رد: المكتوبات
المكتوب الرابع والعشرون
بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ
} يفعل الله ما يشاء{ (ابراهيم:27)
} ويحكم ما يريد{ (المائدة:1)
سـؤال:
ان ما يقتضيه اسم الله ((الرحيم)) من تربية شفيقة، واسم الله ((الحكيم)) من تدبير وفق المصالح، واسم الله (( الودود)) من لطف ومحبة.. كيف تلائم مقتضيات هذه الاسماء الحسنى العظام مع ماهو مرعب وموحش كالموت والعدم والزوال والفراق والمصائب والمشقات؟
ولنسلّم ان ما يراه الانسان في طريق الموت لابأس به وهو خير وحسن حيث سيمضي الى السعادة الابدية. ولكن اية رحمة وشفقة تسع، واية حكمة ومصلحة توجد، واي لطف ورحمة في إفناء هذه الانواع من الاشجار والنباتات اللطيفة والازهار الجميلة والحيوانات المؤهلة للوجود والشغوفة بالحياة والتواقة للبقاء، وباستمرار ودون استثناء واعدامها دون امهال احد منها؟ وفي تسخيرها في المشاق وتغييرها بالمصائب دون السماح لأحد منها بالدعة والراحة؟ وفي اماتتها وزوالها وفراقها بلا توقف، دون ان يسمح لأحد بالمكوث قليلاً ودون رضىً من أحد؟
الجـواب: لكي نحل هذا السؤال نحاول أن ننظر الى هذه الحقيقة العظمى من بعيد، فهي حقيقة واسعة جداً وعميقة جداً ورفيعة جداً، لنرى الحقيقة بوضوح. فنبين الداعي والمقتضى لها في خمسة رموز ونبين الغايات والفوائد منها في خمس اشارات.
المقام الاول
وهو في خمسة رموز
l الرمـز الاول
لقد ذكرنا في خواتيم الكلمة السادسة والعشرين: ان صنّاعاً ماهراً، يكلف رجلاً فقيراً لقاء اجرة يستحقها ، ليقوم له بدور النموذج ((الموديل)) ليخيط لباساً راقياً، فاخراً في اجمل زينة واكثرها بهاءً، اظهاراً لمهارته وصنعته. لذا يفصّل على ذلك الرجل اللباس ويقصه ويقصره ويطوله، ويقعد الرجل وينهضه، ويجعله في اوضاع مختلفة.. فهل يحق لهذا الرجل الفقير ان يقول للصنّاع: لِمَ تبدل هذا اللباس الذي يجمّلني؟ ولِمَ تغيره؟ فتقعدني تارة وتنهضني اخرى فتفسد راحتي؟!
وكذلك الصانع الجليل (وله المثل الاعلى) قد اتخذ ماهية كلِ نوع من الموجودات مقياساً ونموذجاً ((موديلاً)) فألبس كل شئ لباساً مرصعاً بالحواس، ونقش عليه نقوشاً بقلم قضائه وقدره، واظهر جلوات اسمائه الحسنى، ابرازاً لكمال صنعته بنقوش اسمائه. فضلاً عن انه سبحانه يمنح كل موجود ايضاً كمالاً ولذة وفيضاً بمثابة اجرة ملائمة له.
فهل يحق لشئ ان يخاطب ذلك الصانع الجليل الذي هو مالك الملك يتصرف في ملكه كيف يشاء ويقول: ((انك تتعبني وتفسد عليّ راحتي))؟ حاش للّه وكلا!
انه ليس للموجودات حق باية جهة كانت ازاء واجب الوجود، وليس لها ان تدّعي باي حقٍ مهما كان، بل حقها القيام بالشكر الدائم والحمد الدائم، اداءً لحق مراتب الوجود التي منحها اياها.لأن جميع مراتب الوجود الممنوحة للموجود انما هي وقوعات تحتاج الى علّة. بينما مراتب الوجود التي لم تمنح هي امكانات، والامكانات عدمٌ، وهي لاتتناهى، والعدم لايحتاج الى علة، فما لانهاية له لاعلة له.
مثلاً: لايحق للمعادن ان تشكو قائلة ً: لِمَ لم نصبح نباتاتٍ؟ بل حقها أن تشكر فاطرها الجليل على ما انعم عليها من نعمة الوجود كمعادن.
وكذا النبات ليس له حق الشكوى، فليس له أن يقول: لِمَ لم اصبح حيواناً؟ بل حقه الشكر لله الذي وهب له الوجود والحياة معاً . وكذا الحيوان ليس له حق الشكوى ويقول: لِمَ لم اكن انساناً؟ بل عليه حق الشكر لما أنعم الله عليه من الوجود، والحياة وجوهر الروح الراقي.. وهكذا فقس.
ايها الانسان الشاكي! انك لم تبق معدوماً، بل لبست نعمة الوجود. وذقت طعم الحياة. ولم تبق جماداً ولم تصبح حيواناً، فقد وجدت نعمة الاسلام، ولم تبق في غياهب الضلال، وتنعمت بنعمة الصحة والأمان.. وهكذا..
ايها الغارق في الكفران! أفبعد هذا تدعّي حقاً لك على ربك، انك لم تشكر ربك بعدُ على ما أنعم عليك من مراتب الوجود التي هي نعم خالصة. بل تشكو منه جل وعلا لما لم ينعم عليك من نعم غالية من انواع الامكانات وانواع العدم ومما لاتقدر عليه ولاتستحقه ،فتشكو بحرص باطل وتكفر بنعمه سبحانه.
ترى لو أن رجلاً أُصعد على قمة منارة عالية ذات درجات وتسلـَّم في كل درجة منها هدية ثمينة ثم وجد نفسه في قمة المنارة، في مكان رفيع، أيحق له أن لايشكر صاحب تلك النعم ويبكي ويتأفف ويتحسر قائلاً: لـِمَ لم اقدر على صعود ما هو أعلى من هذه المنارة..
ترى كم يكون عمله هذا باطلاً لو تصرف هكذا وكم يسقط في هاوية كفران النعمة! وكم هو في ضلالة مقيتة!. حتى البلهاء يدركون هذا.
ايها الانسان الحريص غير القانع! ويا ايها المسرف غير المقتصد! ويا ايها الشاكي بغير حق! ايها الغافل!
اعلم يقيناً: ان القناعة شكران رابح، بينما الحرص كفران خاسر، والاقتصاد توقير للنعمة جميل ونافع، بينما الاسراف استخفاف بالنعمة مضرّ ومشين.
فان كنت راشداً، عوّد نفسك على القناعة وحاول بلوغ الرضى. وان لم تطق ذلك فقل: ياصبور! وتجمّل بالصبر. وارض بحقك ولاتشكُ. واعلم ممن وإلى مَن تشكو! ألزم الصمت. واذا اردت الشكوى لامحالة فاشكُ نفسك الى الله، فان القصور منها.
l الرمز الثانـي:
لقد ذكرنا في ختام المسألة الاخيرة للمكتوب الثامن عشر أنه:
ان حكمةً من حكم تبديل الخالق الجليل للموجودات دوماً وتجديده لها باستمرار تبديلاً وتجديداً محيّراً مذهلاً بفعالية ربوبيته الجليلة هي ان الفعالية والحركة في المخلوقات نابعة من شهية، من اشتياق، من لذة، من محبة، حتى يصح القول:
ان في كل فعالية نوعاً من اللذة، بل ان كل فعالية هي نوع من اللذة، واللذة كذلك متوجهة الى كمال بل هي نوع من الكمال.
ولما كانت الفعالية تشير الى كمال، الى لذة، الى جمال، وان الواجب الوجود سبحانه الذي هو الكمال المطلق والكامل ذو الجلال، جامع في ذاته وصفاته وافعاله لجميع انواع الكمالات، فلا شك أن لذلك الواجب الوجود سبحانه شفقة مقدسة لاحدّ لها ومحبة منزهة لانهاية لها تليق بوجوب وجوده وقدسيته وتوافق تعاليه الذاتي وغناه المطلق وتناسب كماله المطلق وتنزهه الذاتي ولا شك أن له شوقاً مقدساً لاحدّ له، نابعاً من تلك الشفقة المقدسة، ومن تلك المحبة المنزهة، وان له سروراً مقدساً لاحدّ له نابعاً من ذلك الشوق المقدس، وان له لذة مقدسة لاحدّ لها ـ ان جاز التعبير ـ ناشئة من ذلك السرور المقدس. ولاشك ان له مع تلك اللذة المقدسة رضىً مقدساً لاحدّ له وافتخاراً مقدساً لانهاية له ـ ان جاز التعبير ـ ناشئين من رضىً وامتنان مخلوقاته من انطلاق استعداداتها من القوة الى الفعل، حينما تنطلق وتتكامل بفعالية قدرته ضمن رحمته الواسعة.. فذلك الرضى المقدس المطلق والافتخار المطلق يقتضيان هذه الفعالية المطلقة في صورتها المطلقة. وتلك الفعالية ايضاً تقتضي تبديلاً وتغييراً وتحويلاً وتخريباً لاحدّ لهما وذلك التغيير والتبديل غير المحدودين يقتضيان الموت والعدم والزوال والفراق.
ولقد رأيت ـ في وقت ما ـ ان كل ما تبينه حكمة البشر (فلسفته وعلومه ) من فوائد تخص غايات المصنوعات، تافهة لاقيمة لها، وعلمت حينها ان تلك الحكمة تفضي الى العبثية، ومن هنا فان الفيلسوف الراسخ قدمه في الفلسفة: إما أن يضل في ضلالة الطبيعة، او يكون سوفسطائياً او ينكر الارادة والعلم الالهي، او يطلق على الخالق: ((الموجب بالذات)).
وفي ذلك الوقت بعثت الرحمةُ الإلهية اسم الله((الحكيم)) لإغاثتي، فأظهر لي الغايات الجليلة للمصنوعات، اي أن كل مصنوع مكتوب رباني حكيم بحيث يطالعه جميع ذوي الشعور.
كفتني هذه الغاية مدة سنة من الزمن، ثم انكشفت الخوارق البديعة في الصنعة، فلم تعد تلك الغاية كافية وافية. واُظهرتْ لي غاية اخرى أعظم بكثير من الاولى.
اي أن اهم غاية للمصنوع هي النظر الى صانعه الجليل، اي يعرض المصنوع كمالات صنعة صانعه، ونقوش اسمائه الحسنى ومرصعات حكمته القيمة وهدايا رحمته الواسعة امام نظره سبحانه ويكون مرآة لجماله وكماله جل وعلا. هكذا فهمت هذه الغاية، وكفتني مدة مديدة.
ثم ظهرت معجزات القدرة وشؤون الربوبية في التغيير والتبديل السريع جداً، ضمن فعالية محيرة في ايجاد الاشياء واتقانها، حتى بدت تلك الغاية غير وافية، وعلمت ان لابد من داع ٍ عظيم ومقتضى جليل يعادل هذه الغاية العظمى، وعند ذلك اُظهرت لي المقتضيات الموجودة في الرمز الثاني والغايات المذكورة في الاشارات التي ستأتي.
وأُعلمت يقيناً: أن فعالية القدرة في الكون وسير الاشياء وسيلانها، تحمل من المعاني الغزيرة بحيث يُنطق الصانعُ الحكيم انواعَ الكائنات بتلك الفعالية، حتى كأن حركات السموات والارض وحركات موجوداتها هي كلمات ذلك النطق وان سيرها ودورانها تكلّم ونطق، بمعنى أن الحركات والزوال النابعين من الفعالية ما هي الا كلمات تسبيحية، وان الفعالية الموجودة في الكون هي نطق وإنطاق صامت للكون ولما فيه من انواع.
l الرمز الثالث:
ان الاشياء لاتمضي الى العدم، ولاتصير الى الفناء، بل تمضي من دائرة القدرة الى دائرة العلم، وتدخل من عالم الشهادة الى عالم الغيب، وتتوجه من عالم التغير والفناء الى عالم النور والبقاء، وان الجمال والكمال في الاشياء يعودان الى الاسماء الإلهية والى نقوشها وجلواتها من زاوية نظر الحقيقة.
وحيث ان تلك الاسماء باقية وتجلياتها دائمة، فلاشك أن نقوشها تتجدد وتتجمل وتتبدل، فلا تذهب الى العدم والفناء، بل تتبدل تعيناتها الاعتبارية. اما حقائقها وماهياتها وهوياتها المثالية التي هي مدار الحسن والجمال ومظهر الفيض والكمال فهي باقية فالحسن والجمال في الاشياء التي لاتملك روحاً يعودان الى الاسماء الإلهية مباشرة فالشرف لها والمدح والثناء لها. إذ الحسن حسنها والمحبة توجه اليها. ولايورث تبدل تلك المرايا ضرراً للاسماء.
وان كانت الاشياء من ذوي الارواح ولكن لم تكن من ذوي العقول، فان فراقها وزوالها ليس فناءً ولاعدماً بل ينجو الشئ الحي من وجود جسماني ومن اضطرابات وظائف الحياة، مودعاً ثمرات وظائفه التي كسبها الى روحه الباقية. فارواح هذه الاشياء تستند ايضاً الى اسماء الهية حسنى. فتدوم وتستمر، وتمضي الى سعادة ملائمة لها.
اما ان كان اولئك الاحياء من ذوي العقول، فانهم اصلاً يمضون الى سعادة ابدية والى عالم البقاء المؤسس على كمالات مادية ومعنوية.
لذا فان فراقهم وزوالهم ليس موتاً وعدماً ولازوالاً وفراقاً حقاً، بل هو وصال مع الكمالات وهو سياحة ممتعة الى عوالم نورانية للصانع الحكيم، عوالم اجمل من الدنيا وازهى منها كعالم البرزخ وعالم المثال وعالم الارواح والى ممالكه الاخرى من منازله سبحانه وتعالى.
حاصل الكلام: ان الله موجود وباق، وان صفاته سرمدية واسماءه دائمة، اذاً لابد أن تجليات تلك الاسماء ونقوشها تتجدد في بقاء معنوي فليس تخريباً ولافناءً ولا اعداماً وزوالاً. اذ من المعلوم ان الانسان ذو علاقة ـ من حيث الانسانية ـ مع اكثر الموجودات، فيتلذذ بسعادتها ويتألم بمصائبها، ولاسيما مع ذوي الحياة، وبخاصة مع الانسان وبالاخص مع من يحبهم ويعجب بهم ويحترمهم من اهل الكمال، فهو اشد تألماً بآلامهم واكثر سعادة بسعادتهم حتى يضحي بسعادته في سبيل اسعادهم كتضحية الوالدة الشفيقة بسعادتها وراحتها من اجل ولدها.
فكل مؤمن يستطيع ان يكون بنور القرآن والايمان سعيداً بسعادة جميع الموجودات وبقائها ونجاتها من العدم وصيرورتها مكاتيب ربانية ويغنم نوراً عظيماً بعظم الدنيا. فكلٌ يستفيد من هذا النور حسب درجته.
اما ان كان من اهل الضلال، فانه يتألم علاوة على آلامه بهلاك الموجودات وبفنائها وباعدامها الظاهري وبآلام ذوي الارواح منها. اي أن كفره يملأ دنياه بالعدم ويفرغها على رأسه، فيمضي الى جهنم (معنوية) قبل أن يساق الى جهنم (في الآخرة).
l الرمز الرابع:
مثلما ذكر في مواضع عدة:ان للسلطان دوائر مختلفة ناشئة من عناوينه المتنوعة، فله اسم السلطان، الخليفة، الحاكم، القائد، وامثالها من العناوين والصفات.
(ولله المثل الاعلى ) فان للاسماء الحسنى تجليات متنوعة لاتحد، فتنوع المخلوقات ناشئ عن تنوع تلك التجليات، وحيث أن صاحب كل جمال وكل كمال يرغب في مشاهدة جماله وكماله واشهادهما. فان تلك الاسماء المختلفة ـ لكونها دائمية وسرمدية ـ تقتضي ظهوراً دائمياً سرمدياً أي تقتضي رؤية نقوشها. اي تقتضي رؤية واراءة جلوة جمالها وانعكاس كمالها في مرايا نقوشها. اي تقتضي تجديد كتاب الكون الكبير، آناً فآناً. اي كتابتها كتابة مجددة ذات مغزى. اي تقتضي كتابة الوف من الرسائل المتنوعة في صحيفة واحدة، واظهار كل رسالة لنظر شهود الذات المقدسة والمسمى الاقدس مع عرضها على مطالعة انظار ذوي الشعور واستقرائهم. تأمل في هذا الشعر الذي يشير الى هذه الحقيقة:
صحائف كتاب العالم.. هذه الانواع غير المعدودة
حروفه وكلماته.. هذه الافراد غير المحدودة
لقد سُطّر في لوح الحقيقة المحفوظ:
ان كل موجود في العالم لفظ بليغ مجسم
تأمل سطور الكائنات فانها من الملأ الاعلى اليك رسائل
l lلرمز الخامس: عبارة عن نكتتين
النكتة الاولى:
ان الله موجود، فكل شئ موجود اذاً، وحيث أن هناك انتساباً للواجب الوجود، فكل الاشياء اذاً موجودة لكل شئ لأن كل موجود بانتسابه الى واجب الوجود يرتبط بجميع الموجودات، بسر الوحدة بمعنى ان كل موجود يعرف انتسابه الى واجب الوجود او يُعرف انتسابه اليه تعالى، فهو ذو علاقة مع جميع الموجودات المنتسبة الى واجب الوجود، وذلك بسر الوحدة. اي ان كل شئ من نقطة الانتساب ينال انوار وجودٍ غير محدودة بحدود، فلا فراق ولازوال اذاً في تلك النقطة.. لذا يكون العيش في آن سيال واحد مبعث انوار وجود غير محدود. بينما ان لم يكن ذلك الانتساب، ولم يُعرف، فان كل شئ ينال مالايحد من انواع الفراق وصنوف الزوال وانماط العدم، لان الشئ في تلك الحالة له فراق وافتراق وزوال تجاه كل موجود يمكن أن يرتبط به. اي تحمل على وجوده الشخصي انواعاً لاتحد من العدم وصنوفاً لاتحصى من الفراق، فلو ظل في الوجود مليوناً من السنين دون انتساب لما عَدلَ قطعاً آناً من العيش مع الانتساب الذي كان فيه.
ولهذا قال اهل الحقيقة: ان آناً سيالاً من وجود منور يفضل على مليون سنة من وجود أبتر. اي ان آناً من وجود منتسب الى الواجب الوجود مرجّح على مليون سنة من وجود لاانتساب فيه. ولأجل هذا قال اهل التحقيق: ان انوار الوجود هي معرفة واجب الوجود. اي ان الكائنات في تلك الحالة وهي تنعم بانوار الوجود، تكون مملوءة بالملائكة والروحانيات وذوي الشعور. وبخلاف ذلك، اي ان لم تكن هناك معرفة واجب الوجود، فان ظلمات العدم وآلام الفراق واوجاع الزوال تحيط بكل موجود، فالدنيا تكون موحشة خاوية في نظر ذلك الشخص.
نعم، كما ان لكل ثمرة من ثمار شجرة، علاقة مع كل الثمرات التي على تلك الشجرة وتكوّن نوعاً من رابطة الاخوة والصداقة والعلاقات المتينة فيما بينها.. فلها اذن وجودات عرضية بعدد تلك الثمرات.
ولكن متى ما قطفت تلك الثمرة من الشجرة، فان فراقاً وزوالاً يحصلان تجاه كل ثمرة من الثمرات. وتصبح الثمرات بالنسبة للمقطوفة في حكم المعدوم، فيعمها الظلام، ظلام عدم خارجي.
وكذلك فان كل شئ له الاشياء كلها، من نقطة الانتساب الى قدرة الأحد الصمد. وان لم يكن هناك انتساب فان انواعاً من العدم الخارجي بعدد الاشياء كلها تصيب كل شئ.
فانظر من خلال هذا الرمز الى عظمة انوار الايمان، وشاهد الظلمة المخيفة المحيطة بالوجود في الضلال.
فالايمان اذاً هو عنوان الحقيقة السامية التي بينت في هذا الرمز، ولايمكن الاستفادة من تلك الحقيقة الاّ بالايمان، اذ كما ان كل شئ معدوم للاعمى والاصم والابكم والمجنون، كذلك كل شئ معدوم مظلم بانعدام الايمان.
النكتة الثانية:
ان للدنيا وللاشياء ثلاثة وجوه:
الوجه الاول:
ينظر الى الاسماء الإلهية الحسنى، فهو مرآة لها، ولايمكن أن يعرض الزوال والفراق على هذا الوجه، بل فيه التجدد.
الوجه الثاني:
ينظر الى الآخرة، ويرنو الى عالم البقاء، وهو في حكم مزرعتها. ففي هذا الوجه تنضج ثمرات باقيات. فهذا الوجه يخدم البقاء، لأنه يحوّل الفانيات الى حكم الباقيات، وفيه جلوات الحياة والبقاء لا الموت والزوال.
الوجه الثالث:
ينظر الى الفانين، اي ينظر الينا نحن، فهو وجه يعشقه الفانون واهل الهوى، وهو موضع تجارة اهل الشعور، وميدان امتحان الموظفين المأمورين. وهكذا ففي حقيقة هذا الوجه الثالث جلوات اللقاء والحياة تكون مرهماً على جراحات آلام الفناء والزوال والموت والعدم في هذا الوجه للدنيا.
حاصل الكلام:
ان هذه الموجودات السيالة، وهذه المخلوقات السيارة، ما هي الاّ مرايا متحركة، ومظاهر متبدلة لتجديد انوار ايجاد الواجب الوجود .
المقام الثاني
عبارة عن مقدمة وخمس اشارات
والمقدمة عبارة عن مبحثين:
المقدمة
l المبحث الاول:
ستكتب في هذه الاشارات الخمس الآتية تمثيلات، بمثابة مراصد ومناظير صغيرة وخافتة، لرصد حقيقة شؤون الربوبية، فهذه التمثيلات لاتستوعب قطعاً حقيقة الربوبية، ولايمكن ان تحيط بها، ولا ان تكون مقياساً لها، الاّ انها تمكّن المرء من ان ينظر الى تلك الشؤون البديعة من خلالها.ثم ان التعابير التي لاتناسب شؤون الذات الجليلة في التمثيلات الآتية وفي الرموز السابقة انما هي من قصور التمثيل نفسه. فمثلاً: ان المعاني المعروفة لدينا للـّذة والسرور والرضى والامتنان لايمكن ان تعبّر عن الشؤون المقدسة لله سبحانه، ولكنها مجرد عناوين ملاحظة ليس الاّ، ومراصد تفكر فحسب.
ثم ان هذه التمثيلات تثبت حقيقة قانون رباني عظيم حول شؤون الربوبية باظهارها جزءاً وطرفاً من ذلك القانون في مثال صغير.
فمثلاً؛ لقد ذكر ان الزهرة ترحل من الوجود، الاّ انها تترك الآفاً من انواع الوجود، ثم ترحل. وبهذا المثال يُبيّن قانون عظيم للربوبية حيث يجري هذا القانون في الربيع كله كما يجري في جميع موجودات الدنيا.
نعم، ان الخالق الرحيم، بأي قانون يبدّل لباس طائر وريشه، ويجدّده، يبدل ذلك الصانع الحكيم بالقانون نفسه لباس الكرة الارضية كل سنة، ويبدل بالقانون نفسه صورة الكون قاطبة عند قيام الساعة ويغيرها..وكذا بأي قانون يحرك سبحانه الذرة كالمريد المولوي يدورحول نفسه وحول حلقة الذكر فانه يحرك بالقانون نفسه الكرة الارضية كانجذاب المريد المولوي بالذكر، بل يحرك العوالم بالقانون نفسه، ويسيّر المنظومة الشمسية به.. وكذا بأي قانون يجدد سبحانه ذرات خلايا جسمك ويحللها ويعمّرها، فانه يجدّد بالقانون نفسه، في كل سنة، في كل موسم بستانك مرات ومرات ويجدد بالقانون نفسه سطح الارض في كل ربيع ويبسط بساطاً جديداً.. وكذا، بأي قانون حكيم يحي الصانع القدير ذبابة، فانه سبحانه يحيي بالقانون نفسه شجرة الدلب الضخمة هنا ـ وهي امامنا ـ في كل ربيع، ويحيي الارض بالقانون نفسه في الربيع، ويحيي المخلوقات قاطبة بالقانون نفسه يوم الحشر الاعظم.
ويشير القرآن الحكيم الى هذا بقوله تعالى: } ما خَلقُكم ولابَعثُكم الاّ كنفسٍ واحدة{ (لقمان: 28).. وهكذا فقس.
فهناك قوانين ربوبية كثيرة جداً امثال هذه تجري من الذرة الى مجموع العالم. فتأمل في عظمة هذه القوانين التي تتضمنها فعالية الربوبية وتدبّر في سعتها وشاهد سرّ الوحدة فيها. واعلم ان كل قانون برهان توحيد بذاته.
نعم! ان كل قانون من هذه القوانين الكثيرة والعظيمة جداً، لكونه قانوناً واحداً ومحيطاً بالوجود في الوقت نفسه فانه يثبت وحدانية الصانع الجليل وعلمه وارادته اثباتاً قاطعاً فضلاً عن انه تجلٍ من تجليات العلم والارادة.
وهكذا فالتمثيلات الواردة في اغلب مباحث (الكلمات) تبين طرفاً وجزءاً من مثل هذه القوانين في مثال جزئي، فهي اذاً تشير الى وجود ذلك القانون نفسه في المدعي. فمادام التمثيل يبيّن تحقق القانون فهو اذاً يثبت المدعي كالبرهان المنطقي. بمعنى ان معظم التمثيلات الموجودة في (الكلمات) كلٌ منها في حكم برهان يقيني، وحجة قاطعة.
l المبحث الثاني:
لقد ذكر في الحقيقة العاشرة من الكلمة العاشرة: ان لكل ثمرة ولكل زهرة غايات ٍ وحكماً بقدر ثمرات الشجرة وازاهيرها. وتلك الحكم على ثلاثة أقسام:
قسم منها متوجه الى الصانع الجليل؛ يبين نقوش اسمائه.
وقسم آخر يتوجه الى ذوي الشعور، فالموجودات في نظرهم رسائل قيّمة وكلمات بليغة ذات مغزى.
وقسم آخر يتوجه الى الشئ نفسه، والى حياته والى بقائه، وله حِكمٌ حسب منافع الانسان، ان كان مفيداً للانسان.
فعندما كنت أتأمل وجود هذه الغايات الكثيرة لكل موجود. وردت هذه الفقرات باللغة العربية الى خاطري، دوّنتها على صورة ملاحظات على أسس تلك الاشارات الخمس الآتية:
[وهذه الموجودات الجليلة، مظاهر سيالة، ومرايا جوّالة، لتجدّد تجليات انوار ايجاده سبحانه بتبدّل التعيّنات الاعتبارية
اولاً: مع استحفاظ المعاني الجميلة والهويات المثالية.
وثانياً: مع انتاج الحقائق الغيبية والنسوج اللوحية.
وثالثاً: مع نشر الثمرات الأخروية والمناظر السرمدية.
ورابعاً: مع اعلان التسبيحات الربانية واظهار المقتضيات الاسمائية.
وخامساً: لظهور الشؤونات السبحانية والمشاهد العلمية].
ففي هذه الفقرات الخمس اسس الاشارات الآتية التي سنبحثها:
نعم! ان لكل موجود، ولاسيما من ذوي الحياة، خمس طبقات مختلفة من الحكم والغايات المختلفة.
فكما ان شجرة مثمرة، تثمر أغصانها التي يعلو بعضها على بعض، كذلك كل كائن حي له غايات وحكم مختلفة في خمس طبقات.
ايها الانسان الفاني! ان كنت تريد تحويل حقيقتك التي هي كنواة جزئية الى شجرة باقية مثمرة، وتحصل على الطبقات العشر من الثمرات المشار اليها في خمس اشارات وعشرة انواع من الغايات. اغتنم الايمان الحقيقي والاّ تحرم من جميع تلك الغايات والثمرات فضلاً عن انك تضمر وتفسد داخل تلك النواة الصغيرة.
` الاشارة الاولى:
[اولاً: بتبدل التعينات الاعتبارية مع استحفاظ المعاني الجميلة والهويات المثالية].
هذه الفقرة تفيد: ان كل موجود، بعد ذهابه من الوجود، يذهب الى العدم والفناء ظاهراً. ولكن تبقى المعاني التي كان قد أفادها وعبّر عنها وتحفظ، وتبقى كذلك هويته
المثالية وصورته وماهيته، في عالم المثال، وفي الالواح المحفوظة التي هي نماذج عالم المثال، وفي القوى الحافظة (الذاكرة) التي هي نماذج الالواح المحفوظة.
بمعنى أن الموجود يفقد وجوداً ظاهرياً صورياً، ويكسب مئات من الوجود المعنوي والعلمي.
مثلاً: تعطى للحروف المطبعية ترتيباً معيناً ووضعاً خاصاً كي تطبع بها صحيفة معينة، فصورة تلك الصحيفة الواحدة وهويتها تعطى الى صحائف مطبوعة متعددة، وتنشر معاني مافيها الى عقول كثيرة، وبعد ذلك تتبدل اوضاع تلك الحروف وتُغير، لانتفاء الحاجة اليها، وللحاجة الى تنضيد صحائف اخرى بتلك الحروف.
وهكذا، فان قلم القدر الالهي يعطي هذه الموجودات الارضية، ولاسيما النباتية منها، ترتيباً معيناً ووضعاً معيناً، والقدرة الالهية توجدها في صحيفة موسم الربيع، فتعبّر عن معانيها الجميلة. وحيث ان صورها وهوياتها تنقل الى سجل عالم الغيب، كعالم المثال، فان الحكمة تقتضي ان يتبدل ذلك الوضع، كي تكتب صحيفة جديدة للربيع المقبل لتعبّر عن معانيها كذلك.
` الاشارة الثانية:
[وثانياً: مع انتاج الحقائق الغيبية والنسوج اللوحية].
هذه الفقرة تشير الى ان كل شئ، سواء أكان جزئياً أم كلياً، بعد ذهابه من الوجود (ولاسيما ان كان ذا حياة) ينتج حقائق غيبية كثيرة فضلاً عن انه يدع صوراً بعدد أطوار حياته في الالواح المثالية، التي هي في سجلات عالم المثال، فيُكتب تاريخ حياته ذا المغزى من تلك الصور والذي يسمى بالمقدرات الحياتية، ويكون في الوقت نفسه موضع مطالعة الروحانيات، بعد ذهابه من الوجود.
مثال ذلك: ان زهرة ما تذبل ثم ترحل من الوجود، الاّ انها تترك مئات من البذيرات في الوجود وتدع ماهيتها في تلك البذيرات، فضلاً عن انها تترك ألوفاً من صورها في الواح محفوظة صغيرة، وفي القوى الحافظة التي هي نماذج مصغرة للألواح المحفوظة، فتستقرئ ذوي الشعور التسبيحات الربانية ونقوش الاسماء الحسنى التي أدتها في اطوار حياتها. ومن بعد ذلك ترحل عن الوجود.
وهكذا فان موسم الربيع المزدان بالمصنوعات الجميلة على سطح الأرض الشبيه بمزهرة عظيمة، انما هو زهرة ناضرة تزول في الظاهر، وتذهب الى العدم. بيد انه ـ اي الربيع ـ يترك الحقائق الغيبية التي أفادها بعدد بذوره، ويترك الهويات المثالية التي نشرها بعدد الأزاهير، ويدع الحكم الربانية التي أظهرها بعدد الموجودات.
فيترك الربيع كل انواع الوجود هذه، ثم يغيب عن أنظارنا، زد على ذلك فانه يُفرغ المكان لأقرانه من جموع الربيع التي ستأتي الى الوجود لتؤدي وظائفها.
بمعنى ان ذلك الربيع ينزع عنه وجوداً ظاهرياً ويلبس ألفاً من الوجود معنىً.
` الاشارة الثالثة:
[وثالثاً: مع نشر الثمرات الأخروية والمناظر السرمدية].
هذه الفقرة تفيد: ان الدنيا مزرعة ومعمل ينتج المحاصيل التي تناسب سوق الآخرة.
اذكما ان اعمال الجن والانس ترسل الى سوق الآخرة، كذلك تؤدي بقية الموجودات في الدنيا أعمالاً كثيرة ايضاً في سبيل الآخرة وتنشئ محاصيل وفيرة لها، بل تجري كرة الارض لاجل تلك الاعمال، بل يصح القول:
ان هذه السفينة الربانية تقطع مسافة أربعة وعشرين ألف سنة في سنة واحدة، لتدور حول ميدان الحشر. كما اثبتنا في كلمات كثيرة.
مثلاً: لاشك ان اهل الجنة يرغبون ان يتذاكروا خواطرهم في الدنيا، ويتحاوروا فيما بينهم حول ذكرياتها، وربما يتلهفون لرؤية ألواح (مشاهد) تلك الذكريات والحوادث ومناظرها، اذ يستمتعون كثيراً بمشاهدة تلك الحوادث وتلك الالواح كمن يستمتع بمشاهدة المناظر على شاشة السينما.
فما دام الامر هكذا فالجنة التي هي دار اللذة ومنزل السعادة توجد فيها لامحالة المناظر السرمدية لمحاورات الاحداث الدنيوية ومنـــاظر احداثها. كما تشــير الى ذلك الآيـة الكريمة: } على سررٍ متقابلين{ (الحجر:47).
وهكذا، فان فناء هذه الموجودات الجميلة، بعد ظهورها في آن واحد، وتعاقب بعضها بعضاً يبيّن كأنما هي آلات معمل لتشكيل المناظر السرمدية.
مثال: ان اهل المدنية يلتقطون صور الاوضاع الغريبة والجميلة ويهدونها الى ابناء المستقبل تذكاراً لهم، كما هو على شاشة السينما. فيمنحون نوعاً من البقاء لأوضاع فانية، ويدرجون الزمان الماضي ويظهرونه في الزمان الحالي وفي المستقبل.
كذلك هذه الموجودات الربيعية والدنيوية عامة، بعد قضاء حياة قصيرة، كما يدوّن صانعُها الحكيم غاياتها التي تخص عالم البقاء في ذلك العالم، كذلك يسجل الوظائف الحياتية والمعجزات السبحانية التي ادّوها في اطوار حياتها، في مناظر سرمدية، وذلك بمقتضى اسماللهالحكيم والرحيم والودود.
` الاشارة الرابعة:
[ورابعاً: مع اعلان التسبيحات الربانية واظهار المقتضيات الاسمائية].
هذه الفقرة تفيد: ان الموجودات تؤدي أنواعاً من التسبيحات الربانية في أطوار حياتها، وتظهر ما تستلزمه الاسماء الإلهية وتقتضيها من حالات.
مثلاً: يقتضي اسم الرحيم الاشفاق، ويقتضي اسم الرزاق اعطاء الرزق، ويستلزم اسم اللطيف التلطيف.. وهكذا. فكل اسم من الاسماء الالهية له مقتضى. وكل ذي حياة يبين مقتضى تلك الاسماء، بحياته ووجوده، وهو في الوقت نفسه يسبّح لله الحكيم بعدد أجهزته.
مثلاً: اذا أكل الانسان فواكه طيبة، فانها تتجزأ وتتلاشى في معدته وتهضم وتمحى ظاهراً، الاّ انها تعطى كل خلية من خلايا جسمه، لذة وذوقاً ضمن فعالية، فضلاً عن الفم والمعدة، ويكون مدار حِكَم كثيرة جداً كإنماء الحياة في اقطار الجسم وادامتها، والطعام نفسه يرقى من الوجود النباتي الى مرتبة حياة الانسان.
كذلك عندما تختفي الموجودات وراء ستار الزوال تظل بدلاً عنها تسبيحات باقية كثيرة جداً لكل موجود من الموجودات وتودع نقوش كثير من الاسماء الإلهية ومقتضياتها في يد تلك الاسماء، اي تودعها الى وجودٍ باق. وهكذا تمضي وترحل. تُرى لو بقيت ألوف من انواع الوجود ـ التي نالت نوعاً من البقاء ـ بديلاً عن ذهاب وجود موقت فانٍ، أيمكن أن يُقال: ياحسرة على ذلك الوجود الموقت! او أنه مضى الى عبث! او لِمَ رحل هذا المخلوق اللطيف؟ ! أفيمكن ان يُشتكى على هذه الصورة؟.
بل ان الرحمة والحكمة والمحبة في حق ذلك المخلوق تقتضي هكذا، بل هو هكذا. والاّ يلزم ترك ألوف المنافع للحيلولة دون حدوث ضرر واحد. وعندئذٍ تحدث ألوف الاضرار!.
بمعنى ان الاسماء الحسنى: الرحيم، الحكيم، الودود تستلزم مضي الموجودات وراء استار الزوال والفراق وتقتضيهما ولاتعارضهما.
` الاشارة الخامسة:
[وخامساً: لظهور الشؤونات السبحانية والمشاهد العلمية]
تفيد هذه الفقرة: ان الموجودات ـ ولاسيما الاحياء منها ـ بعد ارتحالها من وجودها الظاهري تترك كثيراً من الامور الباقية ثم تمضي الى شأنها.
وقد بينا في الرمز الثاني:
ان في شؤون الربوبية محبة مطلقة وشفقة مطلقة وافتخاراً مطلقاً ـ ان جاز التعبير ـ ورضى مقدساً مطلقاً وسروراً مقدساً مطلقاً ـ ان جاز التعبير ـ ولذة مقدسة مطلقة وفرحاً منزهاً مطلقاً بما يليق بذاته الجليلة المقدسة ويوافق تعاليه وتنزهه وتقدسه سبحانه، اذ تُشاهد آثار تلك الشؤون المنزهة، لان ما تقتضيه تلك الشؤون هوسوق الموجودات بسرعة في فعالية محيّرة، ضمن تبديل وتغيير وزوال وفناء، فترسل ـ الموجودات ـ باستمرار من عالم الشهادة الى عالم الغيب. فالمخلوقات ضمن تجليات تلك الشؤون الربانية في سير وسياحة دائمين، في حركة وجولان مستمرين. فهي بهذه السياحة والحركة الدائمتين تملأ آذان اهل الغفلة بنعيات الفراق والزوال، وتشنف اسماع اهل الايمان بنغمات الذكر والتسبيح.
وبناءً على هذا السرّ، فما من موجود يرحل عن الوجود الاّ ويترك في الوجود من المعاني والكيفيات والحالات ما يكون مداراً باقياً لظهور شؤون باقية لواجب الوجود سبحانه.
ثم ان ما قضاه ذلك الموجود من اطوار واحوال، يتركه عندما يرحل وجوداً مفصلاً ـ يمثل وجوده الخارجي ـ في دوائر الوجود العلمي من امثال الإمام المبين والكتاب المبين واللوح المحفوظ، تلك الدوائر التي هي عناوين العلم الازلي.
فكل فانٍ اذاً يترك وجوداً ويكسب لنفسه ولغيره ألوفاً من انواع الوجود.
مثلاً: تلقى مواد اعتيادية الى ماكنة مصنع عظيم، فتحترق تلك المواد وتمحى ظاهراً، ولكن تترسب مواد كيمياوية ثمينة وادوية مهمة في انابيق ذلك المصنع، فضلاً عن قيام قوة بخارها بتحريك دواليب ذلك المعمل مما يؤدي الى نسج الاقمشة من جهة وطبع الكتب من جهة اخرى وانتاج السكر من جهة اخرى مثلاً.
بمعنى؛ ان في احتراق تلك المواد الاعتيادية وفنائها الظاهري تجدألوف الاشياء الوجود.
بمعنى؛ يذهب وجود اعتيادي ويفنى، ولكن يورث انواعاً من وجود رفيع.
فهل يقال في مثل هذه الحالة: ياخسارة على تلك المواد الاعتيادية؟ أفيُشكى هكذا؟ أيُقال: لِمَ لم يرأف صاحب المصنع بحال تلك المواد وحرقها ومحاها؟
(ولله المثل الاعلى) ان الخالق الحكيم والرحيم والودود، يُشغل مصنع الكائنات جاعلاً من كل وجود فانٍ نواة لانواع من الوجود الباقي، ومداراً لاظهار مقاصده الربانية مظهراً به شؤونه السبحانية متخذاً اياه مداداً لقلم قدره، ومكوكاً لنسج قدرته، وذلك بمقتضى الرحمة والحكمة والودودية. فيدفع سبحانه بفعالية قدرته الكائنات لتؤدي مهامها وفعالياتها لاجل كثير مما لانعرفه من عنايات غالية ومقاصد عالية. فتسوق تلك الفعالية الموجودات كلها حتى تجعل الذرات تجول جولاناً، والموجودات تسير سيراناً، والحيوانات تسيل سيلاناً، والسيارات تدور دوراناً. فتجعل الكون يتكلم وينطق ويتلو آيات خالقه بصمت ويستكتبها.
ومن حيث الربوبية قد جعل سبحانه المخلوقات الارضية عروشاً له؛ اذ جعل الهواء نوعاً من عرش لأمره وارادته، وعنصر النور عرشاً آخر لعلمه وحكمته، والماء عرشاً آخر لاحسانه ورحمته، والتراب نوعاً من عرش لحفظه وإحيائه. ويسيّر ثلاثة من تلك العروش فوق المخلوقات الارضية.
فاعلم علماً قاطعاً! ان الحقيقة السامية التي بينت في هذه الرموز الخمسة والاشارات الخمس انما تشاهد بنور القرآن ولاتمتلك الاّ بقوة الايمان، والاّ ستعم ظلمات مرعبة بدلاً من تلك الحقيقة الباقية، وتمتلىء الدنيا لاهل الضلالة بألوان الفراق واصناف الزوال وتطفح بانواع العدم ويصبح الكون بالنسبة له جحيماً معنوياً لايطاق، اذ يحيط بوجود آني بالنسبة له ما لايحدمن العدم كلَّ شئ ، فالماضي والمستقبل جميعاً مملوءان بظلمات العدم. فلايجد الضال الاّ نوراً كئيباً حزيناً في حاله الحاضرة وهي زمان قصير جداً.
ولكن ما ان يأتي سر القرآن ونور الايمان اذا بنور وجود يشاهد من الأزل الى الابد فيتعلق به ويحقق به سعادته الابدية.
خلاصة الكلام:
نقول كما قال (نيازي المصري)(1):
(( لو كان النفَس بحراً زاخراً
وتقطع هذا الصدر إرباً إرباً
اناجي الى ان يبح هذا الصوت))
واقول:
ياحق ياموجود ياحي يامعبود
ياحكيم يامقصود يارحيم ياودود
واقول صارخاً:
لاإله الاّ الله الملك الحق المبين محمد رسول الله صادق الوعد الامين.
واعتقد جازماً واثبت:
ان البعث بعد الموت حقٌ والجنة حَقٌ والنار حَقٌ.. وان السعادة الأبدية حقٌ وان الله رحيم حكيم ودود. وان الرحمة والحكمة والمحبة محيطة بجميع الاشياء وشؤونها.
} وقالوا الحمد لله الذي هدينا لهذا وما كنا لنهتدي لولا ان هدينا الله لقد جاءت رُسُلُ ربنا بالحق{ .
} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيمِ{
} ربنا لاتؤاخذنا إن نسينا او أخطأنا{
اللهم صَلّ على سيدنا محمد صلاة تكون لك رضاءً ولحقّه اداءً وعلى آله وصحبه وسلم.
آمين.والحمد لله رب العالمين
سبحان من جعل حديقة ارضه مشهر صنعته.. مَحشر خلقتِهِ.. مظهر قدرتهِ.. مدار حكمته.. مَزهرَ رحمته.. مزرع جنتهِ.. ممرّ المخلوقات.. مسيل الموجودات.. مكيل المصنوعات.
فمزيّنُ الحيوانات، منقّشُ الطيورات..مُثمّرُ الشجرات، مُزَهّرُ النباتات..
معجزاتُ علمه.. خوارقُ صُنعه.. هدايا جُوده.. براهين لطفه..
دلائلُ الوحدة.. لطائف الحكمة.. شواهد الرحمة.
تبسُّم الازهار، من زينة الاثمار،
تسجّعُ الاطيار، في نسمة الاسحار،
تهزّجُ الامطار، على خدود الازهار ،
تزيّنُ الازهار، تبرّجُ الاثمار.. في هذه الجِنان،
ترحّمُ الوالدات على الاطفال الصغار في كل الحيوانات والانسان:
تعرُّفُ ودودٍ
توَدُّدُ رحمن
ترحُّمُ حنّانٍ
تحنــَّنِ مـَنـّانٍ.. للجنِ والانسان، والروح والحيوان والملَكِ والجَان.
الذيل الأول
} قُلْ مَا يَعْبَؤا بِكُمْ رَبّي لوْلا دُعَآؤُكْم{ (الفرفان: 77)
` النكتة الاولى:
اعلم ان الدعاء سر عظيم للعبادة، بل هو مخ العبادة وروحها، والدعاء ـ مثلما ذكرناه في مواضع اخرى كثيرة ـ على انواع ثلاثة.
l النوع الاول من الدعاء:
هو دعاء بلسان الاستعداد والقابلية المودعة في الشئ. فالحبوب والنويات جميعها تسأل فاطرها الحكيم بلسان استعدادها وقابلياتها المودعة فيها قائلة: اللّهم يا خالقنا هئ لنا نمواً نتمكن به من ابراز بدائع اسمائك الحسنى، فنعرضها امام الانظار.. فحوّل اللّهم حقيقتنا الصغيرة الى حقيقة عظيمة.. تلك هي حقيقة الشجرة والسنبل.
وثمة دعاء من هذا النوع ـ اي بلسان الاستعداد ـ هو اجتماع الاسباب. فاجتماع الاسباب دعاء لايجاد المسبب، اي ان الاسباب تتخذ وضعاً معيناً وحالة خاصة بحيث تكون كلسان حال يطلب المسبب من القدير ذي الجلال، فالبذور ــ مثلا ــ تسأل بارءها القدير ان تكون شجرة، وذلك بلسان استعدادها فيتخذ كلٌ من الماء والحرارة والتراب والضوء حالة معينة حول البذرة حتى تكون تلك الحالة كأنها لسان ينطق بالدعاء قائلاً : اللّهم يا خالقنا اجعل هذه البذرة شجرة.
نعم، ان الشجرة التي هي معجزة قدرة الهية خارقة لا يمكن بحال من الاحوال ان يُفوض امرها ويسند خلقها الى تلك المواد البسيطة الجامدة الفاقدة للشعور، بل محال احالتها الى تلك الاسباب.. فاجتماع الاسباب اذاً انما هو نوع من الدعاء.
l النوع الثاني من الدعاء:
هو الدعاء الذي يُسأل بلسان حاجة الفطرة، فالكائنات الحية جميعها تطلب مطاليبها وتسأل حاجاتها ـ الخارجة عن طوقها واختيارها ـ من خالقها الرحيم وتُستجاب لها مطاليبها وحاجاتها في انسب وقت ومن حيث لا تحتسب، اذ ان ايديها قاصرة عن ان تصل الى ما تريد أو دفع حاجة لها، فارسال كل ما تطلبه اذن مما هو خارج عن طوقها واختيارها وفي انسب وقت ومن حيث لا تحتسب انما هو من قبل حكيم رحيم. واغداق هذا الاحسان والانعام ما هو الا استجابة لدعاء فطري.
نحصل من هذا: ان هذا النوع من الدعاء الفطري تنطلق به ألسنة حاجة الفطرة لجميع الكائنات فتسأل الخالق القدير مطاليبها، والتي هي من قبيل الاسباب تسأل القدير العليم المسببات.
l النوع الثالث من الدعاء:
هو الدعاء الذي يسأله ذوو الشعور لتلبية حاجاتهم. وهذا الدعاء نوعان ايضاً:
فالقسم الاول: مستجاب على الاغلب ان كان قد بلغ درجة الاضطرار، أو كان ذا علاقة قوية مع حاجة الفطرة وموافقة معها، أو كان قريباً من لسان الاستعداد والقابلية، أو كان خالصاً صافياً نابعاً من صميم القلب.
ان ما احرزه الانسان من رقي، وما نال من كشوفات ما هو الا نتيجة هذا النوع من الدعاء، اذ ما يطلقون عليه من خوارق الحضارة والامور التي يحسبونها مدار افتخار اكتشافاتهم ما هو الا ثمرة هذا الدعاء المعنوي الذي سألته البشرية بلسان استعداد خالص فأستجيب لها. فما من دعاء يُسأل بلسان الاستعداد وبلسان حاجة الفطرة الا استجيب ان لم يكن هناك مانع، وكان ضمن شرائطه المعينة.
أما القسم الثاني: فهو الدعاء المعروف لدينا. وهذا ايضاً فرعان:
احدهما فعلي والآخر قولي.
فمثلاً: حرث الارض نوع من دعاء فعلي، يطلب الانسان الرزق من رزاقه الحكيم، يطلبه منه لا من التراب، فالتراب باب لخزينة رحمته الواسعة ليس الا، يطرقه الانسان بالمحراث.
سنطوى تفاصيل الاقسام الاخرى ونذكر بضعة اسرار للدعاء "القولي" وذلك في بضع نكات آتية:
` النكتة الثانية
اعلم ان تأثير الدعاء عظيم، ولا سيما اذا دام واكتسب الكلية، فهذا الدعاء يثمر على الاغلب ويستجاب دائماً. حتى يصح ان يقال: ان سبب خلق العالم انما هو دعاء، حيث ان الدعاء العظيم للرسول الاعظم e وهو يتقدم العالم الاسلامي الذي يدعو الدعاء نفسه، وهم يتقدمون البشرية جمعاء التي تسأل الدعاء نفسه.. ذلك الدعاء هو: السعادة الابدية، وهو سبب من اسباب خلق العالم. اي أن رب العالمين قد علم بعلمه الازلي ان ذلك الرسول الكريم e سيسأله السعادة الابدية والحظوة بتجل من تجليات اسمائه الحسنى، سيسأله باسم البشرية قاطبة بل باسم الموجودات.. فاستجاب سبحانه وتعالى لذلك الدعاء العظيم فخلق هذا العالم.
فما دام الدعاء قد اكتسب هذه الاهمية العظيمة والسعة الشاملة فهل يمكن ألا يستجاب؟ وهل يمكن لدعاء يلهج به مئات الملايين من البشر ـ في الاقل ـ ومنذ الف وثلاث مائة سنة، يدعونه متفقين، في كل حين، بل يدعو معهم كل الطيبين من الجن والملك والروحانيات ممن لا يحصون ولا يعدون.. هل يمكن الا يستجاب هذا الدعاء الذي يدعونه للرسول الكريم e لينال الرحمة الإلهية العظيمة والسعادة الخالدة.
فما دام قد اكتسب هذا الدعاءُ الكليةَ والسعة والدوام الى هذا الحد حتى بلغ درجة لسان الاستعداد وحاجة الفطرة، فلابد ان ذلك الرسول الكريم محمد بن عبد الله e قد اعتلى نتيجة الدعاء ــ مرتبة رفيعة عالية بحيث لو اجتمعت العقول جميعاً للاحاطة بحقيقة تلك المرتبة لعجزت عجزاً تاماً.
فبشراك ايها المسلم! ان لك شفيعاً كريماً في يوم الحشر الاعظم، هو هذا الرسول الحبيب e ... فاسع لنيل شفاعته باتباع سنته المطهرة.
فان قلت: ما حاجة الرسول الكريم e وهو حبيب رب العالمين الى هذه الكثرة من الدعاء والصلوات عليه؟
الجواب: انه e ذو علاقة قوية مع سعادة امته قاطبة، فله حصته مما يناله كل فرد من افراد امته من انواع السعادة، وهو يحزن ايضاً ويتألم لكل مصيبة تصيبهم.
فعلى الرغم من ان مراتب الكمال والسعادة بحقه لا حد لها، فان الذي يرغب رغبة شديدة في ان تنال افراد امته الذين لا يحدون انواعاً لا تحد من السعادة وفي أزمان لا تحد، ويتألم بأنواع لا حد لها من شقائهم ومصائبهم، لابد أنه محتاج وحري به صلوات لا حد لها وأدعية لا حد لها ورحمة لا حد لها.
فان قلت: يُدعى أحياناً بدعاء خالص لأمورتقع قطعاً كالدعاء في صلاة الكسوف والخسوف، وقد يدعى احياناً لامور لا يمكن وقوعها..
الجواب: لقد اوضحنا في كلمات اخرى: ان الدعاء نوع من العبادة، حيث يعلن الانسان عجزه وفقره بالدعاء. أما المقاصد الظاهرية فهي اوقات تلك الادعية والعبادة الدعائية، وهي ليست نتائج الادعية وفوائدها الحقيقية، لان فائدة العبادة وثمرتها متوجهة الى الآخرة، اي يجنيها الداعي في الآخرة، لذا لو لم تحصل المقاصد الدنيوية التي يتضمنها الدعاء فلا يجوز القول: ان الدعاء لم يستجب، وانما يصح القول: انه لم ينقض بعد وقت الدعاء.
فهل يمكن يا ترى ألاّ يستجاب دعاء للسعادة الخالدة، يسألها جميع اهل الايمان في جميع الازمنة، يسألونه بالحاح وخلوص نية وباستمرار. فهل يمكن الا يقبل الرحيم المطلق والكريم المطلق ــ التي تشهد الكائنات لسعة رحمته وشمول كرمه ــ هذا الدعاء، وهل يمكن الا تتحقق تلك السعادة الابدية!؟ كلا ثم كلا..
` النكتة الثالثة:
ان استجابة ((الدعاء القولي الاختياري)) تكون بجهتين: فاما أن يستجاب الدعاء بعينه أو بما هو افضل منه وأولى.
فمثلاً: يدعو احدهم ان يرزقه الله مولوداً ذكراً، فيرزقه الله تعالى مولودة كمريم عليها السلام، فلا يقال عندئذ: ان دعاءه لم يستجب، بل قد استجيب بما هو افضل من دعائه.
ثم ان الانسان قد يدعو لنيل سعادة دنيوية، فيستجيب الله له لسعادة اخروية فلا يقال: ان دعاءه لم يستجب، بل قد استجيب بما هو انفع له... وهكذا.
فنحن اذن ندعوه سبحانه ونسأل منه وحده، وهو يستجيب لنا، الا أنه يتعامل معنا على وفق حكمته لانه حكيم عليم.. فينبغي للمريض الاّ يتهم حكمة الطبيب الذي يعالجه، اذ ربما يطلب منه ان يداويه بالعسل، فلا يعطيه الطبيب ــ لعلمه انه مصاب بالحمى ـ الا دواء مراً علقماً!. فلا يحق للمريض ان يقول: ان الطبيب لا يستجيب لدعائي، بل قد استمع لاناته وصراخه، واجابه فعلاً، وبأفضل منه.
` النكتة الرابعة:
ان اطيب ثمرة حاضرة يجنيها المرء من الدعاء وألذّها، وان اجمل نتيجة آنية يحصل عليها المرء من الدعاء وألطفها هي الآتي:
ان الداعي يعلم يقيناً ان هناك من يسمعه، ويترحم عليه ويسعفه بدوائه، وقدرته تصل الى كل شئ. وعندها يستشعر في نفسه انه ليس وحيداً فريداً في هذه الدنيا الواسعة بل هناك كريم ينظر اليه بنظر الكرم والرحمة، فيدخل الانس الى قلب الداعي، ويتصور انه في كنف الرحيم المقتدر على قضاء حاجاته غير المحدودة ودفع اعدائه غير المعدودة. وفي حضور دائم امامه، فيغمره الفرح والانشراح، ويشعر انه قد القى عن كاهله عبئاً ثقيلاً، فيحمد الله قائلاً: الحمد لله رب العالمين.
` النكتة الخامسة:
ان الدعاء روح العبادة ومخها، وهو نتيجة ايمان خالص، لأن الداعي يُظهر بدعائه أن الذي يهيمن على العالم كله ويطّلع على أخفى أموري ويحيط بكل شئ علماً هو القادر على اغاثتي واسعاف أبعد مقاصدي وهو البصير بجميع احوالي والسميع لندائي، لذا فلا اطلب الا منه وحده فهو يسمع اصوات الموجودات كلها، ولابد انه يسمع صوتي وندائي ايضاً.. وهو الذي يدير الامور كلها فلا انتظر تدبير ادق اموري الا منه وحده.
وهكذا فيا ايها المسلم! تأمل في سعة التوحيد الخالص الذي يهبه الدعاء للمرء، وانظر مدى ما يظهره الدعاء من حلاوة خالصة لنور الايمان وصفائه، وافهم منه حكمة قوله تعالى: } قل ما يعبؤا بكم ربي لولا دعاؤكم{ (الفرقان: 77) واستمع الى قوله تعالى } وقال ربكم ادعوني استجب لكم{ (غافر:60).. وانه لحق ما قيل: (اَكر نه خواهي داد نه دادى خواه) اي لو لم يرد القضاء ما ألهم الدعاء.
} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ مَا عَلّمْتَنَا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيمُ{
اللهم صلّ على سيدنا محمد من الازل الى الابد عدد ما في علم الله وعلى آله وصحبه وسلم. سلّمنا وسلّم ديننا آمين والحمد لله رب العالمين
الذيل الثاني
(( يخص المعراج النبوي))
باسمه سبحانه
} وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ{
بِسْم الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ
} ولقد رآه نزلةً أخرى ^ عند سدرة المنتهى ^ عندها جنة المأوى ^
اذ يغشى السدرة ما يغشى ^ ما زاغ البصر وما طغى ^ لقد رأى من آيات ربّه الكبرى{ (النجم:13ـ 18).
سنبين خمس نكات تدور حول قسم المعراج من قصيدة المولد النبوي.
النكتة الاولى: ان السيد سليمان أفندي(1) الذي كتب قصيدة حول المولد النبوي الشريف، يبين فيها أحداث عشق حزين حول البراق الذي جئ به من الجنة. ولأنه من الأولياء الصالحين ويستند في قصيدته الى روايات في السيرة، لاشك انه يعبّر بتلك الصورة عن حقيقة معينة. والحقيقة هي الآتية:
ان لمخلوقات عالم البقاء علاقة قوية بنور رسول الله e ، اذ بالنور الذي أتى به ستعمّر الجنة ودار الآخرة بالجن والانس، ولولاه لما كانت تلك السعادة الابدية، ولما عمرت الجن والانس الجنة، ولاتنعّموا بجميع انواع مخلوقات الجنة، اي لولاه لبقيت الجنة خاوية وخالية من سكنتها.
ولقد ذكرنا في الغصن الرابع من الكلمة الرابعة والعشرين:
لقد انتخب من كل نوع من الانواع بلبلاً، خطيباً، يعبّر عن طائفته، وفي مقدمة اولئك الخطباء، البلبل العاشق للورد، الذي يعلن عن حاجات طائفة الحيوانات البالغة حدّ العشق، ازاء قافلة النباتات الآتية من خزينة الرحمة الإلهية والحاملة لأرزاق الحيوانات.. تعلنها هذه البلابل بنغماتها الرقيقة على رؤوس اجمل النباتات تعبيراً عن حسن الاستقبال المفعم بالتسبيح والتهليل.
فالرسول الكريم محمد الامين e الذي هو سبب خلق الافلاك، ووسيلة سعادة الدارين، وحبيب رب العالمين، فكما كان سيدنا جبريل عليه السلام ممثلاً عن نوع الملائكة، في طاعته وخدمته بكمال المحبة مبيناً سر سجود الملائكة وانقيادهم لسيدنا آدم عليه السلام.. فأهل الجنة كذلك، بل حتى حيواناتها لها علاقات بذلك الرسول الكريم e . وقد عبّر السيد سليمان افندي عن هذه الحقيقة بمشاعر الحب والعشق التي اطلقها البراق الذي ركبه الرسول e .
النكتة الثانية: ان أحد أحداث قصيدة المعراج النبوي هو ان السيد سليمان قد عبّر عن المحبة النزيهة لله سبحانه وتعالى تجاه الرسول الكريم e بجملة: ((قد عشقتك)).
فهذه التعابير بمعانيها العرفية لاتليق بقدسيته وتعاليه سبحانه، ولكن لأن السيد سليمان افندي من اهل الولاية واهل الحقيقة، حيث ان قصيدته هذه لقيت القبول والرضى لدى عامة المسلمين، فلاشك ان المعنى الذي أظهره صحيح، وهو هذا:
ان لله سبحانه وتعالى جمالاً وكمالاً مطلقين، وان جميع انواع الجمال والكمال المنقسمة على الكائنات جميعها، هي امارات على جماله وكماله واشارات اليهما وعلامات عليهما.
وحيث ان كل صاحب جمال وكمال، يحب جماله وكماله بالبداهة، فالله سبحانه وتعالى يحب جماله بحبٍ يليق بذاته الجليلة. وانه يحب ايضاً أسماءه التي هي شعاعات جماله جلّ وعلا.
واذ انه يحب أسماءه، فانه يحب إذن صنعته التي تظهر جمال أسمائه.
ويحب اذن مصنوعاته التي هي مرايا لجماله وكماله.
واذ إنه يحب ما يبيّن جماله وكماله، فانه يحب محاسن مخلوقاته التي تشير الى جمال اسمائه وكمالها.
ويشير القرآن الحكيم في آياتها الى هذه الانواع الخمسة من المحبة.
وهكذا فالرسول الكريم e الذي هو اكمل فرد في مصنوعات الله، وابرز شخصية في مخلوقاته.. وهو الذي يقدّر ويعلن عن الصنعة الإلهية بذكرٍ جذاب وتسبيح وتهليل.. وهو الذي فتح بلسان القرآن خزائن جمال الاسماء الحسنى وكمالها.. وهو الذي يبيّن بياناً ساطعاً ـ بلسان القرآن ـ الآيات الكونية الدالة على كمال صانعها.. وهو الذي أدّى وظيفة المرآة للربوبية الإلهية بعبوديته الكلية، حتى حظي بأتم تجليات الاسماء الحسنى كلها، بجامعية ماهيته.
فلاجل ما سبق يصح ان يقال:
ان الجميل ذا الجلال لمحبته جماله يحب محمداً e الذي هو اكمل مرآة ذات شعور لذلك الجمال.
وانه سبحانه لمحبته اسماءه يحب محمداً e الذي هو أجلى مرآة تعكس تلك الاسماء الحسنى. ويحب من يتشبهون بمحمد e ايضاً، كل حسب درجته.
وانه سبحانه لمحبته صنعته يحب محمداً e الذي أعلن عن تلك الصنعة في ارجاء الكون برمته حتى جعله في نشوة وشوق يرن به سمع السماوات ويثير به البر والبحر شوقاً اليه.. ويحب ايضاً من يتبعونه.
وانه سبحانه لمحبته مصنوعاته يحب محمداً e ، اذ هو افضل الناس طراً الذين هم اكمل ذوي الشعور، الذين هم اكمل ذوي الحياة، الذين هم اكمل مصنوعاته سبحانه.
وانه سبحانه لحبه اخلاق مخلوقاته يحب محمداً e ، اذ هو في ذروة الاخلاق الحميدة، كما اتفق عليها الاولياء والاعداء، ويحب كذلك من يتشبهون به في الاخلاق، كل حسب درجته.
بمعنى ان محبة الله قد احاطت بالكون كما احاطت به رحمته، ولهذا فان أعلى مقام في الوجوه الخمسة المذكورة ضمن المحبوبين الذين لاحصر لهم هو مقام خصّ بمحمد e ، ولأجله منح اسم ((حبيب الله)).
ولقد عبّر سليمان افندي عن هذا المقام الرفيع، مقام المحبوبية، بقوله: ((قد عشقتك)) علماً ان هذا التعبير، مرصاد للتفكر ليس الاّ، واشارة الى هذه الحقيقة من بعيد. ومع ذلك فان هذا التعبير لكونه يوهم للخيال معنى لايليق بشأن الربوبية الجليلة، فمن الاولى القول: ((قد رضيت عنك)).
النكتة الثالثة: ان المحاورات الجارية في قصيدة المعراج عاجزة عن التعبير عن تلك الحقائق المقدسة بالمعاني المعروفة لدينا، بل ان تلك المحاورات عناوين تأمل وملاحظة، ومراصد تفكر ليس الاّ، واشارات الى الحقائق السامية العميقة، وتنبيهات الى قسم من حقائق الايمان وكنايات عن بعض المعاني التي لايمكن التعبير عنها.
والاّ، فليست تلك محاورات واحداث كالمحاورات الجارية في القصص كي تكون بالمعاني المعروفة لدينا. اذ نحن لانستطيع ان نستلهم بخيالنا تلك الحقائق، من تلك المحاورات، بل يمكننا ان نستلهم منها بقلوبنا ذوقاً ايمانياً مثيراً، ونشوة روحانية نورانية، لأن الله سبحانه كما لانظير ولاشبيه ولامثيل له في ذاته وصفاته كذلك لامثيل له في شؤون ربوبيته، وكما لاتشبه صفاته تعالى صفات مخلوقاته، كذلك لاتشبه محبته محبة مخلوقاته.
فهذه التعابير الواردة في قصيدة المعراج تعدّ من التعابير المتشابهة. ولهذا نقول:
ان للّه سبحانه شؤوناً ـ كمحبته تعالى ـ تلائم وجوب وجوده وقدسيته، وتناسب غناه الذاتي وكماله المطلق. اي ان القصيدة المذكورة تنبه الى تلك الشؤون بأحداث المعراج.
ولقد اوضحت (( الكلمة الحادية والثلاثون)) الخاصة بالمعراج النبوي، حقائق المعراج ضمن اصول الايمان. لذا نختصر هنا مكتفين بذاك.
النكتة الرابعة:
سؤال: ان عبارة: (( انه e قد رأى ربه وراء سبعين ألف حجاب))(1) تعبّر عن بُعد المكان، والحال ان الله سبحانه منزّه عن المكان، فهو أقرب الى كل شئ من اي شئ كان. فما المراد اذاً من هذه العبارة؟!.
الجواب: لقد وُضّحت تلك الحقيقة في ((الكلمة الحادية والثلاثين)) وبُيّنت بياناً شافياً مفصلاً مدعماً بالبراهين، الاّ اننا نقول هنا:
انا الله سبحانه قريب الينا غاية القرب، ونحن بعيدون عنه غاية البعد.
مثال: ان الشمس قريبة منا بوساطة المرآة التي في ايدينا. بل كل ما هو شفاف يكون نوعاً من عرشٍ للشمس ومنزل لها. فلو ان للشمس شعوراً، لكانت تحاورنا بما في ايدينا من المرآة. ولكننا بعيدون عنها اربعة آلاف سنة.
وهكذا فشمس الازل (بلا تشبيه ولاتمثيل) (ولله المثل الاعلى) اقرب الى كل شئ من اي شئ كان، لانه واجب الوجود، ومنزّه عن المكان، ولايحجبه شئ، بينما كل شئ بعيد عنه بعداً مطلقاً.
ومن هذا تفهم: سر المسافة الطويلة جداً في المعراج مع عدم وجود المسافة التي تعبر عنها الآية الكريمة: } ونحن أقرب اليه من حبل الوريد{ (ق:16).
وكذا ينبع من هذا السر: ذهاب الرسولe وطيّه المسافات الطويلة جداً ومجيئه في آن واحد الى موضعه.
فمعراج الرسول ص هو؛ سيره وسلوكه، وهو عنوان ولايته، اذ كما يعرج الاولياء الى درجة حق اليقين من درجات الايمان رقياً معنوياً بالسير والسلوك الروحاني بدءاً من اربعين يوماً الى اربعين سنة، كذلك الرسول e وهو سلطان جميع الاولياء وسيدهم عرج بجسمه وحواسه ولطائفه جميعاً لابقلبه وروحه وحدهما فاتحاً صراطاً سوياً وجادة كبرى حتى بلغ أعلى مراتب حقائق الايمان واسماها بالمعراج الذي هو كرامة ولايته الكبرى في اربعين دقيقة بدلاً من اربعين سنة، ورقي الى العرش بسلّم المعراج وشاهد ببصره بعين اليقين ـ في مقام قاب قوسين او ادنى ـ اعظم حقائق الايمان، وهو الايمان بالله، والايمان باليوم الآخر، ودخل الجنة وشاهد السعادة الابدية وفتح باب الجادة الكبرى وتركه مفتوحاً ليمضي جميع اولياء امته بالسير والسلوك الروحاني اي بسير روحاني وقلبي في ظل ذلك المعراج كل حسب درجته.
النكتة الخامسة:
ان قراءة المولد النبوي وقصيدة المعراج عادة اسلامية مستحسنة، ونافعة جداً، بل هي مدار مجالسة ومؤانسة لطيفة في الحياة الاجتماعية الاسلامية. وهي درس في غاية اللذة والطيب للتذكير بالحقائق الايمانية. وهي اقوى وسيلة مؤثرة ومهيجة؛ لإظهار أنوار الايمان، وتحريك محبة الله، وعشق الرسول e .
نسأل الله ان يديم هذه العادة الى الابد، ويرحم كاتبها السيد سليمان افندي وامثاله من الكتّاب، ويجعل جنة الفردوس مثواهم.. آمين.
خاتمة
لما كان خالق هذا الكون، يخلق من كل نوع فرداً ممتازاً كاملاً جامعاً، ويجعله مناط فخر وكمال ذلك النوع، فلاشك انه يخلق فرداً ممتازاً وكاملاً ـ بالنسبة للكائنات قاطبة ـ وذلك بتجلي الاسم الاعظم من اسمائه الحسنى. وسيكون في مصنوعاته فرداً أكمل كالاسم الاعظم في اسمائه. فيجمع كمالاته المنتشرة في الكائنات في ذلك الفرد الاكمل، ويجعله محط نظره.
ولاريب ان ذلك الفرد سيكون من ذوي الحياة، لان أكمل انواع الكائنات هم ذوو الحياة، ويكون من ذوي الشعور، لان أكمل انواع ذوي الحياة هم ذوو الشعور، وسيكون ذلك الفرد الفريد من الانسان، لان الانسان هو المؤهل لما لا يحد من الرقي. وسيكون ذلك الفرد حتماً محمداً الامين e ، لأنه لم يظهر أحد في التأريخ كله مثله منذ زمن آدم عليه السلام والى الآن، ولن يظهر. لان ذلك النبي الكريم e قد ضم نصف الكرة الارضية وخمس البشرية ضمن سلطانه المعنوي وحاكميته التي دامت ألفاً وثلاثمائة وخمسين عاماً بكمال هيبتها وعظمتها. واصبح استاذاً لجميع اهل الكمال في جميع انواع الحقائق، ونال أرقى المراتب في السجايا الحميدة باتفاق الاصدقاء والاعداء، وتحدى العالم اجمع وحده ـ في اول أمره ـ وأظهر القرآن الكريم الذي يتلوه اكثر من مائة مليون من الناس في كل دقيقة..
فلابد ان نبياً كريماً كهذا النبي e هو ذلك الفرد الفريد لا احد غيره ابداً. فهو نواة هذا العالم وثمرته. عليه وعلى آله واصحابه الصلاة والسلام بعدد انواع الكائنات وموجوداتها.
واعلم ان الاستماع الى المولود النبوي ومعراجه e اي الاستماع الى مبدأ رقيه ومنتهاه. اي معرفة تأريخ حياته المعنوية.. لذيذ، ونوراني، ومبعث فخر لأمته واعتزاز لهم، ومسامرة علوية رفيعة للمؤمنين الذين اتخذوه رئيساً وسيداً وإماماً وشفيعاً لهم.
يارب
بحرمة الحبيب الاكرم عليه الصلاة والسلام، وبحق الاسم الاعظم..
اجعل قلوب ناشري هذه الرسالة ورفقائهم مظهراً لأنوار الايمان.
واجعل أقلامهم ناشرةً لأسرار القرآن واهدهم الى سواء السبيل.
آمين
} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{
الباقي هو الباقي
سعيد النورسي
المكتوب الخامس والعشرون
لم يؤلف
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك