أنت غير مسجل في منتدى الإحسان . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك           

إضافة رد
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع
قديم 09-06-2021
  #31
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,217
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: كتاب حقائق عن التصوف

ورد الصوفية ودليله من الكتاب والسنة



الورد بالكسر، كما في المصباح: الوظيفة من قراءة ونحو ذلك، والجمع: أوراد. ويطلقه الصوفية على أذكار يأمر الشيخ تلميذه بذكرها صباحاً بعد صلاة الصبح حكم ذكر الله بعد صلاة الصبح:

إن من أفضل الأعمال بعد صلاة الفجر، الاشتغال بذكر الله تعالى، خلافاً لما يظن بعض الناس بأن الاشتغال بقراءة القرآن بعد صلاة الصبح أولى وأفضل، وقد وردت في ذلك أحاديث كثيرة منها:



1 - عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من صلى صلاة الغداة [الصبح] في جماعة ثم جلس يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم قام فصلى ركعتين انقلب بأجر حجة وعمرة”. رواه الطبراني وإسناده جيد كما في “مجمع الزوائد” ج10/ص104.

2 - وعن أنس بن مالك ضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة” أخرجه الترمذي وحسنه.

3 - وعن عمرة قالت: سمعت أم المؤمنين [تعني عائشة] رضي الله عنها تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “من صلى صلاة الفجر فقعد في مقعده فلم يَلْغُ بشيء من أمر الدنيا، ويذكر الله حتى يصلي الضحى أربع ركعات خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه لا ذنب له”. رواه أبو يعلى والطبراني كذا في “مجمع الزوائد” ج10/ص105.

4 - وعن معاذ بن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من صلى صلاة الفجر ثم قعد يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس وجبت له الجنة”. رواه أبو يعلى كذا في المصدر السابق ج10/ص105.

5 - وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ما من عبد يصلي صلاة الصبح ثم يجلس يذكر الله حتى تطلع الشمس إلا كان ذلك حجاباً من النار”. رواه الطبراني كذا في المصدر السابق ج10/ص106. وقد نص فقهاء الحنفية على أولوية الاشتغال بالذكر بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس أخذاً من الأحاديث المذكورة. قال العلامة الحصكفي صاحب “الدر المختار”: (ذِكرُ الله من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس أوْلى من قراءة القرآن). حاشية ابن عابدين ج5/ص280]، ومساءً بعد صلاة المغرب.

والوارد في اللغة: هو الطارق والقادم، يقال ورد علينا فلان أي قدم. وفي الاصطلاح: ما يُتْحفه الحق تعالى قلوبَ أوليائه من النفحات الإلهية، فيكسبه قوة محركة، وربما يدهشه، أو يُغيِّبه عن حسه، ولا يكون إلا بغتة، ولا يدوم على صاحبه [“شرح الحكم” لابن عجيبة ج1/ص160].

والورد يضم ثلاث صيغ من صيغ الذكر المطلوبة شرعاً، والتي دعا إليها كتاب الله تعالى، وبينت السنة الشريفة فضلها ومثوبتها.

1 - الاستغفار: بصيغة [أستغفر الله] مائة مرة، بعد محاسبة النفس على الزلات لتعود صفحة الأعمال نقية بيضاء. وقد أمرنا الله تعالى بذلك بقوله: {وما تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُم مِنْ خير تجِدُوه عند اللهِ هوَ خيراً وأعظَمَ أجراً واستغفروا اللهَ إنَّ اللهَ غفورٌ رحيم} [المزمل: 20].

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من الاستغفار تعليماً لأمته وتوجيهاً، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه قوله: “والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة” [أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الدعوات].

وعن عبد الله بن بِسر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “طوبى لمن وَجد في صحيفته استغفاراً كثيراً” [أخرجه ابن ماجه في كتاب الأدب وقال في “الزوائد”: إسناده صحيح ورجاله ثقات].

2 - الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: بصيغة [اللهم صلِّ على سيدنا محمد عبدك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلِّم] مائة مرة مع استحضار عظمته صلى الله عليه وسلم، وتذكُّرِ صفاته وشمائله، والتعلق بجنابه الرفيع، محبة وتشوقاً وقد أمرنا الله تعالى بذلك بقوله: {إنَّ اللهَ وملائكَتَهُ يُصلُّونَ على النبيِّ يا أيُّها الذين آمنوا صَلُّوا عليهِ وسلِّمُوا تسليماً} [الأحزاب: 56].



وكذلك رغَّب رسول الله صلى الله عليه وسلم بكثرة الصلاة والسلام عليه فقال: “من صلَّى عليَّ واحدةً صلَّى الله عليه بها عشراً” [رواه مسلم في صحيحه في كتاب الصلاة، والنسائي في كتاب الافتتاح].

وروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من صلى عليَّ واحدة صلى الله عليه عشر صلوات وحُطَّتْ عنه عشرُ سيئات ورُفعتْ له عشر درجات” [أخرجه النسائي في كتاب الافتتاح].

وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: “أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليَّ صلاة” [رواه الترمذي في كتاب أبواب الصلاة وقال: حديث حسن].

3 - كلمة التوحيد: بصيغة: [لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير] مئة مرة، أو [لا إله إلا الله] فقط مائة مرة. مع التفكير بأنه لا خالق ولا رازق ولا نافع ولا ضار ولا قابض ولا باسط.. إلا الله وحده، مع محاولة محوِ ما يسيطر على القلب، من حبِّ الدنيا والأهواء والشهوات والوساوس والشواغل والعلائق والعوائق الكثيرة حتى يكون القلب لله وحده لا لسواه.

ولهذا دعانا الله تعالى إلى هذا التوحيد الخالص فقال: {فاعلّمْ أنَّهُ لا إله إلا اللهُ} [محمد: 19].

وكذلك رغبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإكثار من ترداد كلمة التوحيد، وبين أفضليتها ومثوبتها؛ فقال: “أفضل الذكر لا إله إلا الله” [رواه الترمذي في كتاب الدعوات وقال: حديث حسن].

يقول العلامة ابن علان في شرح هذا الحديث: “إنها [أي لا إله إلا الله] تؤثر تأثيراً بيِّناً في تطهير القلب عن كل وصف ذميم راسخ في باطن الذاكر، وسببه أن لا إله نفي لجميع أفراد الآلهة، وإلا الله إثبات للواحد الحق الواجب لذاته المنزه عن كل ما لا يليق بجلاله، فبإدمان الذكر لهذه ينعكس الذكر من لسان الذاكر إلى باطنه، حتى يتمكن فيه؛ فيضيئه ويصلحه، ثم يضيء ويُصلح سائر الجوارح، ولذا أمر المريد وغيره بإكثارها والدوام عليها” [“الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية” للعلامة ابن علان الصديقي ج1/ص213].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “جددوا إيمانكم، قيل: يا رسول الله وكيف نجدد إيماننا؟ قال: أكثروا من قول لا إله إلا الله” [رواه الإمام أحمد في مسنده ج2/ص359].

وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: “من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير؛ في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكُتبت له مائة حسنة، ومُحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يُمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه” [رواه البخاري في كتاب الدعوات، ومسلم في كتاب الذكر، والترمذي في كتاب الدعوات].

مع الملاحظة أن هذا الورد يكون في الصباح والمساء في جلسة يخلو فيها العبد بربه، وبذلك يكون قد افتتح نهاره بذكر الله تعالى وختمه بذكره وطاعته؛ لعله يكون من الذين قال الله تعالى فيهم: {والذاكرينَ اللهَ كثيراً والذاكراتِ أعدَّ اللهُ لهم مغفِرَةً وأجراً عظيماً} [الأحزاب: 35].

وهكذا تلقينا عن شيخنا سيدي محمد الهاشمي رحمه الله تعالى كما تلقاه هو أيضاً عن شيخه...

ولا ينبغي للسالك في طريق أهل الله أن يكون ورده مقصوراً على العدد المذكور، بل ينبغي له أن يزيد ذكره لله تعالى، لأن قلب السالك في ابتداء سيره كالطفل الصغير، فكما أن الطفل كلما كبر زيدت له كمية الغذاء، كذلك كلما كبر المريد في سيره إلى الله تعالى زاد ذكره لله، لأن الذكر غذاء لقلبه وحياة له.

ولما كان الورد سبيل السالكين إلى الله تعالى قعد الشيطان في طريقهم، يصدهم عن ذكر الله تعالى بحجج شتى، ومغالطات خفية، وتلبيسات منوعة، فقد يترك بعض المريدين قراءة أورادهم محتجين بكثرة أعمالهم وعدم فراغهم لها، ويوحي إليهم شيطانهم أن هذا عذر مشروع، ومبرر مقبول، وأنه لا بأس بتأجيل الأوراد لوقت الفراغ.

ولكن السادة الصوفية حذروا السالكين من الإهمال والتسويف وانتظار الفراغ، لأن العمر سرعان ما ينتهي، والمشاغل لا تزال في تجدد.

قال ابن عطاء الله في حكمه: (إحالتك الأعمال على وجود الفراغ من رعونة النفس).

وقال الشارح ابن عجيبة: (فالواجب على الإنسان أن يقطع علائقه وعوائقه، ويخالف هواه، ويبادر إلى خدمة مولاه، ولا ينتظر وقتاً آخر، إذ الفقير [الصوفي] ابن وقته) [“إيقاظ الهمم في شرح الحكم” ج1/ص49].

وقد يزين الشيطان لبعض السالكين أن يتركوا الذكر بحجة أن ذكرهم لا يَسْلَمُ من الوساوس، والذكر لا يفيد إلا إذا كان الذاكر حاضر القلب مع الله تعالى.

ولكن مرشدي السادة الصوفية حذروا مريديهم من هذا المدخل الشيطاني الخطير، فقال ابن عطاء الله السكندري: (لا تترك الذكر لعدم حضورك مع الله فيه، لأن غفلتك عن وجود ذكره أشد من غفلتك في وجود ذكره، فعسى أن يرفعك من ذكر مع وجود غفلة إلى ذكر مع وجود يقظة، ومن ذكر مع حضور يقظة إلى ذكر مع وجود حضور، ومن ذكر مع وجود حضور إلى ذكر مع وجود غيبة عما سوى المذكور، وما ذلك على الله بعزيز) [“إيقاظ الهمم” ج1/ص79].

وقد يترك بعض السالكين أورادهم اكتفاء بالوارد، وما علموا أن الورد مطلوب منهم للتقرب الله تعالى، وأن السادة الصوفية لم يتركوا أورادهم مهما بلغوا من مراتب الكمال.

قال أبو الحسن الدراج رحمه الله: (ذكَرَ الجنيدُ أهل المعرفة بالله، وما يراعونه من الأوراد والعبادات بعد ما أتحفهم الله به من الكرامات، فقال الجنيد رضي الله عنه: العبادة على العارفين أحسن من التيجان على رؤوس الملوك. وقد رأى رجلٌ الجنيدَ رضي الله عنه وفي يده سبحة، فقال له: أنت مع شرفك تأخذ في يدك سبحة؟! فقال: نعم، سبب وَصَّلَنا إلى ما وصلنا فلا نتركه أبداً) [“إيقاظ الهمم” ج1/ص162. وراجع هذا الخبر في ص184].

قال ابن عطاء الله: (لا يستحقر الورد إلا جهول، الوارد يوجد في الدار الآخرة، والورد ينطوي بانطواء هذه الدار وأوْلى ما يُعتنى به ما لا يُخلَف وجوده، الورد هو طالبه منك والوارد أنت تطلبه منه، وأين ما هو طالبه منك مما هو مطلبك منه) [“إيقاظ الهمم” ج1/ص160].

وأخيراً فإن المريد إذا ترك ورده لسبب من الأسباب السابقة، ثم عاد إلى يقظته والتزام عهده؛ فلا ينبغي أن يقنط من رحمة الله نتيجة تقصيره وإهماله، بل عليه أن يتوب إلى الله تعالى، ثم يقضي ما فاته من أوراد، إذ الأوراد تُقضَى كسائر العبادات والطاعات.

قال الإمام النووي: (ينبغي لمن كان له وظيفة من الذكر في وقت من ليل أو نهار، أو عقيب صلاة أو حالة من الأحوال ففاتته أن يتدراكها، ويأتي بها إذا تمكن منها، ولا يهملها، فإنه إذا اعتاد الملازمة عليها لم يُعرِّضْها للتفويت، وإذا تساهل في قضائها سَهُلَ عليه تضييعُها في وقتها، وقد ثُبت في صحيح مسلم [كتاب صلاة المسافرين وقصرها] عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل” [“الأذكار” للنووي ص13].

__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 09-06-2021
  #32
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,217
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: كتاب حقائق عن التصوف

المذاكرة





المذاكرة: هي استفادة المريد من خبرة مرشده بسؤاله عن أحكام شرعية تتعلق بتصحيح العقائد أو العبادات أو المعاملات، أو بأن يعرض له ما يحدث معه من أحوال قلبية وخواطر نفسية وشيطانية قد تلتبس عليه فتوقعه في شكوك وأوهام، كالشكوك في العقائد الإيمانية، وكالتعلقات الدنيوية، التي يقف حيالها حائراً مضطرباً.

أو بأن يكشف له عن أمراضه القلبية كالكبر والحسد والنفاق وحب الرئاسة، وعن رعوناته النفسية كالتحدث عن كراماته ومرائيه بغية الثناء والشهرة... وغير ذلك من الصفات الناقصة بغية معرفة طريق الخلاص منها.

وهكذا يرجع المريد لمرشده في جميع أحوال سيره لاجتياز العقبات التي تعترض طريقه.

وقد يذاكر المريد شيخه في أحواله الطيبة ومقامات سيره، واستشراف روحه للحضرة الإلهية، وما يرد على قلبه من واردات رحمانية أو ملكية ومفاهيم قرآنية وعلوم وهبية ... والقصد من ذلك الاستيثاق من صحتها حتى يكون المريد على بصيرة من مراحل سيره.

فالمذاكرة لها أهمية كبرى في سير المريد إلى الله تعالى، وهي ركن عظيم من أركان الطريق الخمسة: الذكر، والمذاكرة، ومجاهدة النفس، والعلم، والمحبة.

ومثل المريد مع مرشده كمثل المريض الذي يكشف لطبيبه كل ما يلقاه من أعراض مرضية، كما يخبره عن جميع مراحل تحسن جسمه وصحته.

ومن جهة أخرى فإن المذاكرة تُقوِّي الصلة بين المريد والمرشد، فتزداد المحبة ويقوى التجاوب، كما أن المريد يستفيد بالمذاكرة من شيخه علماً وحالاً ومعرفة، لأن العلم روح تنفخ لا مسائل تنسخ.

فالمذاكرة إذن تطبيق عملي لأدب من آداب الشرع، وخلق أساسي من أخلاق الإسلام، وهو الشورى التي مدح الله بها المؤمنين بقوله: {وأمرُهُمْ شُورى بينَهُم} [الشورى: 38]. والتي دعا إليها الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام بقوله: “المستشار مؤتمن” [رواه الترمذي عن أبي هريرة في كتاب الأدب وقال: حديث حسن. والبخاري في “الأدب المفرد” في باب المستشار مؤتمن].

وإذا كانت الشورى هي للاستفادة من خبرة أهل الاختصاص في أي جانب من جوانب الحياة، كالمريض الذي يستفيد من خبرة الطبيب، والبَنَّاءِ الذي يستفيد من خبرة المهندس، والمظلوم الذي يستفيد من خبرة المحامي... إلخ.

فإن المذاكرة هي للاستفادة من خبرة المرشد في ميدان التطبيق العملي لدين الله تعالى، وقد نوَّه الله تعالى لهذه الاستفادة بقوله: {فاسألُوا أَهْلَ الذِّكرِ إنْ كُنتُم لا تعلمونَ} [النحل: 43]. وبقوله تعالى: {الرحمنُ فاسألْ بِهِ خبيراً} [الفرقان: 59].







الفرق بين المذاكرة وبين الاعتراف عند النصارى:



قد يتوهم بعض الناس بأن هناك تشابهاً بين مذاكرة المريد لمرشده وبين الاعتراف عند النصارى، ولكن العاقل المنصف لا يتسرع في الحكم، ولا يلقي الكلام جزافاً دون تفكير أو تدبر، بل يفرق بين من يأتي لإنسان مثله فيكشف له عن آثامه وجرائمه بغية أن يغفر له، كما هو الأمر عند النصارى، وبين من يأتي لخبير عالم فيكشف له عن أمراضه وأحواله بغية أن يدله على الطريق العملي للتخلص منها، كما يكشف المريض عن أمراضه ولو كانت مما يُستحى منها من أجل تشخيص الداء ووصف الدواء الناجع.









الفرق بين المذاكرة وبين المجاهرة بالمعصية:

وقد يشتبه الأمر على بعض الناس فيظنون أن مذاكرة المريد لمرشده في أمراضه القلبية وأحواله النفسية من معاصٍ ومخالفات نوع من المجاهرة بالمعصية.

ولكن هناك فرق كبير بين من يرتكب الإثم، ثم يأتي للناس يحدّث عنه من باب المباهاة والتلذذ بذكره والدعوة إليه، وبين من يندم على ذنبه ويتحير في معرفة العلاج الجذري الذي ينقذه من وضعه المذموم، فيأتي ليستفيد من خبرة مرشده.

قال الإمام النووي معلقاً على حديث: “كل أمتي معافاةٌ إلا المجاهرين، وإن من الإجهار أن يعمل الرجل بالليل عملاً، ثم يصبح وقد ستره الله تعالى عليه، فيقول: يا فلان عملتُ البارحة كذا وكذا،

وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه” [رواه البخاري في صحيحه في كتاب الأدب، ومسلم في كتاب الزهد والرقائق]: (يكره للإنسان إذا ابتُلِيَ بمعصية أو نحوها أن يخبر غيره بذلك، بل ينبغي أن يتوب إلى الله تعالى؛ فيقلع عنها في الحال، ويندم على ما فعل، ويعزم ألا يعود إلى مثلها أبداً، فهذه الثلاثة هي أركان التوبة، لا تصح إلا باجتماعها، فإن أخبر بمعصيته شيخه أو شبهه ممن يرجو بإخباره أن يعلمه مخرجاً من معصيته، أو يعلمه ما يسلم به من الوقوع في مثلها، أو يعرفه السبب الذي أوقعه فيها، أو يدعو له، أو نحو ذلك، فلا بأس به، بل هو حسن، وإنما يُكره إذا انتفت هذه المصلحة) [“الأذكار” للنووي ص327].

ونقل الإمام المناوي في معرض شرحه لحديث المجاهرة قول الإمام الغزالي: (الكشف المذموم إذا وقع على وجه المجاهرة والاستهزاء؛ لا على وجه السؤال والاستفتاء، بدليل خبر من واقع امرأته في رمضان [روى هذا الخبر البخاري في صحيحه في كتاب الصوم، ومسلم في كتاب الصيام، والترمذي في كتاب الصوم باب ما جاء في كفارة الفطر في رمضان]، فجاء فأخبر المصطفى عليه الصلاة والسلام، فلم ينكر عليه) [“فيض القدير شرح الجامع الصغير” ج5/ص12].
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 01-20-2022
  #33
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,217
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: كتاب حقائق عن التصوف

الخلوة
1 - تعريفها:
قال الشيخ أحمد زروق في قواعده: (الخلوة أخص من العزلة، وهي بوجهها وصورتها نوع من الاعتكاف، ولكن لا في المسجد، وربما كانت فيه، وأكثرها عند القوم لا حدَّ له، لكن السنة تشير للأربعين بمواعدة موسى عليه السلام، والقصد في الحقيقة ثلاثون، إذ هي أصل المواعدة، وجاور عليه الصلاة والسلام بحراء شهراً كما في مسلم [أخرج مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “جاورت بحراء شهراً، فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت بطن الوادي...”]، وكذا اعتزل نساءه، وشهر الصوم واحد. وزيادة القصد ونقصانه كالمريد في سلوكه. وأقلها عشرة لاعتكافه عليه الصلاة والسلام للعشر، وهي للكامل زيادة في حاله، ولغيره ترقية، ولا بد من أصل يُرجع إليه. والقصد بها تطهير القلب من أدناس الملابسة، وإفراد القلب لذكر واحد، وحقيقة واحدة، ولكنها بلا شيخ مخطرة، ولها فتوح عظيم، وقد لا تصح بأقوام، فليعتبر كل أحد بها حالَه) [“قواعد التصوف” ص39 لأبي العباس الشيخ أحمد الفاسي المشهور بزروق توفي سنة 899هـ في طرابلس الغرب].
فالخلوة إذن: انقطاع عن البشر لفترة محدودة، وترك للأعمال الدنيوية لمدة يسيرة، كي يتفرغ القلب من هموم الحياة التي لا تنتهي، ويستريح الفكر من المشاغل اليومية التي لا تنقطع، ثم ذكرٌ لله تعالى بقلب حاضر خاشع، وتفكرٌ في آلائه تعالى آناء الليل وأطراف النهار، وذلك بإرشاد شيخ عارف بالله، يُعلِّمه إذا جهل، ويذكِّره إذا غفل، وينشطه إذا فتر، ويساعده على دفع الوساوس وهواجس النفس.
2 - طريقتها:
يذكر الغزالي رحمه الله طريقة الخلوة ومراحلها ومقاماتها، فيبين: (أن الشيخ يُلزِم المريد زاوية ينفرد بها، ويوكل به من يقوم له بقدر يسير من القوت الحلال - فإنَّ أصل الدين القوت الحلال - وعند ذلك يلقنه ذكراً من الأذكار، حتى يشغل به لسانه وقلبه، فيجلس ويقول مثلاً: الله، الله، أو سبحان الله، سبحان الله، أو ما يراه الشيخ من الكلمات، فلا يزال يواظب عليه، حتى يسقط الأثر عن اللسان، وتبقى صورة اللفظ في القلب، ثم لا يزال كذلك حتى تُمحى من القلب حروف اللفظ وصورته، وتبقى حقيقة معناه لازمة للقلب، حاضرة معه، غالبة عليه، قد فرغ عن كل ما سواه، لأن القلب إذا اشتغل بشيء خلا عن غيره - أيَّ شيء كان - فإذا اشتغل بذكر الله تعالى وهو المقصود، خلا لا محالة من غيره. وعند ذلك يلزمه أن يراقب وساوس القلب، والخواطر التي تتعلق بالدنيا، وما يتذكر فيه مما قد مضى من أحواله وأحوال غيره، فإنه مهما اشتغل بشيء منه - ولو في لحظة - خلا قلبه عن الذكر في تلك اللحظة، وكان أيضاً نقصاناً. فليجتهد في دفع ذلك، ومهما دفع الوساوس كلها، وردَّ النفس إلى هذه الكلمة، جاءته الوساوس من هذه الكلمة، وإنها ما هي؟ وما معنى قولنا: الله؟ ولأي معنى كان إلهاً، وكان معبوداً؟ ويعتريه عند ذلك خواطر تفتح عليه باب الفكر، وربما يَرِدُ عليه من وساوس الشيطان ما هو كفر وبدعة، ومهما كان كارهاً لذلك، ومُتَشمِّراً لإماطته عن القلب لم يضره ذلك.
وهذه الوساوس منقسمة إلى قسمين:
أ - ما يعلم قطعاً أن الله تعالى منزه عنه، ولكن الشيطان يُلْقي ذلك في قلبه، ويُجريه على خاطره، فَشَرْطُهُ أن لا يبالي به، ويفزع إلى ذكر الله تعالى، ويبتهل إليه ليدفعه عنه، كما قال تعالى: {وإمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشيطانِ نَزْغٌ فاستعذ باللهِ إنَّهُ سميعٌ عليمٌ} [الأعراف: 200]. و قال تعالى: {إنَّ الذينَ اتَّقَوا إذا مسَّهُم طائفٌ مِنَ الشيطان تذَكَّروا فإذا هم مبصرونَ} [الأعراف: 201].
ب - ما يشك فيه، فينبغي أن يَعرض ذلك على شيخه، بل كلُّ ما يجد في قلبه من الأحوال، من فترة أو نشاط، أو التفات إلى علْقة، أو صدق في إرادة، فينبغي أن يُظهر ذلك لشيخه، وأن يستره عن غيره، فلا يطلع عليه أحداً) [“الإحياء” للغزالي ج3/ص66].
3 - مشروعيتها:
ليست الخلوة ابتداعاً من الصوفية، وإنما هي امتثال لأمر الله تعالى في كتابه العزيز، وتأسٌّ واقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان يخلو بغار حراء يتعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، حتى جاءه الحق، وهو في غار حراء. وبهذا تكون قد ثبتت مشروعيتها.
الدليل عليها من القرآن الكريم:
قال تعالى: {واذكرِ اسم ربِّكَ وتَبَتَّلْ إليه تبتيلاً} [المزمل: 8].
قال العلامة أبو السعود مفسراً قوله تعالى: {واذكُرِ اسمَ ربِّك...} [المزمل: 8]: (ودُم على ذكره تعالى ليلاً ونهاراً على أي وجه كان؛ من التسبيح والتهليل والتحميد... إلى أن قال: وانقطعَ إليه بمجامع الهمة واستغراق العزيمة في مراقبته، وحيث لم يكن ذلك إلا بتجريد نفسه عليه الصلاة والسلام عن العوائق الصادرة المانعة عن مراقبة الله تعالى، وقطع العلائق عما سواه) [تفسير العلامة أبي السعود على هامش تفسير فخر الدين الرازي ج8/ص338].
وكل أمرٍ أُمِر به صلى الله عليه وسلم تشريع له ولأمته إلا فيما خُصَّ به، وخصوصياته معروفة، وهذا الأمر في هذه الآية المذكورة عام له ولأمته.
الدليل عليها من السنة:
عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (أولُ ما بُدِىءَ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبِّبَ إليه الخلاءُ، وكان يخلو بغار حِراءَ؛ فيتَحَنَّثُ فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، ويتزود لمثلها، حتى جاءه الحق، وهو في غار حراء) [رواه البخاري في صحيحه باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم].
قال ابن أبي جمرة في شرحه لهذا الحديث: (في الحديث دليل على أن الخلوة عون للإنسان على تعبده وصلاح دينه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما اعتزل عن الناس وخلا بنفسه، أتاه هذا الخير العظيم، وكل أحد امتثل ذلك أتاه الخير بحسب ما قسم له من مقامات الولاية .
وفيه دليل على أن الأوْلى بأهل البداية الخلوة والاعتزال، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في أول أمره يخلو بنفسه.
وفيه دليل على أن البداية ليست كالنهاية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما بُدِىءَ في نبوته بالمرائي، فما زال عليه الصلاة والسلام يرتقي في الدرجات والفضل، حتى جاءه المَلكُ في اليقظة بالوحي، ثم ما زال يرتقي، حتى كان كقاب قوسين أو أدنى، وهي النهاية. فإذا كان هذا في الرسل فكيف به في الأتباع؟! لكن بين الرسل والأتباع فرق، وهو أن الأتباع يترقون في مقامات الولاية - ما عدا مقام النبوة ، فإنه لا سبيل لهم إليها، لأن ذلك قد طُويَ بساطه - حتى ينتهوا إلى مقام المعرفة والرضا، وهو أعلى مقامات الولاية.
ولأجل هذا تقول الصوفية: من نال مقاماً فدام عليه بأدبه ترقى إلى ما هو أعلى منه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ أولاً في التحنث ودام عليه بأدبه، إلى أن ترقى من مقام إلى مقام، حتى وصل إلى مقام النبوة، ثم أخذ في الترقي في مقامات النبوة حتى وصل به المقام إلى قاب قوسين أو أدنى كما تقدم. فالوارثون له بتلك النسبة؛ من دام منهم على التأدب في المقام الذي أُقيم فيه ترقى في المقامات حيث شاء الله، عدا مقام النبوة التي لا مشاركة للغير فيها بعد النبي صلى الله عليه وسلم) [“بهجة النفوس” شرح مختصر البخاري للإمام الحافظ أبي محمد عبد الله بن أبي جمرة الأزدي الأندلسي المتوفى 699هـ. ج1/ص10 - 11].
وقال القسطلاني رحمه الله تعالى في شرحه لحديث عائشة المذكور: (وفيه تنبيه على فضل العزلة لأنها تريح القلب من أشغال الدنيا، وتفرغه لله تعالى، فتنفجر منه ينابيع الحكمة. والخلوة أن يخلو عن غيره، بل وعن نفسه بربه، وعند ذلك يصير خليقاً بأن يكون قالبه ممراً لواردات علوم الغيب، وقلبه مقراً لها) [“إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري “ ج1/ص62 للقسطلاني المتوفى سنة 923هـ].
إشكال:
فإن قلتَ: أمر الغار قبل الرسالة، ولا حكم إلا بعد الرسالة؟ قال المحدث القسطلاني مجيباً: (إنه أول ما بدىء به عليه الصلاة والسلام من الوحي الرؤيا الصالحة، ثم حُبِّبَ إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء كما مر، فدل على أن الخلوة حكم مرتب على الوحي، لأن كلمة [ثم] للترتيب. وأيضاً لو لم تكن من الدين لنهى عنها، بل هي ذريعة لمجيء الحق، وظهورُه مبارك عليه وعلى أمته تأسِّيَاً وسلامة من المناكير وضررها، ولها شروط مذكورة في محلها من كتب القوم) [“إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري” للقسطلاني ج1/ص62].
وقال المحدث الكشميري رحمه الله تعالى معلقاً على هذه الفقرة من الحديث: (ثم حُبِّبَ إليه الخلاء): (وهذا على نحو مجاهدات الصوفية وخلواتهم، ثم إن اعتكاف الفقهاء وخلوات الصوفية عندي قريب من السواء) [“فيض الباري على صحيح البخاري” ج1/ص23].
وقال الزهري رحمه الله تعالى: (عجباً من الناس، كيف تركوا الاعتكاف، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل الشيء ويتركه، وما ترك الاعتكاف حتى قُبِض) [“حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح” ص463].
وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى في شرح حديث عائشة عند قوله: “حبب إليه الخلاء”: (أما الخلاء فهو الخلوة، وهي شأن الصالحين، وعباد الله العارفين. ثم قال: قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله: حُبِّبَتْ إليه العزلة صلى الله عليه وسلم لأن معها فراغ القلب، وهي معينة على التفكر، وبها ينقطع عن مألوفات البشر، ويتخشع قلبه) [صحيح مسلم بشرح الإمام النووي ج2/ص198].
وقال شهاب الدين أحمد بن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى في شرحه على حديث عائشة المذكور عند قوله: (ثم حبب إليه الخلاء): (والخلاء بالمد: الخلوة، والسر فيه أن الخلوة فراغ القلب لما يتوجه له... إلى أن قال: وإلا فأصل الخلوة قد عُرفتْ مدتها وهي شهر، وذلك الشهر كان رمضان) [“فتح الباري شرح صحيح البخاري” للعسقلاني ج1/ص18].
وقال العلامة الكبير محمود العيني رحمه الله تعالى في شرحه على حديث عائشة عند الأسئلة والأجوبة: (الوجه الثالث: ما قيل: لِمَ حُبِّبَ إليه الخلوة؟ أجيب بأن معها فراغ القلب، وهي معينة على التفكر، والبشر لا ينتقل عن طبيعته إلا بالرياضة البليغة، فحُبِّبَ إليه الخلوة لينقطع عن مخالطة البشر، فينسى المألوفات من عادته) [“عمدة القاري شرح صحيح البخاري” للعيني المتوفى سنة 855هـ ج1/ص60 - 61].
وقال الكرماني رحمه الله تعالى في شرحه لحديث عائشة رضي الله عنهاالمذكور: (ثم حبب إليه الخلاء بالمد وهو الخلوة، وهو شأن الصالحين وعباد الله العارفين، حببت إليه العزلة لأن فيها فراغ القلب، وهي معينة على التعبد وبها ينقطع عن مألوفات البشر ويخشع قلبه) [“شرح صحيح البخاري” للعلامة الكرماني ج1/ص32].
هذه أقوال علماء الحديث وشراحه في الخلوة من حيث تسميتها، ومن حيث مشروعيتها، ومن حيث فوائدها، ومن حيث اعتناء السلف الصالح بها؛ فليقل المغرضون بعد ذلك ما شاؤوا.
وما أحسن قول البوصيري رحمه الله تعالى في همزيته يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدايته:
أَلِفَ النُسكَ والعِبَادَةَ والخَلْـوَةَ طفلاً وهكذا النجباءُ قال شارح الهمزية محمد بن أحمد بنيس رحمه الله تعالى: (وروى ابن إسحاق وغيره أنه عليه الصلاة والسلام كان يخرج إلى حراء شهراً في كل عام يتنسَّك فيه.
وقال المناوي رحمه الله تعالى: حبب إليه صلى الله عليه وسلم الخلاء والانفراد والنفور من المخالطة حتى في الأهل والمال والعيال بالكلية، واستغرق في بحر الأذكار العلية، فانقطع عن الأضداد، فاستشعر حصول المراد، وحصل له الأنس بالخلوة، فتذكر من أجل ذلك الجلوة، ولم يزل ذلك الأنس يتضاعف، ومرآته تزداد من الصفاء والصقال، حتى بلغ أقصى درجات الكمال، فظهرت تباشير صبح الوحي وأشرقت، وانتشرت بروق السعادة وأبرقت، فكان لا يمر بشجر وحجر، إلا قال بلسان صحيح ونطق فصيح: السلام عليك يا رسول الله، فلا يرى شيئاً) [“لوامع الكوكب الدري في شرح الهمزية” للبوصيري ص48 - 49].
وقال سليمان الجمل رحمه الله تعالى شارحاً للهمزية: (وكان تَعَبُّدَهُ صلى الله عليه وسلم أنه يخرج إلى حراء شهراً في كل عام يتنسك فيه، حتى إذا انصرف من مجاورته في حراء، لم يدخل بيته حتى يطوف بالكعبة، وكان يعبد الله في حِراء بالذكر والفكر، وكان يكثر الخلوة في غير حراء أيضاً) [“الفتوحات الأحمدية بالمنح المحمدية على شرح الهمزية” ص21].
ومن غار حراء انبثق النور، وأطل الفجر، وانطلقت اللمعة الأولى في نور التصوف الإسلامي، وما ترك الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الخلوة، بعد أن خرج من الغار، فكان بعدئذ يخلو في العشر الأواخر من رمضان، وقد سماه الفقهاء اعتكافاً.
4 - أقوال العلماء في أهمية الخلوة وفوائدها:
إن للخلوة فوائد جليلة وآثاراً هامة، وإنما يدركها من ذاق حلاوتها وجنى ثمارها. فمن فوائدها:
تهذيب النفس وتزكيتها، ورياضتها على طاعة الله تعالى، والاستئناس بمجالسته؛ لأن من طبائع النفس الأمارة حب مجالسة الناس، والميلَ إلى اللهو والعبث والبطالة، وكراهيةَ الخلوة مع الله، والنفورَ من الانفراد للمحاسبة على الهفوات واللوم على الأخطاء. فإذا جاهدناها على ذلك، فإنها تشعر بالضيق والضجر في بادىء أمرها، ولكن سرعان ما تُذعِنُ وتخضع، ثم تذوق حلاوة الأنس بالله ولذة مناجاته، وخصوصاً عندما تنطلق، وتتحرر من قيود المادة، وتسبح في عوالم الملكوت؛ إذ الخلوة تروض النفسَ على الإذعان لبارئها والأنس بربها.
ألا ترى الطير البازي كيف كان نفاره من الآدميين في الجبال الشامخات، ثم حين يُصاد ويلقى في البيت، وتخاط عيناه حتى ينقطع عن الطيران، ويربى باللحم، ويرفق به، حتى يأنس بصاحبه، ويألفه إلفاً؛ إذا دعاه فسمع صوته أجابه، حتى إذا أرسله وحثَّه على الطيران طار، فصاد وأمسك صيده، تحرياً لموافقة مولاه، ثم إن دعاه من الطيران رجع، وآثر هوى صاحبه على هوى نفسه.
أفلا يحق على مؤمن أبصر هذا أن يموت كمداً وعبرة وأسفاً على فوت هذا من نفسه، أن يكون طيره أسمع له وأطوع، وأشد تحرياً لموافقته وألزم لنصيحته من العبد المؤمن لربه.
والخلوة تريح القلب والفكر والعقل من الشواغل الدنيوية المتعاقبة، وهمومها المتلاحقة، وعند ذلك يذوق العبد طعم الإيمان، ويستنشق نسيم السعادة والطمأنينة. وإليك بعض أقوال السادة العلماء في ذلك:
الفيروزأبادي صاحب القاموس:
قال العلامة الكبير الفيروز أبادي رحمه الله تعالى صاحب القاموس في ذكر حال حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نزول الوحي: (ولما قربت أيام الوحي أحب الخلوة والانفراد، فكان يتخلى في جبل حراء، وهو على ثلاثة أميال من الكعبة، وبه غار صغير طوله أربعة أذرع وعرضه ذراع وثلث في بعض المواضع، وفي بعضها أقل، واختار محل الخلوة هناك.
وللعلماء في عبادته في خلوته قولان: قال بعضهم: كانت عبادته بالفكر. وقال بعضهم: بالذكر. وهذا القول هو الصحيح، ولا تعريج على الأول ولا التفات إليه؛ لأن خلوة طلاب طريق الحق على أنواع:
الأول: أن تكون خلوتهم لطلب مزيد علم الحق من الحق لا بطريق النظر والفكر، وهذا غاية مقاصد أهل الحق، لأن من خاطب في خلوته كوناً من الأكوان، أو فكَّر فيه فليس هو في خلوة. قال شخص من طلاب الطريق لبعض الأكابر: اذكرني عند ربك في خلوتك. قال: إذا ذكرتك فلستُ معه في خلوة. ومن ثَمَّ يُعلم سر “أنا جليس مَنْ ذكرني”. وشرط هذه الخلوة أن يذكر بنفسه وروحه، لا بنفسه ولسانه.
الثاني: أن تكون خلوتهم لصفاء الفكر لكي يصح نظرهم في طلب المعلومات، وهذه الخلوة لقوم يطلبون العلم من ميزان العقل، وذلك الميزان في غاية اللطافة، وهو بأدنى هوى يخرج عن الاستقامة، وطلاب طريق الحق لا يدخلون في مثل هذه الخلوة، بل تكون خلوتهم للذكر، وليس للفكر عليهم قدرة ولا سلطان، ومهما وُجِدَ الفكر إلى صاحب الخلوة فينبغي أن يعلم أنه ليس من أهل الخلوة، ويخرج من الخلوة ويعلم أنه ليس من أهل العلم الصحيح الإلهي، إذ لو كان من أهل ذلك لحالت العناية الإلهية بينه وبين دوران رأسه بالفكر.
الثالث: خلوة يفعلها جماعة لدفع الوحشة من مخالطة غير الجنس، والاشتغال بما لا يعني، فإنهم إذا رأوا الخلق انقبضوا، فلذلك اختاروا الخلوة.
الرابع: خلوة لطلب زيادة لذة توجد في الخلوة.
وخلوة حضرة صاحب الرسالة من القسم الأول، وكان بعيداً جداً من جميع المخالطات حتى الأهل والمال وذات اليد، واستغرق في بحر الأذكار القلبية، وانقطع عن الأضداد بالكلية، وظهر له الأنس والجلوة بتذكر مَنْ لأجله الخلوة، ولم يزل في ذلك الأنس، ومرآة الوحي تزداد من الصفاء والصقال حتى بلغ أقصى درجات الكمال) [“كتاب سفر السعادة” للفيروز أبادي المتوفى سنة 826هـ ص3 - 4].
الإمام الشافعي:
وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: (ومن أحب أن يفتح الله قلبه، ويرزقه العلم، فعليه بالخلوة وقلة الأكل، وترك مخالطة السفهاء وبعض أهل العلم الذي ليس معهم إنصاف ولا أدب) [“بستان العارفين” للإمام الفقيه الحافظ أبي زكريا محي الدين النووي المتوفى 676هـ ص47].
الإمام الغزالي:
وقال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: (وأما الخلوة ففائدتها دفع الشواغل، وضبط السمع والبصر، فإنهما دهليز القلب، والقلب في حكم حوض تنصب إليه مياه كريهة كدرة قذرة من أنهار الحواس. ومقصود الرياضة تفريغ الحوض من تلك المياه ومن الطين الحاصل منها؛ ليتفجر أصل الحوض، فيخرج منه الماء النظيف الطاهر. وكيف يصح له أن ينزح الماء من الحوض، والأنهار مفتوحة إليه؟ فيتجدد في كل حال أكثر مما ينقص. فلا بد من ضبط الحواس إلا عن قدر الضرورة، وليس يتم ذلك إلا بالخلوة) [“الإحياء” للغزالي ج3/ص66].
وعندما يسلم من علله وأمراضه وتعلقاته ومشاغله، وخواطر الشيطان ووساوسه، يستحق نعيم قربه ويستعد لتلقي العلوم اللدنية، والأسرار الربانية، والنفحات النورانية.
وقال الغزالي أيضاً: (وانكشف لي في أثناء هذه الخلوات أُمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها، والقدر الذي أذكره ليُنتفعَ به، أني علمت يقيناً أن الصوفية هم السالكون لطريق الله خاصة، وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقتهم أصْوَبُ الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق، بل لو جُمِع عقل العقلاء، وحكمة العلماء، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء، ليغيروا شيئاً من سَيْرِهم وأخلاقهم، ويبدلوه بما هو خير منه، لم يجدوا إليه سبيلاً، فإن جميع حركاتهم وسكناتهم في ظاهرهم وباطنهم مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به) [“المنقذ من الضلال” لحجة الإسلام الغزالي ص131 - 132].
الشيخ الأكبر:
وقال الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي (رحمه الله تعالى): (فإن المتأهب الطالب للمزيد، المتعرض لنفحات الجود بأسرار الوجود إذا لزم الخلوة والذكر، وفرَّغ المحل من الفكر، وقعد فقيراً لا شيء له عند باب ربه، حينئذ يمنحه الله تعالى، ويعطيه من العلم به والأسرار الإلهية والمعارف الربانية التي أثنى الله سبحانه بها على عبده خضر فقال: {عبْداً مِنْ عِبادِنا آتيناهُ رحمَةً مِنْ عندِنا وعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا علماً} [الكهف: 65]. وقال تعالى: {واتَّقوا اللهَ ويُعَلِّمُكُمُ اللهُ} [البقرة: 282]. قال تعالى: {إنْ تتَّقوا اللهَ يَجعَلْ لكُمْ فُرقاناً} [الأنفال: 29]. وقال: {ويجعلْ لَكُمْ نُوراً تمشونَ به} [الحديد: 28].
وقيل للجنيد: بم نلت ما نلت؟ فقال: بجلوسي تحت تلك الدرجة ثلاثين سنة.
وقال أبو يزيد: أخذتم علمكم ميتاً عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت. فيحصل لصاحب الهمة في الخلوة مع الله وبه جلَّت هيبته وعظمت منته، من العلوم ما يغيب عندها كل متكلم على البسيطة، بل كل صاحب نظر وبرهان، ليست له هذه الحالة) [“الفتوحات المكية” ج1/ص31].
محمد السفاريني:
وقال العلامة محمد السفاريني الحنبلي رحمه الله تعالى شارحاً قصيدة “منظومة الآداب”: (وقد أكثر الناس من مدح الخلوة، وكفِّ رِجْلِ الرجل عن الاختلاط بالناس:
أنستُ بوحدتي ولزمتُ بيتي فدام الأُنسُ لي ونما السرورُ
[“غذاء الألباب شرح منظومة الآداب” للشيخ الإمام محمد السفاريني الحنبلي المتوفى سنة 1188هـ. ج2/ص388].
الدكتور مصطفي السباعي :
وقال الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله تعالى في كتابه “مذكرات في فقه السيرة”: (يجب على الداعية إلى الله أن تكون له بين الفَيْنة والفَيْنة أوقات يخلو فيها بنفسه، تتصل فيها روحه بالله جل شأنه، وتصفو فيها نفسه من كدورات الأخلاق الذميمة والحياة المضطربة من حوله. ومثل هذه الخلوات تدعوه إلى محاسبة نفسه إن قصرت في خير، أو زلت في اتجاه، أو جانبت سبيل الحكمة، أو أخطأت في منهج أو طريق، أو انغمست مع الناس في الجدال والنقاش، حتى أنْسَتْهُ تذكُّرَ الله والأنس به، وتذكر الآخرة وجنتها ونارها والموتِ وغصصه وآلامه. ولذلك كان التهجد وقيام الليل فرضاً في حق النبي صلى الله عليه وسلم، مستحباً في حق غيره. وأحق الناس بالحرص على هذه النافلة هم الدعاة إلى الله وشريعته وجنته. وللخلوة والقيام لله بالعبودية في أعقاب الليل لذة لا يدركها إلا من أكرمه الله بها. وقد كان إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى يقول في أعقاب تهجده وعبادته: نحن في لذة لو عرفها الملوك لقاتلونا عليها) [“مذكرات في فقه السيرة” للدكتور مصطفى السباعي ص18].
عماد الدين الواسطي:
ويقول الشيخ الإمام عماد الدين أحمد الواسطي: (وليكن لنا جميعاً من الليل والنهار ساعة نخلو فيها بربنا جل اسمه وتعالى قدسه، نجمع بين يديه في تلك الساعة همومنا ونطرح أشغال الدنيا عن قلوبنا، فنزهد فيما سوى الله ساعة من نهار، فبذلك يعرف الإنسان حاله مع ربه، فمن كان له مع ربه حال، تحركت في تلك الساعة عزائمه، وابتهجت بالمحبة والتعظيم سرائره، وطالت إلى العلا زفراته وكوامنه. وتلك الساعة أنموذج لحالة العبد في قبره حين خلوه عن ماله وولده. فمن لم يخل قلبه لله ساعة من نهار لَمَا احتوشته من الهموم الدنيوية ذواتُ الآصار، فليعلم أنه ليس له ثَمَّ رابطة علوية، ولا نصيب من المحبة ولا المحبوبية، فليبك على نفسه، ولا يرض منها إلا بنصيب من قرب ربه وأُنسه. فإذا خلصت لله تلك الساعة؛ أمكن إيقاع الصلوات الخمس على نمطها من الحضور والخشية والهيبة للرب العظيم في السجود والركوع، فلا ينبغي أن نبخل على أنفسنا في اليوم والليلة من أربع وعشرين ساعة، بساعة لله الواحد القهار، نعبده فيها حق عبادته، ثم نجتهد على إيقاع الصلوات على ذلك النهج)[“غذاء الألباب” ج1/ص47].
ابن عجيبة:
وقال ابن عجيبة شارحاً قول ابن عطاء الله رحمهما الله تعالى: ما نفعَ القلبَ شيءٌ مثلُ عُزلةٍ يدخل بها مَيْدانَ فكرة:
(والعزلة انفراد القلب بالله. وقد يراد بها الخلوة التي هي انفراد القالب عن الناس، وهو المراد هنا، إذ لا ينفرد القلب بالله إلا إذا انفرد القالب. والفكرة سير القلب إلى حضرة الرب، وهي على قسمين: فكرة تصديق وإيمان، وفكرة شهود وعيان. ولا شيء أنفع للقلب من عزلة مصحوبة بفكرة، لأن العزلة كالحِمْية، والفكرة كالدواء، فلا ينفع الدواء بغير حمية، ولا فائدة في الحمية من غير دواء، فلا خير في عزلة لا فكرة فيها ولا نهوض بفكرة لا عزلة معها، إذ المقصود من العزلة هو تفريغ القلب، والمقصود من التفرغ هو جَولاَن القلب واشتغال الفكرة، والمقصود من اشتغال الفكرة تحصيل العلم وتمكنه من القلب، وتمكن العلم بالله من القلب هو دواؤه وغاية صحته، وهو الذي سماه الله القلب السليم، قال الله تعالى في شأن القيامة: {يومَ لا ينفَعُ مالٌ ولا يَنونَ إلا مَنْ أتى اللهَ بقلبٍ سليمٍ} [الشعراء: 88 -89].
وقد قالوا: إن القلب كالمعدة إذا قويت عليها الأخلاط مرضت، ولا ينفعها إلا الحمية، وهو قلة موادها، ومنعها من كثرة الأخلاط (المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء). وكذلك القلب إذا قويت عليه الخواطر واستحوذ عليه الحس مرض، وربما مات، ولا ينفعه إلا الحمية منها، والفرار من مواطنها، وهي الخلطة، فإذا اعتزل الناس واستعمل الفكرة نجح دواؤه، واستقام قلبه، وإلا بقي سقيماً حتى يلقى الله بقلب سقيم بالشك والخواطر الرديئة، نسأل الله العافية.
قال الجنيد رحمه الله تعالى: أشرف المجالس الجلوس مع الفكر في ميدان التوحيد.
وقال أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: ثمار العزلة الظفر بمواهب المنة، وهي أربعة:
كشف الغطاء، وتنزل الرحمة، وتحقيق المحبة، ولسان الصدق في الكلمة.
ثم ذكر للخلوة عشر فوائد:
1 - السلامة من آفات اللسان، فإنَّ مَنْ كان وحده لا يجد معه من يتكلم، ولا يسلم في الغالب من آفاته إلا من آثرَ الخلوة على الاجتماع.
2 - السلامة من آفات النظر،فإنَّ من كان معتزلاً عن الناس سلم من النظر إلى ما هم مُنْكَبُّون عليه من زهرة الدنيا وزخرفها، قال بعضهم: (من كثرت لحظاته دامت حسراته).
3 - حفظ القلب وصونه عن الرياء والمداهنة وغيرهما من الأمراض.
4 - حصول الزهد في الدنيا والقناعة منها، وفي ذلك شرف العبد وكماله.
5 - السلامة من صحبة الأشرار ومخالطة الأرذال، وفي مخالطتهم فساد عظيم.
6 - التفرغ للعبادة والذكر، والعزم على التقوى والبر.
7 - وُجْدانُ حلاوة الطاعات، وتمكن لذيذ المناجاة بفراغ سره، قال أبو طالب المكي في “القوت”: (ولا يكون المريد صادقاً حتى يجد في الخلوة من الحلاوة والنشاط والقوة ما لا يجده في العلانية).
8 - راحة القلب والبدن، فإن في مخالطة الناس ما يوجب تعب القلب.
9 - صيانة نفسه ودينه من التعرض للشرور والخصومات التي توجبها الخلطة.
10 - التمكن من عبادة التفكر والاعتبار، وهو المقصود الأعظم من الخلوة) [“إيقاظ الهمم في شرح الحكم” لأحمد بن عجيبة ج1/ص30].
هذه نبذة يسيرة من أقوال السادة العلماء الأفاضل، تُبين بوضوح أن الخلوة هي السبيل العملي الذي سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس، كي يقوى إيمانهم، وتصفو نفوسهم، وتسمو أرواحهم، وتتطهر قلوبهم، وتتأهل لتجليات الله تعالى.
أليس هذا التوجيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم سبباً للتعرف على فاطر السموات والأرض؟
أليس هذا أساساً للأذواق والمواجيد الصوفية، وسبيلاً للكشف والفيض والإشراق والصفاء؟
ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث: “سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله... ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه” [رواه البخاري في صحيحه في كتاب الرقاق عن أبي هريرة رضي الله عنه].
أليس هذا الحديث دليلاً قاطعاً على مشروعية الخلوة لذكر الله تعالى؟.
وفي هذه الخلوة يذكر الصوفي ربه خالياً فيغمره بأنواره ويحظى بمجالسته “أهل ذكري أهل مجالستي” [أخرجه الإمام أحمد في مسنده من حديث طويل]. لا يدور بخَلدِه أي طائف يشغله عن ربه، حتى إنه لينسى نفسه في حضرة القدُس الأعلى. وما أحسن قول عمر بن الفارض رحمه الله تعالى معبراً عن تلك الحالة الشائقة:
ولقد خَلوتُ مع الحبيب وبَيننا سرٍّ أرقُّ مِنَ النسيم إذا سرى
فدهشتُ بين جماله وجلالهِ وغدا لسانُ الحالِ عني مخْبراً
فتفيض عيناه دمعاً مما عرف من الحق، ذاهلاً بالله خاشعاً له مستأنساً بحضرته:
وَليُّ الله ليس له أنيسُ سوى الرحمن فهو له جليسُ
فيذكرهُ ويذكرهُ فيبكي وحيدُ الدهر جوهره نفيسُ
فالعبد المقصر إذا أراد اللحاق بهؤلاء الأولياء المخلصين خلا بنفسه الأمارة بالسوء؛ فعاتبها وزجرها وصدق في سيره إلى ربه، فرقَّ قلبه، وذرفت عيناه بالدمع حزناً وأسفاً على ضياع عمره في اللهو والغفلة قائلاً:
على نفسه فليبك من ضاع عمرهُ وليس له فيها نصيب ولا سهمُ
فانتبهَ من رقدته، وصحا من غفلته، وأقبل على ربه راجياً عفوه وغفرانه ومعاهداً إياه على طاعته وعبادته، ففرح الله بتوبته حين تاب، وأقبل عليه حين تقرب منه. قال تعالى في الحديث القدسي: “وإن تقرَّب إليَّ شبراً تقربتُ إليه ذراعاً، وإذا تقرَّبَ إليَّ ذراعاً تقربتُ إليه باعاً، وإذا أتاني يمشي أتيتُهُ هرولة” [من حديث قدسي أوله: “أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني. فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبراً...”. الحديث أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد عن أبي هريرة رضي الله عنه]. واستحق - ببشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم - إظلال الله تعالى له يوم الحر الأكبر في ظل عرشه والناس في حر الشمس، قد صهرتهم في ذلك الموقف الرهيب.
وأخيراً فلعل القارىء الكريم بعد هذه النصوص الصريحة والنقول الكثيرة عن العلماء الأعلام الذين نأخذ عنهم تعاليم ديننا تبيَّنَ له أن الخلوة مشروعة في الإسلام، وليست مبتدعة، وأنها ليست غاية تقصد، بل وسيلة لشفاء القلب من علله وأمراضه، حتى يكون سليماً، فينجو صاحبه يوم الحساب الأكبر {يومَ لا ينْفَعُ مالٌ ولا يَنونَ إلا مَنْ أتى اللهَ بقلبٍ سليمٍ} [الشعراء: 88 -89]
وليست الخلوة عزلة دائمة، وانزواءً مستمراً عن الناس، فكما أن المريض يقضي فترة يسيرة من الوقت في المستشفى كي يتخلص من أمراضه الجسدية، ثم يخرج للعمل بصحة أوفر ومناعة أقوى، متلذذاً بنعيم العافية؛ فكذلك المسلم يقضي في الخلوة فترة يسيرة، يخرج بعدها للحياة العملية، قوي الصلة بربه، عامر القلب بالإيمان واليقين متمتعاً بالمناعة القوية من تسرب بهارج الحياة الخادعة ومفاتنها المغرية إلى نفسه، وخصوصاً بعد أن اطلع على حقائقها الفانية، وتَذوَّقَ معنى قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عليها فانٍ} [الرحمن: 26].
فكم نرى من الناس من يهتم بجسمه الفاني ويوفر له أسباب الصحة، ويفرغ له كثيراً من وقته للاستجمام والاستشفاء والراحة، فإذا دُعي إلى تطبيب قلبه وتهذيب نفسه، في فترة وجيزة يخلو فيها بربه، إذا به يُعرض ويستغرب، ويعتبر ذلك - لجهله - ضياعاً للوقت، وابتداعاً لا أصل له في الدين. فمثل هذا ينطبق عليه قول بعْضِهم:
تطبِّبُ جسمكَ الفاني ليَبْقى وتتركُ قلبكَ الباقي مريضاً
فلو فَهم حقيقة الإسلام، وأنه دعا لإصلاح الأبدان والقلوب معاً لاهتم بقلبه، كما يهتم بجسمه:
يا خادمَ الجسمِ كم تسْعى لخدمته أتطلُبُ الربحَ مما فيه خسرانُ
أقبلْ على النفس واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسانُ
فعلى المؤمن أن تكون له خلوات يراقب بها ربه، ويحاسب نفسه على ما قدمت من خير أو شر.
ولقد كان شيخي وسيدي محمد الهاشمي رحمه الله تعالى يرغب مريديه بالخلوة حيث يجلس المريد منفرداً في مكان منعزل عن الناس بعيد عن صخب الدنيا وضوضائها، ثم يأذن له الشيخ بذكر الاسم المفرد [الله] ليردده مستغرقاً جميع أوقاته في الليل والنهار، لا يتوقف إلا لصلاة أو طعام أو نوم، ولا يشغل نفسه بالتحدث إلى الناس، بل يتفرغ للذكر موافقة لقوله تعالى: {واذكر اسم ربِّكَ وتبَتَّلْ إليه تبتيلاً} [المزمل: 8].
ويواصل الذكر ملاحظاً قلبه طارداً عنه أنواع الوساوس والخواطر وصور الأكوان، جامعاً قلبه على الله تعالى، مستعيناً بما يمنحه شيخه من خبرته ومعارفه وأحواله وتوجيهاته.
وحينئذ ينفذ الذكر إلى سويداء قلبه؛ فيرتسم الاسم المفرد فيه، وترتحل عنه الغفلة، وتزول الأغيار، ويشعر بحلاوة الأنس بالله تعالى، ويترقى في مدارج الأذواق والمعارف مما لا يستطيع البيان أن يعبر عنه، وليس له سوى الذوق إفشاء.
والخلاصة:
إن الخلوة نوعان: خلوة عامة، ينفرد بها المؤمن ليتفرغ لذكر الله تعالى بأية صيغة كانت، أو لتلاوة القرآن الكريم، أو محاسبة نفسه، أو ليتفكر في خلق السموت والأرض.
وخلوة خاصة: يقصد منها الوصول إلى مراتب الإحسان والتحقق بمدارج المعرفة، وهذه لا تكون إلا بإشراف مرشدٍ مأذون، يُلَقِّنُ المريدَ ذكراً معيناً، ويكون على صلة دائمة به ليزيل عنه الشكوك ويدفعه إلى آفاق المعرفة، ويرفع عنه الحجب والأوهام والوساوس، وينقله من الكون إلى المُكَوِّن.
ولا يظنَنَّ أحد أن الخلوة خاتمة السير، بل هي أول خطوة في طريق الوصول إلى الله تعالى، فلا بد أن تتلوها خلوات ومجاهدات طويلة ومذاكرة متواصلة للمرشد بهمة وصدق واستقامة، وملازمة على ذكر الاسم المفرد في الصباح والمساء، وعند كل فراغ، حتى يكون على اتصال دائم بالله تعالى، قد جمع بين مرتبتي الإحسان: المراقبة والمشاهدة؛ اللتين أشار إليهما الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله: “الإحسان أن تعبدَ الله كأنك تراه، فإن لم تكن تره فإنه يراك”.
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 01-20-2022
  #34
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,217
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: كتاب حقائق عن التصوف

الباب الثالث

طريق الوصول إلى الله

1ـ التوبة. 2ـ المحاسبة. 3 الخوف. 4ـ الرجاء. 5ـ الصدق. 6ـ الإخلاص. 7ـ الصبر. 8ـ الورع.

9ـ الزهد. 10ـ الرضا. 11ـ التوكل. 12ـ الشكر.
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 01-20-2022
  #35
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,217
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: كتاب حقائق عن التصوف

طريق الوصول إلى الله





بعد أن بينا نبذة عن المنهج العملي الذي اقتبسه أئمة الصوفية من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ كالصحبة والعلم والذكر والخلوة.. وغيرها، وهي أعمال بدنية في شكلها ومحلها، قلبية في روحها وجوهرها لا بد من بيان الطريق الذي يختص بأحوال القلب، وصفات النفس، ويعنى بالجانب الروحي، لأن الأصل صلاح القلب وشفاؤه من أمراضه، وتحليته بصفات الكمال.

فطريق الوصول إلى الله تعالى هو تلك المقامات القلبية: كالتوبة والمحاسبة والخوف والرجاء والمراقبة... والصفات الخُلُقية: كالصدق والإخلاص والصبر... التي يتحلى بها السالك في طريقه إلى معرفة الله تعالى معرفة ذوقية، والوصول إلى مقام الإحسان الذي لا حدَّ لمراتبه.

وليس المراد بالوصول المعنى المفهوم بين ذوات الأشياء، فإن الله تعالى جلَّ أن يحده مكانٌ أو زمانٌ، ولذا قال ابن عطاء الله السكندري: (وصولك إلى الله وصولك إلى العلم به، وإلا فجَلَّ ربُّنا أن يتصل به شيء، أو يتصل هو بشيء) [“إيقاظ الهمم” ج2/ص295].

وقال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: (معنى الوصول هو الرؤية والمشاهدة بسر القلب في الدنيا، وبعين الرأس في الآخرة، فليس معنى الوصول اتصال الذات بالذات، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً) [“روض الطالبين” للغزالي ص150].

وإن السير في طريق الوصول إلى الله تعالى صفة المؤمنين الصالحين، ومن أجله جاء الأنبياء والمرسلون، وإليه يدعو العلماء والمرشدون، كي يرتقي المرء من حضيض المادية والحيوانية إلى مستوى الإنسانية والملكية، ويذوق نعيم القرب ولذة الأنس بالله تعالى.

وإن الطريق واحدة في حقيقتها، وإن تعددت المناهج العملية، وتنوعت أساليب السير والسلوك تبعاً للاجتهاد وتبدل المكان والزمان، ولهذا تعددت الطرق الصوفية وهي في ذاتها وحقيقتها وجوهرها طريق واحدة.

وفي هذا المعنى قال ابن القيِّم: (الناس قسمان: عِلْيةٌ [علية: فلان من علية الناس، وهو جمع رجل علي، أي شريف رفيع مثل صبي وصبية] وسِفْلة، فالعلية: من عرف الطريق إلى ربه، وسلكها قاصداً للوصول إليه، وهذا هو الكريم على ربه، والسِّفْلة: من لم يعرف الطريق إلى ربه، ولم يتعرفها، فهذا هو اللئيم الذي قال الله تعالى فيه: {ومَنْ يُهِنِ اللـهُ فما له مِنْ مُكَرِّم} [الحج: 18]. والطريق إلى الله في الحقيقة واحدة لا تعدد فيها... وأما ما يقع في كلام بعض العلماء أن الطريق إلى الله متعددة متنوعة، جعلها الله كذلك لتنوع الاستعدادات واختلافها، رحمة منه وفضلاً، فهو صحيح لا ينافي ما ذكرناه من وحدة الطريق.

وكشف ذلك وإيضاحه أن الطريق واحدة جامعة لكل ما يرضي الله، وما يرضيه متعدد متنوع، فجميع ما يرضيه طريق واحدة، ومراضيه متعددة متنوعة بحسب الأزمان والأماكن والأشخاص والأحوال، وكلها طرق مرضاته. فهذه الطرق جعلها الله لرحمته وحكمته كثيرة متنوعة جداً لاختلاف استعدادات العباد وقوابلهم، ولو جعلها نوعاً واحداً مع اختلاف الأذهان والعقول وقوة الاستعدادات لم يسلكها إلا واحد بعد واحد. ولكن لما اختلفت الاستعدادات تنوعت الطرق ليسلك كل امرىء إلى ربه طريقاً يقتضيها استعداده وقوته وقبوله، ومن هنا يُعلم تنوع الشرائع واختلافها، مع رجوعها كلها إلى دين واحد، مع وحدة المعبود ودينه) [“طريق الهجرتين” لابن قيم الجوزية ص223 - 225].

ولقد عني رجال التصوف برسم معالم هذا الطريق، وتوضيح منازله ومقاماته، ووسائل السير فيه.

قال أبو بكر الكتاني وأبو الحسن الرملي رحمهما الله تعالى: سألْنا أبا سعيد الخراز، فقلنا: أخبرنا عن أوائل الطريق إلى الله تعالى؟ فقال: (التوبة، وذكر شرائطها، ثم يُنقل من مقام التوبة إلى مقام الخوف، ومن مقام الخوف إلى مقام الرجاء، ومن مقام الرجاء إلى مقام الصالحين، ومن مقام الصالحين إلى مقام المريدين، ومن مقام المريدين إلى مقام المطيعين، ومن مقام المطيعين إلى مقام المحبين، ومن مقام المحبين إلى مقام المشتاقين، ومن مقام المشتاقين إلى مقام الأولياء، ومن مقام الأولياء إلى مقام المقريبن. وذكروا لكل مقام عشر شرائط، إذا عاناها وأحكمها وحلَّت القلوب هذه المحلة أدمنت النظرة في النعمة، وفكرت في الأيادي والإحسان، فانفردت النفوس بالذكر، وجالت الأرواح في ملكوت عزه بخالص العلم به، واردةً على حياض المعرفة، إليه صادرة، ولِبابهِ قارعة، وإليه في محبته ناظرة، أما سمعت قول الحكيم وهو يقول:

أُراعي سواد الليل أنساً بذكر هو شوقاً إليه غير مستكره الصبر ولكن سروراً دائماً وتعرضاً وقرعاً لباب الرب ذي العز والفخر فحالهم أنهم قَرُبُوا فلم يتباعدوا، ورُفعت لهم منازل فلم يُخفَضوا، ونُوِّرتْ قلوبهم لكي ينظروا إلى مُلْك عدن بها ينزلون، فتاهوا بمن يعبدون، وتعززوا بمَنْ به يكتفون، حلَّوا فلم يظعنوا، واستوطنوا محلته فلم يرحلوا، فهم الأولياء وهم العاملون، وهم الأصفياء وهم المقربون، أين يذهبون عن مقام قربٍ هم به آمنون، وعزوا في غرف هم بها ساكنون، جزاءً بما كانوا يعملون، فلمثل هذا فليعمل العاملون) [“حلية الأولياء” لأبي نعيم ج10/ص248 - 249].



ولكي يقطع المرء عقبات الطريق، ويجتاز مقاماته لا بد له من مجاهدات نفسية ومواصلة للذكر والمراقبة والمحاسبة والخلوات، فالوصول إلى الله تعالى لا يُنال بالتشهي والتمني بل لا بد من إيمان وتقوى، وصدق في القصد، وإخلاص في الغاية، وعند ذلك يكرم الله السالكين إليه بالمعرفة الكاملة، والسعادة القلبية الحقة.

قال الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي رحمه الله تعالى: (إن طريق الوصول إلى علم القوم الإيمان والتقوى {ومَنْ يتَّقِ اللهَ يجعلْ لَهُ مَخْرَجاً ويَرْزُقْهُ مِنْ حيث لا يحتسِبُ} [الطلاق: 3]. والرزق نوعان: روحاني وجسماني، قال الله تعالى:{واتَّقوا اللهَ ويُعَلِّمُكُمُ اللهُ}[البقرة: 282]. أي يعلمكم ما لم تكونوا تعلمونه بالوسائط من العلوم الإلهية) [“النصرة النبوية” للشيخ مصطفى المدني ص84 بتصرف].

ومن كلام الشيخ محي الدين يتبين أن الإنسان لا يمكن له أن يسير إلى الله تعالى إلا بإيمان صحيح وعقيدة ثابتة، وقلب يرعى حدود الله، وأعمال مقيدة بشريعة الله، وأخلاقٍ عالية مقتبسة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن لم يترفَّع عن الشهوات الدنيئة والرعونات النفسية لا بد إلا أن ينحرف في سيره، أو ينقطع في منتصف الطريق، فيضل ويشقى.

قال ابن القيم رحمه الله: (لو كشف للعبد الغطاء عن ألطافه تعالى وبره وصنعه له من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم لذاب قلبه محبة له وشوقاً إليه، ولكن حجب القلوب عن مشاهدة ذلك إخلادها إلى عالم الشهوات والتعلق بالأسباب، فصدت عن كمال نعيمها، وذلك تقدير العزيز العليم، وإلا فأي قلب يذوق حلاوة معرفة الله ومحبته ثم يركن إلى غيره، ويسكن إلى ما سواه؟! هذا ما لا يكون أبداً، ومن ذاق شيئاً من ذلك، وعرف طريقاً موصلة إلى الله ثم تركها، وأقبل على إرادته وراحته وشهواته ولذاته وقع في آثار المعاطب، وأودع قلبه سجون المضايق، وعُذِّب في حياته عذاباً لم يعذَّب به أحد من العالمين، فحياته عجز وغم وحزن، وموته كدر وحسرة، ومعاده أسف وندامة... فنارُ الحجاب تطلع كل وقت على فؤاده، وإعراض الكون عنه - إذا أعرض عن ربه - حائل بينه وبين مراده، فهو قبر يمشي على وجه الأرض، وروحه في وحشة من جسمه، وقلبه في ملال من حياته...

فأصبح كالبازي المنتَّفِ ريشُه يَرى حسراتٍ كلما طار طائرُ

وقد كان دهراً في الرياض منعماً على كل ما يهوى من الصيد قادر

إلى أن أصابته من الدهر نكبة إذا هو مقصوصُ الجناحين حاسر)

[“طريق الهجرتين” ابن القيم ص227 - 230].



فالانقطاع عن الطريق مصيبة كبرى، وخسران مبين، وسببه موافقة السالك لشهوات نفسه وتطلعه للمقامات والكشوفات وانحرافه عن مقصده الأسمى. فالسالك الصادق المخلص لا يطلب المقامات ولا يقصد المراتب والكرامات، وإنما هي منازل يقطعها في طريقه إلى الغاية الكبرى دون انحراف أو التفات:

فلا تلتفتْ في السير غيراً وكلُّ ما سوى الله غيرٌ فاتخذْ ذكره حصناً

وكل مقام لا تقم فيه، إنه حجاب فجدَّ السيرَ واستنجد العونا

ومهما ترى كلَّ المراتب تُجتَلى عليك فحُلْ عنها، فعن مثلها حُلنا

وقل ليس لي في غير ذاتك مطلب فلا صورة تُجْلى، ولا طرفة تُجنى



قال ابن عطاء الله السكندري رحمه الله تعالى: (ما أرادت همة سالك أن تقف عند ما كُشف لها إلا ونادته هواتف الحقيقة: الذي تطلب أمامك) [“إيقاظ الهمم في شرح الحكم” ج1/ص51].

وكما أن لكل طريق حسي مخاطر وعوائق وقطاعاً، فإن للطريق الروحي القلبي مزالق ووهاداً وعقباتٍ لا بد من الانتباه إليها، ومن هنا يظهر فضل الدليل، وضرورة المرشد الذي يمسك بيد السالك فيجنبه المخاطر، ويقيه شر المهالك. ولطالما كثر تحذيرُ العلماء المرشدين للسائرين إلى الله تعالى من الوقوف والانقطاع، وشحذُ هممهم لمواصلة السير ومتابعة الجد، وترغيبُهم بنعيم الوصول وسعادة القرب.

قال ابن القيم رحمه الله: (السائر إلى ربه إذا أبصر الطريق وأعلامها، وأبصر المغاير والوهاد والطرق الناكبة عنها؛ فقد حصل له شطر السعادة والفلاح، وبقي عليه الشطر الآخر؛ وهو أن يضع عصاه على عاتقه ويشمر مسافراً في الطريق، قاطعاً منازلها منزلة بعد منزلة، فكلما قطع مرحلة استعد لقطع الأخرى، واستشعر القرب من المنزل، فهانت عليه مشقة السفر، وكلما سكنت نفسه من كلال السير ومواصلة الشدِّ والرحيل؛ وعَدَها قرب التلاقي وبرد العيش عند الوصول، فيُحدث لها ذلك نشاطاً وفرحاً وهمة فهو يقول: يا نفس أبشري فقد قرب المنزل، ودنا التلاقي فلا تنقطعي في الطريق دون الوصول فيحال بينك وبين منازل الأحبة، فإن صبرتِ وواصلتِ المسرى وصلتِ حميدة مسرورة جذلة وتلقتك الأحبةُ بأنواع التحف والكرامات، وليس بينك وبين ذلك إلا صبر ساعة، فإن الدنيا كلها كساعة من ساعات الآخرة، وعمرك درجة من درج تلك الساعة، الله الله لا تنقطعي في المفازة، فهو والله الهلاك والعطب لو كنتِ تعلمين.

فإن استصعبتْ عليه فليذكِّرها ما أمامها من أحبابها، وما لديهم من الإكرام والإنعام، وما خلفها من أعدائها، وما لديهم من الإهانة والعذاب وأنواع البلاء. فإن رجعت فإلى أعدائها رجوعُها، وإن تقدمت فإلى أحبابها مصيرها، وإن وقفت في طريقها أدركها أعداؤها فإنهم وراءها في الطلب. ولا بد لها من قسم من هذه الأقسام الثلاثة فلتختر أيها شاءت. وليجعلْ حديث الأحبة حاديها وسائقها، ونور معرفتهم وإرشادهم هاديها ودليلها، وصِدقَ وِدادهم وحبهم غذاءها وشرابها ودواءها، ولا يوحشْه انفرادُه في طريق سفره، ولا يغترَّ بكثرة المنقطعين، فألم انقطاعه وبعاده واصل إليه دونهم، وحظه من القرب والكرامة مختص به دونهم فما معنى الاشتغال بهم والانقطاع معهم؟!.

وليعلم أن هذه الوحشة لا تدوم، بل هي من عوارض الطريق، فسوف تبدو له الخيام، وسوف يخرج عليه المتلقون يهنئونه بالسلامة والوصول إليهم، فيا قرة عينه إذ ذاك، ويا فرحته إذ يقول: {يا ليتَ قومي يعلمونَ بما غَفَرَ لي ربّي وجعلني مِنَ المُكرَمينَ} [يس: 26 -27]) [“طريق الهجرتين” لابن القيم ص232 - 233].

ويختلف الواصلون في وصولهم إلى الله تعالى كل على حسب مقامه وهمته:

فمنهم من وصل في سيره إلى وحدة الأفعال ذوقاً وشهوداً، ويفنى فعله وفعل غيره، ويتذوق معنى قوله تعالى: {وما رميتَ إذ رميتَ ولكِنَّ اللهَ رمى} [الأنفال: 17]. وهذه رتبة في الوصول.

ومنهم من يصل في سيره إلى وحدة الصفات ذوقاً وشهوداً، فيتذوق معنى قوله تعالى: {وما تشاؤون إلا أن يشاء اللهُ} [الدهر: 30]. ويتذوق معنى الحديث القدسي: “فإذا أحببْتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به” [أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الرقاق عن أبي هريرة رضي الله عنه]. وهذه رتبة في الوصول.

ومنهم من يترقى إلى مقام الفناء في الذات، فيشهد عَرَضية كل شيء مقابل وجود الحق عز وجل، وتفيض عليه أنوار اليقين، ولسان حاله يقول:

وجودي أن أغيبَ عن الوجود ِبما يبدو عليَّ من الشهود ويتذوق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لَبيد: ألا كلُّ شيء ما خلا الله باطلُ...” [أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب المناقب عن أبي هريرة رضي الله عنه والمراد بالبطلان: الفناءُ أي: {كُلُّ مَنْ عليها فانٍ . وَيَبقى وَجهُ ربِّكَ ذو الجلال والإكرام} [الرحمن: 26 -27] كما في “هداية الباري لترتيب أحاديث البخاري” ج1/ص92].

والصوفية في طريقهم للوصول إلى الله تعالى قد جعلوا قدوتهم ورائدهم سيد الوجود وإمام المتقين محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهجوا نهجه حين فرَّ عليه الصلاة والسلام إلى ربه، ولجأ إليه بعيداً عن الجو الوثني وعبادة الأصنام والأحجار وعن صخب الحياة وأوضارها.

قال الله تعالى: {يا أيُّها النبيُّ إنَّا أرسلْناكَ شاهداً ومُبَشِّراَ ونذيراً . وداعياً إلى اللهِ بإذنِهِ وسِراجاً منيراً} [الأحزاب: 45 -46]. فساروا وراءه متبعين له في جميع حالاته وأخلاقه وأفعاله.

وقال الله تعالى: {قل إنْ كنْتُم تحبُّون اللهَ فاتَّبعوني يُحبِبْكُمُ اللهُ ويغفرْ لكُمْ ذنوبَكُم} [آل عمران: 31]. فساروا في طريقه الحنيف الذي سنه لهم غير منحرفين ولا ملتفتين.

وسمعوا نداء الله : {وأنَّ هذا صراطي مُستقيماً فاتَّبِعوه ولا تتَّبِعوا السُبُلَ فتفرَّقَ بكم عن سبيله} [الأنعام: 153]. وقوله تعالى: {وما خلقتُ الجنَّ والإنس إلا لِيَعبُدونِ} [الذاريات: 56]. فلم تغرَّهم الدنيا بزخارفها ولم توقفهم بعلائقها.

وسمعوا هواتف الحقيقة تهتف من وراء حجب الغيب: {أفَحَسِبْتُم أنَّما خلقْناكُم عبَثاً وأنَّكُم إلينا لا ترجعون} [المؤمنون: 115]. فأحبوا لقاء مَنْ سيرجعون إليه، وجدُّوا واجتهدوا في سيرهم الحثيث حتى وصلوا إلى ربهم سالمين غانمين.

وها نحن نوضح بعض المقامات التي يمر بها السالك في سيره إلى الله تعالى، وأولها التوبة؛ فمن لا توبة له لا سير له، وهي منطلق السالك في سيره إلى ربه.
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 01-20-2022
  #36
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,217
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: كتاب حقائق عن التصوف

2- المحاسبة




وهي تهيئة الوازع الديني في النفس، وتربيتها على تنمية اللوم الباطني الذي يجردها من كل ما يقف أمامها عقبة في طريق الصفاء والمحبة والإيثار والإخلاص. وللصوفية في هذا المقام قدم راسخة وجهاد مشكور، وهم على أثر الرسول صلى الله عليه وسلم ينهجون منهجه، ويهتدون بهديه. قال صلى الله عليه وسلم: “الكيِّسُ من دان نفسَه وعمل لما بعد الموت، والعاجز مَنْ أتْبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني” [رواه الترمذي في كتاب صفة القيامة عن شداد بن أوس رضي الله عنه وقال: حديث حسن. الكيس: العاقل. دان نفسه: حاسبها].

ومن حاسب نفسه لا يترك لها سبيلاً إلى الاشتغال بالباطل، إذ هو يشغلها بالطاعات، ويلومها على التقصير مع الله تعالى خشية منه، فكيف تجد سبيلاً إلى اللهو والبطالة؟!

قال السيد أحمد الرفاعي رحمه الله تعالى: (من الخشية تكون المحاسبة، ومن المحاسبة تكون المراقبة، ومن المراقبة يكون دوام الشغل بالله تعالى) [“البرهان المؤيد” للسيد أحمد الرفاعي ص56].

وما أشبه حال الصوفية في هذا بما كان يأخذ به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه من تربية روحية خالصة تغرس في نفوسهم اللوم الباطني؛ فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوماً من بيته، يطوي بطنه على الجوع، فالتقى بصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فعلم منهما أن أمرهما كأمره، وأنهما لا يجدان قوت يومهما، والتقى بهم رجل من الأنصار، لم تخدعه بشاشتُهم، فعلم أمرهم فاستضافهم، فلما وصلوا إلى منزله وجدوا تمراً وماءً بارداً وظلاً وارفاً، فلمَّا تبلَّغوا بتمرات، وشربوا من الماء، قال صلوات الله وسلامه عليه: “هذا من النعيم الذي تُسألون عنه” [“تفسير ابن كثير” ج4/ص545 موجزاً].

أيٍّ نعيم هذا حتى يُسألوا عنه، ويُحاسَبوا عليه؟! بضع تمرات، وجرعة ماء تنقع الغليل، يعتبرها الرسول صلى الله عليه وسلم من النعيم الذي يسألهم ربهم عنه يوم القيامة. أليس في هذه اللفتة الكريمة من الرسول صلى الله عليه وسلم نفحة ترمي إلى طبع النفس بطابع الوازع القوي والإحساس المرهف والشعور الدقيق والتبعة الكبرى والمسؤولية الضخمة في كل تصرف تهدف إليه النفس بين حين وآخر؟

وإن المحاسبة لتثمر الشعور بالمسؤولية تجاه الله تعالى وتجاه خلقه، وتجاه النفس المكلفة بالتكاليف الشرعية من أوامر ونواهٍ. فبالمحاسبة يفهم الإنسان أنه ما وُجد عبثاً، وأنه لا بدَّ راجع إلى الله تعالى، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة” [رواه مسلم في كتاب الزكاة عن عدي بن حاتم رضي الله عنه، والترمذي في كتاب صفة القيامة].

فينبثق من قلبه الرجوع الاختياري بالتوبة النصوح، ويترك الشواغل الفانية التي تشغله عن خالقه تعالى، ويفر إلى الله من كل شيء: {فَفِرُّوا إلى اللهِ إنِّي لكم مِنْهُ نذير مبينٌ} [الذاريات: 50].

ففرَّ مع تلك الفئة المؤمنة الصوفية في سفرهم إلى الله تعالى، مجيباً هواتف الغيب: {يا أيُّها الذينَ آمنوا اتَّقوا اللهَ وكونوا معَ الصادقينَ}

[التوبة: 119].

وإنما القوم مسافرونا لحضرة الحق وظاعنونا



فآواهم المبيت في حضرته الكبرى، وأكرمهم الجناب الأقدس بتلك العندية التي ينشدها كلُّ محب لله تعالى: {في مقعَدِ صدقٍ عندَ مليكٍ مقتدرٍ} [القمر: 55].

قال الشيخ أحمد زروق رحمه الله تعالى في قواعده: (الغفلة عن محاسبة النفس توجب غلظها فيما هي به، والتقصير في مناقشتها يدعو لوجود الرضا عنها، والتضييق عليها يوجب نفرتها، والرفق بها معين على بطالتها. فلزم دوام المحاسبة مع المناقشة، والأخذ في العمل بما قارب وصح، دون مسامحة في واضح، ولا مطالبة بخفي من حيث العمل، واعتبر في النظر تركاً وفعلاً واعتبر في قولهم: من لم يكن يومه خيراً من أمسه فهو مغبون، ومن لم يكن في زيادة فهو في نقصان، وإن الثبات في العمل زيادة فيه، ومِنْ ثَمَّ قال الجنيد رحمه الله: لو أقبل مقبل على الله سَنة ثم أعرض عنه لكان ما فاته منه أكثر مما ناله) [“قواعد التصوف” للشيخ أحمد زروق ص75].
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 01-20-2022
  #37
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,217
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: كتاب حقائق عن التصوف

3- الخوف




قال حجة الإسلام الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: (اعلم أن حقيقة الخوف هو تألم القلب واحتراقه بسبب توقع مكروه في المستقبل، وقد يكون ذلك من جريان ذنوب، وقد يكون الخوف من الله تعالى بمعرفة صفاته التي توجب الخوف لا محالة، وهذا أكمل وأتم، لأن من عرف الله خافه بالضرورة، ولهذا قال الله تعالى: {إنَّما يخشى اللـهَ من عبادِهِ العلماءُ} [فاطر:28]) [“الأربعين في أصول الدين” ص196].

وقد دعا الله تعالى عباده إلى الخوف منه وحده فقال: {وإيَّايَ فارهبونِ} [البقرة: 40].

ومدح المؤمنين ووصَفَهم بالخوف فقال: {يخافونَ رَبَّهُم مِنْ فوقِهم}

[النحل: 50].

وجعل الله الخوف من شروط كمال الإيمان فقال: {وخافونِ إنْ كنتُم مؤمنينَ} [آل عمران: 175].

ووعد الله من خاف مقامه جنتين: جنةَ المعارف في الدنيا، وجنةَ الزخارف في الآخرة فقال: {ولِمَنْ خاف مقامَ ربِّه جنَّتانِ} [الرحمن: 46].

وجعل الله الجنة مأوى من خاف مقام ربه فقال: {وأمَّا مَنْ خاف مقامَ ربِّهِ ونهى النفس عنِ الهوى فإنَّ الجَنَّة هي المأوى} [النازعات: 40ـ41].

قال الشيخ أحمد زروق رحمه الله تعالى في قواعده: (من بواعث العمل وجود الخشية وهي تعظيم يصحبه مهابة. والخوف هو انزعاج القلب من انتقام الرب) [“قواعد التصوف” ص74].

والخوف يتمثل في نشيج من يُقدِّر خطورة العواقب فيقف عند الواجب، ولا يعرض نفسه لزيغ ولا إثم؛ بل ولا يقف في مواطن توشك أن توقعه في الشر والفساد، ثم يترقى الصوفي في الخوف فيتحلى بأشرف ما يتحلى به المقربون، وعندئذ تنتقل مظاهر الخوف من عالم الجسم إلى عالم الروح؛ فتكون للعارف أشجان لا يدركها إلا أهل الصفاء.

وفي هذا المقام يصف سيدي عبد الوهاب الشعراني رضي الله عنه السيدة رابعة العدوية بأنها كانت كثيرة البكا والحزن، وكانت إذا سمعت ذكر النار غشي عليها زماناً، وكان موضع سجودها كهيئة الحوض الصغير من دموعها، وكأن النار ما خلقت إلا لأجلها، وسر ذلك الخوف إنما هو الاعتقاد بأن كل بلاء دون النار يسير، وأن كل خَطْبٍ دون البعد عن الله تعالى هين.

ويرى الصوفية أن المحب لا يُسقى كأس المحبة إلا بعد أن ينضح الخوفُ قلبَه. ومن لم يكن له مثل تقواه لم يدرِ ما الذي أبكاه، ومن لم يشاهد جمال يوسف لم يدرِ ما الذي آلم يعقوب.

وليس الخائف الذي يبكي ويمسح عينيه، إنما الخائف من يترك ما يخاف أن يعذَّب عليه.

قال أبو سليمان الداراني رحمه الله تعالى: (ما فارق الخوف قلباً إلا خرب) [“الرسالة القشيرية” ص60].

وليس الخائفون بمرتبة واحدة؛ بل هم على مراتب مختلفة، وقد صنف ابن عجيبة رحمه الله تعالى مراتبهم إلى ثلاث مراتب فقال: (خوف العامة من العقاب وفوات الثواب، وخوف الخاصة من العتاب وفوات الاقتراب، وخوف خاصة الخاصة من الاحتجاب بعروض سوء الأدب) [“معراج التشوف إلى حقائق التصوف” ص6].
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 01-20-2022
  #38
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,217
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: كتاب حقائق عن التصوف

4- الرجاء




قال الشيخ أحمد زروق رحمه الله تعالى في تعريف الرجاء: (الرجاء: السكون لفضله تعالى بشواهد العمل في الجميع، وإلا كان اغتراراً) [“قواعد التصوف” ص74].

وقد حثنا الله تعالى على الرجاء ونهانا عن القنوط من رحمته فقال: {قُلْ يا عباديَ الذينَ أسرَفوا على أنْفُسِهم لا تقنَطوا مِنْ رحمةِ اللهِ إنَّ الله يغفر الذنوبَ جميعاً إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ} [الزمر: 53].

وقال تعالى مبشراً بسعة رحمته: {ورحمَتي وَسِعَتْ كُلَّ شيءٍ} [الأعراف: 155].

وقال تعالى في وصف الذين يرجون رحمته: {إنَّ الذينَ آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل اللهِ أولئكَ يَرجُونَ رحمة اللهِ} [البقرة: 218].

وجاء الحث على رجاء رحمة الله في كثير من الأحاديث الشريفة منها:

ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “والذي نفسي بيده لو لم تُذْنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله تعالى فيغفر لهم” [أخرجه مسلم في كتاب التوبة].

وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال يغفرها الله لهم، ويضعها على اليهود والنصارى” [أخرجه مسلم في كتاب التوبة].

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “يُدنى المؤمن يوم القيامة من ربه حتى يضع عليه كنفَه فيقرره بذنوبه فيقول: أتعرف ذنْبَ كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: رَبِّ أعرِفُ. قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم. فيعطى صحيفة حسناته” [أخرجه مسلم في كتاب التوبة، والبخاري في صحيحه في كتاب الرقاق. كنفه: ستره ورحمته].

والرجاء يختلف عن التمني، إذ الراجي هو الذي يأخذ بأسباب الطاعة طالباً من الله الرضى والقبول، بينما يترك المتمني الأسباب والمجاهدات، ثم ينتظر من الله الأجر والمثوبة، فهو الذي قال في حقه عليه الصلاة والسلام: “والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني” [رواه الترمذي في كتاب صفة القيامة وقال: حديث حسن، وابن ماجه في كتاب الزهد. كلاهما عن شداد بن أوس رضي الله عنه].

إذ كل مَنْ رجا الله تعالى وطلبه، عليه أن يشمر عن ساعد الجد والاجتهاد بصدق وإخلاص حتى ينال مطلوبه، ولهذا قال تعالى معلماً طريق طلبه: {فمَنْ كانَ يرجو لقاءَ ربِّه فليعْمَلْ عملاً صالحاً ولا يُشرِكْ بعبادة ربِّه أحداً} [الكهف: 110].

فعلى العبد إن كان في ريعان شبابه مقارفاً للذنوب مطيعاً لنفسه الشهوانية أن يُغَلِّب جانب الخوف على الرجاء. أما إذا كان في نهاية عمره فعليه أن يُغَلِّب الرجاء كما قال تعالى في الحديث القدسي: “أنا عند ظن عبدي بي” [خرجه البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد عن أبي هريرة رضي الله عنه].

وكما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي يرويه جابر بن عبد الله رضي الله عنه: “لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل” [رواه مسلم في كتاب الجنة باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى].

وإن كان العبد مقبلاً على ربه سالكاً طريق قربه فعليه أن يجمع بين مقامي الخوف والرجاء، لا يُغَلِّبُ الخوفَ على الرجاء حتى يقنط من رحمة الله تعالى وعفوه، ولا يُغَلِّبُ الرجاءَ على الخوف حتى يسترسل في مهاوي المعاصي والسيئات، بل يطير بهما محلقاً في أجواء صافية؛ فلا يزال في قرب ودنو من الحضرة الإلهية، قد حقق صفة هؤلاء الذين وصفهم ربهم بقوله: {تتجافى جُنُوبُهم عنِ المضاجِعِ يدعونَ ربَّهَم خوفاً وطَمَعاً} [السجدة: 16] خوفاً من ناره، وطمعاً في جنته.. خوفاً من بعده، وطمعاً في قربه.. خوفاً من هجره وطمعاً في رضاه.. خوفاً من قطيعته وطمعاً في وصاله..

وليس الراجون بمرتبة واحدة، بل هم على مراتب ذكرها ابن عجيبة رحمه الله تعالى إذ قال: (رجاء العامة حسن المآب بحصول الثواب، ورجاء الخاصَّة حصول الرضوان والاقتراب، ورجاء خاصة الخاصَّة التمكين من الشهود وزيادة الترقي في أسرار الملك المعبود) [“معراج التشوف” ص6].
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 01-20-2022
  #39
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,217
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: كتاب حقائق عن التصوف

5- الصدق




لا بد للمريد الطالب سلوكَ سبيل النجاة والوصول إلى الله تعالى من أن يتحقق بصفات ثلاث: الصدق والإخلاص والصبر، لأن جميع صفات الكمال لا يتحلى بها الإنسان إلا إذا كان متصفاً بهذه الصفات الثلاث، وكذلك لا تتم الأعمال إلا بها، فإذا فارقَتِ الأعمالَ فسدت ولم تنل القبول.

ولما كان الباعث على العمل الصالح والترقي في مدارج الكمال هو الصدق؛ نبتدىء بالكلام عليه أولاً، ثم بالإخلاص ثانياً، ثم بالصبر ثالثاً.

لقد ذهب العلماء في تقسيم الصدق مذاهب شتى، فمنهم من أسهب في التفصيل والتفريع، ومنهم من سلك مسلك الاقتضاب والإيجاز.

فقد ذكر حجة الإسلام الإمام الغزالي رحمه الله تعالى للصدق معان ستة فقال: (اعلم أن لفظ الصدق يستعمل في ستة معان: صدق في القول، وصدق في النية والإرادة، وصدق في العزم، وصدق في الوفاء بالعزم، وصدق في العمل، وصدق في تحقيق مقامات الدين كلها، فمن اتصف بالصدق في جميع ذلك فهو صدِّيق:

1 - صدق اللسان يكون في الإخبار، وفيه يدخل الوفاء بالوعد والخلف فيه. وقيل: في المعاريض مندوحة عن الكذب.

2 - صدق في النية والإرادة، ويرجع ذلك إلى الإخلاص؛ وهو أن لا يكون له باعث في الحركات والسكنات إلا الله تعالى.

3 - صدق في العزم على العمل لله تعالى.

4 - صدق في الوفاء بالعزم بتذليل العقبات.

5 - صدق في الأعمال حتى لا تدل أعماله الظاهرة على أمر في باطنه لا يتصف به.

6 - الصدق في مقامات الدين كالخوف والرجاء والتعظيم والزهد، والرضا والتوكل والحب) [“إحياء علوم الدين” ج4/ص334].

وأما القاضي زكريا الأنصاري رحمه الله تعالى فقد ذكر للصدق محلات ثلاثة فقال: (الصدق هو الحكم المطابق للواقع، ومحله اللسان والقلب والأفعال، وكل منها يحتاج إلى وصف يخصه، فهو في اللسان: الإخبار عن الشيء على ما هو عليه. وفي القلب: العزم الأكيد. وفي الأفعال: إيقاعها على وجه النشاط والحب. وسببه: الوثوق بخبر المتصف، وثمرته: مدحُ الله والخلقِ للمتصف به) [“الرسالة القشيرية” ص97].

ومفهوم الصدق عند عوام المسلمين قاصر على صدق اللسان، ولكن السادة الصوفية قصدوا بالصدق مفهومه العام الذي يشمل بالإضافة إلى صدق اللسان صدق القلب وصدق الأفعال والأحوال

قال العلامة ابن أبي شريف رحمه الله تعالى في حواشي العقائد: (الصدق استعمله الصوفية بمعنى استواء السر والعلانية والظاهر والباطن بألاَّ تكذب أحوالُ العبد أعمالَه، ولا أعمالُه أحوالَه [“شرح رياض الصالحين” لابن علان الصديقي. ج 1 ص 282] فالصدق بمفهومهم هذا، صفة ينبعث منها العزم والتصميم والهمة على الترقي في مدارج الكمالات، والتخلي عن الصفات الناقصة المذمومة.

والصدق بهذا الاعتبار سيف الله تعالى في يد السالك يقطع به حبال العلائق والعوائق التي تعترض طريقه في سيره إلى الله تعالى، ولولاه لما استطاع أن ينطلق في مدارج الترقي ولكان معرَّضاً للوقوف والانقطاع.

قال العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: (إنَّ صدق التأهب للقاء الله هو مفتاح جميع الأعمال الصالحة والأحوال الإيمانية، ومقامات السالكين إلى الله، ومنازل السائرين إليه من اليقظة والتوبة والإنابة والمحبة والرجاء والخشية والتفويض والتسليم وسائر أعمال القلوب والجوارح، فمفتاح ذلك كله صدق التأهب والاستعداد للقاء الله، والمفتاح بيد الفتاح العليم، لا إله غيره ولا ربَّ سواه) [“طريق الهجرتين” لابن قيم الجوزية المتوفى سنة 751هـ ص223].

فإذا تحلى السالك بالصدق استطاع أن يسير بخطى سريعة نحو مراتب الإيمان العالية، إذ هو القوة الدافعة والمحركة، وهو الصفة اللازمة لكل مقام من مقامات السلوك إلى الله تعالى.

فأول مراحل السير هو صدق العبد في إنابته إلى ربه بالتوبة النصوح التي هي أساس الأعمال الصالحة، وأول درجات الكمال.

والصدق في تهذيب النفس الأمارة، يحقق النجاح الكبير في التخلص من أمراضها وشهواتها، ويطهر القلب من الخبائث حتى ينتهي إلى الإيمان الذوقي الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: “ذَاقَ طَعمَ الإيمانِ...” [“ذاق طعم الإيمان من رضي بالله تعالى رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً”. أخرجه مسلم في كتاب الإيمان عن أبي هريرة رضي الله عنه، والإمام أحمد والترمذي عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه].

والصدق في محاربة الشيطان والتخلص من وساوسه يجعل المؤمن في نجاة من كيده وأمان من شره، كما يجعل الشيطانَ في يأس وقنوط من إضلاله وغوايته.

والصدق في إخراج حب الدنيا من القلب يحْملُ الإنسان على المجاهدة المستمرة بالصدقة والإيثار والتعاون الخيري، حتى يتخلص من حبها وينجو من سيطرتها على قلبه.

والصدق في طلب العلم تخلصاً من الجهل وتصحيحاً للعمل، يحمل الإنسان على الاستقامة والمثابرة، وتحمل المشاق وسهر الليالي كي ينال منه أوفر نصيب وأكبر قسط، وما نبغ العلماء إلا بصدقهم وإخلاصهم وصبرهم.

والصدق في العمل هو ثمرة العلم وغايته، إذ يجعل العبد في ارتقاء دائم، ويجعل علمه سبباً في كماله، ولا بد من إخلاص في ذلك، وإلا قد يدخل على السائر بعضُ العلل الموقفة له عن مطلوبه من حب الشهرة والسمعة والالتفات إليها...

فالإخلاص في الصدق يزيل هذه الشوائب من طريق الغاية المنشودة وهي رضاء الله تعالى ومعرفته ومحبته.

ومن هنا تظهر أهمية الصدق وعظيم آثاره، ولذلك اعتبره الحق سبحانه أرفع الدرجات بعد النبوة والرسالة، قال أبو القاسم القشيري رحمه الله تعالى: (الصدق عماد الأمر وبه تمامه، وفيه نظامه، وهو تالي درجة النبوة. قال الله تعالى : {ومَنْ يُطِعِ اللهَ ورسولَهُ فأُولئكَ معَ الذينَ أنْعَمَ اللهُ عليهم من النَّبيِّينَ والصِّدِيقينَ والشهداءِ والصالحينَ وحسُنَ أولئكَ رفيقاً} [النساء: 69]) [“الرسالة القشيرية” ص97].

ولهذا أمر الله تعالى المؤمنين أن يلازموا أهل الصدق ليستفيدوا من حالهم وينتفعوا من صدقهم فقال: {يا أيها الذين آمنوا اتَّقوا اللهَ وكونوا مع الصادقينَ} [التوبة: 119].

ووصف الله تعالى الصادقين بالقلة، وأنهم الفئة المختارة من المؤمنين فقال: {مِنَ المؤمنينَ رِجالٌ صدقوا ما عاهدوا اللهَ عليه} [الأحزاب: 23].

وقال معروف الكرخي رحمه الله تعالى مشيراً إلى قلة الصادقين: (ما أكثر الصالحين وأقل الصادقين في الصالحين!) [“طبقات الصوفية” للسلمي ص87].

كما ندَّدَ الله تعالى بالمنافقين الذين لم يَصْدُقوا في إيمانهم وعهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {فلو صدَقُوا اللهَ لكانَ خيراً لهُم} [محمد: 21].

وقد أخبر الله تعالى أن العبد يوم القيامة يجني ثمار صدقه، ويكون صدقه سبب نفعه ونجاته فقال: {هذا يومُ يَنْفَعُ الصادقينَ صِدْقُهُم}

[المائدة: 119].

وقد اعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم الصدق سبيلاً موصلاً إلى البر الذي يشمل كل الفضائل والكمالات التي تؤهل العبد لدخول الجنة، كما جعل دوام الاتصاف بالصدق مفتاحاً لنيل مرتبة الصدِّيقية فقال: “إن الصدق يهدي إلى البِر، وإن البِر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصْدُقُ حتى يُكتَبَ عند الله صدِّيقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل لَيَكذِبُ حتى يُكتبَ عند الله كذاباً” [أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الأدب، ومسلم في كتاب البر عن ابن مسعود رضي الله عنه].

وقد أوضح الرسول عليه الصلاة والسلام أن الصدق يثمر طمأنينة القلب وراحة الفكر، بينما يسبب الكذب حالات من القلق والاضطراب والشك وعدم الاستقرار، فقد روي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: “دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة” [أخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة وقال: حديث حسن صحيح].

وليس الصادقون بمرتبة واحدة، بل هناك الصادق، وأعلى منه الصِّديق. قال أبو القاسم القشيري رحمه الله تعالى: (أقل الصدق استواء السر والعلانية، والصادق من صدق في أقواله، والصِّدِّيق من صدق في جميع أقواله وأفعاله وأحواله) [“الرسالة القشيرية” ص97]. ورتبة الصدِّيقية في نفسها مراتب متفاوتة، بعضها أعلى من بعض، وقد نال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ذروة سنام الصديقية، وشهد الله تعالى بذلك فقال: {والذي جاءَ بالصِّدقِ وصدَّقَ به} [الزمر: 32].

ولا يعلو مقامَ الصديقية إلا مقامُ النبوة، فمقام الصديقية مقام الولاية الكبرى والخلافة العظمى، وهذا المقام تترادَفُ فيه الفتوحات وتعظم التجليات وتتم المشاهدات والكشوفات لكمال النفس وحسن صفائها.





الخلاصة:

إن من يعمر باطنه بالصدق والإخلاص، تجري حركاته وسكناته على حسب ما في قلبه؛ فيظهر الصدق في أحواله وأقواله وأعماله، لأن من أَسَرَّ سريرة ألبسه الله رداءها.

قال العلامة القرطبي رحمه الله تعالى: (حقٍّ على كل من فهم عن الله تعالى أن يلازم الصدق في الأقوال، والإخلاص في الأعمال، والصفاء في الأحوال، فمَنْ كان كذلك لحق بالأبرار، ووصل إلى رضاء الغفار) [“شرح رياض الصالحين” لابن علان ج1/ص284].

فعليك أيها المريد أن تكون صادقاً في أقوالك لأن الكذب من صفات المنافقين. قال عليه الصلاة والسلام: “آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان” [أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الإيمان، ومسلم في كتاب الإيمان عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال المناوي في شرح هذا الحديث: (النفاقُ ضربان: شرعي: وهو إبطان الكفر وإظهار الإيمان، وعرفي: وهو أن يكون سره خلاف علانيته، وهو المراد هنا). “فيض القدير شرح الجامع الصغير” ج1/ص63].

وكن صادقاً في طلب الوصول إلى الله تعالى، فالمقاصد العالية لا تُنال بالتشهي، لذلك قيل: (لا ينال الوصول من كان في قلبه شهوة الوصول) بل يناله بالجد والاجتهاد.

وعمّر قلبك بالصدق لتنبعث منه الهمة والنشاط في سيرك إلى الله تعالى.

وتحقق بالصدق إن قلت ياالله فالصدق وجهه مقبول وعليك بالصدق في عهدك مع مرشدك ودليلك إلى الله تعالى حتى يكون ذلك عوناً لك على ترقيك وسرعة وصولك.

وكن صادقاً في موافقتك لربك أمراً ونهياً وفي اتباعك لرسوله صلى الله عليه وسلم حتى تتحقق بالعبدية لله تعالى، فهي أُمنية السالكين لربهم في جميع مراتبهم ومقاماتهم.
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 01-20-2022
  #40
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,217
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: كتاب حقائق عن التصوف

6- الإخلاص




تعريفه:

قال أبو القاسم القشيري رحمه الله تعالى معرفاً الإخلاص: (الإخلاص إفراد الحق سبحانه في الطاعة بالقصد، وهو أن يريد بطاعته التقرب إلى الله تعالى دون شيء آخر من تصنعٍ لمخلوق أو اكتسابِ مَحْمَدَةٍ عند الناس أو محبة مدحٍ لمخلوق أو معنى من المعاني سوى التقرب إلى الله تعالى. وقال: ويصح أن يقال: الإخلاص تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين) [“الرسالة القشيرية” ص95 - 96].

وقال أبو علي الدقاق رحمه الله تعالى: (الإخلاص: التوقي عن ملاحظة الخلق، فالمخلص لا رياء له) [“الرسالة القشيرية” ص95 - 96].

وقال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: (ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما) [“الرسالة القشيرية” ص95 - 96].

وقال الإمام الجنيد رحمه الله تعالى: (الإخلاص سِرٍّ بين الله وبين العبد، لا يعلمه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده ولا هوىً فيميله) [“الرسالة القشيرية” ص95 - 96].

وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري رحمه الله تعالى: (حق المخلص أن لا يرى إخلاصه ولا يسكن إليه، فمتى خالف ذلك لم يكمل إخلاصه، بل سماه بعضهم رياء) [“الرسالة القشيرية” ص95 - 96].

هذه الأقوال والعبارات المتنوعة في الإخلاص ترجع إلى مقصد واحد وهو أن لا يكون للنفس حظ في عمل من الأعمال التعبدية، الجسمية منها والقلبية والمالية، وأن لا يرى إخلاصه.



أهميته في الكتاب والسنة:

لما كان قبول الأعمال موقوفاً على وجود الإخلاص فيها، أمر الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بالإخلاص في عبادته تعليماً لهذه الأمة فقال: {قلْ إنِّي أُمرتُ أنْ أعبُدَ اللهَ مُخلِصاً لهُ الدينَ} [الزمر: 11] وقال: {قل اللهَ أعبُدُ مخلِصاً لهُ ديني} [الزمر: 14]. وقال عز وجل: {فاعبُدِ اللهَ مخْلِصاً له الدينَ ألا لله الدينُ الخالصُ} [الزمر: 2].

كما أمر الله تعالى خلقه أن تكون جميع عباداتهم القولية والفعلية والمالية خالصة له تعالى، بعيدة عن الرياء فقال: {وما أُمِروا إلا لِيَعبُدوا اللهَ مُخلِصينَ له الدينَ} [البينة: 5].

وأوضح الحق سبحانه أن السبيل إلى لقاء الله تعالى يوم القيامة لقاء رضى وإنعام هو العمل الصالح الخالص لوجه الله، السليمُ من ملاحظة الخلق فقال: {فمَنْ كان يرجو لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عملاً صالحاً ولا يُشْرِكْ بعِبادَةِ رَبِّهِ أحداً} [الكهف: 110].

وجاءت الأحاديث الشريفة توجِّه العبد إلى الإخلاص في جميع أعماله وتحذِّره أن يقصد بعبادته ثناء الناس ومدحَهم وتبين أن كل عمل لم يتصف بالإخلاص لله تعالى فهو مردود على صاحبه، وتوضح أن الله تعالى لا ينظر إلى ظاهر أعمال العبد، بل ينظر إلى ما في قلبه من النوايا والمقاصد، لأن الأعمال بالنيات، والأمور بمقاصدها.

وقد سمى الرسول صلى الله عليه وسلم الرياء شركاً أصغرَ تارة، وسماه شركَ السرائر تارة أخرى. وأخبر أن الله تعالى سوف يتبرأ من المرائي يوم القيامة، ويحيله إلى الناس الذين أشركهم في عبادته.

وهذه بعض الأحاديث الشريفة التي تبين أهمية الإخلاص وتوضح هذه المعاني المذكورة:

1 - عن أبي أمامة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “أرأيتَ رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر، ما له؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا شيء له، فأعادها ثلاث مرات، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا شيء له، ثم قال: إن الله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً، وابتُغِيَ به وجهه” [رواه أبو داود والنسائي بإسناد جيد].

2 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوَرِكم، ولكن ينظرُ إلى قلوبكم” [رواه مسلم في كتاب البر والصلة].

3 - عن شداد بن أوس رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “مَنْ صام يرائي فقد أشرك، ومن صلى يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك” [رواه البيهقي كما في “الترغيب والترهيب” ج2/ص31].

4 - وعن محمود بن لبيد قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “يا أيها الناس إياكم وشرك السرائر. قالوا: يا رسول الله وما شركُ السرائر؟ قال: يقوم الرجل فيصلي، فيزين صلاته جاهداً لما يرى من نظر الناس إليه، فذلك شرك السرائر” [رواه ابن خزيمة في صحيحه].

5 - وعن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن أخوَف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء. يقول الله عز وجل إذا جُزِيَ الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاءً” [رواه الإمام أحمد بإسناد جيد].

6 - وعن أبي سعيد بن أبي فضالة رضي الله عنه، وكان من الصحابة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة ليومٍ لا ريب فيه، نادى منادٍ: مَنْ أشرك في عمله لله أحداً فليطلب ثوابه من عنده، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك” [رواه الترمذي في كتاب التفسير، تفسير سورة الكهف].



أقوال العلماء في أهمية الإخلاص:



قال مكحول رحمه الله تعالى: “ما أخلص عبد أربعين يوماً إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه” [“الرسالة القشيرية” ص 95 -96].

وقيل لسهل بن عبد الله التستري رحمه الله تعالى: أي شيء أشد على النفس؟ قال: (الإخلاص، لأنه ليس لها فيه نصيب) [“الرسالة القشيرية” ص 95 -96].

وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله تعالى: (إذا أخلص العبد انقطعت عنه كثرة الوساوس والرياء) [“الرسالة القشيرية” ص 95 -96].

وقال ابن عجيبة في شرح حكمة ابن عطاء الله السكندري رحمهما الله تعالى: [الأعمال صور قائمة، وأرواحها وجود سر الإخلاص فيها]: (الأعمال كلها أشباح وأجساد، وأرواحها وجود الإخلاص فيها، فكما لا قيام للأشباح إلا بالأرواح وإلا كانت ميتة ساقطة؛ كذلك لا قيام للأعمال البدنية والقلبية إلا بوجود الإخلاص فيها، وإلا كانت صوراً قائمة وأشباحاً خاوية لا عبرة بها) [“إيقاظ الهمم في شرح الحكم” لابن عجيبة ج1/ص25].

وكلام العلماء والعارفين في الإخلاص أكثر من أن يحصى، وكلهم يؤكدون عظيم أهميته وكبير أثره.



مراتب الإخلاص:

قال ابن عجيبة رحمه الله تعالى: (الإخلاص على ثلاث درجات: إخلاص العوام والخواص وخواص الخواص.

فإخلاص العوام: هو إخراج الخلق من معاملة الحق مع طلب الحظوظ الدنيوية والأخروية كحفظ البدن والمال وسعة الرزق والقصور والحور.

وإخلاص الخواص: طلب الحظوظ الأخروية دون الدنيوية.

وإخلاص خواص الخواص: إخراج الحظوظ بالكلية، فعبادتهم تحقيق العبودية والقيامُ بوظائف الربوبية محبة وشوقاً إلى رؤيته، كما قال ابن الفارض:

ليس سؤْلي من الجنان نعيماً غيرَ أني أحبها لأراكا



وقال آخر:

كلهم يعبدون من خوفِ نارٍ ويروْن النجاة حظاً جزيلاً

أو بأنْ يسكنوا الجنان فيضحوا في رياضٍ ويشربوا السلسبيلا

ليس لي في الجنان والنارِ رأيٌ أنا لا أبتغي بِحِبِّي بديلا



وقال: والحاصل لا يمكن الخروج من النفس والتخلصُ من دقائق الرياء من غير شيخ أبداً. والله تعالى أعلم) [“إيقاظ الهمم في شرح الحكم” ج1/ص25 - 26].

وأسمى مقاصد الصوفية أن يرتقوا بإخلاصهم إلى أرفع الدرجات ويعبدوا الله مبتغين وجهه دون أن يقصدوا ثواباً:

فما مقصودهم جنات عَدْنٍ ولا الحورُ الحسانُ ولا الخيامُ

سوى نظرِ الجليل وذا مُناهم وهذا مقصد القوم الكرامُ



كما قالت رابعة: ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك، وإنما عبدتك لذاتك. فلو لم يكن ثَمَّة ثواب ولا عقاب، ولا جنة ولا نار، لَمَا تأخروا عن عبادتهم ولما انثنوا عن طاعاتهم لأنهم يعبدون الله لله، ولأن أعمالهم تصدر عن قلب عَمَّرَه حبُّ الله وحده، وطلبُ قربه ورضوانه، بعد أن أدركوا نعمه وآلاءه، وذاقوا بِرَّه وإحسانه.

وليس معنى هذا أنهم لا يحبون دخول الجنة، ولا يرغبون في البعد عن النار - كما فهم بعض الحمقى من أعداء التصوف - [فإن بعضهم أخذ يندد بكلام رابعة العدوية، واتهمها بأنها فقدت الرغبة والرهبة. وهذا جهل ومغالطة فإنها لم تخرج عن حدود الرغبة والرهبة، ولكنها سَمَتْ بهما وارتفعت، فكانت رغبتها في رضاء الله وقربه وحبه، ورهبتها من غضبه وبعده، فكلما عظم إيمان المرء ازدادت رهبته وسمَت رغبته، وكم كانت رابعة كثيرة البكاء والخوف والنحيب؟!] فهم يكرهون النار ويخافونها لأنها مظهر سخط الله وغضبه ونقمته، ويحبون الجنة ويطلبونها لأنها مظهر حب الله ورضاه وقربه، كما قالت آسية زوجة فرعون: {ربِّ ابنِ لي عندكَ بيتاً في الجَنَّةِ} [التحريم: 11]. فهي قد طلبت العِنْدية والقُرب قبل أن تطلب الجنة، طلبت الجوار قبل الدار.

وما حُبُّ الديارِ شَغَفْنَ قَلبي ولكن حب من سكن الديارا



ولم تكن رغبتها في الجنة إلا لنوال الحب والقرب والرضا منه تعالى.

وهكذا عندما ترتفع همة العبد وتسمو غاياته يَتَرَفَّع عن ملاحظة لذائذه البدنية ومنافعه الشخصية، سواء كانت دنيوية أم أخروية، ويبغي في جميع عباداته الحب والقرب، والتحقق بالعبودية الخالصة، فعلى قدر همة العبد يكون مطلبه.

ولا نقصد من هذا أن الذي يبغي من طاعاته وعباداته النعيم الأخروي والتمتع بلذائذ الجنة، أو الخلاصَ من عذاب النار، أنه منحرف ضال، ولا ندَّعي أنه محروم من وعد الله؛ بل هو مؤمن طائع صالح، إلا أن مرتبته أدنى من مرتبة أولئك الذين سمت نياتهم، وارتفعت هممهم في إخلاصهم لربهم.

قال الإمام السيوطي رحمه الله تعالى: (القيامُ بالأوامر والنواهي لله وحده، لا لجلب ثواب ولا لدفع عقاب، وهذا حال من عبدَ الله لله، خلافُ من عبدَ الله للثواب وخوف العقاب، فإنما عَبَدَ لِحَظِّ نفسه، وإن كان هو محباً أيضاً، لكنه في درجة الأبرار، وذاك في درجة المقربين) [“تأييد الحقيقة العلية” للإمام السيوطي ص61].

قال الشيخ أحمد زروق رحمه الله تعالى في “قواعد التصوف”: (تعظيم ما عظَّم الله متعيِّن، واحتقار ذلك ربما كان كفراً، فلا يصح فَهْمُ قولهم: [ما عبدناه خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته]. على الإطلاق إما احتقاراً لهما - وقد عظمهما الله تعالى - فلا يصح احتقارهما من مسلم، وإما استغناء عنهما ولا غنى للمؤمن عن بركة مولاه. نعم لم يقصدوهما بالعبادة بل عملوا لله تعالى لا لشيء، وطلبوا منه الجنة والنجاة من النار لا لشيء. وشاهد ذلك في قوله تعالى: {إنَّما نُطعِمُكم لوجهِ اللهِ} [الإنسان: 9] إذ جعل عِلَّة العمل إرادة وجهه تعالى) [“قواعد التصوف” للشيخ أحمد زروق ص76].



شوائب الإخلاص في أعمال السالك:

قد تدخل على السالك آفاتٌ كثيرة تَشُوبُ إخلاصه، وما هذه الآفات إلا حجب تعرقل سيره إلى الله تعالى، لذا كان من الضروري الإشارة إليها، وتحذير السالكين من مخاطرها، ثم بيان طريق الخلاص منها حتى تكون جميع أعمال السالك خالصة لوجهه تعالى.

الحجاب الأول: رؤيته لعمله وإعجابه به وحجابه به عن المعمول له وبالعبادة عن المعبود.

فالذي يخلصه من رؤية عمله علمُهُ بفضل الله تعالى عليه وتوفيقه له، وأنه مخلوق هو وعمله لله تعالى: {واللهُ خلَقَكُم وما تعمَلونَ} [الصافات: 96]. إلا أن له نسبةَ الكسب فقط.

وإذا دقق في صفات النفس، وعلم أنها كما وصفها الله تعالى: {إنَّ النفسَ لأمَّارةٌ بالسوءِ} [يوسف: 53]. أدرك أن كل خير يصدر منه هو محض فضل من الله تعالى ومنَّة، وعندئذٍ يتذوق معنى قوله تعالى: {ولولا فضلُ اللهِ عليكم ورحمتُهُ ما زكى منكُمْ من أحدٍ} [النور: 21].

فتخلصُ العبد من رؤية أعماله وإعجابه بها يكون بمعرفة نفسه ومعرفة دخائلها، فليجتهد الإنسان في تحصيل هذه المعرفة.

الحجاب الثاني: طلبه العوض لعمله، والعوض إما أن يكون في الدنيا أو في الآخرة.

أما الذي يكون في الدنيا، فطلبه الشهوات المنوَّعة، ومنها شهوة السمعة والشهرة، وحب الظهور وغير ذلك، وكذلك طلبه للأحوال والمقامات والمكاشفات والمعارف.

ولهذا يقول العارف الكبير الشيخ أرسلان رحمه الله تعالى ناصحاً كل ملتفت إلى غير مطلوبه ومحبوبه ومقصوده: (يا أسير الشهوات والعبادات، يا أسير المقامات والمكاشفات، أنت مغرور) [“خمرة الحان ورنة الألحان” ص177]. وإنما كان أسيرها لأنها من جملة الأغيار ومن عالم الخلق، فالوقوف عندها قاطع عن الوصول إلى معرفة خالقها تعالى، قال تعالى: {وأنَّ إلى ربِّكَ المنتهى} [النجم: 42].

ويقول الشيخ عبد الغني النابلسي رحمه الله تعالى معلقاً على كلامه: (إذ لو كنت صادقاً ما التفتَّ إلى شهوة أو عبادة، ولا مقام ولا مكاشفة، ولأفردْتَ القصد إليه تعالى وحده دون جميع ما عداه، ولجَرّدْتَ العزم والهمة فيه تعالى، وتركت ما سواه. ثم قال: ونقل ابن عطاء الله السكندري في “التنوير في إسقاط التدبير” عن شيخه أبي العباس المرسي رضي الله عنه، أنه يقول: (لن يصل الولي إلى الله حتى تنقطع عنه شهوة الوصول إلى الله تعالى). ومن كلام بعضهم: (لو رُفعتَ إلى ذروة الأكوان وترقيتَ إلى حيث لا مكان، ثم اغتررْتَ بشيء طرفة عين فلست من أُولي الألباب) ويقول ابن الفارض رحمه الله تعالى:

قال لي حُسْن كل شيء تجلَّى بي تَمَلَّ فقلت قصدي وراك



فالالتفات إلى حسن المكوَّنات والمخلوقات، والوقوف عندها اغترار وانقطاع) [“خمرة الحان ورنة الألحان” شرح رسالة الشيخ أرسلان الدمشقي لعبد الغني النابلسي رحمه الله تعالى ص29].

ويقول بعضهم ناصحاً لمن هذا حاله:

ومهما ترى كلَّ المراتب تُجتلَى عليك فحُلْ عنها فعَنْ مثلِها حُلْنا ويقول ابن عطاء الله رحمه الله تعالى: (ما أرادتْ همةُ سالك أن تقف عند ما كشف لها، إلا نادته هواتف الحقيقة: الذي تطلب أمامك) [“إيقاظ الهمم في شرح الحكم” ج1/ص51].

وطلبُ العبدِ لهذه المقامات وغيرها شهوة خفية، وذلك إما أن ينالها فيطمئن إليها، ويُحجب بها عن المقصود؛ وإما أن لا ينالها عندما سار إليها، إلا أنه جعلها غاية، والله تعالى وسيلة، فيجتهد لتحصيلها فلا يصل، فيفتر عزمه، ويقنط وييأس، وعندئذٍ يرجع القهقرى، إلا إذا لاحظتْه العنايةُ بإرشاد المرشدين، فيمكنه التخلص من هذه الورطة، وإلا دام منقطعاً، وانقلب على وجهه خاسراً.

وأما طلب العوض في الآخرة: فدخول الجنة والنجاة من النار.



وتصحيح سيره بأن يعتقد أن دخول الجنة برحمة الله تعالى لا بعمله؛ فقد روي عنه عليه الصلاة والسلام: “لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته” [رواه البخاري في كتاب المرضى ومسلم في كتاب صفات المنافقين].

فالذي يُخَلِّص العبد من طلب العوض على عمله عِلْمُهُ بأنه عبد محض، وأنه لا ينال دخول الجنة والنجاة من النار إلا بفضل الله تعالى، والعبد لا يملك مع سيده شيئاً، إذ عبادته لله تعالى لمحض العبودية، فما يناله من الأجر والثواب تفضلٌ وإحسان من الله تعالى في الدنيا والآخرة؛ وكذلك توفيقه للعبادة، فإذا ما شهد هذا التوفيق من جملة نعم الله عليه، يسارع في شكر الله على هذه النعم، عندئذٍ يخلص من طلب العوض لعمله.

والحجاب الثالث: رضاه عن أعماله واغتراره بها، وتخليصه وإنقاذه من رضاه بعمله يكون بشيئين:

1 - إطلاعه على عيوبه في أعماله، فقلَّ عمل من الأعمال إلا وللشيطان فيه نصيب، وللنفس فيه حظ.

أما نصيب الشيطان، فقد أرشدنا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما سئل عن التفات الرجل في صلاته، فقال: “هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد” [رواه البخاري في كتاب أبواب صفة الصلاة عن عائشة رضي الله عنها. والترمذي في كتاب أبواب الصلاة وقال: حسن صحيح].

يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: (فإذا كان هذا الالتفات طرفة أو لحظة، فكيف التفات قلبه إلى ما سوى الله تعالى! هذا أعظم نصيب للشيطان من العبودية) [“مدارج السالكين” ج2/ص51].

وأما حظ النفس من العمل، فلا يعرفه إلا أهل البصائر من العارفين.

2 - علم العبد بما يستحقه الرب جل جلاله من حقوق العبودبة وآدابها الظاهرة والباطنة وشروطها. فلو اجتهد العبد بالليل والنهار لرأى نفسه مقصراً تجاه الله تعالى، وأين العبد العاجز الضعيف من خالق الأكوان؟ لهذا بيَّنَ لنا حضرة الله أن موقف خلقه منه التقصير فقال: {وما قدَرُوا اللهَ حقَّ قدرِهِ}[الزمر: 67].



الخلاصة:

إن الإخلاص تصفية العمل من العلل والشوائب، سواء أكان مصدرها التعلق بالخلق، كطلب مدحهم وتعظيمهم والهرب من ذمهم، أو كان مصدرها التعلق بالعمل، كالاغترار به، وطلب العوض عنه...

لذا فإن أهل الهمم العالية أخلصوا دينهم لله، وسمعوا نداء الله في قلوبهم {فَفِرُّوا إلى اللهِ} [الذرايات: 50] فاستجابوا لهاتف الحق، وقال قائلهم ملبياً له: تركت الناس كلهمُ ورائي وجئت إليك.
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
كتاب حقائق عن التصوف باللغة الانكليزية admin المكتبة الرقمية 0 03-08-2014 04:48 AM
من دقائق المسائل في المذهب عبدالقادر حمود الفقه والعبادات 1 11-24-2012 02:24 AM
حقائق عن العلوم اللدنية عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 9 12-19-2011 03:10 AM
معراج التشوف إلى حقائق التصوف" و كتاب "كشف النقاب عن سر لب الألباب عبدالقادر حمود المكتبة الرقمية 5 11-30-2011 01:01 AM
حقائق اغرب من الخيال عبدالقادر حمود القسم العام 7 04-02-2009 08:05 AM


الساعة الآن 11:42 PM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir