. فلهذا أدْرَجَ الحكيمُ الرحيم اكثر المقاصد القرآنية في اكثر سورٍٍ؛ لا سيما الطويلة منها، حتى صارت كلُ سورة قرآناً صغيراً، فسهّل السبيلَ لكل أحدٍ، دون أن يَحْرُمَ أحداً، فكرر التوحيد والحشر وقصة موسى عليه السلام.
اعلم! أنه كما أن الحاجات الجسمانية مختلفةٌ في الأوقات؛ كذلك الحاجات المعنوية الأنسـانية ايضاً مختلفة الأوقـات. فالى قسـمٍ في كل آن كـ(هو الله) للروح - كحاجة الجسم الى الهواء - والى قسم في كل ساعة كـ(بسم الله) وهكذا فقس.
فتكرار الآيات والكلمات اذن للدلالة على تكرّر الاحتياج، وللاشارة الى شدة الاحتياج اليها، ولتنبيه عرق الاحتياج وإيقاظه، وللتشويق على الاحتياج، ولتحريك اشتهاء الاحتياج الى تلك الأغذية المعنوية.
اعلم! أن القرآن مؤسسٌ لهذا الدين العظيم المتين، وأساسات لهذا العالم الاسلامي، ومقلِّبٌ لاجتماعيات البشر ومحوّلها ومبدّلها. وجواب لمكررات أسئلة الطبقات المختلفة للبشرية بألسنة الأقوال والأحوال.. ولابدَّ للمؤسس من التكرير للتثبيت، ومن الترديد للتأكيد، ومن التكرار للتقرير والتأييد.
اعلم! أن القرآن يبحث عن مسائل عظيمة ويدعو القلوب الى الايمان بها، وعن حقائق دقيقة ويدعو العقول الى معرفتها. فلابدَّ لتقريرها في القلوب وتثبيتها في أفكار العامة من التكرار في صور مختلفة وأساليب متنوعة.
اعلم! ان لكل آيةٍ ظهراً وبطناً وحدّاً ومَطلعاً، ولكل قصةٍ وجوهاً وأحكاماً وفوائد ومقاصد، فتُذكر في موضعٍ لوجهٍ، وفي آخر لأخرى، وفي سورةٍ لمقصدٍ وفي اُخرى لآخر وهكذا. فعلى هذا لا تكرار إلاّ في الصورة.
اما إجمال القرآن الكريم بعض المسائل الكونية وإبهامه في بعض آخر فهو لمعة اعجاز ساطع وليس كما توهمه أهلُ الألحاد من قصور ومدار نقد.
u فإن قلت:
لأي شئ لا يبحث القرآن عن الكائنات كما يبحث عنها فن الحكمة والفلسفة؟ فَيَدع بعض المسائل مجملاً ويذكر أخرى ذكراً ينسجم مع شعور العوام وافكارهم فلا يمسّها بأذى ولا يرهقها بل يذكرها سلساً بسيطاً في الظاهر؟
نقول جواباً:
لأن الفلسفة عَدِلتْ عن طريق الحقيقة وضلَّت عنها، وقد فهمتَ حتماً من الدروس والكلمات السابقة أن القرآن الكريم إنما يبحث عن الكائنات استطراداً، للاستدلال على ذات الله وصفاته واسمائه الحسنى، أي يُفهم معاني هذا الكتاب، كتاب الكون العظيم كي يعرِّف خالقه.
أي أن القرآن الكريم يستخدم الموجودات لخالقها لا لأنفسها. فضلاً عن أنه يخاطب الجمهور. اما علم الحكمة (الفلسفة) فينظر الى الموجودات لنفسها، ويخاطب اهل العلم والفلسفة.
وعلى هذا، فما دام القرآن يستخدم الموجودات دليلاً وبرهاناً، فمن شرط الدليل أن يكون ظاهراً وأظهرَ من النتيجة أمام نظر الجمهور.
ثم إن القرآن مادام مرشداً فمن شأن بلاغة الإرشاد مماشاة نظر العوام، ومراعاة حس العامةِ ومؤانسة فكر الجمهور، لئلا يتوحش نظرُهم بلا طائل ولا يتشوش فكرُهم بلا فائدة، ولا يتشرّد حسُّهم بلا مصلحة، فأبلغُ الخطاب معهم والارشاد أن يكون ظاهراً بسيطاً سهلاً لا يعجزهم، وجيزاً لا يُملّهم، مجملاً فيما لا يلزم تفصيله لهم، ويضرب بالأمثال لتقريب مادقَّ من الأمور الى فهمهم.
فلأن القرآن مرشد لكل طبقات البشر تستلزم بلاغةُ الارشاد أن لا يذكر ما يوقع الاكثرية في المغلطة والمكابرة مع البديهيات في نظرهم الظاهري، وأن لا يغيّر بلا لزوم ما هو متعارف محسوس عندهم، وان يهمل أو يجمل ما لا يلزم لهم في وظيفتهم الأصلية.
فمثلاً: يبحث عن الشمس لا للشمس، ولا عن ماهيتها، بل لِمن نورَّها وجعلها سراجاً، وعن وظيفتها بصيرورتها محوراً لانتظام الصنعة ومركزاً لنظام الخلقة، وما الانتظام والنظام إلاّ مرايا معرفة الصانع الجليل. فيعرّفنا القرانُ باراءة نظام النسج وانتظام المنسوجات كمالات فاطرها الحكيم وصانعها العليم، فيقول: } والشمسُ تجري{ ويفهـِّم بها وينبه الى تصرفات القدرة الإلهية العظيمة في اختلاف الليل والنهار وتناوب الصيف والشتاء. وفي لفت النظر اليها تنبيه السامع الى عظمة قدرة الصانع وانفراده في ربوبيته. فمهما كانت حقيقة جريان الشمس وبأي صورة كانت لا تؤثر تلك الحقيقة في مقصد القرآن في اراءة الانتظام المشهود والمنسوج معاً.
ويقول أيضاً:
} وَجَعَلَ الشمسَ سراجاً{ (نوح:16) ففي تعبير السراج تصوير العالم بصورة قصر، وتصوير الأشياء الموجودة فيه في صورة لوازم ذلك القصر، ومزيّناته، ومطعوماته لسكان القصر ومسافريه، واحساسٌ أنه قد أحضَرتها لضيوفه وخدّامه يدُ كريمٍ رحيم. وما الشمسُ إلاّ مأمور مسخَّر وسراج منوَّر. ففي تعبير السراج تنبيه الى رحمة الخالق في عظمة ربوبيته، وافهامُ إحسانه في سعة رحمته، واحساسُ كرمه في عظمة سلطنته.
فالآن استمع ماذا يقول الفلسفي الثرثار في الشمس. يقول: ((هي كتلة عظيمة من المائع الناري تدور حول نفسها في مستقرها، تطايرت منها شرارات وهي أرضنا وسيارات أخرى فتدور هذه الاجرام العظيمة المختلفة في الجسامة.. ضخامتها كذا.. ماهيتها كذا..)).
فانظر ماذا أفادتك هذه المسألة غيرَ الحيرة المدهشة والدهشة الموحشة، فلم تُفِدْك كمالاً علمياً ولا ذوقاً روحياً ولا غاية إنسانية ولا فائدة دينية.
فقس على هذا لتقدّر قيمة المسائل الفلسفية التي ظاهرُها مزخرف وباطنُها جهالة فارغة. فلا يغرّنك تشعشع ظاهرها وتُعرِض عن بيان القرآن المعجز.
اللّهم اجعل القرآن شفاءً لنا ولكاتبه وأمثاله من كل داء، ومؤنساً لنا ولهم في حياتنا وبعد موتنا، وفي الدنيا قريناً، وفي القبر مؤنساً، وفي القيامة شفيعاً، وعلى الصراط نوراً، ومن النار ستراً وحجاباً، وفي الجنة رفيقاً، والى الخيرات كلها دليلاً وإماماً، بفـضلك وجودك وكرمك ورحمتك يا اكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين آمين.
اللّهم صلِ وسلم على مَن اُنزل عليه الفرقان الحكيم وعلى آله وصحبه أجمعين ..آمين . آمين.
معجزة انشقاق القمر
[ذيل الكلمة التاسعة عشرة والحادية والثلاثين]
بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ
} اقتَرَبت الساعةُ وانشق القَمَر ` وإنْ يَرَوا آيةً يُعرِضوا ويقولوا سحرٌ مستمرٌ{ (القمر:1ــ 2)
ان فلاسفة ماديين – ومن يقلّدونهم تقليداً اعمى – يريدون ان يطمسوا ويخسفوا معجزة انشقاق القمر الساطع كالبدر، فيثيروا حولها اوهاماً فاسدة، اذ يقولون: ((لو كان الانشقاق قد حدث فعلاً لعرفه العالم، ولذكرته كتب التاريخ كلها!)).
الجواب: ان انشقاق القمر معجزة لإثبات النبوة، وقعت امام الذين سمعوا بدعوى النبوة وانكروها، وحدثت ليلاً، في وقت تسود فيه الغفلة، واُظهِرت آنياً، فضلاً عن ان اختلاف المطالع ووجود السحاب والغمام وامثالها من الموانع تحول دون رؤية القمر، علماً ان اعمال الرصد ووسائل الحضارة لم تكن في ذلك الوقت منتشرة؛ لذا لا يلزم ان يرى الانشقاق كلُ الناس، في كل مكان، ولا يلزم ايضاً ان يدخل كتب التاريخ.
فاستمع الآن الى نقاط خمس فقط من بين الكثير منها، تبدد باذن الله سُحبَ الاوهام التي تلبّدت على وجه هذه المعجزة الباهرة:
ا لنقطة الاولى:
ان تعنت الكفار في ذلك الزمان وذلك المحيط معلوم ومشهور تاريخاً، فعندما أعلن القرآن الكريم } وانشق القَمَر{ وبلغ صداه الآفاق، لم يجرؤ أحد من الكفار - وهم يجحدون القرآن - ان يكذّب بهذه الآية الكريمة. اي ينكر وقوع الحادثة. اذ لو لم تكن الحادثة قد وقعت فعلاً في ذلك الوقت، ولم تكن ثابتة لدى اولئك الكفار، لاندفعوا بشدة ليبطلوا دعوى النبوة، ويكذّبوا الرسول e . بينما لم تنقل كتب التأريخ والسير شيئاً من اقوال الكفار حول انكارهم حدوث الانشقاق، الا ما بيّنته الآية الكريمة } ويقولوا سحرٌ مستمرٌ{ وهو ان الذين شاهدوا المعجزة من الكفار قالوا: هذا سحر فابعثوا الى أهل الآفاق حتى تنظروا أرأوا ذلك أم لا؟. ولما حان الصباح أتت القوافل من اليمن وغيرها فسألوهم، فأخبروهم: انهم رأوا مثل ذلك. فقالوا: إن سحر يتيم ابي طالب قد بلغ السماء!
النقطة الثانية:
لقد قال معظم ائمة علم الكلام، من امثال سعد التفتازاني: ((ان انشقاق القمر متواتر، مثل فوران الماء من بين اصابعه الشريفة e وارتواء الجيش منه، ومثل حنين الجذع من فراقه e الذي كان يستند اليه اثناء الخطبة، وسماع جماعة المسجد لأنينه. اي ان الحادثة نقلته جماعة غفيرة عن جماعة غفيرة يستحيل تواطؤهم على الكذب، فالحادثة متواترة تواتراً قطعياً كظهور المذنب قبل الف سنة وكوجود جزيرة سرنديب التي لم نرها)).
وهكذا ترى أن إثارة الشكوك حول هذه المسألة القاطعة وامثالها من المسائل المشاهدة شهوداً عياناً انما هي بلاهة وحماقة، اذ يكفي فيها انها من الممكنات وليست مستحيلاً.
علماً ان انشقاق القمر ممكن كانفلاق الجبل ببركان.
النقطة الثالثة:
ان المعجزة تأتي لأثبات دعوى النبوة عن طريق اقناع المنكرين، وليس ارغامهم على الايمان. لذا يلزم اظهارها للذين سمعوا دعوى النبوة، بما يوصلهم الى القناعة والاطمئنان الى صدق النبوة. أما أظهارها في جميع الاماكن، أو أظهارها اظهاراً بديهياً بحيث يضطر الناس الى القبول والرضوخ فهو منافٍ لحكمة الله الحكيم ذي الجلال، ومخالف ايضاً لسر التكليف الإلهي. ذلك لأن سر التكليف الإلهي يقتضي فتح المجال امام العقل دون سلب الاختيار منه.
فلو كان الخالق الكريم قد ترك معجزة الانشقاق باقية لساعتين من الزمان، واظهرها للعالم اجمع ودخلت بطون كتب التاريخ كما يريدها الفلاسفة لكان الكفار يقولون انها ظاهرة فلكية معتادة. وما كانت حجة على صدق النبوة، ولا معجزة تخص الرسول الاعظم e . او لكانت تصبح معجزة بديهية ترغم العقل على الايمان وتسلبه من الاختيار وعندئذٍ تتساوى ارواح سافلة كالفحم الخسيس من امثال ابي جهل، مع الارواح العالية الصافية كالالماس من امثال ابي بكر الصديق رضي الله عنه، اي لكان يضيع سر التكليف الإلهي.
ولأجل هذا فقد وقعت المعجزة آنياً، وفي الليل، وحين تسود الغفلة، وغدا اختلاف المطالع والغمام وامثالها حُجباً امام رؤية الناس لها. فلم تدخل بطون كتب التاريخ.
النقطة الرابعة:
ان هذه المعجزة التي وقعت ليلاً، وآنياً، وعلى حين غفلة، لا يراها كل الناس دون شك في كل مكان. بل حتى لو ظهرت لبعضهم، فلا يصدِّق عينه، ولوصدّقها، فان حادثة كهذه مروية من شخص واحد لا تكون ذات قيمة للتاريخ.
ولقد ردّ العلماء المحققون ما زيد في رواية المعجزة من أن القمر بعد انشقاقه قد هبط الى الارض! قالوا: ربما ادخل هذه الزيادة بعض المنافقين ليسقطوا الرواية من قيمتها ويهونوا من شأنها.
ثم ان في ذلك الوقت: كانت سُحب الجهل تغطى سماء انكلترا، والوقت على وشك الغروب في اسبانيا، وامريكا في وضح النهار، والصباح قد تنفس في الصين واليابان.. وفي غيرها من البلدان هناك موانع اخرى للرؤية. فلا تشاهد هذه المعجزة العظيمة فيها.
فاذا علمت هذا فتأمل في كلام الذي يقول: ((ان تأريخ انكلترا والصين واليابان وامريكا وامثالها من البلدان لا تذكر هذه الحادثة، اذن لم تقع!)). اي هذرٍ هذا.. ألا تباً للذين يقتاتون على فتات اوربا..
النقطة الخامسة:
ان انشقاق القمر ليس حادثة حدثت من تلقاء نفسها، بناء على اسباب طبيعية وعن طريق المصادفة! بل أوقعها الخالق الحكيم - رب الشمس والقمر - حدثاً خارقاً للسنن الكونية، تصديقاً لرسالة رسوله الحبيب e ، واعلاناً عن صدق دعوته، فابرزه سبحانه وتعالى وفق حكمته وبمقتضى سر الارشاد والتكليف وحكمة تبليغ الرسالة، وليقيم الحجة على من شاء من المشاهدين له، بينما اخفاه - اقتضاء لحكمته سبحانه ومشيئته - عمن لم تبلغهم دعوة نبيه e من الساكنين في اقطار العالم، وحَجَبه عنهم بالغيوم والسحاب وباختلاف المطالع وعدم طلوع القمر، أو شروق الشمس في بعض البلدان وانجلاء النهار في اخرى وغروب الشمس في غيرها.. وامثالها من الاسباب الداعية الى حَجب رؤية الانشقاق.
فلو اُظهرت المعجزة الى جميع الناس في العالم كله فإما انها كانت تبرز لهم نتيجة اشارة الرسول الاعظم e واظهاراً لمعجزة نبوية، وعندها تصل الى البداهة، اي يضطر الناس كلهم الى التصديق، اي يُسلب منهم الاختيار، فيضيع سر التكليف، بينما الايمان يحافظ على حرية العقل في الاختيار ولا يسلبها منه.. أو أنها تبرز لهم كحادثة سماوية محضة، وعندها تنقطع صلتها بالرسالة الأحمدية ولا تبقى لها مزيّة خاصة.
الخلاصة:
ان انشقاق القمر لا ريب في امكان وقوعه. فلقد أثبت اثباتاً قاطعاً. وسنشير هنا الى وقوعه بستة براهين قاطعة(1) من بين الكثير منها، وهي: اجماع الصحابة الكرام رضوان الله عليهم اجمعين وهم العدول. واتفاق العلماء المحققين من المفسرين لدى تفسيرهم } وانشق القَمَر{ ونقل جميع المحدّثين الصادقين في رواياتهم وقوعه بأسانيد كثيرة وبطرق عديدة(2). وشهادة جميع اهل الكشف والالهام من الأولياء الصادقين الصالحين و تصديق ائمة علم الكلام المتبحرين رغم تباين مسالكهم ومشاربهم. وقبول الامة التي لا تجتمع على ضلالة كما نص عليه الحديث الشريف.
كل ذلك يبين انشقاق القمر ويثبته اثباتاً قاطعاً يضاهي الشمس في وضوحها.
حاصل الكلام:
كان البحث الى هنا باسم التحقيق العلمي، إلزاماً للخصم. اما بعد هذا فسيكون الكلام باسم الحقيقة ولأجل الايمان. فقد نطق التحقيق العلمي هكذا. أما الحقيقة فتقول:
ان خاتم ديوان النبوة e وهو القمر المنير لسماء الرسالة، وقد سمَتْ ولايةُ عبوديته الى مرتبة المحبوبية، فاظهرت الكرامة العظمى والمعجزة الكبرى بالمعراج، اي بجولان جسمٍ ارضي في آفاق السموات العلى، وتعريف اهل السموات به، فأثبتت بتلك المعجزة ولايتَه العظمى لله ومحبوبيته الخالصة له وسمّوه على اهل السموات والملأ الاعلى.. كذلك فقد شق سبحانه القمر المعلق في السماء والمرتبط مع الارض باشارة من عبده في الأرض، فاظهر لأهل الارض معجزته هذه، اثباتاً لرسالة ذلك العبد الحبيب، فعرج e الى أوج الكمالات بجناحَي الولاية والرسالة النورانيين كالفلقين المنيرين للقمر حتى بلغ قاب قوسين أو أدنى واصبح فخراً لأهل السموات ولأهل الارض معاً.
عليه وعلى آله وصحبه الصلاة والتسليمات ملء الارض والسموات.
} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{
قطعة من ذيل رسالة ((المعجزات الأحمدية))
لِمَ اختُصَّ بهذا المعراج العظيم محمدٌ e ؟
[كُتب هذا البحث – ضمن بحوث دلائل النبوة الأحمدية – جواباً عن سؤال ورد في الإشكال الأول من ثلاثة إشكالات مهمة وردت في نهاية الاساس الثالث من رسالة ((المعراج)) فهو بمثابة فهرس مختصر].
سؤال: لِمَ اختُصَّ بهذا المعراج العظيم محمدُ e ؟
الجواب: ان إشكالكم الاول هذا، قد حُلَّ مفصلاً في الكلمات الثلاثة والثلاثين ضمن كتاب الكلمات، الا اننا نشير هنا مجرد اشارة مجملة على صورة فهرس موجز الى كمالات النبي الكريم e ، ودلائل نبوته، وانه هو الأحرى بهذا المعراج العظيم.
اولاً: ان الكتب المقدسة، التوراة والانجيل والزبور، رغم تعرضها الى التحريفات طوال العصور، وقد استنبط في عصرنا هذا العالم المحقق حسين الجسر عشراً ومائة بشارة منها تخص نبوة الرسول الكريم e ، واثبتها في كتابه الموسوم ((الرسالة الحميدية)).
ثانياً: انه ثابت تاريخياً - ورويت بروايات صحيحة - بشارات كثيرة بشّر بها الكهان من امثال الكاهنين المشهورين: شِق وسطيح، قبيل بعثته صلى الله عليه وسلم واخبرا انه نبي آخر الزمان.
ثالثاً: ما حدث ليلة مولده e من سقوط الاصنام في الكعبة وانشقاق ايوان كسرى وامثالها من مئات الارهاصات والخوارق المشهورة في كتب التأريخ.
رابعاً: نبعان الماء من بين اصابعه الشريفة وسقيه الجيش به، وانين الجذع في المسجد وانشقاق القمر كما نصت عليه الآية الكريمة } وانشق القمر{ وامثالها من المعجزات الثابتة لدى العلماء المحققين والتي تبلغ الألف قد اثبتتها كتب السير والتأريخ.
خامساً: لقد اتفق الاعداء والاولياء بما لا ريب فيه ان ما يتحلى به e من الاخلاق الفاضلة هو في اسمى الدرجات، وان ما يتصف به من سجايا حميدة في دعوته هو في اعلى المراتب، تشهد بذلك معاملاته وسلوكه مع الناس. وان شريعته الغراء تضم اكمل الخصال الحسنة، تشهد بذلك محاسن الاخلاق في دينه القويم.
سادساً: لقد اشرنا في الاشارة الثانية من الكلمة العاشرة الى ان الرسول الكريم e هو الذي اظهر اعلى مراتب العبودية واسماها بالعبودية العظيمة في دينه تلبية لأرادة الله في ظهور الوهيته بمقتضى الحكمة.
وانه هو كذلك -كما هو بديهي - اكرم دالّ على جمالٍ في كمال مطلق لخالق العالم وافضل معرّف لبّى ارادة الله سبحانه في اظهار ذلك الجمال بوساطة مبعوث كما تقتضيه الحكمة والحقيقة.
وانه هو كذلك - كما هو مشاهد - اعظم دالّ على كمال صنعةٍ في جمال مطلق لصانع العالم، وباعظم دعوة واندى صوت، فلبّى ارادة الله جل وعلا في جلب الانظار الى كمال صنعته والاعلان عنها.
وانه هو كذلك - بالضرورة - اكمل مَن أعلن عن جميع مراتب التوحيد، فلبّى ارادة رب العالمين في اعلان الوحدانية على طبقات كثرة المخلوقات.
وانه هو كذلك - بالضرورة - أجلى مرآة وأصفاها لعكس محاسن جمال مالك العالم ولطائف حُسنه المنزّه - كما تشير اليه آثاره البديعة - وهو أفضل مَن أحبَّه وحببَّه، فلبّى ارادته سبحانه في رؤية ذلك الجمال المقدس واراءته بمقتضى الحقيقة والحكمة.
وأنه هو كذلك - بالبداهة - اعظم مَن عرَّف ما في خزائن الغيب لصانع هذا العالم - تلك الخزائن الملأى بأبدع المعجزات واثمن الجواهر - وهو أفضل مَن اعلن عنها ووصفها، فلبّى ارادته سبحانه في اظهار تلك الكنوز المخفية واعلام كمالاته بها.
وأنه هو كذلك - بالبداهة - اكمل مرشد بالقرآن الكريم للجن والانس بل للروحانيين والملائكة، واعظم مَن بيّن معاني آثار صانع هذه الكائنات التي زيّنها باروع زينة ومكّن فيها ارباب الشعور من مخلوقاته لينعموا بالنظر والتفكر والاعتبار، فلّبى ارادته سبحانه في بيان معاني تلك الآثار وتقدير قيمتها لأهل الفكر والمشاهدة بمقتضى الحكمة.
وانه هو كذلك - بالبداهة - احسن من كشف بحقائق القرآن عن مغزى القصد من تحولات الكائنات والغاية منها، واكمل مَن حلّ اللغز المحير في الموجودات. وهو اسئلة ثلاثة معضلة: مَن انت؟ ومن اين؟ والى اين؟ فلبّى ارادته سبحانه في كشف ذلك الطلسم المغلق لذوي الشعور بوساطة مبعوث.
وانه هو كذلك - بالبداهة - اكمل مَن بيّن المقاصد الإلهية بالقرآن الكريم وأحسن مَن وضح السبيل الى مرضاة رب العالمين، فلبّى ارادته سبحانه في تعريف ما يريده من ذوي الشعور وما يرضاه لهم بوساطة مبعوث، بعدما عرّف نفسه لهم بجميع مصنوعاته البديعة وحببها اليهم بما أسبغ عليهم من نعَمه الغالية.
وانه هو كذلك - بالبداهة - اعظم من استوفى مهمة الرسالة بالقرآن الكريم وادّاها أفضل اداء في اسمى مرتبة وابلغ صورة واحسن طراز، فلبّى ارادة رب العالمين في صرف وجه هذا الانسان من الكثرة الى الوحدة ومن الفاني الى الباقي، بوساطة مرشد ذلك الانسان الذي خلقه سبحانه ثمرةً للعالم ووهب له من الاستعدادات ما يسع العالم كله وهيأه للعبودية الكلية وابتلاه بمشاعر متوجهة الى الكثرة والدنيا.
وحيث ان اشرف الموجودات هم ذوو الحياة، وانبل الأحياء هم ذوو الشعور، واكرم ذوي الشعور هم بنو آدم الحقيقيون الكاملون، لذا فالذي ادّى من بين بني الانسان المكرم تلك الوظائف المذكورة آنفاً وأعطى حقها من الاداء في افضل صورة واعظم مرتبة من مراتب الاداء، لا ريب، انه سيعرج - بالمعراج العظيم - الى قاب قوسين أو أدنى، وسيطرق باب السعادة الابدية وسيفتح خزائن الرحمة الواسعة، وسيرى حقائق الايمان الغيبية رؤية شهود، ومن ذا يكون غير ذلكم النبي الكريم e ؟
سابعاً: يجد المتأمل في هذه المصنوعات المبثوثة في الكون أن فيها فعل التحسين في منتهى الجمال وفعل التزيين في منتهى الروعة، فبديهي أن مثل هذا التحسين والتزيين يدلان على وجود ارادة التحسين وقصد التزيين لدى صانع تلك المصنوعات فتلك الارادة الشديدة تدل بالضرورة على وجود رغبة قوية سامية ومحبة مقدسة لدى ذلك الصانع نحو صنعته...
لذا فمن البديهي أن يكون أحب مخلوق لدى الخالق الكريم الذي يحب مصنوعاته هو مَن يتصف بأجمع تلك الصفات، ومَن يُظهر في ذاته لطائف الصنعة اظهاراً كاملاً، ومن يعرفها ويعرِّفها، ومَن يحبِّب نفسه ويستحسن - باعجاب وتقدير - جمال المصنوعات الاخرى.
فمَن الذي جعل السموات والارض ترن بصدى ((سبحان الله... ما شاء الله... الله اكبر)) من اذكار الاعجاب والتسبيح والتكبير تجاه ما يرصّع المصنوعات من مزايا تزينّها ومحاسن تجمّلها ولطائف وكمالات تنورها؟ ومن الذي هزّ الكائنات بنغمات القرآن الكريم وجعل البر والبحر منجذباً في شوق عارم من الاستحسان والتقدير في تفكر واعلان وتشهير، في ذكر وتهليل؟ من ذا يكون تلك الذات المباركة غير محمد الأمين e ؟.
فمثل هذا النبي الكريم e الذي يضاف الى كفة حسناته في الميزان مثل ما قامت به امتُه من حسنات بسر ((السبب كالفاعل))... والذي تضاف الى كمالاته المعنوية الصلوات التي تؤديها الامة جميعاً.. والذي يُفاض عليه من الرحمة الإلهية ومحبتها ما لا يحدهما حدود فضلاً عما يناله من ثمرات ما اداه من مهمة رسالته من ثواب معنوي عظيم.. نعم، فمثل هذا النبي العظيم e لا ريب أن ذهابه الى الجنة، والى سدرة المنتهى، والى العرش الاعظم، فيكون قاب قوسين أو أدنى، أنما هو عين الحق، وذات الحقيقة ومحض الحكمة(1).
المرتبة السادسة عشرة
من رسالة ((الاية الكبرى))
التي تبحث عن ((الرسالة الأحمدية))
[لمناسبة المقام اُلحقت هذه المرتبة هنا]
ثم خاطب ذلك السائح في الدنيا عقله قائلاً: ما دمت أبحث عن مالكي وخالقي باستنطاق موجودات الكون هذا. فمن الأولى لي أن أزور مَن هو اكمل انسان في الوجود، واعظم من يقود الى الخير - حتى بتصديق أعدائه - وأعلاهم صيتاً وأصدقهم حديثاً وأسماهم منزلة وأنورهم عقلاً، ألا وهو محمد e الذي أضاء بفضائله وبقرآنه أربعة عشر قرناً من الزمان.. ولأجل أن أحظى بزيارته الكريمة واستفسر منه ما أبحث عنه، ينبغي ان نذهب معاً الى خير القرون الى عصر السعادة.. عصر النبوة... فدخل بعقله الى ذلك العصر فرأى:
ان ذلك العصر قد صار به e عصر سعادة للبشرية حقاً. لأنه e قد حوّل في زمن يسير بالنور الذي أتى به قوماً غارقين في أشد أمية، وأعرق بداوة حوّلهم الى أساتذة العالم وسادته.
وكذا خاطب عقله قائلاً: ((علينا قبل كل شئ ان نعرف شيئاً عن عظمة هذه الذات المعجزة، وذلك من أحقية أحاديثه، وصدق أخباره. ثم نستفسر منه عن خالقنا سبحانه)).. فباشر بالبحث. فوجد على صدق نبوته من الأدلة القاطعة الثابتة ما لا يعد ولا يحصى، ولكنه خلص الى تسع منها:
اولها: هو اتصافه e بجميع السجايا الفاضلة والخصال الحميدة، حتى شهد بذلك غرماؤه.. وظهور مئات المعجزات منه؛ كانشقاق القمر الذي انشق الى نصفين باشارة من أصبعه كما نص عليه القرآن } وانشق القمر{ ، وانهزام جيش الاعداء بما دخل أعينهم جميعاً من التراب القليل الذي رماه عليهم بقبضته. كما نصت عليه الاية الكريمة: } وما رميت اذ رميت ولكن الله رمى{ (الانفال:17) وارتواء أصحابه من الماء النابع كالكوثر من بين أصابعه الخمسة المباركة عندما اشتد بهم العطش.. وغيرها من مئات المعجزات التي ظهرت بين يديه، والمنقولة إلينا نقلاً صحيحاً قاطعاً أو متواتراً، فاستطلعها السائح الى (المكتوب التاسع عشر) أي رسالة ((المعجزات الأحمدية)) تلك الرسالة الخارقة ذات الكرامة المتضمنة لأكثر من ثلاثمائة معجزة من معجزاته e بدلائلها القاطعة واسانيدها الموثوقة.
ثم حدّث نفسه قائلاً: (ان من كان ذا ((أخلاق حسنة)) بهذا القدر و ((فضائل)) الى هذا الحد، و ((معجزات)) باهرة بهذه الكثرة، فلا جرم انه صاحب أصدق حديث ومن ثم لا يمكن ابداً ـ وحاشاه - ان يتنازل الى الحيلة والكذب والتمويه التي هي دأب الفاسدين).
ثانيها: كون القرآن الذي بيده e معجزاً من سبعة أوجه، ذلك الامر الصادر من مالك الكون الذي يسلّم به ويصدّقه أكثر من ثلاثمائة مليونٍ من البشر في كل عصر. ولما كانت (الكلمة الخامسة والعشرون) اي رسالة ((المعجزات القرآنية)) وهي شمس رسائل النور قد أثبتت بدلائل قوية أن هذا القرآن الكريم معجز من أربعين وجهاً، وانه كلام رب العالمين، لذا أحال السائح ذلك الى تلك الرسالة المشهورة لبيانها المفصل للاعجاز. ثم قال: ان الأمين على كلام الله، والمترجم الفعلي له، والمبلغ لهذا النبأ العظيم الى الناس كافة، وهو الحق بعينه والحقيقة بذاتها، لا يمكن ان يصدر منه كذب قط، ولن يكون موضع شبهة ابداً.
ثالثها: انه e قد بعث بشريعة مطهرة، وبدين فطري، وبعبودية خالصة، وبدعاء خاشع، وبدعوة شاملة، وبايمان راسخ، لا مثيل لما بعث به ولن يكون، وما وجد أكمل منه ولن يوجد.
لأن ((الشريعة)) التي تجلّت من أمّي e وادارت خمس البشرية على اختلافها منذ أربعة عشر قرناً ادارة قائمة على الحق والعدل بقوانينها الدقيقة الغزيرة، لا تقبل مثيلاً أبداً.
وكذا ((الاسلام)) الذي صدر من أفعال مَن هو أمّي e ومن أقواله، ومن أحواله، هو رائد ثلاثمائة مليون من البشر ومرجعهم في كل عصر، ومعلم لعقولهم ومرشد لها، ومنوّر لقلوبهم ومهذّب لها، ومربٍّ لنفوسهم ومزكٍّ لها، ومدار لإنكشاف أرواحهم ومعدن لسموها، لم يأت ولن يأتي له مثيل.
وكذا تفوقه e في جميع انواع ((العبادات)) التي يتضمنها دينه، وتقواه العظيمة أكثر من أي أحد كان، وخشيته الشديدة من الله ومجاهدته المتواصلة ورعايته الفائقة لأدق أسرار العبودية حتى في أشد الأحوال والظروف. وقيامه e بتلك العبودية الخالصة، دون أن يقلد أحداً وبكل معانيها مبتدئاً، وبأكمل صورة، موحداً الابتداء والانتهاء، لا شك لم يُرَ ولن يُرَى له مثيل.
وكذا فانه يصف، بالجوشن الكبير - الذي هو واحد من آلاف أدعيته ومناجاته - يصف ربه بمعرفة ربانية سامية لم يبلغ العارفون والأولياء جميعاً تلك المرتبة من المعرفة، ولا درجة ذلك الوصف منذ القدم مع تلاحق الافكار.. مما يظهر أنه لا مثيل له في ((الدعاء)). ومن ينظر الى الايضاح المختصر لفقرة واحدة من بين تسع وتسعين فقرة للجوشن الكبير، وذلك في مستهل رسالة ((المناجاة)) لا يسعه إلاّ القول انه لا مثيل لهذا الدعاء الرائع (الجوشن) الذي يمثل قمة المعرفة الربانية.
وكذا فان اظهاره في ((تبليغ الرسالة)) وفي دعوته الناس الى الحق من الصلابة والثبات والشجاعة ما لا يقاربها أحد، فلم يداخله - ولو بمقدار ذرة - أيّ أثرٍ للتردد ولا ساوره القلق قط، ولم ينل الخوف منه شيئاً، رغم معاداة الدول الكبرى والاديان العظمى له - وحتى قومه وقبيلته وعمه ناصبوه العداء الشديد - فتحدى وحده الدنيا بأسرها، ونصره الله وأعزّه فكلل هامة الدنيا بتاج الاسلام، فمَن مثل محمد e في تبليغ رسالات الله؟..
وكذا حمله ((ايماناً قوياً راسخاً، ويقيناً جازماً خارقاً، وانكشافاً للفطرة معجزاً، واعتقاداً سامياً ملأ العالم نوراً)) فلم تتمكن أن تؤثر فيه جميع الافكار والعقائد وحكمة الحكماء وعلوم الرؤساء الروحانيين السائدة في ذلك العصر، ولو بشبهة، أو بتردد، أو بضعف، أو بوسوسة. نعم، لم تتمكن ان تؤثر لا في يقينه، ولا في اعتقاده ولا في اعتماده على الله، ولا في اطمئنانه اليه، مع معارضتها له ومخالفته إياه، وانكارها عليه. زد على هذا استلهام جميع الذين ترقوا في المعنويات والمراتب الايمانية من أهل الولاية والصلاح، وفي مقدمتهم الصحابة الكرام، واستفاضتهم دوماً من مرتبته الايمانية، ورؤيتهم له انه في أسمى الدرجات والمراتب. كل ذلك يظهر - بداهة - ان ايمانه e لا مثيل له ايضاً.
ففهم السائح، وصدّق عقله ان منَ كان صاحب هذه الشريعة السمحاء التي لامثيل لها، والاسلام الحنيف الذي لا شبيه له، والعبودية الخالصة التي لا نظير لها، والدعاء البديع الرائع، والدعوى الكونية الشاملة، والايمان المعجز، لن يكون عنده كذب قط، ولن يكون خادعاً ابداً.
الدليل الرابع: اجماع الانبياء عليهم السلام واتفاقهم على الحقائق الايمانية نفسها هو دليل قاطع على وجود الله سبحانه وعلى وحدانيته، وهو شهادة صادقة أيضاً على صدق هذا النبي e وعلى رسالته، ذلك لأن كل ما يدل على صدق نبوة اولئك الأنبياء عليهم السلام، وكل ما هو مدارٌ لنبوتهم من الصفات القدسية، والمعجزات، والمهام التي اضطلعوا بها يوجد مثلها وباكمل منها فيه e ، كما هو مصدّق تاريخاً. فاولئك الأنبياء عليهم السلام قد أخبروا بلسان المقال - أي بالتوراة والانجيل والزبور والصحف التي بين أيديهم - بمجئ هذه الذات المباركة وبشروا الناس بقدومه e (حتى ان اكثر من عشرين اشارة واضحة ظاهرة من الاشارات المبشّرة لتلك الكتب المقدسة قد بُينت بياناً جلياً وأثبتت في رسالة المعجزات الأحمدية) فكما انهم قد بشروا بمجيئه e فانهميصدّقونه e بلسان حالهم - أي بنبوتهم وبمعجزاتهم - ويختمون بالتأييد على صدق دعوته اذ هو السابق الاكمل في مهمة النبوة والدعوة الى الله. فادرك السائح انهم مثلما يدلّون - أي اولئك الانبياء - بلسان المقال والاجماع على الوحدانية، فانهم يشهدون - بلسان الحال وبالاتفاق كذلك - على صدق هذا النبي الكريم e .
الدليل الخامس: ان وصول آلاف الأولياء الى الحق والحقيقة، وما نالوا من الكمالات والكرامات وما فازوا من الكشفيات والمشاهدات ليس الاّ بالاقتداء بهدي دساتير هذا النبي e ، وبتربيته، وباتباعه، وتعقّب اثره، فمثلما انهم يدلـّون جميعاً على الوحدانية فهم يشهدون بالاجماع والاتفاق على صدق هذا النبي الكريمe - أستاذهم وامامهم - وعلى أحقية رسالته. فرأى السائح ان مشاهدة هؤلاء قسماً مما أخبر به صلى الله عليه وسلم من عالم الغيب بنور الولاية واعتقادهم به وتصديقهم لجميع ما اخبر به بنور الايمان له - إما بعلم اليقين أو بعين اليقين أو بحق اليقين ـــ انما تُظهر ظهوراً كالشمس: ما أصدق مرشدهم الاعظم وما احق رائدهم الاكبر e .
الدليل السادس: ان ملايين العلماء المدققين الأصفياء، والمحققين الصديقين، ودهاة الحكماء المؤمنين، ممن بلغوا أعلى المراتب بفضل ما درسوا وتتلمذوا على ما جاء به هذا النبي الكريم e - مع كونه أمياً - من الحقائق القدسية، وما نبع منها من العلوم العالية، وما كشفت عنه من المعرفة الإلهية.. ان هؤلاء جميعاً مثلما يثبتون الوحدانية التي هي الاساس لدعوته e ويصدقّونها متفقين ببراهينهم القاطعة فانهم يتفقون كذلك ويشهدون على صدق هذا المعلم الاكبر وصواب هذا الاستاذ الأعظم وعلى أحقية كلامه e . فشهادتهم هذه حجة واضحة كالنهار على صدقه وصواب رسالته، وما رسائل النور بأجزائها التي تزيد على المائة مثلاً الاّ برهان واحد فقط على صدق وصواب هذا النبي الحبيب e .
الدليل السابع: ان الجمع العظيم الذين يطلق عليهم (الآل والأصحاب) الذين هم أشهر بني البشر بعد الأنبياء فراسةً واكثرهم درايةً، واسماهم كمالاتٍ وافضلهم منزلة، واعلاهم صيتاً، واشدهم اعتصاماً بالدين، وأحدّهم نظراً... ان تحريّ هؤلاء وتفتيشهم وتدقيقهم لجميع ما خفي وما ظهر من احوال هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وأفكاره وتصرفاته بحثاً بكمال اللهفة والشوق، وبغاية الدقة، وبمنتهى الجدية، ثم تصديقهم بالاتفاق والاجماع انه e هو أصدق مَن في الدنيا حديثاً، واسماهم مكانة واشدهم اعتصاماً بالحق والحقيقة. فتصديقهم هذا الذي لا يتزعزع مع ما يملكون من إيمان عميق، انما هو دليل باهر كدلالة النهار على ضياء الشمس.
الدليل الثامن: ان هذا الكون مثلما يدل على صانعه، وكاتبه، ومصوره الذي أوجده، والذي يديره، ويرتبه، ويتصرف فيه بالتصوير والتقدير والتدبير كأنه قصر باذخ، أو كأنه كتاب كبير، أو كأنه معرض بديع، أو كأنه مشهر عظيم، فهو كذلك يستدعي لا محالة وجود مَن يعبّر عما في هذا الكتاب الكبير من معانٍ، ويعلم ويعلـِّم المقاصد الإلهية من وراء خلق الكون، ويعلّم الحكم الربانية في تحولاته وتبدلاته، ويدرّس نتائج حركاته الوظيفية، ويعلن قيمة ماهيته وكمالات ما فيه من الموجودات. أي يقتضي داعياً عظيماً، ومنادياً صادقاً، واستاذاً محققاً، ومعلماً بارعاً. فأدرك السائح: ان الكون – من حيث هذا الاقتضاء – يدل ويشهد على صدق هذا النبي الكريم e وصوابه الذي هو أفضل من أتم هذه الوظائف والمهمات، وعلى كونه أفضل وأصدق مبعوث لرب العالمين.
الدليل التاسع: ما دام هناك وراء الحجاب مَن يُشهر كمال كونه بديعاً متقناً، بمصنوعاته هذه؛ ذات الاتقان والحكمة.. ويعرِّف نفسَه ويودّدها، بمخلوقاته غير المحدودة ذات الزينة والجمال.. ويُوجب الشكر والحمد له، بنعمه التي لا تحصى ذات اللذة والنفاسة.. ويشوّق الخلق الى العبادة نحو ربوبيته بعبودية تتسم بالحب والامتنان والشكر إزاء هذه التربية، والاعاشة العامة، ذات الشفقة والحماية (حتى انه يهيئ أطعمة وضيافات ربانية ما تُطَمئِن أدق أذواق الأفواه وجميع أنواع الاشتهاء)... ويُدين الخلق الى الايمان والتسليم والانقياد والطاعة نحو الوهيته التي يظهرها بتبديل المواسم، وتكوير الليل على النهار، واختلافهما، وأمثالها من التصرفات العظيمة، والاجراءات الجليلة، والفعالية المدهشة والخلاقية الحكيمة... ويُظهر عدالته وانتصافه بحمايته دوماً البرّ والابرار وازالته الشر والاشرار ومحقه الظالمين والمكذبين واهلاكهم بنوازل سماوية.
فلاجرم، ان احب مخلوق لدى ذلك المستتر بالغيب، وأصدق عبدٍ له هو مَن كان عاملاً خالصاً لمقاصده المذكورة آنفاً، ومَن يحل السر الأعظم في خلق الكون ويكشف لغزه، ومن يسعى دوماً باسم خالقه ويستمد القوة منه ويستعين به وحده في كل شئ فينال المدد والتوفيق منه سبحانه. ومن ذا يكون هذا غير محمد القرشي عليه الصلاة والسلام.
ثم خاطب السائح عقله: لَمّا كانت هذه الحقائق التسع شاهدة اثبات على صدق هذا النبي الكريم. فلا ريب اذآً: انه قطب شرف البشرية، ومدار افتخار العالم، وانه حري ولائق تسميته شرف بني آدم، وتلقيبه بفخر العالمين. وان ما في يده من أمر الرحمن وهو القرآن الكريم المهيمن جلال سلطانه المعنوي على نصف الارض مع ما يملك من كمالاته الشخصية وخصاله السامية يظهران: ان اعظم انسان في الوجود هو هذا النبي العظيم، فالقول الفصل اذن بحق خالقنا سبحانه هو قوله e .
فتعال يا عقلى وتأمل: ان أساس جميع دعاوى هذا النبي الكريم e ، وغاية حياته كلها، انما هي الشهادة على وجود واجب الوجود، والدلالة على وحدانيته، وبيان صفاته الجليلة، واظهار اسمائه الحسنى، واثبات كل ذلك، واعلانه، واعلامه؛ استناداً الى ما في دينه من ألوف الحقائق الراسخة الأساس والى قوة ما اظهره الله على يده مئات من معجزاته القاطعة الباهرة.
أي ان الشمس المعنوية التي تضئ هذا الكون والبرهان النيّر على وجود خالقنا سبحانه ووحدانيته، انما هو هذا النبي الكريم الملقب بـ ((حبيب الله)) e ، فهنالك ثلاثة أنواع من الاجماع عظيمة لا تخدع ولا تنخدع، تؤيد شهادته وتصدّقها:
الاجماع الاول:
اجماع الذين اشتهروا، وتميزوا في العالم باسم (آل محمد e ) تلك الجماعة النورانية التي يتقدمها الامام علي رضي الله عنه الذي قال: ((لو رُفع الحجاب ما ازددتُ يقيناً))، وخلفه الاف الأولياء العظام من ذوي البصائر الحادة والنظر الانيس للغيب من أمثال الشيخ الكيلاني (قدس سره) الذي كان ينظر ببصيرته النافذة الى العرش الاعظم واسرافيل بعظمته وهو بعد على الارض.
الاجماع الثاني:
اجماع تلك الجماعة المعروفة بالصحابة الكرام المشهورين في العالم ((رضي الله عنهم أجمعين)) وتصديقهم بالاتفاق وبايمان راسخ قوي لهذا النبي الكريم، حتى ساقهم ذلك الى التضحية والفداء بأرواحهم وأموالهم وآبائهم وعشيرتهم، وهم الذين كانوا قوماً بدواً يقطنون في محيط أمّيٍ خالٍ من مظاهر الحياة الاجتماعية والافكار السياسية، ليس لهم هدى ولا كتاب منير. وكانوا مغمورين في ظلمة عصر ((الفترة))، فصاروا في زمن يسير أساتذة مرشدين وسياسيين وحكاماً عادلين لأرقى الامم حضارة وعلماً واجتماعاً وسياسةً، فحكموا العالم شرقاً وغرباً ورفرفت رايات عدالتهم براً وبحراً.
الاجماع الثالث:
هو تصديق الجماعة العظيمة من العلماء الاجلاء الذين لا يعدون ولا يحصون، المتبحرين في علومهم والمحققين المدققين الذين نشأوا في أمته وسلكوا مسالك شتى ولهم في كل عصر آلاف من الحائزين على قصب السبق - بدهائهم - في كل علم، فتصديق هؤلاء جميعاً له بالاتفاق وبدرجة علم اليقين اجماع أي اجماع!..
فحكم السائح بان شهادة هذا النبي الامي e على الوحدانية ليست شهادة شخصية وجزئية، وانما هي شهادة عامة وكلية راسخة لا تتزعزع، ولن تستطيع أن تجابهها الشياطين كافة في أية جهة ولو اجتمعوا عليها.
وهكذا ذُكرت إشارة مختصرة لما تلقاه ذلك السائح الذي جال بعقله في عصر السعادة جوانب الحياة من تلك المدرسة النورانية في المرتبة السادسة عشرة من المقام الاول كالآتي:
((لا إله إلاّ الله الواجب الوجود الواحدُ الأحدُ الذي دلَّ على وجوب وجوده في وحدتِهِ: فخرُ عالمٍ وشرف نوع بني آدم، بعظمةِ سلطنة قرآنِهِِ، وحشمَةِ وسعَة دينه، وكثرة كمالاتِه، وعُلويّةِ اخلاقه، حتى بتصديق أعدائِهِ. وكذا شهد وبرهن بقوةِ مئات المعجزات الظاهرات الباهرات المُصدِّقةِ، وبقوة آلاف حقائق دينه الساطعة القاطعة، باجماع آله ذوي الأنوار، وباتفاق اصحابه ذوي الأبصار، وبتوافق محُققِي أمـِّتهِ ذوي البراهين والبصائِرِ النوّارة)).
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-03-2011
  #25
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 15
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: المكتوبات

المكتوب العشرون

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيْءٍ اِلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ{

((لا إله إلاّ الله، وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد يحيي، ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شئ قدير، وإليه المصير))(1)

[ان هذه الجملة التي تلخص التوحيد، عبارة عن احدى عشرة كلمة، ولقراءتها عقب صلاتي الفجر والمغرب فضائل جمة، حتى وردت في احدى الروايات الصحيحة انها تحمل مرتبة ((الاسم الأعظم)). فلا غرو اذن أن تقطر كل كلمة من كلماتها أملاً شافياً وبشرى سارة، وان تحمل مرتبة جليلة من مراتب توحيد الربوبية، وتبين من زاوية الاسم الاعظم كبرياء الوحدانية وكمال التوحيد.

وحيث أن هذه الحقائق الواسعة الرفيعة قد وضحت بجلاء في سائر ((الكلمات)) فنحيل اليها. ونكتفي هنا بوضع فهرس لها - بناء على وعد سابق - على صورة خلاصة مجملة جداً، تتكون من ((مقامين)) و ((مقدمة))].



المقدمة

اعلم يقيناً أن اسمى غاية للخلق، واعظم نتيجة للفطرة الانسانية.. هو ((الايمان بالله)).. واعلم ان أعلى مرتبة للانسانية، وافضل مقام للبشرية.. هو ((معرفة الله)) التي في ذلك الايمان.. واعلم ان أزهى سعادة للانس والجن، وأحلى نعمة.. هو ((محبة الله)) النابعة من تلك المعرفة.. واعلم أن اصفى سرور لروح الانسان، وانقى بهجة لقلبه.. هو ((اللذة الروحية)) المترشحة من تلك المحبة.

أجل! ان جميع انواع السعادة الحقة، والسرور الخالص، والنعمة التي ما بعدها نعمة، واللذة التي لا تفوقها لذة، انما هي في ((معرفة الله)).. في ((محبة الله)). فلا سعادة، ولا مسرة، ولا نعمة حقاً بدونها.

فكل من عرف الله تعالى حق المعرفة، وملأ قلبه من نور محبته، سيكون أهلاً لسعادة لا تنتهي، ولنعمة لا تنضب، ولأنوار واسرار لا تنفد، وسينالها إما فعلاً وواقعاً أو استعداداً وقابلية. بينما الذي لا يعرف خالقه حق المعرفة، ولا يكنّ له ما يليق من حب وود، يصاب بشقاء مادي ومعنوي دائمين، ويظل يعاني من الآلام والأوهام ما لا يحصر.

نعم! ان هذا الانسان البائس الذي يتلوى ألماً من فقده مولاه وحاميه، ويضطرب من تفاهة حياته وعدم جدواها، وهو عاجز وضعيف بين جموع البشرية المنكودة.. ماذا يغنيه عما يعانيه ولو كان سلطان الدنيا كلها!!

فما اشد بؤس هذا الانسان المضطرب في دوامة حياة فانية زائلة وبين جموع سائبة من البشر ان لم يجد مولاه الحق، ولم يعرف مالكه وربه حق المعرفة! ولكن لو وجد ربه وعرف مولاه ومالكه لالتجأ الى كنف رحمته الواسعة، واستند الى جلال قدرته المطلقة.. ولتحولت له الدنيا الموحشة روضة مؤنسة، وسوق تجارة مربحة.

المقام الأول



كل كلمة من كلمات هذا الكلام التوحيدي الرائع تزف بشرى سارة، وتبث املاً دافئاً. وفي كل بشرى شفاء وبلسم.. وفي كل شفاء لذة معنوية وانشراح روحي.

u الكلمة الأولى: [لا إله إلا الله]

هذه الكلمة تتقطر بشرى عظيمة واملاً بهيجاً كالآتي:

ان روح الانسان المتلهفة الى حاجات غير محدودة، والمستهدفة من قبل اعداء لا يُعدّون.. هذه الروح المبتلاة بين حاجات لا تنتهي واعداء لا يحصرون، تجد في هذه الكلمة العظيمة منبعاً ثراً من الاستمداد، بما يفتح لها ابواب خزائن رحمة واسعة ترد منها ما يطمئن جميع الحاجات وتضمن جميع المطاليب.. وتجد فيها كذلك مرتكزاً شديداً ومستنداً رضياً يدفع عنها جميع الشرور، ويصرف عنها جميع الاضرار. وذلك بما تري الانسان من قوة مولاه الحق، وترشده الى مالكه القدير، وتدله على خالقه ومعبوده. وبهذه الرؤية السديدة والتعرف على الله الواحد الأحد، تنقذ - هذه الكلمة - قلب الانسان من ظلام الوحشة والاوهام، وتنجي روحه من آلام الحزن والكمد، بل تضمن له فرحاً ابدياً، وسروراً دائماً.

u الكلمة الثانية: [وحده]

هذه الكلمة تشرق املاً وتزف بشرى سارة كالآتي:

ان روح البشر، وقلبه المرهقين بل الغارقين الى حد الاختناق تحت ضغوط ارتباطات شديدة واواصر متينة مع اغلب انواع الكائنات، يجدان في هذه الكلمة ملجأ اميناً، ينقذهما من تلك المهالك والدوامات. أي أن كلمة ((وحده)) تقول معنىً:

ان الله واحد أحد، فلا تتعب نفسك - ايها الانسان - بمراجعة الأغيار. ولا تتذلل لهم، فترزح تحت منتهم وأذاهم.. ولا تحني رأسك امامهم وتتملق لهم.. ولا ترهق نفسك فتلهث وراءهم.. ولا تخف منهم وترتعد أزاءهم.. لأن سلطان الكون واحد، وعنده مفاتيح كل شئ، بيده مقود كل شئ، تنحل عقد كل شئ بأمره، وتنفرج كل شدة باذنه.. فان وجدته فقد ملكت كل شئ، وفزت بما تطلبه، ونجوت من أثقال المن والاذى ومن أسر الخوف والوهم.

u الكلمة الثالثة: [لا شريك له]

اي: كما لاندّ له ولا ضد في الوهيته لأن الله واحد، فان ربوبيته واجراءاته وايجاده الاشياء منزهة كذلك من الشرك. بخلاف سلاطين الأرض، اذ يحدث أن يكون السلطان واحداً متفرداً في سلطنته الاّ انه ليس متفرداً في اجراءاته، حيث أن موظفيه وخدمه يعدّون شركاء له في تسيير الامور وتنفيذ الاجراءات، ويمكنهم ان يحولوا دون مثول الجميع أمامه، ويطلبوا منهم مراجعتهم اولاً! ولكن الحق سبحانه وتعالى وهو سلطان الازل والابد، واحد لا شريك له في سلطنته، فليس له حاجة قط في اجراءات ربوبيته ايضاً الى شركاء ومعينين للتنفيذ، اذ لا يؤثر شئ في شئ الاّ بأمره وحوله وقوته، فيمكن للجميع ان يراجعوه دون وسيط، لعدم وجود شريك أو معين. ولا يقال عندئذٍ للمراجع: لا يجوز لك الدخول في الحضرة الإلهية.

وهكذا تحمل هذه الكلمة في طياتها أملاً باسماً وبشارة بهيجة، فتقول:

ان الانسان الذي استنارت روحه بنور الايمان، ليستطيع عرض حاجاته كلها بلا حاجز ولا مانع بين يدي ذلك الجميل ذي الجلال، ذلك القدير ذي الكمال، ويطلب ما يحقق رغباته، اينما كان هذا الانسان وحيثما حلّ. فيفرش حاجاته ومطاليبه كلها امام ذلك الرحيم الذي يملك خزائن الرحمة الواسعة، مستنداً الى قوته المطلقة، فيمتلى عندئذ فرحاً كاملاً وسروراً غامراً.

u الكلمة الرابعة: fله الملك]

أي ان الملك كله له، دون استثناء.. وانت.. ايضاً ملكه، كما انك عبده ومملوكه، وانت عامل في ملكه..

فهذه الكلمة تفوح املاً وتقطر بشرى شافية، وتقول:

أيها الانسان! لا تحسب انك مالك نفسك.. كلا.. لانك لا تقدر على أن تدير امور نفسك.. وذلك حمل ثقيل، وعبء كبير، ولا يمكنك ان تحافظ عليها، فتنجيها من البلايا والرزايا، وتوفر لها لوازم حياتك.. فلا تجرّع نفسك اذن الآلام سدىً، فتلقي بها في احضان القلق والاضطراب دون جدوى، فالملك ليس لك، وانما لغيرك، وذلك المالك قادر، وهو رحيم. فاستند الى قدرته، ولا تتهم رحمته.. دع ما كدر، خذ ما صفا.. انبذ الصعاب والاوصاب وتنفـس الصعـداء، وحز على الـهـنـاء والسعادة.

وتقول ايضاً:

ان هذا الوجود الذي تهواه معنىً، وتتعلق به، وتتألم لشقائه واضطرابه، وتحس بعجزك عن اصلاحه.. هذا الوجود كله مُلك لقادر رحيم. فسلّم الملك لمولاه، وتخلّ عنه فهو يتولاه، واسعد بمسراته وهنائه، دون أن تكدرك معاناته ومقاساته، فالمولى حكيم ورحيم، يتصرف في ملكه كيف يشاء وفق حكمته ورحمته.

واذا ما اخذك الروع والدهشة، فأطل من النوافذ ولا تقتحمها، وقل كما قال الشاعر ابراهيم حقي(1):

لنرَ المولى ماذا يفعلُ

فما يفعل هو الأجمل.

u الكلمة الخامسة: [له الحمد]

أي أن الحمد والثناء والمدح والمنة خاص به وحده، ولائق به وحده، لأن النعم والآلاء كلها منه وحده، وتفيض من خزائنه الواسعة، والخزائن دائمة لا تنضب.

وهكذا تمنح هذه الكلمة بشرى لطيفة، وتقول:

أيها الانسان! لا تقاسي الالم بزوال النعمة، لأن خزائن الرحمة لا تنفد، ولا تصرخ من زوال اللذة، لأن تلك النعمة ليست الاّ ثمرة رحمة واسعة لا نهاية لها. فالثمار تتعاقب ما دامت الشجرة باقية.

واعلم ايها الانسان انك تستطيع ان تجعل لذة النعمة اطيب واعظم منها بمائة ضعف، وذلك برؤيتك إلتفاتة الرحمة اليك، وتكرمها عليك، وذلك بالشكر والحمد. اذ كما ان ملكاً عظيماً وسلطاناً ذا شأن اذا ارسل اليك هديةً - ولتكن تفاحة مثلاً - فان هذه الهدية تنطوي على لذة تفوق لذة التفاح المادية باضعاف الاضعاف، تلك هي لذة الالتفات الملكي والتوجّه السلطاني المكلل بالتخصيص والاحسان، كذلك كلمة ((له الحمد)) تفتح امامك باباً واسعاً تتدفق منه لذة معنوية خالصة هي ألذ من تلك النعم نفسها بألف ضعف وضعف، وذلك بالحمد والشكر، أي: بالشعور بالإنعام عن طريق النعمة، أي: بمعرفة المنعم بالتفكر في الإنعام نفسه، أي: بالتفكر والتبصر في التفات رحمته سبحانه وتوجـهه اليك وشـفقته علـيـك، ودوام انـعامه عليك.

u الكلمة السادسة: [يحيى]

أي: هو الذي يهب الحياة، وهو الذي يديمها بالرزق، وهو المتكفل بكل ضروراتها وحاجاتها، وهو الذي يهيئ لوازمها ومقوماتها. فالغايات السامية للحياة تعود اليه، والنتائج المهمة لها تتوجه اليه، وتسع وتسعون بالمائة من ثمراتها ونتائجها تقصده وترجع اليه.

وهكذا فهذه الكلمة تنادى هذا الانسان الفاني العاجز، وتزجي له البشارة، نافخة فيه روح الأمل، وتقول:

ايها الانسان! لا ترهق نفسك بحمل اعباء الحياة الثقيلة على كاهلك الضعيف، ولا تذهب نفسك حسرات على فناء الحياة وانتهائها. ولا تظهر الندم والتذمر من مجيئك الى الحياة كلما ترى زوال نعيمها وتفاهة ثمراتها.. واعلم ان حياتك التي تعمر وجودك انما تعود الى ((الحي القيوم)) فهو المتكفل بكل حاجاتها ولوازمها. فهذه الحياة تعود اليه وحده، بغاياتها الوفيرة، ونتائجها الكثيرة. وما أنت الاّ عامل بسيط في سفينة الحياة. فقم بواجبك أحسن قيام، ثم اقبض اجرتك وتمتع بها، وتذكر دائماً: مدى عِظمَ هذه الحياة التي تمخر عباب الوجود، ومدى جلالة فوائدها، وثمراتها، ومدى كرم صاحبها وسعة رحمة مولاها.. تأمل ذلك واسبح في فضاء السرور، واستبشر به خيراً، وادّ شكر ما عليك تجاه مولاك. واعلم بأنك ان إستقمتَ في اعمالك تسجّل في صحيفتها اولاً نتائج سفينة الحياة هذه، فتوهب لك حياة باقية، وتحيا حياة ابدية.

u الكلمة السابعة: [ويميت]

اي: انه هوالذي يهب الموت، اي: هو الذي يسرّحك من وظيفة الحياة، ويبدل مكانك في الدنيا الفانية، وينقذك من عبء الخدمة، ويحررك من مسؤولية الوظيفة. اي: يأخذك من هذه الحياة الفانية الى الحياة الباقية.

وهكذا فهذه الكلمة تصرخ في اذن الانس والجن الفانين وتقول:

بشراكم.. الموت ليس اعداماً، ولا عبثاً ولا سدى ولا انقراضاً، ولا انطفاءً، ولا فراقاً ابدياً .. كلا فالموت ليس عدماً، ولا مصادفة، ولا انعداماً ذاتيا بلا فاعل.. بل هو تسريح من لدن فعال حكيم رحيم، وتبديل مكان، وتغيير مقام، وسَوق نحو السعادة الخالدة.. حيث الوطن الأصلي.. أي هو باب وصال لعالم البرزخ.. عالم يجمع تسعةً وتسعين بالمائة من الاحباب.

u الكلمة الثامنة: [وهو حي لا يموت]

اي: ان الكمال والحسن والاحسان الظاهر في الموجودات وسيلةً للمحبة.. يتجلى بما لا يمكن وصفه وبما لا يحده حدود وفوق الدرجات العلى من مالك الجمال والكمال والاحسان، فومضةٌ من تجليات جماله سبحانه تعادل جميع محبوبات الدنيا باسرها.. هذا الإله المحبوب المعبود له حياة أبدية دائمة منزهة عن كل شوائب الزوال وظلال الفناء، مبرأة عن كل عوارض النقص والقصور.

اذن فهذه الكلمة تعلن للملأ جميعاً من الجن والانس وارباب المشاعر والفطنة وأهل العشق والمحبة وتقول:

اليكم البشرى.. اليكم نسمة أمل وخير، ان لكم محبوباً ازلياً باقياً، يداوي الجروح المتمخضة من لوعة الفراق الابدي لمحبوبتكم الدنيوية ويمسها ببلسمه الشافي بمرهم رحمته. فما دام هو موجوداً، وما دام هو باقياً فكل شئ يهون.. فلا تقلقوا ولا تبتئسوا. فان الحسن والاحسان والكمال الذي جعلكم مشغوفين باحبائكم ليس الاّ لمحة من ظل ضعيف انشق عن ظلال الحجب والاستار الكثيرة جداً لتجلٍ واحدٍ من تجليات جمال ذلك المحبوب الباقي. فلا يعذبنكم زوال اولئك وفراقهم، لانهم جميعاً ليسوا الاّ نوعاً من مرايا عاكسة، وتبديل المرايا وتغييرها يجدد ويجمّل انعكاسات تجلي الجمال وشعشعته الباهرة، فما دام هو موجوداً، فكل شئ موجود اذن.

u الكلمة التاسعة: [بيده الخير]

أي: ان الخير كله بيده، واعمالكم الخيرة كلها تسجل في سجله، وما تقدموه من صالحات الاعمال جميعها تدرج عنده.

فهذه الكلمة تنادي الجن والانس، وتزف لهم البشرى، وتهب لهم الأمل والشوق فتقول:

ايها المساكين! لا تقولوا عندما تغادرون الدنيا الى المقبرة: ((أواه.. وا اسفاه.. واحسرتاه، لقد ذهبت اموالنا هباءً، وضاع سعينا هدراً، فدخلنا ضيق القبر بعد فسحة الدنيا!.. لا.. لا تصرخوا يائسين، لأن كل ما لديكم محفوظ عنده سبحانه، وكل ما قدمتموه من عمل وجهد قد سجل ودوّن عنده، فلا شئ يضيع ولا جهد ينسى، لأن ذا الجلال الذي بيده الخير كله سيثيبكم على اعمالكم، وسيدعوكم للمثول امامه بعد ان يضعكم في التراب.. مثواكم الموقت.

فما اسعدكم انتم اذن، وقد اتممتم خدماتكم، وانهيتم وظائفكم، برئت ساحتكم.. وانتهت ايام المعاناة والأعباء الثقيلة. فانتم ماضون الآن لقبض الاجور واستلام الارباح.

أجل!. ان القادر الجليل الذي حافظ على البذور والنوى - التي هي صحف اعمال الربيع الماضي ودفاتر خدماته وحجرات وظائفه - ونشرها في هذا الربيع الزاهي وفي أبهى حلة، وفي غاية التألق، وفي اكثر بركة وغزارة، وفي أروع صورة... ان هذا القدير الجليل لا ريب يحافظ ايضاً على نتائج حياتكم ومصائر اعمالكم، وسيجازيكم بها أحسن الجزاء وأجزل الثواب)).

u الكلمة العاشرة: [وهو على كل شئ قدير]

أي: أنه واحد أحد. قادر على كل شئ، لا يشق عليه شئ، ولا يؤوده شئ، ولا يصعب عليه أمر، فخلق ربيع كامل - مثلاً - سهل ويسير عليه كخلق زهرة واحدة. وخلق الجنة عنده كخلق ذلك الربيع وبالسهولة واليسر الكاملين. فالمخلوقات غير المحدودة التي يوجدها ويجددها كل يوم، كل سنة، كل عصر، لتشهد كلها بألسنة غير محدودة على قدرته غير المحدودة.

فهذه الكلمة ايضاً تمنح املاً وبشرى وتقول:

ايها الانسان! ان اعمالك التي اديتها، وعبوديتك التي قمت بها، لا تذهب هباءً منثوراً، فهناك دار جزاء خالدة، ومقام سعادة هانئة قد هئ لك. فأمامك جنة خالدة متلهفة لقدومك، مشتاقة اليك. فثق بوعد خالقك ذي الجلال الذي تخر له ساجداً عابداً، وآمن به واطمئن اليه، فانه محال أن يخلف وعداً قطعه على نفسه، اذ لا تشوب قدرته شائبة أو نقص، ولا يداخل اعماله عجز أو ضعف، فكما خلق لك حديقتك الصغيرة ويحييها، فهو قادر على ان يخلق لك الجنة الواسعة، بل قد خلقها فعلاً، ووعدك بها. ولأنه وعد فسيفي بوعده حتماً ويأخذك الى تلك الجنة.

وما دمنا نرى أنه يحشر وينشر في كل عام على وجه البسيطة اكثر من ثلاثمئة الف نوع من انواع النباتات وامم الحيوانات وبانتظام كامل وميزان دقيق، وفي سرعة فائقة وسهولة تامة.. فلابد أن هذا القادر الجليل، قادر ايضاً على أن يضع وعده موضع التنفيذ.

وما دام القادر المطلق يوجد في كل سنة آلاف النماذج للحشر والجنة وبمختلف الانماط والاشكال.. وما دام أنه يبشّر بالجنة الموعودة، ويعد بالسعادة الابدية في جميع أوامره السماوية.. وما دامت جميع اجراءاته وشؤونه حقاً وحقيقة وصدقاً وصائبة.. وما دامت جميع آثاره تشهد على أن الكمالات قاطبة انما هي دلالات على أنه منزّه عن كل نقص أو قصور.. وما دام نقض العهد وخلاف الوعد والكذب والمماطلة هو من أقبح الصفات فضلاً عن أنه نقص وقصور.. فلابد أن ذلك القدير ذا الجلال، وذلك الحكيم ذا الكمال، وذلك الرحيم ذا الجمال سينفذ وعده حتماً مقضياً، وسيفتح ابواب السعادة الابدية، وسيدخلكم - ايها المؤمنون - الجنة.. موطن ابيكم آدم عليه السلام.

u الكلمة الحادية عشر: [واليه المصير]

أي ان الذين يُرسلون الى دار الدنيا.. دار الامتحان والاختبار للتجارة وانجاز الوظائف، سيرجعون مرة اخرى الى مرسلهم الخالق ذي الجلال، بعد أن ادّوا وظائفهم وأتموا تجارتهم وأنهوا خدماتهم وسيلاقون مولاهم الكريم الذي أرسلهم.. اي: انهم سيتشرفون بالمثول بين يدي ربهم الرحيم، في مقعد صدق عند مليكهم المقتدر، ليس بينهم وبينه حجاب. وقد خلصوا من مخاض الاسباب وظلام الحجب والوسائط وسيجد كل واحد منهم ويعرف معرفة خالصة كاملة خالقه وربه وسيده ومليكه.

فهذه الكلمة تشع املاً وتتألق بشرى تفوق كل تلك الآمال والبشارات اللذيذة، وتقول:

ايها الانسان! هل تعلم الى اين انت سائر؟ والى اين انت تُساق؟

فقد ذكر في ختام الكلمة الثانية والثلاثين:

ان قضاء الف سنة من حياة الدنيا وفي سعادة مرفهة، لا يساوي ساعة واحدة من حياة الجنة! وان قضاء حياة الف سنة وسنة بسرور كامل في نعيم الجنة لا يساوي ساعة من فرحة رؤية جمال الجميل سبحانه.

فأنت اذن ايها الانسان راجع الى ميدان رحمته، صائر الى اعتاب ديوان حضرته. فما الحسن والجمال الذي تراه في احبتك المجازيين - فتشتاق اليهم وتفتن بهم، بل ما الحسن والجمال في جميع موجودات الدنيا الاّ نوع ظلٍ من تجلي جماله سبحانه، وحُسن اسمائه جلّ وعلا. فالجنة بلطائفها ولذائذها وحورها وقصورها ما هي الاّ تجلٍ من تجليات رحمته سبحانه، وجميع انواع الشوق والمحبة والانجذاب والجواذب ما هي الاّ لمعة من محبة ذلك المعبود الباقي وذلك المحبوب القيوم! فانتم ذاهبون اذن الى دائرة حظوته ومقام حضرته الجليلة.. وانتم مدعوون اذن الى دار ضيافته الابدية.. الى الجنة الخالدة.

فلا تحزنوا ولا تبكوا عند دخولكم القبر، بل استبشروا خيراً واستقبلوه بابتسامة وفرح.

وتتابع هذه الكلمة وظيفتها في بث نور الامل والبشرى وتقول:

ايها الانسان! لا تتوهم انك ماضٍ الى الفناء، والعدم، والعبث، والظلمات، والنسيان، والتفسخ، والتحطم، والانهشام، والغرق في الكثرة والانعدام. بل انت ذاهب الى البقاء لا الى الفناء، وانت مسوق الى الوجود الدائم لا الى العدم، وانت ماضٍ الى عالم النور لا الى الظلمات وانت سائر نحو مولاك ومالكك الحق، وانت عائد الى مقر سلطان الكون.. سلطان الوجود.. سترتاح وتنشرح في ميدان التوحيد دون الغرق في الكثرة ابداً، فانت متوجه الى اللقاء والوصال دون البعاد والفراق!.

المقام الثاني



(اشارة مختصرة الى اثبات التوحيد، من حيث الاسم الاعظم )

u الكلمة الاولى: [لا إله الاّ الله]

تتضمن هذه الكلمة، توحيد الالوهية وتوحيد المعبودية، نشير اليهما ببرهان قوي هو:

انه يشاهد على وجه هذا العالم، ولاسيما على صحيفة الارض فعالية منتظمة غاية الانتظام.. ونشاهد خلاقية حكيمة في غاية الحكمة.. ونشاهد بعين اليقين فتاحية في غاية النظام ـ اي إعطاء كل شئ ما يلائمه من شكل وإلباسه مايلائمه من صورة ـ ونشاهد وهّابية واحسانات في غاية الشفقة والكرم والرحمة.

فهذه الاوضاع وهذه الاحوال تثبت بالضرورة وجوب وجود ربّ ذي جلال، فعّال خلاق فتاح وهاب، بل تشعر وحدانيته.

نعم! ان زوال الموجودات دائماً وتجددها باستمرار يبينان: ان تلك الموجودات هي تجليات اسماء لصانع قدير.. وظلال أنوار اسمائه الحسنى.. وآثار أفعاله.. ونقوش قلم قدره وصحائف قدرته.. ومرايا جمال كماله.

وان رب العالمين يبين هذه الحقيقة العظمى، وهذه المرتبة العليا للتوحيد بجميع كتبه وصحفه المقدسة التي أنزلها، كما ان جميع اهل التحقيق العلماء والكاملين من البشر يثبتون مرتبة التوحيد نفسها بتحقيقاتهم العلمية وكشفياتهم.. وكذا الكون مع عجزه وفقره يشير الى مرتبة التوحيد نفسها بما نال من معجزات الصنعة وخوارق القدرة وخزائن الثروة.

بمعنى ان الله سبحانه وتعالى، وهو الشاهد الازلي، بجميع كتبه وصحفه، وأهل الشهود بجميع تحقيقاتهم وكشفياتهم، وعالم الشهادة بجميع شؤونه الحكيمة واحواله المنتظمة، يتفقون بالاجماع على تلك المرتبة التوحيدية.

فمن لايقبل بذلك الواحد الاحد جل وعلا إلهاً ومعبوداً، عليه ان يقبل ما لا نهاية له من الآلهة، او ان ينكر نفسه وينكر الكائنات قاطبة، كالسوفسطائي الاحمق.

u الكلمة الثانية: [وحده]

هذه الكلمة تبين مرتبة توحيد صريحة. نشير الى برهان في غاية القوة يثبت اثباتاً تاماً هذه المرتبة، وهو:

اننا كلما فتحنا اعيننا وصوبنا نظرنا في وجه الكائنات، لفت نظرنا - اول ما يلفت - نظام عام كامل، وميزان دقيق شامل.. فكل شئ في نظام دقيق، وكل شئ يوزن بميزان حساس وكل شئ محسوب حسابه بدقة..

واذا ما دققنا النظر، يلفت نظرنا تنظيم ووزان متجددان، اي: ان واحداً أحداً يغير ذلك النظام بانتظام ويجدّد ذلك الميزان بمقدار.. فيصبح كل شئ نموذجاً ((موديلاً)) تُخلَع عليه صورٌ موزونة منتظمة كثيرة جداً..

واذا ما انعمنا النظر اكثر، نرى ان عدالة وحكمة تشاهدان من تحت ذلك التنظيم والوزان حتى ان كل حركة ونأمة تعقبها حكمة ومصلحة ويردفها حق وفائدة.

واذا ما دققنا النظر بإنعام اكثر؛ تلفت نظر شعورنا، مظاهر قدرة ضمن فعالية حكيمة في غاية الحكمة وجلوات علمٍ محيط بكل شئ. بل محيط بكل شأن من شؤونه.. بمعنى ان هذا النظام والميزان الموجودين في الموجودات كافة، يبينان تنظيماً ووزاناً عامين شاملين لكل الموجودات. وان ذلك التنظيم والوزان يظهران حكمة وعدالة شاملتين، وان تلك الحكمة والعدالة تبينان لأنظارنا قدرة وعلماً. اي ان قديراً على كل شئ وعليماً بكل شئ يُرى للعقل من وراء تلك الحجب.

ثم ننظر الى بداية كل شئ ونهايته، ولاسيما في ذوي الحياة، فنرى ان بداياتها واصولها وجذورها، وكذا ثمراتها ونتائجها على نمط وطراز بحيث كأن تلك النوى والاصول برامج وفهارس وتعاريف تتضمن جميع اجهزة ذلك الموجود، وكذا يتجمع في نتيجة ذلك الموجود وفي ثمرته، ويترشح فيها معنى ذلك الكائن الحي كله، فيودع فيها تاريخ حياته. فكأن نواة ذلك الكائن الحي التي هي اصله، سجل صغير لدساتير إيجاده، اما ثمراته فهي في حكم فهرس لأوامر ايجاده.

ثم ننظر الى ظاهر ذلك الكائن الحي وباطنه، فنشاهد؛ تدبيراً وتصريفاً للامور لقدرة في منتهى الحكمة، وتصويراً وتنظيماً لإرادة في منتهى النفوذ. أي ان قوة وقدرة توجِدان ذلك الشئ وان أمراً وارادة تلبسانه الصورة.

وهكذا كلما دققنا النظر في اول كل موجود وبدايته رأينا ما يدل على علم عليم، وكلما دققنا النظر في آخره شاهدنا برامج صانع، وكلما دققنا في ظاهر الشئ رأينا حلة بديعة في غاية الاتقان لفاعل مختار مريد، وكلما نظرنا الى باطن الشئ شاهدنا جهازاً في غاية الانتظام لصانع قدير.

فهذه الاوضاع والاحوال تعلن بالضرورة والبداهة؛ انه لايمكن ان يكون شئ ولا وقت ولا مكان خارج قبضة الصانع الجليل الواحد الاحد وخارج تدبيره وتصريفه الامور. بل كل شئ وكل شأن من شؤونه يدبّر في قبضة قدير مريد، ويجمّل وينظم بلطف رحمن رحيم، ويحسّن ويزّين برحمة حنّان منّان.

نعم، ان هذا النظام والميزان والتنظيم والوزان في موجودات هذا الكون كله يدل دلالة واضحة على واحدٍ أحدٍ فرد قدير مريد عليم حكيم، ويري مرتبة وحدانية عظمى لكل من كان مالكاً لشعور وبصر.

نعم.. ان في كل شئ توجد وحدة، والوحدة تدل على الواحد. فمثلاً: الشمس التي هي سراج الدنيا واحدة، بمعنى ان مالك الدنيا واحد. والهواء والنار والماء مثلاً ـ وهي الخدَمة لأحياء الارض ـ واحدة، بمعنى ان من يستخدم هذه الاشياء ويسخّرها لنا واحد ايضاً.

u الكلمة الثالثة: [ لاشريك له]

لقد ُاثبتت هذه الكلمة في الموقف الاول من ((الكلمة الثانية والثلاثين)) اثباتاً واضحاً جلياً. لذا نحيل شرحها الى هناك، اذ لابيان يفوق بيانه، ولاداعي الى بيان غيره إذ لايوَضـَّح مثلُه قط.

u الكلمة الرابعة: [ له الملك]

اي ان السموات والارض والدنيا والآخرة وكل موجود، من الفرش الى العرش، من الثرى الى الثريا، من الذرات الى السيارات، من الازل الى الابد هو ملكه. فله سبحانه المرتبة العظمى للمالكية التي تتجلى في اعظم مرتبة للتوحيد.

ولقد اُلقيت الى خاطر هذا العاجز خاطرة لطيفة في وقت لطيف بعبارات عربية اثبتُّها كما هي وابينُها حجةً كبرى لهذه المرتبة العظمى للمالكية والمقام الاعظم للتوحيد:

[له الملك؛ لان ذاك العالمَ الكبيركهذا العالم الصغير، مصنوعُ قدرته، مكتوبُ قدَره.. ابداعُه لذاك صيّره مسجداً، ايجادُه لهذا صيّره ساجداً.. انشاؤه لذاك صيّر ذاك مُلكاً، ايجادُه لهذا صيّره مملوكاً..صنعتُه في ذاك تظاهرت كتاباً، صبغتُه في هذا تزاهرت خطاباً.. قدرته في ذاك تُظهر حشمته، رحمته في هذا تنظِّمُ نعمته..حشمته في ذاك تشهد: هو الواحد، نعمتُه في هذا تعلن: هو الاحد.. سكته في ذاك في الكل والاجزاء، خاتمُه في هذا في الجسم والاعضاء].

الفقرة الاولى (( ذاك العالم الكبير...)) الخ.

ان العالم الاكبر اي الكون كله، والانسان وهو العالم الاصغر ومثاله المصغر، يظهران معاً دلائل الوحدانية المسطّرة في الآفاق والانفس بقلم القدر والقدرة.

نعم! ان في الانسان النموذج المصغر للصنعة المنتظمة المتقنة الموجودة في الكون، واذ تشهد الصنعة التي في تلك الدائرة الكبرى على الصانع الواحد، تشير الصنعة الدقيقة المجهرية الموجودة في الانسان الى ذلك الصانع ايضاً وتدل على وحدته، وكما ان هذا الانسان مكتوبٌ رباني ذو مغزى عميق، وقصيدة منظومة للقدر الإلهي، كذلك الكائنات قصيدة قدرية منظومة دبجت بذلك القلم نفسه، وبمقياس مكبر. فهل يمكن لغير الواحد الاحد أن يتدخل في سكة التوحيد المضروبة على وجه الانسان والمتوجهة بالعلامات الفارقة الى ما لا يحد من الناس، او ان يتدخل في ختم الوحدانية المضروب على الكائنات الجاعل موجوداتها كلها متعاونة متكاتفة؟.

الفقرة الثانية: ((ابداعه لذاك… )) الخ.

ان الصانع الحكيم قد خلق العالم الاكبر خلقاً بديعاً ونقش آيات كبريائه عليه، بحيث جعل الكون على صورة مسجد كبير. وأنشأ سبحانه هذا الانسان في احسن تقويم، واهباً له العقل، بحيث جعله يسجد سجدة اعجاب امام معجزات صنعته وبديع قدرته. واستقرأه ايات كبريائه، حتى صيّره عبداً ساجداً في ذلك المسجد الكبير بما غرز في فطرته من العبودية والخضوع له. فهل من الممكن ان يكون المعبود الحقيقي للساجدين العابدين في هذا المسجد الكبير غير الصانع الواحد الاحد؟.

الفقرة الثالثة: ((انشاؤه لذاك… )) الخ.

ان مالك الملك ذا الجلال قد انشأ العالم الاكبر، ولاسيما وجه الارض، انشاءً كأنها دوائر متداخلة بما لاتعد ولاتحصى، كل دائرة بمثابة مزرعة او حقل يزرع فيها، كل وقت وكل موسم وكل عصر، ويحصد ويحصّل على المحاصيل، وهكذا يُشغل مُلكه باستمرار ويتصرف في اموره كل حين. حتى انه جعل اعظم دائرة من تلك الدوائر وهي دائرة الذرات في الكون مزرعة واسعة يزرع فيها ويحصل منها بقدرته وحكمته محاصيل بقدر الكون، ويرسل تلك المحاصيل من عالم الشهادة الى عالم الغيب، ومن دائرة القدرة الى دائرة العلم.

وجعل سبحانه سطح الارض الذي هو دائرة متوسطة بمثابة مزرعة كذلك، بحيث يزرع فيها كل موسم وباستمرار عوالم وانواعاً شتى ويحصدها ويحصّل منها محاصيلها كل فصل وموسم محاصيل معنوية يبعثها ايضاً الى عوالمه الغيبية والاخروية والمثالية والمعنوية..

ثم انه سبحانه يملأ بستاناً في الارض ـ وهو دائرة صغيرة ـ يملأه مرات ومرات بل الف مرة بقدرته ويفرغه بحكمته.

ثم انه سبحانه يحصل من الكائن الحي الذي هو دائرة اصغرـ كالشجرة والانسان ـ يحصل منه مائة ضعف وضعف من المحاصيل.

بمعنى: ان ذلك المالك الملك ذا الجلال قد أنشأ كل شئ ـ جزئيه وكليّه، صغيره وكبيره ـ بمثابة ((موديل)) يُلبسه مئات منسوجات صنائعه المنقشة بنقوش متجددة بمئات الاشكال والانماط. مظهراً به تجليات اسمائه الحسنى ومعجزات قدرته. وأنشأ كل شئ في ملكه بمثابة صحيفة يكتب فيها كتاباته البليغة بمئات الاشكال والوجوه، مظهراً بها آياته الحكيمة ويستقرئها اهل الشعور من مخلوقاته.

وكما انه قد أنشأ هذا العالم الاكبر ملكاً له، كذلك خلق هذا الانسان مملوكاً له ومنحه من الاجهزة والجوارح والحواس والمشاعر، ولاسيما النفس الامارة والهوى والحاجة والشهية والحرص والطلب، بحيث جعله في ذلك الملك الواسع مملوكاً وعابداً محتاجاً الى جميع ملكه. فهل من الممكن ان يتصرف في ذلك الملك، ويكون سيداً على ذلك المملوك سوى ذلك المالك للملك الذي جعل الموجودات كلها بدءاً من عالم الذرات ذلك العالم الواسع جداً الى جناح الذباب ملكاً ومَزارِع، وجعل الانسان الصغير ناظراً على ذلك الملك الواسع العظيم ومفتشاً فيه ومزارعاً وتاجراً ودلالاً وعابداً ومملوكاً واتخذه ضيفاً عزيزاً عليه ومخاطباً محبوباً؟

الفقرة الرابعة: ((صنعته في ذاك…)) الخ

ان صنعة الصانع الجليل في العالم الاكبر تحمل من المعاني الغزيرة ما يظهرها كأنها كتاب بديع، مما دفع عقل الانسان الى استلهام حكمة العلوم الحقيقية منه، ويكتب مكتبتها على وفقه. فذلك الكتاب البديع الحكيم موثوق الصلة بالحقيقة، ومستمدٌ منها الى حدّ اُعلن عنه في صورة قرآن حكيم ـ منظور ـ والذي هو نسخة من الكتاب المبين.

ومثلما اتخذت صنعته سبحانه في الكون كله صورة كتاب بليغ، لكمال انتظامها، كذلك تفتحت صبغته ونقش حكمته في الانسان عن زهرة خطاب.. اي ان تلك الصنعة البديعة ذات مغازٍ دقيقة وجميلة بحيث انطقت ما في تلك الماكنة الحية من اجهزة.. وان ما صبغ بها من صبغة ربانية جعلتها في احسن تقويم حتى تفتحت عن زهرة البيان والخطاب، تلك الزهرة الحيوية المعنوية الغيبية في ذلك الرأس المادي الجامد.. فمنح سبحانه وتعالى رأس الانسان من قابلية النطق والبيان حتى انكشف ما فيه من اجهزة سامية معنوية عن مراتب كثيرة وكثيرة جداً اهّلته لموضع خطاب السلطان الازلى الجليل، مما نال رقياً ورفعةً وسمواً.

اي ان الصبغة الربانية التي في فطرة الانسان قد فتّحت زهرة الخطاب الإلهي.

فهل من الممكن أن يتدخل غير الواحد الاحد في الصنعة التي بلغت حد الاتقان والانتظام في الموجودات كلها حتى كأنها كتاب؟ وهل من الممكن أن يتدخل غيره سبحانه في الصبغة التي في فطرة الانسان التي ارتقت به الى مقام الخطاب؟! حاش لله.. وكلا.

الفقرة الخامسة: ((قدرته في ذاك… )) الخ.

ان القدرة الإلهية تُظهر عظمة الربوبية في العالم الاكبر، اما الرحمة الربانية فانها تنظّم النِعم في الانسان، العالم الاصغر. اي ان قدرة الصانع ـ من حيث الكبرياء والجلال ـ أوجدت العالم كله كأنه قصر عظيم، وجعلت الشمس فيه سراجاً وهاجاً، والقمر قنديلاً، والنجوم مصابيح، وجعلت سطح الارض سفرة مبسوطة للطعام، ومزرعة جميلة، وبستاناً زاهياً، وجعلت الجبال مخازن ومستودعات، واوتاداً للتثبيت، وقلاعاً عظيمة.. وهكذا جعلت جميع الاشياء لوازم واثاثاً لذلك القصر المنيف، بمقياس مكبر، واظهرت عظمةربوبيته سبحانه مثلما اسبغت رحمته سبحانه ـ من حيث الجمال ـ صنوف نعمه على كل كائن حي، حتى على اصغره، ونظّمت عليه، فجمّلت الكائنات طراً بالنعم وزيّنتها باللطف والكرم، دافعة هذه الألسنة الصغيرة الناطقة بجمال الرحمة أن تقابل تلك الألسنة العظيمة الناطقة بجلال العظمة، اي ان الاجرام الكبيرة، كالشمس والعرش حينما تنطق بلسان العظمة: ((ياجليل.. ياكبير.. ياعظيم)) تقابلها ألسنة الرحمة في البعوض والسمك والحيوانات الصغيرة بـ((ياجميل.. يارحيم.. ياكريم)).. مكونة بذلك نغمات منسجمة في موسيقى كبرى، تزيدها حلاوة ولذة.

فهل من الممكن ان يتدخل غير ذلك الجليل ذي الجمال، الجميل ذي الجلال في هذا العالم الاكبر والاصغر، من حيث الخلق والايجاد؟ حاشَ لله… وكلا.

الفقرة السادسة: ((حشمته في ذاك… )) الخ.

ان عظمة الربوبية الظاهرة في مجموع الكون، تثبت الوحدانية الإلهية وتدل عليها، كما ان النعمة الربانية التي تعطي الارزاق المقننة حتى لجزئيات ذوي الحياة، تثبت الاحدية الإلهية وتدل عليها.

اما الواحدية فتعني: ان جميع تلك الموجودات ملكٌ لصانع واحد، وتتوجه الى صانع واحد، وكلها ايجاد موجِد واحد.

اما الاحدية فهي: ان اكثر اسماء خالق كل شئ يتجلى في كل شئ.

فمثلاً: ان ضوء الشمس ـ بصفة احاطته بسطح الارض كافة ـ يبين مثال الواحدية، وان وجود ضوء الشمس وألوانه السبعة وحرارتها، وظلاً من ظلالها في كل جزء شفاف وفي كل قطرة ماء يبين مثال الاحدية. وكذا فان تجلي اكثر اسماء ذلك الصانع في كل شئ، ولا سيما في كل كائن حي، وبخاصة في كل إنسان يبين مثال الاحدية.

وهكذا فان هذه الفقرة تشير الى عظمة الربوبية التي تصرّف الامور في العالم والتي جعلت تلك الشمس العظيمة سراجاً وهاجاً وخادمة لاحياء الارض. والكرة الارضية الضخمة مهداً للاحياء ومنزلاً، ومتجراً لها. وجعلت النار طباخة وصديقة مستعدة للقيام بالعمل في كل مكان، والسحاب مصفاة للهواء ومرضعة للاحياء، والجبال مخازن ومستودعات والهواء مروّحاً للانفس والنفوس، والماء مبعثاً للحياة وكالأم الرؤوم للاحياء الجدد. فهذه الربوبية الإلهية تبين الوحدانية الإلهية بوضوح تام.

نعم! من ذا الذي يجعل الشمس مسخرة لسكنة الارض غير الخالق الواحد؟ ومن ذا غير ذلك الواحد الاحد يمسك الهواء ويسخره في وظائف جليلة وعلى سطح الارض كافة؟ ومن غير ذلك الواحد الاحد يقدر على استخدام النار طباخة للاحياء ويجعلها تلتهم اشياء اكبر من حجمها بالاف المرات؟ وهكذا.. فكل شئ وكل عنصر وكل جرم سماوي يدل على الواحد ذي الجلال من حيث تلك الربوبية المهيبة.

فكما تظهر الواحديةُ من حيث الجلال والعظمة، تعلن النعمةُ والاحسانُ الاحديةَ الإلهية من حيث الجمال والرحمة، لان الاحياء ولاسيما الانسان من حيث الصنعة الجامعة المتقنة، يملك من الاجهزة والجوارح بحيث تعرف انواع النعم التي لاتعد ولاتحصى، وتتقبلها وتطلبها. حتى حظي الانسان بتجليات اسماء الله الحسنى كلها كما تتجلى في الكون كله، وكأنه بؤرة تظهر جميع الاسماء الحسنى دفعة واحدة في مرآة ماهيته، فيعلن بذلك الاحدية الإلهية.

الفقرة السابعة: ((سكته في ذاك... ))

اي كما ان للصانع الجليل سكة كبرى وعلامة عظمى على العالم الاكبر كله، كذلك وضع سكة وحدانيته وعلامتها على كل جزء من اجزاء الكون وعلى كل نوع من انواعه ايضاً.. وكما انه وضع ختم الوحدانية على وجه الانسان ـ وهو العالم الاصغر ـ وعلى جسمه كذلك، وضع الختم نفسه على كل عضو من اعضائه.

نعم! ان ذلك القدير ذا الجلال، وضع آية توحيد جلية على كل شئ، على الكلي والجزئي، فالنجوم والذرات، تشهد عليه، ووضع ختم الوحدانية على كل شئ ليدل عليه.

وحيث ان هذه الحقيقة العظيمة قد اثبتت اثباتاً قاطعاً في (الكلمة الثانية والعشرين) و(الكلمة الثانية والثلاثين) و(المكتوب الثالث والثلاثين)، نحيل البحث الى تلك الكلمات ونختمه هنا.

u الكلمة الخامسة: [ له الحمد]

اي: ان الكمالات التي هي سبب المدح والثناء، في الموجودات كافة، تخصّه وحده سبحانه ، ولهذا فالحمد ايضاً له وحده، فكل ماصدر وما يصدر من مدح وثناء من الازل الى الابد، وممن صدر وعلى مَن وقع، يخصُّه وحده. لأن كل ماهو سبب المدح والثناء من كمال وجمال ومن نعم وآلاء وكل ماهو مدار الحمد، هو لله تعالى، يخصه وحده.

نعم! ان ما يصعد اليه سبحانه دوماً من الموجودات جميعاً عبودية وتسبيح وسجود ودعاء وحمد وثناء، يصعد كلها الى تلك الحضرة المقدسة باستمرار. كما يفهم من الاشارات القرآنية. نشير الى برهان عظيم يثبت هذه الحقيقة التوحيدية:

عندما ننظر الى العالم نشاهده كبستان عظيم، سقفه مرصّع بالنجوم، وارضه زيّنت بموجودات جميلة زاهية..فهذه الاجرام العلوية النورانية المنتظمة،والموجودات الارضية الحكيمة المزينة، في هذا البستان العظيم، كل منها يقول بلسانه الخاص، وجميعها تقول معاً:

نحن معجزات قدرة قدير جليل، نشهد على وحدانية خالق حكيم وصانع قدير.

وفي رياض العالم هذا ننظر الى الارض نرى انها كروضة نثرت فيها مئات الالاف من طوائف النباتات ذات الالوان الزاهية والاشكال الجميلة، وانتشرت فيها مئات الآلاف من انواع الحيوانات المتنوعة. فجميع تلك النباتات الزاهية والحيوانات المزينة في روضة الارض، تعلن بصورها المنتظمة وباشكالها الموزونة:

نحن معجزات صانع واحد حكيم وخوارقه وادلاء على وحدانيته وشهداء عليها.

وكذا ننظر الى قمم الاشجار في تلك الروضة البهية نرى أن ثمارها وازاهيرها مخلوقة بمنتهى العلم والحكمة وبغاية الكرم واللطف والجمال.. فكل تلك الثمرات والازاهير الجميلة تعلن باشكالها والوانها المتنوعة، بلسان واحد:

نحن معجزات هدايا رحمن ذي جمال، وخوارق عطايا رحيم ذي كمال.

فما في بستان العالم من اجرام وموجودات ومافي روضة الارض من نباتات وحيوانات، وما على قمم الاشجار من ازاهير وثمرات يشهد، بل يعلن بصوت عالٍ رفيع:

ان خالقنا ومصوّرنا ـ الذي أهدانا اليكم ـ القادر ذو الجمال والحكيم الكريم، قدير على كل شئ، لايصعب عليه شئ، لايخرج عن دائرة قدرته شئ قط. فالنجوم والذرات سواء بالنسبة الى قدرته، والكلي سهلٌ عليها كالجزئي، والجزء نفيس كالكل، واكبر شئ يسيرٌ عليه كأصغره، والصغير متقن الصنع كالكبير، وربما الصغير أبدع اتقاناً من الكبير. فجميع الوقوعات الماضية التي هي عجائب قدرته، تشهد ان ذلك القدير المطلق قادر على عجائب الإمكانات التي ستحدث في المستقبل. فكما ان الذي أتى بالامس قادر على إتيان الغد، فان ذلك القدير الذي انشأ الماضي قادر على ايجاد المستقبل ايضاً، وذلك الصانع الحكيم الذي خلق الدنيا قادر على خلق الآخرة.

نعم؛ كما ان ذلك القادر الجليل هو المعبود الحق، فالمحمود بالحق ايضاً انما هو وحده. وكما ان العبادة خاصة به وحده، فالحمد والثناء ايضاً يخصانه سبحانه.

فهل من الممكن ان الصانع الحكيم الذي خلق السموات والارض يترك هذا الانسان سدىً، وهو الذي خلقه اعظم نتيجة للسموات والارض واكمل ثمرات العالم؟ وهل يمكن ان يحيله الى الاسباب والمصادفات، فيقلب حكمته الباهرة عبثاً؟ حاشَ لله.. وكلا..

وهل يعقل ان الحكيم العليم الذي يرعى الشجرة، ويدبّر امورها بعناية ويربيها في منتهى الحكمة ان يهمل ثمرات تلك الشجرة التي هي غايتها وفائدتها ولايهتم بها، فتتشتت وتتفرق في ايدي السراق وايدي العبث، وتضيع؟ لاشك ان عدم الاهتمام هذا محال قطعاً، اذ الاهتمام بالشجرة انما هي لأجل ثمراتها.

وهكذا فان اكمل ثمرات هذا العالم ونتيجته ذات الشعور وغايته هو الانسان، فهل يمكن أن يعطي صانع هذا العالم الحكيم، الحمد والعبادة والشكر والمحبة التي هي ثمرة الثمار ذات الشعور الى غيره تعالى.. فيضيّع حكمته الباهرة وينزّلها الى دركة العدم.. او يقلب قدرته المطلقة الى عجز.. او يحوّل علمه المحيط الى جهل؟ حاشَ لله وكلا.. الف الف مرة!

فهل من الممكن ان يصل الشكر والعبادة التي يقدّمها ذوو الشعور الذين هم مدار المقاصد الإلهية في بناء قصر الكون ولاسيما الانسان الذي هو افضلهم ازاء النعم التي نالوها، الى غير صانع قصر الكون وان يسمح ذلك الصانع الجليل ان يقدم الشكر والعبادة وهي غاية المقاصد، الى غيره تعالى؟

وهل من الممكن أن مَن يحبب نفسه الى ذوي الشعور بانواع نعمه التي لاتعد ولاتحصى، ويعّرف نفسه اليهم بما لايحد من معجزات صنعته ثم يدع شكرهم وعباداتهم وحمدهم ومحبتهم ومعرفتهم ورضاهم الى الاسباب والطبيعة، ولايهتم بها فيدفعهم الى انكار حكمته المطلقة ويهوّن من شأن سلطان ربوبيته وينزّلها الى دركة العدم؟ كلا حاشلله مائة الف مرة.

وهل يمكن أن يكون شريكاً من يعجز عن خلق الربيع وعن ايجاد الثمرات كلها وعن خلق ثمرة التفاح ـ المتحدة في العلامات ـ على الارض كافة..في الحمد مع المحمود المطلق سبحانه بأن يخلق تفاحة واحدة منها ويقدمها نعمةً الى احدهم، ويحصل على شكره؟ حاشَ لله وكلا.. لأن الذي يخلق التفاحة الواحدة هو خالق ثمرة التفاح في العالم كله. اذ السكة واحدة والعلامة واحدة. ثم ان الذي خلق التفاح كله في العالم هو الذي اوجد الحبوب والثمرات التي هي محور الرزق. بمعنى: ان من ينعم اصغر نعمة جزئية على اصغر كائن حي جزئي، هو خالق العالم، وهو الرزاق الجليل لاغيره، لذا فالحمد والشكر يخصانه وحده. وان حقيقة العالم تقول دائماً بلسان الحق:

له الحمد من كل احدٍ من الازل الى الابد.

u الكلمة السادسة: [ يحيي]

اي انه هو الذي يهب الحياة، فهو اذن وحده خالق كل شئ، لان الحياة هي روح الكون ونوره وخميرته ونتيجته وخلاصته. فمن وهب الحياة واعطاها فهو خالق الكون جميعاً، وهو المحيي الحي القيوم. نشير الى برهان عظيم لمرتبة التوحيد هذه بالآتي:

اننا نشاهد خيماً منصوبة على ارجاء الارض كافة لجيش ذوي الحياة العظيم، ونشاهد ايضاً ان جيشاً حديثاً من جيوش لاتعد ولاتحصى للحي القيوم يأتي من عالم الغيب ويتسلم اعتدته وتجهيزاته كل ربيع.

فاذ نحن نتأمل هذا الجيش الضخم نرى ان طوائف النباتات تربو على مائتي ألف نوع، وامم الحيوانات تنوف على مائة ألف نوع من الانواع المختلفة.كل امة من هذه الامم، وكل طائفة منها تلبس ملابس خاصة بها، ولها ارزاقها المعينة، ولها تدريبات وتعليمات مخصوصة، ولها رُخص تخصها، ومزودة باسلحة واعتدة تلائمها، ومدة خدماتها العسكرية معينة، ولكن مع كل هذا الاختلاف والتباين فان قائداً أعظم بقدرته المطلقة وحكمته المطلقة وعلمه غير المحدود وارادته غير المحدودة ورحمته الواسعة وخزينته التي لاتنضب، لاينسى جندياً قط، ولايلتبس عليه شئ من أمرهم ولايؤخر عنهم اي شئ يحتاجونه، بل كل طائفة من الطوائف والامم التي تزيد على ثلاثمائة ألف من الطوائف والامم يرسل اليها أرزاقها المتباينة وملابسها المختلفة واسلحتها المتغايرة، وتدرّب تدريبات متنوعة وتسرح من وظائفها في اوقات متخالفة، كل ذلك في انتظام كامل وبميزان تام وفي الوقت المناسب. يشاهد هذا كل ذي عين باصرة، ويدركه كل ذي قلب شهيد ادراكاً بعين اليقين، كما اثبتنا ذلك في كلمة اخرى. فهل من الممكن ان يتدخل ويكون له حصة في هذا الاحياء والادارة، وهذه التربية والاعاشة سوى صاحب علم محيط يحيط بكل مايخص ذلك الجيش وبشؤونه كافة، وصاحب قدرة مطلقة تدير اموره بجميع لوازمه؟ حاش لله الف الف مرة.

اذ من المعلوم؛ انه اذا وجد في فوج واحد عشر امم مختلفة، فان تجهيز كل امة باعتدة مميزة، عسير بعشرة اضعاف تجهيـز الفوج كله بالاعتدة نفسها، ومن هنا يلجأ الانسان العاجز الى تجهيزهم بالملابس والاعتدة الموحدة. بينما الحي القيوم سبحانه يجهّز هذا الجيش العظيم الذي تربو طوائفه واممه على ثلاثمائة الـف طـائفة بتجـهـيزات حياتيـة متباينة الواحدة عن الأخرى، وبكل سهولة ويـسر، وبغـيـر عناء، وبانتظام كامل، وفي منتهى الحكمة. حتى يسوق كل فرد من افراد ذلك الجيش للقول بلسان حاله: ((هو الذي يحيي)) بل يجعل تلك الجماعة العظمى تتلو في مسجد الكون العظيم:

} الله لا إله الاّ هوَ الحيُّ القيّوم لاتَأخُذهُ سِنةٌ ولانومٌ لهُ ما في السّموات وما في الارضِ مَن ذا الذي يَشفَعُ عندهُ إلاّ بإذنِهِ يعلمُ ما بينَ ايديهم وما خَلفَهُم ولايُحيطونَ بشَيءٍ من علمهِ الاّ بما شاءَ وسِعَ كُرسيُّهُ السّمواتِ والارض ولايَؤدُهُ حفظُهُما وهو العَليُّ العظيم{ (البقرة :255)

u الكلمة السابعة: [ ويميت]

اي انه هو الذي يهب الموت، اي كما انه واهب الحياة، فهو الذي يسلبها ويمنح الموت كذلك.

نعم؛ الموت ليس تخريباً وانطفاءً كي يسند الى الاسباب، ويحال على الطبيعة، بل الموت مهما يبدو ظاهراً انحلالاً وانطفاءً الاّ انه في الحقيقة مبدأ ومقدمة لحياة باقية للانسان وعنوان لتلك الحياة، مثلما تضمر البذرة تحت الارض وتموت ظاهراً الا انها تمضي باطناً من حياة البذرة الجزئية الى حياة السنبل الكلية.

لذا فان القدير المطلق الذي يهب الحياة ويديرها هو الذي يخلق الموت بلاريب.

نشير الى برهان عظيم لمرتبة التوحيد العظمى التي تتضمنها هذه الكلمة فنقول:

لقد بينا في النافذة الرابعة والعشرين من (المكتوب الثالث والثلاثين ):

ان هذه الموجودات سيالة بالارادة الإلهية.. وان هذه الكائنات سيارة بالامر الرباني..وان هذه المخلوقات تجري باستمرار في نهر الزمان باذن الله، وتُرسل من عالم الغيب ويُخلع عليها الوجود الظاهري في عالم الشهادة، ثم تنزل بانتظام على عالم الغيب. فتأتي دوماً من المستقبل بالامر الإلهي وتمر على الحال الحاضرة وتتنفس فيها ثم تصب في الماضي.. فسيلان هذه المخلوقات في دائرة الرحمة والاحسان يتم باسلوب في منتهى الحكمة، وسيرانها ضمن دائرة الحكمة والانتظام يكون في غاية العلم.. وجريانها ضمن دائرة الشفقة والميزان يكون في رحمة واسعة.

وهكذا تمضي هذه المخلوقات منذ البدء الى النهاية وتكلل بالحِكَم والمصالح والنتائج والغايات الجليلة.

بمعنى ان قديراً ذا جلال وحكيماً ذا كمال يمنح الحياة باستمرار بقدرته المطلقة ويوظّف طوائف الموجودات، وجزئيات كل طائفةٍ، والعوالم المتشكلة من تلك الطوائف.. ثم يسرّحها بحكمة، مُظهراً عليها الموت ويرسلها الى عالم الغيب. اي انه يحوّلها من دائرة القدرة الى دائرة العلم.

فمن لايقدر على ادارة الكون برمته، ولاينفذ حكمه في الازمان كلها، ولاتبلغ قدرته لتمنح العوالم كلها الموت والحياة - كما يمنحها فرداً واحداً - ويعجز عن ان يجعل الربيع كالزهرة الواحدة، يمنحها الحياة، ويضعها على وجه الارض، ثم يقطفها بالموت.. ان الذي لايقدر على هذه الامور لايقدر على الاماتة والإحياء قطعاً.

اي ان موت اي كائن حي - مهما كان جزئياً - لابد ان يكون كحياته، اي يجري بقانون ربّ ذي جلال، بيده حقائق الحياة كلها وانواع الموت جميعها، ويجريها باذنه وبقوته وبعلمه.

u الكلمة الثامنة: [ وهو حي لايموت]

اي ان حياته دائمة، ازلية ابدية. لايعرض عليها الموت والفناء والعدم والزوال قطعاً. لان الحياة ذاتية له، فالذاتي لايزول قط.

نعم، ان الازلي ابدي بلاشك، والقديم باقٍ بلاريب، والذي هو واجب الوجود، سرمدي البتة.

نعم، ان حياة ً.. يكون جميع الوجود بجميع أنواره، ظلاً من ظلالها، كيف يعرض عليها العدم!

نعم، ان حياةً ..يكون الوجود الواجب عنوانها ولازمها، لن يعرض عليها العدم والفناء قطعاً.

نعم، ان حياةً.. يظهر بتجليها جميع انواع الحياة باستمرار، ويستند اليها جميع الحقائق الثابتة للكائنات بل هي قائمة بها، لن يعرض عليها الفناء والزوال قطعاً.

نعم، ان حياةً.. تورث لمعة من تجلٍ منها وحدةً للاشياء الكثيرة المعرضة للفناء والزوال وتجعلها باقية وتنجيها من التشتت والتبعثر وتحفظ وجودها وتجعلها مظهراً لنوع من البقاء ـ اي تمنح الكثرة وحدة وتبقيها، فاذا ولّت تبعثرت الاشياء وفنيت - لاشك ان الزوال والفناء لايدنوان من هذه الحياة الواجبة التي تعد هذه اللمعات الحياتية جلوة من جلواته.

والشاهد القاطع لهذه الحقيقة هو زوال هذه الكائنات وفناؤها، اي ان الكائنات كما تدل وتشهد بانواع وجودها وصنوف حياتها على حياة ذلك الحي الذي لايموت وعلى وجوب وجود تلك الحياة(1) تدل وتشهد بانواع موتها وصنوف زوالها على بقاء تلك الحياة وعلى سرمديتها؛ لان الموجودات بعد زوالها تأتي عقبها امثالُها فتنال الحياة مثلها وتحل محلها، مما يدل على ان حياً دائماً موجودٌ، وهو الذي يجدّد باستمرار تجلي الحياة؛ اذ كما ان الحباب التي تعلو سطح النهر وتقابل الشمس تتلمع ثم تذهب، والتي تعقبها تتلمع ايضاً مثلها، وهكذا.. طائفة إثر طائفة، كلٌ منها تتلمع، ثم تنطفئ وتذهب الى شأنها.. فهذا التعاقب في الإلتماع والانطفاء يدل على شمس دائمة عالية.. كذلك يشهد تبدل الحياة والموت ومناوبتهما في هذه الموجودات السيارة على بقاء حيّ باقٍ وعلى دوامه.

نعم، ان هذه الموجودات مرايا، ولكن مثلما الظلام يكون مرآة للنور بحيث كلما اشتد الظلام ازداد سطوع النور، فالموجودات ايضاً من حيث الضدية ومن جهات كثيرة جداً تقوم مقام المرايا.

فمثلاً: ان الموجودات تؤدي وظيفة المرآة باظهار قدرة الصانع بعجزها، وبيان غناه سبحانه بفقرها، كذلك تدل بفنائها على بقائه سبحانه.

نعم، ان لباس الجوع وجلباب الفقر الذي يلبسه سطح الارض وما عليه من اشجار في موسم الشتاء، وتبدل تلك الملابس بحلل الربيع الزاهية الطافحة بالغنى والثروات، دليل على قدير مطلق القدرة وعلى غني مطلق الغنى، وعلى ان الموجودات مرآة صافية لاظهار قدرته ورحمته سبحانه.

نعم، لكأن جميع الموجودات تقول بلسان حالها وتناجي ربها بمناجاة ((أويس القرني))(1) وتقول:

((يا إلهنا..

انت ربنا، اذ نحن العبيد العاجزون عن تربية انفسنا، فأنت الذي تربينا.

وانت الخالق، اذ نحن مخلوقون، مصنوعون.

وانت الرزاق، اذ نحن المحتاجون الى الرزق، ايدينا قاصرة فانت الذي تخلقنا وترزقنا.

وانت المالك، اذ نحن مملوكون، يتصرف في امورنا غيرنا فانت مالكنا.

وانت العزيز العظيم، اذ نحن الاذلاء، لبسنا ثوب الذل ولكن علينا جلوات عز، فنحن مرايا عزتك.

وانت الغني المطلق، اذ نحن الفقراء يسلـّم الى يد فقرنا غنى يصل الى مالانقدر عليه، فانت الغني وانت الوهاب.

وانت الحي الباقي، اذ نحن نموت، نرى جلوة حياة دائمة في موتنا وحياتنا.

وانت الباقي، اذ نحن فانون ، نرى دوامك وبقاءك في فنائنا وزوالنا.

وانت المجيب وانت المعطي، اذ نحن والموجودات كلها نسأل بألسنة اقوالنا واحوالنا ونصرخ ونتضرع ونستغيث، فتتحقق مطالبنا، وتنفذ رغباتنا، وتوهب مقاصدنا. فانت المجيب يا الهي...)).

وهكذا تناجي جميعُ الموجودات جزئيّها وكليها ربَّها كـ ((أويس القرني)) مناجاة معنوية، وكل منها تؤدي وظيفة المرآة، ويعلن كل موجودبعجزه وفقره وتقصيره قدرة الله وكماله سبحانه.

u الكلمة التاسعة: [ بيده الخير]

اي ان الخيرات كلها بيده، الحسنات كلها في سجله، الآلاء كلها في خزينته، لذا من يريد الخير فليسأله منه، ومن يرغب في الاحسان فليتضرع اليه.

نشير الى امارات دليلٍ واسع جداً ولمعاته من ادلة العلم الإلهي التي لاتحصى، اظهاراً لحقيقة هذه الكلمة بجلاء. فنقول:

ان الصانع الجليل الذي يوجد ويتصرف بأفعاله الظاهرة في هذا الكون، له علم محيط بكل شئ، وان ذلك العلم خاصّة لازمة ضرورية لذاته الجليلة، محال انفكاكه عنها، اذ كما لايتصور وجود ذات الشمس بلا ضياء، كذلك الصانع الجليل الذي اوجد هذه الموجودات بانتظام رائع ـ لا يمكن بالوف المرات ـ ان ينفك علمه عنه.

فهذا العلم المحيط بكل شئ ضروري لتلك الذات الجليلة، فهو ضروري ايضاً لكل شئ من حيث التعلق. اي: لايمكن ان يتستر ويتخفى عنه اي شئ كان بأي حال من الاحوال. اذ كما لايمكن ان لاترى الاشياء المبثوثة على سطح الارض الشمس وهي التي تقابلها دون حجاب، كذلك لايمكن بل محال بالوف المرات ان تتستر الاشياء عن نور علم ذلك العليم الجليل سبحانه. وذلك لوجود الحضور، اي: ان كل شئ ضمن دائرة نظره سبحانه، ويقابله، وضمن دائرة شهوده جلّ وعلا، وان علمه نافذ في كل شئ.

فلئن كان شعاع هذه الشمس الجامدة، ونور هذا الانسان العاجز، وشعاع الاشعة السِّينيّة التي لاتملك شعوراً، وامثالها من الاشعة.. اقول: لئن كانت هذه الاشعة وهي حادثة، ناقصة، عارضة، تشاهد أنوارها كلَّ ما يقابلها وتنفذ فيه، فكيف بنور العلم الازلي، الواجب، المحيط، الذاتي.

اذاً.. لابد ان لايتستر عنه شئ قط ولايبقى شئ خارجه قطعاً.

وفي الكون من العلامات والآيات المبثوثة مالايعد ولايحصى كلها تشير الى هذه الحقيقة، نورد منها ما يأتي:

ان جميع الحِكَم المشاهدة في الموجودات تشير الى ذلك العلم المحيط، لان انجاز العمل بحكمة انما يكون بالعلم.

وكذا العناية والتزيين في الموجودات تشيران ايضاً الى ذلك العلم المحيط، لان الذي يعمل باللطف والعناية، لابد أنه يعلم، وانه يعمل بعلم.

وكذا كل موجود من الموجودات المنتظم الموزون بميزان دقيق، وكل هيئة من هيئاتها الموزونة والمقدّرة ايضاً، تشير الى ذلك العلم المحيط، لان اداء العمل بانتظام يكون بالعلم.

وكذا جميع العنايات والتزيينات تشير الى ذلك العلم. لأن الذي يخلق مصنوعاته بمكيال وميزان وتقدير واتقان، لاشك انه يعمل ما يشاء مستنداً الى علم قوي.

وكذا جميع المقادير المنتظمة المشاهدة في الموجودات كلها، والاشكال التي فصّلت على وفق الحكم والمصالح، والهيئات المنتجة، والاوضاع المثمرة التي نظّمت على وفق دساتير القضاء وضوابط القدر، انما تدل على علم محيط.

نعم، تصوير الاشياء على اختلافها تصويراً منتظماً، وتشكيل كل شئ بشكل مخصوص به وملائم لوجوده ولمصالح حياته، انما يكون بعلم محيط، لاغير.

وكذا ارسال الرزق لجميع ذوي الحياة - من حيث لايحتسب - وفي الوقت المناسب، وبشكل ملائم لكل واحد منها، انما يكون بعلم محيط؛ لان الذي يرزق لاريب انه يعلم حال من يحتاج الى الرزق ويعرفه ويعلم بوقت رزقه ويدرك حاجاته، ثم يرزقه على افضل صورة.

وكذا وفاة جميع ذوي الحياة بآجالها المعقودة بقانون من التعيّن - مع تسترها بعنوان الإبهام - تدل على علم محيط بكل شئ، لان اجل كل طائفة من طوائف ذوي الحياة معيّن في زمن محدود بين حدّين، وان كان لايشاهد ظاهراً وقتٌ معين لحلول آجال افرادها. لذا فالحفاظ على نتاج ذلك الشئ وثمرته ونواته بعد حلول اجله يديم وظيفته عقبه، ويحول تلك الثمرات والنوى الى حياة جديدة، انما يدل على ذلك العلم المحيط ايضاً.

وكذا ألطاف الرحمة السابغة على الموجودات كلها، كل بما يليق به، انما تدل على علم محيط ضمن رحمة واسعة، لان الذي يربّي اطفال ذوي الحياة وصغارها باللبن ويغيث النباتات الارضية المحتاجة الى الماء بالغيث، لابد انه يعرف اولئك الصغار ويعلم بحاجاتهم ويرى تلك النباتات ويدرك ضرورة المطر لها، ومن بعد ذلك يرسله اليها.

وهكذا تدل جلواتٌ لاتحد لرحمته الواسعة سبحانه والمكللة بالعناية والحكمة، على علم محيط.

وكذا ما في اتقان الصنعة للاشياء كلها من اهتمام بالغ وتصوير بديع وتزيين فائق يدل على علم محيط. لان انتقاء وضع منتظم حكيم مزيّن بديع من بين ألوف الاوضاع المختلفة المحتملة انما يكون بعلم نافذ، فهذا النوع من الانتقاء في الاشياء كلها يدل على علم محيط.

وكذا السهولة المطلقة في ايجاد الاشياء وابداعها بيسر تام تدل على علم كامل، لان اليسر في عمل ما والسهولة في ايجاد وضعٍ ما، يتناسبان مع مدى العلم والمهارة، اذ كلما زاد العلم سهُل العمل.

فبناء على هذا السر ننظر الى الموجودات فنرى ان كلاً منها معجزة من معجزات الصنعة والابداع، وانها توجد ايجاداً محيراً للالباب، في منتهى اليسر والسهولة، وبلا تكاليف ولاتكلف وفي اقصر وقت وفي أتم صورة معجزة. بمعنى ان هناك علماً لايحد له حدود بحيث يؤدي الى هذا العمل بسهولة مطلقة.

وهكذا فالامارات المذكورة وامثالها من ألوف العلامات الصادقة تدل على ان الرب الجليل الذي يدبّر شؤون الكون ويصرّف اموره، له علم محيط بكل شئ. فهو الذي يحيط علمه بجميع شؤون الشئ ويأتي عمله فيه وفق ذاك.

وحيث ان رب العالمين له علم كهذا فلابد انه يرى الانسان ايضاً واعمال الانسان كذلك ويعلم مايليق به وما يستحقه فيعامله بمقتضى حكمته ورحمته.

فيا ايها الانسان! عُد الى رشدك، وتدبّر في عظمة من يعلم بحالك ويراقبك. اعلم ذلك وانتبه!.

واذا قيل:

ان العلم وحده لايكفي، فالارادة ضرورية ايضاً، اذ إن لم تكن الارادة موجودة فلايكفي العلم وحده!.

الجـواب: الموجودات كلها تدل على علم محيط وتشهد له، كذلك تدل على الارادة المطلقة لذلك العليم بكل شئ وذلك؛

ان اعطاء تشخص في غاية الانتظام لكل شئ، ولاسيما لكل ذي حياة، باحتمال معين من بين احتمالات كثيرة جداً ومختلطة، بطريق منتج من بين طرق كثيرة جداً وعقيمة، وهو الذي يتردد ضمن امكانات واحتمالات كثيرة، انما يدل على ارادة كلية بجهات غير محدودة. لان اعطاء شكل موزون وتشخص منتظم، المحسوب حسابه بميزان في منتهى الدقة والحساسية، وبمكيال دقيق للغاية، مع انتظام في غاية الدقة والرقة، من بين إمكانات واحتمالات غير محدودة تحيط بوجود كل شئ، وتحفّه طرق عقيمة غير مثمرة لاتحد وفي خضم عناصر جامدة مختلطة تسيل سيلاً دون ميزان.. انما يدل بالبداهة والضرورة بل بالمشاهدة على انه أثر لإرادة كلية. لان انتخاب وضع معين من بين اوضاع غير محدودة، انما يكون بتخصيص وبترجيح، وبقصد وبارادة، ويخصص بطلب وقصد.

فلاشك ان التخصيص يقتضي مخصِّصاً، والترجيح يستلزم مرجِّحاً، وما المخصِّص والمرجِّح الاّ الارادة.

فمثلاً:

ان ايجاد جسم الانسان الشبيه بماكنة مركبة من مئات الاجهزة المتباينة والآلات المختلفة من نطفة، وايجاد الطير الذي يملك مئات الجوارح المختلفة من بيضة بسيطة، وايجاد الشجرة التي لها مئات الفروع والاعضاء المتنوعة من بذرة صغيرة.. هذا الايجاد لاريب انه يدل على القدرة والعلم، كما يشهد شهادة قاطعة وضرورية للارادة الكلية لصانعها الجليل. حيث انه سبحانه بتلك الارادة يخصص كل ما يتطلبه ذلك الشئ، ويعطي شكلاً خاصاً لكل جزء من اجزاء ذلك الشئ ولكل عضو ولكل قسم منه فيلبسه وضعاً معيناً.

حاصل الكلام:

كما ان تشابه الاعضاء المهمة في الاشياء والاحياء - مثلاً - من حيث الاساس والنتائج وتوافقها، واظهارها سكة واحدة - وعلامة واحدة من علامات الوحدة - يدل دلالة قاطعة على ان صانع جميع الحيوانات واحد أحد. كذلك التشخصات المختلفة للحيوانات والتمييز الحكيم والتعيين الدقيق في سيماها - مع اختلافاتها وتخالفها - تدل دلالة واضحة على ان صانعها الواحد فاعل مختار ومريد، يفعل ما يشاء، فما شاء فعل وما لم يشأ لايفعل. فهو يعمل بقصد وارادة.

فهناك اذن دلالات وشهادات على العلم الإلهي والارادة الربانية بعدد الموجودات بل بعدد شؤونها، لذا فان نفي قسم من الفلاسفة للارادة الإلهية، وانكار قسم من اهل البدع للقدر الإلهي، وادعاء قسم من اهل الضلالة عدم اطلاعه سبحانه على الجزئيات، واسناد الطبيعيين لقسم من الموجودات الى الطبيعة والاسباب، كذب مضاعف وافتراء شنيع ترفضه الموجودات بعددها، بل ضلالة وبلاهة اضعاف اضعاف عدد الموجودات وشؤونها.

لان الذي يكذّب شهادات صادقة لاتحد، يفترى كذباً غير محدود.

ومن هنا يمكنك ان تقيس كم هو عِظم الخطأ، وكم هو عِظم البُعد عن الحقيقة وكم هو مناف للصواب واجحاف بالحق، قول البعض عن قصد: ((امر طبيعي)) بدلاً من قوله: ((ان شاء الله.. ان شاء الله)) في الامور التي لاتظهر للوجود الاّ بمشيئته سبحانه!.

u الكلمة العاشرة: [وهو على كل شئ قدير]

اي لايثقل عليه شئ. فما من شئ في دائرة الامكان الاّ وهو قادر على ان يلبسه الوجود بكل سهولة ويسر. فهذا الامر سهل عليه الى حد أنه بمجرد أمره اليه يحصل الشئ بمقتضى قوله تعالى:} انما أمره اذا اراد شيئاً ان يقول له كن فيكون{ (يس:82).

اذ كما ان صناعاً ماهراً جداً، ما أن يكاد تمس يده الشئ الاّ ويبدأ بالعمل كالماكينة. ويقال تعبيراً عن تلك السرعة والمهارة: ان ذلك العمل وتلك الصنعة سهل عليه ومسخّر بيده حتى كأن العمل يتم بمجرد أمره ومسّه، فالاعمال تنجز والمصنوعات توجد.

وكذلك الاشياء ازاء قدرة القدير ذي الجلال مسخّرة في منتهى التسخير، ومنقادة انقياداً تاماً، وان تلك القدرة تعمل الاشياء وتنجزها في منتهى السهولة، وبلا معالجة ولا كلفة حتى عبّر القرآن الكريم عن ذلك بقوله تعالى } انما أمره اذا اراد شيئاً ان يقول له كن فيكون{ (يس:82).

سنبيّن خمساً من الاسرار غير المحدودة لهذه الحقيقة العظمى وذلك في خمس نكاتٍ:

m اولاها:

ان أعظم شئ سهل ويسير على القدرة الإلهية كأصغر شئ، فايجاد نوع من الاحياء بجميع أفراده سهل كايجاد فرد واحد. وخلق الجنة الواسعة يسير عليها كيسر خلق الربيع. وخلق الربيع سهل كسهولة خلق زهرة واحدة.

ولقد أوضحنا هذا السر في اواخر الكلمة العاشرة، وفي بيان الاساس الثاني من الكلمة التاسعة والعشرين وذلك في ستةٍ من الاسرار التمثيلية، وهي: سر النورانية وسر الشفافية وسر المقابلة وسر الموازنة وسر الانتظام وسر الطاعة وسر التجرد.. واثبتنا هناك؛ بان النجوم والذرات سيّان في السهولة ازاء القدرة الإلهية وانها تخلق افراداً غير محدودين بسهولة خلق الفرد الواحد بلا تكلف ولامعالجة.

ولما كانت هذه الاسرار الستة قد وضحت في تلكما الكلمتين، نختصر الكلام هنا، ونحيل اليهما.

m ثانيتها:

ان الدليل القاطع والبرهان الساطـع على ان كل شـئ سـواء بالنسبة الى القدرة الإلهية، هي اننا نشاهد بأعيننا ان في ايجاد الحيوانات والنباتات منتهى الاتقان وغاية حسن الصنعة ضمن سخاء مطلق وكثرة مطلقة.

ويشاهد فيها ايضاً منتهى الامتياز والتفريق ضمن منتهى الاختلاط والامتزاج.

ويشاهد فيها ايضاً منتهى القيمة الراقية في الصنعة وجمال الخلقة ضمن منتهى الوفرة والوسعة.

وتخلق الاشياء في سهولة وسرعة مطلقتين مع حاجتها الى اجهزة كثيرة وزمان مديد لإبراز الصنعة المتقنة. حتى كأن تلك المعجزات للصنعة البديعة تبرز للوجود دفعة من غير شئ.

فما نراه من فعالية القدرة الإلهية الواسعة على سطح الارض كافة وفي كل موسم تدل دلالة قاطعة على ان أكبر شئ ازاء هذه القدرة التي هي منبع هذه الفعالية سهل ويسير كأصغره، وان ايجاد افراد غير محدودين وادارتها يسير عليها كايجاد فرد واحد وادارته.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-03-2011
  #26
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 15
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: المكتوبات

ثانيتها:

ان الدليل القاطع والبرهان الساطـع على ان كل شـئ سـواء بالنسبة الى القدرة الإلهية، هي اننا نشاهد بأعيننا ان في ايجاد الحيوانات والنباتات منتهى الاتقان وغاية حسن الصنعة ضمن سخاء مطلق وكثرة مطلقة.

ويشاهد فيها ايضاً منتهى الامتياز والتفريق ضمن منتهى الاختلاط والامتزاج.

ويشاهد فيها ايضاً منتهى القيمة الراقية في الصنعة وجمال الخلقة ضمن منتهى الوفرة والوسعة.

وتخلق الاشياء في سهولة وسرعة مطلقتين مع حاجتها الى اجهزة كثيرة وزمان مديد لإبراز الصنعة المتقنة. حتى كأن تلك المعجزات للصنعة البديعة تبرز للوجود دفعة من غير شئ.

فما نراه من فعالية القدرة الإلهية الواسعة على سطح الارض كافة وفي كل موسم تدل دلالة قاطعة على ان أكبر شئ ازاء هذه القدرة التي هي منبع هذه الفعالية سهل ويسير كأصغره، وان ايجاد افراد غير محدودين وادارتها يسير عليها كايجاد فرد واحد وادارته.

m ثالثتها:

ان اكبـر كلّ ٍ كأصغر جـزءٍ هيّن ازاء قدرة الصانع القـدير الذي يـهيمن بافعاله وتصريفه الامور في الكون وكما هو مشاهد. فايجاد الكلي بكثرة من حيث الافراد سهل كايجاد جزئي واحد. ويمكن اظهار ابداع الصنعة المتقنة في اصغر جزئي اعتيادي.

وينبع سر الحكمة لهذه الحقيقة من ثلاثة منابع:

الاول: امداد الواحدية.

الثاني: يسر الوحدة.

الثالث: تجلي الاحدية.

l المنبع الاول: وهو امداد الواحدية.

اي إن كان كل شئ وكل الاشياء ملكاً لمالك واحد فعندئذ يمكن من حيث الواحدية ان يحشد قوة جميع الاشياء وراء كل شئ، ويدبر امور جميع الاشياء بسهولة ادارة الشئ الواحد.

ولاجل تقريب هذا السر الى الافهام نقول في تمثيل:

بلد يحكمها سلطان واحد يستطيع ان يحشّد قوة معنوية لجيش كامل وراء كل جندي من جنوده وذلك من حيث قانون السلطنة الواحدة. لذا يستطيع ذلك الجندي الفرد ان يأسر القائد الاعظم للعدو بل يمكن ان يسيطر باسم سلطانه على مَن هو فوق ذلك القائد.

ثم ان ذلك السلطان، مثلما يستخدم موظفاً او جندياً، ويدبر امور جميع الموظفين وجميع الجنود ايضاً بسر السلطنة الواحدة، وكأنه يرسل كل شخص وكل شئ بسر سلطنته الواحدة لإمداد اي فرد كان. يمكن ان يستند كل فرد من افراد رعيته الى قوة جميع الافراد، اي يستطيع ان يستمد منها.

ولكن لو حلّت حبال تلك الواحدية للسلطنة، واصبحت السلطنة سائبة وفوضى؛ فان كل جندي عندئذٍ يفقد ـ بالمرة ـ قوة لاتحد، ويهوى من مقام نفوذ رفيع، ويصبح في مستوى انسان اعتيادي. وعندها تنجم مشاكل للادارة والاستخدام بعدد الافراد.

كذلك (ولله المثل الاعلى ) فصانع هذا الكون لكونه واحداً، فانه يحشّد اسماءه المتوجهة الى جميع الاشياء، تجاه كل شئ. فيوجد المصنوع باتقان تام وبصورة رائعة. وان لزم الامر يتوجه بجميع الاشياء الى الشئ الواحد، ويوجهها اليه، ويمدّه بها ويقويه بها.

وانه يخلق جميع الاشياء ايضاً بسر الواحدية، ويتصرف فيها ويدبر امورها كايجاد الشئ الواحد.

ومن هذا السر - سر إمداد الواحدية - تُشاهد في الكائنات نوعيات رفيعة قيمة متقنة جداً ضمن وفرة مطلقة ورخص مطلق.

l المنبع الثاني: الذي هو يسر الوحدة:

اي ان الافعال التي تتم باصول الوحدة ومن مركز واحد بتصرفٍ واحد وبقانون واحد، تورث سهولة مطلقة. بينما ان كانت تدار من مراكز متعددة، وبقوانين متعددة، وبأيدٍ متعددة تنجم مشكلات عويصة.

مثلاً: اذا جهز جميع افراد الجيش بالاعتدة والتجهيزات من مركز واحد، وبقانون واحد، وبأمر قائد عظيم واحد، يكون الامر سهلاً سهولة تجهيز جندي واحد. بينما اذا أحيل التجهيز الى معامل متفرقة، ومراكز متعددة يلزم عندئذٍ لتجهيز جندي واحد جميع المعامل العسكرية التي تزود الجيش بالتجهيزات اللازمة.

بمعنى انه اذا اسند الامر الى الوحدة فان تجهيز الجيش كاملاً يكون سهلاً كتجهيز جندي واحد، ولكن ان لم يسند الى الوحدة فان تزويد جندي واحد بالتجهيزات الاساسية يولد مشاكل بعدد افراد الجيش.

وكذا اذا زودت ثمرات شجرة ما ـ من حيث الوحدة ـ بالمادة الحياتية من مركز واحد وبقانون واحد واستناداً الى جذر واحد. فان ألوف الثمرات تتزود بها بسهولة كسهولة ثمرة واحدة.بينما اذا ربطت كل ثمرة الى مراكز متعددة، وارسلت الى كل منها موادها الحياتية، عندها تنجم مشكلات بقدر عدد ثمرات الشجرة، لان المواد الحياتية التي تلزم شجرة كاملة تلزم كل ثمرة من الثمرات ايضاً.

وهكذا فبمثل هذين التمثيلين (ولله المثل الاعلى) فان صانع هذا الكون لكونه واحداً أحداً، يفعل مايريد بالوحدة. ولأنه يفعل بالوحدة، تسهل جميع الاشياء كالشئ الواحد. فضلاً عن انه يعمل الشئ الواحد باتقان تام كالاشياء جميعاً. ويخلق أفراداً لاحدّ لها في قيمة رفيعة. فيظهر جُوده المطلق بلسان هذا البذل المشاهد والرخص غير المتناهي، ويظهر بها سخاءه المطلق وخلاقيته المطلقة.

l المبع الثلث: وهو تجلي الاحدية؛

أي ان الصانع الجليل منزّه عن الجسم والجسمانية، لذا لا يحصره زمان ولايقيده مكان، ولا يتداخل في حضوره وشهوده الكون والمكان، ولا تحجب الوسائط والاجرام فعله بالحجب. فلا انقسام ولاتجزؤ في توجهه سبحانه ولايمنع شئ شيئاً، يفعل مالايحد من الافعال كالفعل الواحد، ولهذا فانه يدرج معنىً شجرة ضخمة جداً في بذرة صغيرة، ويدرج العالم في فرد واحد، ويدير امور العالم كله بيد قدرته كادارة فرد واحد.

فكما اوضحنا هذا السر في كلمات اخرى نقول ايضاً:

ان ضوء الشمس الذي لاقيد له الى حدٍ ما، يدخل في كل شئ لمـّاع، حيث انه نوراني، فلو واجهتها الوفٌ بل ملايين المرايا، فان صورتها النورانية المثالية تدخل في كل مرآة دون انقسام، كما هي في مرآة واحدة. فلو كانت المرآة ذات قابلية، فان الشمس بعظمتها يمكن أن تُظهر فيها آثارها، فلا يمنع شئ شيئاً. اذ يدخل ـ مثال الشمس ـ في المرآة الواحدة كما في الالوف منها بسهولة تامة، وهي توجد في مكان واحد بسهولة وجودها في الوف الاماكن. وتكون كل مرآة وكل مكان مظهراً لجلوة تلك الشمس كما هي لألوف الاماكن.

(ولله المثل الاعلى) ان لصانع هذا الكون ذي الجلال تجلياً ، بسرّ توجّه الاحدية، بجميع صفاته الجليلة التي هي انوار، وبجميع اسمائه الحسنى التي هي نورانية، فيكون حاضراً ناظراً في كل مكان، ولايحدّه مكان، ولا انقسام في توجهه سبحانه، يفعل مايريد فيما يشاء في كل مكان، في آن واحد ومن دون تكلف ولامعالجة ولامزاحمة.

فبسر امداد الواحدية ويُسر الوحدة وتجلي الاحدية هذه:

اذا اسندت جميع الموجودات الى الصانع الواحد، فالموجودات كلها تسهل كالموجود الواحد ويكون كل موجود ذا قيمة عالية كالموجودات كلها من حيث الاتقان والابداع. كما ان دقائق الصنعة المتقنة الموجودة في كل موجود رغم الوفرة في الموجودات تبين هذه الحقيقة.

بينما ان لم تسند تلك الموجودات الى الصانع الواحد بالذات فان كل موجود عندئذٍ يكون ذا مشاكل بقدر مشاكل الموجودات كلها. وان قيمة الموجودات كلها تسقط الى قيمة موجود واحد. وفي هذه الحالة لايأتي شئ الى الوجود، او اذا وجد فلا قيمة له ولايساوي شيئاً.

ومن هذا السرّ، تجد السوفسطائيين الموغلين في الفلسفة، السابقين فيها قد نظروا الى طريق الضلالة والكفرمعرضين عن طريق الحق ورأوا أن طريق الشرك عويصة وعسيرة وغير معقولة قطعاً بالوف المرات من طريق التوحيد، طريق الحق؛ لذا اضطروا الى انكار وجود كل شئ وتخلّوا عن العقل.

m النكتة الرابعة:

ان ايجاد الجنة سهل كايجاد الربيع، وايجاد الربيع يسير كايجاد زهرة واحدة بالنسبة الى قدرة رب العالمين الذي يصرّف امور هذا الكون بافعاله الظاهرة المشهودة، ويمكن أن تكون ازاء تلك القدرة قيمة محاسن الصنعة البديعة لزهرة واحدة ولطف خلقتها بقيمة لطافة الربيع الزاهر.

ان سر هذه الحقيقة ثلاثة اشياء:

الاول: الوجوب والتجرد في الصانع الجليل.

الثاني: عدم التقيد مع مباينة ماهيته.

الثالث: عدم التحيز مع عدم التجزء.

السر الاول: ان الوجوب والتجرد يسببان السهولة المطلقة واليسر المطلق.

هذا السر عميق للغاية ودقيق للغاية. وسنقرّبه بتمثيل الى الفهم، وذلك:

ان مراتب الوجود مختلفة، وعوالم الموجودات متباينة، لذا فان ذرة من طبقة وجود ذات رسوخ في الوجود تعدل جبلاً من طبقة وجود اقل منها رسوخاً، وتستوعب ذلك الجبل، فمثلاً:

ان القوة الحافظة الموجودة في الانسان ـ وهي لاتعدل حبة خردل من عالم الشهادة ـ تستوعب وجوداً من عالم المعنى بمقدار مكتبة ضخمة.

وان مرآة صغيرة صغر الاظفر من العالم الخارجي، تضم مدينة عظيمة جداً من طبقة وجود من عالم المثال.

فلو كانت لتلك المرآة ولتلك القوة الحافظة من العالم الخارجي شعور وقوة للايجاد، لأحدثتا تحولات وتصرفات غير محدودة في ذلك الوجود المعنوي والمثالي، رغم ما فيهما من قوة وجود خارجي صغير ضئيل. وهذا يعني انه كلما ترسّخ الوجود ازداد قوة، فالشئ القليل يأخذ حكم الكثير، ولاسيما إن كان الوجود مجرداً عن المادة ولم يدخل تحت ضوابط القيد وكَسبَ الرسوخ التام، فان جلوة جزئية منه تستطيع أن تدير عوالم كثيرة من سائر الطبقات الخفيفة من عالم الوجود.

(ولله المثل الاعلى) ان الصانع الجليل لهذا الكون العظيم هو واجب الوجود. أي أن وجوده ذاتي ازلي، ابدي، عدمه ممتنع، زواله محال، وان وجوده أرسخ طبقة من طبقات الوجود وارساها واقواها واكملها، بينما سائر طبقات الوجود بالنسبة لوجوده سبحانه بمثابة ظلٍ في منتهى الضعف.

وان هذا الوجود، واجب، راسخ، ذو حقيقة، الى حدٍ عظيم. ووجود الممكنات خفيف وضعيف في منتهى الخفة والضعف، بحيث دفع الشيخ محي الدين بن عربي وامثاله الكثيرين من اهل التحقيق ان يُنزلوا سائر طبقات الوجود منزلة الاوهام والخيالات، فقالوا: لاموجود الاّ هو، وقرروا انه لاينبغي ان يقال لما سوى الوجود الواجب وجوداً، اذ لاتستحق هذه الانواع من الوجود عنوان الوجود.

وهكذا فوجود الموجودات التي هي عرضية وحادثة، و ثبوت الممكنات التي لاقرار ولا قوة لها، يسيرٌ في منتهى اليسر أزاء قدرة واجب الوجود الذاتية الواجبة. فاحياء جميع الارواح في الحشر الاعظم ومحاكمتها سهل ويسير على تلك القدرة كسهولة حشر وإحياء الاوراق والازهار والثمار في الربيع بل في حديقة صغيرة بل في شجرة.

السـر الثاني: ان مباينة الماهية مع عدم التقيد يسببان السهولة المطلقة، وذلك: ان صانع الكون جل جلاله ليس من جنس الكون بلاشك، فلا تشبه ماهيته اية ماهية كانت، لذا فان الموانع والقيود التي هي ضمن دائرة الكائنات لاتتمكن قطعاً ان تعترض اجراءاته وتقيّدها، فهو القادر على ادارة الكون كله في آن واحد ويتصرف فيه تصرفاً مباشراً.

فلو احيل تصريف الامور وافعاله الظاهرة في الكون الى الكائنات انفسها، لنجمت من المشكلات والاختلاطات الكثيرة بحيث لايبقى اي انتظام اصلاً ولا أي شئ في الوجود بل لايأتي أصلاً الى الوجود.

فمثلاً: لو احيلت المهارة في بناء القبة الى احجارها، وفوّض ما يخص الضابط في ادارة الفوج الى الجنود انفسهم، فإما لا تحصل تلك النتيجة ولاتأتي الى الوجود أصلاً او يحدث فوضى من عدم الانتظام ومشكلات واختلاط الامور.بينما اذا اسندت المهارة في بناء القبب الى صناع ليس من نوع الحجر، وفوضت ادارة الجنود في الفوج الى ضابط حاز ماهية الضابط ـ من حيث الرتبة ـ فان الصنعة تسهّل والادارة تتيسر، حيث أن الاحجار وكذا الجنود يمنع احدها الآخر. بينما البنّاء والضابط ينظران ويتوجهان ويديران كل نقطة من نقاط البناء او الجنود دون مانع او عائق. (ولله المثل الاعلى) ان الماهية المقدسة لواجب الوجود ليست من جنس ماهية الممكنات. بل جميع حقائق الكائنات ليست الاّ أشعة لإسم "الحق" الذي هو اسم من الاسماء الحسنى لتلك الماهية.

ولما كانت ماهيته المقدسة، واجبة الوجود، ومجرّدة عن المادة، ومخالفة للماهيات كافة، اذ لامثل ولامثال ولامثيل لها، فان ادارة الكون اذاً وتربيته بالنسبة الى قدرة ذلك الرب الجليل الازلية، سهل كادارة الربيع بل كادارة شجرة واحدة، وايجاد الحشر الاعظم والدار الآخرة والجنة وجهنم سهل كاحياء الاشجار مجدداً في الربيع بعد موتها في الخريف.

السر الثالث: ان عدم التحيز وعدم التجزؤ سبب للسهولة المطلقة وذلك:

ان الصانع القدير لما كان منزهاً عن المكان فهو حاضر إذاً بقدرته في كل مكان قطعاً. وحيث لاتجزؤ ولاإنقسام، فيمكن اذاً أن يتوجه الى كل شئ بجميع اسمائه الحسنى.

وحيث أنه حاضر في كل مكان ومتوجه الى كل شئ فان الموجودات والوسائط والاجرام لاتعيق افعاله ولاتمانعها. بل لو افترضت الحاجة الى الاشياء ـ ولا حاجة اليها اصلاً ـ فانها تصبح وسائل تسهيل ووسائط وصول الحياة واسباباً للسرعة في انجاز الافعال كاسلاك الكهرباء واغصان الشجرة واعصاب الانسان. فلاتعويق اذاً ولاتقييد ولاتمانع ولامداخلة قطعاً، اذ كل شئ بمثابة وسيلة تسهيل ووساطة سرعة واداة ايصال، اي لا حاجة الى شئ من حيث الطاعة والانقياد تجاه تصاريف قدرة القدير الجليل، وحتى لو افترضت الحاجة ـ ولاحاجة اصلاً ـ فان الاشياء تكون وسائل تسهيل ووسائط تيسير.



حاصل الكلام: ان الصانع القدير يخلق كل شئ بما يليق به بلا كلفة ولامعالجة ولامباشرة، وفي منتهى السهولة والسرعة، فهو سبحانه يوجد الكليات بسهولة ايجاد الجزئيات ويخلق الجزئيات باتقان الكليات.

نعم! ان خالق الكليات والسموات والارض هو خالق الجزئيات وافراد ذوي الحياة من الجزئيات التي تضمها السموات والارض، وليس غيره. لأن تلك الجزئيات الصغيرة انما هي مثال مصغر لتلك الكليات وثمراتها ونواها.

وان من كان خالقاً لتلك الجزئيات لاشك أنه هو الخالق لما يحيط بها من العناصر والسموات والارض، لاننا نشاهد ان الجزئيات في حكم نوى بالنسبة للكليات ونسخة مصغرة منها، لذا لابد أن تكون العناصر الكلية والسموات والارض في يد خالق تلك الجزئيات كي يمكن أن يدرج خلاصة تلك الموجودات الكلية والمحيطة ومعانيها ونماذجها في تلك الجزئيات التي هي نماذجها المصغرة على وفق دساتير حكمته وموازين علمه.

نعم! ان الجزئيات ليست قاصرة عن الكليات من حيث عجائب الصنعة وغرائب الخلق. فالازهار ليست ادنى جمالاً عن النجوم الزاهرة ولا البذور أحط قيمة من الاشجار اليافعة. بل الشجرة المعنوية المدرجة بنقش القدر في البذرة الصغيرة اعجب من الشجرة المجسمة بنسج القدرة في البستان. وان خلق الانسان اعجب من خلق العالم.

فكما لو كتب قرآن الحكمة بذرات الاثير على جوهر فرد يمكن أن يكون اعظم قيمة من قرآن العظمة المكتوبة على السموات بالنجوم، كذلك هناك كثير جداً من الجزئيات هي ارقى من الكليات من حيث الصنعة.

m النكتة الخامسة:

لقد بينا آنفاً شيئاً من اسرار وحكم ما يُشاهد في ايجاد الاشياء والمخلوقات من منتهى اليسر والسهولة ومنتهى السرعة في انجاز الافعال.

فوجود الاشياء بهذه السهولة غير المحدودة والسرعة المتناهية، يورث قناعة قاطعة لدى اهل الايمان؛ أن ايجاد الجنة ازاء قدرة خالق المخلوقات سهل كايجاد الربيع، والربيع كالبستان والبستان كالزهرة. وان حشر البشر قاطبة وبعثهم سهل كسهولة اماتة فرد وبعثه وذلك مضمون الآية الكريمة :

} ماخلقُكم ولابعثُكم الاّ كنفسٍ واحدة{ (لقمان:28).

وكذلك فإن احياء جميع الناس يوم الحشر الاعظم يسير كيسر جمع الجنود المتفرقين في الاستراحة بصوت من بوق، وهو مضمون صراحة الآية الكريمة:

} إنْ كانت الاّ صيحةً واحدة فاذا هُم جميعٌ لدينا مُحـضَرون{ (يس:53).

فهذه السرعة غير المتناهية والسهولة غير المحدودة، مع أنها ـ بالبداهة ـ دليل قاطع وبرهان يقيني على كمال قدرة الصانع جل جلاله، وسهولة كل شئ بالنسبة له، الاّ انها اصبحت سبباً للالتباس على اهل الضلالة. فالتبس في نظرهم تشكيل الاشياء وايجادها بقدرة الصانع الجليل الذي هو سهل بدرجة الوجوب ، وتشكّل الاشياء بنفسها والذي هو محال بالف محال.

اذ لأنهم يرون مجئ بعض الاشياء المعتادة الى الوجود في غاية السهولة فيتوهمون انها لاتخلق بل تتشكل بنفسها.

فتأمل في درك الحماقة السحيق حيث يجعلون دليل القدرة المطلقة دليلاً على عدمها، ويفتحون ابواباً لانهاية لها من المحالات. اذ يلزم عندئذٍ أن تعطى كل ذرة من ذرات كل مخلوق اوصاف الكمال التي هي لازمة ذاتية للصانع الجليل كالقدرة المطلقة والعلم المحيط وامثالها حتى تتمكن من تشكيل نفسها بنفسها.

u الكلمة الحادية عشرة: [واليه المصير]

اي اليه المآب من دار الفناء الى دار البقاء، واليه الرجعى في المقر الابدي للقديم الباقي، واليه المساق من دائرة الاسباب الكثيرة الى دائرة قدرة الواحد الاحد، واليه المضي من الدنيا الى الاخرة. اي مرجعكم انما هو ديوانه وملجؤكم انما هو رحمته. وهكذا تفيد هذه الكلمة كثيراً من امثال هذه الحقائق.

أما ما في هذه الحقائق من الحقيقة التي تفيد الرجوع الى الجنة ونيل السعادة الابدية فقد اثبتناها اثباتاً قاطعاً لاتدع حاجة الى بيان آخر، وذلك في البراهين الاثني عشر القاطعة في الكلمة العاشرة وفي الاسس الستة التي تتضمنها الكلمة التاسعة والعشرون ودلائلها الكثيرة القاطعة بقطعية شروق الشمس بعد مغيبها. وقد اثبتت تلكما الكلمتان:

ان الحياة التي هي شمس معنوية لهذه الدنيا ستطلع طلوعاً باقياً صباح الحشر بعد غروبها بخراب الدنيا. وسيفوز قسم من الجن والانس بالسعادة الابدية وينال قسم منهم الشقاء الدائم.

ولما كانت الكلمتان العاشرة والتاسعة والعشرون قد اثبتتا هذه الحقيقة على أتم وجه نحيل الكلام اليهما ونقول:

ان الصانع الحكيم لهذا الكون والخالق الحكيم لهذا الانسان الذي له علم محيط مطلق وارادة كلية مطلقة وقدرة مطلقة ـــ كما اثبتت في التوضيحات السابقة اثباتاً قاطعاً - قد وعد بالجنة والسعادة الابدية للمؤمنين في جميع كتبه وصحفه السماوية. واذ قد وعد فلاشك انه سينجزه. لأن اخلاف الوعد محال عليه، اذ إن عدم ايفاء الوعد نقص مشين. والكامل المطلق منزّه عن النقص ومقدس عنه. وان عدم انجاز الموعود، اما انه ناتج من الجهل او العجز، والحال أنه محال في حق ذلك القدير المطلق والعليم بكل شئ الجهل والعجز قطعاً. فخلف الوعد اذاً محال.

ثم ان جميع الانبياء عليهم السلام وفي مقدمتهم فخر العالم e وجميع الاولياء وجميع الاصفياء وجميع المؤمنين يسألون دوماً ذلك الرحيم الكريم ماوعده من سعادة ابدية ويتضرعون اليه ويطلبونها منه.

فضلاً عن انهم يسألونها مع جميع اسمائه الحسنى، لأن اسماءه وفي المقدمة رأفته ورحمته وعدالته وحكمته، واسم الرحمن والرحيم واسم العادل والحكيم وربوبيته المطلقة وسلطنته المهيبة واسم الرب واسم الله سبحانه وتعالى، وامثالها من اكثر الاسماء الحسنى تقتضي الآخرة والسعادة الابدية وتستلزمها وتشهد لتحققها وتدل عليها، بل ان جميع الموجودات بجميع حقائقها تشير الى دار الآخرة (كما اثبت في الكلمة العاشرة ).

ثم ان القرآن الحكيم بألوف آياته الجليلة وبيّنات براهينه الصادقة القاطعة تدل على تلك الحقيقة وتعلّمها.

ثم ان الحبيب الكريم e وهو فخر الانسانية قد درّس تلك الحقيقة وعلّمها، مستنداً الى الوف معجزاته الباهرة، طوال حياته المباركة، وبكل ماآتاه الله من قوة واثبتها واعلنها وشاهدها وأشهدها.

اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه بعدد انفاس اهل الجنة في الجنة واحشرنا وناشر هذا المكتوب ورفقاءه وصاحبه سعيداً ووالدينا واخواننا واخواتنا تحت لوائه وارزقنا شفاعته وادخلنا الجنة مع آله واصحابه برحمتك يا ارحم الراحمين. آمين.. آمين

} ربنا لاتؤاخذنا إن نسينا او أخطأنا{

} ربنا لاتُزِغْ قُلوبنا بعد إذ هديتنا وهَب لنا مِنْ لدنكَ رحمةً انك انت الوهّاب{

} رب اشرح لي صدري ` ويسر لي امري `

واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي{

} ربنا تقبّل منا انك انت السميع العليم{

} وتب علينا انك انت التواب الرحيم{

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{

ذ يـل

الكلمة العاشرة من المكتوب العشرين

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{

بِسْم الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} ألا بذكرِ الله تطمئنُ القلوب{ (الرعد: 28)

} ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سَلَماً لرجل هل يستويان مثلاً الحمد لله بل اكثرهم لايعلمون{ (الزمر: 29).



سؤال: لقد ذكرتَ في مواضع عديدة:

ان في الوحدة منتهى السهولة، وفي الكثرة والشرك غاية الصعوبات. وتقول ايضاً: ان في الوحدة سهولة بدرجة الوجوب، وفي الشرك صعوبة بدرجة الامتناع، والحال ان ما بينته من المشكلات والمحالات تجري ايضاً في جهة الوحدة. فمثلاً؛ تقول: ان لم تكن الذرات مأمورات، يلزم ان يكون في كل ذرة إما علم محيط وقدرة مطلقة او مكائن ومطابع معنوية غير محدودة وهذا محال بمائة ضعف،بينما لو اصبحت تلك الذرات مأمورات الهية يلزم ايضاً ان تكون مظهراً لتلك الامور كي تستطيع القيام بالوظائف التي اُنيطت بها وهي وظائف لاتحد.

الجـواب: لقد اثبتنا في (كلمات) كثيرة انه:

اذا أسند ايجاد الموجودات كلها الى صانع واحد يكون الامر سهلاً هيناً بسهولة ايجاد موجود واحد. وان اسند الى الاسباب الكثيرة والطبيعة، فان خلق ذبابة واحدة يكون صعباً كخلق السماوات، ويكون خلق الزهرة عسيراً بقدر خلق الربيع، وكذا الثمرة بقدر البستان.

ولما كانت هذه المسألة قد وضحت واثبتت في كلمات اخرى، نحيل اليها، الاّ اننا نشير هنا بثلاث اشارات في ثلاث تمثيلات تحقق اطمئنان النفس تجاه هذه الحقيقة.

n التمثـيل الاول: ان ذرة صـغيرة شفافة لماعة لاتسـع نـور عـود ثقاب بالـذات، ولاتكون مصدراً له، اذ يمكن ان يكون له نور بالاصالة بقدر جرمه وبمقدار ماهيته كذرة جزئية. ولكن اذا ما انتسبت الى الشمس وفتحت عينها تجاهها ونظرت اليها، فان تلك الذرة الصغيرة يمكن ان تستوعب تلك الشمس بضيائها وألوانها السبعة وحرارتها حتى بمسافتها، وتنال نوعاً من مظاهر تجليها الاعظم. بمعنى ان تلك الذرة ان بقيت سائبة دون انتساب مستندة الى ذاتها، لاتعمل شيئاً إلاّ بقدر الذرة، ولكن ان عُدّت مأمورة لدى الشمس ومنسوبة اليها ومرآة لها، فانها تستطيع ان تظهر قسماً من نماذج جزئية لاجراءات الشمس.

(ولله المثل الاعلى) فان كل موجود، حتى كل ذرة، اذا اسندت الى الكثرة والشرك والى الاسباب والى الطبيعة والى نفسها. فإما ان تكون كل ذرة وكل موجود، مالكة لعلم محيط بكل شئ ولقدرة مطلقة، او تتشكل فيها مطابع ومكائن معنوية لاحدّ لها، كي تؤدي اعمالها التي اودعت فيها. ولكن اذا أسندت تلك الذرات الى الواحد الاحد، فعندئذٍ ينتسب اليه كل مصنوع وكل ذرة ويكون كالموظف المأمور لديه، وانتسابه هذا يجعله ينال تجلياً منه، وبهذه الحظوة والانتساب يستند الى علم مطلق وقدرة مطلقة، فينجز من الاعمال ويؤدي من الوظائف ما يفوق قوته بملايين المرات، وذلك بقوة خالقه وبسر ذلك الاستناد والانتساب.

n التمثيـل الثاني: أخَوان: احدهـما شجاع يعتمد على نفسه ويعتّد بهـا، والآخـر شهم غيور يملك حمية الدفاع عن الوطن. فعند نشوب الحرب، لاينتسب الاول الى الدولة لاعتداده بنفسه. بل يرغب ان يؤدي الاعمال بنفسه مما يضطره هذا الى حمل منابع قوته على ظهره، ويُلجؤه الى نقل تجهيزاته وعتاده بقدرته المحدودة، لذا لايستطيع هذا ان يحارب العدو الاّ بمقدار تلك القوة الشخصية الضئيلة، فتراه لايستطيع ان يجابه الاّ قوة عريف في الجيش، لا أكثر. اما الاخ الآخر، غير المعتد بنفسه بل يعدّ نفسه عاجزاً لاقوة له، فانتسب الى السلطان وانخرط في سلك الجندية، فاصبح جيش الدولة العظيم نقطة استناد له بذلك الانتساب. وخاض غمار الحرب بقوة معنوية عظيمة يمدّها ذلك الانتساب، تعادل قوة جيش عظيم حيث يمكن للسلطان ان يحشّدها له. فحارب العدو حتى جابه مشيراً عظيماً من العدو المغلوب فامسك به اسيراً وجلبه الى معسكره باسم السلطان.

وسر هذه الحالة وحكمتها هي:

ان الشخص الاول السائب لكونه مضطراً الى حمل منابع قوته وتجهيزاته، لم يقدر الاّ على عمل جزئي جداً، اما هذا الموظف فليس مضطراً الى حمل منابع قوته بنفسه بل يحمل عنه ذلك الجيش بأمر السلطان، فيربط نفسه بتلك القوة العظيمة بالانتساب، كمن يربط جهاز هاتفه بسلك بسيط باسلاك هواتف الدولة.

(ولله المثل الاعلى) اذا اسند كل مخلوق وكل ذرة، مباشرة الى الواحد الاحد، وانتسب اليه. فعندئذ، يهدم النمل صرح فرعون ويهلكه، ويصرع البعوض نمرود ويقذفه الى جهنم وبئس المصير، وتُدخل جرثومة صغيرة ظالماً جباراً القبر، وتصبح بذرة الصنوبر الصغيرة بمثابة مصنع لشجرة الصنوبر الضخمة ضخامة الجبل، وتتمكن ذرات الهواء ان تؤدي من اعمال منتظمة مختلفة للازهار والثمرات وتدخل في تشكيلاتها المتنوعة. كل ذلك بحول سيد المخلوق وبقوة ذلك الانتساب. فهذه السهولة المشاهدة كلها نابعةٌ بالبداهة من التوظيف والانتساب، بينما اذا انقلب الامر الى التسيب والفوضى، وترك الحبل على غاربه، وعلى نفس الشئ والاسباب والكثرة، وسُلك طريق الشرك، فعندئذٍ لاينجز الشئ من الاعمال الاّ بقدر جرمه ومقدار شعوره.

n التمثيل الثالث: صـديقان يرغبان في كتـابة بحث يحوي معـلومات احصـائية جغرافية حول بلاد لم يشاهداها اصلاً، فأحدهما ينتسب الى سلطان تلك البلاد ويدخل دائرة البريد والبرق، ويتم معاملات ربط خط هاتفه ببدّالة الدولة لقاء اجرة زهيدة، ويتمكن بهذه الوسيلة ان يتصل مع الجهات ويتسلم منها المعلومات. وهكذا كتب بحثاً فيما يخص الاحصائيات الجغرافية، في غاية الجودة والاتقان والعلمية.

اما الآخر: فإما انه سيسيح دوماً طوال خمسين سنة ويقتحم المصاعب والمهالك ليشاهد تلك الاماكن بنفسه وليسمع الاحداث بنفسه.. او ينفق ملايين الليرات ليمدّ اسلاك الهاتف كما هي للدولة، ويكون مالكاً لأجهزة المخابرة البرقية كما للسلطان كي يكون بحثه قيماً كبحث صاحبه.

(ولله المثل الاعلى) اذا اسندت المخلوقات غير المحدودة والاشياء غير المعدودة الى الواحد الاحد، فكل شئ عندئذٍ يكون ـ بذلك الارتباط ـ قد نال مظهراً من ذلك الانتساب، ويكون موضع تجلٍ من ذلك النور الازلي، فيمدّ علاقات ارتباطه بقوانين حكمته، وبدساتير علمه، وبنواميس قدرته جل وعلا، وعندها يرى كل شئ بحول الله وبقوته، ويحظى بتجلٍ رباني يكون بمثابة بصره الناظر الى كل شئ ووجهه المتوجه الى كل شئ وكلامه النافذ في كل شئ.

واذا قطع ذلك الانتساب، ينقطع ايضاً كل شئ من الاشياء عن ذلك الشئ. وينكمش الشئ بقدر جرمه. وفي هذه الحالة عليه ان يكون صاحب اُلوهية مطلقة ليتمكن ان يجري مايجري في الوضع الاول!!

زبدة الكلام: ان في طريق الوحدة والايمان سهولة مطلقة بدرجة الوجوب، بينما في طريق الشرك والاسباب والكثرة مشكلات وصعوبات بدرجة الامتناع، لان الواحد يعطي وضعاً معيناً لكثير من الاشياء، ويستحصل منها نتيجة معينة دون عناء، بينما لو أحيل اتخاذ ذلك الوضع واستحصال تلك النتيجة الى تلك الاشياء الكثيرة، لما أمكن ذلك الاّ بتكاليف وصعوبات كثيرة جداً وبحركات كثيرة جداً.

فكما ذكر في (المكتوب الثالث): ان جولان جيوش النجوم وجريانها في ميدان السماوات تحت رياسة الشمس والقمر واعطاء كل ليلة وكل سنة منظراً رائعاً بهيجاً، منظراً للذكر والتسبيح، ووضعاً مؤنساً جذّاباً، وتبديل المواسم وايجاد امثالها من المصالح والنتائج الارضية الحكيمة الرفيعة.. اذا اسندت هذه الافعال الى الوحدة فذلك السلطان الازلي يجريها بكل سهولة ويسر كتحريك جندي واحد، مسخراً الارض ـ التي هي كجندي في جيش السماوات ـ ومعيناً اياها قائداً عاماً على الاجرام العلوية. وبعد تسلّمها الامر تنتشي بنشوة التوظيف وتهتز لسماعها كالمولوي في انجذاب واشتياق، فتحصل تلك النتائج المهمة، وذلك الوضع الجميل بتكاليف قليلة جداً.

ولكن اذا قيل للارض: قفي لاتتدخلي في الامر وأُحيل استحصال تلك النتيجة وذلك الوضع الى السموات نفسها، وسُلكت طريق الكثرة والشرك بدل الوحدة، يلزم عندئذٍ ان تقطع ملايين النجوم كل منها اكبر بالوف المرات من الكرة الارضية، ان تقطع كل يوم وكل سنة مسافة مليارات السنين في اربع وعشرين ساعة.

نتيجة الكلام: ان القرآن الكريم يفوض أمر المخلوقات غير المحدودة الى الصانع الواحد، ويسند اليه كل شئ مباشرة، فيسلك طريقاً سهلاً بدرجة الوجوب، ويدعو اليها وكذلك يفعل المؤمنون.

اما اهل الشرك والطغيان فانهم باسنادهم المصنوع الواحد الى اسباب لاحدّ لها يسلكون طريقاً صعباً الى درجة الامتناع، بينما جميع المصنوعات التي هي في مسلك القرآن مساوية لمصنوع واحد في هذا المسلك، بل ان صدور جميع الاشياء من الواحد الاحد اسهل وأهون بكثير من صدور شئ واحد من اشياء لاحدّ لها. حيث ان ضابطاً واحداً يدبّر أمر ألف جندي بسهولة أمر جندي واحد، بينما اذا أحيل تدبير أمر جندي واحد الى ألفٍ من الضباط فالامر يستشكل ويصعب بألف ضعف وضعف وتنشأ الاختلاطات والاضطرابات والمماحكات.

وهكذا تُنزل الآية الكريمة الآتية ضرباتها القوية وصفعاتها على رأس اهل الشرك وتصدّعه:

} ضَربَ الله مثلاً رجلاً فيه شركاءُ متشاكسون ورجُلاً سَلَماً لرجلٍ هل يستويان مثلاً الحمد لله بل اكثرهم لايعلمون{

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{

اللهم صلّ وسلم على سيدنا محمد بعدد ذرات الكائنات وعلى آله وصحبه اجمعين آمين.. والحمد لله رب العالمين.

اللهم ياأحد يا واحد ياصمد يامَن لا إله الاّ هو وحده لاشريك له.. يامَن له الملك وله الحمد.. يامَن يحيي ويميت.. يامَن بيده الخير.. يامَن هو على كل شئ قدير.. يامَن اليه المصير.. بحق اسرار هذه الكلمات اجعل ناشر هذه الرسالة ورفقاءه وصاحبها سعيداً من الموحدين الكاملين ومن الصدّيقين المحققين ومن المؤمنين المتقين. آميـن.

اللهم بحق سرّ أحديتك اجعل ناشر هذا الكتاب ناشراً لأسرار التوحيد وقلبه مظهراً لأنوار الايمان ولسانه ناطقاً بحقائق القرآن.

آمين.. آمين.. آمين.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-03-2011
  #27
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 15
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: المكتوبات

المكتوب الحادي والعشرون

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{

بسم الله الرحمن الرحيم

} وقضى ربُّك الاّ تعبدُوا الاّ ايّاهُ وبالوالِدَين إحساناً إمّا يَبْلُغَنّ عِنْدَكَ الكِبَرَ اَحَدُهما أو كلاهما فلا تَقُلْ لَهُما اُفٍّ ولا تَنْهَرهُما وَقُل لهما قولاً كريماً` واخفض لهما جناح الذلِّ من الرحمة، وقل ربِّ ارحمهما كما ربَّياني صغيراً` ربُّكُم أعلمُ بما في نفوسِكُمْ ان تكونوا صالحين فانه كان للأوابين غفوراً{

(الاسراء:23ـ25)

ايها الغافل، ويا من يسكن في بيته أب شيخ، او أم عجوز، او احد من ذوى قرباه، او اخ في الدين مقعد، او شخص عاجز عليل.. انظر الى هذه الاية الكريمة بدقة وامعان، انظر كيف ان آية واحدة تجلب للوالدين العجوزين خمسة انواع من الرحمة بصور مختلفة واشكال متعددة؟ نعم، ان اسمى حقيقة في الدنيا هي شفقة الامهات والآباء حيال اولادهم، وان أعلى الحقوق كذلك هو حق احترامهم مقابل تلك الشفقة والرأفة؛ ذلك لأنهم يضحّون بحياتهم فدىً لحياة اولادهم بكل لذة وسعادة. ولذلك فان كل ولد ـ ان لم تسقط انسانيته ولم ينقلب بعد الى وحش ـ لا بد ان يوقـّر باخلاص اولئك الاحبة المحترمين، المضحين الصادقين ويقوم بخدمتهم خدمة صادقة، ويسعى لنيل رضاهم وادخال البهجة في قلوبهم. ان العم والعمة هما في حكم الاب، وان الخالة والخال في حكم الام. فاعلم ما اشد انعداماً للضمير استثقال وجود هؤلاء الشيوخ الميامين واسترغاب موتهم! بل ما أشده من دناءة ووضاعة بالمرّة. اعلم هذا.. واصحَ!

أجل افهم، ما اقذره من ظلم وما افظعه من انعدام للضمير ان يتمنى متمنٍ زوال الذي ضحى بحياته كلها في سبيل حياته هو!

ايها الانسان المبتلى بهموم العيش! اعلم ان عمود بركة بيتك ووسيلة الرحمة فيه، ودفع المصيبة عنه، انما هو ذلك الشيخ، او ذلك الاعمى من اقربائك الذي تستثقله. لا تقل ابداً: ان معيشتى ضنك، لا استطيع المداراة فيها!.. ذلك لانه لو لم تكن البركة المقبلة من وجوه اولئك، لكان ضنك معيشتك اكثر قطعاً. فخذ مني هذه الحقيقة، وصدّقها، فانني اعرف لها كثيراً من الادلة القاطعة، واستطيع ان احملك على التصديق بها كذلك. ولكن، لئلا يطول الامر فانني اوجزها. كن واثقاً جداً من كلامي هذا. أقسم بالله ان هذه الحقيقة هي في منتهى القطعية، حتى ان نفسي وشيطاني ايضاً قد استسلما امامها. فلا غرو ان الحقيقة التي اغاظت شيطاني واسكتته وحطمت عناد نفسي الامارة بالسوء لا بد انها تستطيع ان تقنعك ايضاً.

أجل؛ ان الخالق ذا الجلال والاكرام الذي هو الرحمن الرحيم وهو اللطيف الكريم ـ بشهادة ما في الكون اجمع ـ حينما يرسل الاطفال الى الدنيا فانه يرسل ارزاقهم عقبهم مباشرة في منتهى اللطف؛ كانقذاف ما في الاثداء وتفجيره كالينابيع الى افواههم، كذلك فان ارزاق العجزة ـ الذين دخلوا في عداد الاطفال بل هم احق بالمرحمة واحوج الى الرأفة ـ يرسلها لهم سبحانه وتعالى بصورة بَرَكَة، ولا يحمّل الاشحاء من الناس اعاشة هؤلاء ولا يدعها لهم. فالحقيقة التي تفيدها الايات الكريمة: } انّ الله هو الرزّاق ذو القوةِ المتين{ (الذاريات :58). } وكأيّن من دابّةٍ لا تحمِلُ رِزقَها الله يرزُقها واياكم وهو السميع العليم{ .(العنكبوت:60) حقيقة ذات كرم ينطق بها وينادى بلسان حال جميع المخلوقات المتنوعة من الاحياء. وليس الشيوخ الاقرباء وحدهم يأتيهم رزقهم رغداً بصورة بركة بل رزق حتى بعض المخلوقات التي وهبت لمصاحبة الانسان وصداقته كأمثال القطط. فان ارزاقها ترسل ضمن رزق الانسان، وتأتي بصورة بركة ايضاً. ومما يؤيد هذا، ما شاهدته بنفسي من مثال، هو:كانت لي حصة من الغذاء كل يوم ـ كما يعلم احبائي القريبون ـ قبل سنتين او ثلاث وهي نصف رغيف، وكان رغيف تلك القرية صغيراً، وكثيراً ما كان لا يكفيني.. ثم جاءني أربع قطط ضيوفاً، وقد كفاني ذلك الغذاء وكفاهم. بل غالباً كانت تبقى منه فضلة وزيادة.

هذه الحالة قد تكررت عندي بحيث اعطتني قناعة تامة من أننى انا الذي كنت استفيد من بركات تلك القطط! وأنا اعلن اعلاناً قاطعاً الان ان تلك القطط ما كانت حملاً ولا عبئاً عليّ ولم تكن تبقى تحت منتي، وانما انا الذي كنت ابقى تحت منّتها.

ايها الانسان! ان حيواناً شبه مفترس يأتي ضيفاً الى بيت يكون محوراً للبركة، فكيف اذا حلّ في البيت من هو اكرم المخلوقات وهو الانسان؟ ومن هو اكملهم من بين الناس وهو المؤمن؟ ومن هو من العجزة والمعلولين المعمرين من بين اهل الايمان؟ ومن هو اكثر أهلاً للخدمة والمحبة من بين المعلولين والمعمّرين وأولى من يستحقونها وهم الاقربون؟ ومن هم اخلص صديق واصدق محب من بين هؤلاء الاقربين وهم الوالدان؟! كيف بهم اذا حلوا في البيت. فلك ان تقيس، ما اعظمها من وسيلة للبركة، ومن وساطة لجلب الرحمة ومن سبب لدفع المصيبة، كما يتضمنه معنى الحديث الشريف: لولا الشيوخ الركع لصبّ عليكم البلاء صباً(1).

اذن ايها الانسان: تأمل .. واعتبر واعلم انك ان لم تمت فلا مناص من ان تصير شيخاً عجوزاً، فان لم تحترم والديك، فسيأتي عليك يوم لا يوقرك اولادك ولن يحترموك، وذلك بما اودع الله من سر في (( الجزاء من جنس العمل)). لذا.. ان كنت محباً لآخرتك فدونك كنزٌ عظيم الا وهو: اخدمهما ونل رضاهما. وان كنت تحب الدنيا فارضهما كذلك واشكر لهما. حتى تمضي حياتك براحة، وحتى يأتي رزقك ببركة من ورائهم.

والاّ .. فان استثقال هؤلاء وتمني موتهم وتجريح قلوبهم الرقيقة الحساسة يجعلك ممن تنطبق عليه حقيقة الاية الكريمة } خسر الدنيا والاخرة{ .

واذا كنت تريد رحمة الرحمن الرحيم فارحم ودائع ذلك الرحمن، وما استودعك في بيتك من أمانات.

كان لي اخ من اخوان الاخرة وهو ((مصطفى ضاووش))(1) وكنت أراه موفقاً في دينه ودنياه معاً. ولم اكن اعرف السر. ثم علمت سبب ذلك التوفيق وهو: ان هذا الرجل الصالح كان قد علم حقوق امه وابيه، وانه راعى تلك الحقوق حق رعايتها. فكان ان وجد الراحة والرحمة ببركة وجوههم. وارجو ان يكون قد عمّر آخرته كذلك ان شاء الله. فمن اراد ان يكون سعيداً فليقتد به، وليكن مثله.



اللهم صل وسلم على مَن قال:

(الجنةُ تحتَ اقدام الامهات)(2)

وعلى آله وصحبه اجمعين.

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-03-2011
  #28
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 15
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: المكتوبات

المكتوب الثاني والعشرون

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{

هذا المكتوب عبارة عن مبحثين:

المبحث الاول يدعو اهل الايمان الى الاخوة والمحبة.

المبـحث الاول

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} اِنَّمَا الـمُؤْمِنُونَ اِخْوَةٌ فَاَصْلِحُوا بَيْنَ اَخَوَيْكُم{ (الحجرات: 10)

} اِدْفَعْ بِالّتـي هِـيَ اَحْسَـنُ فَاِذَا الَّـذي بَيْنَكَ
وَبَيْـنَـهُ عَدَاوَةٌ كَاَنَّهُ وَلِيٌّ حَميمٌ{ (فصلت: 34)

} وَالْكَاظِمينَ الْـغَــيْظَ وَالْـعَـافِينَ عَـنِ
النَّاسِ والله يُحِـبُّ الْـمُحْسِنينَ{ (آل عمران: 134)

ان ما يسببه التحايز والعناد والحسد من نفاق وشقاق في اوساط المؤمنين، وما يوغر في صدورهم من حقد وغل وعداء، مرفوض اصلاً. ترفضه الحقيقة والحكمة، ويرفضه الاسلام الذي يمثل روح الانسانية الكبرى. فضلاً عن ان العداء ظلم شنيع يفسد حياة البشر: الشخصية والاجتماعية والمعنوية، بل هو سم زعاف لحياة البشرية قاطبة.

سنبين ((ستة اوجه)) من وجوه كثيرة لهذه الحقيقة.

u الوجه الاول:

ان عداء الانسان لاخيه الانسان ظلم في نظر الحقيقة.

فيا من امتلأ صدره غلاً وعداءً لاخيه المؤمن، ويا عديم المروءة! هب انك في سفينة او في دار ومعك تسعة اشخاص ابرياء ومجرم واحد. ورأيت من يحاول اغراق السفينة او هدم الدار عليكم، فلا مراء انك ـ في هذه الحالة ـ ستصرخ بأعلى صوتك محتجاً على ما يرتكبه من ظلم قبيح، اذ ليس هناك قانون يسوغ اغراق سفينة برمتها تضم مجرمين طالما فيها برئ واحد.

فكما ان هذا ظلم شنيع وغدر فاضح، كذلك انطواؤك على عداء وحقد مع المؤمن الذي هو بناء رباني وسفينة إلهية، لمجرد صفة مجرمة فيه، تستاء منها او تتضرر، مع انه يتحلى بتسع صفات بريئة بل بعشرين منها: كالايمان والاسلام والجوار..الخ.فهذا العداء والحقد يسوقك حتماً الى الرغبة ضمناً في اغراق سفينة وجوده، او حرق بناء كيانه. وما هذا الاّ ظلم شنيع وغدر فاضح.

u الوجه الثاني:

العداء ظلم في نظر الحكمة، اذ العداء والمحبة نقيضان ـ كما لا يخفى ـ فهما كالنور والظلام لا يجتمعان معاً بمعناهما الحقيقي ابداً . فاذا ما اجتمعت دواعي المحبة وترجحت اسبابها فأرست اسسها في القلب، استحالت العداوة الى عداء صوري، بل انقلبت الى صورة العطف والاشفاق، اذ المؤمن يحب اخاه، وعليه ان يوده، فأيما تصّرف مشين يصدر من اخيه يحمله على الاشفاق عليه، وعلى الجد في محاولة اصلاحه باللين والرفق دون اللجوء الى القوة والتحكم. فقد ورد في الحديث الشريف:

(لا يحل لمسلم ان يهجر اخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)(1).

اما اذا تغلبت اسباب العداوة والبغضاء وتمكنت في القلب، فان المحبة تنقلب عندئذ الى محبة شكلية تلبس لبوس التصنع والتملق.



فأعلم اذن ايها الظالم! ما اشده من ظلم ان يحمل المؤمن عداء وحقداً لاخيه! فكما انك اذا استعظمت حصيات تافهة ووصفتها بأنها اسمى من الكعبة المشرفة واعظم من جبل احد، فانك بلا شك ترتكب حماقة مشينة، كذلك هي حماقة مثلها ان استعظمت زلات صدرت من اخيك المؤمن واستهولت هفواته التي هي تافهة تفاهة الحصيات، وفضلت تلك الامور التافهة على سمو الايمان الذي هو بسمو الكعبة، ورجحتها على عظمة الاسلام الذي هو بعظمة جبل اُحد. فتفضيلك ما بدر من اخيك من أمور بسيطة على ما يتحلى به من صفات الاسلام الحميدة ظلم وأي ظلم! يدركه كل من له مسكة من عقل!

نعم! ان الايمان بعقيدة واحدة، يستدعي حتماً توحيد قلوب المؤمنين بها على قلب واحد، ووحدة العقيدة هذه، تقتضي وحدة المجتمع. فأنت تستشعر بنوع من الرابطة مع من يعيش معك في طابور واحد، وبعلاقة صداقة معه ان كنت تعمل معه تحت امرة قائد واحد، بل تشعر بعلاقة اخوة معه لوجودكما في مدينة واحدة، فما بالك بالايمان الذي يهب لك من النور والشعور ما يريك به من علاقات الوحدة الكثيرة، وروابط الاتفاق العديدة، ووشائج الاخوة الوفيرة ما تبلغ عدد الاسماء الحسنى. فيرشدك مثلاً الى:

ان خالقكما واحد، مالككما واحد، معبودكما واحد، رازقكما واحد.. وهكذا واحد واحد الى ان تبلغ الالف. ثم، ان نبيكما واحد، دينكما واحد، قبلتكما واحدة، وهكذا واحد واحد الى ان تبلغ المائة. ثم، انكما تعيشان معاً في قرية واحدة، تحت ظل دولة واحدة، في بلاد واحدة.. وهكذا واحد واحد الى ان تبلغ العشرة.

فلئن كان هناك الى هذا القدر من الروابط التي تستدعي الوحدة والتوحيد والوفاق والاتفاق والمحبة والاخوة، ولها من القوة المعنوية ما يربط اجزاء الكون الهائلة، فما اظلم من يعرض عنها جميعاً ويفضل عليها اسباباً واهية اوهن من بيت العنكبوت، تلك التي تولد الشقاق والنفاق والحقد والعداء. فيوغر صدره عداءً وغلاً حقيقياً مع اخيه المؤمن! أليس هذا اهانة بتلك الروابط التي توحد؟ واستخفافاً بتلك الاسباب التي توجب المحبة؟ واعتسافاً لتلك العلاقات التي تفرض الاخوة؟ فأن لم يكن قلبك ميتاً ولم تنطفئ بعد جذوة عقلك فستدرك هذا جيداً.

u الوجه الثالث:

ان الآية الكريمة: (} وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرى{ (الانعام:164) تفيد العدالة المحضة، اي لا يجوز معاقبة انسان بجريرة غيره. فترى القرآن الكريم ومصادر الشريعة الاخرى وآداب اهل الحقيقة والحكمة الاسلامية كلها تنبهك الى:

ان اضمار العداء للمؤمن والحقد عليه ظلم عظيم، لانه ادانة لجميع الصفات البريئة التي يتصف بها المؤمن بجريرة صفة جانية فيه. ولا سيما امتداد العداء الى اقاربه وذويه بسبب صفة تمتعض منها، فهو ظلم اعظم، كما وصفه القرآن الكريم بالصيغة المبالغة: } اِنَّ الاِنْسَانَ لَظَلُومٌ{ (ابراهيم:34) أفبعد هذا تجد لنفسك مبررات وتدعي انك على حق؟

فأعلم! ان المفاسد التي هي سبب العداء والبغضاء كثيفة في نظر الحقيقة، كالتراب والشر نفسه، وشأن الكثيف انه لا يسرى ولا ينعكس الى الغير ـ الا ما يتعلمه الانسان من شر من الآخرين ـ بينما البر والاحسان وغيرهما من اسباب المحبة فهي لطيفة كالنور وكالمحبة نفسها، ومن شأن النور الانعكاس والسريان الى الغير. ومن هنا سار في عداد الامثال: ((صديق الصديق صديق)) وتجد الناس يرددون: (( لاجل عين الف عين تكرم)).

فيا ايها المجحف! ان كنت تروم الحق، فالحقيقة هي هذه، لذا فأن حملك عداء مع اقارب ذلك الذي تكره صفة فيه، وحقدك على ذويه المحبوبين لديه، خلاف للحقيقة واي خلاف!

u الوجه الرابع:

ان عداءك للمؤمـن ظلـم مبين، من حيـث الحيـاة الشخصية. فإن شئت فاستمع الى بضعة دساتير هي اساس هذا الوجه الرابع.

^ الدستور الاول:

عندما تعلم انك على حق في سلوكك وافكارك يجوز لك ان تقول: ((ان مسلكي حق او هو افضل)) ولكن لا يجوز لك ان تقول: ((ان الحق هو مسلكي انا فحسب)). لان نظرك الساخط وفكرك الكليل لن يكونا محكاً ولا حكماً يقضي على بطلان المسالك الاخرى، وقديماً قال الشاعر:

وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا(1)

^ الدستور الثاني:

((عليك أن تقول الحق في كل ما تقول، ولكن ليس لك ان تذيع كل الحقائق. وعليك أن تصدق في كل ما تتكلمه، ولكن ليس صواباً ان تقول كل صدق)).

لان من كان على نية غير خالصة ـ مثلك ـ يحتمل ان يثير المقابل بنصائحه فيحصل عكس المراد.

^ الدستور الثالث:

ان كنت تريد ان تعادي احداً فعاد ما في قلبك من العداوة، واجتهد في اطفاء نارها واستئصال شأفتها. وحاول ان تعادي من هو اعدى عدوك واشد ضرراً عليك، تلك هي نفسك التي بين جنبيك. فقاوم هواها، واسع الى اصلاحها، ولا تعاد المؤمنين لاجلها. وان كنت تريد العداء ايضاً فعاد الكفار والزنادقة، فهم كثيرون. واعلم ان صفة المحبة محبوبة بذاتها جديرة بالمحبة، كما ان خصلة العداوة تستحق العداء قبل أي شئ آخر.

وان اردت أن تغلب خصمك فادفع سيئته بالحسنة، فبه تخمد نار الخصومة. اما اذا قابلت اساءته بمثلها فالخصومة تزداد. حتى لو اصبح مغلوباً ـ ظاهراً ـ فقلبه يمتلئ غيظاً عليك، فالعداء يدوم والشحناء تستمر. بينما مقابلته بالاحسان تسوقه الى الندم، وقد يكون صديقاً حميماً لك، اذ ان من شأن المؤمن ان يكون كريماً، فان اكرمته فقد ملكته وجعلته اخاً لك، حتى لو كان لئيماً ـ ظاهراً ـ الا انه كريم من حيث الايمان، وقد قال الشاعر:

اذا انت اكرمت الكريم ملكته وان انت اكرمت اللئيم تمردا(2)

نعم، ان الواقع يشهد: ان مخاطبة الفاسد بقولك له: ((انك صالح، انك فاضل..)). ربما يدفعه الى الصلاح وكذا مخاطبة الصالح: ((انك طالح، انك فاسد...)). ربما يسوقه الى الفساد، لذا استمع بأذن القلب الى قوله تعالى:

} وَاِذَا مَرّوُا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً{ (الفرقان: 72).

} وَاِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتغْفِروُا فَاِنَّ الله غَفُورٌ رَحيمٌ{ (التغابن: 14)

وامثالها من الدساتير القرآنية المقدسة، ففيها التوفيق والنجاح والسعادة والامان.

^ الدستور الرابع:

ان الذين يملأ قلوبهم الحقد والعداوة تجاه اخوانهم المؤمنين انما يظلمون انفسهم اولاً، علاوة على ظلمهم لاخوانهم، وفضلاً عن تجاوزهم حدود الرحمة الإلهية، حيث أنه بالحقد والعداوة يوقع نفسه في عذاب أليم، فيقاسي عذاباً كلما رأى نعمة حلّت بخصمه، ويعاني ألماً من خوفه. وان نشأت العداوة من الحسد فدونه العذاب الأليم، لان الحسد اشد ايلاماً للحاسد من المحسود حيث يحرق صاحبه بلهيبه، اما المحسود فلا يمسه من الحسد شئ، او يتضرر طفيفاً.

وعلاج الحسد هو: ان يلاحظ الحاسد عاقبة ما يحسده، ويتأمل فيها، ليدرك ان ما ناله محسوده من اعراض دنيوية ـ من مال وقوة ومنصب ـ انما هو اعراض زائلة فانية. فائدتها قليلة، مشقتها عظيمة.

اما اذا كان الحسد ناشئاً من دوافع اخروية، فلا حسد اصلاً. ولو تحرك عرق الحسد حتى في هذه الامور، فالحاسد اما انه مراء، يحبط حسناته الاخروية في الدنيا. او انه يسئ الظن بمحسوده فيظلمه.

ثم ان الحاسد في حسده يسخط على قدر الله، لانه يحزن من مجئ فضل من الله ورحمته على محسوده، ويرتاح من نزول المصائب عليه، أي كأنه ينتقد القدر الإلهي ويعترض على رحمته الواسعة. ومعلوم ان من ينتقد القدر كمن يناطح الجبل، ومن يعترض على الرحمة الإلهية يُحرم منها.

ترى هل هناك انصاف يرضى ان يمتلئ صدر المؤمن لسنة كاملة غيظاً وحقداً على اخيه لشئ جزئي تافه لا يساوي العداء عليه ليوم واحد؟! علماً انه لا ينبغي ان تنسب السيئة التي اتتك من اخيك المؤمن اليه وحده وتدينه بها لأن:

اولاً: القدر الإلهي له حظه في الامر، فعليك ان تستقبل حظ القدر هذا بالرضى والتسليم.

ثانياً: ان للشيطان والنفس الامارة بالسوء حظهما كذلك. فاذا ما اخرجتَ هاتين الحصتين لا يبقى امامك الا الاشفاق على اخيك بدلاً من عدائه. لانك تراه مغلوباً على امره امام نفسه وشيطانه. فتنتظر منه بعد ذلك الندم على فعلته وتأمل عودته الى صوابه.

ثالثاً: عليك ان تلاحظ في هذا الامر تقصيرات نفسك، تلك التي لا تراها او لا ترغب ان تراها، فاعزل هذه الحصة ايضاً مع الحصتين السابقتين، تر الباقي حصة ضئيلة جزئية، فاذا استقبلتها بهمة عالية وشهامة رفيعة اي بالعفو والصفح، تنجو من ارتكاب ظلم وتتخلص من ايذاء احد.

بينما اذا قابلت اساءته بحرص شديد على توافه الدنيا ـ كأنك تخلد فيها ـ وبحقد مستديم وعداء لا يفتر، فلا جرم أن تنطبق عليك صفة ((ظلوماً جهولاً)) وتكون اشبه بذلك اليهودي الاحمق الذي صرف اموالاً طائلة لقطع زجاجية لا تساوي شيئاً وبلورات ثلجية لا تلبث ان تزول، ظناً منه انها الماس.

وهكذا فقد بسطنا امامك ما يسببه العداء من اضرار لحياة الانسان الشخصية. فان كنت حقاً تحب نفسك فلا تفسح له مجالاً ليدخل قلبك، وان كان قد دخل فعلاً واستقر فلا تصغ اليه، بل استمع الى حافظ الشيرازي(1) ذي البصيرة النافذة الى الحقيقة. انه يقول:

دنيا نه متاعيستى كه ارزد بنزاعى

أي: ((ان الدنيا كلها لا تساوي متاعاً يستحق النزاع عليه)).

فلئن كانت الدنيا العظيمة وبما فيها تافهة هكذا، فما بالك بجزء صغير منها. واستمع اليه ايضاً حيث يقول:

آسايش دوكيتى تفسير اين دو حرفست

بادوستان مروت با دشمنان مدارا

أي: ((نيل الراحة والسلامة في كلا العالمين توضحه كلمتان:

معاشرة الاصدقاء بالمروءة والانصاف. ومعاملة الاعداء بالصفح والصفاء)).

اذا قلت: ان الامر ليس في طوقي، فالعداء مغروز في كياني، مغمور في فطرتي، فليس لي خيار، فضلاً عن انهم قد جرحوا مشاعري وآذوني، فلا استطيع التجاوز عنهم.

فالجواب: ان الخلق السئ ان لم يجر اثره وحُكمه، وان لم يُعمل بمقتضاه كالغيبة مثلاً، وعَرف صاحبه تقصيره، فلا ضير، ولا ينجم منه ضرر. فما دمت لا تملك الخيار من امرك، ولا تستطيع ان تتخلص من العداء، فان شعورك بأنك مقصر في هذه الخصلة، وادراكك انك لست على حق فيها، ينجيانك ــ باذن الله ــ من شرور العداء الكامن فيك، لان ذلك يعد ندماً معنوياً، وتوبة خفية، واستغفاراً ضمنياً. ونحن ما كتبنا هذا المبحث الا ليضمن هذا الاستغفار المعنوي، فلا يلتبس على المؤمن الحق والباطل، ولا يوصم خصمه المحق بالظلم.

وقد مرت عليَّ حادثة جديرة بالملاحظة:

رأيت ذات يوم رجلاً عليه سيماء العلم يقدح بعالم فاضل، بانحياز مغرض حتى بلغ به الامر الى حد تكفيره، وذلك لخلاف بينهما حول امور سياسية، بينما رأيته قد اثنى ـ في الوقت نفسه ـ على منافق يوافقه في الرأي السياسي!. فاصابتني من هذه الحادثة رعدة شديدة، واستعذت بالله مما آلت اليه السياسة وقلت: ((اعوذ بالله من الشيطان والسياسة)).

ومنذئذٍ انسحبت من ميدان الحياة السياسية.

u الوجه الخامس:

هذا الوجه يبين مدى الضرر البالغ الذي يصيب الحياة الاجتماعية من جراء العناد والتنافر والتفرقة.

فاذا قيل:

لقد ورد في حديث شريف: (اِخْتِلافُ اُمَّتي رَحْمَةٌّ)(1) والاختلاف يقتضى التفرق والتحزب والاعتداد بالرأي.

ولكن داء التفرق والاختلاف هذا فيه وجه من الرحمة لضعفاء الناس من العوام، اذ ينقذهم من تسلط الخواص الظلمة الذين اذا حصل بينهم اتفاق في قرية او قصبة اضطهدوا هؤلاء الضعفاء ولكن اذا كانت ثمة تفرقة بينهم فسيجد المظلوم ملجأ في جهة، فينقذ نفسه.

ثم ان الحقيقة تتظاهر جلية من تصادم الافكار ومناقشة الاراء وتخالف العقول.

الجواب: نقول اجابة عن السؤال الاول:

ان الاختلاف الوارد في الحديث هو الاختلاف الايجابي البنّاء المثبت. ومعناه: ان يسعى كل واحد لترويج مسلكه واظهار صحة وجهته وصواب نظرته، دون أن يحاول هدم مسالك الاخرين او الطعن في وجهة نظرهم وابطال مسلكهم، بل يكون سعيه لإكمال النقص ورأب الصدع والاصلاح ما استطاع اليه سبيلاً. اما الاختلاف السلبي فهو محاولة كل واحد تخريب مسلك الاخرين وهدمه، ومبعثه الحقد والضغينة والعداوة، وهذا النوع من الاختلاف مردود اصلاً في نظر الحديث، حيث المتنازعون والمختلفون يعجزون عن القيام بأي عمل ايجابي بناء.

وجواباً عن السؤال الثاني نقول:

ان كان التفرق والتحزب لاجل الحق وبأسمه، فلربما يكون ملاذ اهل الحق، ولكن الذي نشاهده من التفرق انما هو لاغراض شخصية ولهوى النفس الامارة بالسوء. فهو ملجأ ذوي النيات السيئة بل متكأ الظلمة ومرتكزهم، فالظلم واضح في تصرفاتهم، فلو اتى شيطان الى احدهم معاوناً له موافقاً لرأيه تراه يثني عليه ويترحم عليه، بينما اذا كان في الصف المقابل انسان كالملَك تراه يلعنه ويقذفه.

اما عن السؤال الثالث فنقول:

ان تصادم الآراء ومناقشة الافكار لاجل الحق وفي سبيل الوصول الى الحقيقة انما يكون عند اختلاف الوسائل مع ا لاتفاق في الاسس والغايات، فهذا النوع من الاختلاف يستطيع ان يقدم خدمة جليلة في الكشف عن الحقيقة واظهار كل زاوية من زواياها بأجلى صور الوضوح. ولكن ان كانت المناقشة والبحث عن الحقيقة لاجل اغراض شخصية وللتسلط والاستعلاء واشباع شهوات نفوس فرعونية ونيل الشهرة وحب الظهور، فلا تتلمع بارقة الحقيقة في هذا النوع من بسط الافكار، بل تتولد شرارة الفتن. فلا تجد بين امثال هؤلاء اتفاقاً في المقصد والغاية، بل ليس على الكرة الارضية نقطة تلاق لافكارهم، ذلك لانه ليس لاجل الحق، فترى فيه الافراط البالغ دون حدود، مما يفضي الى انشقاقات غير قابلة للالتئام. وحاضر العالم شاهد على هذا..

وصفوة القول:

ان لم تكن تصرفات المؤمن وحركاته وفق الدساتير السامية التي وضعها الحديث الشريف: ((الحب في الله والبغض في الله))(1) والاحتكام الى امر الله في الامور كلها، فالنفاق والشقاق يسودان.. نعم، ان الذي لا يستهدي بتلك الدساتير يكون مقترفاً ظلماً في الوقت الذي يروم العدالة.

حادثة ذات عبرة:

في احدى الغزوات الاسلامية، كان الامام علي رضى الله عنه يبارز احد فرسان المشركين فتغلب عليه الامام وصرعه. فلما اراد الامام ان يجهز عليه تفل على وجه الامام. فما كان من الامام الا ان اخلى سبيله وانصرف عنه، فاستغرب المشرك من هذا العمل.

فقال: الى اين؟

قال الامام: كنت اقاتلك في سبيل الله، فلما فعلت ما فعلت خشيت ان يكون قتلي اياك فيه ثأر لنفسي فأطلقتك لله.

فأجابه الكافر: كان الاولى ان تثيرك فعلتي اكثر فتسرع في قتلي! وما دمتم تدينون بدين هو في منتهى السماحة فهو بلا شك دين حق(2).

وحادثة اخرى:

عزل حاكم مسلم قاضيه،لما رأى منه شيئاً من الحدة والغضب اثناء قطعه يد السارق. فما ينبغي لمن ينفذ امر الله ان يحمل شيئاً من حظ نفسه على المحكوم، بل عليه ان يشفق ـ من حيث النفس ـ على حاله دون ان تأخذه رأفة في تنفيذ حكم الله. وحيث ان شيئاً من حظ النفس قد اختلط في الامر وهو مما ينافي العدالة الخالصة فقد عُزل القاضي.

مرض اجتماعي خطر وحالة اجتماعية مؤسفة اصابت الامة الاسلامية يدمي لها القلب:

ان اشد القبائل تأخراً يدركون معنى الخطر الداهم عليهم، فتراهم ينبذون الخلافات الداخلية، وينسون العداوات الجانبية عند اغارة العدو الخارجي عليهم.

واذا تقدّر تلك القبائل المتأخرة مصلحتهم الاجتماعية حق قدرها، فما للذين يتولون خدمة الاسلام ويدعون اليه لا ينسون عداوتهم الجزئية الطفيفة فيمهدون بها سبل اغارة الاعداء الذين لا يحصرهم العد عليهم؟! فلقد تراصف الاعداء حولهم واطبقوا عليهم من كل مكان.. ان هذا الوضع تدهور مخيف، وانحطاط مفجع، وخيانة بحق الاسلام والمسلمين.

واذكر للمناسبة حكاية ذات عبرة: كانت هناك قبيلتان من عشيرة ((حسنان)) و كانت بينهما ثارات دموية، حتى ذهب ضحيتها اكثر من خمسين رجلاً، ولكن ما ان يداهمهما خطر خارجي من قبيلة ((سبكان)) او ((حيدران)) الا تتكاتفان وتتعاونان وتنسيان كلياً الخلافات لحين صد العدوان. فيا معشر المؤمنين، اتدرون كم يبلغ عدد عشائر الاعداء المتأهبين للاغارة على عشيرة الايمان؟ انهم يزيدون على المائة وهم يحيطون بالاسلام والمسلمين كالحلقات المتداخلة. فبينما ينبغي ان يتكاتف المسلمون لصد عدوان واحد من اولئك، يعاند كل واحد وينحاز جانباً سائراً وفق اغراضه الشخصية كأنه يمهد السبيل لفتح الابواب امام اولئك الاعداء ليدخلوا حرم الاسلام الآمن.. فهل يليق هذا بأمة الاسلام؟

وان شئت ان تعدد دوائر الاعداء المحيطة بالاسلام، فهم ابتداء من اهل الضلالة والالحاد وانتهاء الى عالم الكفر ومصائب الدنيا واحوالها المضطربة جميعها، فهي دوائر متداخلة تبلغ السبعين دائرة، كلها تريد ان تصيبكم بسوء، وجميعها حانقة عليكم وحريصة على الانتقام منكم، فليس لكم أمام جميع اولئك الاعداء الالداء إلا ذلك السلاح البتار والخندق الامين والقلعة الحصينة، الا وهي الاخوة الاسلامية. فأفق ايها المسلم! واعلم ان زعزعة قلعة الاسلام الحصينة بحجج تافهة واسباب واهية خلاف للوجدان الحي وأي خلاف ومناف لمصلحة الاسلام كلياً.. فانتبه! ولقد ورد في الاحاديث الشريفة ما مضمونه: ان الدجال والسفياني وامثالهما من الاشخاص الذين يتولون المنافقين ويظهرون في آخر الزمان، يستغلون الشقاق بين الناس والمسلمين ويستفيدون من تكالبهم على حطام الدنيا، فيهلكون البشرية بقوة ضئيلة، وينشرون الهرج والمرج بينها ويسيطرون على امة الاسلام ويأسرونها(1).

ايها المؤمنون!

ان كنتم تريدون حقاً الحياة العزيزة، وترفضون الرضوخ لاغلال الذل والهوان، فأفيقوا من رقدتكم، وعودوا الى رشدكم، وادخلوا القلعة الحصينة المقدسة: } اِنَّمَا الْـمُؤْمِنُونَ اِخْوَةٌ{ (الحجرات: 10) وحصنوا انفسكم بها من ايدي اولئك الظلمة الذين يستغلون خلافاتكم الداخلية.. والا تعجزون عن الدفاع عن حقوقكم بل حتى عن الحفاظ على حياتكم، اذ لا يخفى ان طفلاً صغيراً يستطيع ان يضرب بطلين يتصارعان، وان حصاة صغيرة تلعب دوراً في رفع كفة ميزان وخفض الاخرى ولو كان فيهما جبلان متوازنان.

فيا معشر أهل الايمان! ان قوتكم تذهب ادراج الرياح من جراء اغراضكم الشخصية وانانيتكم وتحزبكم، فقوة قليلة جداً تتمكن من ان تذيقكم الذل والهلاك. فان كنتم حقاً مرتبطين بملة الاسلام فاستهدوا بالدستور النبوي العظيم:

(الـمُؤْمِنُ لِلْـمُؤْمِنِ كَالْبُنيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضَاً)(2) وعندها فقط تسلمون من ذل الدنيا وتنجون من شقاء الآخرة.

u الوجه السادس:

ان الاخلاص واسطة الخلاص ووسيلة النجاة من العذاب، فالعداء والعناد يزعزعان حياة المؤمن المعنوية فتتأذى سلامة عبوديته لله، اذ يضيع الاخلاص!. ذلك لان المعاند الذي ينحاز الى رأيه وجماعته يروم التفوق على خصمه حتى في اعمال البر التي يزاولها. فلا يوفق توفيقاً كاملاً الى عمل خالص لوجه الله. ثم انه لا يوفق ايضاً الى العدالة، اذ يرجح الموالين لرأيه الموافقين له في احكامه ومعاملاته على غيرهم.. وهكذا يضيع اساسان مهمان لبناء البر((الاخلاص والعدالة)) بالخصام والعداء.ان بحث هذا الوجه يطول،فلا يتسع هذا المقام اكثر من هذا القدر، فنكتفي به.

المبحث الثاني

بِسْم الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} اِنَّ الله هو الرَّزاقُ ذو القوةِ المتين{ (الذرايات : 58)

} وكأيِّن من دآبةٍ لا تحملُ رزقها الله يرزقها واياكم وهو السميع العليم{

(العنكبوت:60)

أيها المؤمن: لقد ادركتَ مما سبق مدى ما تتركه العداوة والبغضاء من أضرار جسيمة، فاعلم أن الحرص ايضاً داءٌ كالعداء بل هو أضرَّ على الحياة الاسلامية وأدهى عليها. نعم، الحرصُ بذاته سببُ الخيبة والخذلان، وداءٌ وبيل ومهانة وذلة، وهو الذي يجلب الحرمان والدناءة.

ان الشاهد القاطع على هذا الحُكم على الحرص، هو ما اصاب اليهود من الذلة والمسكنة والهوان والسفالة لشدة تهالكهم على حطام الدنيا أكثر من أية أمةٍ أخرى.

والحرص يُظهِر تأثيرَه السئ بدءاً من أوسع دائرة في عالم الاحياء وانتهاء الى أصغر فرد فيه، بينما السعي وراء الرزق المكلل بالتوكل مدارُ الراحة والاطمئنان ويُبرز أثَره النافع في كل مكان.

مثال ذلك: أن النباتات والاشجار المثمرة المفتقرة الى الرزق ـ وهي التي تعدّ نوعاً من الأحياء ـ تُهرع اليها أرزاقُها سريعةً وهي منتصبة في أماكنها متّسمة بالتوكل والقناعة دون أن يبدو منها أثر للحرص، بل تتفوق على الحيوانات في تكاثرها وتربية ما تولّد من ثمرات. أما الحيوانات فلا تحصل على أرزاقها الا بعد جهد ومشقة وبكمية زهيدة ناقصة، ذلك لأنها تلهث وراءها بحرص، وتسعى في البحث عنها حثيثاً. حتى اننا نرى في عالم الحيوان نفسه أن الارزاق تُسبغ على الصغار الذين يعبِّرون عن توكلهم على الله بلسان حالات ضعفهم وعجزهم، فيُرسَل اليهم رزقُهم المشروع اللطيف الكامل من خزينة الرحمة الإلهية. بينما لا تحصل الحيوانات المفترسة التي تنقضّ على فرائسها بحرص شديد الاّ بعد لأيٍ كبير وتحرٍ عظيم.

فهاتان الحالتان تبينان بوضوح: أن الحرص سبب الحرمان، أما التوكل والقناعة فهما وسيلتا الرحمة والاحسان.

ونرى الحال نفسه في عالم الانسان اذ اليهود الذين هم أحرص الناس على حياة، ويستحبّون الحياةَ الدنيا على الآخرة، بل يعشقونها حب العاشق الولهان حتى سبقوا الامم في هذا المجال، قد ضُربت عليهم الذلة والمهانة، والحقت بهم حملات القتل بيد الامم الاخرى.. كل ذلك مقابل حصولهم بعد عناء طويل على ثروة رَبَوية محرمَّة خبيثة، لا ينفقون منها الا النزر اليسير، وكأن وظيفتهم كنزَها وادخارَها فحسب.. فيبين لنا هذا الحال: ان الحرص معدن الذلة والخسة والخسارة في عالم الانسانية.

وهناك وقائع كثيرة، وحوادث لا تدخل في الحصر بأن الحريص معرَّضٌ دائماً للوقوع في حومة الخسران، حتى جرى ((الحريص خائب خاسر)) مجرى الامثال الشائعة. واتخذه الجميع حقيقة عامة في نظرهم.

فما دام الامر هكذا، ان كنت تحب المال حباً جماً فاطلبه بالقناعة دون الحرص حتى يأتيك وافراً.

ويمكن أن نشبّه القانعين من الناس والحريصين منهم بشخصين يدخلان مضيفاً كبيراً أعدَّه شخص عظيم ذو شأن.. يتمنى أحدهما من أعماقه قائلاً: لو أن صاحب الديوان يأويني مجرد ايواء، وأنجو من شدة البرد الذي في الخارج لكفاني، وحسبي ذلك. ولو سمح لي بأي مقعد متيسّر في أدنى موقع فهو فضل منه وكرم. أما الآخر فيتصرف كأن له حقاً على الآخرين، وكأنهم مضطرون أن يقوموا له بالاحترام والتوقير، لذا يقول في أعماقه بغرور: على صاحب الديوان أن يوفّر لي أرفع مقعد وأحسنه. وهكذا يدخل الديوان وهو يحمل هذا الحرص ويرمق المواقع الرفيعة في المجلس، الا أن صاحب الديوان يرجّعه ويردّه الى أدنى موقع في المجلس،وهو بدوره يمتعض ويستاء ويمتلئ صدره غيظاً على صاحب الديوان. ففي الوقت الذي كان عليه أن يقدّم الشكر الذي يستوجبه، قام بخلاف ما يجب عليه، وأخذ بانتقاد صاحب الديوان، فاستثقله صاحبُ الديوان، بينما رحّب بالشخص الاول الذي دخل الديوان وهو يشعّ تواضعاً يلتمس الجلوس في أدنى مقعد متوفر، إذ سرَّته هذه القناعة البادية منه والتي بعثت في نفسه الانشراح والاستحسان وأخذ يرقيه الى أعلى مقام وأرقاه. وهو بدوره يستزيد من شكره ورضاه وامتنانه كلما صعدت به المراتب.

وهكذا الدنيا، ديوانُ ضيافة الرحمن. ووجه الارض سُفرة الرحمة المبسوطة ومائدة الرحمن المنصوبة. ودرجات الارزاق ومراتب النعمة بمثابة المقاعد المتباينة.

ان سوء تأثير الحرص ووخامة عاقبته يمكن أن يشعر به كل واحد، حتى في أصغر الامور وأدقها جزئية.

فمثلاً: يمكن أن يشعر كل شخص استياءً واستثقالاً في قلبه تجاه متسول يلح عليه بحرص شديد، حتى أنه يردَّه، بينما يشعر اشفاقاً وعطفاً تجاه متسول آخر وقف صامتاً قنوعاً، فيتصدق عليه ما وسعه.

ومثلاً: اذا أردت أن تغفو في ليلة أصبتَ فيها بالأرق.. فانك تهجع رويداً رويداً ان أهملته ولم تبال به. ولكن ان حرصت على النوم وقلقت عليه وأنت تتمتم: تُرى متى أنام؟ أين النوم مني؟.. لتبدَّد النوم ولفقدتَه كلياً.

ومثلاً: تنتظر أحدهم بفارغ الصبر، وأنت حريص على لقائه لأمر مهم، فتشعر بالقلق قائلاً: لِمَ لم يأت.. ما بالُه تأخر؟ وفي النهاية يزيح الحرصُ الصبََر من عندك، ويضطرك الى مغادرة مكان الانتظار يائساً. واذا بالشخص المنتظر يحضر بعد هنيهة، ولكن النتيجة المرجوة قد ضاعت وتلاشت.

ان السر الكامن في أمثال هذه الحوادث وحكمتها هو:

مثلما يترتب وجود الخبز على أعمال تتم في المزرعة، والبيدر، والطاحونة، والفرن، فان ترتب الاشياء كذلك يقترن بحكمة التأنّي والتدرج، ولكن الحريص بسبب حرصه لا يتأنّى في حركاته ولا يراعي الدرجات والمراتب المعنوية الموجودة في ترتب الاشياء. فإما أنه يقفز ويطفر فيسقط، أو يدع احدى المراتب ناقصةً فلا يرتقي لغايته المقصودة.

فيا أيها الاخوة المشدوهون من هموم العيش والهائمون في الحرص على الدنيا! كيف ترضون لأنفسكم الذلة والمهانة في سبيل الحرص ـ مع أن فيه هذه الاضرار والبلايا ـ وتقبلون على كل مالٍ دون أن تعبأوا أهوَ حلال أم حرام؟ وتضحون في سبيل ذلك بأمور جليلة وأشياء قيّمة تستوجبها الحياة الاخروية، حتى أنكم تَدَعون في سبيل الحرص ركناً مهماً من أركان الاسلام ألا وهو ((الزكاة)) علماً أنها باب عظيم تفيض منه البَركة والغنى على كل فرد، وتدفع عنه البلايا والمصائب. فالذين لا يؤدون زكاة أموالهم لا محالة يفقدون أموالاً بقدرها ويبددونها إما في أمور تافهة لا طائل وراءها، أو تلمُّ بهم مصائب تنتزعها منهم انتزاعاً.

ولقد سُئلت في رؤيا خيالية عجيبة ذات حقيقة، وذلك في السنة الخامسة من الحرب العالمية الاولى، والسؤال هو:

ما السر في هذا الفقر والخصاصة التي أصابت الامة الاسلامية، وما السر في التلف الذي أصاب اموالهم وأهدرها، وفي العناء والمشاق التي رزحت تحته أجسادهم؟

وقد أجبت عن السؤال في رؤياي بما يأتي:

ان الله تعالى قد فرض علينا فيما رزقنا من ماله العُشر(1) في قسم من الاموال، وواحداً من أربعين(2) في قسم آخر كي يجعلنا ننال ثوابَ أدعيةٍ خالصة تنطلق من الفقراء، ويصرفنا عما تُوغر في صدورهم من الضغينة والحسد. الا أننا قبضنا أيدينا حرصاً على المال فلم نؤدّ الزكاة. فاسترجع سبحانه وتعالى تلك الزكاة المتراكمة علينا بنسبة ثلاثين من أربعين وبنسبة ثمانية من عشرة.

وطلب سبحانه منا أن نصوم لأجله ونجوع في سبيله جوعاً يتضمن من الفوائد والحكم ما يبلغ السبعين فائدة. طلبه منا أن نقوم به في شهر واحد من كل سنة، فعزَّت علينا أنفسُنا وأخذتنا الرأفة بها عن غير حق، وأبينا أن نطيق جوعاً ممتعاً مؤقتاً، فما كان منه سبحانه الاّ مجازاتنا بنوع من صوم وجوع له من المصائب ما يبلغ السبعين مصيبة، وأرغمنا عليه طوال خمس سنوات متتالية.

وكذا، طلب منا سبحانه نوعاً من تنفيذ الاوامر والتعليمات الربانية الطيبة المباركة السامية النورانية نؤديها في ساعة واحدة من بين أربع وعشرين ساعة. فتقاعسنا عن أداء تلك الصلوات والادعية والاذكار، فأضعنا تلك الساعة الواحدة مع بقية الساعات. فكان منه أن كفَّر عنا سبحانه بما بدا منا من سيئات وتقصيرات، وجعلَنا نُرغَم على أداء نوع من العبادة والصلاة بتلقين التعليمات والتدريب ومن كرّ وفر وعَدْوٍ واغارة وما الى ذلك.. في غضون خمس سنوات متتابعة.

نعم! هكذا قلت في تلك الرؤيا. ثم أفقت منها، وفكرت متأملاً وتوصلت الى حقيقة مهمة جداً تضمنتها تلك الرؤيا الخيالية وهي:

ان هناك كلمتين اثنتين هما منشأ جميع ما آلت اليه البشرية في حياتهم الاجتماعية من تردّ في الاخلاق وانحطاط في القيم، وهما منبع جميع الاضطرابات والقلاقل. وقد بيناهما واثبتناهما في (الكلمة الخامسة والعشرين) عند عقدنا الموازنة بين الحضارة الحديثة واحكام القرآن الكريم. والكلمتان هما:

الكلمة الاولى: إن شبعتُ فلا عليّ أن يموت غيري من الجوع.

الكلمة الثانية:إكتسب أنت لآكل انا واتعبانت لأستريح انا.

وأن الذي يديم هاتين الكلمتين ويغذّيهما هو: جريان الربا، وعدم أداء الزكاة.

وأن الحل الوحيد والدواء الناجع لهذين المرضين الاجتماعيين هو: تطبيق الزكاة في المجتمع وفرضها فرضاً عاماً. وتحريم الربا كلياً. لأن أهمية الزكاة لا تنحصر في أشخاص وجماعات معينة فقط، بل أنها ركن مهم في بناء سعادة الحياة البشرية ورفاهها جميعاً، بل هي عمود أصيل تتوطد به ادامة الحياة الحقيقية للانسانية، ذلك لأن في البشرية طبقتين: الخواص والعوام. والزكاة تؤمّن الرحمة والاحسان من الخواص تجاه العوام وتضمن الاحترام والطاعة من العوام تجاه الخواص. وإلا ستنهال مطارق الظلم والتسلط على هامات العوام من أولئك الخواص، وينبعث الحقد والعصيان اللذان يضطرمان في أفئدة العوام تجاه الاغنياء الموسرين. وتظل هاتان الطبقتان من الناس في صراع معنوي مستديم، وتخوضان غمار معمعة الاختلافات المتناقضة، حتى يؤول الامر تدريجياً الى الشروع في الاشتباك الفعلي والمجابهة حول العمل ورأس المال كما حدث في روسيا.

فيا أهل الكرم وأصحاب الوجدان، ويا أهل السخاء والاحسان! إن لم تقصدوا بالاحسانات التي تدفعونها نيّةَ الزكاة، ولم تكن باسمها فان لها ثلاثة أضرار، بل قد تتلاشى سدىً دون نفع، ذلك لأنكم ان لم تمنحوها وتحسنوا بها في سبيل الله وباسم الله فانكم بلا شك ستبدون منّةً وتفضلاً ـ معنىً ـ فتجعلون الفقير المسكين تحت أسارة المنَّة وتكبلوه بأغلالها. ومن ثم تظلون محرومين من دعائه الخالص المقبول، فضلاً عن أنكم تكونون جاحدين بالنعمة لما تظنون أنكم أصحاب المال. وفي الحقيقة لستم الا مستخلفين مأمورين تقومون بتوزيع مال الله على عباده. ولكن اذا أدّيتم الاحسان في سبيل الله باسم الزكاة فانكم تنالون ثواباً عظيماً، وتكسبون أجراً عظيما، لأنكم قد أديتموه في سبيل الله. وأنتم بهذا العمل تبدون شكراً للنعم التي أسبغها الله عليكم. فتنالون الدعاء المقبول من ذلك المحتاج المعوز حيث لم يـضطر الى التملّق والتخوف منكم فاحتفظ بكرامته وإبائه فيكون دعاؤه خالصاً.

نعم أين ما تُمنح من أموال بقدر الزكاة بل أكثر منها، والقيام بحسنات بشتى صورها ودفع صدقات مع اكتساب أضرار جسيمة أمثال الرياء والصيت مع المنَّة والاذلال، من أداء الزكاة والقيام بتلك الحسنات بنيتها في سبيل الله، واغتنام فضل القيام بفريضة من فرائض الله، وكسب ثواب منه سبحانه، والظفر بالاخلاص والدعاء المستجاب. ألا شتّان بين العطاءين!

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ مَا عَلّمْتَنَا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيمُ{

اللهم صل على سيدنا محمد الذي قال:

(المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً).

وقال: (القناعة كنز لا يفنى)(1).

وعلى آله وصحبه أجمعين..

آمين والحمد لله رب العالمين.

خاتمة

تخص الغيبة

لقد اظهر المثال المذكور ضمن امثلة مقام الذم والزجر في النقطة الخامسة من الشعاع الاول من الشعلة الاولى للكلمة الخامسة والعشرين، وذلك في ذكر آية كريمة واحدة مدى شناعة الغيبة في نظر القرآن، اذ بيّنت الآية باعجاز كيف تنّفر الانسان عن الغيبة في ستة وجوه حتى اغنت عن كل بيان آخر.. نعم لا بيان بعد بيان القرآن ولا حاجة اليه.

ان قوله تعالى: } أيحبُ احدكُم انْ يأكل لحم اخيهِ ميتاً فكرهتُموه{ (الحجرات:12) تذم الذم في ست درجات وتزجر عن الغيبة في ست مراتب على النحو الآتي:

تنهى هذه الآية الكريمة عن الغيبة بست مراتب وتزجر عنها بشدة وعنف، وحيث ان خطاب الآية موجه الى المغتابين، فيكون المعنى كالاتي:

ان الهمزة الموجودة في البداية، للاستفهام الانكاري حيث يسري حكمه ويسيل كالماء الى جميع كلمات الآية، فكل كلمة منها تتضمن حكماً.

ففي الكلمة الاولى تخاطب الآية الكريمة بالهمزة: أليس لكم عقل ـ وهو محل السؤال والجواب ـ ليعي هذا الامر القبيح؟

وفي الكلمة الثانية: ((يحب)) تخاطب الآية بالهمزة: هل فسد قلبكم ـ وهو محل الحب والبغض ـ حتى أصبح يحب اكره الاشياء واشدها تنفيراً.

وفي الكلمة الثالثة: ((احدكم)) تخاطب بالهمزة: ماذا جرى لحياتكم الاجتماعية ـ التي تستمد حيويتها من حيوية الجماعة ــ وما بال مدنيتكم وحضارتكم حتى اصبحت ترضى بما يسمم حياتكم ويعكر صفوكم.

وفي الكلمة الرابعة: ((ان يأكل لحم)) تخاطب بالهمزة: ماذا اصاب انسانيتكم؟ حتى اصبحتم تفترسون صديقكم الحميم. وفي الكلمة الخامسة: ((اخيه)) تخاطب بالهمزة: أليس بكم رأفة ببني جنسكم، أليس لكم صلة رحم تربطكم معهم، حتى اصبحتم تفتكون بمن هو اخوكم من عدة جهات، وتنهشون شخصه المعنوي المظلوم نهشاً قاسياً ، ايملك عقلاً من يعض عضواً من جسمه؟ اوَليس هو بمجنون؟.

وفي الكملة السادسة: ((ميتاً)) تخاطب بالهمزة: اين وجدانكم؟ أفسدت فطرتكم حتى اصبحتم تجترحون ابغض الاشياء وافسدها ـ وهو أكل لحم اخيكم ـ في الوقت الذي هو جدير بكل احترام وتوقير.

يفهم من هذه الآية الكريمة ـ وبما ذكرناه من دلائل مختلفة في كلماتها ـ ان الغيبة مذمومة عقلاً وقلباً وانسانية ووجداناً وفطرة وملةً. فتدبر في هذه الآية الكريمة، وانظر كيف انها تزجر عن جريمة الغيبة باعجاز بالغ وبايجاز شديد في ست مراتب. حقاًً ان الغيبة سلاح دنئ يستعمله المتخاصمون والحسّاد والمعاندون؛ لأن صاحب النفس العزيزة تأبى عليه نفسه ان يستعمل سلاحاً حقيراً كهذا.

وقديماً قال الشاعر:

واكبر نفسي عن جزاء بغيبة فكل اغتياب جهد من لا له جهد(1)

والغيبة هي ذكرك اخاك بما يكره، فان كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته. أي اجترحت اثماً مضاعفاً(2).

الا ان الغيبة وان كانت محرمة فانها تجوز في احوال معينة(3):

منها: التظلم، فالمظلوم يجوز له أن يصف مَنْ ظلمه الى حاكم ليعينه على ازالة ظلم او منكر وقع عليه.

ومنها : الاستفتاء، فاذا ما استشارك احد يريد ان يشترك مع شخص في العمل او غيره، واردت نصيحته خالصاً لله دون ان يداخلها غرض شخصي يجوز لك ان تقول: ((لا تصلح لك معاملته، سوف تخسر وتتضرر)).

ومنها: التعريف من دون ان يكون القصد فيه التنقيص، فتقول مثلاً: ذلك الاعرج او ذلك الفاسق.

ومنها: ان كان فاسقاً مجاهراً بفسقه، لا يتورع من الفساد وربما يفتخر بسيئاته ويتلذذ من ظلم الآخرين.

ففي هذه الحالات المعينة تجوز الغيبة للمصلحة الخالصة دون ان يداخلها حظ النفس والغرض الشخصي، بل تجوز لاجل الوصول الى الحق وحده، والا فالغيبة تحبط الاعمال الصالحة وتأكلها كما تأكل النار الحطب. فاذا ارتكب الانسان الغيبة، او استمع اليها برغبة منه، فعليه ان يدعو: اَللّـهُمَّ اغْفِرْ لَنَا ولمِنْ اِغْتَبْنَاهُ(4). ثم يطلب من الذي اغتابه عفوه منها، والابراء منها متى التقاه.

الباقي هو الباقي

سعيد النورسي
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-03-2011
  #29
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 15
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: المكتوبات

المكتوب الثالث والعشرون

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{



السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ابداً بعدد عاشرات دقائق عمرك وذرات وجودك.

اخي العزيز الغيور الجاد ذا الحقيقة الخالص الفطن!

ان أمثالنا من اخوان الحقيقة والآخرة لايمنع اختلاف الزمان والمكان محاورتهم ومؤانستهم، فحتى لو كان أحدهم في الشرق وآخر في الغرب وآخر في الماضي وآخر في المستقبل وآخر في الدنيا وآخر في الآخرة يمكن أن يُعدّوا معاً، ويمكنهم ان يتحاور بعضهُم مع البعض الآخر، ولاسيما ان كانوا مجتمعين على غاية واحدة ويعملون في مهمة واحدة وواجب واحد، بل حتى يكون أحدهم هو في حكم عين الآخر.

انني أتصوركم معي صباح كل يوم، وأهب لكم قسماً من مكاسبي، وهو الثلث (نسأل الله القبول) فأنتم في الدعاء مع عبد المجيد وعبد الرحمن، فتنالون حظكم دوماً ان شاء الله.

ولقد أثّر فيّ بعض مشاكلكم الدنيوية فتألمت لألمكم. ولكن ياأخي لما كانت الدنيا ليست خالدة، وان في مصائبها خيراً، فقد ورد الى قلبي ـ بدلاً عنك ـ عبارة (( كل حال يزول)) وتدبـّرت في ((لاعيش الاّ عيـش الآخـرة ))(1) وتـلـوت:
} ان الله مع الصـابرين{ ، وقلت: } إنا لله وإنا اليه راجعـون{ فوجدت ســـلواناً وعزاءً بدلاً عنـك.

يا أخي! اذا أحـبّ الله عبداً جعل الدنيا تعرض عنه وتجافيه، ويريه الدنيا قبيحة بغيضة، وانـك ان شـاء الله من صـنف اولئـك المحبوبين عند الله. لاتتألم من زيادة الموانع والعوائق التي تحول دون انتشار ((الكلمات)). فان ما قمت به من نشرٍ للرسائل لحد الآن، اذا حظي برحمته سبحانه تتفتح ـ ان شاء الله ـ تلك النوى النورية المباركة جداً أزاهير كثيرة.

انك تسأل عدداً من الاسئلة، ولكن ياأخي العزيز ان معظم ((الكلمات)) وكذا ((المكتوبات)) كانت ترد الى القلب آنياً دون اختيار مني، ولهذا تصبح جميلة لطيفة. ولو كنتُ أجيب عن الاسئلة باختياري وبعد تأمل وتفكر وبقوة علم (سعيد القديم) يرد الجوابُ خافتاً خامداً ناقصاً. ولقد توقف تطلع القلب ـ منذ فترة ـ وخبتْ جذوة الحافظة، ولكن سنكتب جواباً في غاية الاختصار لئلا تبقى دون جواب.

u سؤالكم الاول:

كيف يجب ان يكون أفضل دعاء المؤمن لأخيه المؤمن؟

الجواب:يجب ان يكون ضمن دائرة اسباب القبول؛ لان الدعاء يكون مستجاباً ومقبولاً ضمن بعض الشروط، وتزداد الاستجابة كلما اجتمعت شروط القبول. فمنها؛ الطهور المعنوي؛ أي؛ الاستغفار عند الشروع بالدعاء، ثم ذكر الصلاة على الرسول e ، وهي الدعاء المستجاب، وجعلها شفيعة للدعاء، وذكر الصلاة على الرسول e ايضاً في الختام، لأن دعاءً وسط دعائين مستجابين يكون مستجاباً.

وان يدعو بظهر الغيب.

وان يدعو بالمأثور من ادعية الرسول e ، وما ورد في القرآن الكريم من أدعية.

مثال ذلك:

} ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقنا عذاب النار{ (البقرة: 201)

(اللهم اني أسألك الـعفو والعـافية لي ولـه في الدين والدنيا والآخـرة).. وامثالها من الادعية المأثورة الجامعة.

وان يدعو بخلوص النية وخشوع القلب وحضوره.

وان يدعو دبر الصلوات ولاسيما دبر صلاة الفجر.

وان يدعو في الاماكن المباركة، ولاسيما في المساجد، وفي ايام الجمع ولاسيما في ساعة الاجابة، وفي الاشهر المباركة ولاسيما في الليالي المشهورة. وفي شهررمضان ولاسيما في ليلة القدر.

فان الدعاء بهذه الشروط يرجى من رحمته تعالى ان يكون مقروناً بالاستجابة.

فذلك الدعاء المستجاب إما أن يُرى أثره بعينه في الدنيا او يستجاب لآخرة المدعو له ولحياته الخالدة.

بمعنى انه إن لم يُرَ المقصود من الدعاء بذاته، فلايقال ان الدعاء لم يستجب بل يُقال ان الدعاء استجيب بأفضل استجابة.

u سؤالكم الثاني:

هل يجوز اطلاق رضي الله عنه على غير الصحابة الكرام.

الجواب: نعم.. لان هذا الدعاء ليس شعاراً خاصاً بالصحابة الكرام كما هو في عبارة (عليه الصلاة والسلام) الخاصة بالرسول e .

بل لابد ان يطلق (رضي الله عنه) على الائمة الأربعة المجتهدين، والشيخ الكيلاني، والامام الرباني والامام الغزالي وامثالهم ممن هم من ورثة الانبياء، وفي مرتبة الولاية الكبرى ونالوا مقام الرضى.

ولكن جرى عرف العلماء بان يقال للصحابة الكرام؛ (رضي الله عنهم) وللتابعين وتابعي التابعين؛ (رحمهم الله) ومن يليهم (غفر الله لهم) وللاولياء؛ (قدس سرّهم).

u سؤالكم الثالث:

ايَّما افضل؛ ائمة المجتهدين العظام أم شيوخ الطرق الحقة وأقطابها؟

الجواب:

ليس المجتهدون كلهم، بل المجتهدون الاربعة ــ وهم ابو حنيفة والشافعي ومالك واحمد بن حنبل ــ هم الافضل، فهم يفوقون الاقطاب وسادة الطرق. ولكن بعض الأقطاب العظام كالكيلاني له مقام اسطع من جهة، في الفضائل الخاصة، الاّ ان الفضيلة الكلية هي للأئمة الكرام.

ثم ان قسماً من سادة الطرق هم من المجتهدين ايضاً، ولهذا لايقال ان المجتهدين عامة هم افضل من الاقطاب، ولكن الائمة الاربعة هم افضل الناس بعد الصحابة الكرام والسيد المهدي رضياللهعنه.

u سؤالكم الرابع:

ما الحكمة من قوله تعالى } ان الله مع الصابرين{ (البقرة 153) وما الغاية منها؟

الجواب:

لقد وضع الله سبحانه وتعالى في وجود الاشياء تدريجاً وترتيباً أشبه مايكون بدرجات السلم، وذلك بمقتضى اسمه الحكيم، فالذي لايتأنى في حركاته، إما انه يطفر الدرجات فيسقط او يتركها ناقصة فلايرقى الى المقصود.

ولهذا فالحرص سبب الحرمان، والصبر يحل المشاكل، حتى غدا من مضرب الامثال: ((الحريص خائب خاسر)) و ((الصبر مفتاح الفرج)). بمعنى: ان عنايته سبحانه وتوفيقه مع الصابرين. اذ الصبر على انواع ثلاثة:

الاول: الصبر عن المعصية وتجنبها، فهذا الصبر هو التقوى، ويجعل صاحبه محظياً بسر قوله تعالى: } إنّ الله مع المتقين{ (البقرة:194).

الثاني: الصبر عند المصيبة، وهذا هو التوكل وتسليم الامر اليه سبحانه، مما يدفع صاحبه الى التشرف بقوله تعالى:} ان الله يحب المتوكلين{ (آل عمران:159) و} والله يحب الصابرين{ (آل عمران:146).

اما عدم الصبر فهو يتضمن الشكوى من اللهالذي ينتج انتقاد أفعاله واتهام رحمته ورفض حكمته.

نعم! ان الانسان الضعيف العاجز يتألم ويبكي من ضربات المصيبة ويشكو، ولكن يجب ان تكون الشكوى اليه لامنه، كمـا قال سـيدنا يعقوب عليه السـلام : (} إنما أشكو بثي وحزني الى الله{ (يوسف :86) اي شكوى المصيبة الى الله وليس الشكوى من الله الى الناس والتأفف والتحسر وقوله: ((ماذا عملت حتى جوزيت بهذه المصيبة)) لإثارة رقة قلوب الناس العاجزين. فهذا ضرر ولامعنى له.

الصبر الثالث: الصبر على العبادة، الذي يمكن ان يبلغ صاحبه مقام المحبوبية، فيسوق الى حيث العبودية الكاملة التي هي أعلى مقام.

u سؤالكم الخامس:

ان الخامس عشر من العمر يعدّ سن التكليف، فكيف كان الرسول e يتعبد قبل النبوة؟.

الجواب:

كان يتعبد بالبقية الباقية من دين سيدنا ابراهيم عليه السلام الذي ظل جارياً في الجزيرة العربية تحت حجب كثيرة. ولكن التعبد هذا لم يكن على صورة الفرض والواجب بل كان تعبداً اختيارياً يُؤدّى ندباً.

هذه الحقيقة طويلة، لتظل الآن مختصرة.

u سؤالكم السادس:

ماحكمة بعثة الرسول e في سن الكمال وهو الاربعون من العمر. وما حكمة انتقاله الى الملأ الاعلى في السن الثالثة والستين من عمره المبارك؟

الجواب:

حِكمها كثيرة. احداها هي:

ان النبوة تكليف ثقيل، وعبء عظيم جداً، لايُحمل الاّ بعد نمو الملكات العقلية ونضوجها وتكامل الاستعدادات القلبية. اما زمن ذلك الكمال فهو الاربعون من العمر.

اما فترة الفتوة والشباب التي هي فترة تهيج النوازع النفسانية ووقت غليان الحرارة الغريزية وأوان فوران الحرص على الدنيا فهي لاتلائم وظائف النبوة التي هي مقدسة وأخروية وخالصة للّه وحده. اذ مهما كان الانسان جاداً وخالصاً قبل الاربعين من العمر، فلربما يرد الى اذهان المتطلعين الى الشهرة ظنٌ بأنه يعمل لجاه الدنيا ونيل مقام فيها، فلا ينجو من اتهاماتهم بسهولة. اما بعد الاربعين فان العمر ينحدر الى باب القبر وتتراءى له الآخرة أكثر من الدنيا، فينجو من ذلك الاتهام بسهولة ويوفّق في حركاته واعماله الاخروية وينجو الناس من سوء الظن وينقَذون.

اما كون عمره المبارك الذي قد قضي في ثلاث وستين سنة، فمن حكمه الكثيرة نذكر واحدة منها:

إن اهل الايمان مكلفون شرعاً بحب الرسول الاعظم e غاية الحب وبتوقيره واحترامه اكثر من اي انسان آخر، وبعدم النفور من اي شئ يخصه، بل رؤية كل حال من احواله جميلة نزيهة. ولهذا فان الله سبحانه وتعالى لايدع حبيبه الاكرم e الى وقت الشيخوخة والهرم، وقت المشقات والمتاعب والتي تكثر بعد الستين من العمر، بل يرسله الى الملأ الاعلى في الثالث والستين من عمره المبارك، والذي هو العمر الغالب لمتوسط اعمار أمته e ويرفعه الى مقام قربه، مظهراً بذلك انه e إمامٌ في كل شئ.

u سؤالكم السابع:

(خير شبابكم من تَشبّهَ بكهولكم وشرُّ كهولكم من تَشبّهَ بشبابكم )(1). هل هذا حديث نبوي؟ واذا كان حديثاً شريفاً فما المقصود منه؟.

الجواب:

لقد سمعته حديثاً نبوياً شريفاً. اما المقصود منه فهو:

((ان خير الشباب هم اولاء الذين لم يتمادوا كثيراً في الغفلة عن الله، بل يتذكرون الموت كتذكر الشيوخ له، فيجدّون لإعمار آخرتهم متحررين من قيود اهواء الشباب ونزواته. وشر شيوخكم هم اولاء الذين غفلوا عناللهفاستهوتهم غفلات الشباب، فقلّدوهم في اهوائهم تقليد الصبيان)).

ان الصورة الصحيحة لما رأيته في القسم الثاني من لوحتك هي:

انني قد علقتُ فوق رأسي لوحةً تتضمن حكمة بليغة، انظر اليها صباح مساء، واتلقى درسي منها وهي:

(( ان كنت تريد ولياً، فكفى باللّه ولياً)). نعم إن كان هو وليّك فكل شئ لك صديق.

(( ان كنت تريد أنيساً، فكفى بالقرآن الكريم أنيساً)). اذ تعيش فيه مع الانبياء والملائكة وحَسُنَ اولئك رفيقاً.

(( ان كنت تريد مالاً، فكفى بالقناعة كنزاً)). نعم، ان القانع يقتصد، والمقتصد يجد البركة.

((ان كنت تريد عدواً، فكفى بالنفس عدواً)). اذ المعجب بنفسه لامحالة يرى المصاعب ويبتلى بالمصائب، بينما الذي لا يعجب بها يجد السرور والراحة والرحمة.

((ان كنت تريد واعظاً، فكفى بالموت واعظاً)). حقاً من يذكر الموت ينجو من حب الدنيا ويسعى لآخرته سعياً حثيثاً.

والآن ياأخي أزيد مسألة ثامنة الى مسائلكم السبعة فأقول:

قبل يومين، تلا أحد الحفاظ الكرام آيات من سورة يوسف (عليه السلام) حتى بلغ } تَوفـَّني مُسلماً وألحقني بالصالحين{ فوردت الى القلب ـ على حين غرة ـ نكتة لطيفة.

ان كل ما يخص القرآن والايمان ثمين جداً مهما بدا في الظاهر صغيراً، اذ هو من حيث القيمة والاهمية ثمين وعظيم.

نعم! ليس صغيراً ما يعين على السعادة الأبدية ً، فلايقال: ان هذه النكتة صغيرة لاتستحق الاهمية.

فلاريب ان ابراهيم خلوصي هو اول من يريد الاستماع الى مثل هذه المسائل فهو الطالب الاول والمخاطب الاول الذي يقدّر النكت القرآنية حق قدرها. ولهذا فاستمع ياأخي!

انها نكتة لطيفة لأحسن القصص.

ان الآيـة الكريمة الـتي تخـبر عـن ختام أحـسن القصـص، قصـة يوسف، وهي:

} تَوفـَّني مُسلماً وألحقني بالصالحين{ (يوسف : 101) تتضمن نكتة بليغة سامية لطيفة تبشر بالخير وهي معجزة في الوقت نفسه. وذلك:

ان الآلام والاحزان التي يتركها الزوال والفراق الذي تنتهي اليهما القصص الاخرى المفرحة والسعيدة، تنغّص اللذائذ الخيالية الممتعة المستفادة من القصة وتكدّرها، ولاسيما عندما يخبر عن الموت والفراق اثناء ذروة الفرح والسرور والسعادة البهيجة، فيكون الألم أشدّ حتى انه يورث الاسف والأسى لدى السامعين.

بينما هذه الآية الكريمة تختم أسطع قسم من قصة يوسف وهو عزيز مصر وأقر الله عينه ولقى والديه وتعارف وتحابّ هو واخوته. واذ تخبر الآية الكريمة عن موت يوسف في هذه الاثناء التي كان يوسف (عليه السلام) في ذروة السعادة والسرور تخبر ان يوسف (عليه السلام) نفسه هو الذي يسأل ربه الجليل وفاته لينال سعادة اعظم من هذه السعادة التي يرفل بها. وتوفي فنال تلك السعادة العظمى. بمعنى ان ما وراء القبر سعادة اكبر وفرحاً اعظم من هذه السعادة التي ينعم بها يوسف وهو الانيس بالحقيقة. اذ طلب الموت المرّ وهو في ذلك الوضع الدنيوي المفرح اللذيذ كي ينال تلك السعادة العظمى هناك.

فتأمل يا أخي في بلاغة القرآن الحكيم هذه، كيف أخبر عن خاتمة قصة يوسف بذلك الخبر الذي لم يثر الالم والأسف لدى السامعين، بل زادهم بشارة وسروراً. فضلاً عن انه يرشد الى الآتي:

اعملوا لما وراء القبر، فان السعادة الحقة واللذة الحقيقية هناك، زد على ذلك بيّن مرتبة الصديقية الرفيعة السامية لسيدنا يوسف (عليه السلام)، اذ يقول:

ان اسطع حالة في الدنيا وأكثرها فرحاً وبهجة وسروراً لم تورثه الغفلة قطعاً ولم تفتره، بل هو دائم الطلب للآخرة.

الباقي هو الباقي

سعيد النورسي
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك

التعديل الأخير تم بواسطة عبدالرزاق ; 02-03-2011 الساعة 11:27 AM
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-03-2011
  #30
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 15
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: المكتوبات

المكتوب الرابع والعشرون

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} يفعل الله ما يشاء{ (ابراهيم:27)

} ويحكم ما يريد{ (المائدة:1)

سـؤال:

ان ما يقتضيه اسم الله ((الرحيم)) من تربية شفيقة، واسم الله ((الحكيم)) من تدبير وفق المصالح، واسم الله (( الودود)) من لطف ومحبة.. كيف تلائم مقتضيات هذه الاسماء الحسنى العظام مع ماهو مرعب وموحش كالموت والعدم والزوال والفراق والمصائب والمشقات؟

ولنسلّم ان ما يراه الانسان في طريق الموت لابأس به وهو خير وحسن حيث سيمضي الى السعادة الابدية. ولكن اية رحمة وشفقة تسع، واية حكمة ومصلحة توجد، واي لطف ورحمة في إفناء هذه الانواع من الاشجار والنباتات اللطيفة والازهار الجميلة والحيوانات المؤهلة للوجود والشغوفة بالحياة والتواقة للبقاء، وباستمرار ودون استثناء واعدامها دون امهال احد منها؟ وفي تسخيرها في المشاق وتغييرها بالمصائب دون السماح لأحد منها بالدعة والراحة؟ وفي اماتتها وزوالها وفراقها بلا توقف، دون ان يسمح لأحد بالمكوث قليلاً ودون رضىً من أحد؟

الجـواب: لكي نحل هذا السؤال نحاول أن ننظر الى هذه الحقيقة العظمى من بعيد، فهي حقيقة واسعة جداً وعميقة جداً ورفيعة جداً، لنرى الحقيقة بوضوح. فنبين الداعي والمقتضى لها في خمسة رموز ونبين الغايات والفوائد منها في خمس اشارات.



المقام الاول

وهو في خمسة رموز

l الرمـز الاول

لقد ذكرنا في خواتيم الكلمة السادسة والعشرين: ان صنّاعاً ماهراً، يكلف رجلاً فقيراً لقاء اجرة يستحقها ، ليقوم له بدور النموذج ((الموديل)) ليخيط لباساً راقياً، فاخراً في اجمل زينة واكثرها بهاءً، اظهاراً لمهارته وصنعته. لذا يفصّل على ذلك الرجل اللباس ويقصه ويقصره ويطوله، ويقعد الرجل وينهضه، ويجعله في اوضاع مختلفة.. فهل يحق لهذا الرجل الفقير ان يقول للصنّاع: لِمَ تبدل هذا اللباس الذي يجمّلني؟ ولِمَ تغيره؟ فتقعدني تارة وتنهضني اخرى فتفسد راحتي؟!

وكذلك الصانع الجليل (وله المثل الاعلى) قد اتخذ ماهية كلِ نوع من الموجودات مقياساً ونموذجاً ((موديلاً)) فألبس كل شئ لباساً مرصعاً بالحواس، ونقش عليه نقوشاً بقلم قضائه وقدره، واظهر جلوات اسمائه الحسنى، ابرازاً لكمال صنعته بنقوش اسمائه. فضلاً عن انه سبحانه يمنح كل موجود ايضاً كمالاً ولذة وفيضاً بمثابة اجرة ملائمة له.

فهل يحق لشئ ان يخاطب ذلك الصانع الجليل الذي هو مالك الملك يتصرف في ملكه كيف يشاء ويقول: ((انك تتعبني وتفسد عليّ راحتي))؟ حاش للّه وكلا!

انه ليس للموجودات حق باية جهة كانت ازاء واجب الوجود، وليس لها ان تدّعي باي حقٍ مهما كان، بل حقها القيام بالشكر الدائم والحمد الدائم، اداءً لحق مراتب الوجود التي منحها اياها.لأن جميع مراتب الوجود الممنوحة للموجود انما هي وقوعات تحتاج الى علّة. بينما مراتب الوجود التي لم تمنح هي امكانات، والامكانات عدمٌ، وهي لاتتناهى، والعدم لايحتاج الى علة، فما لانهاية له لاعلة له.

مثلاً: لايحق للمعادن ان تشكو قائلة ً: لِمَ لم نصبح نباتاتٍ؟ بل حقها أن تشكر فاطرها الجليل على ما انعم عليها من نعمة الوجود كمعادن.

وكذا النبات ليس له حق الشكوى، فليس له أن يقول: لِمَ لم اصبح حيواناً؟ بل حقه الشكر لله الذي وهب له الوجود والحياة معاً . وكذا الحيوان ليس له حق الشكوى ويقول: لِمَ لم اكن انساناً؟ بل عليه حق الشكر لما أنعم الله عليه من الوجود، والحياة وجوهر الروح الراقي.. وهكذا فقس.

ايها الانسان الشاكي! انك لم تبق معدوماً، بل لبست نعمة الوجود. وذقت طعم الحياة. ولم تبق جماداً ولم تصبح حيواناً، فقد وجدت نعمة الاسلام، ولم تبق في غياهب الضلال، وتنعمت بنعمة الصحة والأمان.. وهكذا..

ايها الغارق في الكفران! أفبعد هذا تدعّي حقاً لك على ربك، انك لم تشكر ربك بعدُ على ما أنعم عليك من مراتب الوجود التي هي نعم خالصة. بل تشكو منه جل وعلا لما لم ينعم عليك من نعم غالية من انواع الامكانات وانواع العدم ومما لاتقدر عليه ولاتستحقه ،فتشكو بحرص باطل وتكفر بنعمه سبحانه.

ترى لو أن رجلاً أُصعد على قمة منارة عالية ذات درجات وتسلـَّم في كل درجة منها هدية ثمينة ثم وجد نفسه في قمة المنارة، في مكان رفيع، أيحق له أن لايشكر صاحب تلك النعم ويبكي ويتأفف ويتحسر قائلاً: لـِمَ لم اقدر على صعود ما هو أعلى من هذه المنارة..

ترى كم يكون عمله هذا باطلاً لو تصرف هكذا وكم يسقط في هاوية كفران النعمة! وكم هو في ضلالة مقيتة!. حتى البلهاء يدركون هذا.

ايها الانسان الحريص غير القانع! ويا ايها المسرف غير المقتصد! ويا ايها الشاكي بغير حق! ايها الغافل!

اعلم يقيناً: ان القناعة شكران رابح، بينما الحرص كفران خاسر، والاقتصاد توقير للنعمة جميل ونافع، بينما الاسراف استخفاف بالنعمة مضرّ ومشين.

فان كنت راشداً، عوّد نفسك على القناعة وحاول بلوغ الرضى. وان لم تطق ذلك فقل: ياصبور! وتجمّل بالصبر. وارض بحقك ولاتشكُ. واعلم ممن وإلى مَن تشكو! ألزم الصمت. واذا اردت الشكوى لامحالة فاشكُ نفسك الى الله، فان القصور منها.

l الرمز الثانـي:

لقد ذكرنا في ختام المسألة الاخيرة للمكتوب الثامن عشر أنه:

ان حكمةً من حكم تبديل الخالق الجليل للموجودات دوماً وتجديده لها باستمرار تبديلاً وتجديداً محيّراً مذهلاً بفعالية ربوبيته الجليلة هي ان الفعالية والحركة في المخلوقات نابعة من شهية، من اشتياق، من لذة، من محبة، حتى يصح القول:

ان في كل فعالية نوعاً من اللذة، بل ان كل فعالية هي نوع من اللذة، واللذة كذلك متوجهة الى كمال بل هي نوع من الكمال.

ولما كانت الفعالية تشير الى كمال، الى لذة، الى جمال، وان الواجب الوجود سبحانه الذي هو الكمال المطلق والكامل ذو الجلال، جامع في ذاته وصفاته وافعاله لجميع انواع الكمالات، فلا شك أن لذلك الواجب الوجود سبحانه شفقة مقدسة لاحدّ لها ومحبة منزهة لانهاية لها تليق بوجوب وجوده وقدسيته وتوافق تعاليه الذاتي وغناه المطلق وتناسب كماله المطلق وتنزهه الذاتي ولا شك أن له شوقاً مقدساً لاحدّ له، نابعاً من تلك الشفقة المقدسة، ومن تلك المحبة المنزهة، وان له سروراً مقدساً لاحدّ له نابعاً من ذلك الشوق المقدس، وان له لذة مقدسة لاحدّ لها ـ ان جاز التعبير ـ ناشئة من ذلك السرور المقدس. ولاشك ان له مع تلك اللذة المقدسة رضىً مقدساً لاحدّ له وافتخاراً مقدساً لانهاية له ـ ان جاز التعبير ـ ناشئين من رضىً وامتنان مخلوقاته من انطلاق استعداداتها من القوة الى الفعل، حينما تنطلق وتتكامل بفعالية قدرته ضمن رحمته الواسعة.. فذلك الرضى المقدس المطلق والافتخار المطلق يقتضيان هذه الفعالية المطلقة في صورتها المطلقة. وتلك الفعالية ايضاً تقتضي تبديلاً وتغييراً وتحويلاً وتخريباً لاحدّ لهما وذلك التغيير والتبديل غير المحدودين يقتضيان الموت والعدم والزوال والفراق.

ولقد رأيت ـ في وقت ما ـ ان كل ما تبينه حكمة البشر (فلسفته وعلومه ) من فوائد تخص غايات المصنوعات، تافهة لاقيمة لها، وعلمت حينها ان تلك الحكمة تفضي الى العبثية، ومن هنا فان الفيلسوف الراسخ قدمه في الفلسفة: إما أن يضل في ضلالة الطبيعة، او يكون سوفسطائياً او ينكر الارادة والعلم الالهي، او يطلق على الخالق: ((الموجب بالذات)).

وفي ذلك الوقت بعثت الرحمةُ الإلهية اسم الله((الحكيم)) لإغاثتي، فأظهر لي الغايات الجليلة للمصنوعات، اي أن كل مصنوع مكتوب رباني حكيم بحيث يطالعه جميع ذوي الشعور.

كفتني هذه الغاية مدة سنة من الزمن، ثم انكشفت الخوارق البديعة في الصنعة، فلم تعد تلك الغاية كافية وافية. واُظهرتْ لي غاية اخرى أعظم بكثير من الاولى.

اي أن اهم غاية للمصنوع هي النظر الى صانعه الجليل، اي يعرض المصنوع كمالات صنعة صانعه، ونقوش اسمائه الحسنى ومرصعات حكمته القيمة وهدايا رحمته الواسعة امام نظره سبحانه ويكون مرآة لجماله وكماله جل وعلا. هكذا فهمت هذه الغاية، وكفتني مدة مديدة.

ثم ظهرت معجزات القدرة وشؤون الربوبية في التغيير والتبديل السريع جداً، ضمن فعالية محيرة في ايجاد الاشياء واتقانها، حتى بدت تلك الغاية غير وافية، وعلمت ان لابد من داع ٍ عظيم ومقتضى جليل يعادل هذه الغاية العظمى، وعند ذلك اُظهرت لي المقتضيات الموجودة في الرمز الثاني والغايات المذكورة في الاشارات التي ستأتي.

وأُعلمت يقيناً: أن فعالية القدرة في الكون وسير الاشياء وسيلانها، تحمل من المعاني الغزيرة بحيث يُنطق الصانعُ الحكيم انواعَ الكائنات بتلك الفعالية، حتى كأن حركات السموات والارض وحركات موجوداتها هي كلمات ذلك النطق وان سيرها ودورانها تكلّم ونطق، بمعنى أن الحركات والزوال النابعين من الفعالية ما هي الا كلمات تسبيحية، وان الفعالية الموجودة في الكون هي نطق وإنطاق صامت للكون ولما فيه من انواع.

l الرمز الثالث:

ان الاشياء لاتمضي الى العدم، ولاتصير الى الفناء، بل تمضي من دائرة القدرة الى دائرة العلم، وتدخل من عالم الشهادة الى عالم الغيب، وتتوجه من عالم التغير والفناء الى عالم النور والبقاء، وان الجمال والكمال في الاشياء يعودان الى الاسماء الإلهية والى نقوشها وجلواتها من زاوية نظر الحقيقة.

وحيث ان تلك الاسماء باقية وتجلياتها دائمة، فلاشك أن نقوشها تتجدد وتتجمل وتتبدل، فلا تذهب الى العدم والفناء، بل تتبدل تعيناتها الاعتبارية. اما حقائقها وماهياتها وهوياتها المثالية التي هي مدار الحسن والجمال ومظهر الفيض والكمال فهي باقية فالحسن والجمال في الاشياء التي لاتملك روحاً يعودان الى الاسماء الإلهية مباشرة فالشرف لها والمدح والثناء لها. إذ الحسن حسنها والمحبة توجه اليها. ولايورث تبدل تلك المرايا ضرراً للاسماء.

وان كانت الاشياء من ذوي الارواح ولكن لم تكن من ذوي العقول، فان فراقها وزوالها ليس فناءً ولاعدماً بل ينجو الشئ الحي من وجود جسماني ومن اضطرابات وظائف الحياة، مودعاً ثمرات وظائفه التي كسبها الى روحه الباقية. فارواح هذه الاشياء تستند ايضاً الى اسماء الهية حسنى. فتدوم وتستمر، وتمضي الى سعادة ملائمة لها.

اما ان كان اولئك الاحياء من ذوي العقول، فانهم اصلاً يمضون الى سعادة ابدية والى عالم البقاء المؤسس على كمالات مادية ومعنوية.

لذا فان فراقهم وزوالهم ليس موتاً وعدماً ولازوالاً وفراقاً حقاً، بل هو وصال مع الكمالات وهو سياحة ممتعة الى عوالم نورانية للصانع الحكيم، عوالم اجمل من الدنيا وازهى منها كعالم البرزخ وعالم المثال وعالم الارواح والى ممالكه الاخرى من منازله سبحانه وتعالى.

حاصل الكلام: ان الله موجود وباق، وان صفاته سرمدية واسماءه دائمة، اذاً لابد أن تجليات تلك الاسماء ونقوشها تتجدد في بقاء معنوي فليس تخريباً ولافناءً ولا اعداماً وزوالاً. اذ من المعلوم ان الانسان ذو علاقة ـ من حيث الانسانية ـ مع اكثر الموجودات، فيتلذذ بسعادتها ويتألم بمصائبها، ولاسيما مع ذوي الحياة، وبخاصة مع الانسان وبالاخص مع من يحبهم ويعجب بهم ويحترمهم من اهل الكمال، فهو اشد تألماً بآلامهم واكثر سعادة بسعادتهم حتى يضحي بسعادته في سبيل اسعادهم كتضحية الوالدة الشفيقة بسعادتها وراحتها من اجل ولدها.

فكل مؤمن يستطيع ان يكون بنور القرآن والايمان سعيداً بسعادة جميع الموجودات وبقائها ونجاتها من العدم وصيرورتها مكاتيب ربانية ويغنم نوراً عظيماً بعظم الدنيا. فكلٌ يستفيد من هذا النور حسب درجته.

اما ان كان من اهل الضلال، فانه يتألم علاوة على آلامه بهلاك الموجودات وبفنائها وباعدامها الظاهري وبآلام ذوي الارواح منها. اي أن كفره يملأ دنياه بالعدم ويفرغها على رأسه، فيمضي الى جهنم (معنوية) قبل أن يساق الى جهنم (في الآخرة).

l الرمز الرابع:

مثلما ذكر في مواضع عدة:ان للسلطان دوائر مختلفة ناشئة من عناوينه المتنوعة، فله اسم السلطان، الخليفة، الحاكم، القائد، وامثالها من العناوين والصفات.

(ولله المثل الاعلى ) فان للاسماء الحسنى تجليات متنوعة لاتحد، فتنوع المخلوقات ناشئ عن تنوع تلك التجليات، وحيث أن صاحب كل جمال وكل كمال يرغب في مشاهدة جماله وكماله واشهادهما. فان تلك الاسماء المختلفة ـ لكونها دائمية وسرمدية ـ تقتضي ظهوراً دائمياً سرمدياً أي تقتضي رؤية نقوشها. اي تقتضي رؤية واراءة جلوة جمالها وانعكاس كمالها في مرايا نقوشها. اي تقتضي تجديد كتاب الكون الكبير، آناً فآناً. اي كتابتها كتابة مجددة ذات مغزى. اي تقتضي كتابة الوف من الرسائل المتنوعة في صحيفة واحدة، واظهار كل رسالة لنظر شهود الذات المقدسة والمسمى الاقدس مع عرضها على مطالعة انظار ذوي الشعور واستقرائهم. تأمل في هذا الشعر الذي يشير الى هذه الحقيقة:

صحائف كتاب العالم.. هذه الانواع غير المعدودة

حروفه وكلماته.. هذه الافراد غير المحدودة

لقد سُطّر في لوح الحقيقة المحفوظ:

ان كل موجود في العالم لفظ بليغ مجسم

تأمل سطور الكائنات فانها من الملأ الاعلى اليك رسائل

l lلرمز الخامس: عبارة عن نكتتين

النكتة الاولى:

ان الله موجود، فكل شئ موجود اذاً، وحيث أن هناك انتساباً للواجب الوجود، فكل الاشياء اذاً موجودة لكل شئ لأن كل موجود بانتسابه الى واجب الوجود يرتبط بجميع الموجودات، بسر الوحدة بمعنى ان كل موجود يعرف انتسابه الى واجب الوجود او يُعرف انتسابه اليه تعالى، فهو ذو علاقة مع جميع الموجودات المنتسبة الى واجب الوجود، وذلك بسر الوحدة. اي ان كل شئ من نقطة الانتساب ينال انوار وجودٍ غير محدودة بحدود، فلا فراق ولازوال اذاً في تلك النقطة.. لذا يكون العيش في آن سيال واحد مبعث انوار وجود غير محدود. بينما ان لم يكن ذلك الانتساب، ولم يُعرف، فان كل شئ ينال مالايحد من انواع الفراق وصنوف الزوال وانماط العدم، لان الشئ في تلك الحالة له فراق وافتراق وزوال تجاه كل موجود يمكن أن يرتبط به. اي تحمل على وجوده الشخصي انواعاً لاتحد من العدم وصنوفاً لاتحصى من الفراق، فلو ظل في الوجود مليوناً من السنين دون انتساب لما عَدلَ قطعاً آناً من العيش مع الانتساب الذي كان فيه.

ولهذا قال اهل الحقيقة: ان آناً سيالاً من وجود منور يفضل على مليون سنة من وجود أبتر. اي ان آناً من وجود منتسب الى الواجب الوجود مرجّح على مليون سنة من وجود لاانتساب فيه. ولأجل هذا قال اهل التحقيق: ان انوار الوجود هي معرفة واجب الوجود. اي ان الكائنات في تلك الحالة وهي تنعم بانوار الوجود، تكون مملوءة بالملائكة والروحانيات وذوي الشعور. وبخلاف ذلك، اي ان لم تكن هناك معرفة واجب الوجود، فان ظلمات العدم وآلام الفراق واوجاع الزوال تحيط بكل موجود، فالدنيا تكون موحشة خاوية في نظر ذلك الشخص.

نعم، كما ان لكل ثمرة من ثمار شجرة، علاقة مع كل الثمرات التي على تلك الشجرة وتكوّن نوعاً من رابطة الاخوة والصداقة والعلاقات المتينة فيما بينها.. فلها اذن وجودات عرضية بعدد تلك الثمرات.

ولكن متى ما قطفت تلك الثمرة من الشجرة، فان فراقاً وزوالاً يحصلان تجاه كل ثمرة من الثمرات. وتصبح الثمرات بالنسبة للمقطوفة في حكم المعدوم، فيعمها الظلام، ظلام عدم خارجي.

وكذلك فان كل شئ له الاشياء كلها، من نقطة الانتساب الى قدرة الأحد الصمد. وان لم يكن هناك انتساب فان انواعاً من العدم الخارجي بعدد الاشياء كلها تصيب كل شئ.

فانظر من خلال هذا الرمز الى عظمة انوار الايمان، وشاهد الظلمة المخيفة المحيطة بالوجود في الضلال.

فالايمان اذاً هو عنوان الحقيقة السامية التي بينت في هذا الرمز، ولايمكن الاستفادة من تلك الحقيقة الاّ بالايمان، اذ كما ان كل شئ معدوم للاعمى والاصم والابكم والمجنون، كذلك كل شئ معدوم مظلم بانعدام الايمان.

النكتة الثانية:

ان للدنيا وللاشياء ثلاثة وجوه:

الوجه الاول:

ينظر الى الاسماء الإلهية الحسنى، فهو مرآة لها، ولايمكن أن يعرض الزوال والفراق على هذا الوجه، بل فيه التجدد.

الوجه الثاني:

ينظر الى الآخرة، ويرنو الى عالم البقاء، وهو في حكم مزرعتها. ففي هذا الوجه تنضج ثمرات باقيات. فهذا الوجه يخدم البقاء، لأنه يحوّل الفانيات الى حكم الباقيات، وفيه جلوات الحياة والبقاء لا الموت والزوال.

الوجه الثالث:

ينظر الى الفانين، اي ينظر الينا نحن، فهو وجه يعشقه الفانون واهل الهوى، وهو موضع تجارة اهل الشعور، وميدان امتحان الموظفين المأمورين. وهكذا ففي حقيقة هذا الوجه الثالث جلوات اللقاء والحياة تكون مرهماً على جراحات آلام الفناء والزوال والموت والعدم في هذا الوجه للدنيا.

حاصل الكلام:

ان هذه الموجودات السيالة، وهذه المخلوقات السيارة، ما هي الاّ مرايا متحركة، ومظاهر متبدلة لتجديد انوار ايجاد الواجب الوجود .





























المقام الثاني

عبارة عن مقدمة وخمس اشارات

والمقدمة عبارة عن مبحثين:

المقدمة

l المبحث الاول:

ستكتب في هذه الاشارات الخمس الآتية تمثيلات، بمثابة مراصد ومناظير صغيرة وخافتة، لرصد حقيقة شؤون الربوبية، فهذه التمثيلات لاتستوعب قطعاً حقيقة الربوبية، ولايمكن ان تحيط بها، ولا ان تكون مقياساً لها، الاّ انها تمكّن المرء من ان ينظر الى تلك الشؤون البديعة من خلالها.ثم ان التعابير التي لاتناسب شؤون الذات الجليلة في التمثيلات الآتية وفي الرموز السابقة انما هي من قصور التمثيل نفسه. فمثلاً: ان المعاني المعروفة لدينا للـّذة والسرور والرضى والامتنان لايمكن ان تعبّر عن الشؤون المقدسة لله سبحانه، ولكنها مجرد عناوين ملاحظة ليس الاّ، ومراصد تفكر فحسب.

ثم ان هذه التمثيلات تثبت حقيقة قانون رباني عظيم حول شؤون الربوبية باظهارها جزءاً وطرفاً من ذلك القانون في مثال صغير.

فمثلاً؛ لقد ذكر ان الزهرة ترحل من الوجود، الاّ انها تترك الآفاً من انواع الوجود، ثم ترحل. وبهذا المثال يُبيّن قانون عظيم للربوبية حيث يجري هذا القانون في الربيع كله كما يجري في جميع موجودات الدنيا.

نعم، ان الخالق الرحيم، بأي قانون يبدّل لباس طائر وريشه، ويجدّده، يبدل ذلك الصانع الحكيم بالقانون نفسه لباس الكرة الارضية كل سنة، ويبدل بالقانون نفسه صورة الكون قاطبة عند قيام الساعة ويغيرها..وكذا بأي قانون يحرك سبحانه الذرة كالمريد المولوي يدورحول نفسه وحول حلقة الذكر فانه يحرك بالقانون نفسه الكرة الارضية كانجذاب المريد المولوي بالذكر، بل يحرك العوالم بالقانون نفسه، ويسيّر المنظومة الشمسية به.. وكذا بأي قانون يجدد سبحانه ذرات خلايا جسمك ويحللها ويعمّرها، فانه يجدّد بالقانون نفسه، في كل سنة، في كل موسم بستانك مرات ومرات ويجدد بالقانون نفسه سطح الارض في كل ربيع ويبسط بساطاً جديداً.. وكذا، بأي قانون حكيم يحي الصانع القدير ذبابة، فانه سبحانه يحيي بالقانون نفسه شجرة الدلب الضخمة هنا ـ وهي امامنا ـ في كل ربيع، ويحيي الارض بالقانون نفسه في الربيع، ويحيي المخلوقات قاطبة بالقانون نفسه يوم الحشر الاعظم.

ويشير القرآن الحكيم الى هذا بقوله تعالى: } ما خَلقُكم ولابَعثُكم الاّ كنفسٍ واحدة{ (لقمان: 28).. وهكذا فقس.

فهناك قوانين ربوبية كثيرة جداً امثال هذه تجري من الذرة الى مجموع العالم. فتأمل في عظمة هذه القوانين التي تتضمنها فعالية الربوبية وتدبّر في سعتها وشاهد سرّ الوحدة فيها. واعلم ان كل قانون برهان توحيد بذاته.

نعم! ان كل قانون من هذه القوانين الكثيرة والعظيمة جداً، لكونه قانوناً واحداً ومحيطاً بالوجود في الوقت نفسه فانه يثبت وحدانية الصانع الجليل وعلمه وارادته اثباتاً قاطعاً فضلاً عن انه تجلٍ من تجليات العلم والارادة.

وهكذا فالتمثيلات الواردة في اغلب مباحث (الكلمات) تبين طرفاً وجزءاً من مثل هذه القوانين في مثال جزئي، فهي اذاً تشير الى وجود ذلك القانون نفسه في المدعي. فمادام التمثيل يبيّن تحقق القانون فهو اذاً يثبت المدعي كالبرهان المنطقي. بمعنى ان معظم التمثيلات الموجودة في (الكلمات) كلٌ منها في حكم برهان يقيني، وحجة قاطعة.

l المبحث الثاني:

لقد ذكر في الحقيقة العاشرة من الكلمة العاشرة: ان لكل ثمرة ولكل زهرة غايات ٍ وحكماً بقدر ثمرات الشجرة وازاهيرها. وتلك الحكم على ثلاثة أقسام:

قسم منها متوجه الى الصانع الجليل؛ يبين نقوش اسمائه.

وقسم آخر يتوجه الى ذوي الشعور، فالموجودات في نظرهم رسائل قيّمة وكلمات بليغة ذات مغزى.

وقسم آخر يتوجه الى الشئ نفسه، والى حياته والى بقائه، وله حِكمٌ حسب منافع الانسان، ان كان مفيداً للانسان.

فعندما كنت أتأمل وجود هذه الغايات الكثيرة لكل موجود. وردت هذه الفقرات باللغة العربية الى خاطري، دوّنتها على صورة ملاحظات على أسس تلك الاشارات الخمس الآتية:

[وهذه الموجودات الجليلة، مظاهر سيالة، ومرايا جوّالة، لتجدّد تجليات انوار ايجاده سبحانه بتبدّل التعيّنات الاعتبارية

اولاً: مع استحفاظ المعاني الجميلة والهويات المثالية.

وثانياً: مع انتاج الحقائق الغيبية والنسوج اللوحية.

وثالثاً: مع نشر الثمرات الأخروية والمناظر السرمدية.

ورابعاً: مع اعلان التسبيحات الربانية واظهار المقتضيات الاسمائية.

وخامساً: لظهور الشؤونات السبحانية والمشاهد العلمية].

ففي هذه الفقرات الخمس اسس الاشارات الآتية التي سنبحثها:

نعم! ان لكل موجود، ولاسيما من ذوي الحياة، خمس طبقات مختلفة من الحكم والغايات المختلفة.

فكما ان شجرة مثمرة، تثمر أغصانها التي يعلو بعضها على بعض، كذلك كل كائن حي له غايات وحكم مختلفة في خمس طبقات.

ايها الانسان الفاني! ان كنت تريد تحويل حقيقتك التي هي كنواة جزئية الى شجرة باقية مثمرة، وتحصل على الطبقات العشر من الثمرات المشار اليها في خمس اشارات وعشرة انواع من الغايات. اغتنم الايمان الحقيقي والاّ تحرم من جميع تلك الغايات والثمرات فضلاً عن انك تضمر وتفسد داخل تلك النواة الصغيرة.

` الاشارة الاولى:

[اولاً: بتبدل التعينات الاعتبارية مع استحفاظ المعاني الجميلة والهويات المثالية].

هذه الفقرة تفيد: ان كل موجود، بعد ذهابه من الوجود، يذهب الى العدم والفناء ظاهراً. ولكن تبقى المعاني التي كان قد أفادها وعبّر عنها وتحفظ، وتبقى كذلك هويته

المثالية وصورته وماهيته، في عالم المثال، وفي الالواح المحفوظة التي هي نماذج عالم المثال، وفي القوى الحافظة (الذاكرة) التي هي نماذج الالواح المحفوظة.

بمعنى أن الموجود يفقد وجوداً ظاهرياً صورياً، ويكسب مئات من الوجود المعنوي والعلمي.

مثلاً: تعطى للحروف المطبعية ترتيباً معيناً ووضعاً خاصاً كي تطبع بها صحيفة معينة، فصورة تلك الصحيفة الواحدة وهويتها تعطى الى صحائف مطبوعة متعددة، وتنشر معاني مافيها الى عقول كثيرة، وبعد ذلك تتبدل اوضاع تلك الحروف وتُغير، لانتفاء الحاجة اليها، وللحاجة الى تنضيد صحائف اخرى بتلك الحروف.

وهكذا، فان قلم القدر الالهي يعطي هذه الموجودات الارضية، ولاسيما النباتية منها، ترتيباً معيناً ووضعاً معيناً، والقدرة الالهية توجدها في صحيفة موسم الربيع، فتعبّر عن معانيها الجميلة. وحيث ان صورها وهوياتها تنقل الى سجل عالم الغيب، كعالم المثال، فان الحكمة تقتضي ان يتبدل ذلك الوضع، كي تكتب صحيفة جديدة للربيع المقبل لتعبّر عن معانيها كذلك.

` الاشارة الثانية:

[وثانياً: مع انتاج الحقائق الغيبية والنسوج اللوحية].

هذه الفقرة تشير الى ان كل شئ، سواء أكان جزئياً أم كلياً، بعد ذهابه من الوجود (ولاسيما ان كان ذا حياة) ينتج حقائق غيبية كثيرة فضلاً عن انه يدع صوراً بعدد أطوار حياته في الالواح المثالية، التي هي في سجلات عالم المثال، فيُكتب تاريخ حياته ذا المغزى من تلك الصور والذي يسمى بالمقدرات الحياتية، ويكون في الوقت نفسه موضع مطالعة الروحانيات، بعد ذهابه من الوجود.

مثال ذلك: ان زهرة ما تذبل ثم ترحل من الوجود، الاّ انها تترك مئات من البذيرات في الوجود وتدع ماهيتها في تلك البذيرات، فضلاً عن انها تترك ألوفاً من صورها في الواح محفوظة صغيرة، وفي القوى الحافظة التي هي نماذج مصغرة للألواح المحفوظة، فتستقرئ ذوي الشعور التسبيحات الربانية ونقوش الاسماء الحسنى التي أدتها في اطوار حياتها. ومن بعد ذلك ترحل عن الوجود.

وهكذا فان موسم الربيع المزدان بالمصنوعات الجميلة على سطح الأرض الشبيه بمزهرة عظيمة، انما هو زهرة ناضرة تزول في الظاهر، وتذهب الى العدم. بيد انه ـ اي الربيع ـ يترك الحقائق الغيبية التي أفادها بعدد بذوره، ويترك الهويات المثالية التي نشرها بعدد الأزاهير، ويدع الحكم الربانية التي أظهرها بعدد الموجودات.

فيترك الربيع كل انواع الوجود هذه، ثم يغيب عن أنظارنا، زد على ذلك فانه يُفرغ المكان لأقرانه من جموع الربيع التي ستأتي الى الوجود لتؤدي وظائفها.

بمعنى ان ذلك الربيع ينزع عنه وجوداً ظاهرياً ويلبس ألفاً من الوجود معنىً.

` الاشارة الثالثة:

[وثالثاً: مع نشر الثمرات الأخروية والمناظر السرمدية].

هذه الفقرة تفيد: ان الدنيا مزرعة ومعمل ينتج المحاصيل التي تناسب سوق الآخرة.

اذكما ان اعمال الجن والانس ترسل الى سوق الآخرة، كذلك تؤدي بقية الموجودات في الدنيا أعمالاً كثيرة ايضاً في سبيل الآخرة وتنشئ محاصيل وفيرة لها، بل تجري كرة الارض لاجل تلك الاعمال، بل يصح القول:

ان هذه السفينة الربانية تقطع مسافة أربعة وعشرين ألف سنة في سنة واحدة، لتدور حول ميدان الحشر. كما اثبتنا في كلمات كثيرة.

مثلاً: لاشك ان اهل الجنة يرغبون ان يتذاكروا خواطرهم في الدنيا، ويتحاوروا فيما بينهم حول ذكرياتها، وربما يتلهفون لرؤية ألواح (مشاهد) تلك الذكريات والحوادث ومناظرها، اذ يستمتعون كثيراً بمشاهدة تلك الحوادث وتلك الالواح كمن يستمتع بمشاهدة المناظر على شاشة السينما.

فما دام الامر هكذا فالجنة التي هي دار اللذة ومنزل السعادة توجد فيها لامحالة المناظر السرمدية لمحاورات الاحداث الدنيوية ومنـــاظر احداثها. كما تشــير الى ذلك الآيـة الكريمة: } على سررٍ متقابلين{ (الحجر:47).

وهكذا، فان فناء هذه الموجودات الجميلة، بعد ظهورها في آن واحد، وتعاقب بعضها بعضاً يبيّن كأنما هي آلات معمل لتشكيل المناظر السرمدية.

مثال: ان اهل المدنية يلتقطون صور الاوضاع الغريبة والجميلة ويهدونها الى ابناء المستقبل تذكاراً لهم، كما هو على شاشة السينما. فيمنحون نوعاً من البقاء لأوضاع فانية، ويدرجون الزمان الماضي ويظهرونه في الزمان الحالي وفي المستقبل.

كذلك هذه الموجودات الربيعية والدنيوية عامة، بعد قضاء حياة قصيرة، كما يدوّن صانعُها الحكيم غاياتها التي تخص عالم البقاء في ذلك العالم، كذلك يسجل الوظائف الحياتية والمعجزات السبحانية التي ادّوها في اطوار حياتها، في مناظر سرمدية، وذلك بمقتضى اسماللهالحكيم والرحيم والودود.

` الاشارة الرابعة:

[ورابعاً: مع اعلان التسبيحات الربانية واظهار المقتضيات الاسمائية].

هذه الفقرة تفيد: ان الموجودات تؤدي أنواعاً من التسبيحات الربانية في أطوار حياتها، وتظهر ما تستلزمه الاسماء الإلهية وتقتضيها من حالات.

مثلاً: يقتضي اسم الرحيم الاشفاق، ويقتضي اسم الرزاق اعطاء الرزق، ويستلزم اسم اللطيف التلطيف.. وهكذا. فكل اسم من الاسماء الالهية له مقتضى. وكل ذي حياة يبين مقتضى تلك الاسماء، بحياته ووجوده، وهو في الوقت نفسه يسبّح لله الحكيم بعدد أجهزته.

مثلاً: اذا أكل الانسان فواكه طيبة، فانها تتجزأ وتتلاشى في معدته وتهضم وتمحى ظاهراً، الاّ انها تعطى كل خلية من خلايا جسمه، لذة وذوقاً ضمن فعالية، فضلاً عن الفم والمعدة، ويكون مدار حِكَم كثيرة جداً كإنماء الحياة في اقطار الجسم وادامتها، والطعام نفسه يرقى من الوجود النباتي الى مرتبة حياة الانسان.

كذلك عندما تختفي الموجودات وراء ستار الزوال تظل بدلاً عنها تسبيحات باقية كثيرة جداً لكل موجود من الموجودات وتودع نقوش كثير من الاسماء الإلهية ومقتضياتها في يد تلك الاسماء، اي تودعها الى وجودٍ باق. وهكذا تمضي وترحل. تُرى لو بقيت ألوف من انواع الوجود ـ التي نالت نوعاً من البقاء ـ بديلاً عن ذهاب وجود موقت فانٍ، أيمكن أن يُقال: ياحسرة على ذلك الوجود الموقت! او أنه مضى الى عبث! او لِمَ رحل هذا المخلوق اللطيف؟ ! أفيمكن ان يُشتكى على هذه الصورة؟.

بل ان الرحمة والحكمة والمحبة في حق ذلك المخلوق تقتضي هكذا، بل هو هكذا. والاّ يلزم ترك ألوف المنافع للحيلولة دون حدوث ضرر واحد. وعندئذٍ تحدث ألوف الاضرار!.

بمعنى ان الاسماء الحسنى: الرحيم، الحكيم، الودود تستلزم مضي الموجودات وراء استار الزوال والفراق وتقتضيهما ولاتعارضهما.

` الاشارة الخامسة:

[وخامساً: لظهور الشؤونات السبحانية والمشاهد العلمية]

تفيد هذه الفقرة: ان الموجودات ـ ولاسيما الاحياء منها ـ بعد ارتحالها من وجودها الظاهري تترك كثيراً من الامور الباقية ثم تمضي الى شأنها.

وقد بينا في الرمز الثاني:

ان في شؤون الربوبية محبة مطلقة وشفقة مطلقة وافتخاراً مطلقاً ـ ان جاز التعبير ـ ورضى مقدساً مطلقاً وسروراً مقدساً مطلقاً ـ ان جاز التعبير ـ ولذة مقدسة مطلقة وفرحاً منزهاً مطلقاً بما يليق بذاته الجليلة المقدسة ويوافق تعاليه وتنزهه وتقدسه سبحانه، اذ تُشاهد آثار تلك الشؤون المنزهة، لان ما تقتضيه تلك الشؤون هوسوق الموجودات بسرعة في فعالية محيّرة، ضمن تبديل وتغيير وزوال وفناء، فترسل ـ الموجودات ـ باستمرار من عالم الشهادة الى عالم الغيب. فالمخلوقات ضمن تجليات تلك الشؤون الربانية في سير وسياحة دائمين، في حركة وجولان مستمرين. فهي بهذه السياحة والحركة الدائمتين تملأ آذان اهل الغفلة بنعيات الفراق والزوال، وتشنف اسماع اهل الايمان بنغمات الذكر والتسبيح.

وبناءً على هذا السرّ، فما من موجود يرحل عن الوجود الاّ ويترك في الوجود من المعاني والكيفيات والحالات ما يكون مداراً باقياً لظهور شؤون باقية لواجب الوجود سبحانه.

ثم ان ما قضاه ذلك الموجود من اطوار واحوال، يتركه عندما يرحل وجوداً مفصلاً ـ يمثل وجوده الخارجي ـ في دوائر الوجود العلمي من امثال الإمام المبين والكتاب المبين واللوح المحفوظ، تلك الدوائر التي هي عناوين العلم الازلي.

فكل فانٍ اذاً يترك وجوداً ويكسب لنفسه ولغيره ألوفاً من انواع الوجود.

مثلاً: تلقى مواد اعتيادية الى ماكنة مصنع عظيم، فتحترق تلك المواد وتمحى ظاهراً، ولكن تترسب مواد كيمياوية ثمينة وادوية مهمة في انابيق ذلك المصنع، فضلاً عن قيام قوة بخارها بتحريك دواليب ذلك المعمل مما يؤدي الى نسج الاقمشة من جهة وطبع الكتب من جهة اخرى وانتاج السكر من جهة اخرى مثلاً.

بمعنى؛ ان في احتراق تلك المواد الاعتيادية وفنائها الظاهري تجدألوف الاشياء الوجود.

بمعنى؛ يذهب وجود اعتيادي ويفنى، ولكن يورث انواعاً من وجود رفيع.

فهل يقال في مثل هذه الحالة: ياخسارة على تلك المواد الاعتيادية؟ أفيُشكى هكذا؟ أيُقال: لِمَ لم يرأف صاحب المصنع بحال تلك المواد وحرقها ومحاها؟

(ولله المثل الاعلى) ان الخالق الحكيم والرحيم والودود، يُشغل مصنع الكائنات جاعلاً من كل وجود فانٍ نواة لانواع من الوجود الباقي، ومداراً لاظهار مقاصده الربانية مظهراً به شؤونه السبحانية متخذاً اياه مداداً لقلم قدره، ومكوكاً لنسج قدرته، وذلك بمقتضى الرحمة والحكمة والودودية. فيدفع سبحانه بفعالية قدرته الكائنات لتؤدي مهامها وفعالياتها لاجل كثير مما لانعرفه من عنايات غالية ومقاصد عالية. فتسوق تلك الفعالية الموجودات كلها حتى تجعل الذرات تجول جولاناً، والموجودات تسير سيراناً، والحيوانات تسيل سيلاناً، والسيارات تدور دوراناً. فتجعل الكون يتكلم وينطق ويتلو آيات خالقه بصمت ويستكتبها.

ومن حيث الربوبية قد جعل سبحانه المخلوقات الارضية عروشاً له؛ اذ جعل الهواء نوعاً من عرش لأمره وارادته، وعنصر النور عرشاً آخر لعلمه وحكمته، والماء عرشاً آخر لاحسانه ورحمته، والتراب نوعاً من عرش لحفظه وإحيائه. ويسيّر ثلاثة من تلك العروش فوق المخلوقات الارضية.

فاعلم علماً قاطعاً! ان الحقيقة السامية التي بينت في هذه الرموز الخمسة والاشارات الخمس انما تشاهد بنور القرآن ولاتمتلك الاّ بقوة الايمان، والاّ ستعم ظلمات مرعبة بدلاً من تلك الحقيقة الباقية، وتمتلىء الدنيا لاهل الضلالة بألوان الفراق واصناف الزوال وتطفح بانواع العدم ويصبح الكون بالنسبة له جحيماً معنوياً لايطاق، اذ يحيط بوجود آني بالنسبة له ما لايحدمن العدم كلَّ شئ ، فالماضي والمستقبل جميعاً مملوءان بظلمات العدم. فلايجد الضال الاّ نوراً كئيباً حزيناً في حاله الحاضرة وهي زمان قصير جداً.

ولكن ما ان يأتي سر القرآن ونور الايمان اذا بنور وجود يشاهد من الأزل الى الابد فيتعلق به ويحقق به سعادته الابدية.



خلاصة الكلام:

نقول كما قال (نيازي المصري)(1):

(( لو كان النفَس بحراً زاخراً

وتقطع هذا الصدر إرباً إرباً

اناجي الى ان يبح هذا الصوت))

واقول:

ياحق ياموجود ياحي يامعبود

ياحكيم يامقصود يارحيم ياودود

واقول صارخاً:

لاإله الاّ الله الملك الحق المبين محمد رسول الله صادق الوعد الامين.

واعتقد جازماً واثبت:

ان البعث بعد الموت حقٌ والجنة حَقٌ والنار حَقٌ.. وان السعادة الأبدية حقٌ وان الله رحيم حكيم ودود. وان الرحمة والحكمة والمحبة محيطة بجميع الاشياء وشؤونها.

} وقالوا الحمد لله الذي هدينا لهذا وما كنا لنهتدي لولا ان هدينا الله لقد جاءت رُسُلُ ربنا بالحق{ .

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيمِ{

} ربنا لاتؤاخذنا إن نسينا او أخطأنا{

اللهم صَلّ على سيدنا محمد صلاة تكون لك رضاءً ولحقّه اداءً وعلى آله وصحبه وسلم.



آمين.والحمد لله رب العالمين

سبحان من جعل حديقة ارضه مشهر صنعته.. مَحشر خلقتِهِ.. مظهر قدرتهِ.. مدار حكمته.. مَزهرَ رحمته.. مزرع جنتهِ.. ممرّ المخلوقات.. مسيل الموجودات.. مكيل المصنوعات.

فمزيّنُ الحيوانات، منقّشُ الطيورات..مُثمّرُ الشجرات، مُزَهّرُ النباتات..

معجزاتُ علمه.. خوارقُ صُنعه.. هدايا جُوده.. براهين لطفه..

دلائلُ الوحدة.. لطائف الحكمة.. شواهد الرحمة.

تبسُّم الازهار، من زينة الاثمار،

تسجّعُ الاطيار، في نسمة الاسحار،

تهزّجُ الامطار، على خدود الازهار ،

تزيّنُ الازهار، تبرّجُ الاثمار.. في هذه الجِنان،

ترحّمُ الوالدات على الاطفال الصغار في كل الحيوانات والانسان:

تعرُّفُ ودودٍ

توَدُّدُ رحمن

ترحُّمُ حنّانٍ

تحنــَّنِ مـَنـّانٍ.. للجنِ والانسان، والروح والحيوان والملَكِ والجَان.

الذيل الأول

} قُلْ مَا يَعْبَؤا بِكُمْ رَبّي لوْلا دُعَآؤُكْم{ (الفرفان: 77)

` النكتة الاولى:

اعلم ان الدعاء سر عظيم للعبادة، بل هو مخ العبادة وروحها، والدعاء ـ مثلما ذكرناه في مواضع اخرى كثيرة ـ على انواع ثلاثة.

l النوع الاول من الدعاء:

هو دعاء بلسان الاستعداد والقابلية المودعة في الشئ. فالحبوب والنويات جميعها تسأل فاطرها الحكيم بلسان استعدادها وقابلياتها المودعة فيها قائلة: اللّهم يا خالقنا هئ لنا نمواً نتمكن به من ابراز بدائع اسمائك الحسنى، فنعرضها امام الانظار.. فحوّل اللّهم حقيقتنا الصغيرة الى حقيقة عظيمة.. تلك هي حقيقة الشجرة والسنبل.

وثمة دعاء من هذا النوع ـ اي بلسان الاستعداد ـ هو اجتماع الاسباب. فاجتماع الاسباب دعاء لايجاد المسبب، اي ان الاسباب تتخذ وضعاً معيناً وحالة خاصة بحيث تكون كلسان حال يطلب المسبب من القدير ذي الجلال، فالبذور ــ مثلا ــ تسأل بارءها القدير ان تكون شجرة، وذلك بلسان استعدادها فيتخذ كلٌ من الماء والحرارة والتراب والضوء حالة معينة حول البذرة حتى تكون تلك الحالة كأنها لسان ينطق بالدعاء قائلاً : اللّهم يا خالقنا اجعل هذه البذرة شجرة.

نعم، ان الشجرة التي هي معجزة قدرة الهية خارقة لا يمكن بحال من الاحوال ان يُفوض امرها ويسند خلقها الى تلك المواد البسيطة الجامدة الفاقدة للشعور، بل محال احالتها الى تلك الاسباب.. فاجتماع الاسباب اذاً انما هو نوع من الدعاء.

l النوع الثاني من الدعاء:

هو الدعاء الذي يُسأل بلسان حاجة الفطرة، فالكائنات الحية جميعها تطلب مطاليبها وتسأل حاجاتها ـ الخارجة عن طوقها واختيارها ـ من خالقها الرحيم وتُستجاب لها مطاليبها وحاجاتها في انسب وقت ومن حيث لا تحتسب، اذ ان ايديها قاصرة عن ان تصل الى ما تريد أو دفع حاجة لها، فارسال كل ما تطلبه اذن مما هو خارج عن طوقها واختيارها وفي انسب وقت ومن حيث لا تحتسب انما هو من قبل حكيم رحيم. واغداق هذا الاحسان والانعام ما هو الا استجابة لدعاء فطري.

نحصل من هذا: ان هذا النوع من الدعاء الفطري تنطلق به ألسنة حاجة الفطرة لجميع الكائنات فتسأل الخالق القدير مطاليبها، والتي هي من قبيل الاسباب تسأل القدير العليم المسببات.

l النوع الثالث من الدعاء:

هو الدعاء الذي يسأله ذوو الشعور لتلبية حاجاتهم. وهذا الدعاء نوعان ايضاً:

فالقسم الاول: مستجاب على الاغلب ان كان قد بلغ درجة الاضطرار، أو كان ذا علاقة قوية مع حاجة الفطرة وموافقة معها، أو كان قريباً من لسان الاستعداد والقابلية، أو كان خالصاً صافياً نابعاً من صميم القلب.

ان ما احرزه الانسان من رقي، وما نال من كشوفات ما هو الا نتيجة هذا النوع من الدعاء، اذ ما يطلقون عليه من خوارق الحضارة والامور التي يحسبونها مدار افتخار اكتشافاتهم ما هو الا ثمرة هذا الدعاء المعنوي الذي سألته البشرية بلسان استعداد خالص فأستجيب لها. فما من دعاء يُسأل بلسان الاستعداد وبلسان حاجة الفطرة الا استجيب ان لم يكن هناك مانع، وكان ضمن شرائطه المعينة.

أما القسم الثاني: فهو الدعاء المعروف لدينا. وهذا ايضاً فرعان:

احدهما فعلي والآخر قولي.

فمثلاً: حرث الارض نوع من دعاء فعلي، يطلب الانسان الرزق من رزاقه الحكيم، يطلبه منه لا من التراب، فالتراب باب لخزينة رحمته الواسعة ليس الا، يطرقه الانسان بالمحراث.

سنطوى تفاصيل الاقسام الاخرى ونذكر بضعة اسرار للدعاء "القولي" وذلك في بضع نكات آتية:

` النكتة الثانية

اعلم ان تأثير الدعاء عظيم، ولا سيما اذا دام واكتسب الكلية، فهذا الدعاء يثمر على الاغلب ويستجاب دائماً. حتى يصح ان يقال: ان سبب خلق العالم انما هو دعاء، حيث ان الدعاء العظيم للرسول الاعظم e وهو يتقدم العالم الاسلامي الذي يدعو الدعاء نفسه، وهم يتقدمون البشرية جمعاء التي تسأل الدعاء نفسه.. ذلك الدعاء هو: السعادة الابدية، وهو سبب من اسباب خلق العالم. اي أن رب العالمين قد علم بعلمه الازلي ان ذلك الرسول الكريم e سيسأله السعادة الابدية والحظوة بتجل من تجليات اسمائه الحسنى، سيسأله باسم البشرية قاطبة بل باسم الموجودات.. فاستجاب سبحانه وتعالى لذلك الدعاء العظيم فخلق هذا العالم.

فما دام الدعاء قد اكتسب هذه الاهمية العظيمة والسعة الشاملة فهل يمكن ألا يستجاب؟ وهل يمكن لدعاء يلهج به مئات الملايين من البشر ـ في الاقل ـ ومنذ الف وثلاث مائة سنة، يدعونه متفقين، في كل حين، بل يدعو معهم كل الطيبين من الجن والملك والروحانيات ممن لا يحصون ولا يعدون.. هل يمكن الا يستجاب هذا الدعاء الذي يدعونه للرسول الكريم e لينال الرحمة الإلهية العظيمة والسعادة الخالدة.

فما دام قد اكتسب هذا الدعاءُ الكليةَ والسعة والدوام الى هذا الحد حتى بلغ درجة لسان الاستعداد وحاجة الفطرة، فلابد ان ذلك الرسول الكريم محمد بن عبد الله e قد اعتلى نتيجة الدعاء ــ مرتبة رفيعة عالية بحيث لو اجتمعت العقول جميعاً للاحاطة بحقيقة تلك المرتبة لعجزت عجزاً تاماً.

فبشراك ايها المسلم! ان لك شفيعاً كريماً في يوم الحشر الاعظم، هو هذا الرسول الحبيب e ... فاسع لنيل شفاعته باتباع سنته المطهرة.

فان قلت: ما حاجة الرسول الكريم e وهو حبيب رب العالمين الى هذه الكثرة من الدعاء والصلوات عليه؟

الجواب: انه e ذو علاقة قوية مع سعادة امته قاطبة، فله حصته مما يناله كل فرد من افراد امته من انواع السعادة، وهو يحزن ايضاً ويتألم لكل مصيبة تصيبهم.

فعلى الرغم من ان مراتب الكمال والسعادة بحقه لا حد لها، فان الذي يرغب رغبة شديدة في ان تنال افراد امته الذين لا يحدون انواعاً لا تحد من السعادة وفي أزمان لا تحد، ويتألم بأنواع لا حد لها من شقائهم ومصائبهم، لابد أنه محتاج وحري به صلوات لا حد لها وأدعية لا حد لها ورحمة لا حد لها.

فان قلت: يُدعى أحياناً بدعاء خالص لأمورتقع قطعاً كالدعاء في صلاة الكسوف والخسوف، وقد يدعى احياناً لامور لا يمكن وقوعها..

الجواب: لقد اوضحنا في كلمات اخرى: ان الدعاء نوع من العبادة، حيث يعلن الانسان عجزه وفقره بالدعاء. أما المقاصد الظاهرية فهي اوقات تلك الادعية والعبادة الدعائية، وهي ليست نتائج الادعية وفوائدها الحقيقية، لان فائدة العبادة وثمرتها متوجهة الى الآخرة، اي يجنيها الداعي في الآخرة، لذا لو لم تحصل المقاصد الدنيوية التي يتضمنها الدعاء فلا يجوز القول: ان الدعاء لم يستجب، وانما يصح القول: انه لم ينقض بعد وقت الدعاء.

فهل يمكن يا ترى ألاّ يستجاب دعاء للسعادة الخالدة، يسألها جميع اهل الايمان في جميع الازمنة، يسألونه بالحاح وخلوص نية وباستمرار. فهل يمكن الا يقبل الرحيم المطلق والكريم المطلق ــ التي تشهد الكائنات لسعة رحمته وشمول كرمه ــ هذا الدعاء، وهل يمكن الا تتحقق تلك السعادة الابدية!؟ كلا ثم كلا..

` النكتة الثالثة:

ان استجابة ((الدعاء القولي الاختياري)) تكون بجهتين: فاما أن يستجاب الدعاء بعينه أو بما هو افضل منه وأولى.

فمثلاً: يدعو احدهم ان يرزقه الله مولوداً ذكراً، فيرزقه الله تعالى مولودة كمريم عليها السلام، فلا يقال عندئذ: ان دعاءه لم يستجب، بل قد استجيب بما هو افضل من دعائه.

ثم ان الانسان قد يدعو لنيل سعادة دنيوية، فيستجيب الله له لسعادة اخروية فلا يقال: ان دعاءه لم يستجب، بل قد استجيب بما هو انفع له... وهكذا.

فنحن اذن ندعوه سبحانه ونسأل منه وحده، وهو يستجيب لنا، الا أنه يتعامل معنا على وفق حكمته لانه حكيم عليم.. فينبغي للمريض الاّ يتهم حكمة الطبيب الذي يعالجه، اذ ربما يطلب منه ان يداويه بالعسل، فلا يعطيه الطبيب ــ لعلمه انه مصاب بالحمى ـ الا دواء مراً علقماً!. فلا يحق للمريض ان يقول: ان الطبيب لا يستجيب لدعائي، بل قد استمع لاناته وصراخه، واجابه فعلاً، وبأفضل منه.

` النكتة الرابعة:

ان اطيب ثمرة حاضرة يجنيها المرء من الدعاء وألذّها، وان اجمل نتيجة آنية يحصل عليها المرء من الدعاء وألطفها هي الآتي:

ان الداعي يعلم يقيناً ان هناك من يسمعه، ويترحم عليه ويسعفه بدوائه، وقدرته تصل الى كل شئ. وعندها يستشعر في نفسه انه ليس وحيداً فريداً في هذه الدنيا الواسعة بل هناك كريم ينظر اليه بنظر الكرم والرحمة، فيدخل الانس الى قلب الداعي، ويتصور انه في كنف الرحيم المقتدر على قضاء حاجاته غير المحدودة ودفع اعدائه غير المعدودة. وفي حضور دائم امامه، فيغمره الفرح والانشراح، ويشعر انه قد القى عن كاهله عبئاً ثقيلاً، فيحمد الله قائلاً: الحمد لله رب العالمين.

` النكتة الخامسة:

ان الدعاء روح العبادة ومخها، وهو نتيجة ايمان خالص، لأن الداعي يُظهر بدعائه أن الذي يهيمن على العالم كله ويطّلع على أخفى أموري ويحيط بكل شئ علماً هو القادر على اغاثتي واسعاف أبعد مقاصدي وهو البصير بجميع احوالي والسميع لندائي، لذا فلا اطلب الا منه وحده فهو يسمع اصوات الموجودات كلها، ولابد انه يسمع صوتي وندائي ايضاً.. وهو الذي يدير الامور كلها فلا انتظر تدبير ادق اموري الا منه وحده.

وهكذا فيا ايها المسلم! تأمل في سعة التوحيد الخالص الذي يهبه الدعاء للمرء، وانظر مدى ما يظهره الدعاء من حلاوة خالصة لنور الايمان وصفائه، وافهم منه حكمة قوله تعالى: } قل ما يعبؤا بكم ربي لولا دعاؤكم{ (الفرقان: 77) واستمع الى قوله تعالى } وقال ربكم ادعوني استجب لكم{ (غافر:60).. وانه لحق ما قيل: (اَكر نه خواهي داد نه دادى خواه) اي لو لم يرد القضاء ما ألهم الدعاء.

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ مَا عَلّمْتَنَا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيمُ{

اللهم صلّ على سيدنا محمد من الازل الى الابد عدد ما في علم الله وعلى آله وصحبه وسلم. سلّمنا وسلّم ديننا آمين والحمد لله رب العالمين

الذيل الثاني

(( يخص المعراج النبوي))

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ{

بِسْم الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} ولقد رآه نزلةً أخرى ^ عند سدرة المنتهى ^ عندها جنة المأوى ^
اذ يغشى السدرة ما يغشى ^ ما زاغ البصر وما طغى ^ لقد رأى من آيات ربّه الكبرى{ (النجم:13ـ 18).

سنبين خمس نكات تدور حول قسم المعراج من قصيدة المولد النبوي.

النكتة الاولى: ان السيد سليمان أفندي(1) الذي كتب قصيدة حول المولد النبوي الشريف، يبين فيها أحداث عشق حزين حول البراق الذي جئ به من الجنة. ولأنه من الأولياء الصالحين ويستند في قصيدته الى روايات في السيرة، لاشك انه يعبّر بتلك الصورة عن حقيقة معينة. والحقيقة هي الآتية:

ان لمخلوقات عالم البقاء علاقة قوية بنور رسول الله e ، اذ بالنور الذي أتى به ستعمّر الجنة ودار الآخرة بالجن والانس، ولولاه لما كانت تلك السعادة الابدية، ولما عمرت الجن والانس الجنة، ولاتنعّموا بجميع انواع مخلوقات الجنة، اي لولاه لبقيت الجنة خاوية وخالية من سكنتها.

ولقد ذكرنا في الغصن الرابع من الكلمة الرابعة والعشرين:

لقد انتخب من كل نوع من الانواع بلبلاً، خطيباً، يعبّر عن طائفته، وفي مقدمة اولئك الخطباء، البلبل العاشق للورد، الذي يعلن عن حاجات طائفة الحيوانات البالغة حدّ العشق، ازاء قافلة النباتات الآتية من خزينة الرحمة الإلهية والحاملة لأرزاق الحيوانات.. تعلنها هذه البلابل بنغماتها الرقيقة على رؤوس اجمل النباتات تعبيراً عن حسن الاستقبال المفعم بالتسبيح والتهليل.

فالرسول الكريم محمد الامين e الذي هو سبب خلق الافلاك، ووسيلة سعادة الدارين، وحبيب رب العالمين، فكما كان سيدنا جبريل عليه السلام ممثلاً عن نوع الملائكة، في طاعته وخدمته بكمال المحبة مبيناً سر سجود الملائكة وانقيادهم لسيدنا آدم عليه السلام.. فأهل الجنة كذلك، بل حتى حيواناتها لها علاقات بذلك الرسول الكريم e . وقد عبّر السيد سليمان افندي عن هذه الحقيقة بمشاعر الحب والعشق التي اطلقها البراق الذي ركبه الرسول e .

النكتة الثانية: ان أحد أحداث قصيدة المعراج النبوي هو ان السيد سليمان قد عبّر عن المحبة النزيهة لله سبحانه وتعالى تجاه الرسول الكريم e بجملة: ((قد عشقتك)).

فهذه التعابير بمعانيها العرفية لاتليق بقدسيته وتعاليه سبحانه، ولكن لأن السيد سليمان افندي من اهل الولاية واهل الحقيقة، حيث ان قصيدته هذه لقيت القبول والرضى لدى عامة المسلمين، فلاشك ان المعنى الذي أظهره صحيح، وهو هذا:

ان لله سبحانه وتعالى جمالاً وكمالاً مطلقين، وان جميع انواع الجمال والكمال المنقسمة على الكائنات جميعها، هي امارات على جماله وكماله واشارات اليهما وعلامات عليهما.

وحيث ان كل صاحب جمال وكمال، يحب جماله وكماله بالبداهة، فالله سبحانه وتعالى يحب جماله بحبٍ يليق بذاته الجليلة. وانه يحب ايضاً أسماءه التي هي شعاعات جماله جلّ وعلا.

واذ انه يحب أسماءه، فانه يحب إذن صنعته التي تظهر جمال أسمائه.

ويحب اذن مصنوعاته التي هي مرايا لجماله وكماله.

واذ إنه يحب ما يبيّن جماله وكماله، فانه يحب محاسن مخلوقاته التي تشير الى جمال اسمائه وكمالها.

ويشير القرآن الحكيم في آياتها الى هذه الانواع الخمسة من المحبة.

وهكذا فالرسول الكريم e الذي هو اكمل فرد في مصنوعات الله، وابرز شخصية في مخلوقاته.. وهو الذي يقدّر ويعلن عن الصنعة الإلهية بذكرٍ جذاب وتسبيح وتهليل.. وهو الذي فتح بلسان القرآن خزائن جمال الاسماء الحسنى وكمالها.. وهو الذي يبيّن بياناً ساطعاً ـ بلسان القرآن ـ الآيات الكونية الدالة على كمال صانعها.. وهو الذي أدّى وظيفة المرآة للربوبية الإلهية بعبوديته الكلية، حتى حظي بأتم تجليات الاسماء الحسنى كلها، بجامعية ماهيته.

فلاجل ما سبق يصح ان يقال:

ان الجميل ذا الجلال لمحبته جماله يحب محمداً e الذي هو اكمل مرآة ذات شعور لذلك الجمال.

وانه سبحانه لمحبته اسماءه يحب محمداً e الذي هو أجلى مرآة تعكس تلك الاسماء الحسنى. ويحب من يتشبهون بمحمد e ايضاً، كل حسب درجته.

وانه سبحانه لمحبته صنعته يحب محمداً e الذي أعلن عن تلك الصنعة في ارجاء الكون برمته حتى جعله في نشوة وشوق يرن به سمع السماوات ويثير به البر والبحر شوقاً اليه.. ويحب ايضاً من يتبعونه.

وانه سبحانه لمحبته مصنوعاته يحب محمداً e ، اذ هو افضل الناس طراً الذين هم اكمل ذوي الشعور، الذين هم اكمل ذوي الحياة، الذين هم اكمل مصنوعاته سبحانه.

وانه سبحانه لحبه اخلاق مخلوقاته يحب محمداً e ، اذ هو في ذروة الاخلاق الحميدة، كما اتفق عليها الاولياء والاعداء، ويحب كذلك من يتشبهون به في الاخلاق، كل حسب درجته.

بمعنى ان محبة الله قد احاطت بالكون كما احاطت به رحمته، ولهذا فان أعلى مقام في الوجوه الخمسة المذكورة ضمن المحبوبين الذين لاحصر لهم هو مقام خصّ بمحمد e ، ولأجله منح اسم ((حبيب الله)).

ولقد عبّر سليمان افندي عن هذا المقام الرفيع، مقام المحبوبية، بقوله: ((قد عشقتك)) علماً ان هذا التعبير، مرصاد للتفكر ليس الاّ، واشارة الى هذه الحقيقة من بعيد. ومع ذلك فان هذا التعبير لكونه يوهم للخيال معنى لايليق بشأن الربوبية الجليلة، فمن الاولى القول: ((قد رضيت عنك)).

النكتة الثالثة: ان المحاورات الجارية في قصيدة المعراج عاجزة عن التعبير عن تلك الحقائق المقدسة بالمعاني المعروفة لدينا، بل ان تلك المحاورات عناوين تأمل وملاحظة، ومراصد تفكر ليس الاّ، واشارات الى الحقائق السامية العميقة، وتنبيهات الى قسم من حقائق الايمان وكنايات عن بعض المعاني التي لايمكن التعبير عنها.

والاّ، فليست تلك محاورات واحداث كالمحاورات الجارية في القصص كي تكون بالمعاني المعروفة لدينا. اذ نحن لانستطيع ان نستلهم بخيالنا تلك الحقائق، من تلك المحاورات، بل يمكننا ان نستلهم منها بقلوبنا ذوقاً ايمانياً مثيراً، ونشوة روحانية نورانية، لأن الله سبحانه كما لانظير ولاشبيه ولامثيل له في ذاته وصفاته كذلك لامثيل له في شؤون ربوبيته، وكما لاتشبه صفاته تعالى صفات مخلوقاته، كذلك لاتشبه محبته محبة مخلوقاته.

فهذه التعابير الواردة في قصيدة المعراج تعدّ من التعابير المتشابهة. ولهذا نقول:

ان للّه سبحانه شؤوناً ـ كمحبته تعالى ـ تلائم وجوب وجوده وقدسيته، وتناسب غناه الذاتي وكماله المطلق. اي ان القصيدة المذكورة تنبه الى تلك الشؤون بأحداث المعراج.

ولقد اوضحت (( الكلمة الحادية والثلاثون)) الخاصة بالمعراج النبوي، حقائق المعراج ضمن اصول الايمان. لذا نختصر هنا مكتفين بذاك.

النكتة الرابعة:

سؤال: ان عبارة: (( انه e قد رأى ربه وراء سبعين ألف حجاب))(1) تعبّر عن بُعد المكان، والحال ان الله سبحانه منزّه عن المكان، فهو أقرب الى كل شئ من اي شئ كان. فما المراد اذاً من هذه العبارة؟!.

الجواب: لقد وُضّحت تلك الحقيقة في ((الكلمة الحادية والثلاثين)) وبُيّنت بياناً شافياً مفصلاً مدعماً بالبراهين، الاّ اننا نقول هنا:

انا الله سبحانه قريب الينا غاية القرب، ونحن بعيدون عنه غاية البعد.

مثال: ان الشمس قريبة منا بوساطة المرآة التي في ايدينا. بل كل ما هو شفاف يكون نوعاً من عرشٍ للشمس ومنزل لها. فلو ان للشمس شعوراً، لكانت تحاورنا بما في ايدينا من المرآة. ولكننا بعيدون عنها اربعة آلاف سنة.

وهكذا فشمس الازل (بلا تشبيه ولاتمثيل) (ولله المثل الاعلى) اقرب الى كل شئ من اي شئ كان، لانه واجب الوجود، ومنزّه عن المكان، ولايحجبه شئ، بينما كل شئ بعيد عنه بعداً مطلقاً.

ومن هذا تفهم: سر المسافة الطويلة جداً في المعراج مع عدم وجود المسافة التي تعبر عنها الآية الكريمة: } ونحن أقرب اليه من حبل الوريد{ (ق:16).

وكذا ينبع من هذا السر: ذهاب الرسولe وطيّه المسافات الطويلة جداً ومجيئه في آن واحد الى موضعه.

فمعراج الرسول ص هو؛ سيره وسلوكه، وهو عنوان ولايته، اذ كما يعرج الاولياء الى درجة حق اليقين من درجات الايمان رقياً معنوياً بالسير والسلوك الروحاني بدءاً من اربعين يوماً الى اربعين سنة، كذلك الرسول e وهو سلطان جميع الاولياء وسيدهم عرج بجسمه وحواسه ولطائفه جميعاً لابقلبه وروحه وحدهما فاتحاً صراطاً سوياً وجادة كبرى حتى بلغ أعلى مراتب حقائق الايمان واسماها بالمعراج الذي هو كرامة ولايته الكبرى في اربعين دقيقة بدلاً من اربعين سنة، ورقي الى العرش بسلّم المعراج وشاهد ببصره بعين اليقين ـ في مقام قاب قوسين او ادنى ـ اعظم حقائق الايمان، وهو الايمان بالله، والايمان باليوم الآخر، ودخل الجنة وشاهد السعادة الابدية وفتح باب الجادة الكبرى وتركه مفتوحاً ليمضي جميع اولياء امته بالسير والسلوك الروحاني اي بسير روحاني وقلبي في ظل ذلك المعراج كل حسب درجته.



النكتة الخامسة:

ان قراءة المولد النبوي وقصيدة المعراج عادة اسلامية مستحسنة، ونافعة جداً، بل هي مدار مجالسة ومؤانسة لطيفة في الحياة الاجتماعية الاسلامية. وهي درس في غاية اللذة والطيب للتذكير بالحقائق الايمانية. وهي اقوى وسيلة مؤثرة ومهيجة؛ لإظهار أنوار الايمان، وتحريك محبة الله، وعشق الرسول e .

نسأل الله ان يديم هذه العادة الى الابد، ويرحم كاتبها السيد سليمان افندي وامثاله من الكتّاب، ويجعل جنة الفردوس مثواهم.. آمين.

خاتمة

لما كان خالق هذا الكون، يخلق من كل نوع فرداً ممتازاً كاملاً جامعاً، ويجعله مناط فخر وكمال ذلك النوع، فلاشك انه يخلق فرداً ممتازاً وكاملاً ـ بالنسبة للكائنات قاطبة ـ وذلك بتجلي الاسم الاعظم من اسمائه الحسنى. وسيكون في مصنوعاته فرداً أكمل كالاسم الاعظم في اسمائه. فيجمع كمالاته المنتشرة في الكائنات في ذلك الفرد الاكمل، ويجعله محط نظره.

ولاريب ان ذلك الفرد سيكون من ذوي الحياة، لان أكمل انواع الكائنات هم ذوو الحياة، ويكون من ذوي الشعور، لان أكمل انواع ذوي الحياة هم ذوو الشعور، وسيكون ذلك الفرد الفريد من الانسان، لان الانسان هو المؤهل لما لا يحد من الرقي. وسيكون ذلك الفرد حتماً محمداً الامين e ، لأنه لم يظهر أحد في التأريخ كله مثله منذ زمن آدم عليه السلام والى الآن، ولن يظهر. لان ذلك النبي الكريم e قد ضم نصف الكرة الارضية وخمس البشرية ضمن سلطانه المعنوي وحاكميته التي دامت ألفاً وثلاثمائة وخمسين عاماً بكمال هيبتها وعظمتها. واصبح استاذاً لجميع اهل الكمال في جميع انواع الحقائق، ونال أرقى المراتب في السجايا الحميدة باتفاق الاصدقاء والاعداء، وتحدى العالم اجمع وحده ـ في اول أمره ـ وأظهر القرآن الكريم الذي يتلوه اكثر من مائة مليون من الناس في كل دقيقة..

فلابد ان نبياً كريماً كهذا النبي e هو ذلك الفرد الفريد لا احد غيره ابداً. فهو نواة هذا العالم وثمرته. عليه وعلى آله واصحابه الصلاة والسلام بعدد انواع الكائنات وموجوداتها.

واعلم ان الاستماع الى المولود النبوي ومعراجه e اي الاستماع الى مبدأ رقيه ومنتهاه. اي معرفة تأريخ حياته المعنوية.. لذيذ، ونوراني، ومبعث فخر لأمته واعتزاز لهم، ومسامرة علوية رفيعة للمؤمنين الذين اتخذوه رئيساً وسيداً وإماماً وشفيعاً لهم.

يارب

بحرمة الحبيب الاكرم عليه الصلاة والسلام، وبحق الاسم الاعظم..

اجعل قلوب ناشري هذه الرسالة ورفقائهم مظهراً لأنوار الايمان.

واجعل أقلامهم ناشرةً لأسرار القرآن واهدهم الى سواء السبيل.

آمين

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{

الباقي هو الباقي

سعيد النورسي

المكتوب الخامس والعشرون

لم يؤلف
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
المكتوبات للإمام الرباني أحمد الفاروقي السرهندي admin المكتبة الرقمية 1 02-13-2014 12:56 PM


الساعة الآن 10:08 PM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir