أنت غير مسجل في منتدى الإحسان . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           الحَمْدُ لله الذِي عَافَانِي في جَسَدِي ورَدَّ عَلَيَّ رُوحِي، وأَذِنَ لي بِذِكْرهِ           

رسائل ووصايا في التزكية كلّ ما يختص بعلوم السلوك وآداب القوم وتزكية النفس والتصوف الإسلامي

إضافة رد
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع
قديم 02-03-2011
  #31
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 15
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: المكتوبات

المكتوب الرابع والعشرون

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} يفعل الله ما يشاء{ (ابراهيم:27)

} ويحكم ما يريد{ (المائدة:1)

سـؤال:

ان ما يقتضيه اسم الله ((الرحيم)) من تربية شفيقة، واسم الله ((الحكيم)) من تدبير وفق المصالح، واسم الله (( الودود)) من لطف ومحبة.. كيف تلائم مقتضيات هذه الاسماء الحسنى العظام مع ماهو مرعب وموحش كالموت والعدم والزوال والفراق والمصائب والمشقات؟

ولنسلّم ان ما يراه الانسان في طريق الموت لابأس به وهو خير وحسن حيث سيمضي الى السعادة الابدية. ولكن اية رحمة وشفقة تسع، واية حكمة ومصلحة توجد، واي لطف ورحمة في إفناء هذه الانواع من الاشجار والنباتات اللطيفة والازهار الجميلة والحيوانات المؤهلة للوجود والشغوفة بالحياة والتواقة للبقاء، وباستمرار ودون استثناء واعدامها دون امهال احد منها؟ وفي تسخيرها في المشاق وتغييرها بالمصائب دون السماح لأحد منها بالدعة والراحة؟ وفي اماتتها وزوالها وفراقها بلا توقف، دون ان يسمح لأحد بالمكوث قليلاً ودون رضىً من أحد؟

الجـواب: لكي نحل هذا السؤال نحاول أن ننظر الى هذه الحقيقة العظمى من بعيد، فهي حقيقة واسعة جداً وعميقة جداً ورفيعة جداً، لنرى الحقيقة بوضوح. فنبين الداعي والمقتضى لها في خمسة رموز ونبين الغايات والفوائد منها في خمس اشارات.



المقام الاول

وهو في خمسة رموز

l الرمـز الاول

لقد ذكرنا في خواتيم الكلمة السادسة والعشرين: ان صنّاعاً ماهراً، يكلف رجلاً فقيراً لقاء اجرة يستحقها ، ليقوم له بدور النموذج ((الموديل)) ليخيط لباساً راقياً، فاخراً في اجمل زينة واكثرها بهاءً، اظهاراً لمهارته وصنعته. لذا يفصّل على ذلك الرجل اللباس ويقصه ويقصره ويطوله، ويقعد الرجل وينهضه، ويجعله في اوضاع مختلفة.. فهل يحق لهذا الرجل الفقير ان يقول للصنّاع: لِمَ تبدل هذا اللباس الذي يجمّلني؟ ولِمَ تغيره؟ فتقعدني تارة وتنهضني اخرى فتفسد راحتي؟!

وكذلك الصانع الجليل (وله المثل الاعلى) قد اتخذ ماهية كلِ نوع من الموجودات مقياساً ونموذجاً ((موديلاً)) فألبس كل شئ لباساً مرصعاً بالحواس، ونقش عليه نقوشاً بقلم قضائه وقدره، واظهر جلوات اسمائه الحسنى، ابرازاً لكمال صنعته بنقوش اسمائه. فضلاً عن انه سبحانه يمنح كل موجود ايضاً كمالاً ولذة وفيضاً بمثابة اجرة ملائمة له.

فهل يحق لشئ ان يخاطب ذلك الصانع الجليل الذي هو مالك الملك يتصرف في ملكه كيف يشاء ويقول: ((انك تتعبني وتفسد عليّ راحتي))؟ حاش للّه وكلا!

انه ليس للموجودات حق باية جهة كانت ازاء واجب الوجود، وليس لها ان تدّعي باي حقٍ مهما كان، بل حقها القيام بالشكر الدائم والحمد الدائم، اداءً لحق مراتب الوجود التي منحها اياها.لأن جميع مراتب الوجود الممنوحة للموجود انما هي وقوعات تحتاج الى علّة. بينما مراتب الوجود التي لم تمنح هي امكانات، والامكانات عدمٌ، وهي لاتتناهى، والعدم لايحتاج الى علة، فما لانهاية له لاعلة له.

مثلاً: لايحق للمعادن ان تشكو قائلة ً: لِمَ لم نصبح نباتاتٍ؟ بل حقها أن تشكر فاطرها الجليل على ما انعم عليها من نعمة الوجود كمعادن.

وكذا النبات ليس له حق الشكوى، فليس له أن يقول: لِمَ لم اصبح حيواناً؟ بل حقه الشكر لله الذي وهب له الوجود والحياة معاً . وكذا الحيوان ليس له حق الشكوى ويقول: لِمَ لم اكن انساناً؟ بل عليه حق الشكر لما أنعم الله عليه من الوجود، والحياة وجوهر الروح الراقي.. وهكذا فقس.

ايها الانسان الشاكي! انك لم تبق معدوماً، بل لبست نعمة الوجود. وذقت طعم الحياة. ولم تبق جماداً ولم تصبح حيواناً، فقد وجدت نعمة الاسلام، ولم تبق في غياهب الضلال، وتنعمت بنعمة الصحة والأمان.. وهكذا..

ايها الغارق في الكفران! أفبعد هذا تدعّي حقاً لك على ربك، انك لم تشكر ربك بعدُ على ما أنعم عليك من مراتب الوجود التي هي نعم خالصة. بل تشكو منه جل وعلا لما لم ينعم عليك من نعم غالية من انواع الامكانات وانواع العدم ومما لاتقدر عليه ولاتستحقه ،فتشكو بحرص باطل وتكفر بنعمه سبحانه.

ترى لو أن رجلاً أُصعد على قمة منارة عالية ذات درجات وتسلـَّم في كل درجة منها هدية ثمينة ثم وجد نفسه في قمة المنارة، في مكان رفيع، أيحق له أن لايشكر صاحب تلك النعم ويبكي ويتأفف ويتحسر قائلاً: لـِمَ لم اقدر على صعود ما هو أعلى من هذه المنارة..

ترى كم يكون عمله هذا باطلاً لو تصرف هكذا وكم يسقط في هاوية كفران النعمة! وكم هو في ضلالة مقيتة!. حتى البلهاء يدركون هذا.

ايها الانسان الحريص غير القانع! ويا ايها المسرف غير المقتصد! ويا ايها الشاكي بغير حق! ايها الغافل!

اعلم يقيناً: ان القناعة شكران رابح، بينما الحرص كفران خاسر، والاقتصاد توقير للنعمة جميل ونافع، بينما الاسراف استخفاف بالنعمة مضرّ ومشين.

فان كنت راشداً، عوّد نفسك على القناعة وحاول بلوغ الرضى. وان لم تطق ذلك فقل: ياصبور! وتجمّل بالصبر. وارض بحقك ولاتشكُ. واعلم ممن وإلى مَن تشكو! ألزم الصمت. واذا اردت الشكوى لامحالة فاشكُ نفسك الى الله، فان القصور منها.

l الرمز الثانـي:

لقد ذكرنا في ختام المسألة الاخيرة للمكتوب الثامن عشر أنه:

ان حكمةً من حكم تبديل الخالق الجليل للموجودات دوماً وتجديده لها باستمرار تبديلاً وتجديداً محيّراً مذهلاً بفعالية ربوبيته الجليلة هي ان الفعالية والحركة في المخلوقات نابعة من شهية، من اشتياق، من لذة، من محبة، حتى يصح القول:

ان في كل فعالية نوعاً من اللذة، بل ان كل فعالية هي نوع من اللذة، واللذة كذلك متوجهة الى كمال بل هي نوع من الكمال.

ولما كانت الفعالية تشير الى كمال، الى لذة، الى جمال، وان الواجب الوجود سبحانه الذي هو الكمال المطلق والكامل ذو الجلال، جامع في ذاته وصفاته وافعاله لجميع انواع الكمالات، فلا شك أن لذلك الواجب الوجود سبحانه شفقة مقدسة لاحدّ لها ومحبة منزهة لانهاية لها تليق بوجوب وجوده وقدسيته وتوافق تعاليه الذاتي وغناه المطلق وتناسب كماله المطلق وتنزهه الذاتي ولا شك أن له شوقاً مقدساً لاحدّ له، نابعاً من تلك الشفقة المقدسة، ومن تلك المحبة المنزهة، وان له سروراً مقدساً لاحدّ له نابعاً من ذلك الشوق المقدس، وان له لذة مقدسة لاحدّ لها ـ ان جاز التعبير ـ ناشئة من ذلك السرور المقدس. ولاشك ان له مع تلك اللذة المقدسة رضىً مقدساً لاحدّ له وافتخاراً مقدساً لانهاية له ـ ان جاز التعبير ـ ناشئين من رضىً وامتنان مخلوقاته من انطلاق استعداداتها من القوة الى الفعل، حينما تنطلق وتتكامل بفعالية قدرته ضمن رحمته الواسعة.. فذلك الرضى المقدس المطلق والافتخار المطلق يقتضيان هذه الفعالية المطلقة في صورتها المطلقة. وتلك الفعالية ايضاً تقتضي تبديلاً وتغييراً وتحويلاً وتخريباً لاحدّ لهما وذلك التغيير والتبديل غير المحدودين يقتضيان الموت والعدم والزوال والفراق.

ولقد رأيت ـ في وقت ما ـ ان كل ما تبينه حكمة البشر (فلسفته وعلومه ) من فوائد تخص غايات المصنوعات، تافهة لاقيمة لها، وعلمت حينها ان تلك الحكمة تفضي الى العبثية، ومن هنا فان الفيلسوف الراسخ قدمه في الفلسفة: إما أن يضل في ضلالة الطبيعة، او يكون سوفسطائياً او ينكر الارادة والعلم الالهي، او يطلق على الخالق: ((الموجب بالذات)).

وفي ذلك الوقت بعثت الرحمةُ الإلهية اسم الله((الحكيم)) لإغاثتي، فأظهر لي الغايات الجليلة للمصنوعات، اي أن كل مصنوع مكتوب رباني حكيم بحيث يطالعه جميع ذوي الشعور.

كفتني هذه الغاية مدة سنة من الزمن، ثم انكشفت الخوارق البديعة في الصنعة، فلم تعد تلك الغاية كافية وافية. واُظهرتْ لي غاية اخرى أعظم بكثير من الاولى.

اي أن اهم غاية للمصنوع هي النظر الى صانعه الجليل، اي يعرض المصنوع كمالات صنعة صانعه، ونقوش اسمائه الحسنى ومرصعات حكمته القيمة وهدايا رحمته الواسعة امام نظره سبحانه ويكون مرآة لجماله وكماله جل وعلا. هكذا فهمت هذه الغاية، وكفتني مدة مديدة.

ثم ظهرت معجزات القدرة وشؤون الربوبية في التغيير والتبديل السريع جداً، ضمن فعالية محيرة في ايجاد الاشياء واتقانها، حتى بدت تلك الغاية غير وافية، وعلمت ان لابد من داع ٍ عظيم ومقتضى جليل يعادل هذه الغاية العظمى، وعند ذلك اُظهرت لي المقتضيات الموجودة في الرمز الثاني والغايات المذكورة في الاشارات التي ستأتي.

وأُعلمت يقيناً: أن فعالية القدرة في الكون وسير الاشياء وسيلانها، تحمل من المعاني الغزيرة بحيث يُنطق الصانعُ الحكيم انواعَ الكائنات بتلك الفعالية، حتى كأن حركات السموات والارض وحركات موجوداتها هي كلمات ذلك النطق وان سيرها ودورانها تكلّم ونطق، بمعنى أن الحركات والزوال النابعين من الفعالية ما هي الا كلمات تسبيحية، وان الفعالية الموجودة في الكون هي نطق وإنطاق صامت للكون ولما فيه من انواع.

l الرمز الثالث:

ان الاشياء لاتمضي الى العدم، ولاتصير الى الفناء، بل تمضي من دائرة القدرة الى دائرة العلم، وتدخل من عالم الشهادة الى عالم الغيب، وتتوجه من عالم التغير والفناء الى عالم النور والبقاء، وان الجمال والكمال في الاشياء يعودان الى الاسماء الإلهية والى نقوشها وجلواتها من زاوية نظر الحقيقة.

وحيث ان تلك الاسماء باقية وتجلياتها دائمة، فلاشك أن نقوشها تتجدد وتتجمل وتتبدل، فلا تذهب الى العدم والفناء، بل تتبدل تعيناتها الاعتبارية. اما حقائقها وماهياتها وهوياتها المثالية التي هي مدار الحسن والجمال ومظهر الفيض والكمال فهي باقية فالحسن والجمال في الاشياء التي لاتملك روحاً يعودان الى الاسماء الإلهية مباشرة فالشرف لها والمدح والثناء لها. إذ الحسن حسنها والمحبة توجه اليها. ولايورث تبدل تلك المرايا ضرراً للاسماء.

وان كانت الاشياء من ذوي الارواح ولكن لم تكن من ذوي العقول، فان فراقها وزوالها ليس فناءً ولاعدماً بل ينجو الشئ الحي من وجود جسماني ومن اضطرابات وظائف الحياة، مودعاً ثمرات وظائفه التي كسبها الى روحه الباقية. فارواح هذه الاشياء تستند ايضاً الى اسماء الهية حسنى. فتدوم وتستمر، وتمضي الى سعادة ملائمة لها.

اما ان كان اولئك الاحياء من ذوي العقول، فانهم اصلاً يمضون الى سعادة ابدية والى عالم البقاء المؤسس على كمالات مادية ومعنوية.

لذا فان فراقهم وزوالهم ليس موتاً وعدماً ولازوالاً وفراقاً حقاً، بل هو وصال مع الكمالات وهو سياحة ممتعة الى عوالم نورانية للصانع الحكيم، عوالم اجمل من الدنيا وازهى منها كعالم البرزخ وعالم المثال وعالم الارواح والى ممالكه الاخرى من منازله سبحانه وتعالى.

حاصل الكلام: ان الله موجود وباق، وان صفاته سرمدية واسماءه دائمة، اذاً لابد أن تجليات تلك الاسماء ونقوشها تتجدد في بقاء معنوي فليس تخريباً ولافناءً ولا اعداماً وزوالاً. اذ من المعلوم ان الانسان ذو علاقة ـ من حيث الانسانية ـ مع اكثر الموجودات، فيتلذذ بسعادتها ويتألم بمصائبها، ولاسيما مع ذوي الحياة، وبخاصة مع الانسان وبالاخص مع من يحبهم ويعجب بهم ويحترمهم من اهل الكمال، فهو اشد تألماً بآلامهم واكثر سعادة بسعادتهم حتى يضحي بسعادته في سبيل اسعادهم كتضحية الوالدة الشفيقة بسعادتها وراحتها من اجل ولدها.

فكل مؤمن يستطيع ان يكون بنور القرآن والايمان سعيداً بسعادة جميع الموجودات وبقائها ونجاتها من العدم وصيرورتها مكاتيب ربانية ويغنم نوراً عظيماً بعظم الدنيا. فكلٌ يستفيد من هذا النور حسب درجته.

اما ان كان من اهل الضلال، فانه يتألم علاوة على آلامه بهلاك الموجودات وبفنائها وباعدامها الظاهري وبآلام ذوي الارواح منها. اي أن كفره يملأ دنياه بالعدم ويفرغها على رأسه، فيمضي الى جهنم (معنوية) قبل أن يساق الى جهنم (في الآخرة).

l الرمز الرابع:

مثلما ذكر في مواضع عدة:ان للسلطان دوائر مختلفة ناشئة من عناوينه المتنوعة، فله اسم السلطان، الخليفة، الحاكم، القائد، وامثالها من العناوين والصفات.

(ولله المثل الاعلى ) فان للاسماء الحسنى تجليات متنوعة لاتحد، فتنوع المخلوقات ناشئ عن تنوع تلك التجليات، وحيث أن صاحب كل جمال وكل كمال يرغب في مشاهدة جماله وكماله واشهادهما. فان تلك الاسماء المختلفة ـ لكونها دائمية وسرمدية ـ تقتضي ظهوراً دائمياً سرمدياً أي تقتضي رؤية نقوشها. اي تقتضي رؤية واراءة جلوة جمالها وانعكاس كمالها في مرايا نقوشها. اي تقتضي تجديد كتاب الكون الكبير، آناً فآناً. اي كتابتها كتابة مجددة ذات مغزى. اي تقتضي كتابة الوف من الرسائل المتنوعة في صحيفة واحدة، واظهار كل رسالة لنظر شهود الذات المقدسة والمسمى الاقدس مع عرضها على مطالعة انظار ذوي الشعور واستقرائهم. تأمل في هذا الشعر الذي يشير الى هذه الحقيقة:

صحائف كتاب العالم.. هذه الانواع غير المعدودة

حروفه وكلماته.. هذه الافراد غير المحدودة

لقد سُطّر في لوح الحقيقة المحفوظ:

ان كل موجود في العالم لفظ بليغ مجسم

تأمل سطور الكائنات فانها من الملأ الاعلى اليك رسائل

l lلرمز الخامس: عبارة عن نكتتين

النكتة الاولى:

ان الله موجود، فكل شئ موجود اذاً، وحيث أن هناك انتساباً للواجب الوجود، فكل الاشياء اذاً موجودة لكل شئ لأن كل موجود بانتسابه الى واجب الوجود يرتبط بجميع الموجودات، بسر الوحدة بمعنى ان كل موجود يعرف انتسابه الى واجب الوجود او يُعرف انتسابه اليه تعالى، فهو ذو علاقة مع جميع الموجودات المنتسبة الى واجب الوجود، وذلك بسر الوحدة. اي ان كل شئ من نقطة الانتساب ينال انوار وجودٍ غير محدودة بحدود، فلا فراق ولازوال اذاً في تلك النقطة.. لذا يكون العيش في آن سيال واحد مبعث انوار وجود غير محدود. بينما ان لم يكن ذلك الانتساب، ولم يُعرف، فان كل شئ ينال مالايحد من انواع الفراق وصنوف الزوال وانماط العدم، لان الشئ في تلك الحالة له فراق وافتراق وزوال تجاه كل موجود يمكن أن يرتبط به. اي تحمل على وجوده الشخصي انواعاً لاتحد من العدم وصنوفاً لاتحصى من الفراق، فلو ظل في الوجود مليوناً من السنين دون انتساب لما عَدلَ قطعاً آناً من العيش مع الانتساب الذي كان فيه.

ولهذا قال اهل الحقيقة: ان آناً سيالاً من وجود منور يفضل على مليون سنة من وجود أبتر. اي ان آناً من وجود منتسب الى الواجب الوجود مرجّح على مليون سنة من وجود لاانتساب فيه. ولأجل هذا قال اهل التحقيق: ان انوار الوجود هي معرفة واجب الوجود. اي ان الكائنات في تلك الحالة وهي تنعم بانوار الوجود، تكون مملوءة بالملائكة والروحانيات وذوي الشعور. وبخلاف ذلك، اي ان لم تكن هناك معرفة واجب الوجود، فان ظلمات العدم وآلام الفراق واوجاع الزوال تحيط بكل موجود، فالدنيا تكون موحشة خاوية في نظر ذلك الشخص.

نعم، كما ان لكل ثمرة من ثمار شجرة، علاقة مع كل الثمرات التي على تلك الشجرة وتكوّن نوعاً من رابطة الاخوة والصداقة والعلاقات المتينة فيما بينها.. فلها اذن وجودات عرضية بعدد تلك الثمرات.

ولكن متى ما قطفت تلك الثمرة من الشجرة، فان فراقاً وزوالاً يحصلان تجاه كل ثمرة من الثمرات. وتصبح الثمرات بالنسبة للمقطوفة في حكم المعدوم، فيعمها الظلام، ظلام عدم خارجي.

وكذلك فان كل شئ له الاشياء كلها، من نقطة الانتساب الى قدرة الأحد الصمد. وان لم يكن هناك انتساب فان انواعاً من العدم الخارجي بعدد الاشياء كلها تصيب كل شئ.

فانظر من خلال هذا الرمز الى عظمة انوار الايمان، وشاهد الظلمة المخيفة المحيطة بالوجود في الضلال.

فالايمان اذاً هو عنوان الحقيقة السامية التي بينت في هذا الرمز، ولايمكن الاستفادة من تلك الحقيقة الاّ بالايمان، اذ كما ان كل شئ معدوم للاعمى والاصم والابكم والمجنون، كذلك كل شئ معدوم مظلم بانعدام الايمان.

النكتة الثانية:

ان للدنيا وللاشياء ثلاثة وجوه:

الوجه الاول:

ينظر الى الاسماء الإلهية الحسنى، فهو مرآة لها، ولايمكن أن يعرض الزوال والفراق على هذا الوجه، بل فيه التجدد.

الوجه الثاني:

ينظر الى الآخرة، ويرنو الى عالم البقاء، وهو في حكم مزرعتها. ففي هذا الوجه تنضج ثمرات باقيات. فهذا الوجه يخدم البقاء، لأنه يحوّل الفانيات الى حكم الباقيات، وفيه جلوات الحياة والبقاء لا الموت والزوال.

الوجه الثالث:

ينظر الى الفانين، اي ينظر الينا نحن، فهو وجه يعشقه الفانون واهل الهوى، وهو موضع تجارة اهل الشعور، وميدان امتحان الموظفين المأمورين. وهكذا ففي حقيقة هذا الوجه الثالث جلوات اللقاء والحياة تكون مرهماً على جراحات آلام الفناء والزوال والموت والعدم في هذا الوجه للدنيا.

حاصل الكلام:

ان هذه الموجودات السيالة، وهذه المخلوقات السيارة، ما هي الاّ مرايا متحركة، ومظاهر متبدلة لتجديد انوار ايجاد الواجب الوجود .





























المقام الثاني

عبارة عن مقدمة وخمس اشارات

والمقدمة عبارة عن مبحثين:

المقدمة

l المبحث الاول:

ستكتب في هذه الاشارات الخمس الآتية تمثيلات، بمثابة مراصد ومناظير صغيرة وخافتة، لرصد حقيقة شؤون الربوبية، فهذه التمثيلات لاتستوعب قطعاً حقيقة الربوبية، ولايمكن ان تحيط بها، ولا ان تكون مقياساً لها، الاّ انها تمكّن المرء من ان ينظر الى تلك الشؤون البديعة من خلالها.ثم ان التعابير التي لاتناسب شؤون الذات الجليلة في التمثيلات الآتية وفي الرموز السابقة انما هي من قصور التمثيل نفسه. فمثلاً: ان المعاني المعروفة لدينا للـّذة والسرور والرضى والامتنان لايمكن ان تعبّر عن الشؤون المقدسة لله سبحانه، ولكنها مجرد عناوين ملاحظة ليس الاّ، ومراصد تفكر فحسب.

ثم ان هذه التمثيلات تثبت حقيقة قانون رباني عظيم حول شؤون الربوبية باظهارها جزءاً وطرفاً من ذلك القانون في مثال صغير.

فمثلاً؛ لقد ذكر ان الزهرة ترحل من الوجود، الاّ انها تترك الآفاً من انواع الوجود، ثم ترحل. وبهذا المثال يُبيّن قانون عظيم للربوبية حيث يجري هذا القانون في الربيع كله كما يجري في جميع موجودات الدنيا.

نعم، ان الخالق الرحيم، بأي قانون يبدّل لباس طائر وريشه، ويجدّده، يبدل ذلك الصانع الحكيم بالقانون نفسه لباس الكرة الارضية كل سنة، ويبدل بالقانون نفسه صورة الكون قاطبة عند قيام الساعة ويغيرها..وكذا بأي قانون يحرك سبحانه الذرة كالمريد المولوي يدورحول نفسه وحول حلقة الذكر فانه يحرك بالقانون نفسه الكرة الارضية كانجذاب المريد المولوي بالذكر، بل يحرك العوالم بالقانون نفسه، ويسيّر المنظومة الشمسية به.. وكذا بأي قانون يجدد سبحانه ذرات خلايا جسمك ويحللها ويعمّرها، فانه يجدّد بالقانون نفسه، في كل سنة، في كل موسم بستانك مرات ومرات ويجدد بالقانون نفسه سطح الارض في كل ربيع ويبسط بساطاً جديداً.. وكذا، بأي قانون حكيم يحي الصانع القدير ذبابة، فانه سبحانه يحيي بالقانون نفسه شجرة الدلب الضخمة هنا ـ وهي امامنا ـ في كل ربيع، ويحيي الارض بالقانون نفسه في الربيع، ويحيي المخلوقات قاطبة بالقانون نفسه يوم الحشر الاعظم.

ويشير القرآن الحكيم الى هذا بقوله تعالى: } ما خَلقُكم ولابَعثُكم الاّ كنفسٍ واحدة{ (لقمان: 28).. وهكذا فقس.

فهناك قوانين ربوبية كثيرة جداً امثال هذه تجري من الذرة الى مجموع العالم. فتأمل في عظمة هذه القوانين التي تتضمنها فعالية الربوبية وتدبّر في سعتها وشاهد سرّ الوحدة فيها. واعلم ان كل قانون برهان توحيد بذاته.

نعم! ان كل قانون من هذه القوانين الكثيرة والعظيمة جداً، لكونه قانوناً واحداً ومحيطاً بالوجود في الوقت نفسه فانه يثبت وحدانية الصانع الجليل وعلمه وارادته اثباتاً قاطعاً فضلاً عن انه تجلٍ من تجليات العلم والارادة.

وهكذا فالتمثيلات الواردة في اغلب مباحث (الكلمات) تبين طرفاً وجزءاً من مثل هذه القوانين في مثال جزئي، فهي اذاً تشير الى وجود ذلك القانون نفسه في المدعي. فمادام التمثيل يبيّن تحقق القانون فهو اذاً يثبت المدعي كالبرهان المنطقي. بمعنى ان معظم التمثيلات الموجودة في (الكلمات) كلٌ منها في حكم برهان يقيني، وحجة قاطعة.

l المبحث الثاني:

لقد ذكر في الحقيقة العاشرة من الكلمة العاشرة: ان لكل ثمرة ولكل زهرة غايات ٍ وحكماً بقدر ثمرات الشجرة وازاهيرها. وتلك الحكم على ثلاثة أقسام:

قسم منها متوجه الى الصانع الجليل؛ يبين نقوش اسمائه.

وقسم آخر يتوجه الى ذوي الشعور، فالموجودات في نظرهم رسائل قيّمة وكلمات بليغة ذات مغزى.

وقسم آخر يتوجه الى الشئ نفسه، والى حياته والى بقائه، وله حِكمٌ حسب منافع الانسان، ان كان مفيداً للانسان.

فعندما كنت أتأمل وجود هذه الغايات الكثيرة لكل موجود. وردت هذه الفقرات باللغة العربية الى خاطري، دوّنتها على صورة ملاحظات على أسس تلك الاشارات الخمس الآتية:

[وهذه الموجودات الجليلة، مظاهر سيالة، ومرايا جوّالة، لتجدّد تجليات انوار ايجاده سبحانه بتبدّل التعيّنات الاعتبارية

اولاً: مع استحفاظ المعاني الجميلة والهويات المثالية.

وثانياً: مع انتاج الحقائق الغيبية والنسوج اللوحية.

وثالثاً: مع نشر الثمرات الأخروية والمناظر السرمدية.

ورابعاً: مع اعلان التسبيحات الربانية واظهار المقتضيات الاسمائية.

وخامساً: لظهور الشؤونات السبحانية والمشاهد العلمية].

ففي هذه الفقرات الخمس اسس الاشارات الآتية التي سنبحثها:

نعم! ان لكل موجود، ولاسيما من ذوي الحياة، خمس طبقات مختلفة من الحكم والغايات المختلفة.

فكما ان شجرة مثمرة، تثمر أغصانها التي يعلو بعضها على بعض، كذلك كل كائن حي له غايات وحكم مختلفة في خمس طبقات.

ايها الانسان الفاني! ان كنت تريد تحويل حقيقتك التي هي كنواة جزئية الى شجرة باقية مثمرة، وتحصل على الطبقات العشر من الثمرات المشار اليها في خمس اشارات وعشرة انواع من الغايات. اغتنم الايمان الحقيقي والاّ تحرم من جميع تلك الغايات والثمرات فضلاً عن انك تضمر وتفسد داخل تلك النواة الصغيرة.

` الاشارة الاولى:

[اولاً: بتبدل التعينات الاعتبارية مع استحفاظ المعاني الجميلة والهويات المثالية].

هذه الفقرة تفيد: ان كل موجود، بعد ذهابه من الوجود، يذهب الى العدم والفناء ظاهراً. ولكن تبقى المعاني التي كان قد أفادها وعبّر عنها وتحفظ، وتبقى كذلك هويته

المثالية وصورته وماهيته، في عالم المثال، وفي الالواح المحفوظة التي هي نماذج عالم المثال، وفي القوى الحافظة (الذاكرة) التي هي نماذج الالواح المحفوظة.

بمعنى أن الموجود يفقد وجوداً ظاهرياً صورياً، ويكسب مئات من الوجود المعنوي والعلمي.

مثلاً: تعطى للحروف المطبعية ترتيباً معيناً ووضعاً خاصاً كي تطبع بها صحيفة معينة، فصورة تلك الصحيفة الواحدة وهويتها تعطى الى صحائف مطبوعة متعددة، وتنشر معاني مافيها الى عقول كثيرة، وبعد ذلك تتبدل اوضاع تلك الحروف وتُغير، لانتفاء الحاجة اليها، وللحاجة الى تنضيد صحائف اخرى بتلك الحروف.

وهكذا، فان قلم القدر الالهي يعطي هذه الموجودات الارضية، ولاسيما النباتية منها، ترتيباً معيناً ووضعاً معيناً، والقدرة الالهية توجدها في صحيفة موسم الربيع، فتعبّر عن معانيها الجميلة. وحيث ان صورها وهوياتها تنقل الى سجل عالم الغيب، كعالم المثال، فان الحكمة تقتضي ان يتبدل ذلك الوضع، كي تكتب صحيفة جديدة للربيع المقبل لتعبّر عن معانيها كذلك.

` الاشارة الثانية:

[وثانياً: مع انتاج الحقائق الغيبية والنسوج اللوحية].

هذه الفقرة تشير الى ان كل شئ، سواء أكان جزئياً أم كلياً، بعد ذهابه من الوجود (ولاسيما ان كان ذا حياة) ينتج حقائق غيبية كثيرة فضلاً عن انه يدع صوراً بعدد أطوار حياته في الالواح المثالية، التي هي في سجلات عالم المثال، فيُكتب تاريخ حياته ذا المغزى من تلك الصور والذي يسمى بالمقدرات الحياتية، ويكون في الوقت نفسه موضع مطالعة الروحانيات، بعد ذهابه من الوجود.

مثال ذلك: ان زهرة ما تذبل ثم ترحل من الوجود، الاّ انها تترك مئات من البذيرات في الوجود وتدع ماهيتها في تلك البذيرات، فضلاً عن انها تترك ألوفاً من صورها في الواح محفوظة صغيرة، وفي القوى الحافظة التي هي نماذج مصغرة للألواح المحفوظة، فتستقرئ ذوي الشعور التسبيحات الربانية ونقوش الاسماء الحسنى التي أدتها في اطوار حياتها. ومن بعد ذلك ترحل عن الوجود.

وهكذا فان موسم الربيع المزدان بالمصنوعات الجميلة على سطح الأرض الشبيه بمزهرة عظيمة، انما هو زهرة ناضرة تزول في الظاهر، وتذهب الى العدم. بيد انه ـ اي الربيع ـ يترك الحقائق الغيبية التي أفادها بعدد بذوره، ويترك الهويات المثالية التي نشرها بعدد الأزاهير، ويدع الحكم الربانية التي أظهرها بعدد الموجودات.

فيترك الربيع كل انواع الوجود هذه، ثم يغيب عن أنظارنا، زد على ذلك فانه يُفرغ المكان لأقرانه من جموع الربيع التي ستأتي الى الوجود لتؤدي وظائفها.

بمعنى ان ذلك الربيع ينزع عنه وجوداً ظاهرياً ويلبس ألفاً من الوجود معنىً.

` الاشارة الثالثة:

[وثالثاً: مع نشر الثمرات الأخروية والمناظر السرمدية].

هذه الفقرة تفيد: ان الدنيا مزرعة ومعمل ينتج المحاصيل التي تناسب سوق الآخرة.

اذكما ان اعمال الجن والانس ترسل الى سوق الآخرة، كذلك تؤدي بقية الموجودات في الدنيا أعمالاً كثيرة ايضاً في سبيل الآخرة وتنشئ محاصيل وفيرة لها، بل تجري كرة الارض لاجل تلك الاعمال، بل يصح القول:

ان هذه السفينة الربانية تقطع مسافة أربعة وعشرين ألف سنة في سنة واحدة، لتدور حول ميدان الحشر. كما اثبتنا في كلمات كثيرة.

مثلاً: لاشك ان اهل الجنة يرغبون ان يتذاكروا خواطرهم في الدنيا، ويتحاوروا فيما بينهم حول ذكرياتها، وربما يتلهفون لرؤية ألواح (مشاهد) تلك الذكريات والحوادث ومناظرها، اذ يستمتعون كثيراً بمشاهدة تلك الحوادث وتلك الالواح كمن يستمتع بمشاهدة المناظر على شاشة السينما.

فما دام الامر هكذا فالجنة التي هي دار اللذة ومنزل السعادة توجد فيها لامحالة المناظر السرمدية لمحاورات الاحداث الدنيوية ومنـــاظر احداثها. كما تشــير الى ذلك الآيـة الكريمة: } على سررٍ متقابلين{ (الحجر:47).

وهكذا، فان فناء هذه الموجودات الجميلة، بعد ظهورها في آن واحد، وتعاقب بعضها بعضاً يبيّن كأنما هي آلات معمل لتشكيل المناظر السرمدية.

مثال: ان اهل المدنية يلتقطون صور الاوضاع الغريبة والجميلة ويهدونها الى ابناء المستقبل تذكاراً لهم، كما هو على شاشة السينما. فيمنحون نوعاً من البقاء لأوضاع فانية، ويدرجون الزمان الماضي ويظهرونه في الزمان الحالي وفي المستقبل.

كذلك هذه الموجودات الربيعية والدنيوية عامة، بعد قضاء حياة قصيرة، كما يدوّن صانعُها الحكيم غاياتها التي تخص عالم البقاء في ذلك العالم، كذلك يسجل الوظائف الحياتية والمعجزات السبحانية التي ادّوها في اطوار حياتها، في مناظر سرمدية، وذلك بمقتضى اسماللهالحكيم والرحيم والودود.

` الاشارة الرابعة:

[ورابعاً: مع اعلان التسبيحات الربانية واظهار المقتضيات الاسمائية].

هذه الفقرة تفيد: ان الموجودات تؤدي أنواعاً من التسبيحات الربانية في أطوار حياتها، وتظهر ما تستلزمه الاسماء الإلهية وتقتضيها من حالات.

مثلاً: يقتضي اسم الرحيم الاشفاق، ويقتضي اسم الرزاق اعطاء الرزق، ويستلزم اسم اللطيف التلطيف.. وهكذا. فكل اسم من الاسماء الالهية له مقتضى. وكل ذي حياة يبين مقتضى تلك الاسماء، بحياته ووجوده، وهو في الوقت نفسه يسبّح لله الحكيم بعدد أجهزته.

مثلاً: اذا أكل الانسان فواكه طيبة، فانها تتجزأ وتتلاشى في معدته وتهضم وتمحى ظاهراً، الاّ انها تعطى كل خلية من خلايا جسمه، لذة وذوقاً ضمن فعالية، فضلاً عن الفم والمعدة، ويكون مدار حِكَم كثيرة جداً كإنماء الحياة في اقطار الجسم وادامتها، والطعام نفسه يرقى من الوجود النباتي الى مرتبة حياة الانسان.

كذلك عندما تختفي الموجودات وراء ستار الزوال تظل بدلاً عنها تسبيحات باقية كثيرة جداً لكل موجود من الموجودات وتودع نقوش كثير من الاسماء الإلهية ومقتضياتها في يد تلك الاسماء، اي تودعها الى وجودٍ باق. وهكذا تمضي وترحل. تُرى لو بقيت ألوف من انواع الوجود ـ التي نالت نوعاً من البقاء ـ بديلاً عن ذهاب وجود موقت فانٍ، أيمكن أن يُقال: ياحسرة على ذلك الوجود الموقت! او أنه مضى الى عبث! او لِمَ رحل هذا المخلوق اللطيف؟ ! أفيمكن ان يُشتكى على هذه الصورة؟.

بل ان الرحمة والحكمة والمحبة في حق ذلك المخلوق تقتضي هكذا، بل هو هكذا. والاّ يلزم ترك ألوف المنافع للحيلولة دون حدوث ضرر واحد. وعندئذٍ تحدث ألوف الاضرار!.

بمعنى ان الاسماء الحسنى: الرحيم، الحكيم، الودود تستلزم مضي الموجودات وراء استار الزوال والفراق وتقتضيهما ولاتعارضهما.

` الاشارة الخامسة:

[وخامساً: لظهور الشؤونات السبحانية والمشاهد العلمية]

تفيد هذه الفقرة: ان الموجودات ـ ولاسيما الاحياء منها ـ بعد ارتحالها من وجودها الظاهري تترك كثيراً من الامور الباقية ثم تمضي الى شأنها.

وقد بينا في الرمز الثاني:

ان في شؤون الربوبية محبة مطلقة وشفقة مطلقة وافتخاراً مطلقاً ـ ان جاز التعبير ـ ورضى مقدساً مطلقاً وسروراً مقدساً مطلقاً ـ ان جاز التعبير ـ ولذة مقدسة مطلقة وفرحاً منزهاً مطلقاً بما يليق بذاته الجليلة المقدسة ويوافق تعاليه وتنزهه وتقدسه سبحانه، اذ تُشاهد آثار تلك الشؤون المنزهة، لان ما تقتضيه تلك الشؤون هوسوق الموجودات بسرعة في فعالية محيّرة، ضمن تبديل وتغيير وزوال وفناء، فترسل ـ الموجودات ـ باستمرار من عالم الشهادة الى عالم الغيب. فالمخلوقات ضمن تجليات تلك الشؤون الربانية في سير وسياحة دائمين، في حركة وجولان مستمرين. فهي بهذه السياحة والحركة الدائمتين تملأ آذان اهل الغفلة بنعيات الفراق والزوال، وتشنف اسماع اهل الايمان بنغمات الذكر والتسبيح.

وبناءً على هذا السرّ، فما من موجود يرحل عن الوجود الاّ ويترك في الوجود من المعاني والكيفيات والحالات ما يكون مداراً باقياً لظهور شؤون باقية لواجب الوجود سبحانه.

ثم ان ما قضاه ذلك الموجود من اطوار واحوال، يتركه عندما يرحل وجوداً مفصلاً ـ يمثل وجوده الخارجي ـ في دوائر الوجود العلمي من امثال الإمام المبين والكتاب المبين واللوح المحفوظ، تلك الدوائر التي هي عناوين العلم الازلي.

فكل فانٍ اذاً يترك وجوداً ويكسب لنفسه ولغيره ألوفاً من انواع الوجود.

مثلاً: تلقى مواد اعتيادية الى ماكنة مصنع عظيم، فتحترق تلك المواد وتمحى ظاهراً، ولكن تترسب مواد كيمياوية ثمينة وادوية مهمة في انابيق ذلك المصنع، فضلاً عن قيام قوة بخارها بتحريك دواليب ذلك المعمل مما يؤدي الى نسج الاقمشة من جهة وطبع الكتب من جهة اخرى وانتاج السكر من جهة اخرى مثلاً.

بمعنى؛ ان في احتراق تلك المواد الاعتيادية وفنائها الظاهري تجدألوف الاشياء الوجود.

بمعنى؛ يذهب وجود اعتيادي ويفنى، ولكن يورث انواعاً من وجود رفيع.

فهل يقال في مثل هذه الحالة: ياخسارة على تلك المواد الاعتيادية؟ أفيُشكى هكذا؟ أيُقال: لِمَ لم يرأف صاحب المصنع بحال تلك المواد وحرقها ومحاها؟

(ولله المثل الاعلى) ان الخالق الحكيم والرحيم والودود، يُشغل مصنع الكائنات جاعلاً من كل وجود فانٍ نواة لانواع من الوجود الباقي، ومداراً لاظهار مقاصده الربانية مظهراً به شؤونه السبحانية متخذاً اياه مداداً لقلم قدره، ومكوكاً لنسج قدرته، وذلك بمقتضى الرحمة والحكمة والودودية. فيدفع سبحانه بفعالية قدرته الكائنات لتؤدي مهامها وفعالياتها لاجل كثير مما لانعرفه من عنايات غالية ومقاصد عالية. فتسوق تلك الفعالية الموجودات كلها حتى تجعل الذرات تجول جولاناً، والموجودات تسير سيراناً، والحيوانات تسيل سيلاناً، والسيارات تدور دوراناً. فتجعل الكون يتكلم وينطق ويتلو آيات خالقه بصمت ويستكتبها.

ومن حيث الربوبية قد جعل سبحانه المخلوقات الارضية عروشاً له؛ اذ جعل الهواء نوعاً من عرش لأمره وارادته، وعنصر النور عرشاً آخر لعلمه وحكمته، والماء عرشاً آخر لاحسانه ورحمته، والتراب نوعاً من عرش لحفظه وإحيائه. ويسيّر ثلاثة من تلك العروش فوق المخلوقات الارضية.

فاعلم علماً قاطعاً! ان الحقيقة السامية التي بينت في هذه الرموز الخمسة والاشارات الخمس انما تشاهد بنور القرآن ولاتمتلك الاّ بقوة الايمان، والاّ ستعم ظلمات مرعبة بدلاً من تلك الحقيقة الباقية، وتمتلىء الدنيا لاهل الضلالة بألوان الفراق واصناف الزوال وتطفح بانواع العدم ويصبح الكون بالنسبة له جحيماً معنوياً لايطاق، اذ يحيط بوجود آني بالنسبة له ما لايحدمن العدم كلَّ شئ ، فالماضي والمستقبل جميعاً مملوءان بظلمات العدم. فلايجد الضال الاّ نوراً كئيباً حزيناً في حاله الحاضرة وهي زمان قصير جداً.

ولكن ما ان يأتي سر القرآن ونور الايمان اذا بنور وجود يشاهد من الأزل الى الابد فيتعلق به ويحقق به سعادته الابدية.



خلاصة الكلام:

نقول كما قال (نيازي المصري)(1):

(( لو كان النفَس بحراً زاخراً

وتقطع هذا الصدر إرباً إرباً

اناجي الى ان يبح هذا الصوت))

واقول:

ياحق ياموجود ياحي يامعبود

ياحكيم يامقصود يارحيم ياودود

واقول صارخاً:

لاإله الاّ الله الملك الحق المبين محمد رسول الله صادق الوعد الامين.

واعتقد جازماً واثبت:

ان البعث بعد الموت حقٌ والجنة حَقٌ والنار حَقٌ.. وان السعادة الأبدية حقٌ وان الله رحيم حكيم ودود. وان الرحمة والحكمة والمحبة محيطة بجميع الاشياء وشؤونها.

} وقالوا الحمد لله الذي هدينا لهذا وما كنا لنهتدي لولا ان هدينا الله لقد جاءت رُسُلُ ربنا بالحق{ .

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيمِ{

} ربنا لاتؤاخذنا إن نسينا او أخطأنا{

اللهم صَلّ على سيدنا محمد صلاة تكون لك رضاءً ولحقّه اداءً وعلى آله وصحبه وسلم.



آمين.والحمد لله رب العالمين

سبحان من جعل حديقة ارضه مشهر صنعته.. مَحشر خلقتِهِ.. مظهر قدرتهِ.. مدار حكمته.. مَزهرَ رحمته.. مزرع جنتهِ.. ممرّ المخلوقات.. مسيل الموجودات.. مكيل المصنوعات.

فمزيّنُ الحيوانات، منقّشُ الطيورات..مُثمّرُ الشجرات، مُزَهّرُ النباتات..

معجزاتُ علمه.. خوارقُ صُنعه.. هدايا جُوده.. براهين لطفه..

دلائلُ الوحدة.. لطائف الحكمة.. شواهد الرحمة.

تبسُّم الازهار، من زينة الاثمار،

تسجّعُ الاطيار، في نسمة الاسحار،

تهزّجُ الامطار، على خدود الازهار ،

تزيّنُ الازهار، تبرّجُ الاثمار.. في هذه الجِنان،

ترحّمُ الوالدات على الاطفال الصغار في كل الحيوانات والانسان:

تعرُّفُ ودودٍ

توَدُّدُ رحمن

ترحُّمُ حنّانٍ

تحنــَّنِ مـَنـّانٍ.. للجنِ والانسان، والروح والحيوان والملَكِ والجَان.

الذيل الأول

} قُلْ مَا يَعْبَؤا بِكُمْ رَبّي لوْلا دُعَآؤُكْم{ (الفرفان: 77)

` النكتة الاولى:

اعلم ان الدعاء سر عظيم للعبادة، بل هو مخ العبادة وروحها، والدعاء ـ مثلما ذكرناه في مواضع اخرى كثيرة ـ على انواع ثلاثة.

l النوع الاول من الدعاء:

هو دعاء بلسان الاستعداد والقابلية المودعة في الشئ. فالحبوب والنويات جميعها تسأل فاطرها الحكيم بلسان استعدادها وقابلياتها المودعة فيها قائلة: اللّهم يا خالقنا هئ لنا نمواً نتمكن به من ابراز بدائع اسمائك الحسنى، فنعرضها امام الانظار.. فحوّل اللّهم حقيقتنا الصغيرة الى حقيقة عظيمة.. تلك هي حقيقة الشجرة والسنبل.

وثمة دعاء من هذا النوع ـ اي بلسان الاستعداد ـ هو اجتماع الاسباب. فاجتماع الاسباب دعاء لايجاد المسبب، اي ان الاسباب تتخذ وضعاً معيناً وحالة خاصة بحيث تكون كلسان حال يطلب المسبب من القدير ذي الجلال، فالبذور ــ مثلا ــ تسأل بارءها القدير ان تكون شجرة، وذلك بلسان استعدادها فيتخذ كلٌ من الماء والحرارة والتراب والضوء حالة معينة حول البذرة حتى تكون تلك الحالة كأنها لسان ينطق بالدعاء قائلاً : اللّهم يا خالقنا اجعل هذه البذرة شجرة.

نعم، ان الشجرة التي هي معجزة قدرة الهية خارقة لا يمكن بحال من الاحوال ان يُفوض امرها ويسند خلقها الى تلك المواد البسيطة الجامدة الفاقدة للشعور، بل محال احالتها الى تلك الاسباب.. فاجتماع الاسباب اذاً انما هو نوع من الدعاء.

l النوع الثاني من الدعاء:

هو الدعاء الذي يُسأل بلسان حاجة الفطرة، فالكائنات الحية جميعها تطلب مطاليبها وتسأل حاجاتها ـ الخارجة عن طوقها واختيارها ـ من خالقها الرحيم وتُستجاب لها مطاليبها وحاجاتها في انسب وقت ومن حيث لا تحتسب، اذ ان ايديها قاصرة عن ان تصل الى ما تريد أو دفع حاجة لها، فارسال كل ما تطلبه اذن مما هو خارج عن طوقها واختيارها وفي انسب وقت ومن حيث لا تحتسب انما هو من قبل حكيم رحيم. واغداق هذا الاحسان والانعام ما هو الا استجابة لدعاء فطري.

نحصل من هذا: ان هذا النوع من الدعاء الفطري تنطلق به ألسنة حاجة الفطرة لجميع الكائنات فتسأل الخالق القدير مطاليبها، والتي هي من قبيل الاسباب تسأل القدير العليم المسببات.

l النوع الثالث من الدعاء:

هو الدعاء الذي يسأله ذوو الشعور لتلبية حاجاتهم. وهذا الدعاء نوعان ايضاً:

فالقسم الاول: مستجاب على الاغلب ان كان قد بلغ درجة الاضطرار، أو كان ذا علاقة قوية مع حاجة الفطرة وموافقة معها، أو كان قريباً من لسان الاستعداد والقابلية، أو كان خالصاً صافياً نابعاً من صميم القلب.

ان ما احرزه الانسان من رقي، وما نال من كشوفات ما هو الا نتيجة هذا النوع من الدعاء، اذ ما يطلقون عليه من خوارق الحضارة والامور التي يحسبونها مدار افتخار اكتشافاتهم ما هو الا ثمرة هذا الدعاء المعنوي الذي سألته البشرية بلسان استعداد خالص فأستجيب لها. فما من دعاء يُسأل بلسان الاستعداد وبلسان حاجة الفطرة الا استجيب ان لم يكن هناك مانع، وكان ضمن شرائطه المعينة.

أما القسم الثاني: فهو الدعاء المعروف لدينا. وهذا ايضاً فرعان:

احدهما فعلي والآخر قولي.

فمثلاً: حرث الارض نوع من دعاء فعلي، يطلب الانسان الرزق من رزاقه الحكيم، يطلبه منه لا من التراب، فالتراب باب لخزينة رحمته الواسعة ليس الا، يطرقه الانسان بالمحراث.

سنطوى تفاصيل الاقسام الاخرى ونذكر بضعة اسرار للدعاء "القولي" وذلك في بضع نكات آتية:

` النكتة الثانية

اعلم ان تأثير الدعاء عظيم، ولا سيما اذا دام واكتسب الكلية، فهذا الدعاء يثمر على الاغلب ويستجاب دائماً. حتى يصح ان يقال: ان سبب خلق العالم انما هو دعاء، حيث ان الدعاء العظيم للرسول الاعظم e وهو يتقدم العالم الاسلامي الذي يدعو الدعاء نفسه، وهم يتقدمون البشرية جمعاء التي تسأل الدعاء نفسه.. ذلك الدعاء هو: السعادة الابدية، وهو سبب من اسباب خلق العالم. اي أن رب العالمين قد علم بعلمه الازلي ان ذلك الرسول الكريم e سيسأله السعادة الابدية والحظوة بتجل من تجليات اسمائه الحسنى، سيسأله باسم البشرية قاطبة بل باسم الموجودات.. فاستجاب سبحانه وتعالى لذلك الدعاء العظيم فخلق هذا العالم.

فما دام الدعاء قد اكتسب هذه الاهمية العظيمة والسعة الشاملة فهل يمكن ألا يستجاب؟ وهل يمكن لدعاء يلهج به مئات الملايين من البشر ـ في الاقل ـ ومنذ الف وثلاث مائة سنة، يدعونه متفقين، في كل حين، بل يدعو معهم كل الطيبين من الجن والملك والروحانيات ممن لا يحصون ولا يعدون.. هل يمكن الا يستجاب هذا الدعاء الذي يدعونه للرسول الكريم e لينال الرحمة الإلهية العظيمة والسعادة الخالدة.

فما دام قد اكتسب هذا الدعاءُ الكليةَ والسعة والدوام الى هذا الحد حتى بلغ درجة لسان الاستعداد وحاجة الفطرة، فلابد ان ذلك الرسول الكريم محمد بن عبد الله e قد اعتلى نتيجة الدعاء ــ مرتبة رفيعة عالية بحيث لو اجتمعت العقول جميعاً للاحاطة بحقيقة تلك المرتبة لعجزت عجزاً تاماً.

فبشراك ايها المسلم! ان لك شفيعاً كريماً في يوم الحشر الاعظم، هو هذا الرسول الحبيب e ... فاسع لنيل شفاعته باتباع سنته المطهرة.

فان قلت: ما حاجة الرسول الكريم e وهو حبيب رب العالمين الى هذه الكثرة من الدعاء والصلوات عليه؟

الجواب: انه e ذو علاقة قوية مع سعادة امته قاطبة، فله حصته مما يناله كل فرد من افراد امته من انواع السعادة، وهو يحزن ايضاً ويتألم لكل مصيبة تصيبهم.

فعلى الرغم من ان مراتب الكمال والسعادة بحقه لا حد لها، فان الذي يرغب رغبة شديدة في ان تنال افراد امته الذين لا يحدون انواعاً لا تحد من السعادة وفي أزمان لا تحد، ويتألم بأنواع لا حد لها من شقائهم ومصائبهم، لابد أنه محتاج وحري به صلوات لا حد لها وأدعية لا حد لها ورحمة لا حد لها.

فان قلت: يُدعى أحياناً بدعاء خالص لأمورتقع قطعاً كالدعاء في صلاة الكسوف والخسوف، وقد يدعى احياناً لامور لا يمكن وقوعها..

الجواب: لقد اوضحنا في كلمات اخرى: ان الدعاء نوع من العبادة، حيث يعلن الانسان عجزه وفقره بالدعاء. أما المقاصد الظاهرية فهي اوقات تلك الادعية والعبادة الدعائية، وهي ليست نتائج الادعية وفوائدها الحقيقية، لان فائدة العبادة وثمرتها متوجهة الى الآخرة، اي يجنيها الداعي في الآخرة، لذا لو لم تحصل المقاصد الدنيوية التي يتضمنها الدعاء فلا يجوز القول: ان الدعاء لم يستجب، وانما يصح القول: انه لم ينقض بعد وقت الدعاء.

فهل يمكن يا ترى ألاّ يستجاب دعاء للسعادة الخالدة، يسألها جميع اهل الايمان في جميع الازمنة، يسألونه بالحاح وخلوص نية وباستمرار. فهل يمكن الا يقبل الرحيم المطلق والكريم المطلق ــ التي تشهد الكائنات لسعة رحمته وشمول كرمه ــ هذا الدعاء، وهل يمكن الا تتحقق تلك السعادة الابدية!؟ كلا ثم كلا..

` النكتة الثالثة:

ان استجابة ((الدعاء القولي الاختياري)) تكون بجهتين: فاما أن يستجاب الدعاء بعينه أو بما هو افضل منه وأولى.

فمثلاً: يدعو احدهم ان يرزقه الله مولوداً ذكراً، فيرزقه الله تعالى مولودة كمريم عليها السلام، فلا يقال عندئذ: ان دعاءه لم يستجب، بل قد استجيب بما هو افضل من دعائه.

ثم ان الانسان قد يدعو لنيل سعادة دنيوية، فيستجيب الله له لسعادة اخروية فلا يقال: ان دعاءه لم يستجب، بل قد استجيب بما هو انفع له... وهكذا.

فنحن اذن ندعوه سبحانه ونسأل منه وحده، وهو يستجيب لنا، الا أنه يتعامل معنا على وفق حكمته لانه حكيم عليم.. فينبغي للمريض الاّ يتهم حكمة الطبيب الذي يعالجه، اذ ربما يطلب منه ان يداويه بالعسل، فلا يعطيه الطبيب ــ لعلمه انه مصاب بالحمى ـ الا دواء مراً علقماً!. فلا يحق للمريض ان يقول: ان الطبيب لا يستجيب لدعائي، بل قد استمع لاناته وصراخه، واجابه فعلاً، وبأفضل منه.

` النكتة الرابعة:

ان اطيب ثمرة حاضرة يجنيها المرء من الدعاء وألذّها، وان اجمل نتيجة آنية يحصل عليها المرء من الدعاء وألطفها هي الآتي:

ان الداعي يعلم يقيناً ان هناك من يسمعه، ويترحم عليه ويسعفه بدوائه، وقدرته تصل الى كل شئ. وعندها يستشعر في نفسه انه ليس وحيداً فريداً في هذه الدنيا الواسعة بل هناك كريم ينظر اليه بنظر الكرم والرحمة، فيدخل الانس الى قلب الداعي، ويتصور انه في كنف الرحيم المقتدر على قضاء حاجاته غير المحدودة ودفع اعدائه غير المعدودة. وفي حضور دائم امامه، فيغمره الفرح والانشراح، ويشعر انه قد القى عن كاهله عبئاً ثقيلاً، فيحمد الله قائلاً: الحمد لله رب العالمين.

` النكتة الخامسة:

ان الدعاء روح العبادة ومخها، وهو نتيجة ايمان خالص، لأن الداعي يُظهر بدعائه أن الذي يهيمن على العالم كله ويطّلع على أخفى أموري ويحيط بكل شئ علماً هو القادر على اغاثتي واسعاف أبعد مقاصدي وهو البصير بجميع احوالي والسميع لندائي، لذا فلا اطلب الا منه وحده فهو يسمع اصوات الموجودات كلها، ولابد انه يسمع صوتي وندائي ايضاً.. وهو الذي يدير الامور كلها فلا انتظر تدبير ادق اموري الا منه وحده.

وهكذا فيا ايها المسلم! تأمل في سعة التوحيد الخالص الذي يهبه الدعاء للمرء، وانظر مدى ما يظهره الدعاء من حلاوة خالصة لنور الايمان وصفائه، وافهم منه حكمة قوله تعالى: } قل ما يعبؤا بكم ربي لولا دعاؤكم{ (الفرقان: 77) واستمع الى قوله تعالى } وقال ربكم ادعوني استجب لكم{ (غافر:60).. وانه لحق ما قيل: (اَكر نه خواهي داد نه دادى خواه) اي لو لم يرد القضاء ما ألهم الدعاء.

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ مَا عَلّمْتَنَا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيمُ{

اللهم صلّ على سيدنا محمد من الازل الى الابد عدد ما في علم الله وعلى آله وصحبه وسلم. سلّمنا وسلّم ديننا آمين والحمد لله رب العالمين

الذيل الثاني

(( يخص المعراج النبوي))

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ{

بِسْم الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} ولقد رآه نزلةً أخرى ^ عند سدرة المنتهى ^ عندها جنة المأوى ^
اذ يغشى السدرة ما يغشى ^ ما زاغ البصر وما طغى ^ لقد رأى من آيات ربّه الكبرى{ (النجم:13ـ 18).

سنبين خمس نكات تدور حول قسم المعراج من قصيدة المولد النبوي.

النكتة الاولى: ان السيد سليمان أفندي(1) الذي كتب قصيدة حول المولد النبوي الشريف، يبين فيها أحداث عشق حزين حول البراق الذي جئ به من الجنة. ولأنه من الأولياء الصالحين ويستند في قصيدته الى روايات في السيرة، لاشك انه يعبّر بتلك الصورة عن حقيقة معينة. والحقيقة هي الآتية:

ان لمخلوقات عالم البقاء علاقة قوية بنور رسول الله e ، اذ بالنور الذي أتى به ستعمّر الجنة ودار الآخرة بالجن والانس، ولولاه لما كانت تلك السعادة الابدية، ولما عمرت الجن والانس الجنة، ولاتنعّموا بجميع انواع مخلوقات الجنة، اي لولاه لبقيت الجنة خاوية وخالية من سكنتها.

ولقد ذكرنا في الغصن الرابع من الكلمة الرابعة والعشرين:

لقد انتخب من كل نوع من الانواع بلبلاً، خطيباً، يعبّر عن طائفته، وفي مقدمة اولئك الخطباء، البلبل العاشق للورد، الذي يعلن عن حاجات طائفة الحيوانات البالغة حدّ العشق، ازاء قافلة النباتات الآتية من خزينة الرحمة الإلهية والحاملة لأرزاق الحيوانات.. تعلنها هذه البلابل بنغماتها الرقيقة على رؤوس اجمل النباتات تعبيراً عن حسن الاستقبال المفعم بالتسبيح والتهليل.

فالرسول الكريم محمد الامين e الذي هو سبب خلق الافلاك، ووسيلة سعادة الدارين، وحبيب رب العالمين، فكما كان سيدنا جبريل عليه السلام ممثلاً عن نوع الملائكة، في طاعته وخدمته بكمال المحبة مبيناً سر سجود الملائكة وانقيادهم لسيدنا آدم عليه السلام.. فأهل الجنة كذلك، بل حتى حيواناتها لها علاقات بذلك الرسول الكريم e . وقد عبّر السيد سليمان افندي عن هذه الحقيقة بمشاعر الحب والعشق التي اطلقها البراق الذي ركبه الرسول e .

النكتة الثانية: ان أحد أحداث قصيدة المعراج النبوي هو ان السيد سليمان قد عبّر عن المحبة النزيهة لله سبحانه وتعالى تجاه الرسول الكريم e بجملة: ((قد عشقتك)).

فهذه التعابير بمعانيها العرفية لاتليق بقدسيته وتعاليه سبحانه، ولكن لأن السيد سليمان افندي من اهل الولاية واهل الحقيقة، حيث ان قصيدته هذه لقيت القبول والرضى لدى عامة المسلمين، فلاشك ان المعنى الذي أظهره صحيح، وهو هذا:

ان لله سبحانه وتعالى جمالاً وكمالاً مطلقين، وان جميع انواع الجمال والكمال المنقسمة على الكائنات جميعها، هي امارات على جماله وكماله واشارات اليهما وعلامات عليهما.

وحيث ان كل صاحب جمال وكمال، يحب جماله وكماله بالبداهة، فالله سبحانه وتعالى يحب جماله بحبٍ يليق بذاته الجليلة. وانه يحب ايضاً أسماءه التي هي شعاعات جماله جلّ وعلا.

واذ انه يحب أسماءه، فانه يحب إذن صنعته التي تظهر جمال أسمائه.

ويحب اذن مصنوعاته التي هي مرايا لجماله وكماله.

واذ إنه يحب ما يبيّن جماله وكماله، فانه يحب محاسن مخلوقاته التي تشير الى جمال اسمائه وكمالها.

ويشير القرآن الحكيم في آياتها الى هذه الانواع الخمسة من المحبة.

وهكذا فالرسول الكريم e الذي هو اكمل فرد في مصنوعات الله، وابرز شخصية في مخلوقاته.. وهو الذي يقدّر ويعلن عن الصنعة الإلهية بذكرٍ جذاب وتسبيح وتهليل.. وهو الذي فتح بلسان القرآن خزائن جمال الاسماء الحسنى وكمالها.. وهو الذي يبيّن بياناً ساطعاً ـ بلسان القرآن ـ الآيات الكونية الدالة على كمال صانعها.. وهو الذي أدّى وظيفة المرآة للربوبية الإلهية بعبوديته الكلية، حتى حظي بأتم تجليات الاسماء الحسنى كلها، بجامعية ماهيته.

فلاجل ما سبق يصح ان يقال:

ان الجميل ذا الجلال لمحبته جماله يحب محمداً e الذي هو اكمل مرآة ذات شعور لذلك الجمال.

وانه سبحانه لمحبته اسماءه يحب محمداً e الذي هو أجلى مرآة تعكس تلك الاسماء الحسنى. ويحب من يتشبهون بمحمد e ايضاً، كل حسب درجته.

وانه سبحانه لمحبته صنعته يحب محمداً e الذي أعلن عن تلك الصنعة في ارجاء الكون برمته حتى جعله في نشوة وشوق يرن به سمع السماوات ويثير به البر والبحر شوقاً اليه.. ويحب ايضاً من يتبعونه.

وانه سبحانه لمحبته مصنوعاته يحب محمداً e ، اذ هو افضل الناس طراً الذين هم اكمل ذوي الشعور، الذين هم اكمل ذوي الحياة، الذين هم اكمل مصنوعاته سبحانه.

وانه سبحانه لحبه اخلاق مخلوقاته يحب محمداً e ، اذ هو في ذروة الاخلاق الحميدة، كما اتفق عليها الاولياء والاعداء، ويحب كذلك من يتشبهون به في الاخلاق، كل حسب درجته.

بمعنى ان محبة الله قد احاطت بالكون كما احاطت به رحمته، ولهذا فان أعلى مقام في الوجوه الخمسة المذكورة ضمن المحبوبين الذين لاحصر لهم هو مقام خصّ بمحمد e ، ولأجله منح اسم ((حبيب الله)).

ولقد عبّر سليمان افندي عن هذا المقام الرفيع، مقام المحبوبية، بقوله: ((قد عشقتك)) علماً ان هذا التعبير، مرصاد للتفكر ليس الاّ، واشارة الى هذه الحقيقة من بعيد. ومع ذلك فان هذا التعبير لكونه يوهم للخيال معنى لايليق بشأن الربوبية الجليلة، فمن الاولى القول: ((قد رضيت عنك)).

النكتة الثالثة: ان المحاورات الجارية في قصيدة المعراج عاجزة عن التعبير عن تلك الحقائق المقدسة بالمعاني المعروفة لدينا، بل ان تلك المحاورات عناوين تأمل وملاحظة، ومراصد تفكر ليس الاّ، واشارات الى الحقائق السامية العميقة، وتنبيهات الى قسم من حقائق الايمان وكنايات عن بعض المعاني التي لايمكن التعبير عنها.

والاّ، فليست تلك محاورات واحداث كالمحاورات الجارية في القصص كي تكون بالمعاني المعروفة لدينا. اذ نحن لانستطيع ان نستلهم بخيالنا تلك الحقائق، من تلك المحاورات، بل يمكننا ان نستلهم منها بقلوبنا ذوقاً ايمانياً مثيراً، ونشوة روحانية نورانية، لأن الله سبحانه كما لانظير ولاشبيه ولامثيل له في ذاته وصفاته كذلك لامثيل له في شؤون ربوبيته، وكما لاتشبه صفاته تعالى صفات مخلوقاته، كذلك لاتشبه محبته محبة مخلوقاته.

فهذه التعابير الواردة في قصيدة المعراج تعدّ من التعابير المتشابهة. ولهذا نقول:

ان للّه سبحانه شؤوناً ـ كمحبته تعالى ـ تلائم وجوب وجوده وقدسيته، وتناسب غناه الذاتي وكماله المطلق. اي ان القصيدة المذكورة تنبه الى تلك الشؤون بأحداث المعراج.

ولقد اوضحت (( الكلمة الحادية والثلاثون)) الخاصة بالمعراج النبوي، حقائق المعراج ضمن اصول الايمان. لذا نختصر هنا مكتفين بذاك.

النكتة الرابعة:

سؤال: ان عبارة: (( انه e قد رأى ربه وراء سبعين ألف حجاب))(1) تعبّر عن بُعد المكان، والحال ان الله سبحانه منزّه عن المكان، فهو أقرب الى كل شئ من اي شئ كان. فما المراد اذاً من هذه العبارة؟!.

الجواب: لقد وُضّحت تلك الحقيقة في ((الكلمة الحادية والثلاثين)) وبُيّنت بياناً شافياً مفصلاً مدعماً بالبراهين، الاّ اننا نقول هنا:

انا الله سبحانه قريب الينا غاية القرب، ونحن بعيدون عنه غاية البعد.

مثال: ان الشمس قريبة منا بوساطة المرآة التي في ايدينا. بل كل ما هو شفاف يكون نوعاً من عرشٍ للشمس ومنزل لها. فلو ان للشمس شعوراً، لكانت تحاورنا بما في ايدينا من المرآة. ولكننا بعيدون عنها اربعة آلاف سنة.

وهكذا فشمس الازل (بلا تشبيه ولاتمثيل) (ولله المثل الاعلى) اقرب الى كل شئ من اي شئ كان، لانه واجب الوجود، ومنزّه عن المكان، ولايحجبه شئ، بينما كل شئ بعيد عنه بعداً مطلقاً.

ومن هذا تفهم: سر المسافة الطويلة جداً في المعراج مع عدم وجود المسافة التي تعبر عنها الآية الكريمة: } ونحن أقرب اليه من حبل الوريد{ (ق:16).

وكذا ينبع من هذا السر: ذهاب الرسولe وطيّه المسافات الطويلة جداً ومجيئه في آن واحد الى موضعه.

فمعراج الرسول ص هو؛ سيره وسلوكه، وهو عنوان ولايته، اذ كما يعرج الاولياء الى درجة حق اليقين من درجات الايمان رقياً معنوياً بالسير والسلوك الروحاني بدءاً من اربعين يوماً الى اربعين سنة، كذلك الرسول e وهو سلطان جميع الاولياء وسيدهم عرج بجسمه وحواسه ولطائفه جميعاً لابقلبه وروحه وحدهما فاتحاً صراطاً سوياً وجادة كبرى حتى بلغ أعلى مراتب حقائق الايمان واسماها بالمعراج الذي هو كرامة ولايته الكبرى في اربعين دقيقة بدلاً من اربعين سنة، ورقي الى العرش بسلّم المعراج وشاهد ببصره بعين اليقين ـ في مقام قاب قوسين او ادنى ـ اعظم حقائق الايمان، وهو الايمان بالله، والايمان باليوم الآخر، ودخل الجنة وشاهد السعادة الابدية وفتح باب الجادة الكبرى وتركه مفتوحاً ليمضي جميع اولياء امته بالسير والسلوك الروحاني اي بسير روحاني وقلبي في ظل ذلك المعراج كل حسب درجته.



النكتة الخامسة:

ان قراءة المولد النبوي وقصيدة المعراج عادة اسلامية مستحسنة، ونافعة جداً، بل هي مدار مجالسة ومؤانسة لطيفة في الحياة الاجتماعية الاسلامية. وهي درس في غاية اللذة والطيب للتذكير بالحقائق الايمانية. وهي اقوى وسيلة مؤثرة ومهيجة؛ لإظهار أنوار الايمان، وتحريك محبة الله، وعشق الرسول e .

نسأل الله ان يديم هذه العادة الى الابد، ويرحم كاتبها السيد سليمان افندي وامثاله من الكتّاب، ويجعل جنة الفردوس مثواهم.. آمين.

خاتمة

لما كان خالق هذا الكون، يخلق من كل نوع فرداً ممتازاً كاملاً جامعاً، ويجعله مناط فخر وكمال ذلك النوع، فلاشك انه يخلق فرداً ممتازاً وكاملاً ـ بالنسبة للكائنات قاطبة ـ وذلك بتجلي الاسم الاعظم من اسمائه الحسنى. وسيكون في مصنوعاته فرداً أكمل كالاسم الاعظم في اسمائه. فيجمع كمالاته المنتشرة في الكائنات في ذلك الفرد الاكمل، ويجعله محط نظره.

ولاريب ان ذلك الفرد سيكون من ذوي الحياة، لان أكمل انواع الكائنات هم ذوو الحياة، ويكون من ذوي الشعور، لان أكمل انواع ذوي الحياة هم ذوو الشعور، وسيكون ذلك الفرد الفريد من الانسان، لان الانسان هو المؤهل لما لا يحد من الرقي. وسيكون ذلك الفرد حتماً محمداً الامين e ، لأنه لم يظهر أحد في التأريخ كله مثله منذ زمن آدم عليه السلام والى الآن، ولن يظهر. لان ذلك النبي الكريم e قد ضم نصف الكرة الارضية وخمس البشرية ضمن سلطانه المعنوي وحاكميته التي دامت ألفاً وثلاثمائة وخمسين عاماً بكمال هيبتها وعظمتها. واصبح استاذاً لجميع اهل الكمال في جميع انواع الحقائق، ونال أرقى المراتب في السجايا الحميدة باتفاق الاصدقاء والاعداء، وتحدى العالم اجمع وحده ـ في اول أمره ـ وأظهر القرآن الكريم الذي يتلوه اكثر من مائة مليون من الناس في كل دقيقة..

فلابد ان نبياً كريماً كهذا النبي e هو ذلك الفرد الفريد لا احد غيره ابداً. فهو نواة هذا العالم وثمرته. عليه وعلى آله واصحابه الصلاة والسلام بعدد انواع الكائنات وموجوداتها.

واعلم ان الاستماع الى المولود النبوي ومعراجه e اي الاستماع الى مبدأ رقيه ومنتهاه. اي معرفة تأريخ حياته المعنوية.. لذيذ، ونوراني، ومبعث فخر لأمته واعتزاز لهم، ومسامرة علوية رفيعة للمؤمنين الذين اتخذوه رئيساً وسيداً وإماماً وشفيعاً لهم.

يارب

بحرمة الحبيب الاكرم عليه الصلاة والسلام، وبحق الاسم الاعظم..

اجعل قلوب ناشري هذه الرسالة ورفقائهم مظهراً لأنوار الايمان.

واجعل أقلامهم ناشرةً لأسرار القرآن واهدهم الى سواء السبيل.

آمين

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{

الباقي هو الباقي

سعيد النورسي

المكتوب الخامس والعشرون

لم يؤلف
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-03-2011
  #32
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 15
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: المكتوبات

المكتوب السادس والعشرون



هذا المكتوب السادس والعشرون عبارة عن اربعة مباحث ذات العلاقة البسيطة.



المبحث الاول

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{

بِسْمِ اِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} وإما يَنْزَغنّك من الشيطانِ نَزغٌ فاستَعِذ بالله إنه هو السميعُ العليمُ{

(فصلت:36)

حجة القرآن على الشيطان وحزبه

ان هذا المبحث الاول الذي يُلزم ابليس ويفحم الشيطان ويسكت اهل الطغيان، نتيجة حادثة وقعت فعلاً، ردّاً على دسيسة شيطانية رهيبة، ساقها ضمن محاكمة عقلية حيادية. وقد كتبت تلك الحادثة قبل عشر سنوات كتابة مجملة في كتاب ((اللوامع)) واذكرها الآن:

قبل تأليف هذه الرسالة باحدى عشرة سنة كنت انصت يوماً الى القرآن الكريم من حفاظ كرام في جامع بايزيد باستانبول، وذلك في ايام شهر رمضان المبارك، واذا بي أسمع كأن صوتاً معنوياً، صرف ذهني اليه، دون ان ارى شخصه بالذات، فأعرتُ له السمع خيالاً، ووجدته يقول:

- انك ترى القرآن سامياً جداً ولامعاً جداً، فهلاّ نظرت اليه نظرة حيادية، ووازنته بميزان محاكمة عقلية حيادية. اعنى: افرض القرآن قول بشر، ثم انظر اليه بعد هذا الفرض هل تجد فيه تلك المزايا والمحاسن؟!

اغتررت به - في الحقيقة - فافترضت القرآن قول بشر، ونظرت اليه من تلك الزاوية، واذا بي ارى نفسي في ظلام دامس. فقد انطفأت اضواء القرآن الساطعة، وعمّ الظلام الارجاء كما يعم الجامع كله اذا مس احدهم مفتاح الكهرباء.

فعلمت عندها ان المتكلم معي هو شيطان يريد ان يوقعني في هاوية. فاستعصمت بالقرآن الكريم نفسه، واذا بنور يقذفه ا سبحانه في قلبي، أجد نفسي به، قوياً قادراً على الدفاع. وحينها بدأت المناظرة مع الشيطان على النحو الآتي:

قلت: ايها الشيطان! ان المحاكمة الحيادية، دون انحياز الى احد الطرفين، هي التزام موضع وسط بينهما، بيد أن المحاكمة الحيادية التي تدعو اليها - انت وتلاميذك من الانس - انما هي اِلتزام الطرف المخالف. فهي ليست حيادية، بل خروج عن الدين مؤقتاً، ذلك لأن النظر الى القرآن انه كلام بشر واجراء محاكمة عقلية في ضوء هذا الفرض ما هو إلاّ اتخاذ الطرف المخالف اساساً، والتزام للباطل اصلاً. وليس أمراً حيادياً، بل هو انحياز للباطل وموالاة له.

فقال الشيطان: افرضه كلاماً وسطاً، لا تقل انه كلام ا، ولا كلام بشر.

قلت:

- وهذا ايضاً لا يمكن ان يكون قطعاً. لأنه اذا وجد مالٌ منازع فيه، وكان المدعيان متقاربين اي قريبين بعضهما من بعض مكاناً، حينئذٍ يوضع ذلك المال لدى شخص غيرهما. او في مكان تناله ايديهما. فايّما الطرفين اقام الحجة على الآخر، واثبت دعواه، أخذ المال. ولكن لو كان المدعيان متباعدين، احدهما عن الآخر، غاية البعد، كأن يكون احدهما في المشرق والآخر في المغرب، عندئذٍ يترك المال لدى "ذي اليد" منهما، حسب القاعدة المعروفة. ذلك لأنه لا يمكن ترك المال في موضع وسط بينهما.

وهكذا فالقرآن الكريم، متاع ثمين وبضاعة سامية ومال رفيع لله والبعد بين الطرفين، بعدٌ مطلق لا يحده حد، اذ هو البعد ما بين كلام رب العالمين وكلام بشر. ولهذا لا يمكن وضع المال وسط الطرفين، اذ لا وسط بينهما اطلاقاً. لانهما كالوجود والعدم، فلا وسط بينهما. لذا فان صاحب اليد للقرآن هو الطرف الإلهي. ولهذا ينبغي ان يقبل الأمر هكذا وسَوق الادلة في ضوئها اي انه بيده سبحانه. الاّ اذا استطاع الطرف الآخر دحض جميع البراهين المشيرة الى انه كلام الله، وتفنيدها الواحد تلو الآخر، عندئذٍ يمكنه ان يمدّ يده اليه، والاّ فلا.

هيهات! من ذا يستطيع ان يزحزح تلك الدرة الغالية المثبتة بالعرش الاعظم بآلاف من مثبتات البراهين الدامغة، وانّى لأحد الجرأة على هدم دلائل الاعمدة القائمة، ليسقط تلك الدرّة النفيسة من العرش السامي.

فيا ايها الشيطان! ان اهل الحق والانصاف يحاكمون الامور محاكمة عقلية سليمة على هذه الصورة رغم انفك. بل يزدادون ايماناً بالقرآن باصغر دليل.

أما الطريق الذي تدل عليه انت وتلاميذك، اي لو افترض القرآن كلام بشر، ولو لمرة واحدة، أي لو اسقطت تلك الدرة العظيمة الثابتة بالعرش، الى الارض، فيلزم وجود برهان قوي وعظيم يعلو جميع البراهين ويتسع لجميع الدلائل، كي يقوى على الارتفاع بها من الارض ويثبتها في العرش المعنوي، وبذلك وحده ينجو من ظلمات الكفر واوهامه ويبلغ نور الايمان ويدركه، وهذا أمر عسير قلّما يوفق المرء اليه في هذا الزمان، ومن هنا يفقد الكثيرون في هذا الزمان ايمانهم بدسيستك الملفعة باسم المحاكمة العقلية الحيادية.

انبرى الشيطان قائلاً:

- ان سياق الكلام في القرآن شبيه بكلام البشر، فهو يجري محاوراته في اسلوب محاورة البشر، فاذاً هو كلام بشر! اذ لو كان كلام الله، لكان خارقاً للعادة في كل جهاته، بما يليق بالله، ولا يشبه كلام البشر، مثلما لا تشبه صنعة الله صنعة بشر!

فقلت جواباً:

- ان رسولنا الاعظم e ظل في طور بشريته في افعاله واحواله واطواره كلها - فيما سوى معجزاته وخصائصه - فانقاد انقياد طاعة لسنن الله واوامره التكوينية، كأي انسان آخر. فكان يقاسي البرد ويعاني الالم.. وهكذا لم يوهب له خوارق غير عادية في احواله واطواره كلها، وذلك ليكون قدوة للامة بافعاله، ومرشداً لهم باطواره، وهادياً للناس كافة بحركاته وسكناته. اذ لو كان خارقاً للعادة في كل اطواره لَمَا تسنّى له ان يكون اماماً للناس كافة، وقدوة لهم في جميع شؤونه بالذات، ولَمَا كان مرشداً للناس كافة، ولما كان رحمةً للعالمين في جميع احواله.

كذلك الامر في القرآن الحكيم، اذ هو إمام أرباب الشعور ومرشد الجن والانس وهادي الكاملين ومعلم اهل الحقيقة، فالضرورة تقتضي ان يكون على نمط محاورة البشر واسلوبه، لأن الانس والجن يستلهمون مناجاتهم منه، ويتعلمون دعواتهم منه، ويذكرون مسائلهم بلسانه، ويتعرفون منه اداب معاشرتهم.. وهكذا يتخذه كل مؤمن به، إماماً له ومرجعاً يرجع اليه.

فلو كان القرآن على نمط الكلام الإلهي الذي سمعه سيدنا موسى عليه السلام في ((جبل الطور)) لما اطاق البشر سماعه ولا قَدَر على الانصات اليه، ولا استطاع ان يجعله مرجعاً لشؤونه كافة. فسيدنا موسى عليه السلام، وهو من اولي العزم من الرسل، ما استطاع ان يتحمل الاّ سماع بعضٍ من كلامه سبحانه، حيث قال: أهكذا كلامك؟ قال الله: لي قوة جميع الالسنة(1) ولكن الشيطان عاد قائلاً:

- كثير من الناس يذكرون مسائل دينية شبيهة بما في القرآن، ألا يمكن لبشر ان يأتي بشئ شبيه بالقرآن باسم الدين؟

فقلت مستلهماً من فيض القرآن الكريم.

` اولاً: ان ذا الـدين يبين الحق ويقول: الحق كذا، الحقيقة هكذا، وامر الله هذا.. يقوله بدافع حبه للدين، ولا يتكلم باسم الله حسب هواه، ولا يتجاوز طوره بما لا حدّ له، بأن يدّعي انه يتكلم باسم الله اويتكلم عنه فيقلّده في كلامه سبحانه، بل ترتعد فرائصه امام الدستور الإلهي:

} فمن أظلمُ ممن كَذبَ على الله{ (الزمر: 32).

` ثانياً: انه لا يمكن بحال من الاحوال ان يقوم بشر بهذا العمل ثم يوفّق فيه، بل هذا محال في مائة محال. لأن اشخاصاً متقاربين يمكنهم ان يقلد احدهم الأخر. وربما يمكن لمن هم من جنس واحد أو صنف واحد ان يتقمص احدهم شخصية الآخر، فيستغفلوا الناس مؤقتاً. ولكن لا يمكن ان يستغفل احدهم الناس بصورة دائمة. اذ سيظهر لأهل العلم والمعرفة مدى التصنع والتكلف في اطواره وافعاله لا محالة. ولابد أن ينكشف كذبه يوماً، فلا تدوم حيلته قط. وان كان الذي يريد التقليد بعيداً غاية البعد، كأن يكون شخصاً اعتيادياً يريد أن يقلد ابن سينا في العلم، أو راعياً يريد أن يظهر بمظهر السلطان في ملكه، فلا يتمكن ان يخدع أحداً من الناس، بل يكون موضع استهزاء وسخرية، اذ كل حال من احواله ستصرخ: ان هذا خدّاع.

وكما انه محال ظهور اليراعة (ذبابة الليل) لأهل الرصد والفلك بمظهر نجم حقيقي، طوال الف سنة، دون تكلف! وكما انه محال ظهور الذباب بمظهر الطاووس لذوي الابصار، طوال الف سنة دون تصنع! وكما انه محال تقمص جندي اعتيادي طور مشير في الجيش واعتلاء مقامه، مدة مديدة، من دون ان يكشف احد خداعه. وكما انه محال ظهور مفترٍ كاذب لا ايمان له في طور أصدق الناس واكثرهم ايماناً وارسخهم عقيدة، طوال حياته، امام انظار المتفحصين المدققين، بلا تردد ولا اضطراب، ويخفي تصنعه عن انظار الدهاة..

فكما ان هذه الامثلة محالة في مائة محال، ولا يمكن ان يصدّقها كل من يملك مسكة من عقل، بل لابد أن يحكم انها هذيان وجنون.. كذلك افتراض القرآن كلام بشرـ حاش لله الف الف مرة حاش لله ـ اذ يستلزم:

عدّ ماهية الكتاب المبين الذي هو نجم الحقيقة اللامع، بل شمس الكمالات الساطعة، تشع دوماً انوار الحقائق في سماء عالم الاسلام، كما هو مشاهد..يستلزم الفرض عدّ ذلك النور الساطع بصيصاً يحمله متصنع، يصوغه من عند نفسه بالخرافات (حاش لله الف الف مرة) والاقربون منه والمدققون لأحواله لا يميزون ذلك، بل يرونه نجماً عالياً ومنبعاً ثراً للحقائق! وما هذا الاّ محال في مائة محال. فضلاً عن ذلك فانك ايها الشيطان، ان تماديت في خبثك ودسائسك اضعاف اضعاف ما انت عليه الآن، فلن تستطيع ان تجعل هذا المحال ممكناً، ولن تقنع به عقلاً سليماً قط. ولكنك تغرر بالناس باراءتهم الامور من بعيد فتريهم النجم اللامع صغيراً كاليراعة.

` ثالثاً: ان افتراض القرآن كلام بشر يستلزم ان تكون حقائق واسرار الفرقان الحكيم ذي المزايا السامية والبيان المعجز، الجامع لكل رطب ويابس، الذي له آثار جليلة في عالم الانسانية، وتجليات باهرة وتأثيرات طيبة مباركة ونتائج قيمة - كما هو مشاهد - اذ هو الذي ينفث في البشرية الروح ويبعث فيها الحياة ويوصلها الى السعادة الخالدة.. يستلزم الفرض أن يكون هذا الفرقان الحكيم وحقائقه الجليلة من اختلاق وافتراء انسان لا علم له ولا معين، ويلزم الاّ يشاهد عليه اولئك الدهاة الفطنون القريبون منه المتفحصون لأحواله، اية علامة من علائم الخداع والتمويه بل يرون دائماً اخلاصه وثباته وجديته. وهذا محال في مائة محال فضلاً عن ان الذي اظهر في احواله واقواله وحركاته كلها طوال حياتهالامانة والايمان والامان والاخلاص والصدق والاستقامة، وارشد اليها وربّى الصديقين على تلك الصفات السامية والخصال الرفيعة.. يلزم ان يكون - بذلك الافتراض - ممن لا يوثق به، ولا اخلاص له ولا يحمل عقيدة.. وما ذلك الاّ رؤية المحال في المحال المضاعف حقيقة واقعة! وما ذلك الاّ هذيان كفري يخجل منه حتى الشيطان نفسه.. ذلك لأن المسألة لا وسط لها. اذ لو لم يكن القرآن الكريم - بفرض محال - كلام الله ، فانه يهوى ساقطاً من العرش الاعظم الى الارض. ولا يبقى في الوسط، فيكون منبع الخرافات، وهو مجمع الحقائق المحضة، وكذا فان الذي اظهر ذلك الأمر الرباني الخالد لو لم يكن رسولاً ـ حاشَ لله ثم حاش لله - يلزم - بهذا الافتراض - ان يهوى من اعلى عليين الى اسفل سافلين، ومن درجة منبع الكمالات والفضائل الى معدن الدسائس، ولا يبقى في الوسط. ذلك لأن الذي يفترى على الله ويكذب عليه يسقط الى ادنى الدركات.

ان رؤية الذباب طاووساً رؤية دائمة، ومشاهدة اوصاف الطاووس الرفيعة في ذلك الذباب كم هي محال فهذه المسألة ايضاً محال مثله، ولا يمكن ان يعطيها احتمالاً قط الاّ من كان سكيراً فاقد العقل.

` رابعاً: ان افتراض القرآن الكريم كلام بشر يلزم ان يكون القرآن الذي هو القائد المقدس والنور الهادي للامة المحمدية - الممثلة لاعظم جماعة وجيش في بنى آدم - والذي يستطيع بقوانينه الرصينة ودساتيره الراسخة واوامره النافذة ان يغزو بذلك الجيش العظيم كلا العالمين ويفتح الدنيا والآخرة، بما اعطاهم من نظام لتسيير احوالهم وتنسيق شؤونهم، وبما جهّزهم باعتدة معنوية ومادية، وعلّم عقول الافراد - كل حسب درجته - وربّى قلوبهم وسخّر ارواحهم وطهّر وجدانهم واستخدم جوارحهم - كما هو مشاهد - فيلزم بذلك الافتراض ان يكون كلاماً ملفقاً لا قوة له ولا اهمية ولا أصل - حاش لله ثم حاش لله - اي يلزم قبول مائة محال في محال. فضلاً عن ان يكون الذي امضى حياته منقاداً لقوانين الله ومرشداً اليها، وعلّم البشرية دساتير الحقيقة، بافعاله الخالصة واظهر اصول الاستقامة وطريق السعادة باقواله الطيبة المعقولة، وكان اخشى الناس لله واعرفهم به، واكثر من عرّفه بهم بشهادة سيرته العطرة حتى انضوى تحت لوائه خمس البشرية ونصف الكرة الارضية طوال الف وثلائمائة وخمسين عاماً، فكان فيها قائداً رائداً للامة، حتى أنه هزّ العالم اجمع واصبح حقاً فخر البشرية، بل فخر العالمين.. فيلزم بهذا الافتراض ان يكون غير عارف بالله ولا يخشى عذابه وفي مستوى انسان عادي، اي يلزم ارتكاب محال في مائة محال. لأن المسألة لا وسط لها، اذ لو لم يكن القرآن الكريم كلام الله، وسقط من العرش الاعظم، لا يقدر ان يظل في الوسط بل يلزم أن يكون بضاعة احد الكذابين في الارض.

ومن هنا فيا ايها الشيطان لو تضاعفت دسائسك مائة ضعف لما اقنعت بهذا الافتراض من يملك عقلاً لم يفسد وقلباً لم يتفسخ.

انبرى الشيطان قائلاً:

- كيف لا استطيع ان اغويهم؟ فلقد دفعتُ كثيراً من الناس والعقلاء المشهورين منهم خاصة الى انكار القرآن وانكار نبوة محمد!

الجواب:

C اولاً: اذا نُظر الى اكبر شئ من مسافة بعيدة، يظهر كأنه شئ صغير للغاية. حتى يمكن لمن ينظر الى نجم أن يقول: ان ضوءه كالشمعة.

C ثانياً: ان النظر التبعي أو السطحي يرى المحال كالممكن. يروى ان شيخاً كبيراً نظر الى السماء لرؤية هلال رمضان، وقد نزلت شعرة بيضاء من حاجبه أمام عينه، فظنها الهلال، فقال: لقد شاهدت الهلال!!

وهكذا فمن المحال ان تكون تلك الشعرة هلالاً. ولكن لأنه قد قصد في رؤيته الهلال بالذات وتراءت تلك الشعرة امامه فظهرت له ظهوراً تبعياً - اي ثانوياً - لذا تلقّى ذلك المحال ممكناً.

C ثالثاً: ان الانكار شئ وعدم القبول أو الرفض شئ آخر. اذ ان عدم القبول هو عدم مبالاة، فهو اغماض العين امام الحقائق ونفي بجهالة، وليس بحكم. وبهذا يمكن أن يستتر كثير من المحالات تحت هذا الستار، اذ لا يُشغل عقله بتلك الامور.

أما الانكار فهو ليس بعدم قبول، بل هو قبول العدم، فهو حكم، يضطر صاحبه الى اشغال عقله وإعمال فكره.

وعلى هذا يمكن لشيطان مثلك أن يسلب منه العقل، ثم يخدعه بالانكار.

ثم انك ايها الشيطان قدخدعت اولئك الشقاة من الأنعام الذين هم في صور الاناسي فمهّدت لهم الكفر والانكار اللذين يولدان كثيراً جداً من المحالات، بالغفلة والضلالة والسفسطة والعناد والمغالطة والمكابرة والاغفال والتقليد وامثالها من الدسائس التي تُري الباطل حقاً والمحال ممكناً.

C رابعاً: ان افتراض القرآن الكريم كلام بشر يستلزم ان يُتصور كتاباً يرشد - كما هو مشاهد - الاصفياء والصديقين والاقطاب الذين يتلألأون كالنجوم في سماء الانسانية، ويعلّم بالبداهة الحق والعدل والصدق والاستقامة والأمن والامان لجميع اهل الكمال، ويحقق سعادة الدارين بحقائق اركان الايمان ودساتير اركان الاسلام، وهو الكتاب الحق المبين والحقيقة الزكية الطاهرة، وهو الصدق بعينه والقول الفصل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. يستلزم ان يُتصور - بهذا الافتراض - خلاف اوصافه وتأثيراته وانواره، أي يستلزم تصوره انه افتراء من خدّاع.. وما هذا الاّ محال شنيع يخجل منه حتى السوفسطائيون والشياطين انفسهم، اذ هو هذيان كفري ترتعد منه الفرائص. زد على ذلك يلزم بذلك الافتراض، ان يكون من هو ارسخ عقيدة وأمتن ايماناً واصدق كلاماً وآمن قلباً، بشهادة الشريعة الغراء التي أتى بها وبدلالة ما اظهره - بالاتفاق - من التقوى الخارقة، والعبودية الخالصة، وبمقتضى اخلاقه الفاضلة المتفق عليها بين الاولياء والاعداء، وبتصديق من ربّاهم من اهل العلم والتحقيق واهل الحقيقة وارباب الكمال.. يلزم - بذلك الافتراض - ان يكون فاقداً للعقيدة، لا يوثق به، ولا يخشى الله (حاش لله ثم الف الفَ مرة حاش لله) وما هذا الاّ ارتكاب لأقبح محال ممجوج وضلالة موغلة في الظلم والظلمات.

نحصل مما سبق: مثلما ذكر في الاشارة الثامنة عشرة من المكتوب التاسع عشر، ان الذي لا يملك الاّ قدرة الاستماع في فهم اعجاز القرآن قد قال: اذا قيس القرآن مع جميع ما سمعته من كتب، نراه لا يشبه ايٍ منها، وليس في مستوى تلك الكتب. لذا فالقرآن: إما انه تحت الجميع، أو فوق الجميع. اما الشق الاول، فمع كونه محالاً لا يستطيع حتى الاعداء - بل حتى الشيطان نفسه أن يقوله.. لذا فالقرآن ارفع واسمى من جميع تلك الكتب. اي أنه معجزة.

وعلى غرار هذا نقول مستندين الى حجة قاطعة وهي التي تسمى (بالسبر والتقسيم)(1) حسب علم الاصول وعلم المنطق:

ايها الشيطان ويا تلاميذ الشيطان!

ان القرآن الكريم اما انه كلام الله آت من العرش الاعظم، من الاسم الاعظم، أو أنه افتراء شخص لا يخشى الله ولايتقيه ولا يعتقد به ولا يعرفه (حاش لله الف الف مرة حاش لله) وهذا الكلام لا تقدر ان تقوله ولن تقوله قطعاً حسب الحجج السابقة القاطعة. لذا وبالضرورة وبلا أدنى شبهة يكون القرآن الكريم كلام رب العالمين، ذلك لأنه ليس هناك وسط في المسألة، اذ هو محال لا يمكن ان يحدث قط، كما اثبتناه اثباتاً قاطعاً، وقد شاهدتَه بنفسك واستمعت اليه.

وكذا فان محمداً e إما انه رسول الله وسيد المرسلين وافضل الخلق اجمعين، أو يلزم افتراضه (حاش لله ثم حاش لله) بشراً مفترياً على الله لا يعرفه ولا يعتقد به ولا يؤمن بعذابه، فسقط الى اسفل سافلين(2) وهذا ما لا تقدر على قوله يا ابليس، لا أنت ولا من تعتز بهم من فلاسفة اوروبا ومنافقي آسيا، لأنه ليس هناك أحد في العالم يسمع منك هذا الكلام ثم يصدّقه قط.

لأجل هذا فان اشد الفلاسفة فساداً وأفسد اولئك المنافقين وجداناً يعترفون بأن محمداً e كان فذاً في العقل وآية في الاخلاق.

فما دامت المسألة منحصرة في شقين فقط، وان الشق الثاني محال قطعاً، لا يدّعيه أحد، وأن المسألة لا وسط فيها - كما اثبتنا ذلك بحجج قاطعة - فلابد وبالضرورة - ورغم انفك ورغم انف حزبك ايها الشيطان - وبالبداهة وبحق اليقين فان محمداً e رسول الله وسيد المرسلين وفخر العالمين وافضل الخلق أجمعين عليه الصلاة والسلام بعدد الملك والانس والجان.





اعتراض ثانٍ تافهٍ للشيطان

} ما يَلفظُ من قولٍ الاّ لَديه رقيبٌ عتيدٌ^ وجاءتْ سكرةُ الموتِ بالحق ذلك ما كنتَ منه تحيد^ ونُفخَ في الصور ذلك يومُ الوعيد^ وجاءت كلُّ نفسٍ معها سائقٌ وشَهيد^ لقد كنتَ في غفلةٍ من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرُك اليومَ حديد^ وقال قرينُه هذا ما لديّ عتيدٌ^ ألقيا في جهنمَ كلَّ كفّارٍ عنيد{ (ق:18ــ 24).

عندما كنت اتلو هذه الآيات الكريمة من سورة (ق) قال الشيطان:

- انكم ترون سلاسة القرآن ووضوحه اهم ركن في فصاحته، بينما النقلات بعيدة والطفرات هائلة في هذه الآيات. فترى الآية تعبرُ من سكرات الموت الى القيامة، وتنتقل من نفخ الصور الى ختام المحاسبة، ومن هناك تذكر الإلقاء في جهنم.. أيبقى للسلاسة موضع ضمن هذه النقلات العجيبة؟ وفي القرآن في اغلب مواضعه نرى مجموعة من هذه المسائل البعيدة الواحدة عن الاخرى، فاين موقع السلاسة والفصاحة من هذا؟.

الجواب:

ان اهم اساس في اعجاز القرآن المبين هو الايجاز بعد بلاغته الفائقة، فالايجاز اهم اساس لإعجاز القرآن واقواه، فهذا الايجاز المعجز في القرآن الكريم كثير ولطيف جداً في الوقت نفسه، بحيث ينبهر امامه اهل العلم والتدقيق.

فمثلاً قوله تعالى:

} وقيلَ يا ارضُ ابلعي ماءك ويا سماءُ أقلعي وغيضَ الماءُ وقـُـضي الأمر واستوتْ على الجودي وقيل بُعداً للقوم الظالمين{ (هود: 44)

فهذه الآية الكريمة تبين في بضع جمل قصيرة حادثة الطوفان العظيمة ونتائجها، وتوضحها بايجاز معجز في الوقت نفسه، حتى ساقت الكثيرين من اهل البلاغة الى السجود لروعة بلاغتها.

وكذا قوله تعالى:

} كذّبتْ ثمود بطغواها ^ اذ انبعثَ اشقاها ^ فقال لهم رسولُ الله ناقةَ الله وسقياها ^ فكذّبوه فَعَقَروها فدمْدَم عليهم ربُّهم بذَنْبهم فسوّاها ^ ولا يخافُ عُقباها{ (الشمس: 11ــ 15).

تبين هذه الآيات بياناً معجزاً، في ايجاز بليغ، في بضع جمل قصيرة، الحوادث العجيبة التي حدثت لقوم ثمود وعاقبة امرهم، تبينها بايجاز من دون اخلال بالفهم وفي سلاسة ووضوح.

ومثلاً قوله تعالى:

} وذا النونِ اذ ذهبَ مُغاضباً فظنَّ أنْ لن نقدِر عليه فنادى في الظُلماتِ ان لا اله الاّ انت سُبحانك إني كنتُ من الظالمين{ (الانبياء: 87)

ان ما بين قوله تعالى } أن لَن نقدرَ عليه{ الى جملة } فنادى في الظلمات{ هناك كثير من الجمل المطوية. فتلك الجمل غير المذكورة لا تخل بالفهم ولا تسئ الى سلاسة الآية، اذ تذكر الآية الكريمة الحوادث المهمة في حياة سيدنا يونس عليه السلام وتحيل البقية الى العقل.

وكذلك في سورة يوسف. فان ما بين كلمة } فارسلون{ الى } يوسف ايها الصديق{ هناك ما يقرب من ثماني جمل قد انطوت، ولكن دون اخلال بالمعنى ولا إفساد لسلاسة الآية.

وامثال هذه الانماط من الايجاز المعجز كثيرة جداً في القرآن الكريم، وهي لطيفة جداً في الوقت نفسه.

أما الآيات المتصدرة، التي هي في سورة (ق) فان ايجازها عجيب ومعجز، اذ تشير الى مستقبل الكفار الرهيب جداً والمديد جداً، حتى ان يوماً منه خمسون الف سنة، فتذكر الآية ما تحدث فيه من انقلابات وتحولات وحوادث جليلة تصيب الكفار في مستقبلهم، حتى انها تسيّر الفكر بسرعة مذهلة كالبرق فوق تلك الحوادث الرهيبة وتجعل ذلك الزمان الطويل جداً كأنه صحيفة حاضرة أمام الانسان.وتحيل الحوادث غير المذكورة الى الخيال، فتبينها بسلاسة فائقة.

} واذا قرىء القرآن فاستمعوا له وانصتوا لعلكم ترحمون{ (الاعراف:204)

فيا ايها الشيطان! قل ما بدا لك!

يقول الشيطان:

- انني لا استطيع ان اقاوم هذه الدلائل والبراهين ولا اتمكن من الدفاع تجاهها. ولكن هناك حمقى كثيرون ينصتون اليّ وكثيرون من شياطين الانس يمدونني ويعاونونني ومعظم الفلاسفة المتفرعنين المغرورين يتلقون مني الدروس التي تلاطف غرورهم وتنفخ فيه.

ولهذا لا استسلم، ولا اسلّم لك السلاح!



} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{

المبحث الثاني

كتب هذا المبحث بناء على الحيرة الناشئة لدى الذين يخدمونني دائماً مما يرونه من اختلاف عجيب في اخلاقي.

وكتب ايضاً لتعديل ما لا استحقه من حسن ظن مفرط يحمله اثنان من تلاميذي.

أرى أن قسماً من الفضائل التي تعود الى حقائق القرآن تُمنح الى الوسائل التي تقوم بدور الدعاة والدالين على تلك الحقائق.

والحال أن هذا خطأ، لأن قداسة المصدر وسموه هو الذي يولد تأثيراً يفوق تأثير براهين كثيرة. وعوام الناس انما ينقادون للاحكام بهذه القدسية.

ومتى ما ابدى الدلال والداعي وجوداً لنفسه، أي متى ما توجهت الانظار اليه - دون الحقائق ـ يتلاشى تأثير قدسية المصدر.

ولأجل هذا السرأبيّن الحقيقة الآتية لإخواني الذين يتوجهون اليّ توجهاً يفوق حدي بكثير. فأقول:

ان الانسان قد يحمل شخصيات عدة، وتلك الشخصيات ذات اخلاق متمايزة متباينة، فمثلاً:

ان الموظف الكبير له شخصية خاصة به اثناء اشغاله مهمته من موقعه الرفيع ومقام وظيفته. هذا المقام يتطلب وقاراً واطواراً ليصون كرامة موقعه وعزة مقام المسؤولية. فاظهار التواضع لكل زائر، فيه تذلل وتهوين من شأن المقام. ولكن هذا الشخص نفسه يملك شخصية اخرى خاصة به في بيته وبين أهله، وذلك يتطلب منه اخلاقاً مباينة لما في الوظيفة، بحيث كلما تواضع اكثر كان أفضل واجمل، في الوقت الذي اذا ابدى شيئاً من الوقار يعدّ ذلك تكبراً منه.

أي أن هناك شخصية خاصة بالانسان باعتبار وظيفته، هذه الشخصية تخالف شخصيته الحقيقية في نقاط كثيرة. فان كان ذلك الموظف أهلاً لوظيفته وكفواً لها ويملك استعداداً كاملاً لادارة عمله، فان كلتا الشخصيتين تتقاربان بعضهما من بعض بينما لو لم يكن أهلاً لوظيفته وفقيراً في قابلياته، كأن يكون جندياً نصب في مقام مشير، فالشخصيتان تتباعدان بعضهما عن بعض. اذ صفات الجندي الاعتيادية وأحاسسيه البسيطة لا تنسجم مع ما يقتضيه مقام المشير من اخلاق رفيعة.

وهكذا فان في اخيكم هذا الفقيرثلاث شخصيات كل منها بعيدة عن الأخرى كل البعد، بل بعداً شاسعاً جداً.

أولاها:

شخصية مؤقتة خاصة خالصة لخدمة القرآن وحده، بكوني دلالاً لخزينة القرآن الحكيم السامية. فما تقتضيه وظيفة الدعوة الى القرآن والدلالة عليه من اخلاق رفيعة سامية ليست لي، ولا أنا أملكها. وانما هي سجايا رفيعة يقتضيها ذلك المقام الرفيع وتلك الوظيفة الجليلة. فكل ما ترونه من اخلاق وفضائل من هذا النوع فهي ليست لي، وانما هي خاصة بذلك المقام، فلا تنظروا الي من خلالها.

الشخصية الثانية:

حينما أتوجه الى بابه تعالى واتضرع اليه، ينعم علي سبحانه شخصية خاصة في أوقات العبادة بحيث أن تلك الشخصية تولد آثاراً ناشئة من أساس معنى العبودية، وذلك الاساس هو معرفة الانسان تقصيرَه أمام الله وادراك فقره نحوه وعجزه أمامه والالتجاء اليه بذل وخشوع، فأرى نفسي بتلك الشخصية أشقى وأعجز وأفقر وأكثر تقصيراً امام الله من أي أحد كان من الناس، فلو اجتمعت الدنيا في مدحي والثناء عليّ لا تستطيع أن تقنعني بأنني صالح وفاضل.

ثالثتها:

هي شخصيتي الحقيقية، أي شخصيتي الممسوخة من سعيد القديم وهي عروق ظلت في ميراث سعيد القديم. فتبدو أحياناً رغبة في الرياء وحب الجاه وتبدو فيّ اخلاقاً وضيعة مع خسة في الأقتصاد حيث انني لست سليل عائلة ذات جاه وحسب.

فيا أيها الاخوة!

لن أبوح بكثير من مساوئ هذه الشخصية ومن أحوالها السيئة، لئلا انفركم عني كلياً.

فيا أخوتي! لست أهلاً لمقام رفيع ولا أملك استعداداً له، فشخصيتي هذه بعيدة كل البعد عن اخلاق وظائف الدعوة وآثار مهمة العبودية.

وقد اظهر سبحانه وتعالى قدرته الرحيمة فيّ حسب قاعدة

((داد حق را قابليت شرط نيست))

أي ان الفضل الإلهي لا يشترط القابلية في ذات الشخص. فهو الذي يسخر شخصيتي التي هي كأدنى جندي، في خدمة أسرار القرآن التي هي بحكم أعلى منصب للمشيرية وأرفعها.

فالنفس أدنى من الكل، والوظيفة أسمى من الكل.

فألف شكر وشكر لله سبحانه

الحمد لله هذا من فضل ربي

المبحث الثالث

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} يا ايها الناس إناّ خلقناكُم مِن ذَكَرٍٍ واُنثى وجَعَلناكُم شُعوباً وقبائلَ لِتعارفوا{ (الحجرات:13).

اي: خلقناكم طوائف وقبائل وامماً وشعوباً كي يعرف بعضكم بعضاً وتتعرفوا على علاقاتكم الاجتماعية، لتتعارفوا فيما بينكم، ولم نجعلكم قبائل وطوائف لتتناكروا فتتخاصموا.

في هذا المبحث سبع مسائل:

C المسألة الاولى: ان الحقيقة الرفيعة التي تفيدها هذه الآية الكريمة تخص الحياة الاجتماعية، لذا اضطررت الى كتابة هذا المبحث بنية خدمة القرآن العظيم، وعلى أمل إنشاء سدٍ امام الهجمات الظالمة. فكتبته بلسان (سعيد القديم) الذي له علاقة بالحياة الاجتماعية الاسلامية، وليس بلسان (سعيد الجديد) الذي يريد اجتناب الحياة الاجتماعية(1).

C المسألة الثانية: نقول بياناً لدستور التعارف والتعاون الذي تشير اليه هذه الآية الكريمة انه:

يقسّم الجيش الى فيالق والى فرق والى ألوية والى أفواج والى سرايا والى فصائل والى حظائر، وذلك ليعرف كل جندي واجباته حسب تلك العلاقات المختلفة المتعددة، وليؤدي افراد ذلك الجيش تحت دستور التعاون وظيفة حقيقية عامة لتصان حياتهم الاجتماعية من هجوم الاعداء. والاّ فليس هذا التقسيم والتمييز الى تلك الاصناف، لجعل المنافسة بين فوجين او اثارة الخصام بين سريتين او وضع التضاد بين فرقتين.

وكذلك الامر في المجتمع الاسلامي الشبيه بالجيش العظيم، فقد قُسّم الى قبائل وطوائف، مع ان لهم ألف جهة وجهة من جهات الوحدة ؛ اذ خالقهم واحد، ورازقهم واحد، ورسولهم واحد، وقبلتهم واحدة، وكتابهم واحد، ووطنهم واحد.. وهكذا واحد، واحد.. الى الألوف من جهات الوحدة التي تقتضي الاخوة والمحبة والوحدة. بمعنى ان الانقسام الى طوائف وقبائل - كما تعلنه الآية الكريمة - ماهو الاّ للتعارف والتعاون لا للتناكر والتخاصم.

C المسألة الثالثة: لقد انتشر الفكر القومي وترسّخ في هذا العصر. ويثير ظالمو اوروبا الماكرون بخاصة هذا الفكر بشكله السلبي في اوساط المسلمين ليمزقوهم ويسهل لهم ابتلاعهم. ولما كان في الفكر القومي ذوق للنفس، ولذة تُغفل، وقوة مشؤومة، فلايقال للمشتغلين بالحياة الاجتماعية في هذا الوقت: دعوا القومية!

ولكن القومية نفسها على قسمين:

قسم منها سلبي مشؤوم مضر، يتربى وينمو بابتلاع الآخرين ويدوم بعداوة من سواه، ويتصرف بحذر. وهذا يولد المخاصمة والنزاع. ولهذا ورد في الحديث الشريف (أن الاسلام يجبّ ما قبله) ويرفض العصبية الجاهلية. وامر القرآن الكريم بـ } إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فانزلَ الله سكينتهُ على رسولهِ وعلى المؤمنين وألزمهم كلمةَ التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليماً{ (الفتح:26). فهذه الآية الكريمة والحديث الشريف يرفضان رفضاً قاطعاً القومية السلبية وفكر العنصرية.لان الغيرة الاسلامية الايجابية المقدسة لاتدع حاجة اليها.

تُرى أيّ عنصر في العالم تعداده ثلاثمائة وخمسون مليوناً ويُكسب فكر المرء - بدل الاسلام - هذا العدد من الاخوان، بل اخواناً خالدين؟

ولقد ظهرت طوال التاريخ أضرار كثيرة نجمت عن القومية السلبية، نذكر منها:

ان الامويين خلطوا شيئاً من القومية في سياساتهم، فأسخطوا العالم الاسلامي فضلاً عما ابتلوا ببلايا كثيرة من جراء الفتن الداخلية.

وكذلك شعوب اوروبا، لما دعوا الى العنصرية واوغلوا فيها في هذا العصر نجم العداء التاريخي الملئ بالحوادث المريعة بين الفرنسيين والالمان كما أظهر الدمار الرهيب الذي احدثته الحرب العالمية، مبلغ الضرر الذي يلحقه هذا الفكر السلبي للبشرية.

وكذلك الحال فينا ؛ ففي بداية عهد الحرية (أي اعلان الدستور) تشكلت جمعيات مختلفة للاجئين وفي المقدمة الروم والارمن، تحت اسماء أندية كثيرة، وسببت تفرقة القلوب - كما تشتتت الاقوام بانهدام برج بابل، وتفرقوا ايدي سبأ في التاريخ - حتى كان منهم من اصبح لقمة سائغة للاجانب، ومنهم من تردى وضل ضلالاً بعيداً.

كل ذلك يبين نتائج القومية السلبية وأضرارها.

اما الآن فان التباغض والتنافر بين عناصر الاسلام وقبائله ـ بسبب من الفكر القومي ـ هلاك عظيم،وخطب جسيم، اذ ان تلك العناصر أحوج ما يكون بعضهم لبعض، لكثرة ما وقع عليهم من ظلم وإجحاف ولشدة الفقر الذي نزل بهم ولسيطرة الاجانب عليهم، كل ذلك يسحقهم سحقاً ؛ لذا فان نظر هؤلاء بعضهم لبعض نظرة العداء مصيبة كبرى لاتوصف، بل انه جنون اشبه ما يكون بجنون من يهتم بلسع البعوض ولايعبأ بالثعابين الماردة التي تحوم حوله.

نعم، ان أطماع اوروبا التي لاتفتر ولاتشبع هي كالثعابين الضخمة الفاتحة افواهها للابتلاع. لذا فان عدم الاهتمام بهؤلاء الاوروبيين، بل معاونتهم معنىً بالفكر العنصري السلبي، وانماء روح العداء ازاء المواطنين القاطنين في الولايات الشرقية او اخواننا في الدين في الجنوب، هلاك وأيّ هلاك وضرر وبيل.

اذ ليس بين افراد الجنوب من يستحق ان يُعادى حقاً، بل ما أتى من الجنوب الاّ نور القرآن وضياء الاسلام، الذي شعّ نوره فينا وفي كل مكان.

فالعداء لاولئك الاخوان في الدين، وبدوره العداء للاسلام، انما يمس القرآن، وهو عداء لجميع اولئك المواطنين، ولحياتَيهم، الدنيوية والاخروية.

لذا فادعاء الغيرة القومية بنية خدمة المجتمع يهدم حجر الزاوية للحياتين معاً فهي حماقة كبرى وليست حمية وغيرة قطعاً.

C المسألة الرابعة: القومية الايجابية نابعة من حاجة داخلية للحياة الاجتماعية، وهي سبب للتعاون والتساند، وتحقق قوة نافعة للمجتمع، وتكون وسيلة لاسناد اكثر للأخوة الاسلامية.

هذا الفكر الايجابي القومي، ينبغي ان يكون خادماً للاسلام، وان يكون قلعة حصينة له، وسوراً منيعاً حوله، لا ان يحل محل الاسلام، ولابديلاً عنه، لان الاخوة التي يمنحها الاسلام تتضمن ألوف انواع الاخوة. وانها تبقى خالدة في عالم البقاء وعالم البرزخ.

ولهذا فلا تكون الاخوة القومية مهما كانت قوية الاّ ستاراً من استار الاخوة الاسلامية. وبخلافه، اي اقامة القومية بديلاً عن الاسلام جناية خرقاء اشبه ما يكون بوضع احجار القلعة في خزينة ألماس فيها وطرح الالماسات خارج القلعة.

يا ابناء هذا الوطن من اهل القرآن !

لقد تحديتم العالم اجمع منذ ستمائة سنة بل منذ ألف سنة من زمن العباسيين، وانتم حاملو راية القرآن والناشرون له في العالم اجمع. وقد جعلتم قوميتكم حصناً للقرآن وقلعة للاسلام، وألزمتم العالم ازاءكم الصمت والانقياد. ودفعتم المهالك العظيمة التي كادت تودي بحياة العالم الاسلامي حتى أصبحتم مصداقاً حسناً للآية الكريمة:

} فسوفَ يأتي الله بقومٍ يُحبُّهم ويُحبّونَهُ أذلّةٍ على المؤمنين أعزّةٍ على الكافرين يجاهدونَ في سبيل الله{ (المائدة:54).

فلاتنخدعوا ولاتميلوا الى مكايد الاوروبيين ودسائس المتفرنجين. واحذروا حذراً شديداً ان تكونوا مصداق بداية هذه الآية الكريمة(1).

حالة تثير الانتباه

ان الشعب التركي هم اكثر عدداً من اي قوم من الاقوام الاسلامية الاخرى، وانهم مسلمون في كل بقاع العالم، بينما الاقوام الاخرى، فيهم المسلمون وغير المسلمين معاً، لذا لم تنقسم الامة التركية كبقية الاقوام، فاينما توجد طائفة من الاتراك فهم مسلمون، والذين ارتدوا عن الاسلام او الذين لم يسلموا اصلاً، قد خرجوا عن وصف الترك كالمجر. علماً ان الاقوام الاخرى حتى الصغيرة منها فيهم المسلمون وغير المسلمين.

ايها الاخ التركي !

احذر وانتبه ! انت بالذات، فان قوميتك امتزجت بالاسلام امتزاجاً لايمكن فصلها عن الاسلام، ومتى ما حاولت عزلها عن الاسلام فقد هلكت اذاً وانتهى أمرك. ألا ترى ان جميع مفاخرك في الماضي قد سجّل في سجل الاسلام، وان تلك المفاخر لايمكن ان تمحى من الوجود قطعاً فلا تمحها انت من قلبك بالاستماع الى الشبهات التي تثيرها شياطين الانس.

C المسألة الخامسة: ان الاقوام المتيقظة في آسيا، قد تمسكوا بالقومية، وحذوا حذو اوروبا في كل النواحي. حتى ضحوا بكثير من مقدساتهم في سبيل ذلك التقليد.

والحال ان كل قوم يلائمه لباس على قدّه وقامته، وحتى لو كان نوع القماش واحداً فانه يلزم الاختلاف في الطراز. اذ لايمكن إلباس المرأة ملابس الشرطي، ولايمكن إلباس العالم الديني ملابس الخليعات.

فالتقليد الاعمى يؤدي في كثير من الاحيان الى حالة من الهزء والسخرية كهذه.. لان:

اولاً: ان كانت اوروبا حانوتاً، او ثكنة عسكرية، فان آسيا تكون بمثابة مزرعة او جامع. وان صاحب الحانوت قد يذهب الى المسرح، بينما الفلاح لايكترث به. وكذلك تتباين اوضاع الثكنة العسكرية والمسجد او الجامع.

ثم ان ظهور اكثر الانبياء في آسيا، وظهور اغلب الحكماء والفلاسفة في اوروبا، رمزٌ للقدر الإلهي واشارة منه الى ان الذي يوقظ اقوام آسيا ويدفعهم الى الرقي ويحقق ادامة إدارتهم هو الدين والقلب. اما الفلسفة والحكمة فينبغي ان تعاونا الدين والقلب لا ان تحلا محلهما.

ثانياً: لايقاس الدين الاسلامي بالنصرانية، اذ ان تقليد الاوروبيين في اهمالهم دينهم تقليداً أعمى خطأ جسيم؛

لان الاوروبيين متمسكون بدينهم اولاً، والشاهـد على هـذا، في المقـدمة وسر الحكمة والفرق الاساس بين الاسلام وسائر الاديان، ومنها النصرانية هو الآتي:

ان اساس الاسلام هو التوحيد الخالص، فلايسند التأثير الحقيقي الى الاسباب او الوسائط ولاقيمة لها في الاسلام من حيث الايجاد والخلق.

اما في النصرانية، فان فكرة البنوة التي ارتضوها، تعطي اهمية للوسائط وقيمة للاسباب، فلا تكسر الغرور والتكبر بل يسند قسطاً من الربوبية الالهية الى الاحبار والرهبان، حتى صدق عليهم قوله تعالى: } اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله{ (التوبة:31).

ومن هذا فان عظماء النصارى يكونون متعصبين لدينهم، مع انهم يحافظون على غرورهم وانانيتهم رغم ما يتسنمون من مهام دنيوية كبيرة، مثال ذلك: رئيس امريكا (ولسن) الذي كان رجل دين متعصباً.

بينما في الاسلام الذي هو دين التوحيد الخالص، ينبغي للمتقلدين للوظائف الكبيرة في الدولة ان يدعوا غرورهم ويتركوا انانيتهم، او لايبلغون التدين الحق، ولهذا يظل قسم منهم مهملين امور الدين، بل قد يكون منهم خارجين عن الدين.

C المسألة السادسة:نقول لأولئك الذين يغالون في العنصرية وفي القومية السلبية.

اولاً: لقد حدثت هجرات كثيرة جداً في بقاع الارض كلها ولاسيما في بلادنا هذه، منذ سالف العصور. وتعرضت اقوام كثيرة الى تغيرات وتبدلات كثيرة، وازدادت تلك الهجرات الى بلادنا بعد ان اصبحت مركزاً للحكومة الاسلامية حتى حامت سائر الاقوام كالفراش حولها، وألقت بنفسها فيها واستوطنتها. فلا يمكن ـ والحال هذه ـ تمييز العناصر الحقيقية بعضها عن بعض الاّ بانفتاح اللوح المحفوظ.

لذا فبناء المرء اعماله وحميته على العنصرية لامعنى له البتة، فضلاً عن أضرارها.

ولاجل هذا اضطر احد دعاة العنصرية والقومية السلبية ـ الذي لايقيم وزناً للدين ـ ان يقول: اذا اتحد الدين واللغة فالامة واحدة.

ولما كان الامـر هكذا فلابد من النظر الى اللغة والدين والـروابط الوطنية لا الى العنصرية الحقيقية. فان اتحدت هذه الثلاثة، فالامة قوية اذاً بذاتها. وان نقص أحد هذه الثلاثة فهو داخل ايضاً ضمن القومية.

ثانياً: نبين فائدتين ـ على سبيل المثال ـ من مئات الفوائد التي تكسبها الحمية الاسلامية المقدسة للحياة الاجتماعية لابناء هذا الوطن.

الفائدة الاولى:

ان الذي حافظ على حياة الدولة الاسلامية وكيانها ـ رغم ان تعدادها عشرون او ثلاثون مليوناً ـ تجاه جميع دول اوروبا العظيمة، هو هذا المفهوم النابع من القرآن الذي يحمله جيشها: (( اذا متُّ فانا شهيد وان قتلتُ فانا مجاهد)).. هذا المفهوم دفع ابناء هذا الوطن الى استقبال الموت باسمين، مما هزّ قلوب الاوروبيين وارهبهم.

تُرى اي شيء يمكن ان يبرز في الميدان ويبعث في روح الجنود مثل هذه التضحية والفداء وهم ذوو أفكار بسيطة وقلوب صافية؟.

اية عنصرية يمكن ان تحل محل هذا المفهوم العلوي؟ واي فكر غيره يمكن ان يجعل المرء يضحي بحياته وبدنياه كلها طوعاً في سبيله ؟.

ثانياً:

ما آذت الدول الاوروبية الكبرى وثعابينها المردة ؛ هذه الدولة الاسلامية وتوالت عليها بضرباتها، الاّ وابكت ثلاثمائة وخمسين مليوناً من المسلمين في انحاء العالم، وجعلتهم يئنون لأذاها، حتى سحبت تلك الدول الاستعمارية يدها عن الاذى والتعدي لتحول دون اثارة عواطف المسلمين عامة، فتخلت عن الاذى.

فهل تُستصغر هذه القوة الظهيرة المعنوية والدائمة لهذه الدولة، وهل يمكن انكارها؟

تُرى اية قوة اخرى يمكن أن تحلّ محلها؟ فهذا ميدان التحدي فليُظهروا تلك القوة؟ لذا ينبغي الاّ نجعل تلك القوة الظهيرة العظمى تعرض عنّا لاجل التمسك بقومية سلبية وحمية مستغنية عن الدين.

C المسألة السابعة:نقول للذين يبدون حماسةً شديدة للقومية السلبية:

ان كنتم حقاً تحبون هذه الامة حباً جاداً خالصاً، وتشفقون عليها، فعليكم ان تحملوا في قلوبكم غيرة تسع الاشفاق على غالبية هذه الامة لاعلى قلة قليلة منها، اذ ان خدمة هؤلاء خدمة اجتماعية مؤقتة غافلة عن الله ـ وهم ليسوا بحاجة الى الرأفة والشفقة ـ وعدم الرأفة بالغالبية العظمى منهم ليس من الحمية والغيرة في شئ.

اذ الحمية بمفهوم العنصرية يمكن ان يجلب النفع والفائدة لاثنين من كل ثمانية اشخاص من الناس، فائدة مؤقتة، فينالون مما لايستحقونه من الحمية، اما الستة الباقون فهم إما شيخ او مريض او مبتلى ببلاء، او طفل، او ضعيف جداً، او متقٍ يخشى الله ويرجو الآخرة.. فهؤلاء يبحثون عن سلوان ونور يبعث فيهم الامل، حيث انهم يتوجهون الى حياة برزخية واخروية. فهم محتاجون الى ايدي اللطف والرحمة تمتد اليهم. فأية حمية تسمح لاطفاء نور الامل لدى هؤلاء والتهوين من سلوانهم؟

هيهات ! اين الاشفاق على الامة واين التضحية في سبيلها!.

اننا لانيأس من روح الله قطعاً، فلقد سخّر سبحانه ابناء هذا الوطن وجماعاته المعظمة وجيشه المهيب منذ ألف سنة في خدمة القرآن وجعلهم رافعي رايته. لذا فأملنا عظيم في رحمته تعالى الاّ يهلكهم بعوارض موقتة ان شاء الله، وسيمد سبحانه ذلك النور ويجعله اسطع وابهر اشراقاً فيديم وظيفتهم المقدسة.

الـمبحث الرابع

تنبيه: كما ان المباحث الاربعة للمكتوب السادس والعشرين غير مترابطة،كذلك هذه المسائل العشر لهذا المبحث غير مترابطة ايضاً، لذا لايتحرى عن الارتباط والعلاقة فيما بينها. فقد كتبت كما وردت.

فهذا المبحث جزء من رسالته التي بعثها الى احد طلابه المهمين، تتضمن اجابات عن خمسة او ستة من الاسئلة.

المسألة الاولى

C ثانياً: انك تقول ياأخي في رسالتك: ان المفسرين قالوا لدى تفسيرهم (رب العالمين) ان هناك ثمانية عشر ألف عالم، وتستفسر عن حكمة ذلك العدد؟.

أخي! انني الآن لا أعلم حكمة ذلك العدد، ولكني اكتفي بالآتي:

ان جمل القرآن الحكيم لاتنحصر في معنىً واحد، بل هي في حكم كلي يتضمن معاني لكل طبقة من طبقات البشرية، وذلك لكون القرآن الكريم خطاباً لعموم طبقات البشر. لذا فالمعاني المبينة هي في حكم جزئيات لتلك القاعدة الكلية، فيذكر كل مفسّر، وكل عارف بالله جزءاً من ذلك المعنى الكلي ويستند في تفسيره هذا إما الى كشفياته او الى دليله او الى مشربه، فيرجّح معنىً من المعاني. وقد كشفت طائفة في هذا ايضاً معنىً موافقاً لذلك العدد.

فمثلاً: يذكر الاولياء في اورادهم ويكررون باهتمام بالغ قوله تعالى: } مَرجَ البحرين يلتقيان ^ بينهما برزخ لايبغيان{ (الرحمن:19ـ 20) ولهذه الآية الكريمة معانٍ جزئية ابتداءً من بحر الربوبية في دائرة الوجوب وبحر العبودية في دائرة الامكان، وانتهاءً الى بحري الدنيا والآخرة، والى بحري عالم الشهادة وعالم الغيب، والى البحار المحيطة في الشرق والغرب، وفي الشمال والجنوب، الى بحر الروم وبحر فارس والبحر الابيض والاسود ـ والى المضيق بينهما الذي يخرج منه السمك المسمى بالمرجان ـ والى البحر الابيض والبحر الاحمر وقناة السويس، والى بحار المياه العذبة والمالحة، والى بحار المياه الجوفية العذبة المتفرقة والبحار المالحة التي على ظهر الارض المتصل بعضها ببعض وما يسمى بالبحار الصغيرة العذبة من الانهار الكبيرة كالنيل ودجلة والفرات، والبحار المالحة التي يختلط معها.

كل هذه الجزئيات موجودة ضمن معاني تلك الآية الكريمة، وجميع هذه الجزئيات تصح ان تكون مرادة ومقصودة، فهي معانٍ حقيقية للآية الكريمة ومعانٍ مجازية.

وهكذا فان } الحمد لله رب العالمين{ ايضاً جامعة لحقائق كثيرة جداً مثلما ذكر، وان اهل الكشف والحقيقة يبينونها بيانات متباينة حسب كشفياتهم.

وانا افهم من الآية الكريمة الآتي:

ان في السماوات الوفاً من العوالم، ويمكن ان يكون كل نجم في مجموعته، عالماً بذاته، وان في الارض ايضاً كل جنس من المخلوقات كذلك عالم بذاته، حتى ان كل انسان عالم صغير، فكلمة } رب العالمين{ تعني: ان كل عالم يدار ويربىّ ويدبّر شؤونه بربوبيته سبحانه وتعالى مباشرة.

C ثالثاً: لقد قال الرسول e :(اذا أراد الله بقوم خيراً أبصرهم بعيوب أنفسهم)(1) وقد قال سيدنا يوسف عليه السلام في القرآن الكريم: } وما أُبرىء نفسي ان النفس لأمارة بالسوء{ (يوسف:53).

نعم، ان من يعجب بنفسه ويعتدّ بها شقي، بينما الذي يرى عيب نفسه محظوظ سعيد، لذا فأنت سعيد يا أخي. ولكن قد يحدث احياناً ان تنقلب النفس الامارة الى نفسٍ لوامة او مطمئنة، إلاّ انها تسلّم اسلحتها واعتدتها الى الاعصاب والعروق فتؤدي الاعصاب والعروق هذه تلك الوظيفة الى نهاية العمر، ورغم موت النفس الامارة منذ مدة طويلة فان آثارها تظهر ايضاً، فهناك كثير من الاولياء والاصفياء العظام شكَوا من النفس الامارة رغم ان نفوسهم مطمئنة، واستغاثوا بالله من امراض القلب رغم ان قلوبهم سليمة ومنوّرة جداً. فهؤلاء الافاضل لايشكون من النفس الامارة، بل من وظيفتها التي أُودعت الى الاعصاب. اما المرض فليس قلبياً، بل مرض خيالي، والذي يشن عليكم الهجوم ياأخي ليس نفسك ولا أمراض قلبك، بل هي حالة كما ذكرناها انتقلت الى الاعصاب لأجل دوام المجاهدة واستمرارها الى نهاية العُمُر ـ حسب مقتضى البشرية ـ والتي تسبب رقياً دائماً.

المسألة الثانية

ان اجزاء رسائل النور تتضمن الاجابة عن ثلاث مسائل، كان العالم القديم قد سأل عنها وفيها ايضاحاتها، الا اننا نشير هنا اليها باجمال فحسب:

السؤال الأول:

ماذا يعني محي الدين بن عربي عندما قال في رسالته الموجهة الى فخر الدين الرازي(1): ((ان معرفة الله غير معرفة وجوده)) وما قصده منه؟

اولاً: ان ما قرأتَ له من المثال الموجود في الفرق بين التوحيد الحقيقي والتوحيد العامي المذكور في الكلمة الثانية والعشرين يشير الى المقصود من السؤال، ويوضحه اكثر ما جاء في الموقف الثاني والثالث من الكلمة الثانية والثلاثين.

ثانياً: ان الذي دعا محي الدين بن عربي الى أن يقول هذا الكلام لفخر الدين الرازي وهو امام من ائمة الكلام هو: ان ما بينه أئمة اصول الدين وعلماء الكلام فيما يخص العقائد ووجود الله سبحانه وتوحيده غيركاف في نظر ابن عربي.

حقاً! ان معرفة الله المستنبطة بدلائل علم الكلام ليست هي المعرفة الكاملة، ولا تورث الاطمئنان القلبي، في حين ان تلك المعرفة متى ما كانت على نهج القرآن الكريم المعجز، تصبح معرفة تامة وتسكب الاطمئنان الكامل في القلب. نسأل الله العلي القدير أن يجعل كل جزء من اجزاء رسائل النور بمثابة مصباح يضئ السبيل القويم النوراني للقرآن الكريم.

ثم ان معرفة الله التي استقاها الرازي من علم الكلام كما تبدو ناقصة وقاصرة في نظر ابن عربي، فان المعرفة الناتجة عن طريق التصوف ايضاً ناقصة ومبتورة بالنسبة نفسها امام المعرفة التي استقاها ورثة الانبياء من القرآن الكريم مباشرة، ذلك لأن ابن عربي يقول ((لا موجود إلاّ هو)) لأجل الحصول على الحضور القلبي الدائم، أمام الله سبحانه وتعالى، حتى وصل به الأمر الى انكار وجود الكائنات.

أما الآخرون فلاجل الحصول على الحضور القلبي ايضاً قالوا: ((لا مشهود الاّ هو)) وألقوا ستار النسيان المطلق على الكائنات واتخذوا طوراً عجيباً.

بينما المعرفة المستقاة من القرآن الكريم تمنح الحضور القلبي الدائم، فضلاً عن انها لا تقضي على الكائنات بالعدم ولا تسجنها في سجن النسيان المطلق، بل تنقذها من الاهمال والعبثية وتستخدمها في سبيل الله سبحانه، جاعلة من كل شئ مرآة تعكس المعرفة الالهية وتفتح في كل شئ نافذة الى المعرفة الإلهية، كما عبر عنها سعدي الشيرازي شعراً:

در نظر هوشيار هر ورقي دفتريست أز معرفت كردكار

ولقد شبهنا في كلمات اخرى من رسائل النور لبيان الفروق بين الذين يستلهمون نهجهم من القرآن الكريم - ذلك المنهج الأقوم - والذين يسلكون نهج علماء الكلام بمثال هو:

انه لأجل الحصول على الماء، هناك من يأتي به بوساطة انابيب من مكان بعيد يحفره في اسفل الجبال. وآخرون يجدون الماء اينما حفروا ويفجرونه اينما كانوا. فالأول سير في طريق وعر وطويل والماء معرض فيه للانقطاع والشحة. بينما الذين هم أهل لحفر الآبار فانهم يجدون الماء اينما حلوا دونما صعوبة ومتاعب.

فعلماء الكلام يقطعون سلسلة الاسباب باثبات استحالة الدور والتسلسل(1) في نهاية العالم، ومن بعده يثبتون وجود واجب الوجود.

أما المنهج الحقيقي للقرآن الكريم فيجد الماء في كل مكان ويحفره اينما كان. فكل آية من آياته الجليلة كعصا موسى تفجر الماء اينما ضربت. وتستقرئ كل شئ القاعدة الآتية:

وفي كل شئ له آية تدل على أنه واحد

ثم ان الايمان لا يحصل بالعلم وحده، اذ ان هناك لطائف كثيرة للانسان لها حظها من الايمان فكما ان الأكل اذا ما دخل المعدة ينقسم ويتوزع الى مختلف العروق حسب كل عضو من الاعضاء، كذلك المسائل الايمانية الآتية عن طريق العلم اذا ما دخلت معدة العقل والفهم، فان كل لطيفة من لطائف الجسم - كالروح والقلب والسر والنفس وامثالها - تأخذ منها وتمصها حسب درجاتها. فان فقدت لطيفة من اللطائف غذاءها المناسب، فالمعرفة اذن ناقصة مبتورة، وتظل تلك اللطيفة محرومة منها.

وهكذا ينبه ابن عربي فخر الدين الرازي الى هذه النقطة ويلفت نظره اليها.

المسألة الثالثة

سؤال: ماوجه التوفيق بين الآية الكريمة: } ولقد كرّمنا بني آدم..{ (الاسراء:70) والآية الكريمة: } انه كان ظلوماً جَهولاً{ (الاحزاب:72)؟.

الجــواب: ان ايضاح هذا السؤال موجود في كل من الكلمات (الحادية عشرة) و (الثالثة والعشرين)، والثمرة الثانية من الغصن الخامس من الكلمة (الرابعة والعشرين). ومجمله هو الآتي:

ان الله سبحانه وتعالى يخلق بقدرته الكاملة اشياء كثيرة جداً من شئ واحد كما يسوق شيئاً واحداً الى القيام بوظائف كثيرة جداً. فيكتب ألف كتاب وكتاب في صحيفة واحدة.

وقد خلق سبحانه وتعالى الانسان ايضاً نوعاً جامعاً لكثير من الانواع. اي انه قد أراد أن ينجز بنوع الانسان ما تنجزه الدرجات المختلفة لجميع انواع الحيوانات. بحيث لم يحدّد قوى الانسان ورغباته بحدود وقيود فطرية، بل جعلها حرة طليقة، بينما حدّد قوى سائر الحيوانات ورغباتها، اي انها تحت قيود فطرية. بمعنى ان كل قوة من قوى الانسان تتجول في ميدان فسيح واسع جداً، لاتتناهى، لان الانسان مرآة لتجليات لانهاية لها لاسماء رب العالمين، لذا فقد منحت قواه استعداداً لانهاية لها.

فمثلاً: لو اعطي الانسان الدنيا برمتها، لطلب المزيد بحرصه، وانه يرضى بإلحاق الضرر بالوف من الناس في سبيل منفعة ذاتية!.

وهكذا تنكشف امام الانسان درجات لاحدّ لها من الاخلاق السيئة، حتى توصله الى دركات النماردة والفراعنة. فيكون مصداق صفة ظلوماً بحق (بالصيغة المبالغة)، كما تنفتح امامه درجات الرقي التي لامنتهى لها في الخصال الحميدة حتى بلغ مرتبة الانبياء والصديقين.

ثم ان الانسان ـ بخلاف الحيوان ـ جاهل كل ما يخص الحياة ويلزمها ومضطر الى تعلم كل شئ، فهو (جهول) بالصيغة المبالغة لأنه محتاج الى مالايحدّ من الاشياء.

اما الحيوان؛ فعندما يفتح عيونه الى الحياة، فانه لايحتاج الاّ الى اشياء قليلة، فضلاً عن انه يتعلم شروط حياته في شهر او شهرين او في يوم او يومين بل ربما في ساعة او ساعتين، وكأنه قد اكتمل في عالم آخر ثم أتى الى هنا. بينما الانسان لايتمكن من أن يقف منتصباً معتمداً على نفسه الاّ بعد سنة او سنتين، ولايعرف نفعه من ضره الاّ بعد خمس عشرة سنة.

فالمبالغة في (جهولاً) تشير الى هذا ايضاً.

المسألة الرابعة

تسألون ياأخي عن حكمة الحديث الشريف:(جددوا ايمانكم بـلا إله الاّ الله)(1) فقد ذكرناها في كثير من ((الكلمات)). والآن نذكر حكمة منها:

ان الانسان لكونه يتجدد بشخصه وبعالمه الذي يحيط به فهو بحاجة الى تجديد ايمانه دائماً، لأن الانسان الفرد ما هو الاّ افراد عديدة، فهو فرد بعدد سني عمره، بل بعدد ايامه، بل بعدد ساعاته حيث أن كل فرد يعد شخصاً آخر، ذلك لان الفرد الواحد عندما يجري عليه الزمن يصبح بحكم النموذج، يلبس كل يوم شكل فرد جديد آخر.

ثم ان الانسان مثلما يتعدد ويتجدد هكذا. فان العالم الذي يسكنه سيار ايضاً لايبقى على حال. فهو يمضي ويأتي غيره مكانه، فهو في تنوع دائم، فكل يوم يفتح باب عالم جديد.

فالايمان نور لحياة كل فرد من افراد ذلك الشخص من جهة كما انه ضياء للعوالم التي يدخلها. وما ((لا اله الاّ الله)) الا مفتاح يفتح ذلك النور.

ثم ان الانسان تتحكم فيه النفس والهوى والوهم والشيطان وتستغل غفلته وتحتال عليه لتضيق الخناق على ايمانه، حتى تسد عليه منافذ النور الايماني بنثر الشبهات والاوهام. فضلاً عن انه لا يخلو عالم الانسان من كلمات واعمال منافية لظاهر الشريعة، بل تعد لدى قسم من الائمة في درجة الكفر.

لذا فهناك حاجة الى تجديد الايمان في كل وقت، بل في كل ساعة، في كل يوم.

سؤال: ان علماء الكلام يثبتون التوحيد بعد ظهورهم ذهناً على العالم كله الذي جعلوه تحت عنوان الامكان والحدوث. وان قسماً من اهل التصوف لاجل ان يغنموا بحضور القلب واطمئنانه قالوا: ((لامشهود الا هو)) بعد أن ألقوا ستار النسيان على الكائنات. وقسم آخر منهم قالوا: ((لاموجود الا هو)) وجعلوا الكائنات في موضع الخيال وألقوها في العدم ليظفروا بعد ذلك بالاطمئنان وسكون القلب. ولكنك تسلك مسلكاً مخالفاً لهذه المشارب وتبين منهجاً قويماً من القرآن الكريم وقد جعلت شعار هذا المنهج: ((لامقصود الا هو.. لامعبود الا هو)). فالرجاء ان توضح لنا باختصار برهاناً واحداً يخص التوحيد في هذا المنهج القرآني.

الجواب: ان جميع ما في ((الكلمات)) و ((المكتوبات)) يبين ذلك المنهج القويم.

اما الآن فأشير اشارة مختصرة جداً نزولاً عند رغبتكم الى حجة واحدة من حججه العظيمة والى برهان واسع طويل من براهينه الدامغة.

ان كل شئ في العالم، يسند جميع الاشياء الى خالقه.. وان كل أثر في الدنيا يدل على ان جميع الآثار هي من مؤثره هو.. وان كل فعل ايجادي في الكون يثبت ان جميع الافعال الايجادية انما هي من افعال فاعلها هو.. وان كل اسم من الاسماء الحسنى الذي يتجلى على الموجودات يشير الى ان جميع الاسماء انما هي لمسماه هو.. اي ان كل شئ هو برهان وحدانية واضح، ونافذة مطلة على المعرفة الالهية.

نعم، انه ما من أثر، ولاسيما الكائن الحي، الا هو مثال مصغر للكائنات، وبمثابة نواة للعالم، وثمرة للكرة الارضية. لذا فخالق ذلك المثال المصغر والنواة والثمرة لابد أن يكون هو ايضاً خالق الكائنات برمتها، ذلك لانه لايمكن أن يكون موجد الثمرة غير موجد شجرتها.

لذا فان كل أثر مثلما يُسند جميع الآثار الى مؤثّره، فان كل فعل ايضاً يُسند جميع الافعال الى فاعله. لاننا نرى ان اي فعل ايجادي كان، وهو يبرز طرفاً من قانون خلاقية يسع الكون كله ويمتد حكمه وطوله من الذرات الى المجرات. اي ان مَن كان صاحب ذلك الفعل الايجادي الجزئي وفاعله لابد ان يكون هو ايضاً فاعل جميع الافاعيل التي ترتبط بالقانون الكلي المحيط بالكون الواسع من الذرات الى الشموس.

فالذي يحيي بعوضة لابد أن يكون هو المحيي لجميع الحشرات بل جميع الحيوانات بل محيي الارض كلها.

ثم ان الذي يجعل الذرات تدور بجذبة حب كالمريد المولوي لابد أن يكون هو ايضاً ذلك الذي يحرك الموجودات جميعاً تحريكاً متسلسلاً حتى الشمس بسياراتها. لان القانون الساري في الموجودات هو سلسلة ـ تشد جميعها بعضها ببعض ـ والافعال مرتبطة به.

بمعنى ان كل أثر يسند جميع الآثار الى مؤثره هو، كما ان كل فعل ايجادي يسند جميع الافعال الى فاعله هو. كما ان كل اسم يتجلى على الكائنات يسند جميع الاسماء الى مسماه ويثبت أنها جميعاً عناوينه. ذلك لان الاسماء المتجلية في الكون متداخل بعضها في بعض كالدوائر المتداخلة والوان الضوء السبعة. كل منها يسند الآخر ويمده، كل منها يكمل اثر الآخر ويزينه.

فمثلاً: ان اسم ((المحيي)) عندما يتجلى لشئ وحالما يمنح شيئا الحياة يتجلى اسم ((الحكيم)) ايضاً فينظم جسد ذلك الكائن الحي الذي هو مأوى روحه، وفي الوقت نفسه يتجلى اسم ((الكريم)) فيزين ذلك العش والمأوى، وآنئذ يتجلى اسم ((الرحيم)) ايضاً فيهيئ حاجات ذلك الجسد، وفي الوقت نفسه يتجلى اسم ((الرزاق)) فيمنح ما يلزم ذلك الحي من ارزاق مادية ومعنوية ومن حيث لايحتسب، وهكذا...

اي: لمن يعود اسم ((المحيي)) فان له ايضاً اسم ((الحكيم)) الذي ينير الكون ويحيط به، وان له ايضاً اسم ((الرحيم)) الذي يربي الكائنات بالرحمة والشفقة. وان له ايضاً اسم ((الرزاق)) الذي يغدق على الكائنات.. وهكذا...

بمعنى ان كل اسم ، وكل فعل، وكل أثر، برهان وحدانية، وختم توحيد، وخاتم احدية بحيث يدل على ان الكلمات التي هي الموجودات المسطورة في صحائف الكون وفي سطور العصور انما هي كتابة قلم نقاشه ومصوره جل وعلا.

اللهم صل على من قال: (افضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا اله الاّ الله)(1) وعلى آله وصحبه وسلم.

المسألة الخامسة

ثانياً: تسألون ياأخي في رسالتكم عن كفاية (( لا اله الاّ الله)) فحسب، اي من دون ذكر ((محمد رسول الله)) في جعل المرء من اهل النجاة.

ان جواب هذا السؤال طويل، الاّ اننا نقول الآن:

ان كلمتي الشهادة لاتنفك احداهما عن الاخرى ولاتفترقان، بل تثبت احداهما الاخرى وتتضمنها، فلا تكون احداهما الاّ بالاخرى.

وحيث ان الرسول e هو خاتم الانبياء عليهم السلام، ووارث جميع المرسلين، فلاشك انه في مقدمة كل الطرق الموصلة الىاللهوفي رأسها، فليست هناك طريق حقة ولاسبيل نجاة غير جادته الكبرى وصراطه المستقيم.

ويقول جميع أئمة اهل المعرفة والتحقيق ما يعبّر عنه سعدي الشيرازي شعراً:

مُحَالَست سَعدي بَراهِ نَجَاتْ ظَفَر بُردَنْ جُزْ دَربىِ مُصطفى

(اي: من المحال ان يظفر أحد بطريق السلامة والصفاء من دون اتباع المصطفىe ).. وكذا قالوا: ان كل الطرق مسدودة الاّ المنهاج المحمدي.

ولكن قد يكون احياناً ان بعضهم يسلكون الجادة الاحمدية ولكنهم لايعلمون انها جادة احمدية او انها داخلة ضمنها.

وقد يكون احياناً انهم لايعرفون النبي e ولكن الطريق التي يسلكونها هي جزء من الجادة الاحمدية.

وقد يكون احياناً انهم لايفكرون في الجادة المحمدية مكتفين: بـ((لا اله الاّ الله)) إما بسبب من حالة الجذب او الاستغراق او بسبب وضع من اوضاع الانزواء والعزلة.

ومع هذا فان اهم جهة في هذه الامور هي:

ان عدم القبول شئ وقبول العدم شئ آخر. فان أمثال هؤلاء من اهل الجذب والعزلة او ممن لم يسمع او لايعلم وامثالهم ممن لايعرفون النبي e او لايتفكرون فيه ليقبلوه ويرضوا به فانهم يظلون جاهلين في تلك النقطة ولايعرفون غير (( لا اله الاّ الله)) في معرفة الله ، فهؤلاء ربما يكونون من اهل النجاة، ولكن الذين سمعوا بالنبي e وعرفوا دعوته، ان لم يصدّقوه يكونون من الذين يعرفون الله ولا يؤمنون به، لان قول: ((لا اله الاّالله)) لا يفيد لأمثال هؤلاء التوحيد الذي هو سبب النجاة، حيث ان تلك الحالة ليست حالة ناشئة من عدم قبول نابع من الجهل والذي يُعدّ عذراً، بل هو قبول العدم، وهو انكار. فالذي ينكر محمداً عليه الصلاة والسلام وهو مدار فخر الكون وشرف البشرية بمعجزاته وآثاره الجليلة، لاشك انه لاينال نوراً قط ولايكون مؤمناً بالله.

وعلى كل حال نكتفي بهذا القدر.

المسألة السادسة

ثالثاً: لقد جاءت تعابير ممجوجة تخص مسلك الشيطان، وذلك في المحاورة الجارية مع الشيطان في المبحث الاول. وعلى الرغم من تعديلها وتخفيفها بكلمة ((حاش لله، وكلا...)) وابرازها على صورة فرض محال فان فرائصي ارتعدت من هولها.

ثم ان هناك تعديلات طفيفة في القسم الذي اُرسل اليكم، فهل صححتم نسختكم في ضوئه؟ فاني أنيبكم واُوكل ذلك اليكم، فتستطيعون حذف تعابير ترونها زائدة.

اخي العزيز !

ان ذلك المبحث مهم للغاية، لان استاذ الزنادقة هو الشيطان، فان لم يلزم الشيطان الحجة ولم يفحم بالبينة، لايقنع مقلّدوه ولايرضحون.. ولقد استعمل القرآن الحكيم بعض تعابير الكفار القبيحة في معرض الرد عليها، مما أعطاني الجرأة لاظهار تفاهة هذا المسلك الشيطاني وفساده كلياً. وقد استعملت ـ وانا ارتعد ـ تلك التعابير التي تنم عن الحماقة التي اضطر حزب الشيطان الى قبولها واستعمالها بمقتضى مسلكهم، والتي يتفوهون بها لامحالة بلسان مسلكهم، فذكرتها في صورة فرض المحال لبيان فساد مسلك الشيطان فساداً كلياً. وقد حصرتهم بذلك الاستعمال في قعر البئر واستولينا على الميدان كله وجعلناه ملكاً للقرآن وفي سبيله. وكشفنا عن خباياهم واباطيلهم فانظر الى هذا الفوز من خلال هذا التمثيل:

نفرض ان هناك منارة عالية تناطح السماء، وتحتها مباشرة بئر عميقة قعرها في مركز الارض، وثمة فريقان من الناس يتناقشان حول اثبات موقع المؤذن الذي يبلغ صوته الى الناس كافة في البلاد كلها. اي: في اي مرتبة من درجات سلم المنارة يقف المؤذن، اعتباراً من السماء الى مركز الارض؟.

يقول الفريق الاول: ان المؤذن في قمة المنارة، يرفع الاذان من هناك. ويُسمع العالم أجمع. لاننا نسمع ذلك الاذان العلوي الندي، وعلى الرغم من ان كل واحد منا لايستطيع رؤيته هناك الاّ ان كلاً منا يراه حسب درجته اثناء صعوده ونزوله من المنارة.

ومن ذلك يُعلم ان ذلك المؤذن يصعد المنارة، واينما كان موقعه فهو صاحب مقام عالٍ.

اما الفريق الآخر، وهو فريق الشيطان الاحمق، فيقول:

- كلا، ان موقع المؤذن في قعر البئر وليس في قمة المنارة، اينما شوهد. علماً انه لم يشاهده أحد أصلاً في قعر البئر ولايستطيع رؤيته هناك الاّ إن كان حجراً ثقيلاً لاإرادة له، عندئذ فقط يمكن رؤيته هناك.

وبعد، فان ميدان نقاش وصراع هاتين الفئتين المتعارضتين، هو المسافة الممتدة من قمة المنارة الى قعر البئر.

فجماعة اهل النور وهم حزب الله؛ يبينون موقع ذلك المؤذن في قمة المنارة لمن كان نظره يرقى الى هناك، ويبينون ان له مرتبة رفيعة في درجات سلم المنارة لقاصري النظر الذين لايرقى نظرهم الى الدرجات الرفيعة. اي يبينون مرتبته الرفيعة كل حسب اُفق نظره ومداه. لذا فان أمارة صغيرة تكفيهم وتثبت لهم ان ذلك المؤذن الفاضل ليس جسماً كالحجر الجامد، بل هو كالانسان الكامل يستطيع ان يصعد الى اعلى المراتب وان يشاهد وهو يرفع الاذان من هناك.

اما الفئة الاخرى ؛ وهم حزب الشيطان، فيقولون: اما ان تظهروه لنا وهو في قمة المنارة، او ان مقامه في قعر البئر. فيحكمون هذا الحكم بحماقة غير متناهية.

فهم لايعلمون ـ لحماقتهم ـ ان عدم ظهوره لكل الناس في قمة المنارة ناشئ من عجز نظر الناس عن الارتفاع الى تلك المرتبة، ثم انهم يريدون ان يغالطوا ليسيطروا على المسافة كلها باستثناء قمة المنارة.

ولاجل فض المناقشة بين الفئتين، اندفع احدهم في الميدان وخاطب حزب الشيطان قائلاً:

ايتها الجماعة المشؤومة، ان كان مقام ذلك المؤذن العظيم في قعر البئر للزم ان يكون جامداً كالحجر لاحياة فيه ولاقوة، ولما كان يشاهد في اية مرتبة من مراتب المنارة او البئر. ولكن وما دمتم تشاهدونه في كل المراتب، فلاشك الاّ يكون جامداً لاحقيقة له ولاحياة، بل لابد أن يكون مقامه قمة المنارة. لذا فاما ان تظهروه في قعر البئر ـ وهذا ما لاتقدرون عليه قطعاً ولاتستطيعون ان تقنعوا به احداً ابداً ـ او ألزموا الصمت، فان ميدان دفاعكم محصور في قعر البئر. اما بقية الميدان والمسافة الطويلة فانها تخص هذه الجماعة، الجماعة المباركة فانهم اينما أظهروه، سوى قعر البئر، فهم يكسبون القضية.

وهكذا فان مبحث المناظرة مع الشيطان شبيه بهذا التمثيل، فانه يأخذ الميدان الممتد من العرش الى الفرش، من يد حزب الشيطان ويحصرهم في اضيق مكان وهو قعر البئر، ويقحمهم في اضيق ثقب لايمكنهم الدخول فيه، بل هو محال وغير معقول قطعاً، وفي الوقت نفسه يستولي على المسافة كلها باسم القرآن الكريم.

فان قيل لهم: كيف ترون مرتبة القرآن؟

فسيقولون: كتاب انساني يرشد الى الاخلاق الحسنة، وعندها يقال لهم:

اذن هو كلام الله، اذ انتم مضطرون الى قبول هذا، لأنكم لاتستطيعون القول بـ((حسن)) حسب مسلككم.

وكذا ان قيل لهم: كيف تعرفون الرسول e ؟

فسيقولون: انه انسان ذو اخلاق حسنة وعقل راجح، وعندها يقال لهم:

اذاً عليكم الايمان به، لانه إن كان ذا اخلاق حسنة، وعقل راجح فانه رسول الله، لأن قولكم ((حسن)) لايوجد في مسلككم..

وهكذا يمكن تطبيق سائر جهات الحقيقة على بقية اشارات التمثيل.

فبناءاً على هذا:

فان ذلك المبحث الاول الذي يتضمن المناظرة مع الشيطان ينجي ايمان اهل الايمان بأدنى أمارة واصغر دليل دون ان يكونوا بحاجة الى معرفة المعجزات الاحمدية ببراهينها القاطعة.

اذ ان كل حال من الاحوال الاحمدية، وكل خصلة من الخصال المحمدية، وكل طور من الاطوار النبوية بمثابة معجزة من معجزاته e تبين وتثبت ان مقامه في اعلى عليين وليس في قعر البئر البتة.

المسألة السابعة

مسألة ذات عبرة:

لقد اضطررت الى بيان اكرام رباني وحماية الهية يخصان خدمة القرآن وحدها. بدلالة سبع امارات تشدّ القوة المعنوية لقسم من اصحابي الذين تعرضوا للشبهات واصابهم الفتور في العمل للقرآن. وذلك لكي أنقذ بعض اصحابي من مرهفي الاعصاب الذين يتأثرون بسرعة.

فالامارات السبعة، اربعة منها تعود لاشخاص كانوا اصدقاء واصحاب اتخذوا طور العداء لكوني خادماً للقرآن وليس لشخصي بالذات. وتلبسوا بهذا الطور لمقاصد دنيوية، فتلقوا الصفعات خلاف مقصودهم.

اما الامارات الثلاث الباقية فتعود لافراد كانوا اصدقاء ومخلصين حقيقيين، وهم لايزالون كذلك. الاّ انهم لم يُظهروا طور الرجولة والشهامة ـ الذي يقتضيه الوفاء والاخوة ـ كسباً لودّ اهل الدنيا واعجابهم بهم، وليغنموا مغنماً دنيوياً ويسلموا من المصائب والبلايا. ولكن اصحابي الثلاثة هؤلاء تلقوا عتاباً ـ مع الاسف ـ خلاف مقصودهم.

الشخص الاول: ممن كانوا اصدقاء في الظاهر ثم بدر منهم طور العداء، هو مدير مسؤول، طلب مني نسخة من كتاب (الكلمة العاشرة) بتوسل وإلحاح وبعدة وسائط، فاعطيته إياها، الاّ انه تقلد طور العداء وترك صداقتي علّه يترقى في الوظيفة، وسلّم الرسالة الى الوالي في صورة شكوى وإخبار عني، ولكنه عُزل من الوظيفة بدلاً من الترقي فيها، كأثر ٍمن آثار الاكرام الإلهي لخدمة القرآن.

الثاني: مدير مسؤول آخر، كان صديقاً، ولكنه اتخذ طور العداء والمنافس لالشخصي بالذات، وانما لكوني خادماً للقرآن الكريم، وذلك ليرضي رؤساءه، وليكسب اقبال اهل الدنيا وتوجههم نحوه، الاّ انه قوبل بلطمة خلاف مقصوده، فحكم في قضية لم تخطر له على بال، ثم رجا دعاءً من خادم للقرآن، فلعل الله ينجيه، فلقد دعي له.

الثالث: معلم مدرسة، كان صديقاً لنا في الظاهر، فاظهرتُ له وجه الصداقة الخالصة. الاّ انه اتخذ طور العداء ليُنقل الى ((بارلا)) فتلقى لطمة، خلاف مقصوده، اذ سيق الى الجندية فاُبعد عن ((بارلا)).

الرابع: معلم مدرسة، كنت أراه متديناً وحافظاً للقرآن الكريم فاظهرت له وجه الصداقة الخالصة، لعل اللهيرزقه العمل للقرآن، الاّ انه ـ بمجرد كلام من موظف مسؤول ـ اتخذ موقفاً متخاذلاً ومجافياً لنا لينال توجّه اهل الدنيا له، فجاءته لطمة تأديب خلاف مقصوده، اذ وبخّه مفتشه توبيخاً شديداً، ثم عُزل عن الوظيفة.

ان هؤلاء الاربعة ذاقوا لطمة تأديب لاتخاذهم طور العداء لخدمة القرآن.

اما الثلاثة الآخرون من اصدقائي الحقيقيين فقد تلقوا تنبيهاً ـ لا لطمة ـ لعدم اتخاذهم طور الرجولة والشهامة التي تقتضيها الصداقة والوفاء.

الاول: هو احد طلابي الجادين المخلصين الحقيقيين الذين حازوا اهمية (في الخدمة القرآنية) وهو شخص موقر فاضل كان يكتب (الكلمات) باستمرار وينشرها، الاّ انه خبأ (الكلمات) التي كتبها وترك الاستنساخ موقتاً بسبب مجئ مسؤول كبير غريب الاطوار ولوقوع حادثة معينة، وذلك لئلا يجابه عنتاً من اهل الدنيا ولايجد الضيق منهم، وليأمن شرهم.

والحال ان التقصير الناجم عن تعطيل العمل للقرآن أورثه ان يوضَع نصب عينيه دفع غرامة ألف ليرة لسنة كاملة، الاّ انه حالما نوى الاستنساخ وعاد الى وضعه السابق، تبرأ من تلك الدعوى المقامة عليه، وبرئت ساحته ولله الحمد، ونجا عن دفع ألف ليرة، وهو فقير الحال.

الثاني: صديق وفيّ شجاع شهم كان جاري منذ خمس سنوات، الاّ انه لم يلقني لبضعة اشهر، ولم يزرني حتى في شهر رمضان والعيد تهاوناً منه، وذلك لكسب توجه اهل الدنيا له ونيل رضاهم عنه، ولاسيما المسؤول الذي أتى حديثاً، لكن خاب أمله، ولقى خلاف مقصوده، اذ لم يعد لهذا المسؤول نفوذ كالسابق، حيث انتهت مسألة القرية.

الثالث: حافظ للقرآن، كان يزورني مرة او مرتين في الاسبوع، عيّن اماماً في جامع، وتركني ليتمكن من لبس العمامة، ولم يأتني حتى في العيد، الاّ انه لم يلبسها ـ خلافاً للعادة ـ وبعكس مقصوده، رغم انه ادّى الامامة زهاء ثمانية شهور.

وامثال هذه الحوادث كثيرة جداً، لاأذكرها لئلا أجرح شعور البعض، ولكنها مهما كانت حوادث منفردة قد تعد امارات ضعيفة الاّ ان اجتماعها تشعر بالقوة وتورث القناعة والاطمئنان ؛ باننا نعمل في ظل إكرام الهي وتحت رعاية ربانية من حيث خدمة القرآن الكريم، وليس من جهة شخصي بالذات، اذ لا أجد في نفسي ما يليق بأي إكرام إلهي مهما كان.

فعلى أصحابي الاحباب ان يدركوا هذا جيداً، والاّ يبالوا بالشبهات والاوهام. واني ابينها لهم خاصة لأن الاكرام اكرام إلهي من حيث الخدمة القرآنية، وان الامر ليس للفخر بل هو شكر لله. فالامر الالهي صريح في قوله تعالى:

} واما بنعمة ربك فحدث{ (الضحى:11) .



المسألة الثامنة

سؤال المثال الثالث من النقطة الثالثة للسبب الخامس من الاسباب المانعة للاجتهاد في الوقت الحاضر من الكلمة السابعة والعشرين

سؤال مهم: يقول بعض اهل العلم والتحقيق:

لما كانت الالفاظ القرآنية، والاذكار المأثورة، والتسبيحات الواردة، تنور شتى جوانب اللطائف المعنوية للانسان وتغذيه روحياً، الا يكون من الافضل ان يصوغ كل قوم تلك الالفاظ وفق لسانهم الخاص حتى تفهم معانيها؟ اذ الالفاظ وحدها لا تفي بالغرض المطلوب إذ هي في حقيقتها ألبسة وقوالب للمعاني؟

الجواب: ان الفاظ الكلمات القرآنية، والتسبيحات النبوية، ليس لباساً جامداً يقبل التبديل والتغيير وانما مثله مثل الجلد الحي للجسد، بل انها اصبحت فعلاً جلداً حياً بمرور الزمن، ولا جدال في ان تبديل الجلد وتغييره يضر الجسم.

ثم ان تلك الكلمات المباركة في الصلاة، والذكر، والاذان، اصبحت إسما و عَلَما لمعانيها العرفية والشرعية ولا يمكن تبديل الاسم والعلَم.

ولقد توصلتُ الى هذه الحقيقة، بعد التأمل والامعان في حالة مرت عليَّ، وهي:

عندما كنت أقرأ يوم يوم عرفة سورة الاخلاص مائة مرة مكرراً اياها باستمرار لاحظت:

ان قسماً من حواسي الروحية اللطيفة، بعدما اخذت غذاءها بالتكرار قد ملت وتوقفت؛ وان قوة التفكير فيّ قد توجهت الى المعنى، فأخذت حظها، ثم توقفت وملّت. وان القلب الذي يتذوق المعاني الروحية ويدركها، هو ايضاً قد سكت، بعدما اخذ نصيبه من التكرار.

بينما بالمواظبة والتكرار المستمر على القراءة رأيت ان قسماً من اللطائف في الكيان الانساني لا يمل بسرعة، فلا تضره الغفلة التي تضر قوة التفكير، بل انه يستمر ويداوم في اخذ حظه بحيث لا يدع حاجة الى التدقيق والتفكر في المعنى، اذ يكفيه المعنى العرفي الذي هو اسمٌ وعلَم، ويكفيه اللفظ والمعنى الاجمالي لتلك الالفاظ الغنية المشبعة. بل ربما يورث سآمة ومللاً حينما يبدأ التفكر يتوجه الى المعنى، ذلك لان تلك اللطائف لا تحتاج الى تعلّم وتفهيم بقدر ما هي بحاجة الى التذكر والتوجيه والحث.

لذا فان اللفظ الذي هو اشبه بالجلد يكفي لتلك اللطائف وفي اداء وظيفة المعنى، وخاصة ان تلك الالفاظ العربية هي مبعث فيض دائم، اذ تذكر بالكلام الإلهي والتكلم الرباني.

فهذه الحالة التي جربتها بنفسي تبين لنا:

ان التعبير باي لغة كانت غير اللغة العربية، عن حقائق الاذان وتسبيحات الصلاة، وسورة الاخلاص والفاتحة التي تتكرر دائما، ضار جداً. ذلك لان اللطائف الدائمة تبقى محرومة من نصيبها الدائم بعدما ان تفقد المنابع الحقيقية الدائمية التي هي الالفاظ الإلهية والنبوية. فضلاً عن انه يضيع في الاقل عشر حسنات لكل حرف. ولعدم دوام الطمأنينة والحضور القلبي لكل واحد في الصلاة، تبعث التعابير البشرية المترجمة عند الغفلة ظلمتها في الروح.. وامثالها من الاضرار الاخرى.

نعم، فكما قال الامام ابو حنيفة رضي الله عنه ان: (لا إله إلا الله) علم للتوحيد. كذلك نقول:

ان الاكثرية المطلقة لكلمات التسبيحات والاذكار وخاصة كلمات الاذان والصلاة والذكر، اصبحت بمثابة الاسم والعَلَم، فتُنظر الى معانيها العرفية الشرعية اكثر من النظر الى معانيها اللغوية، لذا لا يمكن شرعاً تبديلها مطلقاً.

اما معانيها التي لابد ان يفهمها كل مؤمن، فان اي شخص عامي يمكنه ان يفهم ويتعلم مجمل معانيها في اقصر وقت. فكيف يعذر ذلك المسلم الذي يقضي عمره مالئاً فكره وعقله بما لا يعنيه من الامور ولا يصرف جزءاً ضئيلاً من وقته لفهم تلك المعاني التي هي مفاتيح حياته الابدية وسعادته الدائمة. بل كيف يعتبر من المسلمين وكيف يقال عنه انه انسان عاقل!!

فهل من العقل في شئ ان تفسد تلك الالفاظ التي هي مستودع منابع تلك الانوار لاجل تقاعس هؤلاء الكسالى؟!

ثم انه عندما يقول أي مؤمن، بأي لغة يتكلم: ((سبحان الله)) فانه يعلم انه يقدس ربه جل وعلا.. الا يكفي هذا القدر؟! بينما اذا حصر اهتمامه بالمعنى المجرد، بلسانه الخاص، فانه لا يتعلم الا حسب تفكيره وعقله، الذي يأخذ حظه ويفهم مرة واحدة، والحال انه يكرر تلك الكلمة المباركة اكثر من مائة مرة يومياً ففضلاً عن ذلك الفهم العقلي فان المعنى الاجمالي الذي سرى في اللفظ وامتزج معه هو مبعث انوار وفيوضات كثيرة جداً، ولاسيما ان تلك الالفاظ العربية لها اهميتها وقداستها وانوارها وفيوضاتها، حيث انها كلام إلهي.

ومجمل القول: انه لا يمكن ان يقوم مقام الالفاظ القرآنية التي هي محافظ ومنابع للضروريات الدينية اي لفظ آخر، ولا يمكن لاي لفظ آخر ان يحل محلها قطعاً، ولا ان يؤدي الغرض منها لقدسيتها، وسموها، ودوامها، وان ادى مؤقتاً جزءاً ضئيلاً منها. اما الامور الدينية من غير الضروريات فليس هناك حاجة الى تبديل الفاظها ايضاً لان تلك الحاجة تندفع بالمواظبة على النصيحة والارشاد والوعظ.

والنتيجة: ان شمولية اللغة العربية الفصحى وسعتها، والبيان المعجز في الالفاظ القرآنية، تحولان دون ترجمة تلك الالفاظ، ولذلك لا يمكن ترجمتها قطعاً، بل انه محال. ومن كان يساوره الشك في هذا فليراجع (الكلمة الخامسة والعشرين) في المعجزات القرآنية ليرى منزلة الآية الكريمة باعجازها وتشعبها وشمولها وجمالها ومعناها الرفيع واين منها ((الترجمة)) التي هي معنى مبتور بل ناقص وقاصر.

المسألة التاسعة

مسألة مهمة خاصة تكشف سراً من اسرار الولاية

ان اهل الحق والاستقامة الذين يطلق عليهم ((اهل السنة والجماعة، وهم يمثلون الغالبية العظمى في العالم الاسلامي، قد قاموا بحفظ حقائق القرآن والايمان كما هي على محجتها البيضاء الناصعة، وذلك باتباعهم السنة الشريفة بحذافيرها كما هي، دون نقص أو زيادة، فنشأت الاكثرية المطلقة من الاولياء الصالحين من هذه الجماعة. ولكن شوهد أولياء آخرون في طريق تخالف أصول أهل السنة والجماعة، وخارجة عن قسم من دساتيرهم، فانقسم الناظرون في شأن هؤلاء الاولياء الى قسمين:

الاول:

هم الذين انكروا ولايتهم وصلاحهم، وذلك لمخالفتهم اصول اهل السنة والجماعة بل قد ذهبوا الى أبعد من الانكار، حيث كفّروا عدداً منهم.

أما الاخر:

فهم الذين اتبعوهم وأقروا ولايتهم، ورضوا عنهم، لذا قالوا:إن الحق ليس محصوراً في سبيل اهل السنة والجماعة. فشكلوا بهذا القول فرقة مبتدعة وانساقوا الى الضلال. ناسين أن المهتدي لنفسه ليس من الضروري ان يكون هادياً لغيره، ولئن كان شيوخهم يُعذرون على ما ارتكبوا من أخطاء لأنهم مجذوبون، الا انهم لا يعذرون في اتباعهم لهم.

وهناك قسم ثالث:

سلكوا طريقاً وسطاً، حيث لم ينكروا ولاية اولئك الاولياء وصلاحهم، الا أنهم لم يرضوا بطريقتهم ومنهجهم، وقالوا: ان ما تفوهوا به من الاقوال المخالفة للاصول الشرعية، اما انها ناشئة عن غلبة الاحوال عليهم مما جعلهم يخطئون، أو انها شطحات شبيهة بالمتشابهات التي لا تعرف معانيها ولا تفهم مراميها.

فالقسم الاول ولاسيما علماء اهل الظاهر قد انكروا ولاية كثير من اولياء عظام - مع الاسف - وذلك بنية الحفاظ على طريق اهل السنة، بل ذهبوا مضطرين الى الحكم بضلالهم تحدوهم تلك النية.

أما الآخرون المؤيدون لهم، فقد تركوا طريق الحق وأداروا ظهورهم لها، لما يحملون من حسن الظن المفرط بشيوخهم، بل حصل انجراف قسم منهم الى الضلال فعلاً.

وبناء على هذا السر، فقد كانت هناك حالة تشغل فكري كثيراً وهي:

انني دعوت الله بهلاك قسم من اهل الضلال في وقت مهم، ولكن قوة معنوية رهيبة صدت دعائي عليهم، وردّت عليّ ذلك الدعاء، ومنعتني من القيام بمثله. ثم رأيت ان ذلك القسم من ارباب الضلال انما يوغلون في اجراءاتهم الباطلة ويتمادون في مجانبة الحق، ويجرون الناس خلفهم الى الهاوية بتيسير وتسهيل من قوة معنوية، فيوفــّقون في أعمالهم لا بالاكراه وحده بل ينساق ايضاً قسم من المؤمنين وينخدعون بهم لامتزاجهم بميل من جانب قوة الولاية، فيسامحهم هؤلاء المؤمنون ولا يرونهم على فساد كبير!

وحينما شعرت بهذين السرين تملكتني دهشة ورهبة، فقلت متعجباً:

يا سبحان الله! هل يمكن ان تكون ولاية في غير طريق الحق؟ وهل يمكن ان يوالي أهل الحقيقة والولاية تيار ضلالة رهيبة؟

ثم كان في يوم مبارك من أيام عرفة المشهودة، اذ قرأت سورة الاخلاص مائة مرة وكررتها مرات ومرات اتباعاً لعادة اسلامية مستحسنة، فوردت الى قلبي العاجز من لدن الرحمة الإلهية ببركة تلك القراءة، الحقيقةُ الآتية فضلاً عما ورد من ((جواب عن مسألة مهمة)):

والحقيقة هي:

ان قسماً من الاولياء مع ما يبدو منهم من حصافة ورشد، ولهم محاكمات عقلية منطقية الا انهم مجذوبون. فهم اشبه بـ ((جبالى بابا)) الذي تروى قصته عن زمن السلطان محمد الفاتح، تلك القصة المشهورة ذات العبرة(1).

وان قسماً آخر من الأولياء مع انهم ضمن نطاق العقل والصحو والرشاد، الا انهم يتلبسون احياناً حالات خارجة عن طور العقل والمحاكمات المنطقية. وان صنفاً من هذا القسم هم أهل التباس، أي يلتبس عليهم الأمر فلا يميزون، اذ ما يرونه من مسألة ما في حالة السكر يطبقونه في حالة الصحو. فيخطئون ولا يدركون انهم يخطئون.

أما المجذوبون، فقسم منهم محفوظون عند الله، لا يضلون ولا ينساقون مع أهله، بينما قسم آخر منهم ليسوا محفوظين عند الله، فلربما يكونون ضمن فرق اهل البدعة والضلالة، بل هناك احتمال ان يكونوا ضمن الكفار.

وهكذا. فلأنهم مجذبون - سواء أكانوا بصورة مؤقتة أم دائمة - فهم في حكم مجانين طيبين مباركين - اي ينسحب عليهم حكمهم - ولأنهم مجانين مباركين طليقون في تصرفاتهم فليسوا مكلفين، ولأنهم غير مكلفين فلا يؤاخذون على تصرفاتهم. فمع ان ولايتهم المجذوبة محفوظة يوالون أهل البدع فيروجون مسالكهم الى حد ما ويكونون سبباً سيئاً مشؤوماً في دخول قسم من المؤمنين واهل الحق في ذلك المسلك.

المسألة العاشرة

كتبتْ هذه المسألة بناء على تذكير بعض الأصدقاء في بناء قاعدة تخص الزائرين

ليكن معلوماً لدى الجميع، ان الذي يزورنا اما انه يأتي الينا لأجل امور تخص الحياة الدنيا. فذلك الباب مسدود.

او أنه يأتي الينا من حيث الحياة الآخرة. ففي تلك الجهة بابان: فاما انه يتصور انني رجل مبارك صاحب مقام عند الله ولأجل هذا يأتي الينا، هذا الباب ايضاً مسدود. اذ لا تعجبني نفسي ولا يعجبني من يعجب بي. فحمداً لله اجزل حمد اذ لم يجعلني راضياً عن نفسي.

أما الجهة الاخرى فهو يأتي الينا لكوني خادماً للقرآن ودلالاً له وداعياً اليه ليس إلاّ. فمرحباً واهلاً وسهلاً وعلى العين والرأس لمن يأتينا من هذا الباب.

وهؤلاء ايضاً على ثلاثة انماط.

فاما انه صديق، او انه اخ، او انه طالب.

فخاصية الصديق وشرطه:

ان يكون مؤيداً تأييداً جاداً لعملنا في نشر الانوار القرآنية (رسائل النور)، وان لا يميل الى الباطل والبدع والضلالة قلباً، وان يسعى ايضاً ليفيد نفسه.

وخاصية الاخ وشرطه:

ان يكون ساعياً سعياً حقيقياً وجاداً لنشر الرسائل، فضلاً عن ادائه الصلوات الخمس، واجتنابه الكبائر السبع.

وخاصية الطالب وشرطه:

ان يعد رسائل النور كأنها من تأليفه هو، وانها تخصه بالذات، فيدافع عنها وكأنها ملكه، ويعتبر نشر تلك الانوار والعمل لها اجلّ وظيفة لحياته.

فهذه الطبقات الثلاث تتعلق بالجوانب الثلاث لشخصيتي.

فالصديق يرتبط بشخصيتي الذاتية. والاخ يرتبط بشخصيتي العبدية اي كوني اؤدي مهمة العبودية لله سبحانه. اما الطالب فهو يرتبط بي من حيث كوني داعياً ودلالاً للقرآن الحكيم ومرشداً اليه.

وهذا النوع من اللقاء له ثلاث ثمرات:

الاولى:

اخذه لجواهر القرآن درساً مني او من رسائل النور ولو كان درساً واحداً، هذا من حيث الدعوة الى القرآن.

الثانية:

يكون مشاركاً لي في ثوابي الاخروي. وهذا من حيث العبودية لله.

الثالثة:

نتوجه معاً الى الرحمة الإلهية مرتبطين قلباً متساندين في خدمة القرآن ونسأله التوفيق والهداية.

فان كان طالباً فهو حاضر معي صباح كل يوم باسمه واحياناً بخياله.

وان كان اخاً فهو حاضر معي في دعائي على دفعات باسمه وبصورته فيشاركني في الثواب و الدعاء ثم يكون ضمن جميع الاخوان واسلّمه الى الرحمة الإلهية، اذ عندما اقول في ذلك الدعاء: اخوتي واخواني، فهو منهم، ان لم اكن اعرفه انا بالذات فالله اعلم به وابصر.

وان كان صديقاً فهو داخل ضمن دعائي باعتباره من الاخوة عامة اذا ما ادّى الفرائض واجتنب الكبائر.

وعلى هؤلاء الطبقات الثلاث ان يجعلوني ضمن كسبهم الاخروي ايضاً.



اللهم صل على من قال: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بـعضه بعضاً وعلى آله وصحبه وسلم.

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{

(وقالوا الحمد لله الذي هدينا لهذا وما كنا لنهتدي لولا ان هدينا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق).

اللهم يا من اجاب نوحاً في قومه، ويا من نصر ابراهيم على اعدائه، ويا من ارجع يوسف الى يعقوب، ويا من كشف الـضر عن ايوب، ويا من اجاب دعوة زكريا، ويا من تقبّل يونس ابن متى..

نسألك باسرار اصحاب هذه الدعوات المستجابات ان تحفظني وتحفظ ناشر هذه الرسائل ورفقاءهم من شر شياطين الانس والجن.

وانصرنا على اعدائنا

ولا تكلنا الى انفسنا

واكشف كربتنا وكربتهم

واشف امراض قلوبنا وقلوبهم

آمين.آمين .آمين

المكتوب السابع والعشرون



هذا المكتوب يضم رسائل لطيفة جميلة وعين الحقيقة كتبها مؤلف رسائل النور وبعثها الى طلابه، علاوة على رسائل بعثها طلاب رسائل النور الى استاذهم، واحياناً بعضهم الى بعض، يعبّرون فيها عمّا استفاضوه من اذواق سامية لدى مطالعتهم لرسائل النور. فاصبح هذا المكتوب الغني جداً بهذه الرسائل. باربعة اضعاف حجم هذا المجلد لذا سينشر مستقلاً باسم ((الملاحق)) وهي ملحق بارلا وملحق قسطموني وملحق اميرداغ.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-03-2011
  #33
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 15
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: المكتوبات

المكتوب الثامن والعشرون

هذا المكتوب عبارة عن ثماني مسائل

المسألة الاولى

وهي الرسالة الاولى

بِسْم الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} إنْ كنتم للرُؤيا تَعبرون{ (يوسف:43)

ثانياً: انكم تطلبون ياأخي تعبير رؤياكم القديمة التي رأيتموها قبل ثلاث سنوات، وقد ظهر تعبيرها وتأويلها بعد ثلاثة ايام من لقائك اياي. أوَ ليس لي الحق اذن أن أقول ازاء تلك الرؤيا اللطيفة المباركة المبشرة والتي مرّ عليها الزمن واظهر معناها:

نه شبم هة شـــــب برســــتم من غلام شمسم از شمس مى كويم خبر(1)

آن خيالاتى كه دام اولياســـــت عكــس مهرويان بوســـتان خداســت(2)

نعم! ياأخي! لقد اعتدنا ان نتذاكر معاً درس الحقيقة المحضة، لذا فان بحث الرؤى التي بابها مفتوح للخيالات بحثاً علمياً لايلائم مسلك التحقيق العلمي ملائمة تامة، ولكن لمناسبة تلك الحادثة الجزئية في النوم، نبين ست نكات تخص النوم الذي هو صنو الموت. نبينها بياناً علمياً مبنياً على القواعد والدساتير مستنبطة من الحقيقة بالوجه الذي تشير اليه الآيات القرآنية، ونورد في النكتة السابعة تعبيراً مختصراً لرؤياك.

النكتة الاولى: ان آيات كثيرة في القرآن الكريم مثل: } وجعلنا نومكم سباتا{ (سورة النبأ:9).. وكذلك الرؤيا التي رآها يوسف عليه السلام ـ التي هي أساس مهم لسورة يوسف ـ تبين أن حقائق جليلة تستتر وراء حجبٍ في النوم والرؤيا.

النكتة الثانية: ان اهل الحقيقة لايحبذون استخراج الفأل من القرآن الكريم. ولايميلون الى الاعتماد على الرؤيا: لأن القرآن الكريم يزجر الكفار بكثرة زجراً شديداً، وقد يقابل المتفئل بالقرآن تلك الآيات الزاجرة فتورثه اليأس ويضطرب قلبه ويقلق.

وكذا الرؤيا قد تظهر بما يخالف الواقع والحقيقة فيتصورها الانسان شراً رغم انها خير، فتدفعه الى سوء الظن والسقوط في اليأس، ونقض عرى قواه المعنوية. فهناك كثير من الرؤى ظاهرها مخيف، مضر، قبيح، إلاّ أن تعبيرها حسن جداً، ومعناها جميل. وحيث ان كل انسان لايستطيع ان يجد العلاقة بين صورة الرؤيا وحقيقة معناها، فيقلق ويحزن ويضطرب دون داعٍ.

ولاجل هذه الأمور قلتُ في صدر البحث كالامام الرباني وكما يقول أهل التحقيق العلمي: نه شبم نه شب برستم

النكتة الثالثة: لقد ثبت في الحديث الصحيح ان الرؤيا الصادقة جزء من أربعين جزءاً من النبوة(1).

بمعنى ان الرؤيا الصادقة حق، ولها علاقة بمهمات النبوة.

وهذه المسألة الثالثة مهمة للغاية وطويلة وعميقة، ولها علاقة بوظائف النبوة، لذا نؤجلها الى وقت آخر بمشيئة الله ونسد هذا الباب.

النكتة الرابعة: الرؤيا على انواع ثلاثة: اثنان منها داخلان ضمن ((أضغاث احلام)) كما عبّر عنها القرآن الكريم، وهما لايستحقان التعبير ولاأهمية لهما، وان كان لهما معنى. إذ إما ان الرؤيا ناشئة من تصوير تصنعه قوة خيال الانسان المصاب بانحراف في مزاجه، وتركبّه حسب نوع ذلك الانحراف.

او انها ناشئة من تخطر الخيال لحوادث مثيرة، قد رآها الانسان نهاراً او قبل يوم او حتى قبل سنة او سنتين. فيعدّلها الخيال ويصوّرها ويلبسها شكلاً.

فهذان القسمان من قبيل ((أضغاث احلام)) لايستحقان التعبير.

اما القسم الثالث، فهو الرؤيا الصادقة، ان اللطيفة الربانية الموجودة في ماهية الانسان تجد علاقة لها مع عالم الغيب، وتفتح منفذاً اليه بعد انقطاع الحواس والمشاعر المربوطة بعالم الشهادة والمتجولة فيه، وبعد توقفها عن العمل. فتنظر اللطيفة الربانية بذلك المنفذ الى حوادث تتهيأ للوقوع، وقد تلاقي أحد جلوات اللوح المحفوظ او أنموذجاً من نماذج كتابات القَدر، فترى بعض الوقائع الحقيقية، ولكن الخيال يتصرف أحياناً في تلك الوقائع ويلبسها ملابس الصور. ولهذا القسم أنواع كثيرة وطبقات كثيرة. فأحياناً تقع الحادثة كما رآها الشخص واحياناً تظهر الحادثة وراء ستار خفيف واحياناً تتستر بستاركثيف سميك.

وقد ورد في الحديث الصحيح؛ ان الرؤيا التي كان يراها الرسول الكريم e في بدء الوحي كانت واضحة صادقة ظاهرة كفلق الصبح(1).

النكتة الخامسة: ان الرؤيا الصادقة عبارة عن زيادة في قوة ((الحس قبل الوقوع)) وهذا الاحساس موجود في كل انسان جزئياً او كلياً، بل موجود حتى في الحيوانات.

ولقد وجدت ـ في وقت ما ـ ان هناك حاستين في الانسان والحيوان من غير الحواس الظاهرة والباطنة ـ وهما حاستان من قبيل الحس قبل الوقوع ـ وهما حاسة ((السائقة)) وحاسة ((الشائقة)) كحاستي ((الباصرة)) و ((السامعة)) من الحواس المشهورة. اي؛ حاسة تدفع واخرى تشوّق.

ويطلق اهل الضلال والفلسفة على تلك الحواس غير المشهورة لحماقتهم خطأً اسم ((الدافع الطبيعي)).. كلا .. انها ليست دافعاً طبيعياً، بل نوع من إلهام فطري، يسوق به القدر الآلهي الانسان والحيوان.

فمثلاً: القط وماشابهه من الحيوانات، عندما يفقد بصره يفتش بذلك الدفع القدري عن نوع معين من النبات ويضعه على عينه ويشفى من المرض.

وكذلك النسر وما شابهه من الطيور الجارحة الآكلة للحوم ـ الموظفات الصحيات لتنظيف سطح الارض من جثث حيوانات البراري ـ هذه الطيور تعلم بوجود جثة حيوانٍ على مسافة يوم، وتجدها بذلك السَوق القَدري، وبإلهام الحس قبل الوقوع.

وكذلك صغير النحل الذي لم يمر عليه الاّ يوم واحد، يطير الى مسافة يوم كامل في الهواء ثم يعود الى خليته دون ان يضيّع أثره، وذلك بالسَوق القَدري، وبالهام ذلك السَوق والدفع.

حتى ان كل انسان قد مرّ بلاشك بكثير من الوقائع المتكررة، فهو عندما يذكر اسم شخص ما، اذا بالباب ينفتح ويدخل الشخص المذكور، من غير ان يتوقعوا قدومه. حتى قيل في الامثال الكردية:

ناف كربينه بالاندار لى ورينه

اي؛ حالما تذكر الذئب، هئ الهراوة، فالذئب قادم.

بمعنى ان اللطيفة الربانية ـ بحس قبل الوقوع ـ تشعر بمجئ ذلك الشخص إحساساً مجملاً، ولكن لعدم احاطة شعور العقل به، فان الشخص ينساق الى ذكر ذلك الشخص دون قصد واختيار.

ويفسّر أهلُ الفراسة ذلك بما يشبه الكرامة، حتى كانت عندي حالة من هذا النوع من الاحساس بصورة فائقة، فأردتُ أن أضع تلك الحالة ضمن قاعدة واضبطها في دستور، ولكن لم اُوفّق ولم استطع ذلك. ولكن لدى اهل التقوى والصلاح ولاسيما الاولياء الكرام يزداد هذا الإحساس قوة ويبين آثاراً ذات كرامة.

وهكذا، ففي الرؤيا الصادقة نيلٌ لنوع من الولاية لعوام الناس اذ يرون فيها بعض الأمور المستقبلية والغيبية كما يراها الأولياء.

وكما ان النوم من حيث الرؤيا الصادقة في حكم مرتبة من مراتب الولاية لدى العوام، كذلك فهي للناس عامة متنزه جميل، رائع لرؤية مشاهد حوادث ربانية ـ كمشاهد السينما ـ ولكن مَن كان ذا خلق حسن فانه يفكر تفكيراً حسناً فيرى ألواحاً جميلة ومناظر حسنة، بعكس السئ الخلق الذي لايتصور الاّ السيئات لذا لايرى الاّ المناظر السيئة والقبيحة.

وكذلك؛ فالنوم نافذة تطل على عالم الغيب من عالم الشهادة، وهو ميدان طليق للناس المقيدين الفانين.وينال نوعاً من البقاء حتى يكون الماضي والمستقبل في حكم الحاضر. وهو موضع راحة لذوي الأرواح الذين ينسحقون تحت المشاق وتكاليف الحياة المرهقة.

ولاجل هذه الاسرار وأمثالها يرشد القرآن الكريم الى حقيقة النوم في آيات عديدة، كقوله تعالى } وجعلنا نومكم سباتاً{ (النبأ: 9).

النكتة السادسة: وهي المهمة:

لقد بلغت عندي مبلغ اليقين القاطع، و ثبت بكثير من تجاربي الحياتية ان الرؤيا الصادقة حجة قاطعة على ان القدر الآلهي محيط بكل شئ.

ولقد بلغت عندي هذه الرؤى ـ ولاسيما في السنين القريبة الفائتة ـ درجة الثبوت والقطعية. اذ كنت أرى ليلاً أبسط المحاورات، وأتفه المعاملات، وأصغر الامور التي ستقع غداً. فكنت أقرأها ليلاً بعيني، لاأتكلم بها بلساني، حتى ايقنت ان الرؤيا مكتوبة ومعينة قبل مجيئها.

ولم تكن هذه التجارب التي مرّت عليّ تجارب قليلة ومنفردة ولم تكن مائة تجربة بل ألفاً من التجارب، حتى كنت أرى في المنام اشخاصاً لم أفكر فيهم قط ومسائل لم تخطر ببالي، واذا باولئك الاشخاص أراهم في النهار التالي لتلك الليلة، وتجري تلك المسائل، مع تعبير قليل. بمعنى؛ ان أصغر حادثة من الحوادث مقيدة ومسجلة في القدر الآلهي قبل مجيئها الى الحدوث، فلا مصادفة قطعاً، والحوادث ليست سائبة وليست عشوائية.

النكتة السابعة: ان تعبير رؤياك المباركة المبشرة بالخير، خير لنا وللعمل القرآني، ولقد عبّر الزمان وما زال يعبّر عنها، ولم يدع لنا حاجة الى التعبير، فضلاً عن ظهور قسم من تعبيرها في الواقع.

ولو دققت النظر، تدرك ذلك. الاّ أننا نشير الى بعضٍ من نقاطها فقط. اعني أننا نبين حقيقة من الحقائق، والحوادث التي هي من قبيل رؤياك هي تمثلات تلك الحقيقة. وذلك: ان ذلك الميدان الواسع هو العالم الاسلامي وما في نهايته من مسجد هو ولاية اسبارطة، والماء المتعفن المخلوط بالطين هو مستنقع الحال الحاضرة الملوثة بالسفه والبدع والتعطل.. وانت قد سلمت منه ولم تتلوث بفضل الله فوصلت المسجد بسرعة، وهذه اشارة الى انك ستظل سليماً معافى من اللوثات، ولايفسد قلبك، وتمتلك الانوار القرآنية قبل الناس الاخرين.

اما الجماعة الصغيرة في المسجد فهم حمَلَة ((الكلمات)) من امثال: ((حقي، خلوصي، صبري، سليمان، رشدي، بكر، مصطفى، علي، زهدي، لطفي، خسرو، رأفت))، والكرسي الصغير هو قرية صغيرة كـ((بارلا)) . اما الصوت العالي فهو اشارة الى قوة ((الكلمات)) وسرعة انتشارها.

اما المقام الذي خصص لك في الصف الاول، فهو الموقع الذي اُحيل اليك من "عبدالرحمن،. وتلك الجماعة الشبيهة باجهزة اللاسلكي، اشارة الى بث الدرس الايماني الى انحاء العالم كافة واسماعهم اياه، وسيظهر تعبيره في المستقبل تماماً باذن الله. اذ ان أفرادها في حكم النوى الصغيرة - في الوقت الحاضر - وسيكونون باذن الله في حكم شجرة باسقة، ومراكز بث.

وذلك الشاب المعمم هو رمز لشاب في صفوف الناشرين والطلاب، سيكون متكاتفاً مع خلوصي وربما يسبقه. وانا أظنه أحدهم ولكن لا أجزم به. وسيبرز ذلك الشاب في الميدان بقوة الولاية.

اما بقية النقاط فعبّر عنها انت بدلاً مني.

ان الحديث معكم ـ حديثاً طويلاً ـ لذيذ وممتع ومقبول، لذا أطنبت في الكلام في هذه المسألة القصيرة، وربما اسرفت فيه، ولكن لانني شرعت بالبحث بنية الاشارة الى تفسير آيات قرآنية تخص النوم، سيعفى عن ذلك الاسراف ان شاء الله، وربما لايعدّ اسرافاً.

المسألة الثانية

وهي الرسالة الثانية

كتبت هذه المسألة لأجل حل الإشكال ورفع المناقشة الدائرة حول حديث شريف يذكر فيه ان سيدنا موسى عليه السلام قد لطم عين سيدنا عزرائيل عليه السلام(1).

طرق سمعي ان مناقشة علمية جرت في ((اكريدير))(2) ان اجراء تلك المناقشة خطأ، ولاسيما في هذا الوقت بالذات.

وقد سئلت انا ايضاً - ولا علم لي بالمناقشة - وأروني حديثاً نبوياً شريفاً(3) في كتاب موثوق يعتمد عليه، قد أشير فيه الى الحديث برمز (ق) للدلالة على أنه ((متفق عليه)).. واستفسروا: أهذا حديث نبوي أم لا؟.

قلت لهم: نعم! انه حديث نبوي شريف، ينبغي لكم الاعتماد والوثوق بالذي حكم باتفاق الشيخين على الحديث المذكور، في مثل هذا الكتاب الموثوق.. ولكن كما ان في القرآن الكريم آيات متشابهات، ففي الحديث الشريف ايضاً متشابهات، لا يدرك معانيها الدقيقة الاّ خواص العلماء.

وقلت ايضاً: ربما يدخل ظاهر هذا الحديث الشريف ضمن قسم المتشابهات من مشكلات الحديث.

فلو كنت على علم بالمناقشة التي جرت حول الحديث المذكور، لما كنت اقتصر جوابي على ما قلت، بل كنت اجيب بما يأتي:

اولاًــ أن الشرط الأول في مناقشة هذه المسائل وامثالها هو:

أن تكون المذاكرة في جو من الانصاف.. وان تجري بنية الوصول الى الحق.. وبصورة لا تتسم بالعناد.. وبين من هم أهل للمناقشة.. دون أن تكون وسيلة لسوء الفهم وسوء التلقي.

فضمن هذه الشروط قد تكون مناقشة هذه المسألة وما شابهها جائزة.

أما الدليل على ان المناقشة هي في سبيل الوصول الى الحق فهو:

ان لا يحمل المناقش شيئاً في قلبه.. ولا يتألم ولا ينفعل اذا ما ظهر الحق على لسان الطرف المخالف له، بل عليه الرضى والاطمئنان، اذ قد تعلّم ما كان يجهله، فلو ظهر الحق على لسانه لما ازداد علماً وربما اصابه غرور.

ثانياً - ان كان موضوع المناقشة حديثاً شريفاً فينبغي معرفة: مراتب الحديث.. والاحاطة بدرجات الوحي الضمني.. واقسام الكلام النبوي.

ولا يجوز لأحد مناقشة مشكلات الحديث بين العوام من الناس.. ولا الدفاع عن رأيه اظهاراً للتفوق على الآخرين... ولا البحث عن ادلة ترجّح رأيه وتنمّي غروره على الحق والانصاف.

ولكن لما كانت المسألة قد طُرحت، واصبحت مدار نقاش، فستؤدى تأثيرها السئ في افهام العوام الذين يعجزون عن استيعاب امثال هذه الاحاديث المتشابهة.

اذ لو انكرها أحدهم فقد فتح لنفسه باباً للهلاك والخسران، حيث يسوقه هذا الانكار الى انكار احاديث صحيحة ثابتة. ولو قَبِل بما يفيد ظاهر الحديث من معنى، وتحدّث به ونشره بين الناس، فسيكون سبباً لفتح باب اعتراضات اهل الضلالة على الحديث الشريف، واطلاق ألسنتهم بالسوء عليه، وقولهم: انه خرافة!.

ولما كانت الانظار قد لفتت الى هذا الحديث الشريف المتشابه دون مبرر، بل بما فيه ضرر. وان هناك احاديث اخرى متشابهة له بكثرة؛ يلزم بيان ((حقيقة)) دفعاً للشبهات وازالة للاوهام.. اقول: ان ذكر هذه ((الحقيقة)) ضروري بغض النظر عن ثبوت الحديث.

سنشير الى تلك الحقيقة اشارة مجملة، مكتفين بما ذكرناه من تفاصيل في رسائل النور (منها الغصن الثالث من الكلمة الرابعة والعشرين والغصن الرابع منها، والاساس الخاص بأقسام الوحي في مقدمة المكتوب التاسع عشر).

والحقيقة هي:

ان الملائكة لا ينحصرون في صورة معينة واحدة كالانسان، وانما هم في حكم الكلي، رغم ان لهم تشخصاتهم.

فعزرائيل عليه السلام هو ناظر الملائكة الموكلين بقبض الارواح ورئيسهم.

سؤال: هل عزرائيل عليه السلام هو الذي يقبض الارواح بالذات، أم أن أعوانه هم الذين يقبضونها.

الجواب: هناك ثلاثة مسالك بهذا الخصوص:

المسلك الأول:

ان عزرائيل عليه السلام هو الذي يقبض روح كل فرد. فلا يمنع فعل هنا فعلاً هناك؛ لأنه نوراني، والشئ النوراني يمكنه ان يحضر ويتمثل بالذات في اماكن غير محدودة، بوساطة مرايا غير محدودة. فتمثلات النوراني تملك خواصه. وتعتبر عينه وليست غيره. فتمثلات الشمس في المرايا المختلفة مثلما تُظهر ضوء الشمس وحرارتها، فان تمثلات الروحانيين - كالملائكة - تُظهر ايضاً خواصها في المرايا المختلفة في عالم المثال، فهي عين اولئك الروحانيين وليست غيرهم. فالملائكة يتمثلون في المرايا حسب قابليات المرايا، فمثلاً:

عندما كان جبرائيل عليه السلام يتمثل امام الرسول e في مجلس الصحابة الكرام رضوان الله عليهم في صورة الصحابي ((دحية الكلبي)) كان يتمثل في اللحظة نفسها في الوف الاماكن في صور مختلفة، كما يسجد تحت العرش الاعظم مطبقاً الآفاق باجنحته الواسعة المهيبة شرقاً وغرباً، فله اذاً تمثل في كل مكان حسب قابلية ذلك المكان، وله حضور في آن واحد في الوف الأماكن.

وهكذا، فحسب هذا المسلك: ليس محالاً قط، ولا هو بأمر فوق المعتاد، ولا هو أمر غير معقول، ان يتعرض مثال ملك الموت المتمثل للانسان عند قبض روحه - وهو مثال جزئي انساني - الى لطمة سيدنا موسى عليه السلام وهو الشخصية العظيمة المهيبة من اولي العزم من الرسل، ثم فقؤه لعين تلك الصورة المثالية لملك الموت، الذي لبس زي تلك الصورة.

المسلك الثاني هو:

ان الملائكة العظام من أمثال سيدنا جبرائيل وميكائيل وعزرائيل عليهم السلام، كل منهم بمثابة ناظر عام ورئيس، لهم أعوان من نوعهم وممن يشبهونهم، ولكن بطراز اصغر، فهؤلاء المعاونون الصغار مختلفون حسب اختلاف المخلوقات الموكلين بهم. فالذين يقبضون ارواح الصالحين(1) يختلفون عن الذين يقبضون ارواح الطالحين، فهم طوائف مختلفة من الملائكة بمثل ما تشير اليه الآيات الكريمة:} والنازعات غرقا^ والناشطات نشطاً..{

فحسب هذا المسلك : فان سيدنا موسى عليه السلام، لم يلطم سيدنا عزرائيل عليه السلام، بل لطم الجسد المثالي لأحد أعوانه، وذلك بعنفوان النبوة الجليلة وبسطة جسمه وجلادة خلقه وحظوته عند ربه القدير. وهكذا يصبح الامر معقولاً جداً(2).

المسلك الثالث:

لقد بينّا في الاساس الرابع من الكلمة التاسعة والعشرين، وحسب دلالات احاديث نبوية شريفة: بان هناك من الملائكة من يملكون اربعين الف رأس، وفي كل رأس اربعون ألف لسان - اي لهم ثمانون الف عين ايضاً - وكل لسان يسبح باربعين ألف تسبيحة. فما دام الملائكة الموكلون موكلين حسب انواع عالم الشهادة، وهم يمثلون تسبيحات تلك الانواع في عالم الارواح، فلابد ان يكون لهم تلك الصورة والهيأة. لأن الارض - مثلاًـ وهي مخلوقة واحدة، تسبح لله. وهي تملك اربعين الف نوع من الانواع، بل مئات الالوف منها، والتي كل منها بحكم رؤوس مسبحة لها، ولكل نوع من الانواع الوف من الافراد التي هي بمثابة الألسنة.. وهكذا.

فالملك الموكل على الكرة الارضية ينبغي ان يكون له اربعون الف رأس، بل مئات الألوف من الرؤوس، ولابد ان يكون لكل رأس مئات الالوف من الألسنة.. وهكذا.

فبناء على هذا المسلك: فان عزرائيل عليه السلام له وجه متوجه الى كل فرد، وعين ناظرة الى كل فرد، لذا فلطمُ سيدنا موسى عليه السلام ليس هو لطمة على الماهية الشخصية لسيدنا عزرائيل - حاشاه - ولا على شكله الحقيقي، وليس فيه اهانة، ولا رد له، بل تصرفه هذا نابع من كونه راغباً في زيادة دوام مهمة الرسالة واستمرار بقائها، ولأجل هذا لطم - وله ان يلطم - تلك العين التي تراقب أجله، والتي تريد ان تنهي وظيفته على الارض. والله اعلم بالصواب ولا يعلم الغيب الاّ هو. قل انما العلم عند الله.

} هو الذي أنَزل عليك الكتاب مِنهُ آياتٌ محكمات هنّ أم الكتاب واُخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كلٌّ من عند ربّنا وما يذّكرُ إلا اولوا الالباب{ (آل عمران: 7).

الـمسألة الثالثة

وهي الرسالة الثالثة

هذه المسألة جواب خاص جداً، فيه شئ من السرية والخفاء عن سؤال عام يسأله الاخوة عامة سواء بلسان الحال او المقال.

والسؤال هو:

انك تقول لكل من يأتي لزيارتك:

((لا تنتظروا من شخصي همة ومدداً، ولا تعدوني شخصاً مباركاً، فأنا لست صاحب مقام. فكما يبلغ الجندي الاعتيادي أوامر مقام المشير، فانا كذلك ابلغ اوامر مشيرية معنوية رفيعة. وكما يقوم شخص مفلس لا يملك شيئاً بدور الدلال لدكان مجوهرات غالية جداً، فانا كذلك دلال امام دكان مقدس وهو القرآن الكريم)).

هكذا تقول لكل زائر قادم اليك، ولكن عقولنا تحتاج الى العلم كما ان قلوبنا تطلب الفيض وارواحنا تنشد النور.. وهكذا نطلب اشياء كثيرة بجهات شتى. ونأتي الى زيارتك علك تفي لنا بحاجاتنا، اذ نحن بحاجة الى صاحب ولاية وصاحب همة وكمالات اكثر من حاجتنا الى عالم. فان كان الأمر كما تقول، فقد أخطأنا اذن في زيارتك!.. هكذا يقول لسان حالهم.

الجواب: اسمعوا خمس نقاط، ثم تفكروا في زيارتكم هل هي مجدية أم انها لا طائل وراءها، ومن بعدها أحكموا ما شئتم!

النقطة الاولى:

خادم لسلطان عظيم أو جندي تحت امرته، يسلم الى القواد العظام والمشيرين الكبار هدايا السلطان وأوسمته الرفيعة ويجعلهم في امتنان ورضى. فان قال اولئك القواد والمشيرون: لِمَ نتنازل بتسلم النعم السلطانية واكرامه لنا من يد هذا الجندي البسيط؟! فلاشك ان ذلك يعد غروراً جنونياً.

وكذلك اذا اعجب ذلك الجندي بنفسه ولم يقم احتراماً للمشير خارج وظيفته وعدّ نفسه أعلى درجة منه، فليس ذلك الا بلاهة وجنوناً.

ولو تنازل أحد أولئك القواد الممتنين وذهب الى منزل ذلك الجندي البسيط، الذي لا يجد ضيُفه الكريم عنده سوى كسرة خبز، فسوف يرسل السلطان الذي يعلم حال خادمه الامين الى منزله طَبقاً من اطيب طعام والذه من مطبخه الخاص دفعاً للحرج عنه.

فكما ان الامر هكذا في خادم السلطان، كذلك خادم القرآن الصادق اذ مهما كان من عامة الناس، الا انه يبلغ اوامر القرآن الكريم باسم القرآن نفسه الى اعظم انسان من دون تردد ولا احجام ويبيع جواهر القرآن الثمينة جداً لأغنى انسان روحاً، بافتخار واعتزاز واستغناء من دون تذلل وتوسل.

فهؤلاء مهما كانوا عظاماً لا يمكنهم أن يتكبروا على ذلك الخادم البسيط اداءه لوظيفته. وذلك الخادم ايضاً لا يجد في نفسه ما يجعله يغتر امام مراجعة اولئك الافذاذ له، فلا يتجاوز حده.

واذا ما نظر بعض المعجبين بجواهر خزينة القرآن المقدسة الى ذلك الخادم نظر الولي الصالح واستعظموه، فخليق بالرحمة المقدسة للحقيقة القرآنية ان تمدهم وتفيض عليهم بهمتها من الخزينة الإلهية الخاصة من دون علم ذلك الخادم ومن دون تدخل منه لئلا يخجل خادمها ذاك امام ضيفه الكريم.

النقطة الثانية:

لقد قال الامام الرباني مجدد الالف الثاني احمد الفاروقي السرهندي: ((ان انكشاف حقيقة من حقائق الإيمان ووضوحها لهو أرجح عندي من الف من الاذواق والكرامات. ثم ان غاية جميع الطرق الصوفية ومنتهاها انما هي انكشاف الحقائق الإيمانية وانجلاؤها)).

فما دام رائداً عظيماً للطريقة يحكم بهذا الحكم، فلابد أن ((الكلمات)) التي تبين بوضوح تام الحقائق الايمانية والتي هي مترشحة من بحر الاسرار القرآنية تستطيع أن تعطي النتائج المطلوبة من الولاية.

النقطة الثالثة:

هوت صفعات عنيفة قبل ثلاثين سنة على رأس ((سعيد القديم)) الغافل، ففكــّر في قضية أن ((الموت حق)). ووجد نفسه غارقاً في الأوحال.. استنجد، وبحث عن طريق، وتحرى عن منقذ يأخذ بيده.. رأى السبل أمامه مختلفة.. حار في الأمر واخذ كتاب ((فتوح الغيب)) للشيخ عبد القادر الكيلاني رضي الله عنه وفتحه متفائلاً، ووجد امامه العبارة الآتية:

أنت في دار الحكمة فاطلب طبيباً يداوي قلبك..(1) يا للعجب!. لقد كنت يومئذ عضواً في ((دار الحكمة الاسلامية))(2) وكأنما جئت اليها لأداوي جروح الأمة الإسلامية، والحال انني كنت أشد مرضاً واحوج الى العلاج من أي شخص آخر.. فالأولى للمريض أن يداوي نفسه قبل أن يداوي الآخرين.

نعم، هكذا خاطبني الشيخ: انت مريض.. ابحث عن طبيب يداويك!..

قلت: كن انت طبيبي أيها الشيخ!

وبدأت أقرأ ذلك الكتاب كأنه يخاطبني أنا بالذات.. كان شديد اللهجة يحطم غروري، فأجرى عمليات جراحية عميقة في نفسي.. فلم اتحمل، ولم اطق على تحمله.. لأني كنت اعتبر كلامه موجهاً الي.

نعم، هكذا قرأته الى ما يقارب نصفه.. لم استطع اتمامه.. وضعت الكتاب في مكانه، ثم احسست بعد ذلك بفترة بأن آلام الجراح قد ولت وخلفت مكانها لذائذ روحية عجيبة.. عدت اليه، وأتممت قراءة كتاب ((استاذي الأول)). واستفدت منه فوائد جليلة، وامضيت معه ساعات طويلة اصغي الى اوراده الطيبة ومناجاته الرقيقة.

ثم وجدت كتاب ((مكتوبات)) للأمام الفاروقي السرهندي، مجدد الألف الثاني فتفاءلت بالخير تفاؤلاً خالصاً، وفتحته، فوجدت فيه عجباً.. حيث ورد في رسالتين منه لفظة ((ميرزا بديع الزمان)) فأحسست كأنه يخاطبني باسمي، اذ كان اسم ابي ((ميرزا)) وكلتا الرسالتين كانتا موجهتين الى ميرزا بديع الزمان. فقلت: يا سبحان الله.. ان هذا ليخاطبني انا بالذات، لأن لقب سعيد القديم كان بديع الزمان، ومع أنني ما كنت أعلم أحداً قد اشتهر بهذا اللقب غير ((الهمداني)) الذي عاش في القرن الرابع الهجري. فلابد ان يكون هناك احد غيره قد عاصر الامام الرباني السرهندي وخوطب بهذا اللقب، ولابد ان حالته شبيهة بحالتي حتى وجدت دوائي بتلك الرسالتين.. والامام الرباني يوصي مؤكداً في هاتين الرسالتين وفي رسائل اخرى أن:

((وحّد القبلة))(1) أي: اتبع اماماً ومرشداً واحداً ولا تنشغل بغيره!

لم توافق هذه الوصية - آنذاك - استعدادي واحوالي الروحية.. واخذت أفكر ملياً: ايهما اتبع!. أأسير وراء هذا، أم أسير وراء ذاك؟ احترت كثيراً وكانت حيرتي شديدة جداً، اذ في كل منهما خواص وجاذبية، لذا لم استطع ان اكتفي بواحد منهما.

وحينما كنت اتقلب في هذه الحيرة الشديدة.. اذا بخاطر رحماني من الله سبحانه وتعالى يخطر على قلبي ويهتف بي:

- ان بداية هذه الطرق جميعها.. ومنبع هذه الجداول كلها.. وشمس هذه الكواكب السيارة.. انما هو ))القرآن الكريم(( فتوحيد القبلة الحقيقي اذن لا يكون الا في القرآن الكريم.. فالقرآن هو أسمى مرشد.. وأقدس استاذ على الاطلاق.. ومنذ ذلك اليوم اقبلت على القرآن واعتصمت به واستمددت منه.. فاستعدادي الناقص قاصر من ان يرتشف حق الارتشاف فيض ذلك المرشد الحقيقي الذي هو كالنبع السلسبيل الباعث على الحياة، ولكن بفضل ذلك الفيض نفسه يمكننا ان نبين ذلك الفيض، وذلك السلسبيل لأهل القلوب واصحاب الأحوال، كلٌ حسب درجته. فـ))الكلمات(( والانوار المستقاة من القرآن الكريم (أي رسائل النور) اذن ليست مسائل علمية عقلية وحدها بل ايضاً مسائل قلبية، وروحية، وأحوال ايمانية.. فهي بمثابة علوم إلهية نفيسة ومعارف ربانية سامية.

النقطة الرابعة:

ان الصحابة الكرام والتابعين وتابعي التابعين - رضوان الله عليهم - ممن لهم ارفع المراتب، وحظوا بالولاية الكبرى، قد تلقت جميع لطائفهم حظها من القرآن مباشرة، فاصبح القرآن لهم مرشداً حقيقياً وكافياً، وهذا يعني ويدل على ان القرآن مثلما يعبر عن الحقائق في كل زمان فانه يفيض بفيوضات الولاية الكبرى الى من هو أهل لها في كل وقت.

نعم! ان العبور من الظاهر الى الحقيقة انما يكون بصورتين:

الاولى: بالدخول الى برزخ الطريقة وقطع المراتب فيها بالسير والسلوك حتى بلوغ الحقيقة.

الصورة الثانية: العبور الى الحقيقة مباشرة برحمة إلهية محضة، دون الدخول في برزخ الطريقة، هذا الطريق خاص ورفيع وسام وقصير جداً، وهو طريق الصحابة الكرام والتابعين رضوان الله عليهم.

فاذن الانوار المترشحة من حقائق القرآن و ((الكلمات)) التي تترجم تلك الأنوار يمكن أن تكون مالكة لتلك الخاصية، بل هي مالكة لها فعلاً.

النقطة الخامسة:

سنبين بخمسة أمثلة جزئية، أن ((الكلمات)) مثلما تعلم حقائق القرآن فهي تؤدي وظيفة الارشاد ايضاً.

المثال الاول: لقد اقتنعت انا بالذات قناعة تامة بعد الوف التجارب المتكررة لابعشراتها ومئاتها: أن ((الكلمات)) والانوار المفاضة من القرآن الكريم ترشد عقلي وتعلمه مثلما تلقن قلبي ايضاً باحوال ايمانية كما تطعم روحي اذواقاً ايمانية.. وهكذا حتى اصبحت في انجاز اعمالي الدنيوية كمثل ذلك المريد الذي ينتظر مدداً من شيخه ذي الكرامات، اذ اصبحتُ استمد من الاسرار القرآنية ذات الكرامة وانتظر منها حاجاتي تلك، فكانت تحصل بما لا اتوقعه وليس بالحسبان.

وساذكر هنا مثالين فحسب من تلك الجزئيات الحاصلة ببركة اسرار القرآن:

الأول: ما وضح مفصلاً في المكتوب السادس عشر وهو:

أنه قد أُشهد لضيفي ((سليمان)) رغيف كبير خارق وهو موضوع فوق شجرة القطران. أكلنا من تلك الهدية الغيبية يومين كاملين (في الوقت الذي ما كنت املك شيئاً اقدمه لضيفي).

الثاني: وهو مسألة في غاية الجزئية واللطافة قد حدثت في هذه الأيام وهي:

ورد لخاطري قبل الفجر ان كلاماً من جهتي قد قيل لشخص، بصيغة تُلقي في قلبه الريوب والشبه، فقلت: حبذا لو رأيته لأزيل ما بقلبه من اكدار. وفي الدقيقة نفسها تذكرت ما كان يلزمني من جزء من كتابي المرسل الى مدينة ((نيس))(1) فقلت: حبذا لو حصلت عليه. جلست بعد صلاة الفجر.. واذا بالشخص نفسه وفي يده جزء من كتابي الذي كنت اريده فدخل علي. فقلت له:

ما هذا الذي بيدك؟
- لا اعرف، فقد سلمني هذا الكتاب في الباب احدُهم كان قادماً من ((نيس))، وانا ايضاً اتيت به اليكم.

فقلت متعجباً: يا سبحان الله. ان خروج هذا الرجل من بيته ومجئ هذا الجزء من الكلمات من ((نيس)) لا يبدو عليه أثر المصادفة قطعاً، فليس هذا الا من همة القرآن الكريم التي سلمت جزء الكتاب في الوقت نفسه الى هذا الرجل وارسلته الي.. فحمدت الله كثيراً.

اذن فان الذي يعرف أدق رغبات قلبي بل اتفهها يسبغ علي رحمته ويحميني بحماه، فلا احمل اذاً اية منّة وتفضّل مهما كانت من أحدٍ من الدنيا كلها، ولا آخذها بشئ.

المثال الثاني: لقد تركني ابن اخي ((عبد الرحمن)) منذ ثماني سنوات، وعلى الرغم من تلوثه بغفلات الدنيا وشبهاتها واوهامها فانه كان يحمل تجاهي ظناً حسناً بما يفوق حدي بكثير. لذا طلب مني أن اسعفه وامده بما ليس عندي وليس في طوقي من همة. ولكن همة القرآن ومدده قد اغاثه، وذلك بأن أوصل اليه (الكلمة العاشرة) التي تخص (الحشر) قبل وفاته بثلاثة اشهر.

فأدت تلك الرسالة دورها في تطهيره من لوثات معنوية وكدورات الاوهام والشبهات والغفلة، حتى كأنه قد أرتفع الى ما يشبه مرتبة الولاية. حيث اظهر ثلاث كرامات ظاهرة في رسالته التي كتبها الي قبل وفاته، وقد ادرجت رسالته تلك ضمن فقرات المكتوب السابع والعشرين. فليراجَع.

المثال الثالث: كان لي اخ في الاخرة وطالب في الوقت نفسه وهو من اهل القلب والتقوى هو السيد حسن افندي من مدينة ((بوردور))(2). كان ينتظر من هذا المسكين مدداً وهمة كمن ينتظر من ولي عظيم، وذلك لفرط ظنه الحسن بي بما هو فوق طوقي وحدي. وفجأة ودون مناسبة، أعطيتُ لأحد ساكني قرى ((بوردور)) رسالة (الكلمة الثانية والثلاثين) ليطالعها. ثم تذكرت السيد حسن فقلت: إن سافرتَ الى ((بوردور)) فسلّم الرسالة الى السيد حسن ليطالعها في بضعة ايام. سافر الرجل ،وقد سلّم الرسالة مباشرة الى السيد حسن، قبل أن يوافيه الاجل بأربعين يوماً.

تسلم الرسالة بشوق ولازمها بلهفة ونهل منها كالمتعطش الى الماء السلسبيل، وكلما كرر مطالعتها استفاض منها فيوضات فاستمر في القراءة، حتى وجد فيها دواء لدائه ولا سيما في مبحث ((محبة الله)) في الموقف الثالث منها، بل وجد فيها فيوضات كان ينتظرها من القطب الاعظم. فذهب بنفسه سالماً صحيحاً الى الجامع وأدى صلاته ثم سلــّم روحه هناك. رحمه الله رحمة واسعة.

المثال الرابع: ان السيد خلوصي قد وجد همة ومدداً وفيضاً ونوراً في ((الكلمات)) التي هي ترجمان الاسرار القرآنية، اكثر مما وجده في الطريقة النقشبندية التي هي أهم طريقة واكثرها تأثيراً. وقد ذكرت شهادته هذه في المكتوب السابع والعشرين.

المثال الخامس: ان اخي عبد المجيد، قد شعر بانهيار واضطراب شديدين بسبب انتقال ابن اخي عبد الرحمن الى رحمة الله. ولأحوال أليمة واوضاع محزنة الـمّت به. كان يأمل مني ما لا أقدر عليه من همة ومدد معنوي. ومع اني ما كنت اتراسل معه، الا انني بعثت اليه فجأة بضع رسائل من ((الكلمات)). كتب الي بعد أن قرأها: لقد نجوتُ، والحمد لله، فقد كنت على وشك التجنن، ولكن بفضل الله اخذت كل كلمة من تلك الكلمات موقع مرشد لي. ولئن فارقت مرشداً واحداً فقد وجدت - دفعة واحدة - مرشدين كثيرين فنجوت والحمد لله. وانا بدوري تأملت في حاله، فعلمت انه حقاً قد دخل مسلكاً جميلاً وقد نجا بفضل الله من اوضاعه السابقة.

وهناك أمثلة اخرى كثيرة شبيهة بهذه الأمثلة الخمسة المذكورة وكلها تبين:

ان العلوم الايمانية ولا سيما اذا اُخذت العلاجات المعنوية نظراً للحاجة ودواءً للامراض من اسرار القرآن الكريم مباشرة وجُرّبت عملياً. فان تلك العلوم الإيمانية وتلك الادوية الروحانية كافية ووافية لمن يشعر باحتياجه اليها ومن يستعملها باخلاص جاد. ولا يؤثر في الامر وضع الصيدلاني الذي يبيع تلك الادوية والدلال الذي يدل عليها، أي سواء اكان شخصاً اعتيادياً مفلساً أم غنياً ذا مقام أو خادماً مسكيناً، اياً كان وضعه فلا فرق في ذلك.

نعم، انه لا حاجة الى الاستضاءة بنور الشموع ما دامت هناك شمس ساطعة.

فما دمت ابين الشمس نفسها، فلا حاجة ولا معنى لطلب ضوء شمعة من شخصي، ولا سيما إن لم يكن عندي ولا أملكه، بل الألزم ان يمدني اولئك مدداً معنوياً بدعواتهم بل بهمتهم، فمن حقي ان اطلب مددهم وعونهم، وينبغي لهم ان يرضوا ويكتفوا بما يستفيضون من أنوار الرسائل.



} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{

اللّهم صل على سيدنا محمد صلاة تكون لك رضاء ولحقّه
اداء وعلى آله وصحبه وسلم



` ` `



رسالة صغيرة وخاصة

يمكن عدّها تتمة للمسألة الثالثة من المكتوب الثامن والعشرين

يا اخوة الآخرة ويا طالبيّ المجدّين السيد خسرو والسيد رأفت! كنا نشعر ثلاث كرامات قرآنية في مجموعة ((الكلمات)) التي هي من فيوضات انوار القرآن. بيد أنكم بهمتكم وسعيكم وشوقكم قد اضفتم عليها ايضاً كرامة اخرى رابعة. أما الثلاث المعروفة فهي:

اولاً: السهولة والسرعة فوق المعتاد في تأليفها، حتى أن المكتوب التاسع عشر المتكون من خمسة اقسام اُلف في حوالي ثلاثة ايام خلال ما يقرب من اربع ساعات يومياً اي بمجموع اثنتا عشر ساعة وفي شعب الجبال وخلال البساتين دون ان يكون هناك كتاب نرجع اليه. والكلمة الثلاثون ألفت في وقت المرض خلال خمس وست ساعات. والكلمة الثامنة والعشرون وهي مبحث الجنة الفت خلال ساعة او ساعتين. في بستان سليمان بالوادي. حتى تحيرنا انا وتوفيق وسليمان لهذه السرعة.. وهكذا كما في تأليفها هذه الكرامة القرآنية كذلك..

ثانياً: في كتابتها سهولة فوق المعتاد، وشوق عارم، مع عدم السأم والملل. علماً أن هناك اسباباً كثيرة تورث السأم للارواح والعقول في هذا الزمان. ولكن ما ان تؤلف احدى ((الكلمات)) اذ تستنسخ في اماكن كثيرة ويقدم على كثير من المشاغل المهمة.. وهكذا.

الكرامة القرآنية الثالثة: ان قراءتها ايضاً لا تورث السأم ولاسيما اذا ما استشعرت الحاجة اليها. بل كلما قُرئت زاد الذوق والشوق ولا يسأم منها.

وانتم كذلك يا اخويّ قد اثبتما كرامة قرآنية رابعة، فاخونا خسرو الذي يطلق على نفسه الكسلان، وتقاعس عن الكتابة مذ أن سمع بـ ((الكلمات)) قبل خمس سنوات فان كتابته خلال شهر واحد لأربعة عشر كتاباً كتابة جميلة متقنة كرامة للاسرار القرآنية لا شك فيها ولاسيما المكتوب الثالث والثلاثون وهي رسالة النوافذ التي قدّرت حق قدرها حيث كتبت اجمل واجود كتابة. نعم ان تلك الرسالة رسالة قوية وساطعة في معرفة الله والايمان به الا ان النوافذ الاولى التي في مستهل الرسالة مجملة جداً ومختصرة، علماً انها تتوضح تدريجياً وتسطع..حيثً ان مقدمات معظم الكلمات، تبدأ مجملة ثم تتوضح تدريجياً وتتنور بخلاف سائر المؤلفات.

الـمسألة الربعة

وهي الرسالة الرابعة



باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ{

جواب عن سؤال يخص حادثة جزئية، يكون مبعث انتباه ويقظة لإخوانـــــي.

اخواني الاعزاء!

تسألون: لقد اُعتدي على مسجدكم المبارك ليلة الجمعة، بغير سبب، عند قدوم ضيف كريم، فما سرّ هذه الحادثة؟ ولِمَ يضايقونك؟.

الجواب : أبين أربع نقاط مضطراً وبلسان سعيد القديم، علّها تكون محور يقظة لاخواني، وانتم بدوركم تأخذون منها جوابكم.

C النقطة الاولى:

ان ماهية تلك الحادثة دسيسة شيطانية، وتعرّض نفاقي، في سبيل ارضاء الزندقة، خلافاً للقانون وبمحض الهوى، وذلك لالقاء القلق في قلوبنا ليلة الجمعة، وبث الفتور في روح الجماعة، وليحولوا دون لقائي الضيوف.

ومن غرائب الامور: انه قبل يوم من تلك الليلة - اي يوم الخميس - كنت ذاهباً الى جهة ما للتفسح، فرأيت اثناء عودتي حية سوداء طويلة ـ كأنها حَيّتان اقترنتا ببعضهما ـ أتت من اليسار، ومرّت بيني وبين صاحبي.

فاردت ان أعرف مدى فزعه منها فسألته :

- أرأيت؟

قال: ماذا؟

قلت: هذه الحية المخيفة!

قال: لا لم أرها، ولا أراها!

قلت متعجباً: ياسبحان الله، كيف لم تَر مثل هذه الحية الضخمة التي مرت من بيننا؟

لم يرد شئ في خاطري في تلك الحالة، ولكن بعد فترة ورد الى القلب: ان هذه اشارة اليك فاحذر، ففكرت في الامر، وعرفت انها كانت من الحيّات التي أراها في المنام، أعني انني كنت أرى الموظف المسؤول الذي يأتيني بنية الخيانة على صورة حية. حتى انني قد ذكرت ذلك ـ في احدى المرات ـ لمدير الناحية، فقلت له:

- عندما تأتيني بنية سيئة، أراك في صورة حية! فاحذر!

وفي الحقيقة كنت كثيراً ما أرى سلفه على تلك الصورة!

بمعنى ان هذه الحية التي رأيتها ظاهرةً، اشارةٌ الى ان خيانتهم في هذه المرة ستأخذ صورة اعتداء فعلي، لاتظل في صورة نية مبيتة.

وعلى الرغم من ان اعتداءهم هذه المرة كان اعتداءاً صغيراً، وهم يحاولون استصغاره، ولكن بتحريض من معلم فاقد للضمير وبمشاركته، أصدر المسؤول أمراً للدرك ))أجلبوا اولئك الضيوف))، ونحن في اذكار الصلاة في المسجد، والغاية من هذا التصرف هو اغضابي ولأقابلهم بالرفض والطرد ـ باحاسيس سعيد القديم ـ ازاء هذا التصرف الاعتباطي غير القانوني.

ولم يدر ذلك الشقي؛ ان سعيداً لايدافع بعصا مكسورة في يده، وفي لسانه سيف ألماسي من مصنع القرآن الحكيم. بل يستعمل ذلك السيف.

بيد ان افراد الدرك كانوا رزينين راشدين، فانتظروا الى اختتام الصلاة والاذكار ـ حيث لاتتدخل اية حكومة او دولة في الصلاة وفي المسجد مالم ينته اداء الصلوات والاذكار ـ فغضب المسؤول عن عملهم هذا وارسل عقبهم الحارس قائلاً: ان الدرك لايطيعونني!

ولكن الله سبحانه وتعالى لايُشغلني بمثل هذه الحيّات. واُوصي اخواني: ان لاتنشغلوا بهؤلاء مالم تكن هناك ضرورة قاطعة، بل ترفّعوا عن التكلم معهم، حيث (( جواب الاحمق السكوت)) .. ولكن انتبهوا الى هذه النقطة:

كما ان اظهار نفسك ضعيفاً تجاه حيوان مفترس يشجعه على الهجوم عليك، كذلك اظهار الضعف بالتزلف الى مَن يحمل طباع الحيوان المفترس يسوقه الى الاعتداء.

لذا ينبغي للاصدقاء ان يتصرفوا بحذر لئلا يَستغل الموالون للزندقة عدم مبالاتهم وغفلتهم.

C النقطة الثانية:

} ولاتَركَنُوا الى الذينَ ظَلمُوا فَتَمسّكُمُ النّارُ{ (هود: 113).

هذه الآية الكريمة تتضمن تهديداً شديداً. اي ان اولئك الذين يكونون اداة بيد الظالمين ويوالونهم وينحازون اليهم، بل حتى لو كانوا يحملون أدنى ميل وعطف نحوهم، يصيبهم التهديد المرعب.

لان الرضا بالكفر كفر، كما ان الرضا بالظلم ظلم.

ولقد عبّر أحدهم ـ من أهل الكمال ـ تعبيراً كاملاً عن جوهرة من جواهر هذه الآية الكريمة بالبيتين الآتيين :

ان الذي يُعين الظالم على ظلمه هو من أرباب الدناءة في الدنيا.

والذي يجد المتعة واللذة في خدمة الصياد الظالم هو كالكلب.

نعم! ان بعضهم يتصرف تصرف الحية، وبعضهم يعمل عمل الكلب.

ان الذي يتجسس علينا في مثل هذه الليلة المباركة، وعلى ضيف كريم، واثناء الدعاء والتضرع الى الله. ويخبر عنا وكأننا نرتكب جريمة، ومن بعد ذلك يتعدى هذا التعدي، لاشك انه معرّض للتأنيب الوارد في معنى البيتين السابقين.

C النقطة الثالثة:

سـؤال: مادمتَ تعتمد على قوة القرآن الكريم وتستند الى همته وتستلهم الفيوضات منه لإرشاد اعتى الملحدين واشدهم تمرداً في سبيل اصلاحهم، وانك فعلاً تقوم بهذا وما تزال كذلك، فلماذا لاتدعو القريبين منك من المتجاوزين المتعدين، وترشدهم الى سواء السبيل؟.

الجواب: انه من القواعد المهمة في اصول الشريعة : (الراضي بالضرر لايُنظر له) أي ((ان من كان راضياً بالضرر برغبته وعلمه، لاينظر له نظرة اشفاق وترحّم)). فانا ادعو مستنداً الى القرآن الكريم، وعلى استعداد لإلزام الملحد المتمادي في الالحاد في غضون بضع ساعات وان لم اقنعه تماماً، على شرط الاّ يكون سافلاً منحطاً، وممن يتلذذون في نشر سموم الضلالة، كتلذذ الحية في نشر سمها، الاّ ان مخاطبة الحيات المتمثلة في صورة انسان، والكلام مع صاحب وجدان تردى في اسفل سافلي الضلالة الموغلة في النفاق حتى انه يبيع دينه - على علمٍ منه ـ بدنياه، ويستبدل قطعاً زجاجية تافهة قذرة ـ على علم – بالالماس الثمين.

اقول: ان مخاطبة هؤلاء واظهارهم على الحقائق اجحافٌ بحق الحقيقة وحط من شأنها، لأنها شبيهة بـ((تعليق الدرر في اعناق البقر)) كما جاء في المثل.

لان الذين يقومون بمثل هذه الاعمال قد سمعوا تلك الحقائق من (رسائل النور) مرات ومرات. الاّ انهم يرومون الحط من قيمة الحقائق مع معرفتهم بها، ارضاءً للضلالة والزندقة. فهؤلاء كالحيات التي تتلذذ بالسم.

C النقطة الرابعة:

ان صور التعامل معي خلال هذه السنوات السبع ليسَ الاّ تصرفات اعتباطية مبنية على الهوى، وهي سلوك غير قانوني محض لأن قانون المنفيين والموقوفين والمسجونين، معروف لدى الجميع وظاهر لديهم. فهم ـ حسب القانون ـ يواجهون اقاربهم، ولايُمنعون عن الاختلاط مع الناس. وان العبادة وطاعة الله مصونة في كل دولة وامة. وان امثالي من المنفيين ظلوا بين اقاربهم واحبابهم في المدن، ولم يحظر عليهم الاختلاط والمراسلة ولاحتى السياحة والتفسح، واُستثنيت وحدي. فقد حُرمت من كل ذلك، بل قد اُعتدي على عبادتي ومسجدي، فحاولوا صرفي عن ذكر كلمة التوحيد عقب الصلاة ـ المسنونة عند الشافعية ـ وعندما اتى رجل أميّ يُدعى (شباب) مع حماته الى هنا (بارلا) للاستجمام واتاني بحكم معرفتي له لكونه من بلدتي، استدعاه من المسجد ثلاثة افراد من الدرك المسلحين. وحاول ذلك المسؤول ان يستر عمله غير القانوني قائلاً : استميحكم العذر لاتلوموننا انها من متطلبات الوظيفة! ثم سمح له بالذهاب.

فاذا قيست هذه الحادثة مع سائر المعاملات والامور، يُفهم أن معاملاتهم هي محض الهوى وان التصرفات إعتباطية بحتة، حيث يسلطون عليّ الحيات والكلاب، وانا أترفع عن الانشغال بهم، وافوض امر اولئك الخبثاء الى الله القدير لدفع شرورهم.

وفي الحقيقة، ان الذين اثاروا الحادثة التي كانت السبب في التهجير هم الآن في مدنهم، وان الرؤساء المتنفذين هم الآن على رؤوس العشائر إذ اُطلق سراح الجميع، الا انا واثنين من اخوان الآخرة، اُستثنينا من الجميع ولم يطلق سراحنا، علماً انني غير مرتبط بعلاقة بالدنيا ، وتعساً لها ولتكن وبالاً عليهم. وتلقيت هذا الامر ايضاً بالقبول وقلت : لابأس به.

ولكن أحد ذينك الاخوين قد عيّن مفتياً في احدى المدن، فهو يسافر ويسيح بحرية في كل جهة من الوطن الاّ مدينته، حتى انه يستطيع الذهاب الى العاصمة (انقرة). وتُرك الآخر في وضع يتمكن من الاجتماع بالوف من احبّائه في استانبول، وسمح له ان يقابل الاشخاص أياً كانوا. علماً ان هذين الشخصين ليسا وحيدين مثلي ـ لا أهل لي ولا عيال ـ بل لهم نفوذ كبير.. وكذا وكذا..

أما أنا فقد دفعوني الى قرية ووضعوني بين أناس لا وجدان لهم اطلاقاً. حتى انني لم اتمكن من الذهاب الى قرية قريبة تبعد عشرين دقيقة عن (بارلا) الاّ مرتين خلال ست سنوات. ولم يسمحوا لي بالذهاب الى تلك القرية لقضاء بضعة ايام للاستجمام.

وهكذا يحاولون سحقي تحت استبداد مضاعف، علماً ان اية حكومة مهما كانت لها قانون واحد، فليس هناك قانون، حسب الاشخاص وحسب القرى والاماكن! بمعنى ان القانون الذي يطبقونه عليّ ليس قانوناً قط، بل هو خروج على القانون، فالمسؤولون هنا يستغلون نفوذ الحكومة في سبيل تنفيذ أغراضهم الشخصية.

ولكن ولله الحمد مائة ألف مرة، اقول ما يأتي تحدثاً بالنعمة: ان جميع مضايقاتهم واستبداداتهم تصبح كالحطب لأشعال نار الهمة والغيرة، لتُزيد انوار القرآن سطوعاً.

فتلك الانوار القرآنية التي عوملت بالمضايقات انبسطت بحرارة الغيرة والهمة، حتى جعلت جميع الولاية بل أكثر المدن في حكم مدرسة، ولم تنحصر في ((بارلا)) وحدها.

وحسبوا انهم قد حبسوني في قرية، الاّ ان تلك القرية ((بارلا)) وانف الزندقة راغم قد أصبحت كرسي الدرس بفضل الله وبخلاف مأمولهم، بل اصبح كثير من الاماكن (كاسبارطة) في عداد المدارس.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-03-2011
  #34
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 15
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: المكتوبات

الحمد لله، هذا من فـضل ربي.

الـمسألة الخامسة

وهي الرسالة الخامسة

رسالة الشكر

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ{

يفيض القرآن الكريم ببيانه المعجز ويحثّ على الشكر في آيات كثيرة، منها هذه الآيات التاليات:

} اَفَلاَ يَشْكُرُون{ (يس:35).... } اَفَلاَ يَشْكُرُوُن{ (يس:73)

} وَسَنَجْزى الشَّاكرينَ{ (آل عمران:145)

} لَئِنْ شَكَرْتُمْ لاَزيدَنَّكُمْ{ (ابراهيم:7)

} بَلِ الله فَاعْبُد وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرين{ (الزمر:66)

ويبيّن منها: أن اجلّ عملٍ يطلُبُه الخالُق الرحيم من عباده هو: الشُكر. فيدعو الناس الى الشكر دعوة صريحة واضحة ويوليه أهمية خاصة باظهاره أن الاستغناء عن الشكرتكذيب للنعم الإلهية وكفران بها، ويهدّد إحدى وثلاثين مرة في سورة ((الرحمن)) بالآية الكريمة : } فَبَايّ آلاءِ رَبّكُمَا تُكَذِّبَانِ{ تهديداً مُرعباً، ويُنذر الجن والإنس إنذاراً مهولاً ببيانه: ان عدم الشكر والإعراض عنه تكذيبٌ وإنكار وجحود.

ومثلما يبيّن القرآن الحكيم أن الشكر نتيجة الخلق والغاية منه، فالكون الذي هو بمثابة قرآن كبير مجسّم يُظهِر أيضاً أن اهمّ نتيجة لخلق الكائنات هي الشكر؛ ذلك لأنه اذا ما أنعم النظر في الكائنات لتبيّن:

ان هيأة الكون ومحتوياته قد صُممت بشكل ووُضعت على نمط، بحيث تنتج الشكر وتُفضي اليه، فكل شئ متطلّع ومتوجّه - من جهة - الى الشكر، حتى كأن أهم ثمرة في شجرة الخلق هذه هي الشكر، بل كأن أرقى سلعة من بين السلع التي ينتجها مصنع الكون هذا هي الشكر؛ ذلك لأننا نرى:

ان موجودات العالم قد صُممت بطراز يشبه دائرة عظيمة، وخُلقت الحياة لتمثل نقطة المركز فيها، فنرى: ان جميع الموجودات تخدم الحياة وترعاها وتتوجه اليها، وتتكفل بتوفير لوازمها ومؤنها. فخالق الكون اذن يختار الحياة ويصطفيها من بين موجوداته!

ثم نرى ان موجودات عوالم ذوى الحياة هي الاخرى قد أوجدت على شكل دائرة واسعة بحيث يتبوّأ الانسانُ فيها مركزها؛ فالغايات المرجّوة من الاحياء عادة تتمركز في هذا الانسان. والخالق الكريم سبحانه يحشّد جميع الأحياء حول الانسان ويسخّر الجميع لأجله وفي خدمته، جاعلاً من هذا الانسان سيداً عليها وحاكماً لها. فالخالق العظيم اذن يصطفي الانسان من بين الاحياء بل يجعله موضع إرادته ونصبَ اختياره.

ثم نرى ان عالم الانسان بل عالم الحيوان ايضاً يتشكل بما يشبه دائرة كذلك، وقد وُضع في مركزها ((الرزق))، وغرز الشوق الى الرزق في الانسان والحيوانات كافة، فنرى أنهم قد أصبحوا جميعاً بهذا الشوق خَدَمة الرزق والمسخَّرين له. فالرزق يحكمهم ويستولى عليهم. ونرى الرزق نفسه قد جُعل خزينة عظيمة لها من السعة والغنى ما لو تجمعت نِعَمه فلا تعد ولا تحصى (حتى نرى القوة الذائقة في اللسان قد زوّدت بأجهزة دقيقة وموازين معنوية حساسة بعدد المأكولات والمطعومات لمعرفة أذواق نوع واحد من انواع الرزق الكثيرة). فحقيقة الرزق اذن هي أعجب حقيقة في الكائنات واغناها، واغربها،وأحلاها وأجمعها.

ونرى كذلك: أنه مثلما يحيط كل شئ بالرزق ويستشرفه ويتطلع اليه، فالرزق نفسه ايضاً - بأنواعه جميعاً ـ قائم بالشكر معنىً ومادةً وحالاً ومقالاً، ويحصل بالشكر، وينتج الشكر، ويبيّن الشكر ويُريه؛ لان اشتهاء الرزق والإشتياق اليه نوعٌ من شكر فطري. أما الالتذاذ والتذوق فهما شكرٌ ايضاً، ولكن بصورة غير شعورية - حيث تتمتع الحيوانات كافة بهذا الشكر - بيد أن الانسان هو المخلوق الوحيد الذي يغيّر ماهية ذلك الشكر الفطري بانسياقه الى الضلالة والكفر، فيتردى من الشكر الى الشرك.

ثم ان ما تحمله النعم - التي هي الرزق بعينه - من صورٍ جميلة زاهية بديعة، ومن روائح زكية طيبة شذية، ومن طعوم لذيذة ومذاقات طيبة، ما هو إلاّ دعاة وأدلاّء الى الشكر. فهؤلاء الادلاء والدعاة المنادون يثيرون بدعواهم الشوق لدى الاحياء، ويحضّونهم عليه، ويدفعونهم - بهذا الشوق - الى نوع من الاستحسان والتقدير والاحترام فيقروّن فيهم شكراً معنوياً. ويلفتون أنظار ذوي الشعور الى التأمل والإمعان فيها فيرغّبونهم في الاستحسان والاعجاب، ويحثونهم الى احترام النعم السابغة وتقديرها. فتُرشدهم تلك النِعم الى طريق الشكر القولي والفعلي وتدلـّهم عليه وتجعلهم من الشاكرين، وتذيقهم من خلال الشكر أطيبَ طَعمٍ وألذهُ وأَزكى ذوق وأنفسه، وذلك بما تُظهر لهم بأن هذا الرزق اللذيذ او النعمة الطيبة، مع لذته الظاهرة القصيرة الموقتة يهب لك بالشكر التفكر في الالتفات الرحماني الذي يحمل لذة وذوقاً حقيقيين ودائميين وغير متناهيين. اي ان الرزق بتذكيره بالتفات الكريم المالك لخزائن الرحمة الواسعة - تلك الالتفاتة والتكرمة التي لا حدَّ للذاتها ولا نهاية لمتعتها - تذيق الانسان بهذا التأمل نشوة معنوية من نشوات الجنة الباقية وهو بعدُ لم يغادر هذه الدنيا.

في الوقت الذي يكون الرزق بوساطة الشكر خزينة واسعة جامعة تطفح بالغناء والمتعة، يتردى تردياً فظيعاً جداً بالتجافي عن الشكر والاستغناء عنه.

ولقد بيّنا في ((الكلمة السادسة)): ان عمل القوة الذائقة في اللسان إن كان متوجهاً الى ا سبحانه وفي سبيله، أي عندما تتوجه الى الرزق أداءً لمهمة الشكر المعنوي، تكون تلك القوة والحاسة في اللسان بمثابة مشرف موقّر شاكر، وتكون بحكم ناظر محترم حامد، على مطابخ الرحمة الإلهية المطلقة. ولكن متى ما قامت بعملها رغبةً في هوى النفس الأمارة بالسوء واشباعاً لنهمها، أي اذاتوجهت الى النعمة مع عدم تذكر شكر المُنعم الذي أنعم عليه بالرزق، تهبط تلك القوة الذائقة في اللسان من ذلك المقام السامي، مقام الراصد الأمين، الى درجة بواب مصنع البطن، وحارس اسطبل المعدة. ومثلما ينتكس خادمُ الرزق هذا الى الحضيض بالاستغناء عن الشكر، فماهية الرزق نفسها وخدام الرزق الآخرون كذلك يهوون جميعاً بالنسبة نفسها من أسمى مقام الى ادناه، بل حتى يتدنى الى وضع مباين تماماً لحكمة الخالق العظيم.

ان مقياس الشكر هو القناعة، والاقتصاد، والرضا، والامتنان. أما مقياس عدم الشكر والاستغناء عنه فهو الحرص، والاسراف، وعدم التقدير والاحترام، وتناول كل ما هب ودّب دون تمييز بين الحلال والحرام.

نعم ان الحرص مثلما أنه عزوف وإعراض عن الشكر، فهو ايضاً قائد الحرمان ووسيلة الذل والإمتهان. حتى كأن النملة - تلك الحشرة المباركة المالكة لحياة اجتماعية - تُداس تحت الاقدام وتنسحق، لشدة حرصها وضعف قناعتها، اذ بينما تكفيها بضع حبات من الحنطة في السنة الواحدة تراها تجمع ألوف الحبات اذا ما قدّر لها أما النحلة الطيبة، فتجعلها قناعتها التامّة ان تطير عالياً فوق الرؤوس، حتى انها تقنع برزقها وتقدّم العسل الخالص للانسان احساناً منها بأمر الآله العظيم جل جلاله.

نعم ان إسم ((الرحمن)) الذي هو من أعظم أسمائه سبحانه وتعالى يعقبُ لفظ الجلالة ((الله)) الذي هو الاسم الاعظم والاسم العَلَمُ للذات الأقدس. فهذا الاسم ((الرحمن)) يشمل برعايته الرزق؛ لذا يمكن الوصول الى انوار هذا الاسم العظيم بالشكر الكامن في طوايا الرزق. علماً ان أبرز معاني ((الرحمن)) هو الرزاق.

ثم ان للشكر انواعاً مختلفة، الاّ أن أجمع تلك الانواع واشملها والتي هي فهرسها العام هو: الصلاة!.

وفي الشكر ايمان صافٍ رائق، وهو يحوى توحيداً خالصاً؛ لأن الذي يأكل تفاحة – مثلاً – باسم الله ويختم أكلها بـ ((الحمد لله)) إنما يعلن بذلك الشكرَ، على ان تلك التفاحة تذكار خالص صادر مباشرةً من يد القدرة الإلهية، وهي هدية مهداة مباشرة من خزينة الرحمة الإلهية. فهو بهذا القول وبالاعتقاد به يسلـّم كلَّ شئ - جزئياً كان أم كلياً - الى يد القدرة الإلهية، ويُدرك تجلّى الرحمة الإلهية في كل شئ. ومن ثم يُظهر ايماناً حقيقياً بالشكر، ويبيّن توحيداً خالصاً به.

وسنبين هنا وجهاً واحداً فقط من بين وجوه الخسران الكثيرة التي يتردى اليها الانسان الغافل من جراء كفرانه النعمة وكنوده بها.

اذا تناول الانسان نعمةً لذيذة، ثم أدى شكره عليها، فان تلك النعمة تصبح - بوساطة ذلك الشكر ـ نوراً وضّاءً له، وتغدو ثمرة من ثمار الجنة الاُخروية، وفضلاً عما تمنحه من لذة، فان التفكر في أنها أثرٌ من آثار التفات رحمة الله الواسعة وتكرمة منه سبحانه وتعالى يمنح تلك النعمة لذةً عظيمة دائمة وذوقاً سامياً لاحد له. فيكون الشاكر قد بعث أمثال هذه اللــّباب الخالصة والخلاصات الصافية والمواد المعنوية الى تلك المقامات السامية الرفيعة، تاركاً موادَّها المهملة وقشرتَها - التي استنفدت اغراضها وأدّت وظيفتها ولم تعد اليها حاجة - يتم تحولها الى نفايات وفضلات تعود الى أصلها من العناصر الاولية.

ولكن ان لم يشكر المنعم عليه، ربَّه على النعمة، واستنكف عنها، فان تلك اللذة الموقتة تترك بزوالها ألماً وأسفاً، وتتحول هي نفسها الى قاذورات. فتنقلب تلك النعمة التي هي ثمينة كالألماس الى فحم خسيس.

فالأرزاق الزائلة تثمر بالشكر لذائذ دائمة وثمرات باقية، أما النعم الخالية من الشكر فانها تنقلب من صورتها السامية الجميلة الزاهية الى صورة دنيئة قبيحة دميمة؛ ذلك لأن الغافل يظن ان مآل الرزق بعد اقتطاف اللذة المؤقتة منه هو الفضلات!.

حقاً، ان الرزق صورة وضّاءةً تستحق الحب والعشق، تلك التي تظهر بالشكر، والاّ فان عشق الغافلين والضالين للرزق وتلهفهم عليه ما هو إلاّ بهيمية حيوانية..

قس على هذا.. لتعلم مدى خسارة أهل الضلالة والغفلة ومدى فداحة أمرهم!

إن اشد الاحياء حاجةً الى الرزق والى انواعه هو الانسان! فالحق سبحانه وتعالى قد خلق هذا الانسان مرآة جامعة لجميع اسمائه الحسنى، وأبدعه معجزةً دالّة على قدرته المطلقة. فهو يملك اجهزة يتمكن بها تثمين وتقدير جميع مدّخرات خزائن رحمته الواسعة ومعرفتها.. وخلقه على صورة خليفة الارض الذي يملك من الأجهزة الحساسة ما يتمكن بها من قياس أدق دقائق تجليات الاسماء الحسنى.. فلأجل كل هذا فقد اودع سبحانه في هذا الانسان فاقةً لاحدّ لها، وجعله محتاجاً الى انواع لا تحد من الرزق المادي والمعنوي. وما الوسيلة التي تمكّن الانسانَ من العروج بها الى اسمى مقام وهو مقام ((احسن تقويم)) ضمن ما يملكه من الجامعية الاّ الشكر.

فاذا انعدم الشكر يتردى الانسان الى اسفل سافلين ويكون مرتكباً ظلماً عظيماً..



الخلاصة:

ان الشكر هو اعظم اساس من الاسس الاربعة التي يستند اليها سالك اسمى طريق واعلاه اَلا وهو طريق العبودية والحب للّه تعالى والمحبوبية.

وقد عُبّر عن تلك الاسس الأربعة بـ:

در طريق عجزى مندى لازم آمد جار جيز:

عجزِ مطلق فقرِ مطلق شوقِِ مطلق شكرِ مطلق أي عزيز!(1).

اللّهُمّ اجعلنا من الشاكرين برحمتك يا ارحم الراحمين.

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{

اللّهم صل وسلم على سيدنا محمدٍ سيد الشاكرين والحامدين وعلى آله وصحبه اجمعين.

} وآخرُ دَعواهم أن الحمدُ لله رب العالمين{ .

المسألة السادسة

وهي الرسالة السادسة

لم تدرج هنا ستنشر ضمن مجموعة اخرى باذن الله

الـمسألة السابعة

وهي الرسالة السابعة

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} قُل بفـضلِ الله وبرحمتهِ فبذلكَ فليفرحوا هُوَ خيرٌ ممّا يَجمعُون{ (يونس:58)

[هذه المسألة عبارة عن سبع اشارات]

نبين أولاً سبعة أسباب ـ تحدثاً بنعمة الله ـ تكشف عن عدد من أسرار العناية الإلهية.

C السبب الأول:

قبل اندلاع الحرب العالمية الاولى، وإبان نشوبها رأيت في رؤيا صادقة، الآتي:

رأيت نفسي تحت (جبل آرارات) واذا بالجبل ينفلق انفلاقاً هائلاً، فيقذف صخوراً عظيمة كالجبال الى انحاء الأرض كافة. وانا في هذه الرهبة التي غشيتني رأيت والدتي - رحمة الله عليها - بقربي. قلت لها: ((لاتخافي ياأماه! انه أمر الله. انه رحيم، انه حكيم)). واذ أنا بتلك الحالة اذا بشخص عظيم يأمرني قائلاً:

ـ بيّن اعجاز القرآن.

أفقتُ من نومي، وادركتُ انه سيحدث انفلاق عظيم، وستتهدم الأسوار التي تحيط بالقرآن الكريم من جراء ذلك الانفلاق والانقلاب العظيم، وسيتولى القرآن بنفسه الدفاع عن نفسه حيث سيكون هدفاً للهجوم، وسيكون اعجازه، حصنه الفولاذي، وسيكون شخص مثلي مرشحاً للقيام ببيان نوع ٍمن هذا الاعجاز في هذا الزمان ـ بما يفوق حدّي وطوقي كثيراً ـ وأدركتُ اني مرشح للقيام بهذا العمل .

ولمّا كان اعجاز القرآن الكريم قد وضّح ـ الى حدٍّ ما ـ بـ((الكلمات)) فان اظهار العنايات الإلهية في خدمتنا للقرآن، انما هو إمداد للاعجاز بالقوة، اذ ان تلك الخدمة هي لابراز ذلك الاعجاز ومن قبيل بركاته ورشحاته. أي ينبغي إظهارالعنايات الإلهية.

C السبب الثاني:

لما كان القرآن الكريم مرشدنا واستاذنا وامامنا ودليلنا في كل أعمالنا، وانه يثني على نفسه، فنحن اذن سنثني على تفسيره، اتباعاً لإرشاده لنا.

ولما كانت (الكلمات) نوعاً من تفسير القرآن، ورسائل النور عامة ملك القرآن وتتضمن حقائقه، وان القرآن الكريم يعلن عن نفسه في هيبة وعظمة، ويبين مزاياه ويثني على نفسه بما يليق به من ثناء، في كثير من آياته ولاسيما في السور المبتدئة بـ(الر) و (حم)، فنحن اذن مكلفون باظهار العنايات الربانية التي هي علامة لقبول خدمتنا في بيان لمعات اعجاز القرآن المنعكسة في ((الكلمات))، وذلك اقتداءاً باستاذنا القرآن الذي يرشدنا الى هذا النمط من العمل.

C السبب الثالث:

انني لاأقول هذا الكلام الذي يخص(الكلمات) تواضعاً، بل بياناً للحقيقة، وهي:

ان الحقائق والمزايا الموجودة في (الكلمات) ليست من بنات أفكاري ولاتعود اليّ أبداً وانما للقرآن وحده، فلقد ترشحتْ من زلال القرآن، حتى ان الكلمة العاشرة ماهي إلاّ قطرات ترشحت من مئات الآيات القرآنية الجليلة. وكذا الأمر في سائر الرسائل بصورة عامة.

فمادمتُ أعلم الأمر هكذا وانا ماضٍ راحل عن هذه الحياة، وفانٍ زائل، فينبغي ألاّ يربط بي ما يدوم ويبقى من أثر. ومادام عادة أهل الضلالة والطغيان هي الحط من قيمة المؤلف للتهوين من شأن كتاب لايفي بغرضهم. فلابد اذن ألاّ ترتبط الرسائل المرتبطة بنجوم سماء القرآن الكريم بسند متهرئ قابل للسقوط، مثلي الذي يمكن أن يكون موضع اعتراضات كثيرة، ونقدٍ كثير.

ومادام عرف الناس دائراً حول البحث عن مزايا الأثر في أطوار مؤلفه وأحواله الذي يحسبونه منبع ذلك الخير ومحوره الاساس. فانه اجحاف اذاً بحق الحقيقة وظلم لها ـ بناء على هذا العرف ـ ان تكون تلك الحقائق العالية والجواهر الغالية بضاعة مَن هو مفلس مثلي وملكاً لشخصيتي التي لاتستطيع ان تظهر واحداً من ألف من تلك المزايا.

لهذا كله أقول: ان الرسائل ليست ملكي ولامني بل هي ملك القرآن. لذا أراني مضطراً الى بيان أنها قد نالت رشحات من مزايا القرآن العظيم. نعم، لاتُبحث ما في عناقيد العنب اللذيذة من خصائص في سيقانها اليابسة؛ فانا كتلك الساق اليابسة لتلك الاعناب اللذيذة.

C السبب الرابع:

قد يستلزم التواضع كفران النعمة، بل يكون كفراناً بالنعمة عينه، وقد يكون ايضاً التحدث بالنعمة تفاخراً وتباهياً. وكلاهما مضران، والوسيلة الوحيدة للنجاة. اي لكي لايؤدي الأمر الى كفرانٍ بالنعمة ولاالى تفاخر، هي: الإقرار بالمزايا والفضائل دون ادّعاء تملّكها، اي اظهارها انها آثار إنعام المنعم الحقيقي جلّ وعلا.

مثال ذلك: اذا ألبسك أحدُهم بدلة فاخرة جميلة، وأصبحتَ بها جميلاً وأنيقاً،فقال لك الناس: ما أجملك! لقد أصبحت رائعاً بها، وأجبتهم متواضعاً: كلا! مَن أنا، أنا لست شيئاً.. أين الجمال من هذه البدلة!! فان جوابك هذا كفران بالنعمة بلاشك، وسوء أدب تجاه الصانع الماهر الذي ألبسك البدلة. وكذلك إن قلت لهم مفتخراً: نعم! انني جميل فعلاً، فأين مثلي في الجمال والأناقة! فعندها يكون جوابك فخراً وغروراً.

والاستقامة بين كفران النعمة والافتخار هو القول:نعم! انني أصبحت جميلاً حقاً، ولكن الجمال لايعود لي وانما الى البدلة، بل الفضل يخص الذي ألبسنيها.

ولو بلغ صوتي أرجاء العالم كافة لكنت أقول بكل ما اوتيت من قوة: ان (الكلمات) جميلة رائعة وانها حقائق وانها ليست مني وانما هي شعاعات التمعت من حقائق القرآن الكريم. فلم اجمّل انا حقائق القرآن، بل لم أتمكن من اظهار جمالها وانما الحقائق الجميلة للقرآن هي التي جمّلت عباراتي ورفعت من شأنها واستناداً الى قاعدة: وما مدحت محمداً بمقالتي.. ولكن مدحت مقالتي بمحمدٍ(1). اقول:

ومامدحت القرآن بكلماتي …… ولكن مدحت كلماتي بالقرآن.

فما دام الأمر هكذا. أقول باسم جمالية الحقائق القرآنية: ان اظهار جمال (الكلمات) التي هي معاكس تلك الحقائق، وبيان العنايات الإلهية المترتبة على جمال تلك المرايا، انما هو تحدث بنعمة الله، مرغوب فيه.

C السبب الخامس:

سمعت من أحد الأولياء ـ قبل مدة مديدة ـ أنه قد استخرج من الاشارات الغيبية لأولياء سابقين ماأورثه القناعة بأن نوراً سيظهر من جهة الشرق ويبدد ظلمات البدع.

ولقد انتظرتُ طويلاً ظهور مثل هذا النور ومازلت منتظراً له، بيد ان الأزاهير تتفتح في الربيع، فينبغي تهيئة السبل لمثل هذه الأزاهير المقدسة. وأدركنا اننا بخدمتنا هذه، انما نمهّد السبيل لأولئك الكرام النورانيين.

ولاشك ان بيان العنايات الإلهية التي تخص (الكلمات) لايكون مدار فخر وغرور ابداً اذ لايعود الى اشخاصنا بالذات. بل يكون ذلك مدار حمد وشكر وتحدث بالنعمة.

C السبب السادس:

ان العناية الربانية التي هي وسيلة ترغيب ومكافأة عاجلة وجزاء مقدّم لخدمتنا للقرآن بسبب تأليف ((الكلمات)) ما هي الا التوفيق في العمل والنجاح في الخدمة، والتوفيق في الخدمة يُظهرَ ويعلن عنه، واذا مامضت العناية من التوفيق والنجاح وسَمَت، فانها تكون إكراماً إلهياً. واظهار الاكرام الإلهي شكرٌ معنوي. واذا ما ارتقت العناية الى اعلى من الاكرام، فلا محالة انها تكون كرامة قرآنية، قد حظينا بها، واظهار كرامة من هذا النوع دون اختيار منا، ومن حيث لانحتسب ومن دون علمنا، ليس فيه ضرر. واذا ما ارتقت العناية فوق الكرامة الاعتيادية، فلاشك انها تكون شُعل الاعجاز المعنوي للقرآن الكريم. ولما كان الاعجاز لابد أن يعلن عنه، فان اظهار ما يمدّه بالقوة يكون في سبيله ايضاً، ولايكون مبعث تفاخر وغرور ابداً، بل مبعث حمد وشكر.

C السبب السابع:

ان ثمانين بالمائة من الناس ليسوا محققين علماء، كي ينفذوا الى الحقيقة ويسبروا غورها ويصدقوا بها، ويقبلوها، بل يقبلون المسائل تقليداً لما سمعوه من أناس هم موضع ثقتهم واعتمادهم بناءً على ظاهر حالهم وعلى حسن الظن بهم، حتى ان حقيقة قوية يرونها ضعيفة لأنها في يد شخص ضعيف بينما يعدّون مسألة تافهة في يد شخص مرموق مسألة قيمة. لذا اضطر الى الاعلان عن الحقائق الايمانية والقرآنية التي هي في يد شخصي الضعيف الذي لاقيمة له ولاأهمية، لئلا احطّ من قيمتها أمام أنظار أغلب الناس، فأقول: ان هناك مَن يستخدمنا ويسوقنا الى الخدمة دون اختيارٍ منا ودون علمنا، ويسخّرنا في أمور جسام دون معرفتنا. ودليلنا هو اننا نحظى بقسم من عنايات إلهية وتيسيرات ربانية خارج شعورنا وبلا اختيار منا. ولهذا نضطر الى الاعلان عن تلك العنايات اعلاناً صارخاً على ملأ من الناس.

% % %

هذا وبناءً على الاسباب السبعة المذكورة، نشير الى بضع عنايات ربانية كلية:

u الاشارة الاولى:

وهي ((التوافقات)) التي وضحت في النكتة الاولى من المسألة الثامنة من (المكتوب الثامن والعشرين). ولقد تناظر مايزيد على مائتي كلمة من كلمات ((الرسول الكريم e )) في موازنة تامة، في ستين صحيفة من صفحات رسالة ((المعجزات الاحمدية)) باستثناء صحيفتين، ابتداءً من الاشارة الثالثة الى الاشارة الثامنة عشرة منها، وذلك لدى احد المستنسخين، دون ان يكون له علم بالتوافق. فمن ينظر بانصاف الى صحيفتين من الرسالة فحسب يصدّق ان ذلك لايمكن ان يكون نتيجة مصادفة ابداً، اذ ربما تتناظر كلمات متشابهة ان وجدت في صحيفة واحدة، وتعدّ توافقاً ناقصاً لاحتمال وجود المصادفة، بينما الأمر هنا، ان كلمة الرسول الكريم e ، قد توافقت في تناظر متوازن في صفحات كثيرة، بل في جميعها، ولاتوجد في الصفحة الواحدة إلاّ اثنتان او ثلاثة او اربعة او أكثر منها. أي ان عددها ليس بكثرة، فلاشك ان التناظر ناشئ عن توافق لا عن مصادفة، فضلاً عن ان التوافق جرى لدى ثمانية مستنسخين ولم يتغير توازن التوافق لديهم رغم اختلافهم.. مما يدل ان في ذلك التوافق اشارة غيبية قوية . اذ كما ان بلاغة القرآن قد علت الى درجة الاعجاز ففاقت بلاغته كتـب البلغاء كلهم، حتى لايمكن ان يبلغ أحد منهم شأو ذلك الاعجاز، كذلك التوافقات الموجودة في (المكتوب التاسع عشر) ـ الذي هو مرآة لمعجزات الرسول e ـ وفي (الكلمة الخامسة والعشرين) التي هي معكس اعجاز القرآن، وفي اجزاء (رسائل النور) الأخرى التي هي نوع من تفسير للقرآن الكريم.. أقول؛ هذه التوافقات تبيّن غرابة تفوق جميع الكتب، مما يفهم منها انها نوع من كرامات معجزات القرآن ومعجزات الرسول الكريم e تتجليان في تلك المرايا وتتمثلان فيها.

u الاشارة الثانية:

العناية الربانية الثانية التي تخص الخدمة القرآنية هي:

ان الله سبحانه وتعالى قد أنعم عليّ باخوة أقوياء جادّين، مخلصين، غيورين، مضحين، لهم أقلام كالسيوف الالماسية، ودفعهم ليعاونوا شخصاً مثلي لايجيد الكتابة، نصف أمي، في ديار الغربة، مهجور، ممنوع عن الاختلاط بالناس. وحمّل سبحانه كواهلهم القوية ماأثقل ظهري الضعيف العاجز من ثقل الخدمة القرآنية، فخفف بفضله وكرمه سبحانه حملي الثقيل.

فتلك الجماعة المباركة في حكم اجهزة البث اللاسلكي (بتعبير خلوصي) وبمثابة مكائن توليد الكهرباء لمصنع النور (حسب تعبير صبري). ومع ان كلاً منهم يملك مزايا متنوعة وخواصّ راقية متباينة إلاّ أن فيهم نوعاً من توافقات غيبية (حسب تعبير صبري) اذ يتشابهون في الشوق الى العمل والسعي فيه والغيرة على الخدمة والجدية فيها، اذ إن نشرهم الاسرار القرآنية والانوار الايمانية الى الاقطار وابلاغها جميع الجهات، وقيامهم بالعمل دون فتور، وبشوق دائم وهمة عالية، في هذا الزمان العصيب (حيث الحروف قد تبدلت ولاتوجد مطبعة، والناس بحاجة الى الانوار الايمانية) فضلاً عن العوائق الكثيرة التي تعرقل العمل وتولد الفتور، وتهوّن الشوق .. أقول ان خدمتهم هذه كرامة قرآنية واضحة وعناية إلهية ظاهرة ليس إلاّ.

نعم! فكما ان للولاية كرامة، فان للنية الخالصة كرامة ايضاً، وللاخلاص كرامة ايضاً، ولاسيما الترابط الوثيق والتساند المتين بين الاخوان ضمن دائرة اخوة خالصة لله، تكون له كرامات كثيرة، حتى ان الشخص المعنوي لمثل هذه الجماعة يمكن ان يكون في حكم ولي كامل يحظى بالعنايات الالهية.

فياأخوتي وياأصحابي في خدمة القرآن!

كما ان اعطاء جميع الشرف والغنائم كلها الى آمر الفوج الذي فتح حصناً، ظلم وخطأ، كذلك لايمكنكم اسناد العنايات الإلهية في الفتوحات التي تمت بقوة شخصكم المعنوي وبأقلامكم الى شخص عاجز مثلي. اذ مما لاشك؛ ان في مثل هذه الجماعة المباركة توجد اشارة غيبية قوية أكثر من التوافقات الغيبية. وانني أراها، ولكن لاأستطيع اظهارها لكل أحد ولاللناس عامة.

u الاشارة الثالثة:

ان اثبات اجزاء (رسائل النور) لجميع الحقائق الايمانية والقرآنية المهمة، حتى لأعتى المعاندين، اثباتاً ساطعاً، انما هو اشارة غيبية قوية جداً، وعنايةإلهية عظيمة. لأن هناك من الحقائق الايمانية والقرآنية، اعترف بعجزه عن فهمها من يعدّ أعظم صاحب دهاء، وهو (ابن سينا) الذي قال في (مسألة الحشر):((الحشر ليس على مقاييس عقلية)) بينما تُعلّم (الكلمة العاشرة) عوام الناس والصبيان حقائق لم يستطع ان يبلغها ذلك الفيلسوف بدهائه.

وكذا مسائل (القدر والجزء الاختياري) التي لم يحلها العلامة الجليل (السعد التفتازاني)(1) إلاّ في خمسين صحيفة، وذلك في كتابه المشهور بـ((التلويح)) من قسم ((المقدمات الاثنتي عشرة))، ولم يبيّنها إلاّ للخواص من العلماء، هذه المسائل تبينها (الكلمة السادسة والعشرون) ((رسالة القدر)) في صحيفتين من المبحث الثاني منها بياناً شافياً وافياً، وبما يوافق أفهام الناس كلهم. فان لم يكن هذا من أثر العناية الإلهية فما هو اذن؟.

وكذا سر خلق العالم، المسمى بـ(طلسم الكائنات) الذي جعل العقول في حيرة منه، ولم تحلّ لغزه اية فلسفة كانت، كشف اسراره وحل ألغازه الاعجاز المعنوي للقرآن العظيم، وذلك في (المكتوب الرابع والعشرين) وفي النكتة الرمزية الموجودة في ختام (الكلمة التاسعة والعشرين)، وفي الحِكَم الست لتحوّل الذرات في (الكلمة الثلاثين). هذه الرسائل قد حلت ذلك الطلسم المغلق في الكون، وكشفت عن اسرار ذلك المعمى المحيّر في خلق الكون وعاقبته، وبينت حكمة الذرات وتحولاتها. وهي متداولة لدى الجميع، فليراجعها من شاء.

وكذا حقائق الأحدية، ووحدانية الربوبية بلاشريك، وحقائق القرب الإلهي قرباً أقرب الينا من أنفسنا، وبُعدنا نحن عنه سبحانه بُعداً مطلقاً.. هذه الحقائق الجليلة قد وضحتها توضيحاً كاملاً كل من (الكلمة السادسة عشرة) و (الكلمة الثانية والثلاثين).

وكذا القدرة الإلهية المحيطة بكل شئ، وتساوي الذرات والسيارات ازاءها، وسهولة احيائها ذوي الارواح كافة في الحشر الاعظم كسهولة احياء فرد واحد، وعدم تدخل الشرك قطعاً في خلق الكون، وانه بعيد عن منطق العقل بدرجة الامتناع.. كل هذه الحقائق قد كشفت في (المكتوب العشرين) لدى شرح (وهو على كل شئ قدير). وفي ذيله الذي يضم ثلاثة تمثيلات، الذي حلّ ذلك السر العظيم، سر التوحيد.

هذا فضلاً عن أن الحقائق الايمانية والقرآنية لها من السعة والشمول مالايمكن ان يحيط به ذكاء أذكى انسان! أليس اذاً ظهور الاكثرية المطلقة لتلك الحقائق بدقائقها لشخص مثلي مشوش الذهن، مشتت الحال، لامرجع ومصدر لديه من الكتب، ويتم التأليف في سرعة وفي أوقات الضيق والشدة؟ أقول: أليس ذلك أثراً من آثار الاعجاز المعنوي للقرآن الكريم وجلوة من جلوات العناية الربانية واشارة غيبية قوية؟.

u الاشارة الرابعة:

لقد أنعم الله عليّ بتأليف ستين رسالة بهذا النمط من الانعام والاحسان، اذ من كان مثلي ممن يفكر قليلاً ويتتبع السنوح القلبي، ولايجد متسعاً من الوقت للتدقيق والبحث، يتم في يده تأليف مالايقدر على تأليفه جماعة من العلماء والعباقرة مع سعيهم الدائب، فتأليفها اذن على ذلك الوجه يدّل على انها أثر عناية إلهية مباشرة، لأن جميع الحقائق العميقة الدقيقة في هذه الرسائل كلها تُفهَّم وتدرّس الى عوام الناس واكثرهم أمية بوساطة التمثيلات. مع ان علماء أجلاء قالوا عن اكثر تلك الحقائق انها لاتعلّم ولاتدرس، فلم يعلّموها للعوام وحدهم، ولا للخواص ايضاً.

وهكذا فهذا التسهيل الخارق في التأليف والتيسير في بيان الحقائق، بجعل أبعد الحقائق عن الفهم كأنها في متناول اليد وتدريسها الى أكثر الناس بساطة وأمية، لايكون في وسع شخص مثلي له باع قصير في اللغة التركية، وكلامه مغلق ولايفهم كثير منه، حتى يجعل الحقائق الظاهرية معضلة، واشتهر بهذا منذ السابق وصدّقت آثاره القديمة شهرته السيئة تلك.. فمثل هذا الشخص يجري في يده هذا التيسير والبيان الواضح لاشك انه أثر من آثار العناية الإلهية، ولايمكن ان يكون من حذاقة ذلك الشخص، بل هو جلوة من جلوات الاعجاز المعنوي للقرآن الكريم، وصورة منعكسة للتمثيلات القرآنية.

u الاشارة الخامسة:

على الرغم من انتشار الرسائل ـ بصورة عامة ـ انتشاراً واسعاً جداً، فان عدم قيام أحد بانتقادها ابتداءً من أعظم عالم الى أدنى رجل من العوام، ومن اكبر ولي صالح تقي الى أحط فيلسوف ملحد عنيد، هؤلاء الذين يمثلون طبقات الناس وطوائفهم. ورغم انها معروضة امامهم ويرونها ويقرأونها، وقد استفادت كل طائفة منها حسب درجتها، بينما تعرّض قسم منهم الى لطماتها وصفعاتها.. أقول: ان كل ذلك ليس إلاّ أثر عناية ربانية وكرامة قرآنية.. ثم ان تلك الأنماط من الرسائل التي لاتؤلف إلاّ بعد بحث دقيق وتحرّ ٍ عميق، فان كتابتها واملاءها بسرعة فوق المعتاد اثناء انقباض وضيق - وهما يشوشان أفكاري وادراكي ـ اثر عناية ربانية وإكرام إلهي ليس إلاّ.

نعم! يعلم أكثر أخواني ومَن عندي من الاصدقاء والمستنسخين جميعهم؛ ان الاجزاء الخمسة من (المكتوب التاسع عشر)، قد أُلفت في ثلاثة او اربعة ايام بمعدل ساعتين او ثلاث ساعات يومياً، أي بمجموع اثنتي عشرة ساعة دون مراجعة كتاب، حتى ان الجزء الرابع المهم جداً الذي اظهر ختماً واضحاً للنبوة في كلمة الرسول الكريم e قد كتب بظهر الغيب في حوالي أربع ساعات وفي زوايا الجبال وتحت المطر.

وكذلك (الكلمة الثلاثون) التي هي رسالة جليلة دقيقة ألفت في أحد البساتين، خلال ست ساعات، كما ان (الكلمة الثامنة والعشرين) ألفت في ظرف لايتجاوز ساعتين في بستان ((سليمان)).

وهكذا كان تأليف اكثر الرسائل الأخرى.

ويعلم الأقربون مني، انني - في السابق - كلما كنت اتضايق من شئ أعجز عن بيان أظهر الحقائق، بل كنت أجهلها. ولاسيما اذا مازاد المرض على ذلك الضيق، كنت امتنع أكثر عن التدريس والتأليف، بينما ألفت ((الكلمات)) المهمة، وكذلك الرسائل الأخرى في أشد أوقات المرض والضيق، وتم التأليف في أسرع وقت. فان لم يكن هذا إكراماً ربانياً وكرامة قرآنية مباشرة، فما هو اذن؟.

ثم انه ما من كتاب يبحث في مثل هذه الحقائق الإلهية والايمانية إلاّ ويترك بعض مسائله ضرراً في عدد من الناس، لذا ما كان ينشر كل مسألة منه الى الناس كافة. اما هذه الرسائل فلم تلحق أي ضرر كان ولم تؤثر تأثيراً سيئاً في أحد من الناس ولم تخدش ذهن أحد قط رغم استفساري عن ذلك من الكثيرين حتى تحقق لدينا ان ذلك اشارة غيبية وعناية ربانية مباشرة.

u الاشارة السادسة:

لقد تحقق لديّ يقيناً: ان اكثر أحداث حياتي، قد جرت خارجة عن طوق اقتداري وشعوري وتدبيري، اذ اُعطيت سيراً معيناً ووجهت وجهة غريبة لتنتج هذه الانواع من الرسائل التي تخدم القرآن الحكيم. بل كأن حياتي العلمية جميعها بمثابة مقدمات تمهيدية لبيان اعجاز القرآن بـ((الكلمات)) حتى انه في غضون هذه السنوات السبع من حياة النفي والاغتراب وعزلي عن الناس ـ دون سبب او مبرر وبما يخالف رغبتي ـ أمضي ايام حياتي في قرية نائية خلافاً لمشربي وعزوفي عن كثير من الروابط الاجتماعية التي ألفتها سابقاً .. كل ذلك ولّد لي قناعة تامة لايداخلها شك من انه تهيئة وتحضير لي للقيام بخدمة القرآن وحده، خدمة صافية لاشائبة فيها.

بل انني على قناعة تامة من ان المضايقات التي يضايقونني بها في اغلب الاوقات والعنت الذي ارزح تحته ظلماً، انما هو لدفعي - بيد عناية خفية رحيمةــ الى حصر النظر في اسرار القرآن دون سواها. وعدم تشتيت النظر وصرفه هنا وهناك. وعلى الرغم من انني كنت مغرماً بالمطالعة، فقد وهبتْ لروحي مجانبة واعراضاً عن أي كتاب آخر سوى القرآن الكريم.

فادركت ان الذي دفعني الى ترك المطالعة ـ التي كانت تسليتي الوحيدة في مثل هذه الغربة ـ ليس إلاّ كون الآيات القرآنية وحدها استاذاً مطلقاً لي.

ثم ان الآثار المؤلفة والرسائل – باكثريتها المطلقة – قد اُنعمت عليّ بها لحاجة تولدت في روحي فجأة، ونشأت آنياً. دون ان يكون هناك سبب خارجي. وحينما كنت أظهرها لبعض أصدقائي، كانوا يقولون: ((انها دواء لجراحات هذا الزمان)). وبعد انتشارها عرفت من معظم اخواني انها تفي بحاجة هذا العصر وتضمد جراحاته.

فهذه الحالات المذكورة آنفاً ـ وهي خارجة عن نطاق ارادتي وشعوري وسير حياتي ـ ومجموع تتبعاتي في العلوم خلاف عادة العلماء وبما هو خارج عن اختياري، كل ذلك لم يترك لي شبهة قطعاً بانها عناية إلهية قوية واكرام رباني واضح، للانجرار الى مثل هذه النتيجة السامية.

u الاشارة السابعة:

لقد شاهدنا بأم أعيننا ـ دون مبالغة ـ مائة من آثار الاكرام الإلهي، والعناية الربانية، والكرامة القرآنية خلال زهاء ست سنوات من سير خدمتنا للقرآن الكريم. وقد أشرنا الى قسم منها في (المكتوب السادس عشر) وبيّنا قسماً آخر في المسائل المتفرقة للمبحث الرابع من (المكتوب السادس والعشرين) وفي المسألة الثالثة من (المكتوب الثامن والعشرين). وان أصحابي القريبين يعلمون هذا. ولاسيما صاحبي الدائم، السيد سليمان، يعلم أكثرها، فحظينا بتيسيرإلهي ذي كرامة لايخطر على بال، سواء في نشر ((الكلمات)) والرسائل الاخرى، او في تصحيحها ووضعها في مواضعها وفي تسويدها وتبييضها. فلم يبق لدينا ريب ـ بعد ذلك ـ ان كل تلك العنايات الإلهية كرامة قرآنية .. ومثال هذا بالمئات.

ثم اننا نُربىّ بشفقة ورأفة وتجري معيشتنا بعناية بحيث يُحسِن الينا صاحب العناية الذي يستخدمنا في هذه الخدمة بما يحقق أصغر رغبة من رغبات قلوبنا، وينعم بها علينا من حيث لانحتسب .. وهكذا.

فهذه الحالة اشارة غيبية في منتهى القوة الى اننا نستخدم في هذه الخدمة القرآنية وندفع الى العمل مكللين بالرضى الإلهي مستظلين بظل العناية الربانية.

الحمد لله هذا من فضل ربي

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{

اللهم صلّ على سيدنا محمد صلاة تكون لك رضاءً ولحقهِ اداءً وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً . آمين .



جواب عن سؤال خاص

ان هذا السر، وهو سر عناية إلهية، قد كتب للتداول الخاص، واُلحق في ختام الكلمة الرابعة عشرة، ولكن - بأية حال - نسي المستنسخون ان يكتبوه، فظل مخفياً مستوراً. فموضعه اذن ههنا وهو الأليق به.

انك يا أخي تسأل: لماذا نجد تأثيراً غير اعتيادي فيما كتبته في ((الكلمات)) المستقاة من فيض القرآن الكريم، قلّما نجده في كتابات العارفين والمفسرين. فما يفعله سطرٌ واحد منها من التأثير يعادل تأثير صحيفة كاملة من غيرها، وماتحمله صحيفة واحدة من قوة التأثير يعادل تأثير كتاب كامل آخر؟

فالجواب: وهو جواب لطيف جميل، اذ لما كان الفضل في هذا التأثير يعود الى اعجاز القرآن الكريم وليس الى شخصي أنا، فسأقول الجواب بلاحرج:

نعم! هو كذلك على الاغلب؛ لأن الكلمات:

تصديق وليست تصوراً (1).

وايمانٌ وليست تسليماً(2).

وتحقيق وليست تقليداً(3).

وشهادة وشهود وليست معرفة(4).

واذعان وليست التزاماً(5).

وحقيقة وليست تصوفاً .

وبرهان ضمن الدعوى وليست ادعاءاً

وحكمة هذا السر هي:

ان الاسس الايمانية كانت رصينة متينة في العصور السابقة، وكان الانقياد تاماً كاملاً، اذ كانت توضيحات العارفين في الامور الفرعية مقبولة، وبياناتهم كافية حتى لو لم يكن لديهم دليل.

اما في الوقت الحاضر فقد مدّت الضلالة باسم العلم يدها الى اسس الايمان واركانه، فوهب لي الحكيم الرحيم - الذي يهب لكل صاحب داء دواءه المناسب - وانعم عليّ سبحانه شعلةً من ((ضرب الامثال)) التي هي من اسطع معجزات القرآن واوضحها، رحمةً منه جل وعلا لعجزي وضعفي وفقري واضطراري، لأُنير بها كتاباتي التي تخص خدمة القرآن الكريم. فـله الحمد والمنة:

فبمنظار ((ضرب الامثال)) قد أُظهرَتْ الحقائق البعيدة جداً انها قريبة جداً.

وبوحدة الموضوع في ((ضرب الامثال))قد جُمِّعَتْ اكثر المسائل تشتتاً وتفرقاً.

وبسلّم ((ضرب الامثال))قد تُوصِّل الى اسمى الحقائق واعلاها بسهولة ويُسر.

ومن نافذة ((ضرب الامثال)) قد حُصّل اليقين الايماني بحقائق الغيب واسس الاسلام مما يقرب من الشهود.

فاضطر الخيال الى الاستسلام وأُرغم الوهم والعقل الى الرضوخ، بل النفس والهوى. كما اضطر الشيطان الى إلقاء السلاح.

حاصل الكلام:

انه مهما يظهر من قوة التأثير، وبهاء الجمال في اسلوب كتاباتي، فانها ليست مني، ولا مما مضغه فكري، بل هي من لمعات ((ضرب الامثال)) التي تتلألأ في سماء القرآن العظيم، وليس حظي فيها الا الطلب والسؤال منه تعالى، مع شدة الحاجة والفاقة، وليس لي إلاّ التضرع والتوسل اليه سبحانه مع منتهى العجز والضعف.

فالداء مني والدواء من القرآن الكريم .

خاتمـة

الـمسألة السابعة

[هذه الخاتمة تخص ازالة الشبهات التي تثار او ربما تثار حول الاشارات الغيبية التي وردت في صورة ثماني عنايات الهية، وفي الوقت نفسه تبين هذه الخاتمة سراً عظيماً لعناية الهية].

وهذه الخاتمة عبارة عن اربع نكات.

النكتة الاولى:

لقد ادّعينا مشاهدتنا لجلوة اشارة غيبية، كتبناها في (العناية الإلهية الثامنة) في معرض بياننا ((للتوافقات)) وقد أحسسنا هذه الاشارة من العنايات الإلهية السبعة الكلية المعنوية المذكورة في المسألة السابعة من (المكتوب الثامن والعشرين) وما زلنا ندّعي ان هذه العنايات السبعة او الثمانية الكلية قوية وقاطعة الى درجة تثبت كل واحدة منها على حدتها تلك الاشارات الغيبية، بل لو فرض فرضاً محالاً ان قسماً منها تبدو ضعيفة، او لو أُنكر، فلا يخل ذلك بقطعية تلك الاشارات الغيبية، اذ مَن لم يقدر على انكار تلك العنايات الثمانية لايستطيع ان ينكر تلك الاشارات.

ولكن لما كانت طبقات الناس متفاوتة، وطبقة العوام هم الذين يمثلون الغالبية العظمى، وانهم يعتمدون كثيراً على المشاهدة، لذا غدت ((التوافقات)) أظهر تلك العنايات الالهية، وهي ليست أقواها بل الأخريات أقوى منها، الاّ انها أعمها، ولهذا اضطررت الى بيان حقيقة معينة في صورة موازنة ومقارنة دفعاً للشبهات التي تثار حول ((التوافقات)). وذلك:

لقد قلنا في حق تلك العناية الظاهرة: ان التوافقات مشاهدة في كلمتي ((القرآن الكريم)) و ((الرسول الكريم e )) وفي الرسائل التي ألفناها، الى حدٍ لاتدع شبهة من انها نُظــّمت قصداً وأعطيت لها وضعاً موازياً. والدليل على ان القصد والارادة ليسا منا، هو اطلاعنا على تلك التوافقات بعد حوالي أربع سنوات، أي ان هذا القصد والارادة كانت غيبية وأثراً من آثار العناية الالهية، فأُعطيت تلكما الكلمتان ذلك الوضع الغريب تأييداً محضاً لمعجزات الرسول الكريم e والاعجاز القرآني. واصبحت ببركة هاتين الكلمتين ((التوافقات)) ختم تصديقٍ لرسالتي ((المعجزات الاحمدية)) و ((المعجزات القرآنية)).

بل نالت أكثر الكلمات المتشابهة من أمثالهما توافقات ايضاً ولكن في صفحات محدودة، بينما أظهرت هاتان الكلمتان توافقات في معظم صفحات الرسائل عامة، وفي جميع صفحات تلكما الرسالتين.

وقد كررنا القول : ان أصل هذا التوافق يمكن ان يوجد بكثرة في الكتب الاخرى، ولكن ليست بهذه الدرجة من الغرابة الدالة على القصد والارادة السامية العالية.

وبعد، فعلى الرغم من ان دعوانا هذه لايمكن نقضها، إلاّ أن فيها جهة او جهتين ربما تتراءى للنظر الظاهري كأنها باطلة. منها:

انه يمكن ان يقولوا: انكم تنظمون هذا التوافق بعد تفكر وانعام نظر، والقيام بمثل هذا العمل بقصد وارادة سهل ويسير!

نقول جواباً عن هذا :

ان شاهدين صادقين في دعوى ما، كافيان لإثباتها، ففي دعوانا هذه يمكننا ان نبرز مائة شاهد صادق على اننا قد اطلعنا على التوافق بعد حوالي أربع سنوات، من غير ان يتعلق به قصدنا وارادتنا.

ولهذه المناسبة أوضح نقطة، هي:

ان هذه الكرامة الاعجازية ليست من نوع درجة الاعجاز القرآني من حيث البلاغة. لأن؛ البشر في الاعجاز القرآني البلاغي يعجز كلياً عن ان يبلغ درجة بلاغة القرآن بسلوكه طريق البلاغة.

اما هذه الكرامة الاعجازية، فانها لايمكن ان تحصل بقدرة البشر، فالقدرة لاتتدخل فيها(1).

وقد شاهدنا بابصارنا واقع هذا الهامش. [بكر، توفيق، سليمان، غالب، سعيد ((المؤلف))].

النكتة الثالثة:

نشير الى سر دقيق من اسرار الربوبية والرحمانية لمناسبة البحث عن الاشارة الخاصة والاشارة العامة.

ان لأحد اخواني قولاً جميلاً، سأجعله موضوع هذه المسألة، وذلك:

انه عندما عرضتُ عليه يوماً توافقاً جميلاً قال: انه جميل، اذ كل حقيقة جميلة، إلاّ أن الأجمل منها التوفيق والتوافقات الموجودة في هذه ((الكلمات)).

فقلت: ((نعم! ان كل شئ جميل، ولكن اما انه جميل حقيقةً اي بالذات او جميل باعتبار نتائجه. وان هذا الجمال متوجّه الى الربوبية العامة، والرحمة الشاملة والتجلي العام. وان الاشارة الغيبية في هذا التوفيق هي أجمل، كما قلتَ.. لأنها تنم عن رحمة خاصة وربوبية خاصة وتجلٍ خاص)).

وسنقرب هذا الى الفهم بتمثيل، وذلك:

ان السلطان يشمل برعايته وبرحمته جميع أفراد الامة، وذلك بقوانينه ودولته، فكل فرد ينال مباشرةً لطفه وكرمه ويستظل بظل دولته. اي هناك علاقات خاصة للافراد ضمن هذه الصورة العامة.

اما الجهة الثانية (من رعايته ورحمته) فهي آلاؤه الخصوصية، وأوامره الخاصة التي هي فوق جميع القوانين، ولكل فرد من رعاياه حصة من هذه الآلاء.

فعلى غرار هذا المثال: فان لكل شئ حظاً من الربوبية العامة والرحمة الشاملة لواجب الوجود والخالق الحكيم الرحيم، اي ان كل شئ ذو علاقة معه بصورة خاصة في الجهة التي حظى بها. وان له تصرفاً في كل شئ بقدرته وارادته وعلمه المحيط. فربوبيته شاملة كل شئ حتى أصغر الافعال. وكل شئ محتاج اليه سبحانه في كل شأن من شؤونه، فتقضى أموره وتنظم أفعاله بعلمه وحكمته جل وعلا.

فلا تستطيع الطبيعة ان تتخفى ضمن دائرة تصرف ربوبيته الجليلة، او تتداخل فيها مؤثرةً فيها، ولا المصادفة تتمكن من التدخل في اعماله سبحانه الموزونة بميزان الحكمة الدقيق. ولقد اثبتنا اثباتاً قاطعاً عدم تأثير الطبيعة والمصادفة في عشرين موضعاً من الرسائل واعدمناهما بسيف القرآن الكريم، واظهرنا بالحجج الدامغة ان تدخلهما في الامور محال قطعاً.

بيد ان اهل الغفلة أطلقوا اسم (المصادفة) على الامور التي لاتعرف حكمتها واسبابها في نظرهم من الظواهر التي هي مشمولة بالربوبية العامة، ولما عجزوا عن رؤية قوانين الافعال الإلهية التي لايحاط بحكمها المتسترة تحت ستار الطبيعة، اسندوا الامر الى الطبيعة.

الثانية:

هي الربوبية الخاصة، والتكريم الخاص والامداد الرحماني الخاص، بحيث ان الذين لايتحملون ضغوط القوانين العامة يسعفهم اسم الرحمن والرحيم ويمدّهم ويعاونهم معاونة خاصة وينجيهم من ذلك الضيق والعنت.

ولهذا فكل كائن حي، ولاسيما الانسان، يستعين به سبحانه، ويستمد المدد منه كل آن، فاحسانه ونعمه التي هي في هذه الربوبية الخاصة، لايمكن ان تتخفى تحت المصادفة ولايمكن ان تسند الى الطبيعة حتى لدى اهل الغفلة أنفسهم.

وبناءً على ما سبق، فقد اعتقدنا بان الاشارات الغيبية التي هي في (المعجزات الاحمدية) و (المعجزات القرآنية) اشارة غيبية خاصة، وايقنّا انها امداد رباني خاص وعناية إلهية خاصة تستطيع ان تظهر نفسها امام المعاندين، ولهذا أعلنّا عنها نيلاً لرضاه تعالى فحسب.

فلئن قصّرنا فنرجو عفوه سبحانه . آمين.

} ربنا لاتؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا{

الـمسألة الثامنة

وهي الرسالة الثامنة

[هذه المسألة عبارة عن ثماني نكات كتبت جواباً عن ستة أسئلة]

C النكتة الاولى:

لقد شعرنا بكثير من انواع الاشارات الغيبية، حول استخدامنا في خدمة القرآن تحت عناية إلهية، وقد بيّنا بعضها. وهذه اشارة جديدة منها، وهي وجود ((توافقات غيبية)) في اكثر ((الكلمات))(1).

منها: اشارة غيبية، لتمثّل نوعٍ من نور الاعجاز، في كلمة (الرسول الاكرم)، وفي عبارة (عليه الصلاة والسلام) وفي لفظ (القرآن) المبارك. والاشارة الغيبية مهما كانت خفية وضعيفة، فهي في نظري على جانب عظيم من الأهمية والقوة، وذلك لدلالتها على صواب المسائل وقبول الخدمة، وانها تحدُّ من غروري وتكسر شوكته.

وقد بينت لي بوضوح؛ انني لست إلاّ ترجماناً للرسائل، ولم تدع لي شيئاً من موضع افتخار بل تظهر لي الاشياء التي هي مدار شكران فحسب.. وحيث ان الاشارات الغيبية تخص القرآن الكريم وترجع اليه، وتمضي في سبيل بيان اعجازه، ولاتخالطها ارادتنا ابداً، وتحث المتكاسلين في الخدمة على العمل، وتورث قناعة بأحقية الرسالة، وهي نوع من إكرام إلهي لنا، وفي اظهارها تحدّث بالنعمة، وإلزام المتمردين الماديين الحجة واسكاتهم.. فيستلزم إذاً اظهارها، ولاضرر فيه ان شاء الله.

وهكذا فاحدى هذه الاشارات الغيبية هي:

ان الله سبحانه وتعالى قد أنعم علينا بكمال رحمته وعموم كرمه، حثاً لنا على العمل وتطميناً لقلوبنا ـ نحن المشتغلين بخدمة القرآن والايمان ـ نعمة لطيفة في صورة اكرام رباني، واحسانٍ إلهي، علامةً على قبول خدمتنا وتصديقاً على أحقية ما ألــّفناه، تلك هي الاشارات الغيبية في ((التوافقات)) التي ظهرت في جميع رسائلنا، ولاسيما في ((المعجزات الاحمدية)) ورسالة ((المعجزات القرآنية)) ورسالة ((النوافذ))، حيث تتناظر فيها الكلمات المتماثلة في الصحيفة الواحدة.

وفي هذا اشارة غيبية الى انها تُنظم بارادة غيبية، اي: ((ان نقوشاً وانتظامات خارقة تُجرى دون علمٍ لاختياركم اياها ولايبلغها شعوركم، فلا تغتروا بارادتكم وشعوركم!)).. ولاسيما في ((المعجزات الاحمدية)) التي أصبحت فيها كلمة ((الرسول الاكرم)) ولفظ ((الصلوات عليه)) في حكم المرآة، تبين تلك التوافقات الغيبية بوضوح، بل تناظرت عبارة ((الصلوات عليه)) متوازية في اكثر من مائتي صفحة ـ باستثناء خمس صفحات ـ لدى مستنسخ جديد مبتدئ.

فهذه التوافقات كما لاتكون من شأن المصادفة قطعاً، التي قد تكون سبباً لتوافق كلمتين من كل عشر كلمات، لاتكون نابعة كذلك من تفكير شخص ضعيف مثلي، غير حاذق الصنعة، والذي يحصر نظره في المعنى، ويؤلف في سرعة فائقة مايقارب اربعين صحيفة في حوالي ساعتين من الزمن. فضلاً عن انه لايكتب بل يُملي على غيره ويستكتبه..

وهكذا وبعد مضي ست سنوات اطلعتُ على تلك التوافقات بارشاد القرآن الكريم ايضاً، وبارشاد تفسير ((اشارات الاعجاز))، حيث جاء التوافق فيه في تسع كلمات من كلمة ((إنــّا)). وقد حار المستنسخون كثيراً في الامر بعد سماعهم التوافق مني.

فكما ان لفظ ((الرسول الاكرم)) ولفظ ((الصلوات عليه)) في (المكتوب التاسع عشر) أصبحا كمرآة صغيرة لنوع من أنواع معجزاته e . كذلك لفظ ((القرآن)) في رسالة ((المعجزات القرآنية)) وهي (الكلمة الخامسة والعشرون) وفي الاشارة الثامنة عشرة من (المكتوب التاسع عشر) قد ظهر في توافق لطيف مما بيّن جزءاً من اربعين جزء من ((التوافقات)) التي ظهرت في سائر الرسائل ايضاً، والتي تبين نوعاًمن الانواع الأربعين لاعجاز القرآن ازاء طبقة الناس الذين يعتمدون على مشاهداتهم وحدها، وهم الذين يمثلون واحدةً من اربعين طبقة من طبقات الناس. وذلك:

لقد تكرر لفظ ((القرآن)) مائة مرة في (الكلمة الخامسة والعشرين) وفي الاشارة الثامنة عشرة من (المكتوب التاسع عشر)، وتناظرت الكلمات جميعها إلاّ ماندر.

ففي الصحيفة الثالثة والاربعين من الشعاع الثاني، هناك سبعة من لفظ ((القرآن)) تتناظر كلها.

وفي الصحيفة السادسة والخمسين التي فيها تسعة من لفظ ((القرآن))، تتناظر ثماني كلمات منها.

وهذه الصحيفة التاسعة والستون ـ التي أمام أبصارنا ـ توجد خمسة ألفاظ من ((القرآن)) تتناظر جميعها. وهكذا تتناظر ألفاظ ((القرآن)) المكررة الواردة في جميع الصفحات. وقلما يستثنى واحد من كل خمسة او ستة ألفاظ منه. واما سائر التوافقات، ففي الصحيفة الثالثة والثلاثين ـ التي هي أمامنا ـ خمسة عشر لفظاً لـ((أمْ))، تتناظر اربعة عشر منها، وكذلك في هذه الصحيفة التي أمام أعيننا، تتناظر تسعة من لفظ ((الايمان))، وانحرف واحد انحرافاً قليلاً، بوضع المستنسخ فاصلة بين الكلمات، وكذا في هذه الصحيفة التي أمامنا يتناظر لفظان من لفظ ((المحبوب)) أحدهما في السطر الثالث والآخر في السطر الخامس عشر، فهما يتناظران تناظراً جميلاً بميزان تام، وقد صُفّت بينهما أربعة من ألفاظ ((العشق)) متناظرة.

وهكذا، تقاس التوافقات الغيبية الأخرى على هذه.

فهذه التوافقات موجودة ـ لامحالة ـ بشكل من الاشكال في الرسائل أياً كان المستنسخ، وكيفما كانت الاسطر والصفحات، بحيث لاتدع شبهة من انها ليست نتيجة المصادفة، ولا من نتاج تفكير المؤلف والمستنسخ، ولكن التوافقات في خط بعض المستنسخين تلفت الأنظار أكثر، بمعنى ان لهذه الرسائل خطاً حقيقياً خاصاً بها، وان بعض المستنسخين يقترب من ذلك الخط.

ومن غرائب الأمور؛ ان هذه التوافقات أكثر ظهوراً لدى المستنسخين غير الماهرين. مما يفهم منه ان المزايا والفضائل والظرافة في ((الكلمات)) التي هي نوع من تفسير القرآن الكريم ليست ملك أحد. بل ان ملابس الاساليب الموزونة المنتظمة التي تناسب قامة الحقائق القرآنية المباركة الجميلة المنتظمة، لاتفصّل ولاتخاط باختيار أحد ولابشعوره، بل ان وجودها هو الذي يقتضي ان يكون الأمر هكذا. وان يداً غيبية هي التي تفصّلها وتخيطها وتُلبسها حسب تلك القامة.

اما نحن فترجمان فيها وخادم ليس إلاّ.

C النكتة الرابعة:

تذكرون في سؤالكم الأول، المتضمن لخمسةاو ستة اسئلة :

كيف يكون الجمع في ميدان الحشر وهل يحشر الناس عراة؟ وكيف يكون لقاء الاصدقاء الاحبة وكيف نجد الرسول e للشفاعة؟ اذ كيف يقابل انسان واحد عدداً غير محدود من الناس؟ وما نوع ثياب أهل الجنة والنار؟ ومن الذي يدلنّا على الطريق؟.

الجواب:

ان جواب هذا السؤال موجود كاملاً وواضحاً في كتب الاحاديث الشريفة.

وسنورد هنا ما يوافق مسلكنا ومشربنا من نكتة او نكتتين فحسب:

اولاً: لقد بينا في مكتوب من ((المكتوبات)): ان ميدان الحشر هو في مدار الارض السنوي، وان الارض ترسل محاصيلها المعنوية من الآن الى ألواح ذلك الميدان، وانها بحركتها السنوية تمثل دائرة وجود، وتكون مبدأ ً لتشكل ميدان الحشر، بمحاصيل تلك الدائرة الوجودية.

وان الكرة الارضية؛ التي هي كسفينة ربانية ستفرغ ما في مركزها من جهنم صغرى الى جهنم كبرى، كما ستفرغ سكنتها الى ميدان الحشر.

ثانياً: لقد أثبتنا اثباتاً قاطعاً في ((الكلمات)) ولاسيما في ((الكلمة العاشرة)) وفي ((الكلمة التاسعة والعشرين)) وجود الحشر مع ميدانه.

ثالثاً: اما الاجتماع بالاصدقاء ولقاؤهم، فقد اثبت اثباتاً كاملاً في كل من ((الكلمة السادسة عشرة)) و ((الكلمة الحادية والثلاثين)) و ((الكلمة الثانية والثلاثين)) وذلك:

ان شخصاً واحداً يستطيع في دقيقة واحدة ان يقابل ملايين الناس وفي ألف مكان ومكان، وذلك بسر النورانية.

رابعاً: ان الله سبحانه وتعالى قد ألبس مخلوقاته الأحياء كافة لباساً فطرياً سوى الانسان، ففي ميدان الحشر يلبسه سبحانه لباساً فطرياً، ويتعرى عن ملابسه المنسوجة (غير الفطرية) وذلك بمقتضى اسم الله الحكيم.

اما حكمة الألبسة المنسوجة في الدنيا، فلا تنحصر في الوقاية من الحر والقر، والزينة، وستر للعورة وحدها، بل أهم حكمة لها هي:

انها اشارة الى سيادة الانسان على سائر الانواع وتصرفه فيها، اذ ان ملابسه منسوجة من نماذج تلك الانواع. وإلاّ فما أهون عليه سبحانه أن يلبس الانسان لباساً فطرياً بسيطاً. اذ لولا هذه الحكمة لكان الانسان موضع استهزاء الحيوانات ذات المشاعر، حيث يغطي نفسه، ويلف جسمه بقطع متنوعة وخرق مختلفة.

اما في ميدان الحشر فلا داعي الى هذه الحكمة ولامبرر لتلك العلاقة بين الانسان وسائر الانواع، لذا لاحاجة الى تلك الملابس التي تمثل نماذج تلك الانواع.

خامساً: اما الدليل على الطريق، فهو القرآن لأمثالك ممن انضووا تحت نور القرآن ولوائه. فانظر الى المقطعات الموجودة في اوائل السور كـ((الم. و الر. و حم)) واعلم منها وشاهد: ماأعظم القرآن من كتاب، وماأرجاه من شفيع، وما أصدقه من دليل، وما أقدسه من نور!

سادساً: اما ثياب اهل الجنة وجهنم فقد وضحته ((الكلمة الثامنة والعشرون)) والدستور الذي ذكر فيما يخص سبعين حُلّة للحور العين جارٍ هنا ايضاً، وذلك ان انساناً من اهل الجنة لاشك يرغب في ان يتنعم بكل نوع من انواع لذائذ الجنة، وفي كل وقت وآن. ومعلوم ان في الجنة نعيماً ولذائذ في منتهى الاختلاف والانواع، فهو يعاشر جميع تلك الانواع من النعم، وفي كل وقت، لذلك يلبس ويُلبس حورَه نماذج حسن الجنة ونعيمها بمقياس مصغر، فيكون هو وحوره العين بمثابة جنة مصغرة.

اذ كما يجمع الانسان في حديقة بيته الازاهير المنتشرة في تلك البلدة، او كما يجمع صاحب حانوت مالديه من انواع البضائع في لائحة وقائمة. وكما يقتني الانسان ملابسه واثاث بيته من انواع المخلوقات التي يتصرف فيها، وله علاقة معها، وكذلك الذي هو من اهل الجنة، ولاسيما الذي عَبَد الله بجميع مشاعره وحواسه سيلبسه الله سبحانه برحمته، ويُلبس حوره العين، حللاً، تظهر كل نوع من انواع جمال الجنة ونعيمها وأذواقها بما يُشبع كل رغبة من رغباته، ويُرضى كل حاسة من حواسه، ويُمتّع كل جهاز من أجهزته، ويُسهّل له تذوق كل لطيفة من لطائفه.

والدليل على ان تلك الحلل المتعددة ليست من جنس واحد ولامن نوع واحد هو الحديث الشريف الوارد بهذا المعنى: ان الحور العين يلبسن سبعين حُلة ويرى مخ عظامهن من تحتها(1).

بمعنى انه ابتداءً من أعلى حلّة من تلك الحلل الى أدناها هناك مراتب من التذوق والتمتع بحيث تشبع جميع الحواس والمشاعر بلذائذ مختلفة وبانماط مختلفة.

اما من هو من أهل النار فانه قد ارتكب السيئات والذنوب ببصره وبسمعه وبقلبه وبعقله وبيده، وبسائر جوارحه وحواسه ومشاعره، فلابد انه سيُلبس ملابس قطّعت من اجناس مختلفة ليعذَّب بها وليذوق آلاماً متنوعة بحسب كل حاسة وجهاز حتى تصير الملابس جهنم مصغرة تحيط به. ولايتنافى هذا ومقتضى الحكمة والعدالة.

C النكتة الخامسة:

تسألون: هل كان أجداد الرسول e يدينون بدين في زمن الفترة؟

الجواب: هناك روايات تدل على انهم كانوا يدينون ببقايا دين ابراهيم عليه السلام، بعد ان مرت بفترات الغفلة والظلمات المعنوية، وقد ظلت متعبَّد بعض الناس الخاصين، فلاريب ان الذين انحدروا من نسل سيدنا ابراهيم عليه السلام والذين شكـّلوا سلسلة نورانية انتجت سيدنا الرسول e لم يكونوا مهملين للدين الحق، ولم يقعوا في ظلمات الكفر، ولكن الآية الكريمة: } وما كنا معذّبينَ حتى نَبعثَ رَسُولا{ (الاسراء:15) تبين ان أهل الفترة يكونون من اهل النجاة، فلايؤاخَذون بخطاياهم في الفروع، بالاتفاق، بل هم اهل نجاة عند الامام الشافعي، والامام الاشعري، حتى لو وقعوا في الكفر وليس لهم اصول الايمان، لان التكليف الإلهي يكون ببعثة الرسل، ويتقرر التكليف بالاطلاع على البعثة.

وحيث ان الغفلة ومرور الزمان قد سترا أديان الأنبياء السابقين، فلاتكون هذه الأديان حجةً على أهل زمن الفترة، فان أطاعوا يثابون، وان لم يطيعوا لايعذّبون، لانها لاتكون حجة مادامت مستورة غير ظاهرة.

C النكتة السادسة:

تقولون: هل اُرسل أحدٌ بالنبوة من أجداد النبي e ؟

الجواب: ليس هناك نص قاطع على وجود نبي من أجداده e بعد سيدنا اسماعيل عليه السلام، ولكن ظهر نبيان من غير أجداده e ، وهما خالد بن سنان(1)، وحنظلة(2). وهناك قصيدة مشهورة لكعب بن لؤي، وهو من أجداده e . يقول فيها:

على غفلة يأتي النبي محمدٌ فيخبر أخباراً صدوقاً خبيرها(3).

هذا الكلام شبيه بكلام نبوة معجز، وقد قال الامام الرباني مستنداً الى الدليل والكشف: ((لقد بُعث انبياء كثيرون في الهند، إلاّ أن بعضهم لم تتبعهم أمة او انحصرت في عدة أشخاص محدودين، فلم يشتهروا، او لم يطلق عليهم الناس اسم النبي))(4).

فبناءً على هذه القاعدة للامام الرباني، يمكن وجود أنبياء أمثال هؤلاء في أجداد النبي e .

C النكتة السابعة:

تقولون: ماأصح خبر وأقواه بحق ايمان والديّ الرسول e وجدّه عبد المطلب؟

الجواب: ان سعيداً الجديد لايقتني اي كتاب كان غير القرآن الكريم منذ عشر سنوات، ويقول حسبي القرآن كتاباً، ولايسعني الوقت للتدقيق والبحث في مثل هذه المسائل الفرعية في جميع كتب الأحاديث كي أتمكن من الوصول الى أقوى الاخبار وأصحها. إلاّ انني أقول:

ان والديّ الرسول الكريم e من اهل النجاة ومن اهل الجنة، ومن اهل الايمان، فلاشك ان الله سبحانه وتعالى لايؤلم قلب حبيبه e ولايجرح شفقته اللطيفة التي تملأ ذلك القلب المبارك.

فان قيل: ان كان الأمر هكذا فلِمَ لم يوفقوا للايمان ولم يدركوا بعثته e .؟

الجواب: ان الله سبحانه وتعالى بكرمه العميم لايجعل والديّ الرسول الحبيبe تحت ثقل المنّة، تلطيفاً لشعوره e .اذ اقتضت رحمته سبحانه ان يرضي حبيبه الكريم e ويسعد والديه ويجعلهما تحت منّة ربوبيته الخالصة، لكيلا ينزلهما من مرتبة الوالدية الى مرتبة الاولاد المعنوية، فلذلك لم يجعل والديه ولا جدّه من امته ظاهراً، في حين أنعم عليهم مزايا الامة وفضائلها وسعادتها.

نعم! لو حضر أمام مشير عظيم في الجيش والده وهو برتبة نقيب لظل والده تحت تأثير شعورين متناقضين. لذا فالسلطان رحمة بمشيره الكريم، لايجعل والده تحت امرته.

C النكتة الثامنة:

تقولون: ماأصح الأقوال بحق عمه أبي طالب؟

الجواب:ان الشيعة قائلون بايمانه، اما أهل السنة فان أكثرهم ليسوا قائلين بايمانه.

ولكن الذي ورد الى قلبي، هو الآتي :

ان ابا طالب كان يحب شخص الرسول e حباً خالصاً جاداً، يحب ذاته لارسالته. فلاشك ان محبته الخالصة جداً وشفقته القوية لشخص الرسول e لاتذهب هباءً منثوراً، ولاتضيع عند الله.

نعم، ان ابا طالب الذي أحب حبيب رب العالمين حباً خالصاً وحماه من الاعداء واظهر موالاته له، حتى لو صار الى جهنم لعدم اظهاره ايماناً مقبولاً ـ خجلاً وعصبية قومية وامثالها من المشاعر وليس عناداً وانكاراً ـ فان الله سبحانه قادر على ان يخلق جنة خاصة به في جهنم ثواباً لحسناته، ويبدل جهنمه الخاصة الى جنة خاصة، بمثل ما يخلق احياناً ربيعاً زاهياً في الشتاء القارس، وبمثل مايحوّل السجن الضيق - برؤيا يراها بعضهم ـ الى قصر منيف.

والعلم عند الله .. ولايعلم الغيب الاّ الله.

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-03-2011
  #35
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 15
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: المكتوبات

الحمد لله، هذا من فـضل ربي.

الـمسألة الخامسة

وهي الرسالة الخامسة

رسالة الشكر

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ{

يفيض القرآن الكريم ببيانه المعجز ويحثّ على الشكر في آيات كثيرة، منها هذه الآيات التاليات:

} اَفَلاَ يَشْكُرُون{ (يس:35).... } اَفَلاَ يَشْكُرُوُن{ (يس:73)

} وَسَنَجْزى الشَّاكرينَ{ (آل عمران:145)

} لَئِنْ شَكَرْتُمْ لاَزيدَنَّكُمْ{ (ابراهيم:7)

} بَلِ الله فَاعْبُد وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرين{ (الزمر:66)

ويبيّن منها: أن اجلّ عملٍ يطلُبُه الخالُق الرحيم من عباده هو: الشُكر. فيدعو الناس الى الشكر دعوة صريحة واضحة ويوليه أهمية خاصة باظهاره أن الاستغناء عن الشكرتكذيب للنعم الإلهية وكفران بها، ويهدّد إحدى وثلاثين مرة في سورة ((الرحمن)) بالآية الكريمة : } فَبَايّ آلاءِ رَبّكُمَا تُكَذِّبَانِ{ تهديداً مُرعباً، ويُنذر الجن والإنس إنذاراً مهولاً ببيانه: ان عدم الشكر والإعراض عنه تكذيبٌ وإنكار وجحود.

ومثلما يبيّن القرآن الحكيم أن الشكر نتيجة الخلق والغاية منه، فالكون الذي هو بمثابة قرآن كبير مجسّم يُظهِر أيضاً أن اهمّ نتيجة لخلق الكائنات هي الشكر؛ ذلك لأنه اذا ما أنعم النظر في الكائنات لتبيّن:

ان هيأة الكون ومحتوياته قد صُممت بشكل ووُضعت على نمط، بحيث تنتج الشكر وتُفضي اليه، فكل شئ متطلّع ومتوجّه - من جهة - الى الشكر، حتى كأن أهم ثمرة في شجرة الخلق هذه هي الشكر، بل كأن أرقى سلعة من بين السلع التي ينتجها مصنع الكون هذا هي الشكر؛ ذلك لأننا نرى:

ان موجودات العالم قد صُممت بطراز يشبه دائرة عظيمة، وخُلقت الحياة لتمثل نقطة المركز فيها، فنرى: ان جميع الموجودات تخدم الحياة وترعاها وتتوجه اليها، وتتكفل بتوفير لوازمها ومؤنها. فخالق الكون اذن يختار الحياة ويصطفيها من بين موجوداته!

ثم نرى ان موجودات عوالم ذوى الحياة هي الاخرى قد أوجدت على شكل دائرة واسعة بحيث يتبوّأ الانسانُ فيها مركزها؛ فالغايات المرجّوة من الاحياء عادة تتمركز في هذا الانسان. والخالق الكريم سبحانه يحشّد جميع الأحياء حول الانسان ويسخّر الجميع لأجله وفي خدمته، جاعلاً من هذا الانسان سيداً عليها وحاكماً لها. فالخالق العظيم اذن يصطفي الانسان من بين الاحياء بل يجعله موضع إرادته ونصبَ اختياره.

ثم نرى ان عالم الانسان بل عالم الحيوان ايضاً يتشكل بما يشبه دائرة كذلك، وقد وُضع في مركزها ((الرزق))، وغرز الشوق الى الرزق في الانسان والحيوانات كافة، فنرى أنهم قد أصبحوا جميعاً بهذا الشوق خَدَمة الرزق والمسخَّرين له. فالرزق يحكمهم ويستولى عليهم. ونرى الرزق نفسه قد جُعل خزينة عظيمة لها من السعة والغنى ما لو تجمعت نِعَمه فلا تعد ولا تحصى (حتى نرى القوة الذائقة في اللسان قد زوّدت بأجهزة دقيقة وموازين معنوية حساسة بعدد المأكولات والمطعومات لمعرفة أذواق نوع واحد من انواع الرزق الكثيرة). فحقيقة الرزق اذن هي أعجب حقيقة في الكائنات واغناها، واغربها،وأحلاها وأجمعها.

ونرى كذلك: أنه مثلما يحيط كل شئ بالرزق ويستشرفه ويتطلع اليه، فالرزق نفسه ايضاً - بأنواعه جميعاً ـ قائم بالشكر معنىً ومادةً وحالاً ومقالاً، ويحصل بالشكر، وينتج الشكر، ويبيّن الشكر ويُريه؛ لان اشتهاء الرزق والإشتياق اليه نوعٌ من شكر فطري. أما الالتذاذ والتذوق فهما شكرٌ ايضاً، ولكن بصورة غير شعورية - حيث تتمتع الحيوانات كافة بهذا الشكر - بيد أن الانسان هو المخلوق الوحيد الذي يغيّر ماهية ذلك الشكر الفطري بانسياقه الى الضلالة والكفر، فيتردى من الشكر الى الشرك.

ثم ان ما تحمله النعم - التي هي الرزق بعينه - من صورٍ جميلة زاهية بديعة، ومن روائح زكية طيبة شذية، ومن طعوم لذيذة ومذاقات طيبة، ما هو إلاّ دعاة وأدلاّء الى الشكر. فهؤلاء الادلاء والدعاة المنادون يثيرون بدعواهم الشوق لدى الاحياء، ويحضّونهم عليه، ويدفعونهم - بهذا الشوق - الى نوع من الاستحسان والتقدير والاحترام فيقروّن فيهم شكراً معنوياً. ويلفتون أنظار ذوي الشعور الى التأمل والإمعان فيها فيرغّبونهم في الاستحسان والاعجاب، ويحثونهم الى احترام النعم السابغة وتقديرها. فتُرشدهم تلك النِعم الى طريق الشكر القولي والفعلي وتدلـّهم عليه وتجعلهم من الشاكرين، وتذيقهم من خلال الشكر أطيبَ طَعمٍ وألذهُ وأَزكى ذوق وأنفسه، وذلك بما تُظهر لهم بأن هذا الرزق اللذيذ او النعمة الطيبة، مع لذته الظاهرة القصيرة الموقتة يهب لك بالشكر التفكر في الالتفات الرحماني الذي يحمل لذة وذوقاً حقيقيين ودائميين وغير متناهيين. اي ان الرزق بتذكيره بالتفات الكريم المالك لخزائن الرحمة الواسعة - تلك الالتفاتة والتكرمة التي لا حدَّ للذاتها ولا نهاية لمتعتها - تذيق الانسان بهذا التأمل نشوة معنوية من نشوات الجنة الباقية وهو بعدُ لم يغادر هذه الدنيا.

في الوقت الذي يكون الرزق بوساطة الشكر خزينة واسعة جامعة تطفح بالغناء والمتعة، يتردى تردياً فظيعاً جداً بالتجافي عن الشكر والاستغناء عنه.

ولقد بيّنا في ((الكلمة السادسة)): ان عمل القوة الذائقة في اللسان إن كان متوجهاً الى ا سبحانه وفي سبيله، أي عندما تتوجه الى الرزق أداءً لمهمة الشكر المعنوي، تكون تلك القوة والحاسة في اللسان بمثابة مشرف موقّر شاكر، وتكون بحكم ناظر محترم حامد، على مطابخ الرحمة الإلهية المطلقة. ولكن متى ما قامت بعملها رغبةً في هوى النفس الأمارة بالسوء واشباعاً لنهمها، أي اذاتوجهت الى النعمة مع عدم تذكر شكر المُنعم الذي أنعم عليه بالرزق، تهبط تلك القوة الذائقة في اللسان من ذلك المقام السامي، مقام الراصد الأمين، الى درجة بواب مصنع البطن، وحارس اسطبل المعدة. ومثلما ينتكس خادمُ الرزق هذا الى الحضيض بالاستغناء عن الشكر، فماهية الرزق نفسها وخدام الرزق الآخرون كذلك يهوون جميعاً بالنسبة نفسها من أسمى مقام الى ادناه، بل حتى يتدنى الى وضع مباين تماماً لحكمة الخالق العظيم.

ان مقياس الشكر هو القناعة، والاقتصاد، والرضا، والامتنان. أما مقياس عدم الشكر والاستغناء عنه فهو الحرص، والاسراف، وعدم التقدير والاحترام، وتناول كل ما هب ودّب دون تمييز بين الحلال والحرام.

نعم ان الحرص مثلما أنه عزوف وإعراض عن الشكر، فهو ايضاً قائد الحرمان ووسيلة الذل والإمتهان. حتى كأن النملة - تلك الحشرة المباركة المالكة لحياة اجتماعية - تُداس تحت الاقدام وتنسحق، لشدة حرصها وضعف قناعتها، اذ بينما تكفيها بضع حبات من الحنطة في السنة الواحدة تراها تجمع ألوف الحبات اذا ما قدّر لها أما النحلة الطيبة، فتجعلها قناعتها التامّة ان تطير عالياً فوق الرؤوس، حتى انها تقنع برزقها وتقدّم العسل الخالص للانسان احساناً منها بأمر الآله العظيم جل جلاله.

نعم ان إسم ((الرحمن)) الذي هو من أعظم أسمائه سبحانه وتعالى يعقبُ لفظ الجلالة ((الله)) الذي هو الاسم الاعظم والاسم العَلَمُ للذات الأقدس. فهذا الاسم ((الرحمن)) يشمل برعايته الرزق؛ لذا يمكن الوصول الى انوار هذا الاسم العظيم بالشكر الكامن في طوايا الرزق. علماً ان أبرز معاني ((الرحمن)) هو الرزاق.

ثم ان للشكر انواعاً مختلفة، الاّ أن أجمع تلك الانواع واشملها والتي هي فهرسها العام هو: الصلاة!.

وفي الشكر ايمان صافٍ رائق، وهو يحوى توحيداً خالصاً؛ لأن الذي يأكل تفاحة – مثلاً – باسم الله ويختم أكلها بـ ((الحمد لله)) إنما يعلن بذلك الشكرَ، على ان تلك التفاحة تذكار خالص صادر مباشرةً من يد القدرة الإلهية، وهي هدية مهداة مباشرة من خزينة الرحمة الإلهية. فهو بهذا القول وبالاعتقاد به يسلـّم كلَّ شئ - جزئياً كان أم كلياً - الى يد القدرة الإلهية، ويُدرك تجلّى الرحمة الإلهية في كل شئ. ومن ثم يُظهر ايماناً حقيقياً بالشكر، ويبيّن توحيداً خالصاً به.

وسنبين هنا وجهاً واحداً فقط من بين وجوه الخسران الكثيرة التي يتردى اليها الانسان الغافل من جراء كفرانه النعمة وكنوده بها.

اذا تناول الانسان نعمةً لذيذة، ثم أدى شكره عليها، فان تلك النعمة تصبح - بوساطة ذلك الشكر ـ نوراً وضّاءً له، وتغدو ثمرة من ثمار الجنة الاُخروية، وفضلاً عما تمنحه من لذة، فان التفكر في أنها أثرٌ من آثار التفات رحمة الله الواسعة وتكرمة منه سبحانه وتعالى يمنح تلك النعمة لذةً عظيمة دائمة وذوقاً سامياً لاحد له. فيكون الشاكر قد بعث أمثال هذه اللــّباب الخالصة والخلاصات الصافية والمواد المعنوية الى تلك المقامات السامية الرفيعة، تاركاً موادَّها المهملة وقشرتَها - التي استنفدت اغراضها وأدّت وظيفتها ولم تعد اليها حاجة - يتم تحولها الى نفايات وفضلات تعود الى أصلها من العناصر الاولية.

ولكن ان لم يشكر المنعم عليه، ربَّه على النعمة، واستنكف عنها، فان تلك اللذة الموقتة تترك بزوالها ألماً وأسفاً، وتتحول هي نفسها الى قاذورات. فتنقلب تلك النعمة التي هي ثمينة كالألماس الى فحم خسيس.

فالأرزاق الزائلة تثمر بالشكر لذائذ دائمة وثمرات باقية، أما النعم الخالية من الشكر فانها تنقلب من صورتها السامية الجميلة الزاهية الى صورة دنيئة قبيحة دميمة؛ ذلك لأن الغافل يظن ان مآل الرزق بعد اقتطاف اللذة المؤقتة منه هو الفضلات!.

حقاً، ان الرزق صورة وضّاءةً تستحق الحب والعشق، تلك التي تظهر بالشكر، والاّ فان عشق الغافلين والضالين للرزق وتلهفهم عليه ما هو إلاّ بهيمية حيوانية..

قس على هذا.. لتعلم مدى خسارة أهل الضلالة والغفلة ومدى فداحة أمرهم!

إن اشد الاحياء حاجةً الى الرزق والى انواعه هو الانسان! فالحق سبحانه وتعالى قد خلق هذا الانسان مرآة جامعة لجميع اسمائه الحسنى، وأبدعه معجزةً دالّة على قدرته المطلقة. فهو يملك اجهزة يتمكن بها تثمين وتقدير جميع مدّخرات خزائن رحمته الواسعة ومعرفتها.. وخلقه على صورة خليفة الارض الذي يملك من الأجهزة الحساسة ما يتمكن بها من قياس أدق دقائق تجليات الاسماء الحسنى.. فلأجل كل هذا فقد اودع سبحانه في هذا الانسان فاقةً لاحدّ لها، وجعله محتاجاً الى انواع لا تحد من الرزق المادي والمعنوي. وما الوسيلة التي تمكّن الانسانَ من العروج بها الى اسمى مقام وهو مقام ((احسن تقويم)) ضمن ما يملكه من الجامعية الاّ الشكر.

فاذا انعدم الشكر يتردى الانسان الى اسفل سافلين ويكون مرتكباً ظلماً عظيماً..



الخلاصة:

ان الشكر هو اعظم اساس من الاسس الاربعة التي يستند اليها سالك اسمى طريق واعلاه اَلا وهو طريق العبودية والحب للّه تعالى والمحبوبية.

وقد عُبّر عن تلك الاسس الأربعة بـ:

در طريق عجزى مندى لازم آمد جار جيز:

عجزِ مطلق فقرِ مطلق شوقِِ مطلق شكرِ مطلق أي عزيز!(1).

اللّهُمّ اجعلنا من الشاكرين برحمتك يا ارحم الراحمين.

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{

اللّهم صل وسلم على سيدنا محمدٍ سيد الشاكرين والحامدين وعلى آله وصحبه اجمعين.

} وآخرُ دَعواهم أن الحمدُ لله رب العالمين{ .

المسألة السادسة

وهي الرسالة السادسة

لم تدرج هنا ستنشر ضمن مجموعة اخرى باذن الله

الـمسألة السابعة

وهي الرسالة السابعة

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} قُل بفـضلِ الله وبرحمتهِ فبذلكَ فليفرحوا هُوَ خيرٌ ممّا يَجمعُون{ (يونس:58)

[هذه المسألة عبارة عن سبع اشارات]

نبين أولاً سبعة أسباب ـ تحدثاً بنعمة الله ـ تكشف عن عدد من أسرار العناية الإلهية.

C السبب الأول:

قبل اندلاع الحرب العالمية الاولى، وإبان نشوبها رأيت في رؤيا صادقة، الآتي:

رأيت نفسي تحت (جبل آرارات) واذا بالجبل ينفلق انفلاقاً هائلاً، فيقذف صخوراً عظيمة كالجبال الى انحاء الأرض كافة. وانا في هذه الرهبة التي غشيتني رأيت والدتي - رحمة الله عليها - بقربي. قلت لها: ((لاتخافي ياأماه! انه أمر الله. انه رحيم، انه حكيم)). واذ أنا بتلك الحالة اذا بشخص عظيم يأمرني قائلاً:

ـ بيّن اعجاز القرآن.

أفقتُ من نومي، وادركتُ انه سيحدث انفلاق عظيم، وستتهدم الأسوار التي تحيط بالقرآن الكريم من جراء ذلك الانفلاق والانقلاب العظيم، وسيتولى القرآن بنفسه الدفاع عن نفسه حيث سيكون هدفاً للهجوم، وسيكون اعجازه، حصنه الفولاذي، وسيكون شخص مثلي مرشحاً للقيام ببيان نوع ٍمن هذا الاعجاز في هذا الزمان ـ بما يفوق حدّي وطوقي كثيراً ـ وأدركتُ اني مرشح للقيام بهذا العمل .

ولمّا كان اعجاز القرآن الكريم قد وضّح ـ الى حدٍّ ما ـ بـ((الكلمات)) فان اظهار العنايات الإلهية في خدمتنا للقرآن، انما هو إمداد للاعجاز بالقوة، اذ ان تلك الخدمة هي لابراز ذلك الاعجاز ومن قبيل بركاته ورشحاته. أي ينبغي إظهارالعنايات الإلهية.

C السبب الثاني:

لما كان القرآن الكريم مرشدنا واستاذنا وامامنا ودليلنا في كل أعمالنا، وانه يثني على نفسه، فنحن اذن سنثني على تفسيره، اتباعاً لإرشاده لنا.

ولما كانت (الكلمات) نوعاً من تفسير القرآن، ورسائل النور عامة ملك القرآن وتتضمن حقائقه، وان القرآن الكريم يعلن عن نفسه في هيبة وعظمة، ويبين مزاياه ويثني على نفسه بما يليق به من ثناء، في كثير من آياته ولاسيما في السور المبتدئة بـ(الر) و (حم)، فنحن اذن مكلفون باظهار العنايات الربانية التي هي علامة لقبول خدمتنا في بيان لمعات اعجاز القرآن المنعكسة في ((الكلمات))، وذلك اقتداءاً باستاذنا القرآن الذي يرشدنا الى هذا النمط من العمل.

C السبب الثالث:

انني لاأقول هذا الكلام الذي يخص(الكلمات) تواضعاً، بل بياناً للحقيقة، وهي:

ان الحقائق والمزايا الموجودة في (الكلمات) ليست من بنات أفكاري ولاتعود اليّ أبداً وانما للقرآن وحده، فلقد ترشحتْ من زلال القرآن، حتى ان الكلمة العاشرة ماهي إلاّ قطرات ترشحت من مئات الآيات القرآنية الجليلة. وكذا الأمر في سائر الرسائل بصورة عامة.

فمادمتُ أعلم الأمر هكذا وانا ماضٍ راحل عن هذه الحياة، وفانٍ زائل، فينبغي ألاّ يربط بي ما يدوم ويبقى من أثر. ومادام عادة أهل الضلالة والطغيان هي الحط من قيمة المؤلف للتهوين من شأن كتاب لايفي بغرضهم. فلابد اذن ألاّ ترتبط الرسائل المرتبطة بنجوم سماء القرآن الكريم بسند متهرئ قابل للسقوط، مثلي الذي يمكن أن يكون موضع اعتراضات كثيرة، ونقدٍ كثير.

ومادام عرف الناس دائراً حول البحث عن مزايا الأثر في أطوار مؤلفه وأحواله الذي يحسبونه منبع ذلك الخير ومحوره الاساس. فانه اجحاف اذاً بحق الحقيقة وظلم لها ـ بناء على هذا العرف ـ ان تكون تلك الحقائق العالية والجواهر الغالية بضاعة مَن هو مفلس مثلي وملكاً لشخصيتي التي لاتستطيع ان تظهر واحداً من ألف من تلك المزايا.

لهذا كله أقول: ان الرسائل ليست ملكي ولامني بل هي ملك القرآن. لذا أراني مضطراً الى بيان أنها قد نالت رشحات من مزايا القرآن العظيم. نعم، لاتُبحث ما في عناقيد العنب اللذيذة من خصائص في سيقانها اليابسة؛ فانا كتلك الساق اليابسة لتلك الاعناب اللذيذة.

C السبب الرابع:

قد يستلزم التواضع كفران النعمة، بل يكون كفراناً بالنعمة عينه، وقد يكون ايضاً التحدث بالنعمة تفاخراً وتباهياً. وكلاهما مضران، والوسيلة الوحيدة للنجاة. اي لكي لايؤدي الأمر الى كفرانٍ بالنعمة ولاالى تفاخر، هي: الإقرار بالمزايا والفضائل دون ادّعاء تملّكها، اي اظهارها انها آثار إنعام المنعم الحقيقي جلّ وعلا.

مثال ذلك: اذا ألبسك أحدُهم بدلة فاخرة جميلة، وأصبحتَ بها جميلاً وأنيقاً،فقال لك الناس: ما أجملك! لقد أصبحت رائعاً بها، وأجبتهم متواضعاً: كلا! مَن أنا، أنا لست شيئاً.. أين الجمال من هذه البدلة!! فان جوابك هذا كفران بالنعمة بلاشك، وسوء أدب تجاه الصانع الماهر الذي ألبسك البدلة. وكذلك إن قلت لهم مفتخراً: نعم! انني جميل فعلاً، فأين مثلي في الجمال والأناقة! فعندها يكون جوابك فخراً وغروراً.

والاستقامة بين كفران النعمة والافتخار هو القول:نعم! انني أصبحت جميلاً حقاً، ولكن الجمال لايعود لي وانما الى البدلة، بل الفضل يخص الذي ألبسنيها.

ولو بلغ صوتي أرجاء العالم كافة لكنت أقول بكل ما اوتيت من قوة: ان (الكلمات) جميلة رائعة وانها حقائق وانها ليست مني وانما هي شعاعات التمعت من حقائق القرآن الكريم. فلم اجمّل انا حقائق القرآن، بل لم أتمكن من اظهار جمالها وانما الحقائق الجميلة للقرآن هي التي جمّلت عباراتي ورفعت من شأنها واستناداً الى قاعدة: وما مدحت محمداً بمقالتي.. ولكن مدحت مقالتي بمحمدٍ(1). اقول:

ومامدحت القرآن بكلماتي …… ولكن مدحت كلماتي بالقرآن.

فما دام الأمر هكذا. أقول باسم جمالية الحقائق القرآنية: ان اظهار جمال (الكلمات) التي هي معاكس تلك الحقائق، وبيان العنايات الإلهية المترتبة على جمال تلك المرايا، انما هو تحدث بنعمة الله، مرغوب فيه.

C السبب الخامس:

سمعت من أحد الأولياء ـ قبل مدة مديدة ـ أنه قد استخرج من الاشارات الغيبية لأولياء سابقين ماأورثه القناعة بأن نوراً سيظهر من جهة الشرق ويبدد ظلمات البدع.

ولقد انتظرتُ طويلاً ظهور مثل هذا النور ومازلت منتظراً له، بيد ان الأزاهير تتفتح في الربيع، فينبغي تهيئة السبل لمثل هذه الأزاهير المقدسة. وأدركنا اننا بخدمتنا هذه، انما نمهّد السبيل لأولئك الكرام النورانيين.

ولاشك ان بيان العنايات الإلهية التي تخص (الكلمات) لايكون مدار فخر وغرور ابداً اذ لايعود الى اشخاصنا بالذات. بل يكون ذلك مدار حمد وشكر وتحدث بالنعمة.

C السبب السادس:

ان العناية الربانية التي هي وسيلة ترغيب ومكافأة عاجلة وجزاء مقدّم لخدمتنا للقرآن بسبب تأليف ((الكلمات)) ما هي الا التوفيق في العمل والنجاح في الخدمة، والتوفيق في الخدمة يُظهرَ ويعلن عنه، واذا مامضت العناية من التوفيق والنجاح وسَمَت، فانها تكون إكراماً إلهياً. واظهار الاكرام الإلهي شكرٌ معنوي. واذا ما ارتقت العناية الى اعلى من الاكرام، فلا محالة انها تكون كرامة قرآنية، قد حظينا بها، واظهار كرامة من هذا النوع دون اختيار منا، ومن حيث لانحتسب ومن دون علمنا، ليس فيه ضرر. واذا ما ارتقت العناية فوق الكرامة الاعتيادية، فلاشك انها تكون شُعل الاعجاز المعنوي للقرآن الكريم. ولما كان الاعجاز لابد أن يعلن عنه، فان اظهار ما يمدّه بالقوة يكون في سبيله ايضاً، ولايكون مبعث تفاخر وغرور ابداً، بل مبعث حمد وشكر.

C السبب السابع:

ان ثمانين بالمائة من الناس ليسوا محققين علماء، كي ينفذوا الى الحقيقة ويسبروا غورها ويصدقوا بها، ويقبلوها، بل يقبلون المسائل تقليداً لما سمعوه من أناس هم موضع ثقتهم واعتمادهم بناءً على ظاهر حالهم وعلى حسن الظن بهم، حتى ان حقيقة قوية يرونها ضعيفة لأنها في يد شخص ضعيف بينما يعدّون مسألة تافهة في يد شخص مرموق مسألة قيمة. لذا اضطر الى الاعلان عن الحقائق الايمانية والقرآنية التي هي في يد شخصي الضعيف الذي لاقيمة له ولاأهمية، لئلا احطّ من قيمتها أمام أنظار أغلب الناس، فأقول: ان هناك مَن يستخدمنا ويسوقنا الى الخدمة دون اختيارٍ منا ودون علمنا، ويسخّرنا في أمور جسام دون معرفتنا. ودليلنا هو اننا نحظى بقسم من عنايات إلهية وتيسيرات ربانية خارج شعورنا وبلا اختيار منا. ولهذا نضطر الى الاعلان عن تلك العنايات اعلاناً صارخاً على ملأ من الناس.

% % %

هذا وبناءً على الاسباب السبعة المذكورة، نشير الى بضع عنايات ربانية كلية:

u الاشارة الاولى:

وهي ((التوافقات)) التي وضحت في النكتة الاولى من المسألة الثامنة من (المكتوب الثامن والعشرين). ولقد تناظر مايزيد على مائتي كلمة من كلمات ((الرسول الكريم e )) في موازنة تامة، في ستين صحيفة من صفحات رسالة ((المعجزات الاحمدية)) باستثناء صحيفتين، ابتداءً من الاشارة الثالثة الى الاشارة الثامنة عشرة منها، وذلك لدى احد المستنسخين، دون ان يكون له علم بالتوافق. فمن ينظر بانصاف الى صحيفتين من الرسالة فحسب يصدّق ان ذلك لايمكن ان يكون نتيجة مصادفة ابداً، اذ ربما تتناظر كلمات متشابهة ان وجدت في صحيفة واحدة، وتعدّ توافقاً ناقصاً لاحتمال وجود المصادفة، بينما الأمر هنا، ان كلمة الرسول الكريم e ، قد توافقت في تناظر متوازن في صفحات كثيرة، بل في جميعها، ولاتوجد في الصفحة الواحدة إلاّ اثنتان او ثلاثة او اربعة او أكثر منها. أي ان عددها ليس بكثرة، فلاشك ان التناظر ناشئ عن توافق لا عن مصادفة، فضلاً عن ان التوافق جرى لدى ثمانية مستنسخين ولم يتغير توازن التوافق لديهم رغم اختلافهم.. مما يدل ان في ذلك التوافق اشارة غيبية قوية . اذ كما ان بلاغة القرآن قد علت الى درجة الاعجاز ففاقت بلاغته كتـب البلغاء كلهم، حتى لايمكن ان يبلغ أحد منهم شأو ذلك الاعجاز، كذلك التوافقات الموجودة في (المكتوب التاسع عشر) ـ الذي هو مرآة لمعجزات الرسول e ـ وفي (الكلمة الخامسة والعشرين) التي هي معكس اعجاز القرآن، وفي اجزاء (رسائل النور) الأخرى التي هي نوع من تفسير للقرآن الكريم.. أقول؛ هذه التوافقات تبيّن غرابة تفوق جميع الكتب، مما يفهم منها انها نوع من كرامات معجزات القرآن ومعجزات الرسول الكريم e تتجليان في تلك المرايا وتتمثلان فيها.

u الاشارة الثانية:

العناية الربانية الثانية التي تخص الخدمة القرآنية هي:

ان الله سبحانه وتعالى قد أنعم عليّ باخوة أقوياء جادّين، مخلصين، غيورين، مضحين، لهم أقلام كالسيوف الالماسية، ودفعهم ليعاونوا شخصاً مثلي لايجيد الكتابة، نصف أمي، في ديار الغربة، مهجور، ممنوع عن الاختلاط بالناس. وحمّل سبحانه كواهلهم القوية ماأثقل ظهري الضعيف العاجز من ثقل الخدمة القرآنية، فخفف بفضله وكرمه سبحانه حملي الثقيل.

فتلك الجماعة المباركة في حكم اجهزة البث اللاسلكي (بتعبير خلوصي) وبمثابة مكائن توليد الكهرباء لمصنع النور (حسب تعبير صبري). ومع ان كلاً منهم يملك مزايا متنوعة وخواصّ راقية متباينة إلاّ أن فيهم نوعاً من توافقات غيبية (حسب تعبير صبري) اذ يتشابهون في الشوق الى العمل والسعي فيه والغيرة على الخدمة والجدية فيها، اذ إن نشرهم الاسرار القرآنية والانوار الايمانية الى الاقطار وابلاغها جميع الجهات، وقيامهم بالعمل دون فتور، وبشوق دائم وهمة عالية، في هذا الزمان العصيب (حيث الحروف قد تبدلت ولاتوجد مطبعة، والناس بحاجة الى الانوار الايمانية) فضلاً عن العوائق الكثيرة التي تعرقل العمل وتولد الفتور، وتهوّن الشوق .. أقول ان خدمتهم هذه كرامة قرآنية واضحة وعناية إلهية ظاهرة ليس إلاّ.

نعم! فكما ان للولاية كرامة، فان للنية الخالصة كرامة ايضاً، وللاخلاص كرامة ايضاً، ولاسيما الترابط الوثيق والتساند المتين بين الاخوان ضمن دائرة اخوة خالصة لله، تكون له كرامات كثيرة، حتى ان الشخص المعنوي لمثل هذه الجماعة يمكن ان يكون في حكم ولي كامل يحظى بالعنايات الالهية.

فياأخوتي وياأصحابي في خدمة القرآن!

كما ان اعطاء جميع الشرف والغنائم كلها الى آمر الفوج الذي فتح حصناً، ظلم وخطأ، كذلك لايمكنكم اسناد العنايات الإلهية في الفتوحات التي تمت بقوة شخصكم المعنوي وبأقلامكم الى شخص عاجز مثلي. اذ مما لاشك؛ ان في مثل هذه الجماعة المباركة توجد اشارة غيبية قوية أكثر من التوافقات الغيبية. وانني أراها، ولكن لاأستطيع اظهارها لكل أحد ولاللناس عامة.

u الاشارة الثالثة:

ان اثبات اجزاء (رسائل النور) لجميع الحقائق الايمانية والقرآنية المهمة، حتى لأعتى المعاندين، اثباتاً ساطعاً، انما هو اشارة غيبية قوية جداً، وعنايةإلهية عظيمة. لأن هناك من الحقائق الايمانية والقرآنية، اعترف بعجزه عن فهمها من يعدّ أعظم صاحب دهاء، وهو (ابن سينا) الذي قال في (مسألة الحشر):((الحشر ليس على مقاييس عقلية)) بينما تُعلّم (الكلمة العاشرة) عوام الناس والصبيان حقائق لم يستطع ان يبلغها ذلك الفيلسوف بدهائه.

وكذا مسائل (القدر والجزء الاختياري) التي لم يحلها العلامة الجليل (السعد التفتازاني)(1) إلاّ في خمسين صحيفة، وذلك في كتابه المشهور بـ((التلويح)) من قسم ((المقدمات الاثنتي عشرة))، ولم يبيّنها إلاّ للخواص من العلماء، هذه المسائل تبينها (الكلمة السادسة والعشرون) ((رسالة القدر)) في صحيفتين من المبحث الثاني منها بياناً شافياً وافياً، وبما يوافق أفهام الناس كلهم. فان لم يكن هذا من أثر العناية الإلهية فما هو اذن؟.

وكذا سر خلق العالم، المسمى بـ(طلسم الكائنات) الذي جعل العقول في حيرة منه، ولم تحلّ لغزه اية فلسفة كانت، كشف اسراره وحل ألغازه الاعجاز المعنوي للقرآن العظيم، وذلك في (المكتوب الرابع والعشرين) وفي النكتة الرمزية الموجودة في ختام (الكلمة التاسعة والعشرين)، وفي الحِكَم الست لتحوّل الذرات في (الكلمة الثلاثين). هذه الرسائل قد حلت ذلك الطلسم المغلق في الكون، وكشفت عن اسرار ذلك المعمى المحيّر في خلق الكون وعاقبته، وبينت حكمة الذرات وتحولاتها. وهي متداولة لدى الجميع، فليراجعها من شاء.

وكذا حقائق الأحدية، ووحدانية الربوبية بلاشريك، وحقائق القرب الإلهي قرباً أقرب الينا من أنفسنا، وبُعدنا نحن عنه سبحانه بُعداً مطلقاً.. هذه الحقائق الجليلة قد وضحتها توضيحاً كاملاً كل من (الكلمة السادسة عشرة) و (الكلمة الثانية والثلاثين).

وكذا القدرة الإلهية المحيطة بكل شئ، وتساوي الذرات والسيارات ازاءها، وسهولة احيائها ذوي الارواح كافة في الحشر الاعظم كسهولة احياء فرد واحد، وعدم تدخل الشرك قطعاً في خلق الكون، وانه بعيد عن منطق العقل بدرجة الامتناع.. كل هذه الحقائق قد كشفت في (المكتوب العشرين) لدى شرح (وهو على كل شئ قدير). وفي ذيله الذي يضم ثلاثة تمثيلات، الذي حلّ ذلك السر العظيم، سر التوحيد.

هذا فضلاً عن أن الحقائق الايمانية والقرآنية لها من السعة والشمول مالايمكن ان يحيط به ذكاء أذكى انسان! أليس اذاً ظهور الاكثرية المطلقة لتلك الحقائق بدقائقها لشخص مثلي مشوش الذهن، مشتت الحال، لامرجع ومصدر لديه من الكتب، ويتم التأليف في سرعة وفي أوقات الضيق والشدة؟ أقول: أليس ذلك أثراً من آثار الاعجاز المعنوي للقرآن الكريم وجلوة من جلوات العناية الربانية واشارة غيبية قوية؟.

u الاشارة الرابعة:

لقد أنعم الله عليّ بتأليف ستين رسالة بهذا النمط من الانعام والاحسان، اذ من كان مثلي ممن يفكر قليلاً ويتتبع السنوح القلبي، ولايجد متسعاً من الوقت للتدقيق والبحث، يتم في يده تأليف مالايقدر على تأليفه جماعة من العلماء والعباقرة مع سعيهم الدائب، فتأليفها اذن على ذلك الوجه يدّل على انها أثر عناية إلهية مباشرة، لأن جميع الحقائق العميقة الدقيقة في هذه الرسائل كلها تُفهَّم وتدرّس الى عوام الناس واكثرهم أمية بوساطة التمثيلات. مع ان علماء أجلاء قالوا عن اكثر تلك الحقائق انها لاتعلّم ولاتدرس، فلم يعلّموها للعوام وحدهم، ولا للخواص ايضاً.

وهكذا فهذا التسهيل الخارق في التأليف والتيسير في بيان الحقائق، بجعل أبعد الحقائق عن الفهم كأنها في متناول اليد وتدريسها الى أكثر الناس بساطة وأمية، لايكون في وسع شخص مثلي له باع قصير في اللغة التركية، وكلامه مغلق ولايفهم كثير منه، حتى يجعل الحقائق الظاهرية معضلة، واشتهر بهذا منذ السابق وصدّقت آثاره القديمة شهرته السيئة تلك.. فمثل هذا الشخص يجري في يده هذا التيسير والبيان الواضح لاشك انه أثر من آثار العناية الإلهية، ولايمكن ان يكون من حذاقة ذلك الشخص، بل هو جلوة من جلوات الاعجاز المعنوي للقرآن الكريم، وصورة منعكسة للتمثيلات القرآنية.

u الاشارة الخامسة:

على الرغم من انتشار الرسائل ـ بصورة عامة ـ انتشاراً واسعاً جداً، فان عدم قيام أحد بانتقادها ابتداءً من أعظم عالم الى أدنى رجل من العوام، ومن اكبر ولي صالح تقي الى أحط فيلسوف ملحد عنيد، هؤلاء الذين يمثلون طبقات الناس وطوائفهم. ورغم انها معروضة امامهم ويرونها ويقرأونها، وقد استفادت كل طائفة منها حسب درجتها، بينما تعرّض قسم منهم الى لطماتها وصفعاتها.. أقول: ان كل ذلك ليس إلاّ أثر عناية ربانية وكرامة قرآنية.. ثم ان تلك الأنماط من الرسائل التي لاتؤلف إلاّ بعد بحث دقيق وتحرّ ٍ عميق، فان كتابتها واملاءها بسرعة فوق المعتاد اثناء انقباض وضيق - وهما يشوشان أفكاري وادراكي ـ اثر عناية ربانية وإكرام إلهي ليس إلاّ.

نعم! يعلم أكثر أخواني ومَن عندي من الاصدقاء والمستنسخين جميعهم؛ ان الاجزاء الخمسة من (المكتوب التاسع عشر)، قد أُلفت في ثلاثة او اربعة ايام بمعدل ساعتين او ثلاث ساعات يومياً، أي بمجموع اثنتي عشرة ساعة دون مراجعة كتاب، حتى ان الجزء الرابع المهم جداً الذي اظهر ختماً واضحاً للنبوة في كلمة الرسول الكريم e قد كتب بظهر الغيب في حوالي أربع ساعات وفي زوايا الجبال وتحت المطر.

وكذلك (الكلمة الثلاثون) التي هي رسالة جليلة دقيقة ألفت في أحد البساتين، خلال ست ساعات، كما ان (الكلمة الثامنة والعشرين) ألفت في ظرف لايتجاوز ساعتين في بستان ((سليمان)).

وهكذا كان تأليف اكثر الرسائل الأخرى.

ويعلم الأقربون مني، انني - في السابق - كلما كنت اتضايق من شئ أعجز عن بيان أظهر الحقائق، بل كنت أجهلها. ولاسيما اذا مازاد المرض على ذلك الضيق، كنت امتنع أكثر عن التدريس والتأليف، بينما ألفت ((الكلمات)) المهمة، وكذلك الرسائل الأخرى في أشد أوقات المرض والضيق، وتم التأليف في أسرع وقت. فان لم يكن هذا إكراماً ربانياً وكرامة قرآنية مباشرة، فما هو اذن؟.

ثم انه ما من كتاب يبحث في مثل هذه الحقائق الإلهية والايمانية إلاّ ويترك بعض مسائله ضرراً في عدد من الناس، لذا ما كان ينشر كل مسألة منه الى الناس كافة. اما هذه الرسائل فلم تلحق أي ضرر كان ولم تؤثر تأثيراً سيئاً في أحد من الناس ولم تخدش ذهن أحد قط رغم استفساري عن ذلك من الكثيرين حتى تحقق لدينا ان ذلك اشارة غيبية وعناية ربانية مباشرة.

u الاشارة السادسة:

لقد تحقق لديّ يقيناً: ان اكثر أحداث حياتي، قد جرت خارجة عن طوق اقتداري وشعوري وتدبيري، اذ اُعطيت سيراً معيناً ووجهت وجهة غريبة لتنتج هذه الانواع من الرسائل التي تخدم القرآن الحكيم. بل كأن حياتي العلمية جميعها بمثابة مقدمات تمهيدية لبيان اعجاز القرآن بـ((الكلمات)) حتى انه في غضون هذه السنوات السبع من حياة النفي والاغتراب وعزلي عن الناس ـ دون سبب او مبرر وبما يخالف رغبتي ـ أمضي ايام حياتي في قرية نائية خلافاً لمشربي وعزوفي عن كثير من الروابط الاجتماعية التي ألفتها سابقاً .. كل ذلك ولّد لي قناعة تامة لايداخلها شك من انه تهيئة وتحضير لي للقيام بخدمة القرآن وحده، خدمة صافية لاشائبة فيها.

بل انني على قناعة تامة من ان المضايقات التي يضايقونني بها في اغلب الاوقات والعنت الذي ارزح تحته ظلماً، انما هو لدفعي - بيد عناية خفية رحيمةــ الى حصر النظر في اسرار القرآن دون سواها. وعدم تشتيت النظر وصرفه هنا وهناك. وعلى الرغم من انني كنت مغرماً بالمطالعة، فقد وهبتْ لروحي مجانبة واعراضاً عن أي كتاب آخر سوى القرآن الكريم.

فادركت ان الذي دفعني الى ترك المطالعة ـ التي كانت تسليتي الوحيدة في مثل هذه الغربة ـ ليس إلاّ كون الآيات القرآنية وحدها استاذاً مطلقاً لي.

ثم ان الآثار المؤلفة والرسائل – باكثريتها المطلقة – قد اُنعمت عليّ بها لحاجة تولدت في روحي فجأة، ونشأت آنياً. دون ان يكون هناك سبب خارجي. وحينما كنت أظهرها لبعض أصدقائي، كانوا يقولون: ((انها دواء لجراحات هذا الزمان)). وبعد انتشارها عرفت من معظم اخواني انها تفي بحاجة هذا العصر وتضمد جراحاته.

فهذه الحالات المذكورة آنفاً ـ وهي خارجة عن نطاق ارادتي وشعوري وسير حياتي ـ ومجموع تتبعاتي في العلوم خلاف عادة العلماء وبما هو خارج عن اختياري، كل ذلك لم يترك لي شبهة قطعاً بانها عناية إلهية قوية واكرام رباني واضح، للانجرار الى مثل هذه النتيجة السامية.

u الاشارة السابعة:

لقد شاهدنا بأم أعيننا ـ دون مبالغة ـ مائة من آثار الاكرام الإلهي، والعناية الربانية، والكرامة القرآنية خلال زهاء ست سنوات من سير خدمتنا للقرآن الكريم. وقد أشرنا الى قسم منها في (المكتوب السادس عشر) وبيّنا قسماً آخر في المسائل المتفرقة للمبحث الرابع من (المكتوب السادس والعشرين) وفي المسألة الثالثة من (المكتوب الثامن والعشرين). وان أصحابي القريبين يعلمون هذا. ولاسيما صاحبي الدائم، السيد سليمان، يعلم أكثرها، فحظينا بتيسيرإلهي ذي كرامة لايخطر على بال، سواء في نشر ((الكلمات)) والرسائل الاخرى، او في تصحيحها ووضعها في مواضعها وفي تسويدها وتبييضها. فلم يبق لدينا ريب ـ بعد ذلك ـ ان كل تلك العنايات الإلهية كرامة قرآنية .. ومثال هذا بالمئات.

ثم اننا نُربىّ بشفقة ورأفة وتجري معيشتنا بعناية بحيث يُحسِن الينا صاحب العناية الذي يستخدمنا في هذه الخدمة بما يحقق أصغر رغبة من رغبات قلوبنا، وينعم بها علينا من حيث لانحتسب .. وهكذا.

فهذه الحالة اشارة غيبية في منتهى القوة الى اننا نستخدم في هذه الخدمة القرآنية وندفع الى العمل مكللين بالرضى الإلهي مستظلين بظل العناية الربانية.

الحمد لله هذا من فضل ربي

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{

اللهم صلّ على سيدنا محمد صلاة تكون لك رضاءً ولحقهِ اداءً وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً . آمين .



جواب عن سؤال خاص

ان هذا السر، وهو سر عناية إلهية، قد كتب للتداول الخاص، واُلحق في ختام الكلمة الرابعة عشرة، ولكن - بأية حال - نسي المستنسخون ان يكتبوه، فظل مخفياً مستوراً. فموضعه اذن ههنا وهو الأليق به.

انك يا أخي تسأل: لماذا نجد تأثيراً غير اعتيادي فيما كتبته في ((الكلمات)) المستقاة من فيض القرآن الكريم، قلّما نجده في كتابات العارفين والمفسرين. فما يفعله سطرٌ واحد منها من التأثير يعادل تأثير صحيفة كاملة من غيرها، وماتحمله صحيفة واحدة من قوة التأثير يعادل تأثير كتاب كامل آخر؟

فالجواب: وهو جواب لطيف جميل، اذ لما كان الفضل في هذا التأثير يعود الى اعجاز القرآن الكريم وليس الى شخصي أنا، فسأقول الجواب بلاحرج:

نعم! هو كذلك على الاغلب؛ لأن الكلمات:

تصديق وليست تصوراً (1).

وايمانٌ وليست تسليماً(2).

وتحقيق وليست تقليداً(3).

وشهادة وشهود وليست معرفة(4).

واذعان وليست التزاماً(5).

وحقيقة وليست تصوفاً .

وبرهان ضمن الدعوى وليست ادعاءاً

وحكمة هذا السر هي:

ان الاسس الايمانية كانت رصينة متينة في العصور السابقة، وكان الانقياد تاماً كاملاً، اذ كانت توضيحات العارفين في الامور الفرعية مقبولة، وبياناتهم كافية حتى لو لم يكن لديهم دليل.

اما في الوقت الحاضر فقد مدّت الضلالة باسم العلم يدها الى اسس الايمان واركانه، فوهب لي الحكيم الرحيم - الذي يهب لكل صاحب داء دواءه المناسب - وانعم عليّ سبحانه شعلةً من ((ضرب الامثال)) التي هي من اسطع معجزات القرآن واوضحها، رحمةً منه جل وعلا لعجزي وضعفي وفقري واضطراري، لأُنير بها كتاباتي التي تخص خدمة القرآن الكريم. فـله الحمد والمنة:

فبمنظار ((ضرب الامثال)) قد أُظهرَتْ الحقائق البعيدة جداً انها قريبة جداً.

وبوحدة الموضوع في ((ضرب الامثال))قد جُمِّعَتْ اكثر المسائل تشتتاً وتفرقاً.

وبسلّم ((ضرب الامثال))قد تُوصِّل الى اسمى الحقائق واعلاها بسهولة ويُسر.

ومن نافذة ((ضرب الامثال)) قد حُصّل اليقين الايماني بحقائق الغيب واسس الاسلام مما يقرب من الشهود.

فاضطر الخيال الى الاستسلام وأُرغم الوهم والعقل الى الرضوخ، بل النفس والهوى. كما اضطر الشيطان الى إلقاء السلاح.

حاصل الكلام:

انه مهما يظهر من قوة التأثير، وبهاء الجمال في اسلوب كتاباتي، فانها ليست مني، ولا مما مضغه فكري، بل هي من لمعات ((ضرب الامثال)) التي تتلألأ في سماء القرآن العظيم، وليس حظي فيها الا الطلب والسؤال منه تعالى، مع شدة الحاجة والفاقة، وليس لي إلاّ التضرع والتوسل اليه سبحانه مع منتهى العجز والضعف.

فالداء مني والدواء من القرآن الكريم .

خاتمـة

الـمسألة السابعة

[هذه الخاتمة تخص ازالة الشبهات التي تثار او ربما تثار حول الاشارات الغيبية التي وردت في صورة ثماني عنايات الهية، وفي الوقت نفسه تبين هذه الخاتمة سراً عظيماً لعناية الهية].

وهذه الخاتمة عبارة عن اربع نكات.

النكتة الاولى:

لقد ادّعينا مشاهدتنا لجلوة اشارة غيبية، كتبناها في (العناية الإلهية الثامنة) في معرض بياننا ((للتوافقات)) وقد أحسسنا هذه الاشارة من العنايات الإلهية السبعة الكلية المعنوية المذكورة في المسألة السابعة من (المكتوب الثامن والعشرين) وما زلنا ندّعي ان هذه العنايات السبعة او الثمانية الكلية قوية وقاطعة الى درجة تثبت كل واحدة منها على حدتها تلك الاشارات الغيبية، بل لو فرض فرضاً محالاً ان قسماً منها تبدو ضعيفة، او لو أُنكر، فلا يخل ذلك بقطعية تلك الاشارات الغيبية، اذ مَن لم يقدر على انكار تلك العنايات الثمانية لايستطيع ان ينكر تلك الاشارات.

ولكن لما كانت طبقات الناس متفاوتة، وطبقة العوام هم الذين يمثلون الغالبية العظمى، وانهم يعتمدون كثيراً على المشاهدة، لذا غدت ((التوافقات)) أظهر تلك العنايات الالهية، وهي ليست أقواها بل الأخريات أقوى منها، الاّ انها أعمها، ولهذا اضطررت الى بيان حقيقة معينة في صورة موازنة ومقارنة دفعاً للشبهات التي تثار حول ((التوافقات)). وذلك:

لقد قلنا في حق تلك العناية الظاهرة: ان التوافقات مشاهدة في كلمتي ((القرآن الكريم)) و ((الرسول الكريم e )) وفي الرسائل التي ألفناها، الى حدٍ لاتدع شبهة من انها نُظــّمت قصداً وأعطيت لها وضعاً موازياً. والدليل على ان القصد والارادة ليسا منا، هو اطلاعنا على تلك التوافقات بعد حوالي أربع سنوات، أي ان هذا القصد والارادة كانت غيبية وأثراً من آثار العناية الالهية، فأُعطيت تلكما الكلمتان ذلك الوضع الغريب تأييداً محضاً لمعجزات الرسول الكريم e والاعجاز القرآني. واصبحت ببركة هاتين الكلمتين ((التوافقات)) ختم تصديقٍ لرسالتي ((المعجزات الاحمدية)) و ((المعجزات القرآنية)).

بل نالت أكثر الكلمات المتشابهة من أمثالهما توافقات ايضاً ولكن في صفحات محدودة، بينما أظهرت هاتان الكلمتان توافقات في معظم صفحات الرسائل عامة، وفي جميع صفحات تلكما الرسالتين.

وقد كررنا القول : ان أصل هذا التوافق يمكن ان يوجد بكثرة في الكتب الاخرى، ولكن ليست بهذه الدرجة من الغرابة الدالة على القصد والارادة السامية العالية.

وبعد، فعلى الرغم من ان دعوانا هذه لايمكن نقضها، إلاّ أن فيها جهة او جهتين ربما تتراءى للنظر الظاهري كأنها باطلة. منها:

انه يمكن ان يقولوا: انكم تنظمون هذا التوافق بعد تفكر وانعام نظر، والقيام بمثل هذا العمل بقصد وارادة سهل ويسير!

نقول جواباً عن هذا :

ان شاهدين صادقين في دعوى ما، كافيان لإثباتها، ففي دعوانا هذه يمكننا ان نبرز مائة شاهد صادق على اننا قد اطلعنا على التوافق بعد حوالي أربع سنوات، من غير ان يتعلق به قصدنا وارادتنا.

ولهذه المناسبة أوضح نقطة، هي:

ان هذه الكرامة الاعجازية ليست من نوع درجة الاعجاز القرآني من حيث البلاغة. لأن؛ البشر في الاعجاز القرآني البلاغي يعجز كلياً عن ان يبلغ درجة بلاغة القرآن بسلوكه طريق البلاغة.

اما هذه الكرامة الاعجازية، فانها لايمكن ان تحصل بقدرة البشر، فالقدرة لاتتدخل فيها(1).

وقد شاهدنا بابصارنا واقع هذا الهامش. [بكر، توفيق، سليمان، غالب، سعيد ((المؤلف))].

النكتة الثالثة:

نشير الى سر دقيق من اسرار الربوبية والرحمانية لمناسبة البحث عن الاشارة الخاصة والاشارة العامة.

ان لأحد اخواني قولاً جميلاً، سأجعله موضوع هذه المسألة، وذلك:

انه عندما عرضتُ عليه يوماً توافقاً جميلاً قال: انه جميل، اذ كل حقيقة جميلة، إلاّ أن الأجمل منها التوفيق والتوافقات الموجودة في هذه ((الكلمات)).

فقلت: ((نعم! ان كل شئ جميل، ولكن اما انه جميل حقيقةً اي بالذات او جميل باعتبار نتائجه. وان هذا الجمال متوجّه الى الربوبية العامة، والرحمة الشاملة والتجلي العام. وان الاشارة الغيبية في هذا التوفيق هي أجمل، كما قلتَ.. لأنها تنم عن رحمة خاصة وربوبية خاصة وتجلٍ خاص)).

وسنقرب هذا الى الفهم بتمثيل، وذلك:

ان السلطان يشمل برعايته وبرحمته جميع أفراد الامة، وذلك بقوانينه ودولته، فكل فرد ينال مباشرةً لطفه وكرمه ويستظل بظل دولته. اي هناك علاقات خاصة للافراد ضمن هذه الصورة العامة.

اما الجهة الثانية (من رعايته ورحمته) فهي آلاؤه الخصوصية، وأوامره الخاصة التي هي فوق جميع القوانين، ولكل فرد من رعاياه حصة من هذه الآلاء.

فعلى غرار هذا المثال: فان لكل شئ حظاً من الربوبية العامة والرحمة الشاملة لواجب الوجود والخالق الحكيم الرحيم، اي ان كل شئ ذو علاقة معه بصورة خاصة في الجهة التي حظى بها. وان له تصرفاً في كل شئ بقدرته وارادته وعلمه المحيط. فربوبيته شاملة كل شئ حتى أصغر الافعال. وكل شئ محتاج اليه سبحانه في كل شأن من شؤونه، فتقضى أموره وتنظم أفعاله بعلمه وحكمته جل وعلا.

فلا تستطيع الطبيعة ان تتخفى ضمن دائرة تصرف ربوبيته الجليلة، او تتداخل فيها مؤثرةً فيها، ولا المصادفة تتمكن من التدخل في اعماله سبحانه الموزونة بميزان الحكمة الدقيق. ولقد اثبتنا اثباتاً قاطعاً عدم تأثير الطبيعة والمصادفة في عشرين موضعاً من الرسائل واعدمناهما بسيف القرآن الكريم، واظهرنا بالحجج الدامغة ان تدخلهما في الامور محال قطعاً.

بيد ان اهل الغفلة أطلقوا اسم (المصادفة) على الامور التي لاتعرف حكمتها واسبابها في نظرهم من الظواهر التي هي مشمولة بالربوبية العامة، ولما عجزوا عن رؤية قوانين الافعال الإلهية التي لايحاط بحكمها المتسترة تحت ستار الطبيعة، اسندوا الامر الى الطبيعة.

الثانية:

هي الربوبية الخاصة، والتكريم الخاص والامداد الرحماني الخاص، بحيث ان الذين لايتحملون ضغوط القوانين العامة يسعفهم اسم الرحمن والرحيم ويمدّهم ويعاونهم معاونة خاصة وينجيهم من ذلك الضيق والعنت.

ولهذا فكل كائن حي، ولاسيما الانسان، يستعين به سبحانه، ويستمد المدد منه كل آن، فاحسانه ونعمه التي هي في هذه الربوبية الخاصة، لايمكن ان تتخفى تحت المصادفة ولايمكن ان تسند الى الطبيعة حتى لدى اهل الغفلة أنفسهم.

وبناءً على ما سبق، فقد اعتقدنا بان الاشارات الغيبية التي هي في (المعجزات الاحمدية) و (المعجزات القرآنية) اشارة غيبية خاصة، وايقنّا انها امداد رباني خاص وعناية إلهية خاصة تستطيع ان تظهر نفسها امام المعاندين، ولهذا أعلنّا عنها نيلاً لرضاه تعالى فحسب.

فلئن قصّرنا فنرجو عفوه سبحانه . آمين.

} ربنا لاتؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا{

الـمسألة الثامنة

وهي الرسالة الثامنة

[هذه المسألة عبارة عن ثماني نكات كتبت جواباً عن ستة أسئلة]

C النكتة الاولى:

لقد شعرنا بكثير من انواع الاشارات الغيبية، حول استخدامنا في خدمة القرآن تحت عناية إلهية، وقد بيّنا بعضها. وهذه اشارة جديدة منها، وهي وجود ((توافقات غيبية)) في اكثر ((الكلمات))(1).

منها: اشارة غيبية، لتمثّل نوعٍ من نور الاعجاز، في كلمة (الرسول الاكرم)، وفي عبارة (عليه الصلاة والسلام) وفي لفظ (القرآن) المبارك. والاشارة الغيبية مهما كانت خفية وضعيفة، فهي في نظري على جانب عظيم من الأهمية والقوة، وذلك لدلالتها على صواب المسائل وقبول الخدمة، وانها تحدُّ من غروري وتكسر شوكته.

وقد بينت لي بوضوح؛ انني لست إلاّ ترجماناً للرسائل، ولم تدع لي شيئاً من موضع افتخار بل تظهر لي الاشياء التي هي مدار شكران فحسب.. وحيث ان الاشارات الغيبية تخص القرآن الكريم وترجع اليه، وتمضي في سبيل بيان اعجازه، ولاتخالطها ارادتنا ابداً، وتحث المتكاسلين في الخدمة على العمل، وتورث قناعة بأحقية الرسالة، وهي نوع من إكرام إلهي لنا، وفي اظهارها تحدّث بالنعمة، وإلزام المتمردين الماديين الحجة واسكاتهم.. فيستلزم إذاً اظهارها، ولاضرر فيه ان شاء الله.

وهكذا فاحدى هذه الاشارات الغيبية هي:

ان الله سبحانه وتعالى قد أنعم علينا بكمال رحمته وعموم كرمه، حثاً لنا على العمل وتطميناً لقلوبنا ـ نحن المشتغلين بخدمة القرآن والايمان ـ نعمة لطيفة في صورة اكرام رباني، واحسانٍ إلهي، علامةً على قبول خدمتنا وتصديقاً على أحقية ما ألــّفناه، تلك هي الاشارات الغيبية في ((التوافقات)) التي ظهرت في جميع رسائلنا، ولاسيما في ((المعجزات الاحمدية)) ورسالة ((المعجزات القرآنية)) ورسالة ((النوافذ))، حيث تتناظر فيها الكلمات المتماثلة في الصحيفة الواحدة.

وفي هذا اشارة غيبية الى انها تُنظم بارادة غيبية، اي: ((ان نقوشاً وانتظامات خارقة تُجرى دون علمٍ لاختياركم اياها ولايبلغها شعوركم، فلا تغتروا بارادتكم وشعوركم!)).. ولاسيما في ((المعجزات الاحمدية)) التي أصبحت فيها كلمة ((الرسول الاكرم)) ولفظ ((الصلوات عليه)) في حكم المرآة، تبين تلك التوافقات الغيبية بوضوح، بل تناظرت عبارة ((الصلوات عليه)) متوازية في اكثر من مائتي صفحة ـ باستثناء خمس صفحات ـ لدى مستنسخ جديد مبتدئ.

فهذه التوافقات كما لاتكون من شأن المصادفة قطعاً، التي قد تكون سبباً لتوافق كلمتين من كل عشر كلمات، لاتكون نابعة كذلك من تفكير شخص ضعيف مثلي، غير حاذق الصنعة، والذي يحصر نظره في المعنى، ويؤلف في سرعة فائقة مايقارب اربعين صحيفة في حوالي ساعتين من الزمن. فضلاً عن انه لايكتب بل يُملي على غيره ويستكتبه..

وهكذا وبعد مضي ست سنوات اطلعتُ على تلك التوافقات بارشاد القرآن الكريم ايضاً، وبارشاد تفسير ((اشارات الاعجاز))، حيث جاء التوافق فيه في تسع كلمات من كلمة ((إنــّا)). وقد حار المستنسخون كثيراً في الامر بعد سماعهم التوافق مني.

فكما ان لفظ ((الرسول الاكرم)) ولفظ ((الصلوات عليه)) في (المكتوب التاسع عشر) أصبحا كمرآة صغيرة لنوع من أنواع معجزاته e . كذلك لفظ ((القرآن)) في رسالة ((المعجزات القرآنية)) وهي (الكلمة الخامسة والعشرون) وفي الاشارة الثامنة عشرة من (المكتوب التاسع عشر) قد ظهر في توافق لطيف مما بيّن جزءاً من اربعين جزء من ((التوافقات)) التي ظهرت في سائر الرسائل ايضاً، والتي تبين نوعاًمن الانواع الأربعين لاعجاز القرآن ازاء طبقة الناس الذين يعتمدون على مشاهداتهم وحدها، وهم الذين يمثلون واحدةً من اربعين طبقة من طبقات الناس. وذلك:

لقد تكرر لفظ ((القرآن)) مائة مرة في (الكلمة الخامسة والعشرين) وفي الاشارة الثامنة عشرة من (المكتوب التاسع عشر)، وتناظرت الكلمات جميعها إلاّ ماندر.

ففي الصحيفة الثالثة والاربعين من الشعاع الثاني، هناك سبعة من لفظ ((القرآن)) تتناظر كلها.

وفي الصحيفة السادسة والخمسين التي فيها تسعة من لفظ ((القرآن))، تتناظر ثماني كلمات منها.

وهذه الصحيفة التاسعة والستون ـ التي أمام أبصارنا ـ توجد خمسة ألفاظ من ((القرآن)) تتناظر جميعها. وهكذا تتناظر ألفاظ ((القرآن)) المكررة الواردة في جميع الصفحات. وقلما يستثنى واحد من كل خمسة او ستة ألفاظ منه. واما سائر التوافقات، ففي الصحيفة الثالثة والثلاثين ـ التي هي أمامنا ـ خمسة عشر لفظاً لـ((أمْ))، تتناظر اربعة عشر منها، وكذلك في هذه الصحيفة التي أمام أعيننا، تتناظر تسعة من لفظ ((الايمان))، وانحرف واحد انحرافاً قليلاً، بوضع المستنسخ فاصلة بين الكلمات، وكذا في هذه الصحيفة التي أمامنا يتناظر لفظان من لفظ ((المحبوب)) أحدهما في السطر الثالث والآخر في السطر الخامس عشر، فهما يتناظران تناظراً جميلاً بميزان تام، وقد صُفّت بينهما أربعة من ألفاظ ((العشق)) متناظرة.

وهكذا، تقاس التوافقات الغيبية الأخرى على هذه.

فهذه التوافقات موجودة ـ لامحالة ـ بشكل من الاشكال في الرسائل أياً كان المستنسخ، وكيفما كانت الاسطر والصفحات، بحيث لاتدع شبهة من انها ليست نتيجة المصادفة، ولا من نتاج تفكير المؤلف والمستنسخ، ولكن التوافقات في خط بعض المستنسخين تلفت الأنظار أكثر، بمعنى ان لهذه الرسائل خطاً حقيقياً خاصاً بها، وان بعض المستنسخين يقترب من ذلك الخط.

ومن غرائب الأمور؛ ان هذه التوافقات أكثر ظهوراً لدى المستنسخين غير الماهرين. مما يفهم منه ان المزايا والفضائل والظرافة في ((الكلمات)) التي هي نوع من تفسير القرآن الكريم ليست ملك أحد. بل ان ملابس الاساليب الموزونة المنتظمة التي تناسب قامة الحقائق القرآنية المباركة الجميلة المنتظمة، لاتفصّل ولاتخاط باختيار أحد ولابشعوره، بل ان وجودها هو الذي يقتضي ان يكون الأمر هكذا. وان يداً غيبية هي التي تفصّلها وتخيطها وتُلبسها حسب تلك القامة.

اما نحن فترجمان فيها وخادم ليس إلاّ.

C النكتة الرابعة:

تذكرون في سؤالكم الأول، المتضمن لخمسةاو ستة اسئلة :

كيف يكون الجمع في ميدان الحشر وهل يحشر الناس عراة؟ وكيف يكون لقاء الاصدقاء الاحبة وكيف نجد الرسول e للشفاعة؟ اذ كيف يقابل انسان واحد عدداً غير محدود من الناس؟ وما نوع ثياب أهل الجنة والنار؟ ومن الذي يدلنّا على الطريق؟.

الجواب:

ان جواب هذا السؤال موجود كاملاً وواضحاً في كتب الاحاديث الشريفة.

وسنورد هنا ما يوافق مسلكنا ومشربنا من نكتة او نكتتين فحسب:

اولاً: لقد بينا في مكتوب من ((المكتوبات)): ان ميدان الحشر هو في مدار الارض السنوي، وان الارض ترسل محاصيلها المعنوية من الآن الى ألواح ذلك الميدان، وانها بحركتها السنوية تمثل دائرة وجود، وتكون مبدأ ً لتشكل ميدان الحشر، بمحاصيل تلك الدائرة الوجودية.

وان الكرة الارضية؛ التي هي كسفينة ربانية ستفرغ ما في مركزها من جهنم صغرى الى جهنم كبرى، كما ستفرغ سكنتها الى ميدان الحشر.

ثانياً: لقد أثبتنا اثباتاً قاطعاً في ((الكلمات)) ولاسيما في ((الكلمة العاشرة)) وفي ((الكلمة التاسعة والعشرين)) وجود الحشر مع ميدانه.

ثالثاً: اما الاجتماع بالاصدقاء ولقاؤهم، فقد اثبت اثباتاً كاملاً في كل من ((الكلمة السادسة عشرة)) و ((الكلمة الحادية والثلاثين)) و ((الكلمة الثانية والثلاثين)) وذلك:

ان شخصاً واحداً يستطيع في دقيقة واحدة ان يقابل ملايين الناس وفي ألف مكان ومكان، وذلك بسر النورانية.

رابعاً: ان الله سبحانه وتعالى قد ألبس مخلوقاته الأحياء كافة لباساً فطرياً سوى الانسان، ففي ميدان الحشر يلبسه سبحانه لباساً فطرياً، ويتعرى عن ملابسه المنسوجة (غير الفطرية) وذلك بمقتضى اسم الله الحكيم.

اما حكمة الألبسة المنسوجة في الدنيا، فلا تنحصر في الوقاية من الحر والقر، والزينة، وستر للعورة وحدها، بل أهم حكمة لها هي:

انها اشارة الى سيادة الانسان على سائر الانواع وتصرفه فيها، اذ ان ملابسه منسوجة من نماذج تلك الانواع. وإلاّ فما أهون عليه سبحانه أن يلبس الانسان لباساً فطرياً بسيطاً. اذ لولا هذه الحكمة لكان الانسان موضع استهزاء الحيوانات ذات المشاعر، حيث يغطي نفسه، ويلف جسمه بقطع متنوعة وخرق مختلفة.

اما في ميدان الحشر فلا داعي الى هذه الحكمة ولامبرر لتلك العلاقة بين الانسان وسائر الانواع، لذا لاحاجة الى تلك الملابس التي تمثل نماذج تلك الانواع.

خامساً: اما الدليل على الطريق، فهو القرآن لأمثالك ممن انضووا تحت نور القرآن ولوائه. فانظر الى المقطعات الموجودة في اوائل السور كـ((الم. و الر. و حم)) واعلم منها وشاهد: ماأعظم القرآن من كتاب، وماأرجاه من شفيع، وما أصدقه من دليل، وما أقدسه من نور!

سادساً: اما ثياب اهل الجنة وجهنم فقد وضحته ((الكلمة الثامنة والعشرون)) والدستور الذي ذكر فيما يخص سبعين حُلّة للحور العين جارٍ هنا ايضاً، وذلك ان انساناً من اهل الجنة لاشك يرغب في ان يتنعم بكل نوع من انواع لذائذ الجنة، وفي كل وقت وآن. ومعلوم ان في الجنة نعيماً ولذائذ في منتهى الاختلاف والانواع، فهو يعاشر جميع تلك الانواع من النعم، وفي كل وقت، لذلك يلبس ويُلبس حورَه نماذج حسن الجنة ونعيمها بمقياس مصغر، فيكون هو وحوره العين بمثابة جنة مصغرة.

اذ كما يجمع الانسان في حديقة بيته الازاهير المنتشرة في تلك البلدة، او كما يجمع صاحب حانوت مالديه من انواع البضائع في لائحة وقائمة. وكما يقتني الانسان ملابسه واثاث بيته من انواع المخلوقات التي يتصرف فيها، وله علاقة معها، وكذلك الذي هو من اهل الجنة، ولاسيما الذي عَبَد الله بجميع مشاعره وحواسه سيلبسه الله سبحانه برحمته، ويُلبس حوره العين، حللاً، تظهر كل نوع من انواع جمال الجنة ونعيمها وأذواقها بما يُشبع كل رغبة من رغباته، ويُرضى كل حاسة من حواسه، ويُمتّع كل جهاز من أجهزته، ويُسهّل له تذوق كل لطيفة من لطائفه.

والدليل على ان تلك الحلل المتعددة ليست من جنس واحد ولامن نوع واحد هو الحديث الشريف الوارد بهذا المعنى: ان الحور العين يلبسن سبعين حُلة ويرى مخ عظامهن من تحتها(1).

بمعنى انه ابتداءً من أعلى حلّة من تلك الحلل الى أدناها هناك مراتب من التذوق والتمتع بحيث تشبع جميع الحواس والمشاعر بلذائذ مختلفة وبانماط مختلفة.

اما من هو من أهل النار فانه قد ارتكب السيئات والذنوب ببصره وبسمعه وبقلبه وبعقله وبيده، وبسائر جوارحه وحواسه ومشاعره، فلابد انه سيُلبس ملابس قطّعت من اجناس مختلفة ليعذَّب بها وليذوق آلاماً متنوعة بحسب كل حاسة وجهاز حتى تصير الملابس جهنم مصغرة تحيط به. ولايتنافى هذا ومقتضى الحكمة والعدالة.

C النكتة الخامسة:

تسألون: هل كان أجداد الرسول e يدينون بدين في زمن الفترة؟

الجواب: هناك روايات تدل على انهم كانوا يدينون ببقايا دين ابراهيم عليه السلام، بعد ان مرت بفترات الغفلة والظلمات المعنوية، وقد ظلت متعبَّد بعض الناس الخاصين، فلاريب ان الذين انحدروا من نسل سيدنا ابراهيم عليه السلام والذين شكـّلوا سلسلة نورانية انتجت سيدنا الرسول e لم يكونوا مهملين للدين الحق، ولم يقعوا في ظلمات الكفر، ولكن الآية الكريمة: } وما كنا معذّبينَ حتى نَبعثَ رَسُولا{ (الاسراء:15) تبين ان أهل الفترة يكونون من اهل النجاة، فلايؤاخَذون بخطاياهم في الفروع، بالاتفاق، بل هم اهل نجاة عند الامام الشافعي، والامام الاشعري، حتى لو وقعوا في الكفر وليس لهم اصول الايمان، لان التكليف الإلهي يكون ببعثة الرسل، ويتقرر التكليف بالاطلاع على البعثة.

وحيث ان الغفلة ومرور الزمان قد سترا أديان الأنبياء السابقين، فلاتكون هذه الأديان حجةً على أهل زمن الفترة، فان أطاعوا يثابون، وان لم يطيعوا لايعذّبون، لانها لاتكون حجة مادامت مستورة غير ظاهرة.

C النكتة السادسة:

تقولون: هل اُرسل أحدٌ بالنبوة من أجداد النبي e ؟

الجواب: ليس هناك نص قاطع على وجود نبي من أجداده e بعد سيدنا اسماعيل عليه السلام، ولكن ظهر نبيان من غير أجداده e ، وهما خالد بن سنان(1)، وحنظلة(2). وهناك قصيدة مشهورة لكعب بن لؤي، وهو من أجداده e . يقول فيها:

على غفلة يأتي النبي محمدٌ فيخبر أخباراً صدوقاً خبيرها(3).

هذا الكلام شبيه بكلام نبوة معجز، وقد قال الامام الرباني مستنداً الى الدليل والكشف: ((لقد بُعث انبياء كثيرون في الهند، إلاّ أن بعضهم لم تتبعهم أمة او انحصرت في عدة أشخاص محدودين، فلم يشتهروا، او لم يطلق عليهم الناس اسم النبي))(4).

فبناءً على هذه القاعدة للامام الرباني، يمكن وجود أنبياء أمثال هؤلاء في أجداد النبي e .

C النكتة السابعة:

تقولون: ماأصح خبر وأقواه بحق ايمان والديّ الرسول e وجدّه عبد المطلب؟

الجواب: ان سعيداً الجديد لايقتني اي كتاب كان غير القرآن الكريم منذ عشر سنوات، ويقول حسبي القرآن كتاباً، ولايسعني الوقت للتدقيق والبحث في مثل هذه المسائل الفرعية في جميع كتب الأحاديث كي أتمكن من الوصول الى أقوى الاخبار وأصحها. إلاّ انني أقول:

ان والديّ الرسول الكريم e من اهل النجاة ومن اهل الجنة، ومن اهل الايمان، فلاشك ان الله سبحانه وتعالى لايؤلم قلب حبيبه e ولايجرح شفقته اللطيفة التي تملأ ذلك القلب المبارك.

فان قيل: ان كان الأمر هكذا فلِمَ لم يوفقوا للايمان ولم يدركوا بعثته e .؟

الجواب: ان الله سبحانه وتعالى بكرمه العميم لايجعل والديّ الرسول الحبيبe تحت ثقل المنّة، تلطيفاً لشعوره e .اذ اقتضت رحمته سبحانه ان يرضي حبيبه الكريم e ويسعد والديه ويجعلهما تحت منّة ربوبيته الخالصة، لكيلا ينزلهما من مرتبة الوالدية الى مرتبة الاولاد المعنوية، فلذلك لم يجعل والديه ولا جدّه من امته ظاهراً، في حين أنعم عليهم مزايا الامة وفضائلها وسعادتها.

نعم! لو حضر أمام مشير عظيم في الجيش والده وهو برتبة نقيب لظل والده تحت تأثير شعورين متناقضين. لذا فالسلطان رحمة بمشيره الكريم، لايجعل والده تحت امرته.

C النكتة الثامنة:

تقولون: ماأصح الأقوال بحق عمه أبي طالب؟

الجواب:ان الشيعة قائلون بايمانه، اما أهل السنة فان أكثرهم ليسوا قائلين بايمانه.

ولكن الذي ورد الى قلبي، هو الآتي :

ان ابا طالب كان يحب شخص الرسول e حباً خالصاً جاداً، يحب ذاته لارسالته. فلاشك ان محبته الخالصة جداً وشفقته القوية لشخص الرسول e لاتذهب هباءً منثوراً، ولاتضيع عند الله.

نعم، ان ابا طالب الذي أحب حبيب رب العالمين حباً خالصاً وحماه من الاعداء واظهر موالاته له، حتى لو صار الى جهنم لعدم اظهاره ايماناً مقبولاً ـ خجلاً وعصبية قومية وامثالها من المشاعر وليس عناداً وانكاراً ـ فان الله سبحانه قادر على ان يخلق جنة خاصة به في جهنم ثواباً لحسناته، ويبدل جهنمه الخاصة الى جنة خاصة، بمثل ما يخلق احياناً ربيعاً زاهياً في الشتاء القارس، وبمثل مايحوّل السجن الضيق - برؤيا يراها بعضهم ـ الى قصر منيف.

والعلم عند الله .. ولايعلم الغيب الاّ الله.

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-03-2011
  #36
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 15
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: المكتوبات

المكتوب التاسع والعشرون

هذا المكتوب التاسع والعشرون عبارة عن تسعة اقسام وهذا القسم، هو الاول منه يتضمن تسع نكات.

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ{

أخي العزيز الوفي الصادق، وصاحبي الخالص الجاد في الخدمة القرآنية!

انكم تطلبون في رسالتكم هذه المرة، جواباً عن مسألة مهمة، لايسمح به وقتي وأحوالي.

أخي! لقد ازداد كثيراً هذه السنة، عدد الذين يكتبون رسائل النور والحمد لله. ويأتي اليّ التصحيح الثاني فانشغل به، بصورة سريعة طوال اليوم، لذا يتأخر كثير من أموري المهمة، اذ أرى ان هذه الوظيفة أهم من غيرها، ولاسيما في شهري شعبان ورمضان، حيث للقلب حظ أكبر من العقل، ويشرع الروح بالحركة. لهذا أؤجل هذه المسألة الجليلة الى وقت آخر بمشيئة الله، فمتى ما سنح للقلب شئ بفضل رحمته تعالى، اكتبه اليكم شيئاً فشيئاً.

والآن أبيّن ثلاث نكات(1):

C النكتة الاولى:

((لاتُعرف اسرار القرآن معرفة كاملة، ولم يدرك المفسرون حقيقته)). هذا المفهوم له وجهان. والقائلون به طائفتان:

الطائفة الاولى:

هم اهل الحق والعلم والتدقيق. فهم يقولون: ان القرآن الكريم كنز عظيم لاينفد، وان كل عصر يأخذ حظه من حقائقه الخفية التي هي من قبيل التتمات، مع التسليم بنصوص القرآن ومحكماته من دون ان يتعرض او يمس ما خفي من الحقائق من حظ اهل العصور الأخرى.

وحقاً ان حقائق القرآن تتوضح أكثر كلما مضى الزمان. ولايعني هذا ابداً القاء ظل الشبهة على ما بيّنه السلف الصالح من حقائق القرآن الظاهرة، لانها نصوص قاطعة وأسسٌ وأركان لابد مـن الايمان بهـا. وقـولـه تعـالى : } وهذا لسان عربي مبين{ (النحل: 103) يوضح ان معنى القرآن واضح مبين. فالخطاب الإلهي من اوله الى آخره يدور حول تلك المعاني ويقوّيها حتى يجعلها بدرجة البداهة. لذا فان رفض تلك المعاني المنصوص عليها يؤدي الى تكذيب الله سبحانه وتعالى (حاشلله) والى تزييف فهم الرسول الكريم e (حاشاه). بمعنى ان المعاني المنصوص عليها قد اُستُقيت من منبع الرسالة مسندة متسلسلة. حتى ان (ابن جرير الطبري) قد ألّف تفسيره الكبير الجليل مسنداً معاني القرآن جميعها الى منبع الرسالة.

الطائفة الثانية:

وهم اصدقاء حمقى، يفسدون اكثر مما يصلحون، او انهم اعداء ذوو دهاء شيطاني، يريدون أن يتصدوا للاحكام الاسلامية ويعارضوا الحقائق الايمانية، ويحاولون أن يجدوا منفذاً من السور القرآنية التي كل منها سور فلاذي لحصن القرآن الكريم ـ حسب تعبيركم ـ فهؤلاء يشيعون امثال هذه الاقوال ليلقوا الشبهات حول الحقائق الايمانية والقرآنية (حاشلله).

C النكتة الثانية:

لقد أقسم الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم بكثير من الاشياء. وفي الاقسام القرآنية نكات عظيمة جداً واسرار كثيرة جداً:

منها: ان القَسَم في } والشمس وضحيها{ (الشمس:1) يشير الى اظهار الكون كقصر عظيم ومدينة عامرة، والذي هو اساس التمثيل الرائع الوارد في (الكلمة الحادية عشرة).

ومنها: القَسم في؛ } يس ^ والقرآن الحكيم{ يذكّر به قدسية اعجاز القرآن، وانه بدرجة من الاهمية بحيث يقسم به.

وان القَسَم في } والنجم اذا هوى{ يشير الى ان سقوط النجوم علامة على انقطاع الاخبار الغيبية عن الجن والشياطين منعاً لورود شبهة على الوحي الإلهي. وفي الوقت نفسه فان القسم في } فلا اُقسم بمواقع النجوم ^ وانه لقَسَم لو تَعلَمُونَ عظيم{ (الواقعة:75ـ76) يذكّر بعظمة القدرة وكمال الحكمة في وضع النجوم في مواقعها بكمال الانتظام مع ضخامتها الهائلة، وتدوير السيارات الجسيمة بسرعة عظيمة.

ويذكّر القَسَم في } والذاريات{ وفي } والمرسلات{ بالحكم الجليلة التي في تموّجات الهواء وتصريف الرياح، اذ يقسم سبحانه بالملائكة المأمورين بوظيفة تصريف الرياح، فيلفت النظر الى ان الامور التي قد تظن انها تجري مصادفة تنفّذ حِكماً دقيقة وتؤدي وظائف جليلة.

وهكذا، فلكل موقع من مواقع القَسَم نكتته البليغة وفائدته. ولما كان الوقت لايسمح لنا بالتفصيل، فسنشير اشارة مجملة الى نكتة واحدة من النكات الكثيرة التي يتضمنها القَسَم في } والتين والزيتون{ وذلك:

ان الله سبحانه وتعالى يذكّر بالقسم بالتين والزيتون عظمة قدرته وكمال رحمته وعظيم نعمته، فيصرف وجه الانسان المتردّي الى اسفل سافلين ويحوّله عن ذلك التردي والهاوية، مشيراً اليه أنه بامكانه ان ينال مراتب معنوية رفيعة، بل يترقى الى أعلى عليين بالشكر والفكر والايمان والعمل الصالح.

اما تخصيص التين والزيتون بالقَسَم من بين النعم الاخرى، فهو:

ان هاتين الفاكهتين نافعتان مباركتان.. وان في خلقهما وما فيهما من نعم عظيمة يبعث على الملاحظة، لأن الزيتون يشكّل أساساً مهما في الحياة الاجتماعية والتجارية، وفي وسائل التنوير، وفي تغذية الانسان. كما ان في خلق التين ما يبين معجزة خارقة من معجزات القدرة الإلهية، كدرج أجهزة شجرة التين العظيمة وضمّها في بذيرة متناهية في الصغر. كما يذكّر بالقَسم به، بالنِعَم الإلهية في طعمه، وفي منافعه، وفي دوامه، خلاف أكثر الثمار. وفي الوقت نفسه يرشد الانسان ـ ازاء هذه النعم ـ الى ما يحول دون ترديه الى اسفل سافلين بالايمان والعمل الصالح.

C النكتة الثالثة:

ان الحروف المقطّعة الموجودة في أوائل السور، شفرات الهية، يعطي بها سبحانه بعض الاشارات الغيبية الى عبده الخاص، ومفتاح تلك الشفرة، لدى ذلك العبد الخاص، ولدى ورثته.

ولما كان القرآن الحكيم يخاطب جميع الطوائف البشرية في كل وقت وحين. فهو يتضمن من المعاني المتنوعة والوجوه الكثيرة الجامعة ما يكون حظ كل طائفة في كل عصر من العصور. وان أصفى المعاني والوجوه هي تلك التي بينها السلف الصالح بياناً واضحاً. وقد وجد الأولياء والمحققون اشارات معاملات غيبية في تلك المقطعات فيما يخص السير والسلوك الروحاني.

وقد بحثنا نبذة عن تلك المقطعات في تفسير ((اشارات الاعجاز)) في اوائل تفسير سورة البقرة. فليراجع.

C النكتة الرابعة:

لقد اثبتت (الكلمة الخامسة والعشرون)، انه لايمكن ترجمة القرآن الكريم ترجمة حقيقية، ولايمكن قطعاً ترجمة اسلوبه الرفيع في اعجازه المعنوي. وانه من الصعوبة جداً إفهام الذوق، وبيان الحقيقة النابعين من ذلك الاسلوب الرفيع في اعجازه المعنوي إلاّ اننا نشير للدلالة فحسب الى جهة او جهتين منه. وذلك: بقوله تعالى:

} ومن آياته خلق السّمواتِ والارضِ واختلافُ ألسنتكم وألوانِكم{ (الروم:22)

} والسّمواتُ مطوياتٌ بيمينهِ{ (الزمر: 67)

} يخلقكم في بطون أُمهاتكم خلقاً من بعدِ خلقٍ في ظلماتٍ ثلاث{ (الزمر:6)

} خلق السّموات والارض في ستة ايام{ (الاعراف:54)

} يحول بين المرءِ وقلبه{ (الانفال:24)

} لايعزبُ عنه مثقالُ ذرة{ (سبأ:3)

} يولجُ الليلَ في النهارِ ويولجُ النهارَ في الليلِ وهو عليمٌ بذاتِ الصدورِ{ (الحديد: 6)

هذه الآيات الكريمة وأمثالها تضع نصب الخيال تصورحقيقة الخلاّقية، في اسلوب رفيع معجز وفي جمع خارق بديع. اذ يبين:

ان صانع العالم وباني الكون مثلما يمكّن الشمس والقمر في مواقعهما، يمكّن الذرات ايضاً في مواضعها في بؤبؤ عين الأحياء مثلاً، فيمكّن كلاً منها في موضعها بالآلة نفسها، في اللحظة نفسها.. وانه مثلما ينظم السّماوات طباقاً ويفتحها أبواباً وينسقها تنسيقاً، ينظّم طبقات العين ويفتح أغطيتها بالميزان بالاداة نفسها والآلة المعنوية نفسها، في اللحظة نفسها.. وانه مثلما يسمّر النجوم في السماوات، ينقّش مالايحد من نقاط العلامات الفارقة في وجه الانسان ويشق فيه الحواس الظاهرة والباطنة، بآلة القدرة المعنوية نفسها.

بمعنى ان ذلك الصانع الجليل لأجل إراءة أفعاله ملء البصر والسمع واظهار مباشرته أفعاله؛ يطرق بكلمةٍ من آياته القرآنية طرقةً على الذرة فيثبتها في موضعها، ويطرق بكلمةٍ اخرى من الآية نفسها طرقةً على الشمس ويثبتها في مركزها، فيبيّن الوحدانية في عين الأحدية، ومنتهى الجلال في منتهى الجمال، ومنتهى العظمة في منتهى الخفاء، ومنتهى السعة في منتهى الدقة، ومنتهى الهيبة في منتهى الرحمة، ومنتهى البعد في منتهى القرب. أي يظهر أبعد مراتب جمع الأضداد ـ الذي يُعدّ محالاً ـ في صورة درجة الواجب، مثبتاً ذلك بأبلغ أسلوب وأرفعه.

وهذا الاسلوب المعجز هو الذي يُخضع رقاب فطاحل الادباء فيخرون لبلاغته سُجّداً.

ومثلاً ؛ قوله تعالى:

} ومن آياته ان تقومَ السّماءُ والارض بأمره ثم اذا دعاكم دعوةً من الارضِ اذا أنتم تخرجون{ (الروم:25).

تبيّن هذه الآية الكريمة عظمة ربوبيته سبحانه في اسلوب عالٍ رفيع. وذلك:

ان السماوات والارض بمثابة معسكرين في أتم طاعة وانقياد، وفي صورة ثكنة لجيشين عظيمين على أتم نظام وانتظام. وما فيهما من موجودات راقدة تحت غطاء الفناء وستار العدم تمتثل بسرعة تامة وطاعة كاملة أمراً واحداً او اشارة من نفخ في صور، لتخرج الى ميدان الحشر والامتحان.. فانظر كيف عبّرت الآية الكريمة عن الحشر والقيامة باسلوب معجز رفيع، وكيف أشارت الى دليل اقناعي في ثنايا المدّعى، مثلما تخرج البذور التي تسترت في جوف الارض كالميتة، والقطرات التي انتشرت مستترة في جو السماء وانتشرت في كرة الهواء، وتحشر بانتظام كامل وفي سرعة تامة، فتخرج الى ميـدان التـجـربة والامتحـان في كـل ربـيع، حتى تتـخذ الحبوب في الارض والقطـرات في السماء صورة الحـشر والنشور، كما هو مشاهد. وهكذا الامر في الحشر الاكبر وبالسهولة نفسها. واذ تُشاهد هذا هنا، فلا تقدرون على انكار الحشر.

وهكذا، فلكم ان تقيسوا على هذه الآية ما في الآيات الاخرى من درجة البلاغة.

فهل يمكن ـ ياترى ـ ترجمة أمثال هذه الآيات الكريمة ترجمة حقيقية؟. لاشك انها غير ممكنة.

فان كان ولابد، فإما أن تعطى معاني اجمالية مختصرة للآية الكريمة او يلزم تفسير كل جملة منها في حوالي ستة أسطر.

C النكتة الخامسة:

لنأخذ مثلاً، جملة قرآنية واحدة، وهي: ((الحمد للّه))، فان أقصر معنى من معانيها كما تقتضيه قواعد علم النحو والبيان، هو:

((كل فرد من افرادالحمد من اي حامد صدر وعلى اي محمود وقع من الازل الى الابد خاصٌ ومستحق للذات الواجب الوجود المسمى بالله))(1).

فقولنا:((كل فرد من افراد الحمد)) ناشئ من ((أل)) الاستغراق.

ومن ((اي حامدا كان)) فقد صدر من كون ((الحمد)) مصدراً، فيفيد العموم في مثل هذا المقام، لأن فاعله متروك.

((وعلى اي محمود وقع)) يفيد العموم والكلية، في مقام الخطاب، لترك المفعول.

أما ((من الازل الى الابد))، فيفيده الدوام والثبات، حسب قاعدة انتقال الجملة الفعلية الى جملة اسمية.



وان لام الجر في ((لله)) تفيد معنى ((خاصاً ومستحقاً)) لأن تلك اللام للاختصاص والاستحقاق.

اما ((للذات الواجب الوجود المسمى باللّه)) فان لفظ ((الله)) يدل دلالة التزامية على ((الواجب الوجود)) لأنه لفظ جامع لسائر الاسماء والصفات، وانه الاسم الاعظم، ولان ((واجب الوجود)) لازم ضروري للالوهية وهو عنوان لملاحظة الذات الجليلة.

فلئن كان أقصر المعاني الظاهرية لجملة ((الحمدلله)) على هذه الصورة، كما اتفق عليها علماء اللغة العربية، فكيف بترجمة القرآن الكريم الى لغة أخرى بنفس الاعجاز والقوة نفسها؟

ثم ان هناك لغة فصيحة واحدة فقط من بين ألسنة العالم ولغاته مما سوى اللغة العربية الفصحى، وهي لاتبلغ قطعاً جامعية اللغة العربية وشموليتها.

ان كلمات القرآن التي جاءت بتلك اللغة العربية الفصحى الجامعة الخارقة، وفي صورة معجزة، وصادرة من علم محيط بكل شئ يدير الجهات كلها كيف توفي حقهاكلمات ألسنة اخرى تركيبية وتصريفية في ترجمة مَن هو جزئي الذهن قاصر الشعور مشوش الفكر، مظلم القلب؟ أم كيف تملأ كلمات ترجمة محل تلك الكلمات المقدسة؟ حتى استطيع القول، واثبت ايضاً: ان كل حرف من حروف القرآن الكريم بمثابة خزينة من خزائن الحقائق، بل قد يحوي حرف واحد فقط من الحقائق ما يملأ صحيفة كاملة.

C النكتة السادسة:

لأجل تنوير هذا المعنى سأذكر لكم ما جرى عليَّ من حالة نورانية خاصة ومن خيال ذي حقيقة، توضيحاً لمعنى كلمة ((...نعبد)) وتبياناً لجانب خفي من سرَّها:

تأملت ذات يوم في ((ن)) المتكلم مع الغير في: } اياك نعبد وإيّاك نستعين{ وتحرّى قلبي وبحث عن سبب انتقال صيغة المتكلم الواحد الى صيغة الجمع (نعبد).. فبرزت فجأة فضيلة صلاة الجماعة وحكمتها من تلك ((النون))، اذ رأيت انه بسبب مشاركتي للجماعة في الصلاة التي أدَّيتها في جامع ((بايزيد)) يكون كل فرد منها بمثابة شفيع لي.

ورأيت ان كل فرد من أفراد تلك الجماعة شاهدٌ ومؤيدٌ لما أظهرته من أحكام وقضايا في قراءتي. فولّد ذلك عندي الشجاعة الكافية لكي أقدم عبادتي الناقصة، وأرفعها مضمومة مع العبادة الهائلة لتلك الجماعة الى الحضرة الإلهية المقدسة.

وبينما كنت أتأمل في هذا؛ اذا بستار آخر يُرفع، ورأيت أن جميع ((مساجد استانبول)) قد اتصلت وترابط بعضها ببعض؛ فأصبحت تلك المدينة كهذا الجامع، واستشعرت بشرف أدعيتهم جميعاً بل تصديقهم كذلك.

وهناك رأيت نفسي محشوراً في تلك الصفوف الدائرية على مسجد سطح الارض المتحلقة حلقات حول الكعبة المشرفة فحمدت الله كثيراً وقلت: ((الحمدلله رب العالمين)).. ان لي كل هذه الكثرة الكاثرة من الشفعاء، وممن يرددون معي، ويصدقونني في كل ما اقوله في الصلاة.

وقلت: ما دام الستار قد رفع هكذا خيالاً.. وأصبحت الكعبة المشرفة بحكم محراب لأهل الأرض، فلأغتنم اذن هذه الفرصة، ولأدع فيها خلاصة الايمان التي اذكرها في التشهد وهي، ((أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أن محمداً رسول الله)) وأسلمها أمانة عند الحجر الأسود. متخذاً الصفوف شهداء عليها.

وهنا انكشفت حالة اخرى، إذ رأيت:

ان الجماعة التي انضممت اليها قد أصبحت ثلاث جماعات ودوائر:

الأولى: هي الجماعة الكبرى المؤلفة من المؤمنين الموحدين على وجه الأرض قاطبة.

الثانية: هي جماعة الموجودات كافة حيث } كلٌ قد علم صلاته وتسبيحه{ فرأيت نفسي مع صلاتها الكبرى وفي تسبيحاتها العظمى.. وأن ما يسمَّى وظائف الاشياء واعمالها، إن هو إلاّ عناوين عباداتها وعبوديتها..

فطأطأت رأسي حائراً أمام هذه العظمة قائلاً: ((الله اكبر)) وتأملت في نفسي وفي الدائرة:

الثالثة: ورأيت عالماً يبدأ من ذرات وجودي، وينتهي الى حواسي الظاهرة؛ فهو عالم صغير وصغير.. إلاّ أنه عظيم جداً يدعو الى الحيرة والاعجاب. وهو عالم ظاهره متناهٍ في الصغر إلاّ أن حقيقته عظيمة، ووظائفه جليلة.

نعم، رأيت أن كل جماعة من جماعات هذا العالم منهمكة بوظائف عبوديتها وواجبات شكرها. ورأيت أن اللطيفة الربانية التي هي في تلك الدائرة في قلبي تردد: } ايّاك نعبد وإيّاك نستعين{ باسم هذه الجماعة، مثلما ردّدها لساني بنية الجماعتين العظيمتين الأوليين.

والخلاصة: أن (نون) "نعبد" تشير الى هذه الجماعات الثلاث وتدل عليها.

وبينما أنا في هذه الحالة؛ إذا بالشخصية المعنوية المباركة لمبلّغ القرآن الكريم قد تمثلت أمامي بعظمته ووقاره.. وهو صلى الله عليه وسلم على منبره المعنوي (المدينة المنوّرة). وأسمع منه - كما سمع غيري - خطاباً إلهياً موجهاً..

} يا أيُّها الناس اعبدوا ربكم..{ (البقرة: 21) فرأيت خيالاً أن كل مَن في تلك الجماعات الثلاث يتجاوب مثلي مع ذلك الخطاب الرباني العظيم قائلاً: } إيّاك نعبد{ .

وهناك تمثلت حقيقة أخرى أمام الفكر، حسب قاعدة: ((إذا ثبت الشئ ثبت بلوازمه)) وهي:

ما دام رب العالمين قد اتخذ الانسان مخاطباً له، فيتكلم مع جميع الموجودات، وان هذا الرسول الكريم e قد قام بتبليغ ذلك الخطاب الرباني الجليل الى جميع البشر بل الى جميع ذوي الشعور، والى جميع ذوي الارواح، فلابد ان الماضي والمستقبل معاً قد اصبحا بحكم الزمن الحاضر، وغدت البشرية كافة مجلساً واحداً وجماعة واحدة في صفوف مختلفة متنوعة، حيث الخطاب موجه اليهم جميعاً.

هناك بدا لي أن كل آية من آيات القرآن الكريم في قمة البلاغة ومنتهى الجزالة، وفي غاية الاعجاز الذي يشع نوره الساطع، حيث أن الآية تكسب علوّها وسموّها وقوتها لصدورها: من ذلك المقام السامي الرفيع الذي لا نهاية لعظمته، ولا غاية لسعته ولا منتهى لسموه، من ذي الجلال والعظمة المطلقة، من المتكلم الازلي جل جلاله..

ومن مبلّغها الذي هو في مقام المحبوبية العظمى صاحب المنزلة الرفيعة والدرجة العالية. ومن توجهها الى المخاطبين الذين هم في منتهى الكثرة والأهمية والتباين.

لذا، تحقق عندي؛ انه ليس القرآن كله معجزة، بل كل سورة من سوره معجزة، وكل آية من آياته معجزة بل حتى كل كلمة فيه بحكم معجزة.

لذا قلت ((الحمدلله على نعمة الايمان والقرآن)).

وبهذا خرجت من ذلك الخيال الذي هو عين الحقيقة، كما دخلت فيه من (ن) نعبد، وفهمت أنه: ليست آيات القرآن ولا كلماتها معجزة وحدها، وانما كذلك حروف القرآن - كما في (ن) نعبد - هي مفاتيح نورانية لحقائق عظمى.

وبعدما خرج القلب والخيال من (ن) نعبد قابلهما العقل قائلاً:

- انني أطالب بحظي ونصيبي مما انتم فيه، فلا اتمكن من التحليق مثلكم، ولا استطيع السير الا باقدام الادلة والحجج.. اروني ما في (نعبد) و (نستعين) من الطريق الموصل الى (المعبود الحقيقي) و (المستعان الحقيقي) حتى أتمكن من مرافقتكم.

وعندها خطر للقلب أن:

- قل لذلك العقل الحائر أن يتأمل في جميع موجودات العالم سواءً منها الحي وغير الحي. فلكلٍ منها عبودية على شكل وظيفة من الوظائف على وفق نظام دقيق، وضمن اطاعة تامة.

ومع أن قسماً من تلك الموجودات دون شعور واحساس؛ فانه ينجز اعماله ووظائفه في غاية العبودية والنظام والشعور.

اذن لابدّ أن معبوداً حقيقياً وآمراً مطلقاً، يسخّر هذه الموجودات ويسوقها الى العبودية.

وقل له ليتأمل كذلك في جميع الموجودات ولاسيما الاحياء منها، فلكل منها حاجات كثيرة متنوعة، ولكلٍ منها مطاليب عدة ومختلفة لأدامة حياتها وبقاء نوعها. وبينما لا تصل أيديها الى أبسط تلك الحاجات والمطاليب، وليست هي في طوقها.. إذا بنا نشاهد أن تلك المطاليب التي لا تحد، تأتيها رغداً من كل مكان، بل تأتيها في أفضل وقت وأنسبه. فهذا الافتقار والحاجة غير المتناهيتين للموجودات، وهذه الإعانات الغيبية والإمدادات الرحمانية تدل بداهة على أن لها رزاقاً يحميها.

وهو غني مطلق.. كريم مطلق.. قدير مطلق.. بحيث يستعين به كل شئ، وكل حيّ، طالباً منه العون والمدد.

أي أن كل شئ في الوجود يقول ضمناً ومعنىً:

} وإيّاك نستعين{ وهناك استسلم العقل وقال: آمنا وصدّقنا.

C النكتة السابعة:

وبعد ذلك وانا اتلو: } اهدنا الصراط المستقيم ^ صراط الذين انعمت عليهم{ ، نظرت الى قوافل البشرية الراحلة الى الماضي، فرأيت ان ركب الأنبياء المكرمين والصديقين والشهداء والأولياء والصالحين أنور تلك القوافل واسطعها، حتى ان نوره يبدد ظلمات المستقبل؛ اذ انهم ماضون في جادة مستقيمة كبرى تمتد الى الابد.. وان هذه الجملة تبصّرني طريق اللحاق بذلك الركب الميمون، بل تلحقني به..

فقلت: ياسبحان الله، ما أفدح خسارة، وما أعظم هلاكَ مَن ترك الالتحاق بهذه القافلة النورانية العظمى، والتي مضت بسلام وأمان وازالت حجب الظلمات، ونورت المستقبل.. ان من يملك ذرة من شعور لابد ان يدرك هذا.

وان من ينحرف عن طريق تلك القافلة العظمى بإحداث البدع، اين سيلتمس النور ليستضئ، والى اين سيسلك؟.

فلقد قال قدوتنا الرسول الاكرم e (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار)(1).

فالذين استحقوا ان يطلق عليهم اسم ((علماء السوء)) اولئك الشقاة، أية مصلحة يجدونها ازاء هذا الحديث في فتوى يفتونها، يعارضون بها بديهيات الشعائر الاسلامية، بما فيه ضرر ومن غير ضرورة، ويرون ان تلك الشعائر قابلة للتبديل! فان كان ثمة شئ، فلربما انتباهٌ موقتٌ ناشئٌ من سطوع المعنى المؤقت هو الذي خدعهم.

مثلاً: لو سلخ جلد حيوان، او نزع غلاف ثمرة، فان ظرافة مؤقتة تبدو من اللحم والثمرة، ولكن بعد مدة قليلة يسوّد ذلك اللحم الظريف، والثمرة اللطيفة، وذلك بتأثير ما يغلفهما من غلاف عرضي غريب كثيف ملوث، فيتعفنان..

كذلك التعابير الإلهية والنبوية التي هي في الشعائر الاسلامية، فهي بمثابة جلد حي مثاب عليه. ولدى انتزاعه يظهر شئ من نور المعاني موقتاً، وتطير أرواح تلك المعاني المباركة ـ بمثل ذهاب لطافة الثمرة المنزوع عنها الغلاف - تاركة الفاظها البشرية في القلوب والعقول المظلمة. ثم تغادر، ويذهب النور ولايبقى غير الدخان.. وعلى كل حال ..

C النكتة الثامنة:

ينبغي بيان دستور من دساتير الحقيقة الذي يخصّ هذا الامر. وذلك:

ان في الشريعة الاسلامية نوعين من الحقوق ((حقوق شخصية)) و ((حقوق عامة)) والتي هي من نوع ((حقوق الله)). وان من المسائل الشرعية ما يتعلق بالاشخاص ومنها ما يتعلق بالناس عامة، اي يتعلق بهم من حيث العموم، فيطلق على هذا القسم اسم ((الشعائر الاسلامية)) فالناس كلهم لهم حصة من هذا القسم، حيث يتعلق بالعموم، وان اي تدخل في هذا القسم من الشعائر واي مسّ بها، يعتبر تعدياً لحقوق اولئك الناس عامة، ان لم يكونوا راضين عنه. وان أصغر مسألة من تلك الشعائر (ولتكن من قبيل السنة) على جانب عظيم من الاهمية، كأية مسألة جليلة، لأنها تتعلق مباشرة بالعالم الاسلامي كافة.

ألا فليدرك اولئك الذين يسعون لقطع تلك السلاسل النورانية التي ارتبط بها جميع أعاظم الاسلام منذ خير القرون الى يومنا هذا، ويعاونون على تحريفها وهدمها. فلينظروا أيّ خطأ عظيم يرتكبون. وليرتعدوا إن كانت لهم ذرة من شعور!.

C النكتة التاسعة:

يطلق على قسم من المسائل الشرعية اسم ((المسائل التعبدية)) هذا القسم لايرتبط بمحاكمات عقلية، ويُفعل كما اُمر، اذ ان علّته هو الامر الإلهي.

ويعبّر عن القسم الآخر بـ((معقول المعنى)) أي ان له حكمة ومصلحة، صارت مرجّحة لتشريع ذلك الحكم. ولكن ليست سبباً ولاعلة. لأن العلّة الحقيقية هي الأمر والنهي الإلهي.

فالقسم التعبدي من الشعائر لاتغيّره الحكمة والمصلحة قطعاً، لأن جهة التعبّد فيه هي التي تترجح، لذا لايمكن ان يُتدخل فيه او يمس بشئ، حتى لو وجدت مائة ألف مصلحة وحكمة، فلا يمكن ان تغيّر منها شئ. وكذلك لايمكن ان يقال: إن فوائد الشعائر؛ هي المصالح المعلومة وحدها. فهذا مفهوم خطأ، بل ان تلك المصالح المعلومة، ربما هي فائدة واحدة من بين حكمها الكثيرة.

فمثلاً: لو قال أحدهم: ان الحكمة من الأذان هي دعوة المسلمين الى الصلاة، فاذاً يكفي ـ بهذه الحالة ـ اطلاق طلقة من بندقية! ولايعرف ذلك الأبله ان دعوة المسلمين هي مصلحة واحدة من بين ألوف المصالح في الأذان. حتى لو اعطى ذلك الصوت تلك المصلحة فانه لايسدّ مسدّ الأذان الذي هو وسيلة لاعلان التوحيد الذي هو النتيجة العظمى لخلق العالم، وخلق نوع البشر. وواسطة لاظهار العبودية ازاء الربوبية الإلهية باسم الناس في تلك البلدة او باسم البشرية قاطبة.

حاصل الكلام: ان جهنم ليست زائدة عن الحاجة، فان كثيراً من الأمور تدعو بكل قوة: لتعش جهنم. وكذا الجنة ليست رخيصة بل تطلب ثمناً غالياً.





} لايستوي أصحاب النارِ وأصحابُ الجَنّة أصحابُ الجَنّة همُ الفائزون{

(الحشر:20)

القسم الثاني

وهو الرسالة الثانية

رسالة رمـضان

لقد بحث نبذة مختصرة عن الشعائر الاسلامية في ختام القسم الاول، لذا سيذكر في هذا القسم الثاني عدد من الحكم التي تخص صيام شهر رمضان المبارك والذي هو اسطع الشعائر واجلّها.

هذا البحث عبارة عن تسع نكات دقيقة ومسائل لطيفة تبين تسعاً من الحكم الكثيرة لصيام شهر رمضان المبارك

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} شهْرُ رَمـضَانَ الَّذى اُنْزِلَ فيهِ القرآن هُدىً للِنَّاسِ وَبَيّنَاتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقَانِ{

(البقرة: 185)

C النكتة الاولى: أن صيام شهر رمضان يأتي بين أوائل الاركان الخمسة للاسلام، ويُعدّ من أعاظم الشعائر الاسلامية.

ان أكثر الحكم المتمخضة عن صوم رمضان تتوجّه الى إظهار ربوبية الحق تبارك وتعالى، كما تتوجّه الى حياة الانسان الاجتماعية والى حياته الشخصية، وتتوجه أيضاً الى تربية النفس وتزكيتها، والى القيام بالشكر تجاه النِعَم الإلهية.

نذكر حكمةً واحدة من بين الحِكم الكثيرة جداً من حيث تجلي ربوبية الحق تبارك وتعالى من خلال الصوم وهي:

ان الله سبحانه وتعالى قد خلق وجهَ الأرض مائدةً ممتدة عامرة بالنِعم التي لا يحصرها العد، وأعدها اعداداً بديعاً من حيث لا يحتسبه الانسان. فهو سبحانه يبيّن بهذا الوضع، كمالَ ربوبيته ورحمانيتَه ورحيميته. بيد أن الانسان لا يبصر تماماً - تحت حجاب الغفلة وضمن ستائر الاسباب - الحقيقة الباهرةَ التي يفيدها ويعبّر عنها هذا الوضع، وقد ينساها.. أما في رمضان المبارك فالمؤمنون يصبحون فوراً في حكم جيش منظــّم، يتقلدون جميعاً وشاح العبودية لله، ويكونون في وضعٍ متأهب قُبيل الافطار لتلبية أمر القادر الازلي: ))تفضّلوا(( الى مائدة ضيافته الكريمة.. فيقابلون - بوضعهم هذا - تلك الرحمة الجليلة الكلّية بعبودية واسعة منظمة عظيمة.. تُرى هل يستحق اولئك الذين لم يشتركوا في مثل هذه العبودية السامية، وفي مثل هذه الكرامة الرفيعة أن يُطلق عليهم اسم الانسان؟

C النكتة الثانية: ان هـناك حكماً عدة يتوجه بها صيامُ رمضان المـبارك بالشكـر على النعَم التي أسبغها الباري علينا، احداها:

أن الأطعمة التي يأتي بها خادمٌ من مطبخ سلطانٍ لها ثمنُها - كما ذُكر في الكلمة الاولى - ويُعدّ من البلاهة توهّم الاطعمة النفيسة تافهةً غير ذات قيمة، وعدمُ معرفة مُنعمها الحقيقي، في الوقت الذي تُمنح الخادم هبات وعطايا لأجلها. وكذلك الاطعمة والنعم غير المعدودة التي بثّها الله سبحانه في وجه الارض فانه يطلب منّا حتماً ثمنَها، ألا وهو القيام بالشكر له تجاه تلك النِعم. والاسباب الظاهرية التي تُحمل عليها تلك النعم وأصحابها الظاهرون هم بمثابة خَدَمة لها، فنحن ندفع الخدام ما يستحقونه من الثمن ونظل تحت فضلهم ومنتهم بل نبدي لهم من التوقير والشكر اكثر مما يستحقونه والحال أن المنعم الحقيقي سبحانه يستحق - ببثّه تلك النِعَم - أن نقّدم له غاية الشكر والحمد، ومنتهى الامتنان والرضا، وهو الأهلُ لكل ذلك، بل أكثر. اذن فتقديم الشكرلله سبحانه واظهار الرضا ازاء تلك النعم انما يكون بمعرفة صدور تلك النعم والآلاء منه مباشرة.. وبتقدير قيمتها.. وبشعور الحاجة اليها.

لذا فان صيام رمضان المبارك لهو مفتاح شكر حقيقي خالص، وحمدٍ عظيم عام لله سبحانه. وذلك لأن أغلب الناس لا يدركون قيمة نِعَمٍ كثيرة - غير مضطرين إليها في سائر الاوقات - لعدم تعرّضهم لقساوة الجوع الحقيقي وأوضاره. فلا يُدرِك - مثلاًِ ـ درجةَ النعمة الكامنة في كسرة خبز يابس أولئك المتخمون بالشبع، وبخاصة إن كانوا أثرياء منعّمين، بينما يدركها المؤمن عند الافطار أنها نعمة إلهية ثمينة، وتشهد على ذلك قوته الذائقة. لذا ينال الصائمون في رمضان - ابتداءاً من السلطان وانتهاء بأفقر فقير - شكراً معنوياً لله تعالى منبعثاً من ادراكهم قيمةَ تلك النعم العظيمة. أما امتناع الانسان عن تناول الاطعمة نهاراً فانه يجعله يتوصل الى ان يدرك بأنها نعمةٌ حقاً، اذ يخاطب نفسه قائلاً:

((ان هذه النِعم ليست مُلكاً لي، فأنا لست حراً في تناولها، فهي اذن تعود الى واحد آخر، وهي أصلاً من إنعامه وكَرَمه علينا، وانا الآن في انتظار أمره)).. وبهذا يكون قد أدى شكراً معنوياً حيال تلك النعم.

وبهذه الصورة يصبح الصوم في حكم مفتاح للشكر من جهات شتى، ذلك الشكر الذي هو الوظيفة الحقيقية للانسان.

C النكتة الثالثة: أن حكمة واحدة للصوم من بين حكمه الغزيرة المتوجهة الى الحياة الاجتماعية للانسان هي:

أن الناس قد خُلقوا على صور متباينة من حيث المعيشة، وعليه يدعو الله سبحانه الاغنياءَ لمدّ يد المعاونة لإخوانهم الفقراء. ولا جرم أن الاغنياء لا يستطيعون أن يستشعروا شعوراً كاملاً حالات الفقر الباعثة على الرأفة، ولا يمكنهم أن يحسوا احساساً تاماً بجوعهم، الا من خلال الجوع المتولد من الصوم..فلولا الصوم لما تمكن كثير من الأغنياء التابعين لاهوائهم أن يدركوا مدى ألم الجوع والفقر ومدى حاجة الفقراء الى الرأفة والرحمة. لذا تصبح الشفقة على بني الجنس - المغروزة في كيان الانسان - هي احدى الاسس الباعثة على الشكر الحقيقي، حيث يمكن أن يجد كل فرد أياً كان مَنْ هو أفقرَ منه من جهة، فهو مكلّف بالاشفاق عليه.

فلو لم يكن هناك اضطرار لإذاقة النفس مرارةَ الجوع، لما قام أحد اصلاً باسداء الاحسان الى الآخرين والذي يتطلبه التعاون المكلّف به برابطة الشفقة على بني الجنس، وحتى لو قام به لما أتقنه على الوجه الأكمل، ذلك لأنه لا يشعر بتلك الحالة في نفسه شعوراً حقيقياً.

C النكتة الرابعة: ان صوم رمضان يحوي من جهة تربية النفس البشرية حكماً عدة، احداها هي:

أن النفس بطبيعتها ترغب الانفلات من عقالها حرة طليقة، وتتلقى ذاتها هكذا. حتى أنها تطلب لنفسها ربوبية موهومة، وحركة طليقة كيفما تشاء، فهي لا تريد أن تفكر في كونها تنمو وتترعرع وتُربى بِنعمٍ إلهية لا حد لها، وبخاصة اذا كانت صاحبة ثروة واقتدار في الدنيا، والغفلة تساندها وتعاونها. لذا تزدرد النعم الإلهية كالانعام دون إذن ورخصة.

ولكن تبدأ نفسُ كل شخص بالتفطن في ذاتها في رمضان المبارك، ابتداء من أغنى غني الى أفقر فقير، فتدرك بأنها ليست مالكة، بل هي مملوكة، وليست حرة طليقة، بل هي عبدة مأمورة، فلا تستطيع أن تمدّ يدَها الى أدنـى عمل من غير أمر، بل حتى لا تستطيع أن تمدها الى ماء.. وبهذا ينكسر غرور ربوبيتها الموهومة، فتتقلد ربقة العبودية لله تعالى، وتدخل ضمن وظيفتها الاساس وهي ((الشكر)).

C النكتة الخامسة: ان لصوم رمـضان حكماً كثيرة من حيـث توجـهه الى تهـذيب النفس الامارة بالسوء، وتقويم أخلاقها وجعلها تتخلى عن تصرفاتها العشوائية. نذكر منها حكمة واحدة:

أن النفس الانسانية تنسى ذاتها بالغفلة، ولا ترى ما في ماهيتها من عجز غيرمحدود، ومن فقر لا يتناهى، ومن تقصيرات بالغة، بل لا تريد أن ترى هذه الامورالكامنة في ماهيتها، فلا تفكر في غاية ضعفها ومدى تعرضها للزوال ومدى استهداف المصائب لها، كما تنسى كونها من لحم وعظم يتحللان ويفسدان بسرعة، فتتصرف واهمة كأن وجودها من فولاذ وأنها منزّهة عن الموت والزوال، وأنها خالدة أبدية، فتراها تنقضّ على الدنيا وترمي نفسها في أحضانها حاملة حرصاً شديداً وطمعاً هائلاً وترتبط بعلاقة حميمة ومحبة عارمة معها، وتشد قبضتها على كل ما هو لذيذ ومفيد، ومن ثم تنسى خالقها الذي يربيّها بكمال الشفقة والرأفة فتهوي في هاوية الاخلاق الردئية ناسية عاقبة أمرها وعقبى حياتها وحياة اُخراها.

ولكن صوم رمضان يُشعر أشد الناس غفلة وأعتاهم تمرداً بضعفهم وعجزهم وفقرهم، فبوساطة الجوع يفكر كلُّ منهم في نفسه وفي معدته الخاوية ويدرك الحاجة التي في معدته فيتذكر مدى ضعفه، ومدى حاجته الى الرحمة الإلهية ورأفتها، فيشعر في أعماقه توقاً الى طرق بابِ المغفرة الربانية بعجز كامل وفقر ظاهرمتخلياً عن فرعنة النفس متهيئاً بذلك لطرقِ باب الرحمة الإلهية بيد الشكر المعنوي (ان لم تفسد الغفلة بصيرته).

C النكتة السادسة: ان من الحكم الوفيرة في صيام رمضان المبارك من حيث توجهه الى نزول القرآن الكريم ومن حيث أن شهر رمضان هو أهم زمان لنزوله، نورد حكمة واحدة فقط هي:

لما كان القرآن الكريم قد نزل في شهر رمضان المبارك فلابد من التجرد عن الحاجيات الدنيئة للنفس، ونبذ سفساف الامور وترهاتها استعداداً للقيام باستقبال ذلك الخطاب السماوي استقبالاً طيباً يليق به، وذلك باستحضار وقت نزوله في هذا الشهر والتشبه بحالات روحانية ملائكية؛ بترك الاكل والشرب، والقيام بتلاوة ذلك القرآن الكريم تلاوةً كأن الآيات تتنزل مجدداً ، والاصغاء اليه بهذا الشعور بخشوع كامل، والاستماع الى ما فيه من الخطاب الإلهي للسمو الى نيل مقام رفيع وحالة روحية سامية، كأن القارئ يسمعه من ا لرسول الاكرم e ، بل شد السمع اليه كأنه يسمعه من جبريل عليه السلام، بل من المتكلم الازلي سبحانه وتعالى، ثم القيام بتبليغ القرآن الكريم وتلاوته للآخرين تبياناً لحكمة من حكم نزوله.

ان العالم الاسلامي في رمضان المبارك يتحول الى ما يشبه المسجد، ويا له من مسجد عظيم تعج كل زاوية من زواياه، بل كل ركن من أركانه، بملايين الحفَّاظ للقرآن الكريم. يرتلون ذلك الخطاب السماوي على مسامع الارضيين، ويظهرون بصورة رائعة براقة مصداق الآية الكريمة: شَهْرُ رَمضَانَ الَّذى اُنْزِلَ فيهِ الْقرآن.. مثبتين بذلك أن شهر رمضان هو حقاً شهر القرآن. أما الافراد الآخرون من تلك الجماعة العظمى فمنهم من يلقي السمع اليهم بكل خشوع وهيبة، ومنهم من يرتل تلك الآيات الكريمة لنفسه..

ألا ما أقبح وما أزرى الانسلاخ من هذا المسجد المقدس الذي له هذا الوضع المهيب، لهاثاً وراء الاكل والشرب تبعاً لهوى النفس الامارة بالسوء! وكم يكون ذلك الشخص هدفاً لاشمئزاز معنوي من قبل جماعة المسجد؟ وهكذا الامر في الذين يخالفون الصائمين في رمضان المبارك فيصبحون هدفاً لازدراء واهانةٍ معنويين - بتلك الدرجة - من قبل العالم الاسلامي كله.

C النكتة السابعة: ان صيام رمضان من حيث تطلعه لكسب الانسان - الذي جاء الى الدنيا لأجل مزاولة الزراعة الاُخروية وتجارتها - له حكم شتى. الا اننا نذكر واحدة منها هي:

ان ثواب الاعمال في رمضان المبارك يضاعَف الواحدُ الى الالف. ومن المعلوم أن كل حرف من القرآن الحكيم له عشر أثوبة، ويعدّ عشر حسنات، ويجلب عشرثمار من ثمرات الجنة - كما جاء في الحديث الشريف - ففي رمضان يولّد كل حرف ألفاً من تلك الثمرات الأخروية بدلاً من عشرٍ منها، وكل حرف من حروف آيات - كآية الكرسي - يفتح الباب أمام الالوف من تلك الحسنات لتتدلى في الآخرة ثماراً حقيقية. وتزداد تلك الحسنات باطراد أيام الجُمع في رمضان، وتبلغ الثلاثين ألفاً من الحسنات ليلة القدر.

نعم، ان القرآن الكريم الذي يهب كل حرف منه ثلاثين ألفاً من الثمرات الباقية يكون بمثابة شجرة نورانية - كشجرة طوبى الجنة - بحيث يُغنِم المؤمنين في رمضان المبارك تلك الثمرات الدائمة الباقية التي تعد بالملايين.. تأمل هذه التجارة المقدسة الخالدة المُربِحة وأجل النظر فيها، ثم تدبر في أمر الذين لا يقدّرون قيمة هذه الحروف المقدسة حق قدرها، ما أعظم خسارتهم وما أفدحها؟

وهكذا، فان شهر رمضان المبارك أشبه ما يكون بمعرض رائع للتجارة الاُخروية او هو سوق في غاية الحركة و الربح لتلك التجارة وهو كالارض المنبتة في غاية الخصوبة والغَناء لإنتاج المحاصيل الاُخروية.. وهو كالغيث النازل في نيسان لإنماء الاعمال وبركاتها.. وهو بمثابة مهرجان عظيم وعيد بهيج مقدّس لعرض مراسيم العبودية البشرية تجاه عظمة الربوبية وعزة الالوهية.

لأجل كل ذلك فقد أصبح الانسان مكلَّفاً بالصوم، لئلا يلج في الحاجات الحيوانية، كالأكل والشرب من حاجات النفس بالغفلة، ولكي يتجنب الانغماس في شهوات الهوى وما لا يعنيه من الامور.. وكأنه أصبح بصومه مرآة تعكس "الصمدانية" حيث قد خرج مؤقتاً من الحيوانية ودخل الى وضع مشابهٍ للملائكية، أو أصبح شخصاً اُخروياً وروحاً ظاهرة بالجسد، بدخوله في تجارة اُخروية وتخلّيه عن الحاجات الدنيوية المؤقتة.

نعم، ان رمضان المبارك يكسب الصائم في هذه الدنيا الفانية وفي هذا العمر الزائل وفي هذه الحياة القصيرة عمراً باقياً وحياة سرمدية مديدة، ويتضمن كلها. فيمكن لشهر رمضان واحد فقط أن يمنح الصائم ثمرات عمر يناهز الثمانين سنة. وكون ليلة القدر خيراً من ألف شهر - بنص القرآن الكريم - حجة قاطعة لهذا السر.

فكما يحدد سلطان أياماً معينة في فترة حكمه، أو في كل سنة، سواء باسم تسنمه عرش الحكم أو أي يوم آخر من الايام الزاهرة لدولته، جاعلاً من تلك الايام مناسبات وأعياداً لرعيته، فتراه لا يعامل رعيته الصادقين المستحقين في تلك الايام بالقوانين المعتادة، بل يجعلهم مظهراً لأحسانه وانعامه وأفضاله الخاصة. فيدعوهم الى ديوانه مباشرة دون حجب، ويخصّهم برعايته الخاصة ويحيطهم بكرمه وباجراءاته الاستثنائية، ويجود عليهم بتوجهاته الكريمة.. كذلك القادر الازلي ذو الجلال والاكرام وهو سلطان الازل والابد وهو السلطان الجليل لثمانية عشرألف عالم من العوالم، قد أنزل سبحانه في شهر رمضان أوامره الحكيمة السامية وقرآنه الحكيم المتوجه الى تلك الالوف من العوالم، لذا فان دخول ذلك الشهر المبارك في حكم عيد ومناسبة إلهية خاصة بهيجة، وفي حكم معرض بديع رباني، ومجلس مهيب روحاني، هو من مقتضى الحكمة. فما دام شهر رمضان قد تمثل بتلك المناسبة البهيجة وذلك العيد المفرح فلابد أن يؤمَر فيه بالصوم، ليسمو الناس - الى حدٍ ما - على المشاغل الحيوانية السافلة. فالكمال في ذلك الصوم هو جعل جميع حواس الانسان كالعين والاذن والقلب والخيال والفكر على نوع من الصوم، كما تقوم به المعدة. أي تجنيب الحواس تلك من المحرمات والسفاهات وما لا يعنيها من أمور، وسوقها الى عبودية خاصة لكل منها.

فمثلاً: يروّض الانسان لسانه على الصوم من الكذب والغيبة والعبارات النابية ويمنعه عنها، ويرطب ذلك اللسان بتلاوة القرآن الكريم وذكر الله سبحانه والتسبيح بحمده والصلوات والسلام على الرسول الكريم e والاستغفار، وما شابهه من أنواع الاذكار.

ومثلاً: يغض بصره عن المحرمات، ويسد أذنه عن الكلام البذئ، ويدفع عينه الى النظر بعبرةٍ واُذنَه الى سماع الكلام الحق والقرآن الكريم. ويجعل سائر حواسه على نوع من الصيام.

ومن المعلوم أن المعدة التي هي مصنع كبير جداً إن عطّلت أعمالَها بالصيام فان تعطيل المعامل الصغيرة الاخرى يكون سهلاً ميسوراً.

C النكتة الثامنة: ان حكمة من الحكم الكثيرة لصيام رمضان المبارك المتعلقة بالحياة الشخصية للانسان تتلخص بما يأتي:

ان في الصوم نوعاً من أنواع العلاج الناجع للانسان وهو ((الحِمية)) سواء المادية منها أو المعنوية، فالحِمية ثابتة طباً. إذ إن الانسان كلما سلكت نفسُه سلوكاً طليقاً في الأكل والشرب سبّب له أضراراً مادية في حياته الشخصية. وكذلك الحال في حياته المعنوية، اذ إنه كلما إلتهم ما يصادفه دون النظر الى ما يحل له ويحرم عليه تسممت حياته المعنوية وفسدت، حتى يصل به الامر ان تستعصي نفسُه على طاعة القلب والروح فلا تخضع لهما. فتأخذ زمامَها بيدها وهي طائشة حرة طليقة، وتسوق الانسانَ الى شهواتها دون أن تكون تحت سيطرة الانسان وتسخيره.

أما في رمضان المبارك فان النفس تعتاد على نوع من الحِمية بوساطة الصوم وتسعى بجد في سبيل التزكية والترويض وتتعلم طاعة الاوامر، فلا تصاب بأمراض ناشئة من امتلاء المعدة المسكينة وادخال الطعام على الطعام. وتكسب قابلية الاصغاء الى الاوامر الواردة من العقل والشريعة. وتتحاشى الوقوع في الحرام بما أخذت من أمر التخلي عن الحلال. وتجدّ في عدم الاخلال بالحياة المعنوية وتكدير صفوها.

ثم أن الاكثرية المطلقة من البشرية يُبتلَون بالجوع في أغلب الاحيان. فهم بحاجة الى ترويض، وذلك بالجوع الذي يعوّد الانسان على الصبر والتحمل. وصيام رمضان هو ترويض وتعويد وصبر على الجوع يدوم خمس عشرة ساعة أو أربعاً وعشرين ساعة لمن فاته السحور. فالصوم اذن علاج ناجع لهلع الانسان وقلة صبره، وعدم تحمله الامور اللذين يضاعفان من مصيبة الانسان وبلاياه.

والمعدة كذلك هي نفسها بمثابة معمل لها عمال وخَدَمَة كثيرون، وهناك في الانسان أجهزة ذات علاقات وارتباطات معها، فان لم تعطَّل النفسُ مشاغلَها وقت النهار مؤقتاً لشهر معين ولم تدعها، فانها تُنسي أولئك العمال والخَدَمَة عباداتهم الخاصة بهم، وتُلهيهم جميعاً بذاتها، وتجعلهم تحت سيطرتها وتحكمها، فتشوش الامر على تلك الاجهزة والحواس وتنغّص عليها بضجيج دواليب ذلك المصنع المعنوي وبدخانه الكثيف، فتصرف أنظار الجميع اليها وتنسيهم وظائفهم السامية مؤقتاً. ومن هنا كان كثير من الاولياء الصالحين يعكفون على ترويض أنفسهم على قليل من الاكل والشرب، ليرقوا في سلّم الكمال.

ولكن بحلول شهر رمضان يدرك أولئك العمال أنهم لم يُخلقوا لأجل ذلك المصنع وحده، بل تتلذذ ايضاً تلك الاجهزة والحواس بلذائذ سامية وتتمتع تمتعاً ملائكياً وروحانياً في رمضان المبارك ويركزون أنظارهم اليها بدلاً من اللهو الهابط لذلك المصنع. لذلك ترى المؤمنين في رمضان المبارك ينالون مختلف الانوار والفيوضات والمسرات المعنوية - كلٌ حسب درجته ومنزلته - فهناك ترقيات كثيرة وفيوضات جمة للقلب والروح والعقل والسر وأمثالها من اللطائف الانسانية في ذلك الشهر المبارك. وعلى الرغم من بكاء المعدة ونحيبها فان تلك اللطائف يضحكن ببراءة ولطف.

C النكتة التاسعة: ان صوم رمضان من حـيث كسرهِ الربوبية المـوهومة للنـفس كسـراً مباشراً ومن ثم تعريفها عبوديتها واظهار عجزها أمامها، فيه حكم كثيرة، منها:

أن النفس لا تريد أن تعرف ربها، بل تريد أن تدعي الربوبية بفرعونية طاغية. فمهما عُذبَت وقُهرت فان عِرق تلك الربوبية الموهومة يظل باقياً فيها. فلا يتحطم ذلك العرق ولا يركع الا أمام سلطان الجوع.

وهكذا، فصيام رمضان المبارك ينزل ضربة قاضية مباشرة على الناحية الفرعونية للنفس. فيكسر شوكتها مُظهراً لها عجزها، وضعفها، وفقرها، ويعرّفها عبوديتها.

وقد جاء في احدى روايات الحديث: ان الله سبحانه قال للنفس: ((مَن أنا وما أنتِ؟)) أجابت النفس: ((أنا أنا، أنت أنت)) فعذّبها الربُ سبحانه وألقاها في جهنم، ثم سألها مرة أخرى فأجابت: ((أنا أنا، أنت أنت)) ومهما أذاقها من صنوف العذاب لم تردع عن أنانيتها.. ثم عذبها الله تعالى بالجوع، أي تركها جائعة، ثم سألها مرة أخرى: من أنا وما أنتِ؟ فأجابت النفس: أنتَ ربيِ الرحيم وأنا عبدُك العاجز.

اللّهم صل وسلم على سيدنا محمد صلاةً تكون لك رضاءً ولحقّه أداءً بعدد ثواب حروف القرآن في شهر رمـضان وعلى آله وصحبه وسلم.

} سُبحانَ ربّكَ رَبِّ العِزَّةِ عمَّا يَصفون^ وسلامٌ على المُرسَلين^ والحمدُ لله رَبِّ العالَمين{ آمــيـن(1)

القسم الثالث

وهو الرسالة الثالثة

لقد كتب هذا القسم لاستشارة اخواني في خدمة القرآن، وليكون تنبيهاً لي، لإنفاذ ما كنت أحمل من نيّة مهمة حول كتابة مصحف شريف، يظهر فيه نقش اعجازي، وهو قسم من مائتي قسم من أقسام اعجاز القرآن الكريم، فعرضت لهم تلك النيّة لمعرفة ارائهم حول كتابة ذلك المصحف الشريف الذي يبين النقش الاعجازي، مع الاعتماد على المصحف المكتوب بخط الحافظ عثمان(1)،واتخاذ آية ((المداينة)) وحدة قياس لطول الصفحة و((سورة الاخلاص)) لطول السطر..

وهذا القسم الثالث؛ عبارة عن تسع مسائل:

C المسألة الاولى: لقد اثبت في ((الكلمة الخامسة والعشرين)) المسماة بـ((المعجزات القرآنية)) بالبراهين القاطعة ان أنواع أعجاز القرآن الكريم تبلغ أربعين نوعاً. وقد بيّن بعض أنواعه مفصّلاً حتى ازاء المعاندين، بينما ظلت أنواع أخرى بصورة مجملة.

وقد تبيّن كذلك في الاشارة الثامنة عشرة من (المكتوب التاسع عشر) ان القرآن الكريم يبرز اعجازه على وجوه مختلفة أزاء اربعين طبقة من طبقات الناس، إذ اثبتت تلك الاشارة ان لكل طبقة من تلك الطبقات العشرة حظها من الاعجاز..

اما الطبقات الثلاثون الباقية، فقد أظهرالقرآن الكريم اعجازه لأصحاب المشارب المختلفة من الاولياء، ولأرباب العلوم المتنوعة والدليل على ذلك ايمانهم التحقيقي الذي بلغ درجة علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين؛بأن القرآن الكريم هو كلام اللهحقاً.

بمعنى ان كل واحد منهم قد رأى وجهاً من وجوه الاعجاز.

نعم؛ ان جمال جلوات الاعجاز يختلف باختلاف المشارب، اذ الاعجاز الذي يفهمه وليّ من العارفين يختلف عن الاعجاز الذي يشاهده ولي غارق في العشق الإلهي. وان وجه الاعجاز الذي يشاهده إمام من أئمة أصول الدين غير الوجه الذي يشاهده مجتهد في فروع الشريعة.. وهكذا.

ولما كنت لاأقدر على الايضاح المفصل لكل وجه من تلك الوجوه المختلفة، لقصر نظري عن رؤيتها، وضيق ذهني عن استيعابها، فقد اُوضحت عشر طبقات منها فقط. فاكتفيت بالاشارة المجملة الى بقيتها. ولكن ظلت في حينه طبقتان منها في ((المعجزات الاحمدية)) بحاجة الى مزيد من التوضيح، فالآن نوضحهما:

الطبقة الاولى: وهم الذين يدركون الاعجاز باسماعهم، اذ الشخص العامي ـ من عوام الناس ـ لايستمع للقرآن إلاّ بأذنه، ولايفهم اعجازه إلاّ بالسمع. أي انه يقول:

ان هذا القرآن الذي أسمعه لايشبه أي كتاب آخر. فإما أنه فوق جميعها او تحت جميعها. وهذا الأخير لايستطيع ان يقول به أحد قط، ولم يقله، بل حتى الشيطان نفسه لايستطيع ان يتفوه به. فهو إذن فوق الجميع. وقد جاء بهذا الاجمال في (الاشارة الثامنة عشرة). ثم وضح هذا الاجمال في (المبحث الاول) من (المكتوب السادس والعشرين) المعروف بـ(حجة القرآن على حزب الشيطان) الذي يصور فهم تلك الطبقة من الاعجاز ويثبته.

الطبقة الثانية: وهم الذين لايرون الاعجاز إلاّ بالعين، أي أن للقرآن الكريم اشارة اعجازية تشاهد بالعين، حتى من قبل عوام الناس والماديين الذين سالت عقولهم الى عيونهم فلايؤمنون إلاّ بما يشاهدون. وقد اُدعيّ هذا الإدّعاء في (الاشارة الثامنة عشرة). وكان من الضروري ان يوضح أكثر لاثبات تلك الدعوى، ولكن لم يسمح الوقت بذلك، لحكمة ربانية مهمة، قد فهمناها الآن. لاجل هذا فقد اُشير الى بعض جهاتها الجزئية اشارات بسيطة.

والآن، بعد ان توضح سر تلك الحكمة اقتنعنا قناعة كاملة بأن تأخيره كان هو الأولى. ولتيسير فهم تلك الطبقة وتسهيلاً لهم ليتذوقوا نوع الاعجاز للقرآن، استكتبنا مصحفاً شريفاً يبيّن ذلك الوجه من الوجوه الأربعين للاعجاز.



ان بقية مسائل هذا القسم الثالث مع القسم الرابع لم تدرج هنا، لأنها تخص التوافقات، فاكتفينا بالفهرس الخاص للتوافقات وانما كتبت النكتة الثالثة من القسم الرابع مع تنبيه.

تنبيه: لقد كُتبت مائة وستون آية كريمة في صدد بيان النكتة العظيمة في لفظ ((الرسول)) الوارد في القرآن الكريم، ومع ان لهذه الآيات الكريمة خواصاً جليلة فان كلاً منها تثبت وتكمل الاخرى من حيث المعنى. لذا يمكن ان تكون تلك الآيات حزباً قرآنياً لمن يريد ان يحفظ آيات مختلفة او يتلوها.

وكذلك في الآيات (التسع والستين) الواردة فيها لفظ (القرآن)، في صدد بيان النكتة العظيمة للفظ (القرآن)، يلاحظ ان بلاغة هذه الآيات الجليلة فائقة جداً، وجزالتها عالية جداً. ويوصى الاخوان أن يتخذوا منها حزباً قرآنياً آخر.

وكلمة (القرآن) الواردة في المصحف الشريف، وردت في صورة سبع سلاسل، وظلت كلمتان منها خارج السلاسل، وكانت تلكما الكلمتان بمعنى القراءة، مما شدّ ـ بخروجهما ـ من قوة النكتة.

اما لفظ (الرسول)، فان سورة ((محمد)) وسورة ((الفتح)) هما من أكثر السور القرآنية ذات العلاقة.. ولذلك حصرنا نظرنا في السلاسل الظاهرة في تلكما السورتين، ولم يُدرج ـ في الوقت الحاضر ـ ماظل منه خارج السلسلة.

وستكتب بمشيئة الله ما في لفظ (الرسول) من أسرار إن سنح لنا الوقت.

النكتة الثالثة:وهي في أربع نكات:

النكتة الاولى: ان لفظ الجلالة (الله) ورد في مجموع القرآن الكريم ألفين وثمانمائة وست مرات. وورد لفظ (الرحمن) ـ مع ما في البسملة ـ مائة وتسعاً وخمسين مرة، وورد لفظ (الرحيم) مائتين وعشرين مرة. ولفظ (الغفور) احدى وستين مرة، ولفظ (الرب) ثمانمائة وستاً واربعين مرة، ولفظ (الحكيم) ستاً وثمانين مرة، ولفظ (العليم) مائة وستاً وعشرين مرة، ولفظ (القدير) احدى وثلاثين مرة، ولفظ (هو) في (لا إله إلاّ هو) ستاً وعشرين مرة(1).

وفي عدد لفظ الجلالة (الله ) أسرار ونكات كثيرة.

منها: ان أكثر ماورد في القرآن هو لفظ (الله ) و (الرب) ويليهما عدداً ألفاظ (الرحمن والرحيم والغفور والحكيم)، وان عدد هذه الألفاظ مع لفظ (الله ) هو نصف عدد آيات القرآن الكريم.

وان لفظ الجلالة (الله ) مع لفظ (الرب) الوارد بمعنى (الله ) نصف عدد آيات القرآن ايضاً. اذ ان لفظ (الرب) المذكور ثمانمائة وستاً واربعين مرة، خمسمائة وبضع منه قد ذكرت بدلاً عن لفظ الجلالة (الله )، ومائتان وبضعٌ منه ليسـت بمعنـى (الله).

وان مجموع عدد لفظ الجلالة (الله ) مع عدد الفاظ (الرحمن والرحيم والعليم) مع عدد من لفظ (هو) في (لاإله إلاّ هو)؛ هو نصف آيات القرآن ايضاً ، والفرق أربعة أعداد .

ومع لفظ (القدير) - عوضاً عن لفظ (هو) - هو نصف عدد مجموع الآيات ايضاً، والفرق تسعة اعداد.

نكتفي الآن بهذه النكتة، اذ النكات كثيرة في مجموع لفظ الجلالة.

النكتة الثانية: وهي باعتبار السور القرآنية، ولها ايضاً نكات كثيرة، ولها توافقات تدل على إنتظام وقصد وإرادة.

منها: ان عدد لفظ الجلالة(الله ) في سورة (البقرة) مساوٍ لعدد آياتها، والفرق أربعة أعداد. وهناك أربعة الفاظ من (هو) بدلاً عن لفظ(الله ) كما هو في (لاإله إلاّ هو) وبها يتم التوافق.

وان عدد لفظ الجلالة (الله ) في سورة (آل عمران)، متوافق مع عدد آياتها ويساويها، ولكن لفظ (الله ) ورد في مائتين وتسع آيات بينما عدد آيات السورة مائتا آية، فالفرق اذن تسع آيات، ولاتخل الفروق الصغيرة في مثل هذه المزايا الكلامية والنكات البلاغية، اذ تكفي التوافقات التقريبية.

وان عدد آيات السور الثلاث (النساء والمائدة والأنعام) يتوافق ايضاً مع مجموع عدد ما في هذه السور الثلاث من لفظ الجلالة (الله ) اذ إن عدد الآيات ـ في هذه السور ـ أربعمائة واربع وستون، وعدد لفظ الجلالة (الله ) اربعمائة وواحد وستون، وهما متوافقان تماماً، اذا عدّ لفظ الجلالة في البسملة.



وكذلك فان عدد لفظ الجلالة في السور الخمس الاولى؛ هو ضعف عدد لفظ الجلالة في سور (الاعراف والانفال والتوبة ويونس وهود)، اي ان عدده في هذه السور الخمس الثانية هو نصف عدده في السور الخمس الاولى.

وان عدد لفظ الجلالة في السور التالية (يوسف والرعد وابراهيم والحجر والنمل) هو نصف ذلك النصف.

ثم ان عدده في سور(الاسراء والكهف ومريم وطه والانبياء والحج)(1) نصف نصف ذلك النصف.

وان السور التالية بعدها بخَمس سورٍ وخَمس سوٍر تدوم بتلك النسبة تقريباً. ولكن هناك فروق ببعض الأعداد الكسرية، ولابأس في مثل هذه الفروق في مثل هذا المقام الخطابي.

مثلاً: ان قسماً منها مائة واحدى وعشرون، وآخر مائة وخمس وعشرون وآخر مائة واربع وخمسون. وآخر مائة وتسع وخمسون.

ثم ان في السور الخمس التالية تبدأ من (سورة الزخرف) ينزل العدد الى النصف، اي ينزل الى نصف نصف ذلك النصف.

والسور الخمس التي تبدأ من (سورة النجم) يكون العدد نصف نصف نصف نصف ذلك النصف، ولكن بصورة مقاربة، ولاضرر في فروق الكسورات الصغيرة في مثل هذه المقامات الخطابية.

ثم في ثلاث مجموعات من السور الخمس الصغيرة، ثلاثة أعداد من لفظ الجلالة.

فهذه الكيفيات تدل على ان المصادفة لم تخالط أعداد لفظ الجلالة، بل عينت وفق حكمة وانتظام.

النكتة الثالثة: للفظ الجلالة (الله )، وهي المتوجهة الى اوضاعها في صفحات المصحف الشريف، وذلك :

ان عدد لفظ الجلالة في الصحيفة الواحدة، له علاقة بوجه تلك الصحيفة اليمنى، وبالصحيفة المقابلة لذلك الوجه، واحياناً بالصحيفة المقابلة لها في الجانب الأيسر، وبوجه ماوراءها.

وقد تتبعتُ هذا التوافق في نسخةٍ من مصحفي، فرأيت توافقاً بنسبة عددية جميلة للغاية، على الأغلب، وقد وضعت اشارات عليها في مصحفي، فكثيراً ما كانت تتساوى واحياناً تصبح نصفاً او ثلثاً، وعلى كل حال تُشعر بحكمة وانتظام.

النكتة الرابعة: هي التوافقات في الصحيفة الواحدة.

وقد تابعتُ مع اخواني ثلاث او اربع نسخ مختلفة من المصحف، قابلناها بعضها ببعض، فتوصلنا الى قناعة بان التوافقات مطلوبة ايضاً في جميعها، ولكن وقع شئ من الخلل في التوافقات بسبب مراعاة مستنسخي المطابع مقاصد اخرى.

فاذا ما نُظمت ونسّقت فستشاهد التوافقات في مجموع القرآن في عدد لفظ الجلالة البالغ (ألفين وثمانمائة وستة) باستثناء نادر جداً، وستشعر في ذلك نور اعجاز عظيم. لأن فكر الانسان لايمكن ان يحيط بهذه الصفحات الواسعة جداً، ولايستطيع ان يتدخل فيها قطعاً.

اما المصادفة فلاتنال يدها هذه الاوضاع الحكيمة.

ونحن نستكتب مجدداً مصحفاً شريفاً ليبرز (النكتة الرابعة) الى حدٍ ما مع المحافظة على صحائف المصاحف الأكثر انتشاراً، والمحافظة على سطورها مع تنظيم لمواضع منه تعرّضت لعدم الانتظام بسبب تهاون ارباب الصناعة، وعند ذلك سيظهر سر انتظام التوافقات الحقيقي ان شاء الله، وقد اُظهر فعلاً.

اللهم يامنزل القرآن بحق القرآن فهّمنا أسرار القرآن ما دار القمران

وصل وسلم على من انزلت عليه القرآن وعلى آله وصحبه اجمعين..

آمــيـن

القسم الخامس

وهو الرسالة الخامسة

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} الله نورُ السّمواتِ والارض{ (النور:35)

في حالة روحية في شهر رمضان المبارك شعرتُ بنور من أنوار هذه الآية الكريمة، ورأيت ما يشبه الخيال؛ ان الموجودات جميعها، والاحياء كلها تناجي ربها الجليل وتتضرع اليه بمناجاة ((أويس القرني)) المشهورة، والمستهلة بـ:

الهي أنت ربي وانا العبد .. وانت الخالق وانا المخلوق.. وانت الرزاق وانا المرزوق... الخ.

فرأيت في هذه الواقعة القلبية الخيالية ما أورثني القناعة بان كل اسم من الاسماء الإلهية هو نور لكل عالم من العوالم الثماني عشرة ألفاً؛ كالآتي:

ان اوراق الورد مثلما تغلف الواحدة الاخرى، تستر التي تليها، كذلك رأيت هذا العالم، كل عالم يُغلّف بالوفٍ من الاستار والحجب، فتستر تحتها عوالم اخرى. ورأيت كذلك، انه كلما رفع ستار وازيل حجاب اذا بعالم آخر يظهر تجاهي، وان ذلك العالم يتراءى لي في ظلمة دامـسة ووحشة رهيـبة كما تـصـوره الآية الـكــريمة: } أو كَظُلماتٍ في بحرٍ لُجّي يَغشَيهُ موجٌ مِنْ فوقهِ مَوجٌ من فوقه سَحابٌ ظلماتٌ بعـضها فوقَ بعضٍ اذآ أخرجَ يَدهُ لم يكدْ يَريها ومَن لم يَجعَل الله لهُ نوراً فما لهُ من نور{ (النور:40).

واذ انا أرى هذا العالم في مثل هذه الظلمات اذا بجلوة من جلوات اسم إلهي تشع شعاعاً عظيماً كنور يغمر ذلك العالم من أوله الى آخره بالنور. فكلما بدا مشهد من مشاهد هذه العوالم، ويُرفع ستار من استارها أمام العقل، ينفتح باب الى عالم آخر أمام الخيال. واذ يتراءى انه غارق في ظلام، بسبب الغفلة، واذا باسم الهي يتجلى كالشمس المنيرة، فينوّر ذلك العالم كله.. وهكذا.

ولقد استمر طويلاً هذا السير القلبي والسياحة الخيالية، نذكر منها:

انني لما رأيت عالم الحيوانات، وتأملت في عجزها وضعفها وشدة حاجاتها وشدة عوزها وجوعها، بدا لي ذلك العالم، انه عالم غارق في ظلام دامس وحزن ملازم، واذا بإسم (الرحمن) يشرق كالشمس الساطعة من برج اسم (الرزاق) ـ أي في معناه ـ فنوّر ذلك العالم برمته بضياء الرحمة.

ثم رأيت بين ذلك العالم، عالم الحيوانات، صغارها والاطفال، رأيتها وهي تنتفض ضعفاً وعجزاً وحاجة، فعالمها مظلم قاتم، يهزّ عواطف وشفقة كل من يراه.. واذ أنا أرى هذه الحالة المؤلمة اذا بإسم (الرحيم) يشرق من برج (الشفقة) وينشر أضواءه الزاهية على العالم كله وحوّله الى عالم بهيج حلو لطيف، بل حوّل دموع الشكوى والعطف والحزن الى دموع تتقطر فرحاً وسروراً وشكراً.

ثم رُفع الستار واذا بمشهد عالم الانسان يتراءى أمامي، كمشاهد السينما، وهو عالم قد غشيه الظلام الدامس، وتلفه الظلمات الكثيفة والرعب المستديم، حتى استغثت من شدة فزعي ومن هول مارأيت، حيث رأيت: ان الآمال المغروزة في الانسان والممتدة الى الابد، وأن أفكاره وتصوراته المحيطة بالكون، وان هممه واستعداداته ومواهبه التي تطلب البقاء الأبدي والسعادة الأبدية وهي التواقة الى الجنة الخالدة، يكمن معه ـ في هذا الانسان ايضاً ـ فقر شديد وحاجة دفينة، رغم توجهه الى مقاصد لاتنتهي، ومطالب لامنتهى لها، مع ضعف ملازم رغم انه معرّض لهجمات مصائب واعداء كثيرة.. زد على ذلك؛ ليس له الاّ عمر قصير جداً، وحياة تعيسة، وعيش مضطرب، يذوق مرارة الزوال والفراق اللذين يوجعان قلبه ألماً شديداً دائماً، حيث ينظر ـ بنظر الغفلة ـ الى القبر الماثل أمامه أنه ظلمات سرمدية، يُرمى بهم في تلك الحفرة المظلمة أفراداً وجماعات.

فما أن رأيت هذا العالم عالم الانسان غارقاً في مثل هذه الظلمات، حتى تهيأت جميع لطائفي الانسانية مع القلب والروح والعقل، بل جميع ذرات وجودي للبكاء والاستغاثة، واذا باسم الله (العادل) يشرق من برج (الحكيم)، وباسم (الرحمن) يشرق من برج (الكريم) وباسم (الرحيم) يشرق من برج (الغفور) - أي في معناه -



وباسم (الباعث) يشرق من برج (الوارث)، وباسم (المحيي) يشرق من برج (المحسن)، وباسم (الرب) يشرق من برج (المالك). فنوّرت هذه الاسماء الإلهية عوالم كثيرة جداً ضمن عالم الانسان، وفتحت نوافذ من عالم الآخرة المنوّرة. ونثرت أنواراً ساطعة على دنيا الانسان المظلمة.

ثم رفع ستار آخر عن مشهد عظيم آخر، وهو مشهد عالم الارض، فظهر أمام الخيال عالم رهيب، اذ القوانين العلمية المظلمة للفلسفة تجعل الانسان الضعيف في ظلمة موحشة، حيث تسير الارض في فضاء العالم غير المحدود بسرعة تفوق سرعة القذائف بسبعين مرة، وتدور في مسافة تبلغ خمساً وعشرين ألف سنة في سنة واحدة، وهي التي يمكن ان تتبعثر وتتشتت في كل وقت وآن بما تحمل في جوفها من زلازل هائلة وهي المعمرة الهرمة.. ولشدة قتامة الظلام المخيم على هذا العالم، دار رأسي من هولها، واذا باسم (خالق السموات والارض) واسماء الله؛ (القدير، العليم، الرب، الله، رب السموات والارض، مسخّر الشمس والقمر) أشرقت من أبراج الرحمة والعظمة والربوبية، فنورت ذلك العالم الذي خيّم عليه الظلام بأنوار ساطعة، حولت تلك الكرة الارضية الى مايشبه سفينة سياحية، في منتهى الانتظام والتسخير والكمال والراحة والاطمئنان، ورأيتها انها حقاً مهيأة للتنزه والسياحة والاستجمام والتجارة.

حاصل الكلام: ان كل اسم من ألف اسم واسم من الاسماء الإلهية المتوجهة للكون، ينور كالشمس العظيمة عالماً من العوالم، بل ينور كل ما في تلك العوالم من عوالم، إذ كانت تتراءى جلوات الاسماء الاخرى ضمن تجلي كل اسم من الاسماء، وذلك بسر الأحدية.

فكأن القلب في هذه السياحة ينبسط ويزداد شوقه الى المزيد منها كلما رأى أنواراً مختلفة وراء كل ظلمة. حتى انه اراد ركوب الخيال ليجول في السماء، وعندها رفع الستار عن مشهد واسع عظيم جداً، فدخل القلب في عالم السماوات، ورأى:

ان تلك النجوم التي تنثر الابتسامات النورانية هي أعظم من كرة الارض جسامة، وتسير أسرع منها وتدور متداخلة فيما بينها، لو ضيعتْ احداها طريقها، وتاهت دقيقة واحدة، لاصطدمت اذن مع غيرها، وعندها تنفلق وتدوي دوياً هائلاً وتندلق احشاء الكون ويتفتت. فلاتشع النجوم بعدُ نوراً بل تستطير ناراً، ولاتوزع الابتسامات النورانية بل تخيم عليها الظلمات الدائمة. وهكذا رأيت السماوات - بهذا الخيال ـ عالماً واسعاً خالياً رهيباً محيراً مذهلاً. فندمت على مجيئي اليها ألف ندم، ولكن وانا أعاني هذه الحالة اذا بالاسماء الحسنى لـ (رب السموات والارض) ولـ(رب الملائكة والروح ) تشرق بجلواتها من برج } ولقد زينّا السّماء الدنيا بمصابيح{ (الملك:5). و } وسخّر الشمس والقمر{ (الرعد:2). فالتمست النجومُ التي غشيتها الظلمات لمعة نور من تلك الأنوار العظيمة ـ من حيث ذلك المعنى استنارت السماء بمصابيح بعدد النجوم. وامتلأت بالملائكة والروحانيات وعمّرت بعد ان كانت تُظن خالية خاوية، ورأيت ان تلك الشموس والنجوم الجارية كأنها جيش من جيوش رب العالمين، سلطان الأزل والابد، وكأنها تتحرك وتدور ضمن مناورة راقية، تظهر عظمة ربوبية ذلك المليك المقتدر.

فقلت بما أملك من قوة، بل لو استطعت لتلوت بكل ذرات وجودي، وبلسان جميع المخلوقات لو كانوا يسمعون لي الآية الكريمة:

} الله نورُ السّمواتِ والارضِ مَثَلُ نورهِ كمشكوةٍ فيها مِصباحٌ المصباحُ في زجاجةٍ الزجاجةُ كأنها كوكبٌ دُريّ يوقَدُ من شجرةٍ مباركةٍ زيتونةٍ لا شرقيةٍ ولاغربية يكاد زيتها يـُضيء ولو لم تمسسهُ نارٌ نورٌ على نورٍ يهدي الله لنورهِ من يشاء{ (النور:35).

ورجعت الى الارض وهبطت من السماء، وأفقت من تلك الواقعة، وقلت:

الحمد لله على نور الايمان والقرآن

القسم السادس

وهو الرسالة السادسة



كتب هذا البحث تنبيهاً لتلاميذ القرآن وايقاظاً للعاملين له ليحول دون انخداعهم.

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} ولاتركنوا الى الذين ظلموا فتمسّكم النار{ (هود :113)

(( ان هذا القسم السادس، يجعل باذن الله، ستاً من دسائس شياطين الانس والجن بائرة عقيمة، ويسد في الوقت نفسه ستة من سبل الهجمات)).

الدسيسة الاولى

يحاول شياطين الانس ـ بما استوحوه من شياطين الجن ـ ان يخدعوا خدام القرآن ويصرفوهم عن ذلك العمل المقدس وذلك الجهاد المعنوي الرفيع، وذلك بتزيين حب الجاه والشهرة لهم، كالآتي :

ان في الانسان ـ بصورة عامة ـ وفي كل فرد من أفراد أهل الدنيا رغبة جزئية او كلية في حب الجاه الذي هو الرياء بعينه، ونيل مواقع مرموقة في نظر الناس. حتى ينساق الانسان بدافع من الحرص على الشهرة الى التضحية بحياته اشباعاً لتلك الرغبة. فهذا الشعور هو في غاية الخطورة على أهل الآخرة. وهو في منتهى الاثارة والنشوة لأهل الدنيا، فضلاً عن انه منبع كثير من الأخلاق الرذيلة. علماً انه طبعٌ ضعيف في الانسان وجانب واهٍ فيه. اي يمكن ان يستغله مَن يلاطف شعوره هذا، بل يغلبه بهذا الشعور ويجذبه الى نفسه. لذا فان احتمال استغلال الملحدين لاخواني من هذا الجانب الضعيف في النفس الانسانية هو أخوف ما اخافه، واقلق عليه. اذ قد جرّوا ـ بهذه الصورة ـ بعض اصدقائي غير الحميمين فألقوهم في هاوية المهالك(1).

فيا اخوتي وزملائي في خدمة القرآن!

ان الذين يأتونكم من حيث حب الشهرة من جواسيس أهل الدنيا، والذين يروّجون لأهل الضلالة، او تلاميذ الشيطان، قولوا لهم:

ان رضى الله سبحانه، والإكرام الرحماني، والقبول الرباني، لمقام عظيم جداً، بحيث يبقى دونه اقبال الناس واعجابهم بحكم ذرة بالنسبة الى ذلك المقام الرفيع.

فان كان هناك توجه من الرحمة الإلهية نحونا، فهذا حسبنا وكفاه توجهاً. اما اقبال الناس وتوجههم فانما يكون مقبولاً ان كان ظلاً من انعكاس توجه رحمته تعالى، والاّ فلا يُطلب ولا يُرغب فيه قطعاً، لانه ينطفئ عند باب القبر، ولايساوي هناك شروى نقير.

ثم ان الشعور بحب الجاه هذا، ان لم يُكبَح، ولم يُمحَ من الانسان يلزم صرف وجهه الى جهة اخرى كالآتي :

ان ذلك الشعور ـ حب الجاه ـ ربما تكون له جهة مشروعة وذلك لنيل الثواب الأخروي، وبنية كسب دعوات الآخرين، من حيث التأثير الحسن لخدمة القرآن، بناءً على التمثيل الآتي :

هب ان (جامع اياصوفيا) مكتظ بأهل الفضل والكمال من الطيبين الموقرين، وكان في الباب او في الأروقة صبيان وقحون وسفهاء سفلة، وكان على الشبابيك سيّاح اجانب مغرمون باللهو واللعب.

فاذا ما دخل أحد الجامع، وانضم الى تلك الجماعة الفاضلة، وتلا آيات من الذكر الحكيم تلاوة عذبة، فعندئذٍ تتوجه انظار ألوف من أهل العلم والفضل اليه، ويكسبونه ثواباً عظيماً بدعائهم له ورضاهم عنه. الاّ ان هذا الامر لايروق اولئك الصبيان الوقحين والملحدين السفهاء والاجانب المعدودين.

ولكن لو دخل ذلك الرجل الجامع والجماعة الفاضلة وبدأ بالغناء الماجن، وشرع بالرقص والصخب، فسيكون موضع اعجاب وسرور اولئك الصبيان السفهاء، ويلاطف عمله اولئك الغواة، ويجلب اليه ابتسامات ساخرة من الاجانب الذين يسرّون برؤية نقائص المسلمين، بينما تنظر اليه تلك الجماعة الغفيرة الفاضلة في الجامع نظرة تحقير وإهانة، ويرونه في ادنى الدركات وفي اسفل سافلين.

وعلى غرار هذا: فان العالم الاسلامي، وقارة آسيا، جامع عظيم ومن فيه من المؤمنين وأهل الحقيقة، هم الجماعة الفاضلة في ذلك الجامع، واولئك الصبيان الوقحون هم اولئك المتزلفون ذوو العقول الصبيانية، واما اولئك المفسدون السفهاء فهم الملحدون المتفرنجون، الذين لايعرفون ديناً ولاملة. اما الاجانب المتفرجون، فهم الصحفيون الذين ينشرون أفكار الاجانب.

فكل المسلمين ولاسيما من ذوي الفضل والكمال، لهم موقع في هذا الجامع المهيب، كلٌ حسب درجته، وتلفت اليه الانظار حسب موقعه، فان صدرت منه اعمال وتصرفات تنم عن الاخلاص ـ الذي هو اساس الاسلام ـ وابتغاء رضى الله، على وفق ما أمر به القرآن العظيم من احكام وحقائق، ونطق لسان حاله الآيات القرآنية معنىً، عندئذ يدخل ضمن الدعاء الذي يدعوه كل فرد من افراد العالم الاسلامي وهو : (اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات ) ويكسب حظاً منه، ويكون ذا علاقة أخوية مع جميع المؤمنين. ولكن لايبدو موقعه في نظر بعض اهل الضلالة ممن هم كالحيوانات المضرة، ولا تظهر مكانته لدى الحمقى الذين هم كالصبيان الملتحين.

ولو أدار ذلك الرجل ظهره عن مجد أجداده الذين يعدّهم رمز شـرفه، وتنـاسى تأريخه الذي يعتبره مدار فخره، وترك الجادة النورانية جادة السلف الصالح الذي يعدّه مستند روحه، وباشر باعمال وتصرفات ملوثة بالهوى والرياء نيلاً للشهرة وارتكاباً للبدع فانه يتردى معنىً في نظر اهـل الحقيقة والايمـان الى الدرك الاسـفل، اذ المؤمن مهما كان جاهلاً ومن عوام الناس، فان قلبه يشعر وان لم يدرك عقله، فينفر ويستثقل أعمال امثال هذا الرجل من المعجبين بأنفسهم وذلك بمضمون الحديث الشريف :

(اتقوا فراسة المؤمن فانه ينظر بنور الله)(1).

وهكذا يسقط الاناني المفتون بحب الجاه واللاهث وراء الشهرة (الرجل الثاني) ويتردى الى اسفل سافلين في نظر جماعة غفيرة غير محدودة، ويكسب موقعاً مشؤوماً موقتاً لدى عدد من السفهاء الساخرين الطائشين، اذ لا يجد حوله غير أصدقاء مزيفين مضرين له في الدنيا وسبب عذابٍ في البرزخ واعداء في الآخرة كما قال تعالى : } الأخلاءُ يَومَئذٍ بَعــضُهم لبَعضٍ عَدوّ إلاّ المُتقينَ{ (الزخرف:67).

اما الرجل في الصورة الاولى فإن لم يُزل حب الجاه من قلبه، يكسب نوعاً من مقام معنوي مشروع مهيب، يشبع اشباعاً تاماً عرق حب الجاه المغروز فيه، ولكن بشرط اتخاذ الاخلاص ورضى الله اساساً له، مع عدم اتخاذ حب الجاه هدفاً له.

فهذا الرجل يفقد شيئاً ضئيلاً، بل ضئيلاً جداً، مما لا اهمية له، ولكن يكسب عوضه شيئاً كثيراً، بل كثيراً جداً، مما له قيمة عظيمة مما لاضرر فيه. بل انه يطرد عن نفسه عدداً من الثعابين ويجد بدلاً عنها كثيراً من مخلوقات مباركة صديقاً له، فيستأنس بهم. او يكون كمن يهيّج ما حوله من الزنابير، الاّ انه يجلب لنفسه النحل التي هي سقاة شراب الرحمة فيستلم من ايديهم العسل. اي انه يجد من الاحباب من يفيض عليه بدعواتهم ويسقون روحه شراباً سلسبيلاً كالكوثر، يُجلب له من أطراف العالم الاسلامي، ويسجل ثواباً له في دفتر اعماله.

ولقد ألقيتُ ـ في وقت ما ـ فحوى التمثيل السابق بقوة وصرامة في وجه انسانٍ صغير كان يشغل مقاماً عظيماً دنيوياً، والذي اصبح موضع استهجان وسخرية من قبل العالم الاسلامي لإرتكابه حماقة كبيرة في سبيل الشهرة.

هزّه ذلك الدرس هزّاً عنيفاً، ولكن لعدم استطاعتي انقاذ نفسي من حب الجاه لم ينبهه ايقاظي ذاك.

الدسيسة الثانية

ان الشعور بالخوف شعور عميق في كيان الانسان، وان الطغاة والظالمين الماكرين يستغلون كثيراً هذا الشعور لدى الانسان فيلجمون به الجبناء، ويستفيد كثيراً جواسيس اهل الدنيا ودعاة الضلال من هذا الشعور لدى العوام ولاسيما لدى العلماء، فيُلقون في روعهم المخاوف ويثيرون فيهم الاوهام، بمثل شخص حيّال يُظهر لأحدهم ما يخافه ـ وهو على سطح دار ـ فيثير اوهامه ويدفعه تدريجياً الى الوراء حتى يُقرّبَهُ من الحافة فيرديه على عقبه، فيهلك. كذلك يثير اهل الضلالة عرق الخوف لدى الناس فيدفعونهم الى التخلي عن امور جسام من جراء مخاوف تافهة لاقيمة لها. حتى يدخل بعضهم في فم الثعبان لئلا تلسعه بعوض!

أذكر مثالاً: جئتُ ذات مساء الى جسر استانبول وبصحبتي عالم جليل ـ رحمه الله ـ يتهيب ركوب الزورق، ولكننا لم نجد وساطة نقل سوى الزورق، ونحن مضطرون الى الذهاب الى جامع ابي ايوب الانصاري فالححت عليه اذ لا حيلة لنا الاّ ركوبه. فقال:

- أخاف... ربما نغرق!

قلت له: كم يُقدّر عدد الزوارق في هذا الخليج؟

قال: ربما ألف زورق.

قلت: كم زورقاً يغرق في السنة؟

قال: زورق او اثنان، وقد لايغرق في بعض السنين!

قلت: كم يوماً في السنة؟

قال: ثلاثمائة وستون يوماً.

قلت: ان احتمال الغرق الذي استحوذ على ذهنك، واثار فيك الخوف، هو احتمال واحد من بين ثلاثمائة وستين ألف احتمال. فالذي يخاف من هذا الاحتمال لايعدّ انساناً ولاحيواناً!

ثم قلت له: تُرى كم تقدّر ان تعيش بعد الآن؟

قال: انا شيخ كبير، ربما اعيش عشر سنوات اخرى!

قلت: ان احتمال الموت واقع في كل يوم، حيث الأجل مخفيٌ عنا. لذا فهناك احتمال الموت في كل يوم، اي لك ثلاثة آلاف وستمائة احتمالٍ للموت. فليس امامك اذن احتمال واحد من بين ثلاثمائة ألف احتمال ـ كما في الزورق ـ وانما احتمال من بين ثلاثة آلاف احتمال فلربما يقع الاحتمال هذا اليوم. فما عليك اذن الاّ الهلع والبكاء، وكتابة وصيتك!

اثّر هذا الكلام فيه وآب الى رشده، فركبّته الزورق وهو يرجف، قلت له ونحن في الزورق :

ان الله سبحانه وتعالى قد منحنا الشعور بالخوف لنحفظ به الحياة، لالهدم الحياة وتخريبها، ولم يمنحنا هذا الشعور لنجعل الحياة أليمة ومعضلة ومرهقة. فان كان الخوف ناشئاً من احتمالين او ثلاثة بل حتى من خمسة او ستة احتمالات فلابأس به، فلربما يعدّ ذلك خوفاً مشروعاً من باب الحيطة والحذر. اما إن كان الخوف ناشئاً من احتمال واحد من بين عشرين او اربعين احتمالاً فليس هذا خوفاً، وانما وهمٌ يستولي على الانسان ويجعل حياته عذاباً وشقاءً.

فيا اخوتي! اذا ما هجم عليكم مهرجو اهل الضلالة والمتزلفون لاهل الالحاد ليرهبوكم ويجعلوكم تتخلون عن جهادكم المعنوي المقدس، قولوا لهم:

نحن حزب القرآن، نحتمي بقلعة القرآن العظيم الحصينة، والقرآن العظيم محفوظ يحفظه الرب الكريم بقوله تعالى } إنّا نَحنُ نَزّلنا الذِكرَ وإنّا لَهُ لحَافِظون{ (الحجر:9) فلقد احاطنا سور عظيم هو سور} حَسبُنا الله ونِعمَ الوَكيلُ{ (آل عمران :173) فلن تستطيعوا ان تدفعونا ـ باختيارنا ـ الى طريق يؤدي حتماً الى آلاف الأضرار التي تلحق بحياتنا الابدية خوفاً من الحاق ضرر بسيط باحتمالٍ واحد من بين ألوف الاحتمالات بحياتنا الدنيوية القصيرة هذه.

وقولوا لهم: مَن منا ومَن مثلنا في طريق الحق قد تضرر بسبب ((سعيد النورسي)) الذي هو زميلنا في خدمة القرآن الكريم، واستاذنا في تدابير أمور تلك الخدمة المقدسة ورائدنا في العمل؟ ومَن من طلابه الخواص قد ابتلوا ببلاء حتى نبتلى نحن ايضاً، او نضطرب ونقلق من خوف ذلك البلاء الذي قد ينزل بنا. فلأخينا هذا الوفٌ من اصدقاء واخوان الآخرة، ولم نسمع ان ضرراً اصاب أحد إخوته منذ حوالي ثلاثين سنة رغم تدخله تدخلاً مؤثراً في الحياة الاجتماعية طوال تلك المدة التي كان يملك مطرقة السياسة وقوتها، بينما الآن لايملك سوى نور الحقيقة بدلاً من مطرقة السياسة. وعلى الرغم من ان اسمه قد ضُم سابقاً معمَن هم في حوادث (31) مارت(1) واهلكوا قسماً من اصدقائه، الاّ انه تبين فيما بعد، ان الحادثة كانت مدبّرة من قبل أُناس آخرين. وان اصدقاءه لم يتضرروا بسبب صداقته بل بسبب اعدائه. فضلاً عن انه انقذ كثيراً من أصدقائه في ذلك الوقت.

فبناءً على هذا عليكم يا اخواني ان تقولوا للمتزلفين من اهل الضلالة:

(( اننا لانرضى ان تضيع خزينة ابدية باحتمال خوفٍ من بين ألف بل من بين الاف الاحتمالات. ينبغي الاّ يخطر هذا ببال أمثالكم ياشياطين الانس)) وعليكم يااخواني ان تطردوهم وتضربوا بهذا الكلام على أفواههم.

وقولوا لأولئك المتزلفين ايضاً :

اذا كان البلاء والهلاك ناشئين من احتمال بنسبة مائة بالمائة لاباحتمال واحد من مئات الألوف من الاحتمالات، فاننا لانترك ولا نتخلى عنه (عن سعيد النورسي) إن كنا نملك ذرة من عقل، لأنه شوهد بتجارب عديدة ولايزال يشاهد؛ ان الذين يهينون استاذهم او اخوانهم الكبار ايام المصائب والبلايا، تنزل بهم المصيبة اولاً. فضلاً عن انهم يعاملون معاملة جائرة دون رحمة ويجازون مجازاة السفلة. فتموت أجسادهم وتهلك أرواحهم معنىً من الذل والمهانة. والذين يعاقبونهم لايشفقون عليهم، لانهم يقولون :

ان هؤلاء قد خانوا استاذهم العطوف عليهم، فلابد انهم منحطون سفلة، لايستحقون الرحمة، بل التحقير والاهانة.

فما دامت الحقيقة هكذا، وان الظالم اذا ما سحق انساناً تحت اقدامه، وبدأ المظلوم بتقبيل اقدامه، فان قلبه ينسحق بسبب تلك المذلة قبل رأسه وتموت روحُه قبل جسده. فيفقد رأسه وتمحى عزته وشرفه كذلك، اذ إنه بابداء الضعف تجاه ذلك الظالم القاسي يشجعه على سحقه اكثر.

بينما لو بصق المظلوم في وجه ذلك الظالم فانه ينقذ قلبه وروحه، ويصبح جسده شهيداً مظلوماً.

نعم! ابصقوا في وجوه الظالمين الصفيقة!

وحينما احتل الانكليز استانبول، ودمرّوا المدافع في المضيق (في استانبول) سأل في تلك الايام رئيس اساقفة الكنيسة الانكليكية من المشيخة الاسلامية ستة اسئلة، وكنت حينئذٍ عضواً في دار الحكمة الاسلامية فقالوا لي:

ـ اجب عن اسئلتهم بستمائة كلمة كما يريدون.

قلت:

ان جواب هذه الاسئلة ليس ستمائة كلمة ولاست كلمات ولاكلمة واحدة، بل بصقة واحدة.

لانه عندما داست تلك الدولة باقدامها مضايقنا وأخذت بخناقنا كما ترون، ينبغي البصاق في وجه رئيس اساقفتهم ازاء اسئلته التي سألها بكل غرور. ولهذا قلت: ابصقوا في وجوه الظلمة التافهة.

والآن أقول: ان دولة عظيمة كدولة الانكليز، في الوقت الذي كانت تحتل بلادنا، فقد اجبتهم ـ بلسان المطابع ـ وتحديتهم. وكان الهلاك محققاً وحتمياً مائة بالمائة، الاّ أنّ الحفظ القرآني قد كفاني فذلك الحفظ يكون كافياً لكم بمائة ضعف ازاء اضرار ترد باحتمال واحد بالمائة من ايدي الظلمة.

ثم ايها الاخوة:

ان كثيراً منكم قد خدم في صفوف الجيش، والذين لم يخدموا في العسكرية سمعوا حتماً، ومَن لم يسمع فليسمعه مني: ان اكثر من يجرح ويصاب في الحرب هم الذين يهربون من خنادقهم ومن مواضعهم، وان اقل الجنود إصابة هم اولئك الثابتون في مواضعهم فالآية الكريمة :

} قُل إنّ المَوتَ الذي تَفِرّونَ مِنهُ فإنه ملاقيكُم{ (الجمعة:8) تشير بمعناها الاشاري الى ان الفارين من الموت يقابلونه اكثر من غيرهم.

الدسيسة الشيطانية الثالثة

ان الشياطين يقتنصون الكثيرين بشباك الطمع وفخّه. ولقد اثبتنا في رسائل كثيرة ببراهين قاطعة استفضناها من آيات القرآن الحكيم وبيناته : ((ان الرزق الحلال يأتي بنسبة العجز والافتقار لابدرجة الاختيار والاقتدار)) فهناك مالايحد من الاشارات والامارات والدلائل التي تبين هذه الحقيقة منها:

ان الاشجار التي هي نوع من الاحياء، والمحتاجة للرزق تقف منتصبة في مكانها، يأتيها رزقها ساعياً لها. بينما الحيوانات لاتتغذى ولاتنمو كالاشجار تغذية ونمواً كاملاً بسبب حرصها ولهاثها وراء الرزق. وان اقل الاسماك ذكاءً وأشدها بلادة واكثرها ضعفاً وعجزاً تتغذى بأفضل وجه مع انها تعيش في الرمل فتظهر بدينة بصورة عامة، بينما القردة والثعالب وامثالهما من الحيوانات المالكة للذكاء والقدرة تكون هزيلة ضعيفة لسوء معيشتها.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-03-2011
  #37
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 15
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: المكتوبات

كل ذلك يدل على ان وساطة الرزق ليست الاقتدار بل الافتقار.

وان حسن المعيشة التي يرفل بها الصغار ـ سواءً أكانوا اناساً أم حيوانات ـ والاحسان اليهم باللبن الخالص هدية لطيفة تقدم من خزينة الرحمة الإلهية من حيث لايحتسبون؛ رحمةً لضعفهم وشفقة على عجزهم، وضيق العيش في الوحوش الضارية، يدل على ان وسيلة الرزق الحلال هي العجز والافتقار وليست الذكاء والاقتدار.

وان اليهود المشهورين بانهم أحرص الناس على الحياة الدنيا، يسبقون الامم في سعيهم وراء الرزق، بينما هم اكثر الأمم ذلة ومهانة، واكثرهم تعرضاً لسوء المعيشة، بل حتى أغنياؤهم يعيشون عيشاً ذليلاً. ولاتجرح مسألتنا هذه تلك الاموال التي يحصلون عليها بالربا وامثالها من الطرق غير المشروعة، لانها ليست من الرزق الحلال.

وان كثيراً من الادباء والعلماء يعيشون عيش الكفاف، في حين يُثرى كثير من البلداء والبلهاء.. كل ذلك يدل على ان وسيلة جلب الرزق ليست بالذكاء والاقتدار، بل بالعجز والافتقار وبالتسليم المتسم بالتوكل، وبالدعاء بلسان المقال والحال والفعل.

والآية الكريمة : } إنّ الله هُوَ الرّزَاقُ ذُو القُوةِ المَتين{ (الذاريات:58) تعلن هذه الحقيقة، وهي برهان قوي عظيم لدعوانا هذه، بحيث تتلوها جميع النباتات والحيوانات واطفال الانسان بلسان الحال، بل تتلوها كل طائفة تطلب الرزق.

وحيث ان الرزق مقدّر بالقدر الإلهي، وانه يُنعَم به انعاماً، والمنعم المقدّر هو الله سبحانه، وهو رحيم وكريم، فليفكر مَن يقبل مالاً حراماً ممحوقاً رشوة لوجدانه بل احياناً لمقدساته، مريقاً ماء وجهه إراقة غير مشروعة بدرجة اتهام رحمته تعالى واستخفاف كرمه سبحانه.. أقول؛ فليفكر مثل هذا في مدى بلاهة وجنون تصرفه.

نعم! ان اهل الدنيا ولاسيما اهل الضلالة، لايعطون نقودهم رخيصة، بل يعطونها باثمان باهظة، فان مالاً قد يعين على ادامة حياة دنيوية لسنة واحدة، الاّ انه يكون احياناً وسيلة لإبادة خزينة حياة ابدية خالدة. فيجلب بذلك الحرص الفاسد الغضب الإلهي عليه ويحاول جلب رضى اهل الضلالة.

فيا اخوتي!

اذا ما اصطادكم متزلفو اهل الدنيا ومنافقو اهل الضلال بفخ الطمع وعرقه الضعيف المغروز في الانسان، ففكروا في الحقيقة السابقة واجعلوا اخاكم هذا الفقير مثالاً يقتدى به.

فاني اطمئنكم بأن القناعة والاقتصاد يديمان حياتكم ويضمنان رزقكم اكثر من المرتّب، ولاسيما ان تلك النقود غير المشروعة المعطاة لكم ستطلب منكم بدلها أضعافاً مضاعفة، بل ألف ضعف وضعف، او في الاقل تمنع او تقلل من الخدمة القرآنية التي تستطيع ان تفتح ابواب خزينة ابدية لكم ؛ كل ساعة من ساعاتها. وهذا ضرر جسيم وفراغ وخيم لاتملؤه ألوف المرتبات.



تنبيه:

ان اهل الضلالة الذين دأبهم النفاق والكيد، ينصبون فخ الحيلة والخداع، وذلك عندما يعجزون عن الوقوف ازاء ما نشرناه من حقائق الايمان المستلهمة من القرآن الحكيم. ويحاولون - بشتى الطرق - ان يسحبوا أصدقائي عني، ويغرروا بهم بحب الجاه والطمع والخوف، والتهوين من شأني، بإلصاق بعض الامور بي.

نحن لانتحرك في خدمتنا المقدسة الاّ حركة ايجابية، ولكن دفع الموانع التي تعيق كل أمر من أمور الخير، يسوقنا احياناً الى حركة سلبية مع الاسف.

وازاء دعايات المنافقين الخادعة هذه، انبّه اخواني بالنقاط الثلاث السابقة، واسعى لدفع الهجوم عنهم. ويُشن في الوقت الحاضر اكبر هجوم عليّ بالذات إذ يقولون ان سعيداً كردي، فلِمَ تحترمونه كثيراً وتتبعونه؟ لذا اضطر الى كتابة الدسيسة الشيطانية الرابعة بلسان (سعيد القديم) دون رغبة مني، لإسكات امثال هؤلاء.

الدسيسة الشيطانية الرابعة

ان بعض الملحدين الذين يُشغلون مناصب مهمة، يشنون هجوماً عليّ، بترويجهم دعايات تلقوها من الشيطان ومن ايحاءات اهل الضلال، ليغرروا بها باخواني ويثيروا فيهم النعرة القومية، اذ يقولون :

انتم أتراك، وفي الاتراك من اصناف العلماء وارباب الفضل والكمال الكثيرين بفضل الله، وان سعيداً هذا كردي، فالتعاون مع من ليس من قوميتكم ينافي النخوة القومية.

الجواب: ايها الملحد الشقي! اني ولله الحمد مسلم، انتسب الى امتي السامية، وهم ثلاثمائة وخمسون مليوناً في كل عصر، واني استعيذ بالله مائة الف مرة من ان اُضحي بهذه الكثرة الكاثرة من الاخوان الطيبين المترابطين باخوة خالدة ويمدونني بدعواتهم الخالصة وفيهم اكثرية الاكراد المطلقة، واستبدل بهؤلاء الميامين دعوةً عنصرية وقومية سلبية كسباً لودّ بضعة اشخاص معينين يحملون اسم الكرد ويعدّون من عنصر الكرد، ممن سلكوا سبيل الالحاد والانسلاخ من المذاهب والقيم.

ايها الملحد! ان ذلك دأب امثالك من الحمقى، يترك اخوة حقيقية نورانية نافعة لجماعة عظيمة تعدادهم ثلاثمائة وخمسون مليوناً لاجل كسب اخوة كفار (المجر) او عدد من اتراك متفرنجين متحللين من الدين، تلك الاخوة المؤقتة غير المجدية حتى في الدنيا.

ولما كنا قد بيّنا ماهية القومية السلبية وأضرارها بدلائلها في المسألة الثالثة من (المكتوب السادس والعشرين) فاننا نحيلها الى تلك الرسالة ونتناول بشئ من الايضاح حقيقة وردت مجملةً في نهاية المسألة الثالثة هي الآتية:

اقول لأولئك الملحدين، ادعياء النخوة والغيرة، المتسترين تحت ستار القومية التركية، وهم في الحقيقة اعداء الامة التركية، اقول لهم:

انني على علاقة وثيقة جداً بمؤمني هذا الوطن الذين يسمون بالاتراك المرتبطين ارتباطاً قوياً، وبأخوة صادقة ابدية وحقيقية بالامة الاسلامية.. واكنّ حباً عميقاً وولاءً بفخر واعتزاز ـ باسم الاسلام ـ لابناء هذا الوطن الذين رفعوا راية القرآن خفاقة عزيزة في ربوع العالم اجمع زهاء ألف عام.

اما انت ايها المخادع المدّعي، فليس لك الاّ اخوة مجازية غير حقيقية ومؤقتة ومبنية على العنصرية والاغراض الشخصية، بحيث تهمل وتطرح جانباً المفاخر القومية الحقيقية للترك. فانا أسألك:

هل الامة التركية عبارة عن شباب غافلين، سارحين وراء الاهواء، ممن تتراوح اعمارهم بين العشرين والاربعين من العمر فقط؟

وهل ماتستوجبه النخوة القومية من منافع تمسهم محصورة في تربية متفرنجة تزيد غفلتهم، وتعوّدهم على الفساد وسوء الاخلاق، وتحثهم على ارتكاب الموبقات؟

وهل هي في دفعهم الى متعة مؤقتة وضحك آني يبكون عليها اياماً في شيخوختهم؟.

فان كانت النخوة القومية هي هذه الامور، وان كان الرقي وسعادة الحياة هي هذه.. وان كنت انت داعية الى هذا النمط من القومية التركية، وتدافع عن الامة على هذه الصورة. فانا أفرّ من هذه الدعوة القومية التركية فراراً بعيداً ولك ان تفرّ مني ايضاً.

وان كنت مالكاً لذرة من شعور وانصاف وغيرة قومية حقة، فانظر الى هذه التقسيمات ثم اجب عنها، هي:

ان ابناء هذا الوطن الذين يسمّون بالاتراك، ينقسمون الى ستة اقسام:

القسم الاول: هم اهل التقوى والصلاح.

القسم الثاني: هم المرضى واهل الضر والمصائب.

القسم الثالث: هم الشيوخ.

القسم الرابع: هم الاطفال والصبيان.

القسم الخامس: هم الفقراء والمعوزون.

القسم السادس: هم الشباب.

أليست الطوائف الخمس الاولى أتراكاً؟ أوَ ليس لهم حصة من الحمية القومية؟ أفمن الأِباء القومي أيذاء اولئك الطوائف الخمس وسلب سرورهم وتعكير صفوهم وافساد سلوانهم في سبيل ادخال بهجة مسكرة غافلة في نفوس الطائفة السادسة؟ أهذه نخوة أم عداء للأمة؟ ان الذي يُلحق الضرر بالاكثرية لاشك انه عدوّ لاصديق، اذ الحكم يبنى على الاكثرية.

فأنا أسألك:

هل اعظم ما ينتفع به القسم الاول ـ وهم اهل الايمان والتقوى ـ هو في مدنية متفرنجة؟ أم هو في سلوك طريق الحق التي يشتاقون اليها، ووجدان سلوان حقيقي في انوار حقائق الايمان باستحـضار السعادة الابدية.

ان الطريق التي تسلكونها، انت وامثالك من ادعياء القومية المتمادين في الضلالة، تطفئ الانوار المعنوية للمؤمنين المتقين، وتخل بسلوانهم الحقيقي، وتريهم الموت اعداماً ابدياً، وتدلّهم على ان القبر باب الى فراق ابدي.

وهل منافع القسم الثاني وهم المرضى واهل المصائب الآيسون من حياتهم، هي في تربية مدنية لادينية متفرنجة؟. بينما اولئك البائسون يريدون نوراً ويطلبون سلواناً ويبتغون ثواباً على ما نزل بهم من مصائب، ويرومون أخذ الثأر والانتقام ممن ظلمهم، ويترقبون دفع الخوف عن باب القبر الذي دنوا منه. ولكن بالنخوة الكاذبة التي تدعيها انت وامثالك تنزلون صفعات موجعة على رؤوس اولئك المبتلين المحتاجين أشد الحاجة الى العزاء والاشفاق عليهم وضماد جروحهم واللطف بهم، بل تغرزون الآلام في قلوبهم الجريحة، فتخيبون آمالهم دون رحمة، وتلقونهم في يأس قاتم دائم!

أهذه غيرة قومية؟ أبهذا تخدمون الامة وتُسدون اليها النفع؟

والطائفة الثالثة وهم الشيوخ؛ الذين يمثلون ثلث الامة، فهؤلاء يقتربون من القبر، ويدنون من الموت،ويبتعدون عن الدنيا، ويجاورون الآخرة! فهل سلوان هؤلاء ونفعهم في الاستماع الى سيرة الظالمين من امثال (جنكيز خان) و (هولاكو) المليئة بالغدر؟ وهل هي في هذا النمط من افعالكم الحاضرة التي تُنسي الآخرة، وتُلصق بالدنيا، وهي افعال لاطائل تحتها، وهي سقوط وتردٍ معنوي رغم ما يطلق عليها من رقي في الظاهر. وهل أن نور الآخرة في السينما؟ وهل السلوان الحقيقي في المسرح؟

واذ ينتظر هؤلاء الشيوخ الضعفاء الاحترام والتوقير من اهل النخوة والغيرة اذا بهم يخاطَبون: انكم تساقون الى اعدام ابدي، بما ينفث في روعهم ان باب القبر الذي يتصورونه رحمة ما هو الاّ فم ثعبان يبتلعهم، ويهمس في اذانهم المعنوية : انكم ماضون الى هناك وكأن هذا الكلام طعنات معنوية تنزل عليهم، فتذبحهم ذبحاً معنوياً.

فان كانت هذه غيرة قومية وحمية ملية، فاني استعيذ باللّه مائة ألف مرة من هذه الحمية والنخوة القومية.

اما الطائفة الرابعة؛ وهم الاطفال، فانهم يطلبون من الحمية القومية الرحمة وينتظرون منها الشفقة عليهم.

وان الايمان باللّه الخالق القدير الرحيم هو الذي يجعل ارواحهم تنبسط، وقابلياتهم تنمو، ومواهبهم تتربى بسعادة ـ بما يكمن فيهم من ضعف وعجز ـ ويستطيعون ان ينظروا الى الحياة نظرة اشتياق بتلقين التوكل الايماني والتسليم الاسلامي تلقيناً يمكّنهم من ان يصمدوا ازاء ما ستجابههم من احوال واهوال.

فهل يمكن ان يعوّض ذلك بتعليم دروس تقدم حضاري لايرتبطون بها الاّ ارتباطاً واهياً، وبتدريس الفلسفة المادية التي لا نور فيها، تلك التي تنقض قواهم المعنوية وتطفئ نور أرواحهم؟

اذ لو كان الانسان عبارة عن جسد حيوان فحسب، غير مالك للعقل، فلربما يُلهي هؤلاء الاطفال الابرياء لهواً مؤقتاً صبيانياً بهذه الاصول الاجنبية وينتفعون منها نفعاً دنيوياً بالتربية الحديثة التي زيّنتموها بالتربية القومية.

ولكن اولئك الابرياء سينزلون حتماً الى حلبة الحياة كأي انسان كان ولاشك انهم سيحملون آمالاً بعيدة جداً في قلوبهم اللطيفة الصغيرة، وستنشأ في عقولهم الصغيرة مقاصد جليلة.

وحيث ان الحقيقة هي هذه، يلزم أن يقرّ في قلوبهم نقطة استناد قوية ونقطة استمداد لاتنضب بترسيخ الايمان بالله وباليوم الآخر. وذلك من مقتضى الشفقة عليهم وهم يحملون عجزاً وفقراً لامنتهى لهما. وبهذا وحده تكون الشفقة عليهم والرحمة بهم. والاّ فان الاشفاق عليهم بسُكر الغيرة القومية وحدها يكون ذبحاً معنوياً لاولئك الصغار الابرياء، كقيام والدة مجنونة بذبح طفلها، بل هو غدر قاسٍ ووحشية ظالمة لهم، كمن يُخرج قلب الطفل ودماغه ويقدمهما له طعاماً لينمو جسده!.

الطائفة الخامسة وهم الضعفاء والفقراء!

فالفقراء الذين يقاسون تكاليف الحياة المرهقة والتي تصبح اكثر ايلاماً بالفقر، والضعفاء المساكين الذين يتألمون اكثر من تقلبات الحياة الهائلة. أليس لهؤلاء حظ من الغيرة القومية؟

وهل حظهم هو في الاعمال التي ترتكبونها تحت ستار التفرنج والتمدن بمدنية فرعونية تزيل حجاب الحياء وتشبع نزوات اغنياء سفهاء وتكون وسيلة لشهرة طغاة أقوياء ظلمة، والتي تزيد يأس هؤلاء البائسين وألمهم؟

ألا إن المرهم الشافي لضماد جرح الفقر لهؤلاء ليس في العنصرية ابداً، بل يؤخذ من صيدلية الاسلام المقدسة، ولاتستمد القوة للضعفاء ومقاومتهم من الفلسفة الطبيعية المظلمة المستندة الى المصادفة العمياء والطبيعة الصماء، بل تستمد من الحمية الاسلامية ومن الامة الاسلامية السامية.

الطائفة السادسة وهم الشباب: لو كانت فتوة هؤلاء الشباب دائمية، لكان للشراب المسكر الذي سقيتموهم اياه بالقومية السلبية منفعة مؤقتة وفائدة دقيقة. ولكن الإفاقة من نشوة الشباب اللذيذة بالشيب وبالآلام، والتنبه من ذلك النوم الممتع في صبح المشيب بالحسرات؛ سيدفع الشاب الى البكاء المرير وتجرّع الآلام من جراء نشوة ذلك الشراب. فضلاً عن ان الألم الذي يشعر به من زوال ذلك الحلم الممتع، سيكون حزناً شديداً عليه، حتى يجعله يتأوه وتذهب نفسه حسرات عليه قائلاً: وآأسفى، لقد ذهب الشباب، ومضى العمر، وسأدخل القبر صفر اليدين، ليتني استرشدت وعدت الى صوابي!

فهل حصة هذه الطائفة من القومية هي متعة مؤقتة في مدة محدودة، ثم دفعهم الى الحسرات والبكاء مدة مديدة؟ أم أن سعادة دنياهم ولذة حياتهم هي في اداء الشكر على نعمة الشباب، بصرف ذلك العهد اللذيذ في الاستقامة ـ لا في السفاهة ـ وذلك لإبقاء ذلك الشباب الفاني ابقاء معنوياً بالعبادة، وللفوز بشباب خالد في دار السعادة الابدية، بالتزام الاستقامة في ذلك العهد.

فان كان لك شعور، ولو بمقدار ذرة، اجب عن هذه الاسئلة.

الحاصل: لو كانت الامة التركية قاصرة على الطائفة السادسة، اي على الشباب وحدهم، وكانت فتوتهم خالدة، وليس لهم دار غير الدنيا، لكانت اعمالكم المشوبة بالتفرنج تحت ستار القومية التركية، تعدّ من الغيرة والحمية القومية، وعندئذٍ كان يمكنكم ان تقولوا لشخص مثلي ممن لايكترث بامور الدنيا الاّ قليلاً، ويعدّ العنصرية داءً وبيلاً ـ كداء السيلان ـ ويسعى لصرف الشبان عن الاهواء والرغبات غير المشروعة، وقد ولد في ديار اخرى، أقول: كان يمكنكم ان تقولوا: انه كردي لاتتبعوه! ولربما تكسبون بقولكم هذا حقاً.

ولكن لما كان أبناء هذا الوطن ـ الذين يطلق عليهم اسم الترك ـ هم ستة اقسام كما بينا آنفاً ـ فان إلحاق الضرر بخمسة اقسام منهم وسلب راحتهم، وحصر راحةٍ دنيوية مؤقتة وخيمة العاقبة في قسم واحد منهم فقط بل اسكارهم بها لاشك انه ليس وفاءً للامة التركية بل هو عداء لها.

نعم! انني من حيث العنصر لا اُعد من الترك، ولكن سعيت ومازلت أسعى بكل ما اوتيت من قوة لصالح المتقين وللمبتلين بالمصائب وللشيوخ وللاطفال وللفقراء من الاتراك، واحاول ايضاً صرف الشباب ـ وهم الطائفة السادسة ـ عن افعال غير مشروعة تسمم حياتهم الدنيوية وتبيد حياتهم الاخروية، وتسوق الى سنة من البكاء على ضحك لم يدم ساعة.

وهذا هو دأبي منذ عشرين سنة ـ وليس في هذه السنين الست او السبع ـ اذ ما نشرته من رسائل باللغة التركية واستلهمتها من نور القرآن الكريم، موجودة امام الجميع.

نعم ان الاثار التي اقتبست من كنز أنوار القرآن الكريم ـ وللّه الحمد - قد أظهرت للمتقين الصالحين النور الذي يحتاجونه بشدة، وبينت للمرضى والمبتلين ان أنجع العلاجات والبلسم الشافي لهم هو في صيدلية القرآن المقدسة، واثبتت ـ بالانوار القرآنية ـ للشيوخ القريبين من باب القبر انه باب رحمة وليس باب اعدام. واستخرجت للأطفال الذين يحملون قلوباً لطيفة رقيقة ـ من كنز القرآن الكريم ـ نقطة استناد قوية جداً تجاه المصائب والمهالك والمضرات وابرزت نقطة استمداد فيها تكون محور آمال ورغبات لاحدّ لها لهم واستفيد منها فعلاً. ورفعت ـ تلك الآثار ـ ثقل تكاليف الحياة المرهقة عن كاهل الفقراء الضعفاء التي ينسحقون تحتها، وذلك بحقائق الايمان القرآنية.

وهكذا فنحن نسعى لنفع هذه الطوائف الخمس من الاقسام الستة من الامة التركية، اما القسم السادس وهم الشباب، فلنا اخوّة صادقة مع الطيبين منهم، علماً انه لا صداقة لنا بأي جهة من الجهات مع من هم من امثالك من الملحدين، لاننا لانعدّ الملحد المنسلخ عن ملة الاسلام ـ التي تضم مفاخر الاتراك الحقيقية ـ انه من الامة التركية، بل نعدّه أجنبياً تستر بستار الترك. فمثل هؤلاء مهما زعموا انهم يدعون الى القومية التركية فانهم لايستطيعون ان يخدعوا اهل الحقيقة، لان أفعالهم وتصرفاتهم تكذّب دعواهم.

فيا ايها الملحدون المتفرنجون الذين يسعون لصرف اخواني الحقيقيين عني بدعاياتكم! ايّ نفع تسدونه لهذه الامة؟ انكم تطفئون نور اهل التقوى والصلاح وهم الطائفة الاولى وتضعون السمّ على جروح من هم أحوج ما يكونون الى الضماد والرحمة، وهم الطائفة الثانية.

وتسلبون سلوان من هم أليق بالاحترام والتوقير، بل تلقوهم في يأس مطلق، وهم الطائفة الثالثة.

وتنقضون كلياً القوة المعنوية لمن هم أحوج ما يكونون الى الشفقة وتطفئون انسانيتهم الحقيقية، وهم الطائفة الرابعة.

وتخيبون آمال من هم أحوج الى التعاون والعزاء حتى تجعلوا الحياة في نظرهم أفزع من الموت، وهم الطائفة الخامسة.

وتسقون في غفلة الشباب شراباً عاقبته وخيمة أليمة، من هم أحوج ما يكونون الى الانتباه والافاقة، وهم الطائفة السادسة.

فهل القومية التي تضحون في سبيلها بكثير من المقدسات هي هذه الامور؟

أهكذا تقدمون النفع الى الاتراك بالقومية؟ أما أنا فاستعيذ باللّه ألف ألف مرة من ذلك.

أيها السادة! اني أعلم انكم عندما تُغلبَون في ميدان الحق تتشبثون بالقوة، ولكن لان القوة في الحق وليس الحق في القوة، فلو جعلتم الدنيا على رأسي ناراً تتأجج، فان هذا الرأس الذي أضحي به فداءً للحقيقة القرآنية لايخضع لكم أبداً.

واني اعلمكم ايضاً ؛ انه لو عاداني ألوفٌ من امثالكم، وليس اناس محدودون مكروهون في نظر الامة، فلا أعير لهم اهمية تذكر اكثر مما اهتم بحيوانات مضرة.

ماذا عساكم ان تفعلوا بي؟

ان اقصى ما يمكنكم فعله هو انهاء حياتي، او إعاقة خدماتي للقرآن. اذ لا تعدو علاقتي بالدنيا هذين الامرين.

نحن نؤمن ايماناً يقينياً بدرجة الشهود ان الاجل لايتغير، وهو مقدّر بقدره تعالى. لذا لا اتراجع قطعاً ان استشهدتُ في سبيل الحق، بل انتظره بشوق عارم. وبخاصة أنا شيخ كبير لا أتوقع ان اعيش اكثر من سنة. فان أعظم ما أبغيه هو الفوز بعمر باق بالشهادة بدلاً عن هذا العمر الظاهري.

اما من حيث العمل للقرآن الكريم؛ فلقد وهب لي الله سبحانه وتعالى برحمته؛ اخواناً ميامين في العمل للقرآن والايمان. وستؤدي تلك الخدمة الايمانية عند مماتي في مراكز كثيرة بدلاً من مركز واحد. ولو اسكت الموتُ لساني فستنطلق ألسنة قوية بالنطق بدلاً عني وتديم تلك الخدمة.

بل استطيع القول:

ان بذرة واحدة تحت التراب تنشئ بموتها حياة سنبلة وتتقلد مائة من الحبات الوظيفة بدلاً عن حبة واحدة.

فآمل ان يكون موتي كذلك وسيلة لخدمة القرآن اكثر من حياتي.

الدسيسة الشيطانية الخامسة

ان الموالين للضلالة يرومون سحب اخواني عني مستفيدين من الانانية والغرور الكامن في الانسان، وفي الحقيقة ان اخطر واضعف عرق ينبض في الانسان انما هو عرق الغرور، اذ يمكنهم بالتربيت على ذلك العرق وتلطيفه ان يدفعوه الى كثير من المفاسد.

ياأخواني! كونوا حذرين، لئلا يترصدوكم في هذا الجانب فيصيدوكم من هذا العرق ؛ عرق الغرور.

ان اهل الضلالة في هذا العصر قد امتطوا ((أنا)) فهو يجوب بهم في وديان الضلالة. فأهل الحق لايستطيعون خدمة الحق إلاّ بترك ((أنا)) وحتى لو كانوا على حق وصواب في استعمالهم ((أنا)) فعليهم تركه، لئلا يشبهوا اولئك، اذ يكونون موضع ظنهم انهم مثلهم يعبدون النفس. لذا فان عدم ترك ((أنا)) بخس للحق تجاه خدمة الحق.

زد على ذلك ان الخدمة القرآنية التي اجتمعنا عليها ترفض ((أنا)) وتطلب ((نحن))، فلا تقولوا: أنا! بل قولوا: نحن.

ولاشك انكم قد اقتنعتم ان أخاكم هذا الفقير لم يبرز الى الميدان بـ((أنا))، ولا يجعلكم خداماً لانانيته، بل اراكم نفسه خادماً للقرآن لايملك انانية، فليس هو الا قد اتخذ كما بيّنه لكم ـ مسلك عدم الاعجاب بالنفس وعدم موالاة ((أنا))، فضلاً عن انه قد اثبت لكم بدلائل قاطعة ان الآثار والمؤلفات المعدّة لافادة الناس كافة هي ملك الجميع، اي انها ترشحات من القرآن الكريم لايسع أحد ان يتملكها بأنانيته.

ولنفرض فرضاً محالاً انني اتملك تلك الآثار بأنانيتي، ولكن مادام باب الحقيقة القرآنية هذا قد انفتح ـ كما قال أحد اخواني ـ فينبغي لأهل العلم والكمال ان يغضوا النـظر عن نقائصـي وهـوان شأني ولا يظـلوا مستـغنين عني متردديـن في اسنادي.

وعلى الرغم من ان آثار السلف الصالحين والعلماء المحققين خزينة عظيمة تكفي وتفي بعلاج كل داء. فقد يكون لمفتاح خزينة اهمية اكثر من الخزينة نفسها، لانها مقفولة. وباستطاعة المفتاح فتح خزائن كثيرة.

وأظن ان العلماء الفضلاء الذين لهم غرور علمي قوي، قد أدركوا ايضاً ان ((الكلمات)) المنشورة مفتاح للحقائق القرآنية، وانها سيف ألماسي ينزل على رؤوس اولئك الساعين لإنكار تلك الحقائق.

ألا فليعلم اولئك الحاملون لغرور علمي قوي، انهم لايكونون طلاباً لي بل يكونون طلاباً وتلاميذ للقرآن الحكيم، وانا لا اكون الاّ زميل دراسة معهم. بل حتى لو فرض فرضاً محالاً انني ادّعي الاستاذية، ولكن بما اننا قد وجدنا وسيلة لانقاذ طبقات اهل الايمان كافة من العوام الى الخواص من الشبهات والاوهام التي يتعرضون لها الآن، فعلى اولئك العلماء ان يجدوا وسيلة أيسر منها او يلتزموا هذه الوسيلة ويقوموا بتدريسها وتعهدها.

ان هناك زجراً عظيماً في حق علماء السوء، فليحذر اهل العلم في هذا الزمان حذراً شديداً. فلو افترضتم ـ كما يظن اعداؤنا ـ انني اعمل في هذه الخدمة الايمانية في سبيل ابراز انانيتي وغروري. ولكن هناك اناس كثيرون اجتمعوا حول شخص متفرعن اجتماعاً جاداً خالصاً تاركين غرورهم وعملوا بترابط قوي في سبيل مقصد دنيوي وقومي، أوَ ليس لأخيكم هذا حق في مطالبتكم الاجتماع بتساند وترابط حول الحقائق القرآنية وبترك الانانية، كتساند عرفاء تلك القيادة الدنيوية؟ أوَ ليس اكبر علمائكم غير محق كذلك في عدم تلبية ندائه؟ مع انه يستر أنانيته ويدعو الى الالتفاف حول الحقائق القرآنية والايمانية.

فيا اخواني! ان أخطر جهة من الأنانية في عملنا هذا هو الحسد والغيرة، فاذا لم يكن العمل خالصاً لله وحده، فان الحسد يتدخل فيفسد العمل. فكما ان إحدى يدي الانسان لاتحسد الاخرى ولاتغار منها، وكذا لاتحسد العين اذنه ولايغار قلبُه من عقله، كذلك انتم، فكل منكم في حكم عضو وحاسة في الشخص المعنوي لجماعتنا هذه. فواجبكم الوجداني الاّ يحسد بعضكم بعضاً، بل يفتخر كلٌ منكم بمزايا الآخر ويُنسَرُّ بها.

بقي هناك أمر آخر، وهو أخطر الامور، وهو : وجود الحسد والغيرة فيكم او في احبابكم تجاه أخيكم هذا الفقير. وهذا من اخطر الامور. وفيكم علماء اجلاّء متبحرون، وفي قسم من اهل العلم غرور علمي ولو انه متواضع بالذات، الاّ انه ـ في تلك الجهة ـ مغرور واناني، فلا يدع غروره فوراً. ومهما التزم عقله وتمسّك قلبه بالخدمة الاّ ان نفسه تروم التميز والظهور والشهرة من جراء ذلك الغرور العلمي. بل انها ترغب حتى في اظهار المعارضة للرسائل المكتوبة، وعلى الرغم من ان قلبه يحب الرسائل وان عقله يعجب بها ويجدها رفيعة، فان نفسه تضمر عداءً آتياً من الغيرة العلمية وتتمنى تهوين شأن ((الكلمات)) كي تبلغها نتاجات فكره، وتروّج مثلها، لذا اضطر اضطراراً أن أبلّغ هذا :

ان الذين هم ضمن دائرة هذه الدروس القرآنية، وظيفتهم محصورة ـ من حيث العلوم الايمانية ـ في شرح ((الكلمات)) المكتوبة وايضاحها او تنظيمها، حتى لو كانوا مجتهدين، وعلماء متبحّرين، لانه قد علمنا بامارات كثيرة : اننا موظفون بوظيفة الفتوى في هذه العلوم الايمانية. فلو حاول احدهم ممن هو ضمن دائرتنا ان يكتب شيئاً بما استوحته نفسه من الغرور العلمي ـ خارج نطاق الشرح والايضاح ـ فانه يكون بمثابة معارضة واهية وتقليد مشين. لانه قد تحقق بالادلة والامارات :

ان أجزاء (رسائل النور ) ترشحات من فيض القرآن الكريم، وقد تكفل كل منا ـ على وفق قاعدة توزيع المساعي وتقسيم الاعمال ـ بالقيام بوظيفة من وظائف العمل للقرآن، لنوصل تلك الترشحات الكوثرية الى المحتاجين.

الدسيسة الشيطانية السادسة

وهي استغلال الشيطان حب الراحة والدعة والتطلع الى تسنّم الوظائف لدى الانسان.

نعم! ان شياطين الجن والانس لايدعون ناحية الاّ ويهاجمون منها، فعندما يرون أحداً من أصدقائنا ذا قلب راسخ ووفاء تام ونية خالصة وهمة عالية، يلتفون عليه من جهات عدة ويشنون هجومهم عليه، كالآتي:

انهم يستغلون مالديهم من حب للراحة والدعة ويستفيدون من مكانتهم في الوظائف ليفسدوا علينا مهمتنا، ويعيقوا خدمة القرآن، او ليصرفوهم عن العمل للقرآن بدسائس ومكايد خبيثة الى حد يجدون لقسم منهم اعمالاً كثيرة ليغرقوهم فيها من دون ان يشعروا، كيلا يجدوا متسعاً من الوقت للعمل للقرآن، او يقدّموا لقسم آخر أموراً دنيوية فاتنة ليثيروا فيهم الرغبات والهوى، لتصيبه الغفلة عن الخدمة.. وهكذا.

وعلى كل حال فان طرق الهجوم هذه طويلة، الاّ اننا اختصرناها هنا محيلين الامر الى فطنتكم ونظركم الثاقب.

فيا اخوتي! اعلموا! واحذروا! ان مهمتكم هذه مقدسة وخدمتكم سامية، وان كل ساعة من ساعاتكم ثمينة الى حدٍ يمكن ان تكون بمثابة عبادة يوم كامل.. اعلموا هذا جيداً لئلا تضيع منكم وتفوت.

} يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون{

} ولاتشتروا بآياتي ثمناً قليلاً{

} سبحان ربك رب العزة عمّا يصفون ^ وسلامٌ على المرسلين ^
والحمد لله رب العالمين{

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{

اللهم صلّ وسلم على سيدنا محمد النبي الامي الحبيب العالي القدرِ

العظيم الجاه وعلى آله وصحبه. آمين

ذيل

القسم السادس

الاسئلة الستة



كتب هذا الذيل (للتداول الخاص)، لتجنُّب مايرد في المستقبل من كلمات الاهانة وشعور الكراهية، اي؛ لئلا يصيب بصاق اهانتهم وجوهنا او لمسحه عنها عندما يقال: تباً لرجال ذلك العصر العديمي الغيرة!

وكتب تقريراً ولائحة لترن آذانٌ صمّ، اذان رؤساء اوروبا المتوحشين المتسترين بقناع الانسانية.. ولينغرز في العيون المطموسة، عيون اولئك العديمي الضمير الجائرين الذين سلطوا علينا هؤلاء الظلمة الغدّارين.. وليُنزل صفعةً كالمطرقة على رؤوس عبيد المدنية الدنية التي اذاقت البشرية في هذا العصر آلاماً جهنمية حتى صرخت في كل مكان: لتعش جهنم!



بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} ومَا لَنا ألاّ نَتوكَلَ على الله وقد هَدينا سُبلَنا وَلنصبِرَنّ على ما آذيتُمُونا وعلى الله فليَتوكلِ المُتوكِلوُن{ (ابراهيم:12)

لقد حدثت في الفترة الاخيرة اعتداءات شنيعة كثيرة على حقوق المؤمنين الضعفاء، من الملحدين المتخفين وراء الأستار، واخص بالذكر اعتداءهم عليّ تعدياً صارخاً، باقتحامهم مسجدي الخاص الذي عمّرته بنفسي، وكنا فيه مع ثلة من رفقائي الاعزاء، نؤدي العبادة، ونرفع الاذان والاقامة سراً. فقيل لنا: لِمَ تقيمون الصلاة باللغة العربية وترفعون الاذان سراً؟

نفد صبري في السكوت عليهم:

وها أنذا لا أخاطب هؤلاء السفلة الدنيئين الذين حرموا من الضمير، وليسوا أهلاً للخطاب، بل أخاطب اولئك الرؤساء المتفرعنين في القيادة الذين يلعبون بمقدرات الأمة حسب أهواء طغيانهم. فأقول:

يا أهل الالحاد والبدعة! اني أطالبكم بالاجابة عن ستة اسئلة.

C السؤال الاول:

ان لكل حكومة، مهما كانت، ولكل قوم، بل حتى اولئك الذين يأكلون لحم البشر، بل حتى رئيس أية عصابة شرسة، منهجاً واصولاً ودساتير، يحكمون وفقها.

فعلى اي اساس من دساتيركم وأصولكم تتعدّون هذا التعدي الفاضح. اظهروه لنا. ام انكم تحسبون اهواء عدد من الموظفين الحقراء قانوناً؟

اذ ليس هناك قانون في العالم يسمح بالتدخل في عبادة شخصية خاصة! ولايسنّ قانون في ذلك قطعاً.

C السؤال الثاني:

ان دستور حرية الضمير (حرية المعتقد الديني) مهيمن بصورة عامة في العالم قاطبة، ولاسيما في هذا العصر، عصر الحريات، وبخاصة في نطاق المدنية الحاضرة.

فالى أية قوة تستندون انتم في جرأتكم هذه، بخروجكم على هذا الدستور، واستخفافكم به، مما يُعدّ اهانة للبشرية كلها، واهمالاً لرفضها لعملكم؟ واية قوة لديكم حتى تمسكتم بالالحاد وكأنه دين لكم في الوقت الذي اطلقتم على انفسكم اسم ((اللادينية)) واعلنتم عدم التعرض للدين ولا للالحاد على السواء.

بيد انكم تتعدون على حقوق اهل الدين الى حدٍ كبير، فلاشك ان أعمالكم هذه لن تبقى في طيّ الخفاء، بل ستُسألون عنها. وعندها بماذا تجيبون؟

فها انتم اولاء لاتطيقون رفض أصغر حكومة من الحكومات العشرين واعتراضها عليكم، فكيف بكم تجاه عشرين حكومة يرفضون معاً محاولتكم نقض حرية الضمير بالقوة وبالاكراه وكأنكم لاتحسبون حساب رفضهم.

C السؤال الثالث:

بأي قانون وبأية قاعدة تكلفون من هو شافعي المذهب مثلي، اتباع فتوى تنافي صفاء المذهب الحنفي وسموه، افتى بها علماء السوء الذين باعوا ضمائرهم لمغنم دنيوي.

فلو حاولتم ازالة المذهب الشافعي ـ علماً ان متبعيه في هذا المسلك يعدّون بالملايين ـ وسعيتم لجعلهم احناف، ثم أكرهتموني على اتباع هذه الفتوى اكراهاً بالقوة، ربما يكون ذلك قانوناً ظالماً من قوانين الملحدين امثالكم، والاّ فهو دناءة يقترفها بعضهم حسب أهوائه!.

اننا لسنا تابعين لأهواء امثال هؤلاء، ولانعرفهم اصلاً.

C السؤال الرابع:

اي اصل من اصولكم هذا الذي تستندون اليه في تكليف امثالي - ممن هم من قوم آخرين: ان أقم الصلاة باللغة التركية، بناء على فتوى محرّفة مبتدعة، باسم العنصرية التركية التي تعني التفرنج المنافي كلياً لقومية وأعراف وعادات هذه الامة التي امتزجت واتحدت بالاسلام منذ القدم واحترمته.

وعلى الرغم من انني على علاقة وثيقة وصداقة صميمة واخوة خالصة بالاتراك الحقيقيين، فاني لست على علاقة ابداً مع الدعوة القومية لأمثالكم من المتفرنجين.

فكيف تكلفوني بذلك؟ وبأي قانون؟

ان الاكراد الذين يبلغ تعدادهم الملايين، لم ينسوا قوميتهم ولا لسانهم منذ الوف السنين، وكانوا اخوة حقيقيين للاتراك في الوطن، ورفاقهم في سوح الجهاد منذ سالف العصور، اقول : إن أزلتم قوميتهم وأنسيتموهم لسانهم، فلربما يكون تكليفكم هذا لأمثالنا ـ ممن يعدّون من عنصر آخر ـ دستوراً همجياً من دساتيركم. والاّ فهو مجرد هوى وتصرف اعتباطي لا غير.

ألا ان اهواء الاشخاص لاتتبع، ولانتبعها نحن.

C السؤال الخامس:

ان أية حكومة كانت لها ان تطبق قوانينها على رعيتها ومن تعدّهم من رعاياها، ولكنها لاتستطيع ان تجري قوانينها على من لا تعدّهم من رعاياها، لان اولئك يقولون:

لما لم نكن من رعاياكم، فلستم حكومتنا كذلك.

زد على ذلك ان عقابين اثنين لاينزلان في آن واحد على شخص، في دولة من الدول. فاِما ان يُعدم القاتل، او يُلقى به في السجن، ولايجوز تنفيذ السجن والاعدام معاً عليه.

وفي ضوء هذا. فانني لم ألحق اي ضرر كان للوطن او الامة ومع ذلك فقد وضعتموني في الاسر طوال ثماني سنوات، وعاملتموني معاملة لايعامل بها حتى من كان مجرماً حقاً ومن قوم آخرين، بل من أبعد الاجانب عن البلاد.

ولقد سلبتموني حريتي، واسقطتموني من الحقوق المدنية، مع انكم أصدرتم العفو عن المجرمين، ولم يقل أحدٌ منكم: ان هذا الشخص ايضاً من ابناء هذا الوطن.

فبأي قانون من قوانينكم تكلفون شخصاً غريباً عنكم مثلي من كل جهة بدساتيركم هذه المناقضة للحرية والتي طبقتموها على أمتكم المنكوبة خلاف رضاهم؟

ولما كنتم قد اعتبرتم البطولات الجسام في سبيل الحفاظ على الوطن والجهاد بالنفس والنفيس ـ التي أصبحتُ وسيلة لها بشهادة قواد الجيش في الحرب العالمية الاولى(1) ـ اعتبرتموها جريمة، كما اعتبرتم السعي الجاد للحفاظ على الاخلاق الفاضلة للامة المنكوبة، وضمان سعادتها الدنيوية والاخروية خيانة .

ومادمتم قد عاقبتم من لايرضى ان يطبق في نفسه اصولكم ومنهجكم المتفرنج الالحادي الذي لانفع فيه بل ملؤه الضرر والهلاك، بثماني سنوات من الحياة تحت المراقبة والترصد (والان اصبحت ثمانياً وعشرين سنة)، مع ان العقاب لايكون الاّ واحداً، فرفضته. ولكنكم اكرهتموني عليه واذقتموني إياه.

فبأي قانون تنزلون بي عقاباً آخر؟

C السؤال السادس:

انكم ترون ان لنا خلافاً ومعارضة كلية معكم، ومعاملاتكم القاسية شاهدة على ذلك. فانتم تضحون بدينكم وآخرتكم في سبيل دنياكم. ونحن بدورنا مستعدون على الدوام للتضحية بدنيانا في سبيل ديننا، وفي سبيل آخرتنا، وهذا هو سر المعارضة التي بيننا حسب ظنكم.

ولاجرم ان التضحية ببضع سنين من حياتنا التي تمضي في ذل وهوان في ظل حكمكم القاسي قساوة الوحوش لنكسب بها شهادة خالصة في سبيل الله، تعدّ ماء كوثر لنا.

ولكن استناداً الى فيض القرآن الحكيم واشاراته، اخبركم بالآتي لترتعد فرائصكم:

انكم لن تعيشوا بعد قتلي، فان يداً قاهرة ستأخذكم من دنياكم التي هي جنتكم وانتم مغرمون بها، وتطردكم عنها، وتقذف بكم فوراً الى ظلمات ابدية، وسيقتل بعدي رؤساءكم الذين تَنمرَدوا وطغوا قتلة الدواب، ويُرسَلون اليّ، وسأمسك بخناقهم امام الحضرة الإلهية، وسآخذ حقي منهم بإلقاء العدالة الإلهية اياهم في اسفل سافلين.

ايها الشقاة الذين باعوا دينهم وآخرتهم بحطام الدنيا!

ان كنتم تريدون ان تعيشوا حقاً فلا تتعرضوا لي ولاتمسّوني بسوء، وان تعرضتم فاعلموا ان ثأري سيؤخذ منكم أضعافاً مضاعفة.

اعلموا هذا جيداً ولترتعد فرائصكم!

واني آمل من رحمة الله سبحانه ان موتي سيخدم الدين اكثر من حياتي، وان وفاتي ستنفلق على رؤوسكم انفلاق القنبلة، وستشتت رؤوسكم وتبعثرها.

فان كانت لكم جرأة، فتعرضوا لي، فلئن كان لكم ما تفعلونه بي، لتَعلمُنّ ان لكم ما تنتظرونه وتلاقونه من عقاب.

اما أنا فسأتلو بكل ما أملك من قوة هذه الآية الكريمة ازاء جميع تهديداتكم :

} الذينَ قَالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لكُمْ فَاخشَوهُم فَزادَهُمْ اِيماناً وَقَالوُا حَسبُنَا الله وَنِعمَ الوَكيلُ{ (آل عمران:173).

القسم السابع

وهو الأشارات السبع



بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} فآمِنُوا باللّه ورَسُولهِ النبيّ الأُميّ الذي يُؤمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتهِ وَاتَّبِعوهُ لَعَلّكُم تَهتَدُون{ (الاعراف:158)

} يُريدُونَ أنْ يُطفِئُوا نُورَ الله بِافواهِهم وَيَأبَى الله إلاّ أنْ يُتِم نُورَهُ وَلَو كَرِهَ الكافِروُن{ (التوبة:32)

هذا القسم عبارة عن سبع إشارات، كتب جواباً عن ثلاثة اسئلة، والسؤال الاول منها يتضمن اربع اشارات .



C الاشارة الاولى: ان مـستند الذين يحـاولون تـغيــيـر الشـعـائر الاسـلامية وتبــديلـها، وحجتهم نابعة من تقليد الاجانب تقليداً أعمى، كما هو في كل الامور الفاسدة. فهم يقولون :

(( ان المهتدين في لندن، والذين دخلوا في حظيرة الايمان من الاجانب يترجمون كثيراً من الامور امثال الأذان والاقامة للصلاة، الى ألسنتهم، ويعملون بها في بلادهم، والعالم الاسلامي ازاء عملهم هذا ساكت، لا يعترض عليهم، فاذاً هناك جواز شرعي في عملهم هذا بحيث يجعلهم يلزمون الصمت ازاءه!)).

الجـواب: ان الفرق في هذا القياس ظاهر جداً، وليس من شأن ذي شعور تقليدهم، وقياس الامور عليهم مهما كان. لأن بلاد الاجانب يطلق عليها في لسان الشريعة ((دار الحرب)). فكثير من الامور لها جواز شرعي في ((دار الحرب))، ولامساغ لها في ((دار الاسلام)).

ثم ان بلاد الافرنج تتميز بقوة النصرانية وشوكتها. فليس هناك محيط يلقّن بلسان الحال ما يشيع مفاهيم الكلمات المقدسة ومعاني الاصطلاحات الشرعية، لذا فبالضرورة رُجحّت المعاني القدسية على الالفاظ المقدسة، اي تُركت الالفاظ حفاظاً على المعاني، اي اختير أخف الضررين، واهون الشرين.

اما في ((دار الاسلام))؛ فان المحيط يرشد ويلقن المسلمين بلسان الحال المعاني الاجمالية لتلك الكلمات المقدسة، إذ ان جميع المحاورات، والمسائل الدائرة بين المسلمين حول الاعراف والعادات والتاريخ الاسلامي، والشعائر الاسلامية عامة، وأركان الاسلام كافة تلقّن باستمرار المعاني المجملة لتلك الكلمات المقدسة لأهل الايمان. حتى ان معابد هذه البلاد ومدارسها الدينية، بل حتى شواهد القبور في المقابر، تؤدي مهمة ملقن ومعلّم تُذكّر المؤمنين بتلك المعاني المقدسة. فيا ترى إن مَن يعدّ نفسه مسلماً، ويتعلم يومياً خمسين كلمة من الكلمات الاجنبية في سبيل مصلحة دنيوية؛ ان لم يتعلم فيخمسين سنة مايكررها كل يوم خمسين مرة من الكلمات المقدسة، امثال (سبحان الله والحمدلله ولا إله إلاّ الله والله أكبر) ألا يتردى الى ادنى من الحيوان بخمسين مرة؟ ألا إن هذه الكلمات المقدسة لاتحرّف، ولاتُترجم، ولاتهجّر لأجل هؤلاء الانعام!. بل ان هجر هذه الكلمات وتحريفها ما هو الاّ نقض لشواهد القبور كلها وتسويتها بالتراب وإعراض عن الاجداد، واهانة لهم، واتخاذهم اعداءاً .. وعليه فهم يرتعدون في قبورهم من هول هذا التحقير والاهانة.

ان علماء السوء الذين انخدعوا بالملحدين، يقولون تغريراً بالامة : لقد قال الامام الاعظم (ابو حنيفة النعمان): ((يجوز قراءة ترجمة الفاتحة بالفارسية، ان وجدت الحاجة، وحسب درجة الحاجة، لمن لايعرف العربية اصلاً، في الديار البعيدة)). فبناءً على هذه الفتوى، ونحن محتاجون، فلنا اذاً ان نقرأها بالتركية(1).

الجـواب: ان جميع الائمة العظام ـ سوى الامام الاعظم ـ والائمة الاثنى عشر المجتهدين، كلهم يفتون خلاف فتوى الامام الاعظم هذه. وان الجادة الكبرى للعالم الاسلامي هي التي سلكها اولئك الائمة العظام كلهم. فالامة العظيمة لاتسير الاّ في الجادة الكبرى. فالذين يريدون ان يسوقوها الى طريق مخصوصة وضيقة انما يضلون الناس.

ان فتوى الامام الاعظم، فتوى خاصة بخمس جهات:

الاولى: انها تخص اولئك القاطنين في دار اخرى، وبلاد بعيدة عن مركز دار الاسلام.

الثانية: انها مبنية على الحاجة الحقيقية.

الثالثة: انها خاصة بترجمتها الى الفارسية، التي تعد ـ في رواية ـ من لسان اهل الجنة.

الرابعة: انها حكم بالجواز خصيصاً لسورة الفاتحة، لئلا يترك الصلاة من لايعرف سورة الفاتحة.

الخامسة: لقد أظهر الجواز ليكون باعثاً لفهم العوام المعاني المقدسة ـ بحمية اسلامية نابعة عن قوة الايمان ـ والحال ان ترك أصلها العربي، وترجمتها بدافع الهدم الناشئ من ضعف الايمان، والنابع من فكر العنصرية والنفور من لسان العربية ـ الناجمة من ضعف الايمان ـ ما هو الاّ دفع للناس الى ترك الدين والخروج عليه.

C الاشـارة الثانيـة: ان اهـل البدعة الذين يغـيّرون الشعائر الاسلامية، طلبوا اولاً فتوى من علماء السوء لتسويغ عملهم. فدلّوهم على الفتوى السابقة التي بيّنا انها فتوى خاصة بخمسة وجوه.

ثانياً: ان اهل البدعة قد استوحوا فكراً مشؤوماً من الانقلابيين الاجانب، وهو:

ان اوروبا لم يعجبها مذهب الكاثوليك. فالتزم الثوار والانقلابيون والفلاسفة قبل الناس مذهب البروتستانية الذي كان يعدّ من البدع والاعتزال، حسب مذهب الكاثوليكية، وقد استفادوا من الثورة الفرنسية، فهدموا قسماً من الكاثوليكية، واعلنوا البروتستانية.

فادعياء الحمية هنا، في هذه البلاد، وقد اعتادوا التقليد الاعمى، يقولون: ((لما كان هذا الانقلاب قد حدث في الديانة النصرانية، وقد عُدّ الانقلابيون في بداية الامر مرتدين، ثم قُبلوا ايضاً نصارى، فيمكن إذن ان يحدث في الاسلام ايضاً انقلاب ديني كهذا)).

الجواب: ان الفرق في هذا القياس أظهر مما في الاشارة الاولى، لأن: الاسس الدينية في النصرانية قد اُخذت وحدها عن سيدنا عيسى عليه السلام. بينما اكثر الاحكام التي تعود الى الحياة الاجتماعية والفروع الشرعية قد وضعت من قبل الحواريين، وبقية الرؤساء الروحانيين، وأخذ القسم الاعظم منها من الكتب المقدسة السابقة. لأن سيدنا عيسى عليه السلام، لم يَتول الحكم والسلطة، ولم يكن مرجعاً للقوانين الاجتماعية العامة، فلذلك أخذت القوانين العرفية والدساتير المدنية باسم الشريعة النصرانية، وكأن أسس دينه قد ألبست ثياباً من الخارج وأعطيت لها صورة اخرى. فلو بدّلت هذه الصورة وغيّرت تلك الثياب فان أسس دينه لاتتبدل. ولايؤدي هذا الامر الى تكذيبه وانكاره.

بينما سيدنا الرسول e الذي هو صاحب الدين والشريعة الاسلامية هو فخر العالم وسيد العالمين، واصبح كلٌ من الشرق والغرب والاندلس والهند عرشاً من عروش سلطانه، فكما انه e قد بين ـــ بذاته ـــ أسس الاسلام، فان فروع ذلك الدين ودساتير أحكامه، بل حتى أصغر أمر جزئي من آدابه هو الذي أتى به، وهو الذي يخبر عنه وهو الذي يأمر به، بمعنى ان الامور الفرعية في الشريعة الاسلامية ليست على صورة لباس وثياب قابلة للتغيير والتبديل. بحيث لو بدّلت لظلت أسس الدين ثابتة، بل انها جسد تلك الاسس وفي الاقل جلدها. اذ قد امتزجت والتحمت معها بحيث لاتقبل التفريق والفصل. وان تبديلها مباشرة يؤدي الى تكذيب صاحب الشريعة وانكاره.

اما اختلاف المذاهب فقد نشأ من اسلوب فهم الدساتير النظرية التي بيّنها صاحب الشريعة. والدساتير التي هي ((المحكمات)) والتي تسمى بالضروريات الدينية، فلا تقبل التأويل، ولا التبديل قطعاً بأي صورة كانت من الصور، ولن تكون موضع اجتهاد ابداً. فمن بدّلها فقد خرج على الدين وكان ضمن القاعدة: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من القوس).

ان اهل البدع لأجل تبرير الحادهم، وخروجهم على الدين يجدون هذه الوسيلة، اذ يقولون: لقد شُنّ هجوم على القسس والرؤساء الروحانيين ومذهب الكاثوليكية، الذي هو مذهبهم الخاص، وتم تخريب هذا المذهب في احداث الثورة الفرنسية التي أدت الى سلسلة من حوادث في عالم الانسانية. ثم استصوب هجومهم هذا من قبل الكثيرين، وترقى الافرنج بعد ذلك كثيراً!

الجـواب: ان الفرق في هذا القياس ـ كسابقه ـ فرق ظاهر جداً، لان النصرانية، ولاسيما مذهب الكاثوليك قد استغله رجالات الدولة وخواص الناس كأداة للتحكم والاستبداد. فكان الخواص يديمون نفوذهم على العوام بتلك الوساطة. حتى أصبحت وسيلة لسحق اصحاب الهمم والحمية من العوام الذين كانوا يطلق عليهم اسم؛ (الفوضويين والدهماء)، وباتت وسيلة لسحق المفكرين من دعاة الحرية الذين كانوا يتصدون لاستبداد الخواص ومظالمهم. بل قد عُدّ ذلك المذهب هو السبب في سلب راحة الناس وبث الفوضى في الحياة الاجتماعية، بسبب الثورات التي حدثت في بلاد الافرنج طوال ما يقارب اربعمائة سنة، لذا هوجم ذلك المذهب باسم مذهب آخر للنصرانية لاباسم الالحاد. ونما السخط والعداء عليه لدى طبقة العوام ولدى الفلاسفة، حتى وقعت تلك الحادثة التاريخية المعروفة.

بينما في الاسلام، لايحق لأي مظلوم كان، ولا لأي مفكر كان ان يشكو من الدين المحمدي (على صاحبه الصلاة والسلام) والشريعة الاسلامية، لان هذا الدين لايسخطهم بل يحميهم، وهذا تاريخ الاسلام بين ايدينا، فلم تحدث صراعات دينية طوال التاريخ سوى حادثة او حادثتين. بينما سبّب المذهب الكاثوليكي ثورات داخلية دامت اربعمائة سنة.

ثم ان الاسلام قد اصبح حصناً حصيناً للعوام اكثر منه للخواص، اذ لايجعل الخواص مستبدين على العوام بل يجعلهم خادمين لهم ـ من جهة ـ وذلك بوجوب الزكاة وتحريم الربا. اذ يقول :

((خير الناس أنفعهم للناس))(1) .. ((سيد القوم خادمهم))(2).

فضلاً عن انه يستشهد العقل وينبهه باحالة كثير من الامور ـ في القرآن الكريم ـ الى العقل، ويحثه على التدبر والملاحظة. بقوله تعالى :

[أفلا يتفكرون.. أفلا يتدبرون.. أفلا تعقلون] فيمنح لأهل العلم وارباب الفكر والعقل بهذا مقاماً رفيعاً باسم الدين ويوليهم اهمية خاصة، فلا يعزل العقل، ولايحجر على عقول اهل الفكر ويكمم أفواههم، ولايطلب التقليد الاعمى، كما هو في المذهب الكاثوليكي.

ان اساس النصرانية الحاضرة - لا النصرانية الحقة - واساس الاسلام يفترقان في نقطة مهمة، لذا يسلك كل منهما طريقاً مغايرةً لطريق الآخر في كثير من الجهات الشبيهة بالفروق السابقة. وتلك النقطة المهمة هي:

ان الاسلام دين التوحيد الخالص، يسقط الوسائط والاسباب عن التأثير ويهوّن من شأن أنانية الانسان، مؤسساً العبودية الخالصة لله وحده. فيقطع دابر كل نوع من انواع الربوبيات الباطلة، ويرفضها رفضاً باتاً بدءاً من ربوبية النفس الامارة. لذا لو اصبح أحد الخواص متقياً، لاضطر الى ترك الانانية والغرور. ومن لم يترك الانانية والغرور يتراخ في التدين، بل يدع قسماً من امور الدين.

اما في النصرانية الحاضرة، فلقد ارتضت عقيدة البنوة، لذا تعطي للوسائط والاسباب تأثيراً حقيقياً، ولاتقاوم الانانية باسم الدين، بل تمنح الانانية نوعاً من القداسة، وكأنها وكيل مقدس عن سيدنا عيسى عليه السلام. ولأجل هذا فان خواص النصارى الذين يشغلون أرفع المقامات الدنيوية يستطيعون ان يكونوا متدينين تديناً كاملاً، ومنهم الكثيرون من امثال: (ولسن) وهو الرئيس الأسبق لأمريكا، و(لويد جورج) رئيس الوزراء الاسبق لانكلترا. فهؤلاء أصبحوا متدينين كأي قس متعصب لدينه.

بينما في المسلمين نادراً ما يظل الذين يلجون مثل هذه المقامات على صلابتهم الدينية، وقلما يكونون من اهل التقوى والصلاح، لعدم تركهم الانانية والغرور، والتقوى الحقيقية لاتجتمع والانانية والغرور.

نعم، كما ان تعصب خواص النصارى بدينهم، وتهاون خواص المسلمين بدينهم، يبين فرقاً مهماً ؛ كذلك اتخاذ الفلاسفة الذين برزوا في النصرانية طور المعارض او الاهمال لدينهم، وبناء أغلب الحكماء الذين ظهروا في الاسلام حكمتهم على اسس الدين، يدل على فرق مهم ايضاً.

ثم ان النصارى العوام الذين عانوا البلايا والمصائب وقضوا شطراً من حياتهم في السجون، لم ينتظروا العون من الدين ولم يرجوا منه شيئاً. فكان أكثرهم - في السابق - يضلون ويلحدون. حتى ان الثوار الذين أوقدوا الثورة الفرنسية والذين يطلق عليهم(الدهماء والفوضويون)المشهورون في التاريخ هم من اولئك العوام المنكوبين.

اما في الاسلام، فان الاكثرية المطلقة ممن أفنوا عمراً في السجون وقاسوا البلايا والمصائب ينتظرون العون والمدد من الدين بل يصبحون متدينين.

وهذه الحالة تدل على فرق آخر مهم ايضاً.



C الاشـارة الثـالثــة: يـقـول اهــل الـبـــدع: لـقـد أخـرّنا هـذا التعــصــب الدينــي عــن ركب الحضارة. وان مواكبة العصر بترك التعصب، ولقد تقدمت اوروبا بعد تركها التعصب.

الجواب: انكم مخطئون، وقد انخدعتم، وغُرّر بكم، او تغررون بالناس وتخدعونهم.

ان اوروبا متعصبة بدينها، فلو قلت لشخص بلغاري اعتيادي او لجندي انكليزي، او لشخص سفيه فرنسي: إلبس العمامة، او تلقى في السجن. لقال لكبمقتضى تعصبه: انني لااُهين ديني، ولاأحقر أمتي بمثل هذه الاهانة والتحقير حتى لو قتلتموني.

ثم ان التاريخ شاهد على ان المسلمين ما تمسكوا بدينهم الاّ وترقوا بالنسبة لذلك الزمان، وما أهملوا الدين الاّ تدنوا. بينما النصرانية خلاف هذا. وهذا ايضاً ناشئ من فرق اساسي بينهما.

ثم ان الاسلام لايقاس بغيره من الاديان، لان المسلم اذا انخلع عن الاسلام فلا يؤمن بعدُ بأيّ نبي آخر، بل لا يقرّ بوجوده تعالى، بل لايعتقد بشئ مقدس اصلاً، ولا يجد في وجدانه موضعاً ليكون مبعث الفضائل. اذ يتفسخ وجدانه كلياً. ولأجل هذا فالمرتد عن الاسلام ليس له حق الحياة لتفسخ وجدانه ولأنه يكون كالسم القاتل للمجتمع، بينما الكافر المحارب ـــ في نظر الاسلام ـــ له حق الحياة، فان كان في الخارج وعاهد أو في الداخل وأعطى الجزية. فان حياته مصانة في الاسلام.

اما الملحد من النصارى فيستطيع ان يظل نافعاً للمجتمع، اذ يقبل بعض المقدسات ويؤمن ببعض الانبياء، ويكون مؤمناً بالله من جهة.

فاي مصلحة ياترى يجنيها اهل البدعة - هؤلاء، بل الاصوب اهل الالحاد - في الخروج على الدين؟ فان كانوا يرومون منه أمن البلاد واستتباب النظام فيها، فان ادارة عشرة من الملحدين السفلة الذين لايؤمنون باللّه، ودفع شرورهم أصعب بكثير من ادارة ألف من المؤمنين. وان كانوا يرغبون في الرقي الحضاري، فان امثال هؤلاء الملحدين مثلما يضرون بادارة الدولة فهم يعيقون التقدم ايضاً ؛ اذ يخلّون بالامن والنظام، وهما اساسا الرقي والتجارة. وفي الحقيقة هم مخرّبون بمقتضى مسلكهم. وان أحمق الحمقى في الدنيا هو من ينتظر من امثال هؤلاء الملحدين السفهاء الرقي وسعادة الحياة.

ولقد قال أحد هؤلاء الحمقى، وهو يشغل منصباً مهماً: اننا تأخرنا لقولنا: الله.. الله.. بينما اوروبا تقدمت لقولها : المدفع.. البندقية.!.

ان جواب امثال هؤلاء: السكوت حسب قاعدةL (جواب الاحمق السكوت)) ولكننا نقول قولاً لاولئك العقلاء الشقاة الذين يتبعون امثال هؤلاء الحمقى:

ايها البائسون! هذه الدنيا انما هي دار ضيافة، وان الموت حق، اذ يشهد على ذلك ثلاثون ألف شاهد بجنائزهم يومياً. أتقدرون على قتل الموت؟ أيمكنكم تكذيب هؤلاء الشهود؟ فما دمتم عاجزين عن ذلك فاعلموا ان الموت يدفعكم الى قول: الله.. الله.. فاي من مدافعكم وبنادقكم تتمكن من ان تبدد الظلمات الابدية للمحتضر الذي يعاني السكرات وينور عالمه، بدلاً عن ذكر ((الله.. الله)) واي منها يستطيع ان يبدل يأسه القاتم الى أمل مشرق، غير ذكر ((الله.. الله)).

فما دام الموت موجوداً، وان المصير الى القبر حتماً، وان هذه الحياة ماضية راحلة، وستأتي حياة باقية خالدة، فان قيل : المدفع.. البندقية مرة واحدة فلابد من القول ألف مرة : ((الله.. الله)) بل البندقية نفسها ستقول: ((الله.. الله)) ان كانت في سبيل الله! وسيصرخ المدفع نفسه بـ: الله اكبر. عند الافطار وعند الامساك!.

C الاشارة الرابعة: ان اهل البدع الهدّامين على قسمين :

قسم منهم يظهرون ولاءً للدين، ويقولون: ((اننا نريد تقوية الدين الذي ضعف بغرس شجرته النورانية في تراب القومية))، فيريدون ان يقووا الدين بالقومية. وكأنهم بهذا يخدمون الاسلام.

القسم الثاني؛ ممن يحدثون البدع، فيقولون: اننا نريد تطعيم الامة بلقاحات الاسلام. فيعملون باسم الامة، وفي سبيل القومية، لاجل تقوية العنصرية!

نقول للقسم الاول:

يا علماء السوء البائسين الذين يصدق عليهم اسم ((الصادق الاحمق)).

ويا ايها الصوفيون الجهلاء المجذوبون الفاقدون للعقل:

ان شجرة طوبى الاسلام قد ترسخت عروقها في صلب الكون وحقيقته، وبثت جذورها في ثنايا حقائق الكون كله، فهذه الشجرة العظيمة لايمكن غرسها في تراب العنصرية الموهومة المؤقتة الجزئية الخصوصية السلبية، بل التي لا أساس لها اصلاً وهي المشحونة بالاغراض الظالمة المظلمة. وان السعي لغرسها هناك محاولة بدعية هدامة رعناء.

ونقول للقوميين؛ وهم القسم الثاني من اهل البدع!

يا ادعياء القومية السكارى!

ان العصر السابق، ربما كان يعدّ عصر القومية، اما هذا العصر فليس بعصر القومية، اذ ان مسائل البلشفية والاشتراكية تستحوذ على الافكار، وتحطم مفهوم العنصرية، فلقد ولى عصر العنصرية.

واعلموا ان مليّة الاسلام الدائمة الابدية لا ترتبط مع العنصرية الموقتة المضطربة، ولا تلقح بلقاحاتها.

وحتى لو حدث هذا التطعيم بلقاحات العنصرية فانها تفسد امة الاسلام، ولاتصلح ملية العنصرية ايضاً، ولايبعثها اصلاً.

نعم ان في التطعيم بلقاحات العنصرية ذوقاً موقتاً وقوة موقتة، بل موقتة جداً، وذات عاقبة وخيمة.

ثم - بهذا الامر - سيتولد انشقاق عظيم في امة الترك، انشقاق ابدي غير قابل للالتئام، وحينئذٍ تتلاشى قوة الامة وتذهب هباءً، اذ كل شق يحاول هدم الشق الآخر. فكما إن وجد جبلان في كفتي ميزان، فان قوة ضئيلة جداً تؤدي دوراً مهماً بين تلك القوتين، اذ تقدر ان تنزل احداها الى الاسفل وترفع الاخرى الى الاعلى.

السؤال الثاني: عبارة عن اشارتين:

C الاشـارة الاولى: وهــي الاشــارة الخامســة. وهـي جـواب مختـصر جـداً لسـؤال مهم:

السؤال: هناك روايات صحيحة عديدة حول ظهور المهدي، واصلاحه لهذا العالم بعد فساده في آخر الزمان، إلاّ اننا نعلم ان هذا العصر هو عصر الجماعة، لا الفرد، لأن الفرد مهما أوتي من دهاء - بل حتى لو كان في قوة مائة داهية ـ ولم يكن ممثلاً لجماعة عظيمة، ولم يكن معبراً عن الشخصية المعنوية لها، فانه مغلوب أمام قوة الشخصية المعنوية للجماعة المناوئة له. فكيف اذاً يمكن (للمهدي) - مهما بلغ من قوة الولاية ـ ان يقوم بالاصلاح في هذا الزمان الذي استشري فيه الفساد وعمّ المجتمعات البشرية، وان كانت أعماله كلها خارقة للعادة لخالفت اذاً الحكمة الإلهية الجارية في الكون وسننه المطردة فيها. والخلاصة نريد ان نفهم سرّ مسألة (المهدي).

الجواب: ان الله سبحانه وتعالى، لكمال رحمته، ودليل حمايته للشريعة الاسلامية واستمراريتها وخلودها، قد أرسل في كل فترة من فترات فساد الأمة مصلحاً، أو مجدداً، او خليفة عظيماً، او قطباً أعظم، او مرشداً كاملاً من الاشخاص العظام الأفذاذ ممن يشبهون المهدي، فـازال الفساد،واصلح الامة وحافـظ على الدين.

وما دامت سنة الله قد جرت هكذا، مما لاشك فيه انه سبحانه وتعالى سيبعث في أشد أوقات الفساد، في آخر الزمان، من هو أعظم مجتهد وأعظم مجدد، واعظم قطب، ويكون في الوقت نفسه حاكماً ومهدياً ومرشداً، وسيكون من اهل البيت النبوي.

وان القدير الذي يملأ ما بين السماء والارض بالسحب، ثم يفرغه في دقيقة واحدة لقادر على تهدئة عواصف البحر الجامحة في طرفة عين.. وان القدير ذا الجلال الذي يوجد في ساعة من ايام الربيع نموذج فصل الصيف، ويوجد في ساعة من ايام الصيف زوبعة من زوابع الشتاء، لقادر على تبديد الظلمات المتراكمة في سماء العالم الاسلامي والمخاطر المحدقة به على يدي (المهدي) وقد وَعدَنا بذلك، وهو منجزٌ وعده لامحالة.

وهكذا، اذا ما نظرنا الى هذه المسألة من زاوية دائرة القدرة الإلهية فهي في منتهى السهولة، واذا مانظرنا اليها وتأملنا فيها من زاوية دائرة الاسباب والحكمة الربانية فهي ايضاً في غاية السهولة - بل هو اقرب وأولى شئ للحدوث ـــ حتى قرر أرباب الفكر والنظر على ان الحكمة الربانية تقتضي هكذا، وسيكون حتماً، حتى وإن لم توجد رواية عن المخبر الصادق e في شأنه اي ان مجيئه أمر لازم وضروري. ذلك لان دعاء:

(اللهم صلّ على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم في العالمين انك حميد مجيد)..

الذي تكرره الامة، في صلواتهم جميعها، كل يوم خمس مرات في الاقل، وثبت قبوله بالمشاهدة، فان آل محمد e كآل ابراهيم عليه السلام كانوا يتبؤون مركز الصدارة والزعامة دوماً وفي مقدمة جميع السلالات المباركة في مختلف الاعصار والاقطار(1)، وهؤلاء الأبطال من الكثرة، بحيث ان مجموعهم يشكل جيشاً عظيماً جداً.

فاذا ما اتحد هؤلاء السادة وتعاضدوا فعلياً وتساندوا فيما بينهم تسانداً جاداً، وكوّنوا من أنفسهم فرقة موحدة بالفعل، جاعلين الدين الاسلامي الرابطة المقدسة للأمة ومدار صحوتها، فلايمكن لجيش أية امة في العالم أن يصمد أمامهم.

فذلك الجيش الضخم العرمرم، ذو القوة والسطوة هو آل محمد e وهو أخصّ جيش من جيوش (المهدي).

نعم! انه ليس هناك نسل من أنسال البشرية وسلالاتها في تأريخ العالم اليوم، له من القوة والأهمية، والذي امتاز بأعلى مراتب الشرف والحسب الرفيع والنسب العريق، واتصل بمنشئها بالشجرة والمسانيد والاعراف، مثل السادة الذين حظوا بالانتساب الى الدوحة النبوية السامية، آل البيت.

لقد كان هؤلاء السادة دوماً، منذ سالف العصور، رواد كل فرقة من فرق أهل الحقيقة، وزعماء اهل الكمال المشاهير ايضاً. واليوم هم النسل المبارك الطيب الذين يربون على الملايين، وهم المتيقظون ذوو القلوب العامرة والطافحة بالحب النبوي، حظوا بالانتساب الى الدوحة الطاهرة الزكية.. وتتهيأ الحادثات العظام التي ستدفع الى ايقاظ واثارة هذه القوة المقدسة التي تنطوي عليها نفوس هذه الجماعة العظيمة.

فلابد ان تثور تلك الحمية السامية الكامنة لتلك القوة العظيمة، وسيأخذ (المهدي) زمام القيادة ويقودها الى طريق الحق والحقيقة.

ونحن ننتظر من سنته، ومن رحمته تعالى ـ انتظارنا للربيع عقب هذا الشتاء ـ وقوع هذا الحدث العظيم، ونحن محقون في هذا الانتظار.

C الاشارة الثانية: أي؛ الاشارة السادسة:

ان جماعة السيد المهدي النورانية ستصلح وتعمّر ما أفسده نظام السفياني البدعي الهدام، وتحيي السنة النبوية. أي: ان جماعة السفياني الساعية لهدم الشريعة الأحمدية ـ بنية انكار الرسالة الأحمدية في عالم الاسلام ـ ستُقتل وتُبدّد بالسيف المعنوي المعجز لجماعة السيد المهدي.

ثم ان جماعة نصرانية غيورة فدائية ـ ممن يستحقون اسم ((النصرانيون المسلمون)) ـ تسعى هذه الجماعة للجمع والتوفيق بين الدين الحقيقي لسيدنا عيسى عليه السلام وحقائق الاسلام. وتحت رئاسة سيدنا عيسى عليه السلام تقوم هذه الجماعة بتقويض نظام الدجال وقتل قيادته، تلك القيادة التي تدمّر المدنية والمقدسات البشرية وتجعلها هباءً منثوراً بنية انكار الالوهية في عالم الانسانية. وبهذا تنجي تلك الجماعة بقيادة سيدنا عيسى عليه السلام، البشرية من ويلات انكار الالوهية.

ان هذا السر طويل جداً، اكتفيت بهذه الاشارة القصيرة، حيث قد ذكرنا فيه نبذاً في مواضع أخرى.

C الاشارة السابعة: أي: السؤال الثالث:

يقولون: ان دفاعاتك السابقة، واسلوب جهادك في سبيل الاسلام، ليس هو بما عليه في الوقت الحاضر، ثم انك لاتسلك سلوك المفكرين الذين يدافعون عن الاسلام تجاه أوروبا. فلماذا غيّرت طور (سعيد القديم)؟ ولِمَ لاتجاهد باسلوب المجاهدين المعنويين العظام؟.

الجواب: ان (سعيداً القديم) والمفكرين، قد ارتضوا بقسم من دساتير الفلسفة البشرية، أي يقبلون شيئاً منها، ويبارزونهم باسلحتهم، ويعدّون قسماً من دساتيرها كأنها العلوم الحديثة فيسلّمون بها. ولهذا لايتمكنون من اعطاء الصورة الحقيقية للاسلام على تلك الصورة من العمل. اذ يطعّمون شجرة الاسلام باغصان الحكمة التي يظنونها عميقة الجذور. وكأنهم بهذا يقوون الاسلام.

ولكن لما كان الظهور على الاعداء بهذا النمط من العمل قليل، ولأن فيه شيئاً من التهوين لشأن الاسلام. فقد تركت ذلك المسلك. وأظهرت فعلاً: ان أسس الاسلام عريقة وغائرة الى درجة لاتبلغها ابداً أعمق أسس الفلسفة، بل تظل سطحية تجاهها.

ولقد أظهرت هذه الحقيقة ببراهينها (الكلمة الثلاثون) و (المكتوب الرابع والعشرون) و (الكلمة التاسعة والعشرون).

ففي المسلك السابق؛ يُظن الفلسفة عميقة، بينما الاحكام الاسلامية ظاهرية سطحية، لذا يتشبث باغصان الفلسفة للحفاظ على الاسلام.

ولكن هيهات! أنّى لدساتير الفلسفة من بلوغ تلك الاحكام.

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{

} الحمد لله الذي هدينا لهذا وما كنا لنهتدي لولا ان هدينا الله لقد جآءتْ رُسُل ربنا بالحق{

اللهم صلّ على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا ابراهيم وعلى آل ابراهيم في العالمين انك حميد مجيد.

القسم الثامن

الرموز الثمانية

عبارة عن ثماني رسائل صغيرة ، ستنشر كرسالة مستقلة ان شاء الله لذا لم تدرج هنا.

القسم التاسع

التلويحات التسعة



بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} الا إن اولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون{ (يونس: 62)

(هذا القسم يخص طرق الولاية وهي تسعة تلويحات)(1)

C التلويح الاول:

هناك تحت عناوين " التصوف، والطريقة، والولاية، والسير والسلوك" حقيقة روحانية نورانية مقدسة، طافحة باللذة والنشوة، اعلن عنها كثير من علماء ارباب الكشف والأذواق وتناولوها بالدرس والتمحيص والتعريف، فكتبوا آلاف المجلدات حولها فأخبروا الامة واخبرونا بها، جزاهم الله خيرا كثيرا.

ونحن هنا سنبين بضع رشحات في ضوء ما تلجئنا اليه الاحوال الحاضرة، فهي بمثابة بضع قطرات من بحر تلك الحقيقة الزاخر.

سؤال: ما الطريقة؟

الجواب: ان غاية ((الطريقة)) وهدفها هو معرفة الحقائق الايمانية والقرآنية، ونيلها عبر السير والسلوك الروحاني في ظل المعراج الاحمدي وتحت رايته، بخطوات القلب وصولا الى حالة وجدانية وذوقية بما يشبه الشهود. فالطريقة والتصوف سر انساني رفيع وكمال بشري سام.

اجل!لمّا كان الانسان خلاصة جامعة لهذا الكون، فان قلبه بمثابة خريطة معنوية لآلاف العوالم، اذ كما ان دماغ الانسان - الشبيه بمجمع مركزي للبث والاستقبال السلكي واللاسلكي - وهو بمثابة مركز معنوي لهذا الكون، يستقبل ما في الكون من علوم وفنون ويكشف عنها و يبثها ايضاً، فان قلب الانسان كذلك هو محور لما في الكون من حقائق لا تحد، ومظهر لها، بل هو نواتها. كما بيّن ذلك من لا يحصرهم العد من اهل الولاية فيما سطروه من ملايين الكتب الباهرة.

فما دام قلب الانسان ودماغه لهما هذه المنزلة والموقع، وقد ادرجت في القلب آلاف من مكائن اخروية ضخمة واجهزتها الابدية، كاندراج اجهزة الشجرة الضخمة في بذرتها، فان فاطر ذلك القلب الذي خلقه على هذه الصورة قد اراد تشغيل هذا القلب وتحريكه والكشف عن قدراته والانتقال به من طور ((القوة)) الى طور ((الفعل)).

فما دام سبحانه وتعالى قد اراد هكذا، فعلى القلب اذن ان يقوم بعمله الذي خلق من اجله، كما يقوم العقل بعمله، ولا شك ان اعظم وسيلة لعمل القلب وتشغيله هو التوجه الى الحقائق الايمانية بالاقبال على ذكر الله ضمن مراتب الولاية عبر سبيل ((الطريقة)).

C التلويح الثاني:

ان مفاتيح هذا السير والسلوك القلبي ووسائل التحرك الروحاني ان هي الا ((ذكر الله)) و ((التفكر)) فمحاسن الذكر وفضائل التفكر لا تحصى. فلو صرفنا النظر عن فوائدهما الاخروية التي لا حد لها ونتائجهما في رقي الانسانية الى الكمالات، واخذنا بنظر الاعتبار فائدة واحدة من فوائدهما الجزئية التي يعود نفعها على الانسان في هذه الحياة الدنيوية المضطربة نرى:

ان اي انسان كان لا بد ان يبحث عن سلوان، ويفتش عن ذوق ويتحرى عن انيس يستطيع ان يزيل عنه وحشته ويخفف عنه ثقل هذه الحياة، ويتخفف من غلوائها، ولو جزئياً

وحيث ان ما يهيؤه المجتمع الحضاري من الوسائل المسلية والانس بالآخرين قد تمنح واحداً او اثنين من عشرة من الناس ُانسا موقتا بل ذا غفلة وذهول، والثمانين بالمائة من الناس اما انهم يحيون منفردين بين الجبال والوديان، او ساقتهم هموم العيش الى اماكن نائية موحشة، او ابتلوا بالمصائب او الشيخوخة النذيرة بالآخرة... فهؤلاء جميعاً يظلون محرومين من الانس فلا يأنسون ولا يجدون العزاء بوسائل المجتمع الحضارية!.. لذا فالسلوان الكامل لأمثال هؤلاء، والانس الخالص لهم ليس الا في تشغيل القلب بوسائل الذكر والتفكر.. ففي الاصقاع النائية، وبين شعاب الجبال، وعبر مهاوي الوديان يتوجه الى قلبه مردداً: ((الله .. الله)) مستأنساً بهذا الذكر، ومتفكراً فيما حوله من الاشياء التي يتوجس منها خيفة وتوحي اليه بالوحشة، فإذا بالذكر يضفي عليه الانس والمودة، واذا بالذاكر يقول: ان لخالقي الذي اذكره عباداً لا حد لهم منتشرين في جميع الارجاء فهم كثيرون جداً.. اذن فانا لست وحيداً، فلا داعي للاستيحاش، ولا معنى له.. وبذلك يذوق معنى الانس في هذه الحياة الايمانية، ويلمس سعادة الحياة فيزداد شكره لربه.

C التلويح الثالث:

ان الولاية حجة الرسالة، وان الطريقة برهان الشريعة، ذلك لان ما بلغته الرسالة من الحقائق الايمانية تراها ((الولاية)) بدرجة ((عين اليقين)) بشهود قلبي وتذوق روحاني فتصدّقها، وتصديقها هذا حجة قاطعة لأحقية الرسالة.

وان ما جاءت به ((الشريعة)) من حقائق الاحكام، فان ((الطريقة)) برهان على أحقية تلك الاحكام، وعلى صدورها من الحق تبارك وتعالى بما استفاضت منها واستفادت بكشفياتها واذواقها.

نعم، فكما ان ((الولاية والطريقة)) هما حجتان على أحقية ((الرسالة والشريعة)) ودليلان عليهما، فانهما كذلك سر كمال الاسلام، ومحور انواره، وهما معدن سمو الانسانية ورقيها ومنبع فيوضاتها بأنوار الاسلام وتجليات اضوائه.

ولكن على الرغم مما فيهما من اهمية قصوى فقد انحاز قسم من الفرق الضالة الى انكار اهميتهما، فحرموا الآخرين من انوار هم محرومون منها. ومما يؤسف له بالغ الاسف ان عددا من علماء اهل السنة والجماعة الذين يحكمون على الظاهر وقسما من اهل السياسة الغافلين المنسوبين الى اهل السنة والجماعة يسعون لإيصاد ابواب تلك الخزينة العظمى، خزينة الولاية والطريقة، متذرعين بما يرونه من اخطاء قسم من اهل الطريقة وسوء تصرفاتهم، بل يبذلون جهدهم لهدمها وتدميرها وتجفيف ذلك النبع الفياض بالكوثر الباعث على الحياة، علماً انه يندر ان يوجد في الاشياء او في المناهج او المسالك ما هو مبرأ من النقص والقصور، وان تكون جوانبه كلها حسنة صالحة، فلا بد اذاً من حدوث نقص وأخطاء وسوء تصرف، اذ ما دخل امراً من ليسوا من أهله الا اساؤا اليه. ولكن الله تعالى يظهر عدالته الربانية في الاخرة على وفق موازنة الاعمال وتقويمها، برجحان الحسنات او السيئات، فمن رجحت حسناته وثقلت، فله الثواب الحسن وتقبل اعماله، ومن رجحت سيئاته وخفت حسناته فله العقاب وتُردّ اعماله، علما انه لا تؤخذ ((كمية)) الاعمال بنظر الاعتبار في هذه الموازنة مثلما ينظر الى ((النوعية)). فربّ حسنة واحدة ترجح الف سيئة بل قد تذهبها وتمحوها وتكون سبباً في انقاذ صاحبها.

فما دامت العدالة الإلهية تحكم على وفق هذا الميزان، وان الحقيقة تراها عين الحق، فلا ريب ان حسنات الطريقة التي هي ضمن دائرة السنة المطهرة لهي ارجح من سيئاتها.

ولا ادل على ذلك من احتفاظ اهل الطريقة بايمانهم اثناء هجوم اهل الضلالة، حتى ان منتسباً اعتيادياً مخلصاً من اهل الطريقة يحافظ على نفسه اكثر من اي مدّع كان للعلم. اذ ينقذ ايمانه بما حصل عليه من الذوق الروحي في الطريقة وبما يحمله من حب تجاه الأولياء، فحتى بارتكابه الكبائر لا يكون كافراً وانما يكون فاسقاً، اذ لا يلج صفوف الزندقة بيسر، وليست هناك قوة تستطيع ان تجرح ما ارتضاه من ولاء تجاه سلسلة اقطاب المشايخ الذين ارتبط بهم بمحبة شديدة واعتقاد جازم، وحيث ان الضلالة لا تستطيع ان تفند او تفسد ما لديه من الثقة والاطمئنان بهم، فلن تحل ما لديه من الثقة والرضا بهم، ولن يدخل الكفر والالحاد ما لم يفقد تلك الثقة بهم. فالذي ليس له حظ من الطريقة، ولم يشرع قلبه بالحركة، من الصعوبة بمكان - في هذا الوقت - ان يحافظ على نفسه محافظة تامة امام دسائس الزنادقة الحاليين، ولوكان عالماً مدققاً.

بقي امر آخر هو انه لا يمكن ان تدان ((الطريقة)) ولا يحكم عليها بسيئات مذاهب ومشارب اطلقت على نفسها ظلماً اسم ((الطريقة)) وربما اتخذت لها صورة خارج دائرة التقوى بل خارج نطاق الاسلام.

فلو صرفنا النظر عن النتائج السامية التي تُوصل اليها الطريقة سواء منها الدينية او الاخروية او الروحية، ونظرنا فقط الى نتيجة واحدة منها ضمن نطاق العالم الاسلامي نرى ان ((الطريقة)) هي في مقدمة الوسائل الايمانية التي توسع من دائرة الاخوة الاسلامية بين المسلمين وتبسط لواء رابطتها المقدسة في ارجاء العالم الاسلامي.

وقد كانت الطرق الصوفية وما زالت كذلك احدى القلاع الثلاث التي تتحطم على جدرانها الصلدة هجمات النصارى بسياساتهم ومكايد الذين يسعون لاطفاء نورالاسلام.. فيجب ألاّ ننسى فضل اهل الطرق في المحافظة على مركز الخلافة الاسلامية ((استانبول)) طوال خمسمائة وخمسين سنة رغم هجمات عالم الكفر وصليبية اوروبا. فالقوة الايمانية، والمحبة الروحانية، والاشواق المتفجرة من المعرفة الإلهية لاولئك الذين يرددون ((الله.. الله..)) في الزوايا والتكايا المتممة لرسالة الجوامع والمساجد، والرافدة لهما بجداول الايمان حيث كانت تنبعث انوار التوحيد في خمسمائة مكان، لتشكّل بمجموعها اعظم نقطة ارتكاز للمؤمنين في ذلك المركز الاسلامي.

فيا ادعياء الحمية ويا سماسرة القومية المزيفين! الا تقولون اية سيئة من سيئات الطريقة تفسد هذه الحسنة العظيمة في حياتكم الاجتماعية؟!

C التلويح الرابع

ان سلوك طريق الولاية مع سهولته هو ذو مصاعب، ومع قصره فهو طويل جداً، ومع نفاسته وعلوه فهو محفوف بالمخاطر، ومع سعته فهو ضيق جداً.

فلأجل هذه الاسرار الدقيقة، قد يغرق السالكون في هذه السبيل، وقد يتعثرون ويتأذون، بل قد ينكصون على اعقابهم ويضلون الآخرين. فعلى سبيل المثال؛ هناك ((السير الانفسي)) و ((السير الآفاقي)) وهما مشربان ونهجان في الطريقة.

فالسير الانفسي يبدأ من النفس، ويصرف صاحب هذا السير نظره عن الخارج، ويحدق في القلب مخترقاً انانيته. ثم ينفذ منها ويفتح في القلب ومن القلب سبيلاً الى الحقيقة.. ومن هناك ينفذ الى الآفاق الكونية فيجدها منورة بنور قلبه، فيصل سريعاً، لان الحقيقة التي شاهدها في دائرة النفس يراها بمقياس اكبر في الآفاق. واغلب طرق المجاهدة الخفية تسير وفق هذه السبيل.

واهم اسس هذا السلوك هو كسر شوكة الانانية وتحطيمها، وترك الهوى واماتة النفس.

اما النهج الثاني فيبدأ من الآفاق، ويشاهد صاحب هذا النهج تجليات اسماء الله الحسنى، وصفاته الجليلة في مظاهر تلك الدائرة الافاقية الكونية الواسعة ثم ينفذ الى دائرة النفس، فيرى انوار تلك التجليات بمقاييس مصغرة في آفاق كونه القلبي، فيفتح في هذا القلب اقرب طريق اليه تعالى، ويشاهد ان القلب حقا مرآة الصمد. فيصل الى مقصوده، ومنتهى امله.

وهكذا ففي المشرب الاول ان عجز السالك عن قتل النفس الامارة، ولم يتمكن من تحطيم الانانية بترك الهوى، فانه يسقط من مقام الشكر الى موقع الفخر، ومنه يتردى الى الغرور، واذا ما اقترن هذا بما يشبه السكر الناشئ من انجذاب آت من المحبة، فسوف يصدر عنه دعاوى اكبر من حده، واعظم من طوقه، تلك التي يطلق عليها ((الشطحات)). فيضر نفسه ويكون سبباً في الاضرار بالاخرين.

ان مثل صاحب الشطحات كمثل ضابط صغير برتبة ملازم. تستخفه نشوة القيادة واذواقها في محيط دائرته الصغرى، فيتخيل نفسه في لحظة انتشاء وكأنه المشير الذي يقود الفيالق والجحافل، فتختلط في ذهنه الامور، ويلتبس عليه امر القيادة ضمن دائرته الصغرى مع القيادة الكلية الواسعة ضمن دائرتها الكبرى، تماما كما يلتبس في النظر على بعض الناس صورة الشمس المنعكسة من مرآة صغيرة، مع صورتها المنعكسة من سطح البحر الشاسع، من حيث تشابههما في صورة الانعكاس، رغم اختلافهما في السعة والكبر.

وكذلك فان كثيرا من اهل الولاية من يرى نفسه اكبر واعظم بكثير ممن هم ارقى واسمى منه، بل ممن نسبته اليهم كنسبة الذباب الى الطاووس.

ولكنه ـــ اي صاحب الدعاوى ـــ يرى نفسه كما يصف، و يراها كما يقول، محقا في رؤيته. حتى انني رأيت من يتقلد شارات القطب الاعظم ويدعي حالاته، ويتقمص اطواره، وليس له من صفات القطبية الا انتباه القلب وصحوته، وسوى الشعور بسر الولاية من بعيد، فقلت له:

يا اخي! كما ان قانون السلطنة له مظاهر عديدة جزئية او كلية على نمط واحد في جميع دوائر الدولة، ابتداء من رئاسة الوزارة الى ادارة ناحية صغيرة، فان الولاية، والقطبية كذلك لها دوائر مختلفة ومظاهر متنوعة، ولكل مقام ظلال كثيرة. فأنت قد شاهدت الجلوة العظمى والمظهر الاعظم للقطبية الشبيهة برئاسة الوزارة ضمن دائرتك الصغيرة الشبيهة بادارة الناحية، فالتبس عليك الامر وانخدعت، اذ ان ما شاهدته صواب وصدق، الا ان حكمك هو الخطأ، حيث ان غرفة من الماء بالنسبة للذبابة بحر واسع.

فانتبه ذلك الاخ بكلامي، ونجا من تلك الورطة بمشيئة الله.

ورأيت كذلك عدداً من الناس يعدون انفسهم مقاربين او مشابهين ((للمهدى))، ويقول كل منهم: سأصبح ((المهدى))!

هؤلاء ليسوا كاذبين ولا مخادعين، ولكنهم ينخدعون، اذ يظنون ما يرونه هو الحق، ولكن كما ان الاسماء الحسنى لها تجلياتها ابتداء من العرش الاعظم وحتى الذرة، فان مظاهر هذه التجليات في الاكوان والنفوس تتفاوت بالنسبة نفسها، وان مراتب الولاية التي هي نيل مظاهرها والتشرف بها هي الاخرى متفاوتة.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-03-2011
  #38
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 15
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: المكتوبات

واهم سبب لهذا الالتباس هو كون بعض مقامات الاولياء فيه شئ من خواص ((المهدي)) ووظائفه، ويشاهد فيه انتساب خاص مع القطب الاعظم وعلاقة خاصة بالخضر، فهناك مقامات لها علاقات وروابط مع بعض المشاهير، حتى يطلق على تلك المقامات ((مقام الخضر)) و((مقام اويس)) و((مقام المهدية)). وعليه فالواصلون الى ذلك المقام، والى جزء منه، او الى ظل من ظلاله، يتصورون انفسهم انهم هم اولئك الافذاذ المشهورون، فيعتبر الواحد منهم انه هو الخضر او المهدي، او يتخيل انه القطب الاعظم.

فان كانت الانانية فيه قد مُحقت حتى لم يعد لها استشراف وتطلع لحب الجاه والتفاخر على الاخرين فلا يُدان، ونعتبر دعاواه الخارجة عن حده ((شطحات)) قد لا يكون مسؤولا عنها، ويمكن التجاوز عنها.

اما هذه الدعاوى عند الشخص الذي ما زالت الانانية فيه متوفزة، متطلعة لحب الجاه، فستغلبه هذه الانانية وتأخذ بيده الى منازل الفخر مخلفاً وراءه مقام الشكر، ومن هناك يتردى تدريجياً الى هاوية الغرور الماحق للحسنات. فاما ان يتردى الى الجنون، او يضل ضلالاً بعيداً، وذلك لانه جعل نفسه في عداد اولئك الاولياء العظام، وهذا بحد ذاته سوء ظن بهم، لانه يخلع ما في نفسه من قصور، تدركه النفس مهما اغترت على اولئك الاولياء الافذاذ الذين يراهم بمنظار نفسه القاصرة، فيتوهم ان اولئك العظام مقصرون مثله، فيقل احترامه لهم، وبالتالي قد يقل احترامه حتى للانبياء عليهم السلام.

فيجب على هؤلاء المتلبسين ان يمسكوا ميزان الشريعة بايديهم ليزنوا اعمالهم، ويقفوا عند حدود ما حده علماء اصول الدين من دساتير، ويسترشدوا بتعليمات الامام الغزالي والامام الرباني وامثالهم من الاولياء المحققين العلماء، وان يضعوا انفسهم دائماً موضع التهمة، ويعرفوا ان القصور والعجز والفقر ملازم للنفوس مهما ارتقت وتسامت.

فما في هذا المشرب من شطحات عند بعض السالكين، منبعه حب النفس، حتى ليتعاظم هذا الحب فيظن الواحد منهم صفاء نفسه، ولمعان ذاته قطعة الماس رغم انها ليست الا قطعة زجاج تافهة في الحقيقة، اذ عين الرضا كليلة عن العيوب.

هذا وان اخطر المهالك في هذا النوع من السلوك هو: ان المعاني الجزئية التي ترد على قلب السالك بشكل الهام، يتخيلها - هذا السالك - كلام الله، ويعبر عن كل الهام وارد بــ ((آية)) فيمتزج بهذا الوهم عدم احترام لتلك المرتبة السامية العليا للوحي.

نعم ان كل الهام ابتداء من الهام النحل والحيوانات الى الهام عوام الناس والى الهام خواص البشرية، والى الهام عوام الملائكة، والى الهام المقربين الخواص منهم، انما هو نوع من الكلمات الربانية، ولكن الكلام الرباني تجلي الخطاب الرباني المتنوع المتلمع من خلال سبعين الف حجاب حسب قابليات المظاهر والمقامات.

اما ((الوحي)) فهو الاسم الخاص لكلام الله جل وعلا، وابهر مثاله المشخص، هو الذي اطلق على نجوم القرآن، وكل منجمة منه ((آية)) كما ورد توقيفاً. فتسمية هذه الانواع من الالهام بــ (الايات) خطأ محض. اذ بمقدار النسبة بين صورة الشمس الصغيرة الخافتة المتسترة المشاهدة في المرآة الملونة في ايدينا مع الشمس الحقيقية الموجودة في السماء، تكون النسبة بين الالهام الموجود في قلوب اولئك الادعياء وبين آيات شمس القرآن الكريم التي هي كلام إلهي مباشر [كما بينا واثبتنا ذلك في كل من الكلمات الثانية عشرة والخامسة والعشرين والحادية والثلاثين من كتاب ((الكلمات))].

نعم: اذا قيل ان صورة الشمس الظاهرة في مرآة هي صورتها حقاً وذات علاقة مع الشمس الحقيقية، فهذا الكلام لا غبار عليه وهو حق، الا انه لا يمكن ربط الكرة الارضية الضخمة بهذه الشموس ((المرآتية)) المصغرة، ولا يمكن شدها الى جاذبيتها.

C التلويح الخامس:

يعتبر ((وحدة الوجود)) التي تضم ((وحدة الشهود)) من المشارب الصوفية المهمة وهي تعني: حصر النظر في وجود ((واجب الوجود))، اي ان الموجود الحق هو: ((واجب الوجود)) سبحانه فحسب، وان سائر الموجودات ظلال باهتة وزيف ووهم لاتستحق اطلاق صفة الوجود عليها حيال ((واجب الوجود)) لذا فان اهل هذا المشرب يذهبون الى اعتبار الموجودات خيالا ووهماً، ويتصورونها عدما في مرتبة ترك ما سواه، اي: ((ترك ما سوى الله تعالى)) حتى انهم يتطرفون ويذهبون الى حد اعتبار الموجودات مرايا خيالية لتجليات الاسماء الحسنى.

ان اهم حقيقة يحتويها هذا المشرب هي: ان الموجودات الممكنة ((الممكنات والمخلوقات)) تصغر وتتضاءل عند اصحابها من كبار الاولياء الذين وصلوا الى مرتبة حق اليقين بقوة ايمانهم بحيث تنزل عندهم الى درجة العدم والوهم، اي انهم ينكرون وجود الكون بجانب وجود الله تعالى الذي هو واجب الوجود.

غير ان هناك محاذيرومخاطر عدة لهذا المشرب، اولها واهمها:

ان اركان الايمان ستة، فهناك عدا ركن الايمان بالله، اركان اخرى كالايمان بالاخرة، فهذه الاركان تستدعي وجود الممكنات اي ان هذه الاركان المحكمة لايمكن ان تقوم على اساس خيالي.

فعلى صاحب هذا المشرب ألاّ يصحب معه هذا المشرب، وألاّ يعمل بمقتضاه عندما يفيق من عالم الاستغراق والنشوة. ثم ان عليه الا يقلب هذا المشرب القلبي والوجداني والذوقي الى اسس عقلية وقولية وعلمية، ذلك لان الدساتير العقلية.والقوانين العلمية، واصول علم الكلام النابعة من الكتاب والسنة المطهرين لا يمكنها ان تتحمل هذا المشرب، ولاتتسع لامكانية تطبيقه. لذا فلا يرى هذا المشرب في اهل الصحوة الايمانية من الخلفاء الراشدين، والائمة المجتهدين، والعلماء العاملين من اجيال السلف الصالح من هذه الامة، اذن فليس هذا المشرب في اعلى المراتب واسماها، بل قد يكون ذا علو الا انه ناقص في علوه، وقد يكون ذا حلاوة مغرية ولكنه لاذع المذاق. ولظاهر حلاوته، ولجمال ايحائه لا يرغب الداخلون فيه في الخروج منه؛ ويتوهمون ـــ باستشرافات نفوسهم ـــ انه اعلى المراتب واسماها.

ولكوننا قد تناولنا شيئاً من اسس هذا المشرب وماهيته في رسالة نقطة من نور معرفة الله جل جلاله وفي ((الكلمات)) و((المكتوبات)) فاننا نكتفي بذلك، ونقصر الكلام هنا على بيان ورطة خطرة قد يقع فيها قسم من الحائمين حول ((وحدة الوجود)) وهي:

ان هذا المشرب يصلح لأخص الخواص عند حالات الاستغراق المطلق، وللمتجردين من الاسباب المادية، ومن الذين قد قطعوا علائقهم بما سوى الله من الممكنات والاشياء.

ولكن اذا نزل هذا المشرب من علياء الاذواق والمواجيد، والاشواق القلبية الى دائرة المذاهب الفكرية والعلمية وعرض بشكله العلمي والعقلاني على انظار الذين استهوتهم الحياة الدنيا، وغرقوا في الفلسفات المادية والطبيعية، فانه سيكون اغراقاً في الطبيعة والمادة، وابعاداً عن حقيقة الاسلام.

فالشخص المادي المتعلق بالاسباب، والمغرم بالدنيا، يتشوق الى اضفاء صفة الخلود على هذه الدنيا الفانية، لانه يعز عليه ان يرى محبوبته وهي تتبخر بين يديه وتذوب، فيسبغ صفة البقاء والوجود الدائم على دنياه، انطلاقاً من فكرة "وحدة الوجود" فلا يتورع - عندئذٍ - من رفع محبوبته - الدنياــ الى درجة المعبود بعد ان اسبغ عليها صفات الدوام والخلود والبقاء الابدي، فينفتح المجال امامه الى انكار الله سبحانه والعياذ بالله.

ولما كان الفكر المادي قد ترسخت دعائمه في هذا العصر، واستولى على غالبية النشاطات العقلية والعلمية، حتى غدت المادة - عند اصحابه - هي اصل كل شئ ومرجعه، لذا فان ترويج مذهب ((وحدة الوجود)) في هذا العصر - الذي يرى فيه اهل الايمان الخواص الماديات تافهة الى حد العدم - ربما يعطي للماديين حجة ليكونوا دعاة للمذهب نفسه فيخاطبوا اصحابه من اهل الايمان: ((نحن وانتم سواء، نحن ايضاً نقول هكذا ونفكر هكذا)) علما انه لا يوجد مشرب في العالم بعيد عن منهج المادييين وعبدة الطبيعة من مشرب ((وحدة الوجود)). ذلك لان اصحابه يؤمنون بالله ايماناً عميقاً الى درجة يعدون الكون وجميع الموجودات معدوماً بجانب حقيقة الوجود الإلهي، بينما الماديون يولون الموجودات من الاهمية الى حد انهم ينكرون معها وجود الله سبحانه وتعالى... فأين هؤلاء من اولئك؟!

C التلويح السادس: وهو ثلاث نقاط:

النقطة الاولى:

ان اتباع السنة النبوية المطهرة هو اجمل وألمع طريق موصلة الى مرتبة الولاية من بين جميع الطرق، بل اقومها واغناها. والاتباع يعني: تحري المسلم السنة السنية وتقليدها في جميع تصرفاته واعماله، والاستهداء بالاحكام الشرعية في جميع معاملاته وافعاله. فان اعماله اليومية ومعاملاته العرفية وتصرفاته الفطرية الاعتيادية تأخذ بهذا الاتباع شكل العبادة، فضلا عن ان اتباع السنة وتحري شرع الله في شؤون المؤمن جميعها يجعله في صحوة دائمة، وتذكر للشرع مستمر، وتذكّر الشرع هذا يؤدي الى ذكر صاحب الشرع الذي يؤدي الى تذكر الله سبحانه، وذكر الله سبب لسكينة القلب واطمئنانه. اي ان ساعات العمر ودقائقه يمكن ان تنقضي كلها في عبادة دائمة مطمئنة.

لذلك فان اتباع السنة المطهرة هو طريق الولاية الكبرى، وهو طريق ورثة النبوة من الصحابة الكرام والسلف الصالح.

النقطة الثانية:

الاخلاص هو أهم اساس لجميع طرق الولاية وسبل الطريقة، ذلك لان الاخلاص هو الطريق الوحيد للخلاص من الشرك الخفي. فمن لم يحمل اخلاصاً في ثنايا قلبه فلا يستطيع ان يتجول في تلك الطرق، كما ان ((المحبة)) تشكل امضى قوة في تلك الطرق..

نعم، المحبة! فالمحب لا يبحث عن نقص، بل لا يرغب في ان يرى نقصاً في محبوبه، بل يرى اضعف الدلائل والامارات على كمال محبوبه من اقوى الادلة والحجج، لكونه جانب محبوبه على الدوام.

وبناء على هذا السر، فان الذين يتوجهون بقلوبهم الى معرفة الله عن طريق المحبة، لا يصغون الى الاعتراضات ويجاوزون سريعاً العقبات والشبهات، وينقذون انفسهم بسهولة ويحصنونها من الظنون والاوهام، حتى لو اجتمع عليهم آلاف شياطين الارض، فلن يستطيعوا ان يزيلوا امارة او علامة واحدة تدل على كمال محبوبه الحقيقي وسموه. ومن دون هذه المحبة يتلوى الانسان تحت وساوس نفسه وشيطانه، وينهار امام ما تنفثه الشياطين من اعتــراضات وشــبه. فلا يعصمه شـئ سـوى مـتـانـة ايمــانـه وقوتـه، وشدة انتباهـه وحذره.

اذن فالمحبة النابعة من معرفة الله هي جوهر جميع مراتب الولاية واكسيرها. الا ان هناك ورطة كبيرة للمحبة وهي:

انه يُخشى ان ينقلب المحب من التضرع والتذلل لله - اللذين هما سر العبودية - الى الادلال والطلب والدعاوى. فيطيش صوابه ويتحرك مختالاً بمحبته دون ضوابط او موازين.. ويخشى كذلك ان تتحول المحبة لديه من ((المعنى الحرفي)) الى ((المعنى الاسمي)) اثناء توجهه بالمحبة الى ما سوى الله، فتنقلب عندئذِ من داء شاف الى سم زعاف، اذ يحدث احياناً ان المحب يتوجه الى صفات المحبوب - من دون الله - والى كماله الشخصي وجماله الذاتي، اي يكون الحب بمعناه الاسمي - لذاته - اي يستطيع ان يحبه ايضاً من دون تذكر الله ورسوله! مع ان الواجب عليه عند التوجه بالحب لما سوى الله ان يكون هذا الحب في الله ولله، فيربط قلبه به من حيث كونه مرآة لتجلي اسمائه الحسنى.

ان مثل هذا الحب بالمعنى الاسمي لا يكون وسيلة لحب الله، بل ستاراً من دونه. بينما الحب بالمعنى الحرفي اي بسبب من حب الله، فانه يكون وسيلة الى زيادة حب الله، بل يصح القول انه تجل من تجلياته سبحانه.

النقطة الثالثة:

ان الدنيا هي دار العمل ودار الحكمة، وليست داراً للمكافأة والجزاء. فجزاء الاعمال والبر الذي يحصل هنا يكون في الحياة البرزخية والدار الاخرة، فتؤتي هناك اكلها وثمراتها. فما دامت الحقيقة هكذا يجب عدم المطالبة بثمرات الاعمال الاخروية وجزائها في هذه الدنيا، ولو اعطيت يجب اخذها وقبولها من يد الرب سبحانه بفرح مشوب بالحزن، وسرور ممزوج بالأسى، وليس بفرح وسرور خالصين، ذلك لانه ليس من الحكمة تناول ثمرات الاعمال - التي لن تنفد عند تناولها في الجنة - في مثل هذه الحياة الفانية، اذ يشبه ذلك العزوف عن مصباح خالد النور والاضاءة والتعلق بمصباح لا يتوهج نوره الا دقيقة ثم ينطفئ!

وبناء على هذا السر الدقيق - اي انتظار الاجر في الحياة الآخرة - فان الاولياء يستعذبون مشاق الاعمال ومصاعبها والمصائب والبلايا، فلا يشكون ولا يتذمرون.

بل لسانهم دائماً وابداً يردد: الحمدلله على كل حال. واذا وهب الله لهم كرامة او كشفاً او نوراً او ذوقاً فانهم يتناولونه بأدب جم ويعدونه التفاتاً وتكرماً منه سبحانه اليهم، فيحاولون ستر الكرامة واخفاءها ولا يظهرونها ولا يفاخرون بها، بل يسارعون الى زيادة شكرهم وتعميق عبوديتهم، وكثيرون منهم يجأرون الى الله ان يحجب هذه الاحوال عنهم ويحجبهم عنها ويتمنوا ذهابها واختفاءها خوفاً من ان يتعرض الاخلاص في عملهم للخلل.

حقاً ان افضل نعمة إلهية يمكن ان ينالها شخص مقبول عند الله هي التي توهب له من دون ان يشعر بها، لكي لا يتحول من حال التضرع والدعاء الى حال الادلال بعباداته وطلب الاجر عليها، ولئلا يتحول من موقع الشكر والحمد الى موقع الدل والفخر.

فاستناداً الى هذه الحقيقة فان الذين يرغبون في سلوك طريق الولاية والطريقة ان كانوا يرغبون في تناول بعض الثمرات الجانبية للولاية، امثال اللذات المعنوية او الكرامات، ويتوجهون اليها ويطلبونها ويلتذون بها.. فان هذا يعني رغبتهم في تناول تلك الثمرات في هذه الحياة الفانية، وهي - اذا حصلت لهم - ثمرات فانية على اي حال كان. وبذلك يفقدون الاخلاص في اعمالهم الذي به ينالون ثمرة الولاية. كما انهم يمهدون السبيل لفقدان الولاية نفسها.

C التلويح السابع

يتضمن اربع نكات

النكتة الاولى:

ان الشريعة هي نتيجة الخطاب الإلهي الصادر مباشرة - دون حاجز او ستار - من الربوبية المطلقة المتفردة بالاحدية.

لذا فان اعلى مراتب الطريقة واسمى درجات الحقيقة لا يعدوان كونهما اجزاء من كلية الشريعة. اما نتائجهما وما يؤولان اليه فهي الاوامر الشرعية المحكمة. فهما دائماً وابداً يظلان بحكم الخادم للشريعة ووسيلة اليها ومقدمة لها.

فالسالك في الطريقة يرتفع تدريجياً الى اعلى المراتب التي ينال فيها ما في الشريعة نفسها من معنى الحقيقة وسر الطريقة. وعندئذ تكون الطريقة والحقيقة اجزاء الشريعة الكبرى.

لذا فليس صحيحاً ما يتصوره قسم من المتصوفة من ان الشريعة قشر ظاهري، وحقيقتها هي لبها ونتيجتها وغايتها.

نعم، يتنوع انكشاف الاحكام الشرعية ويختلف بالنسبة لمستويات الناس وفهمهم وطبقات مداركهم، فما يظهر منها وينكشف للعوام هو غير ما يظهر وينكشف للخواص..

انه من الخطأ توهم ما يظهر من الشريعة للعوام هو حقيقة الشريعة، واطلاق اسم ((الحقيقة)) و((الطريقة)) على مرتبة الشريعة المنكشفة للخواص.

فالشريعة لها مراتب متوجهة الى جميع طبقات البشر.

وبناء على هذا السر، فان اهل الطريقة، واصحاب الحقيقة كلما تقدموا في مسلكهم وارتقوا في معارجهم، وجدوا انفسهم منجذبين اكثر الى الحقائق الشرعية، متبعين لها، مندرجين ضمن غاياتها ومقاصدها. حتى انهم يتخذون ابسط انواع السنة النبوية الشريفة كأعظم مقصد وغاية، ويسعون الى اتباعها وتقليدها.

لانه بمقدار سمو الوحي وعلوه على الالهام، فالآداب الشرعية التي هي ثمرة الوحي هي اسمى واعلى من آداب الطريقة التي هي ثمرة الالهام، لذا فان اهم اساس للطريقة هو اتباع السنة النبوية المطهرة.

النكتة الثانية:

ينبغي الا تتحول الطريقة والحقيقة من كونهما وسيلتين الى غايتين بحد ذاتهما (تستحوذانعلى قلب السالك وفكره ووجدانه). فاذا اصبحتا - الطريقة والحقيقة - مقصودتين بالذات، فان الاعمال الشرعية المحكمة، وآداب السنة السنية، تنحسر حتى تأخذ الدرجة الثانية من الاهتمام لدى السالك، وتصبح صورية شكلية بانشغال القلب بالتوجه الى آداب الطريقة ورسومها. اي ان المرء - عندئذِ - يفكر بحلقة الذكر اكثر من تفكيره بالصلاة، وينجذب الى اوراده اكثر من انجذابه الى الفرائض، ويلزم نفسه بتجنب مخالفة آداب الطريقة اكثر من التزامه بتجنب الكبائر، والحال ان اداء فريضة واحدة التزاماً بالاوامر الشرعية لا يمكن ان توازيها اوراد الطريقة او تحل محلها.

فآداب الطريقة، واوراد التصوف، وما يحصل للسالك منهما من اذواق ينبغي ان تكون مدخلاً لأذواق أحلى وأعلى وأسمى، يحصل عليها هذا السالك من اداء الفرائض والسنن.

أي ان ما يأخذه المرء من التكية من اذواق، لا بد ان تكون استهلالاً لاذواق الصلاة التي يؤديها في الجامع، بقيامه بأركانها وأدائها على الوجه المطلوب، وإلا فالذي تشغله اذواقه في التكية عن صلاته في الجامع، فيؤديها بخفة وسرعة صورية وشكلية لا حرارة فيها ولا روح، انما يبتعد عن الحقيقة.

النكتة الثالثة:

سؤال: هل يمكن ان توجد طريقة خارج نطاق السنة النبوية الشريفة واحكام الشريعة؟

الجواب: نعم ولا!

نعم، لأن عدداً من الاولياء الكاملين قد اعدموا بسيف الشريعة. ولا، لأن الاولياء المحققين قد اتفقوا على القاعدة التي ذكرها سعدي الشيرازي(1) شعراً:

محالست سعدى براه صفا ظفر بردن جز در بى مصطفى

اي محال ان يصل احد الى الانوار الحقيقية للحقيقة خارج الصراط الذي اختطه الرسول e ، ومن دون اتباع لخطواته.

وسر هذه المسألة هو الآتي:

ما دام الرسول e هو خاتم الانبياء والمرسلين وقد خاطبه الله سبحانه باسم البشرية وممثلا عنها، فلا بد ألاّ تسير البشرية خارج الصراط الذي بينه، فالانضواء تحت لوائه ضروري.

ولكن ما دام اهل الجذب والاستغراق ليسوا مسؤولين عن مخالفاتهم، لما في الانسان من لطائف لا ترضخ للتكاليف الشرعية، فعندما تتحكم فيه تلك اللطيفة لا يبقى مسؤولا امام التكاليف الشرعية، ومادام في الانسان لطائف اخرى لا ترضخ لارادة الانسان كعدم رضوخها للتكاليف، بل لا تنقاد لتدبير العقل ولا تذعن لاوامر القلب والعقل.. فلا بد ان تلك اللطيفة عندما تستحوذ على شخص ما فانه لا يسقط من مرتبة الولاية بمخالفته الشرع، وانما يعد معذوراً - في تلك الاثناء فقط - بشرط الا يصدر عنه شئ ينافي حقائق الشرع وقواعد الايمان انكاراً او تزييفاً او استخفافاً. وينبغي ان يصدق بأحقية الشرع وان لم يكن يؤدي حقه حق الاداء.. والا اذا غلبت عليه الحال، وصدر عنه ما يشم منه التكذيب والانكار لتلك الحقائق المحكمة - نعوذ بالله - فذلك علامة الهلاك.

حاصل الكلام: ان اهل الطريقة الذين هم خارج دائرة الشرع قسمان:

قسم منهم كما ذكرناه آنفاً، فهؤلاء اما ان يكون قد غلب عليه الحال والاستغراق والجذب والسكر. او يكون مغلوباً لسيطرة لطائف لا تنقاد للتكاليف ولا تعير بالاً للارادة، فيخرج من دائرة الشرع.

ولكن هذا الخروج لا ينشأ من عدم الرضى بالشرع، او من رفض الاحكام الشرعية، بل يترك تلك الاحكام اضطراراً دون ارادة منه، فهناك اولياء من هذا القسم، فضلاً عن ان اولياء كباراً قد قضوا فترة بينهم متلبسين بهذه الحال. بل من هذا النوع مَن حكم عليهم اولياء محققون، انهم ليسوا خارجين عن دائرة الشرع وحدها، بل منهم مَن هو خارج عن دائرة الاسلام. الا بشرط ألاّ يكذبوا بجميع ما جاء به الرسول e مِن احكام، مع انهم لا يؤدون حقها، إما لعدم تفكرهم بها، او لعدم استطاعتهم التوجه اليها، او لعدم تمكنهم من معرفتها، او عدم فهمها. ولكن اذا عرفها احد منهم ورفضها فقد هلك.

اما القسم الثاني: فهم المنجذبون لنشوة الاذواق البراقة للطريقة والحقيقة فلا يبالون بالحقائق الشرعية التي هي ارقى من مستوى مذاقهم. ويعتبرها احدهم غير ذات مذاق لعجزه عن بلوغها. فيؤديها صورية شكلية، وهكذا يبلغ به الامر تدريجياً الى ان يظن ان الشريعة مجرد قشر ظاهري، وان ما وجده من الحقيقة هو الاساس والغاية والقصد، فيقول: حسبي ماوجدته. فيقوم بافعال مخالفة لما يأمر به الشرع! فالذين لم يفقدوا شعورهم وعقولهم من هذا القسم مسؤولون عن اعمالهم، ويدانون، بل يهلكون، حتى يكون قسم منهم موضع هزء وسخرية للشيطان.

النكتة الرابعة:

ان اشخاصاً من الفرق الضالة والمبتدعة يكونون من المقبولين بنظر الامة، غير ان امثالهم تردّهم الامة وترفضهم دون ان يكون هناك فرق ظاهري بينهما!!

كنت في حيرة من هذا الامر، فالزمخشري(1) المعتزلي الشديد التعصب لمذهبه لا يكفره اهل التحقيق من اهل السنة ولا يدرجونه في صفوف الضالين على الرغم من اعتراضاته القاسية عليهم، بل يجدون له مبرراً ومجالاً للنجاة، الا ان أبا علي الجبائي(1) وهو ايضاً من ائمة المعتزلة يطرده اهل السنة المحققون ويعدون آراءه مردودة مع انه اخف تعصباً من السابق بكثير، كان هذا يأخذ قسطاً كبيراً من تفكيرى، ثم فهمت بلطف إلهي:

ان اعتراضات الزمخشري على أهل السنة نابعة من محبة الحق الذي يدعو اليه مسلكه، الذي يظنه حقاً كقوله: ان التنزيه الحقيقي لله سبحانه هو بأن يكون الاحياء - في نظره - هم خالقين لافعالهم، لذا فلمحبته الناشئة من تنزيه الحق سبحانه يرد قاعدة اهل السنة في خلق الافعال. اما سائر ائمة الاعتزال المرفوضين فانهم ما انكروا سبيل اهل السنة لفرط محبتهم الحق، وانما لقصور عقولهم عن دساتير اهل السنة السامية، وعجز عقولهم الضيقة عن استيعاب قوانين اهل السنة الواسعة. لذا فأن اقوالهم مردودة وهم مطرودون.

فكما ان مخالفة المعتزلة لاهل السنة هذه بشكلين، وهي الواردة في كتب علم الكلام فان اهل الطريقة الخارجين عن السنة المطهرة ومخالفتهم لها ايضاً من جهتين:

الاولى: ان ينجذب الولي لحاله ونهجه كانجذاب الزمخشري لمذهبه غير مهتم الى حد ما بآداب الشرع التي لم يبلغ اذواقها بعد.

الثانية: ان ينظر الولي الى آداب الشريعة انها غير ذات اهمية اصلاً بالنسبة لدساتير الطريقة وقواعدها (حاش لله) لكونه قد عجز عن ان يستوعب تلك الاذواق الواسعة، فمقامه القصير لا يستطيع ان يبلغ تلك الآداب الرفيعة.

C التلويح الثامن:

وفيه ثمانية مزالق وورطات:

الاولى:

ان الورطة التي يسقط فيها سالكون من الطرق الصوفية - ممن لا يتبعون السنة النبوية على الوجه الصحيح - هي اعتقادهم بأرجحية الولاية على النبوة!! ولقد اثبتنا مدى سمو النبوة على الولاية وخفوت ضوء الاخيرة امام نور النبوة الساطع في الكلمة الرابعة والعشرين والكلمة الحادية والثلاثين من كتاب ((الكلمات)).



الثانية:

وهي تفضيل قسم من المفرطين، الاولياء على الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، بل رؤيتهم في مرتبة الانبياء عليهم السلام. وقد شرحنا في الكلمة الثانية عشرة والكلمة السابعة والعشرين ((الاجتهاد)) وفي ذيلها الخاص بالصحابة كيف ان للصحابة الكرام خواص متميزة بسبب الصحبة النبوية، بحيث لا يمكن للاولياء ان يبلغوا مرتبتهم اصلاً فضلاً عن ان يتفوقوا عليهم. ولا يمكنهم ان يبلغوا قطعاً مرتبة الانبياء.



الثالثة:

وهي ترجيح بعض المتطرفين والمتعصبين جداً للطريقة لأوراد طريقتهم وآدابها على اذكار السنة النبوية الشريفة، فيسقطون بذلك الى منزلق مخالفة السنة النبوية وتركها، في الوقت الذي يظلون متشبثين بأوراد طريقتهم، أي انهم يسلكون سلوك غير المبالي بآداب السنة النبوية الشريفة فيهوون في الورطة، وكما اثبتنا في كلمات كثيرة، وكما اكد كبار محققي الطرق كالامام الغزالي والامام الرباني:

((ان اتباع سنة واحدة من السنن النبوية يكون مقبولاً عند الله اعظم من مائة من الآداب والنوافل الخاصة. اذ كما ان فرضاً واحداً يرجح الفاً من السنن، فان سنة واحدة من السنن النبوية ترجح الفاً من آداب التصوف)).



الرابعة:

ان بعض المتطرفين من اهل التصوف يظنون خطأً ان ((الالهام)) بمرتبة ((الوحي))، كما يعتبرون الالهام نوعاً من انواع الوحي فيسقطون في هذا المزلق الخطير، وقد برهنّا سابقاً في (( الكلمة الثانية عشرة)) و((الكلمة الخامسة والعشرين)) المتعلقة باعجاز القرآن وفي رسائل اخرى؛ كيف ان الوحي سام وعال وساطع وضاء وكلي شامل بينما الالهام بالنسبة اليه جزئي وخافت.



الخامسة:

ان بعض المتصوفين ممن لم يدركوا تماما سر الطريقة - في كونها وسيلة وليست غاية بحد ذاتها - قد ينجذبون ويتوجهون الى ما يفاض عليهم من الكرامات والاذواق والانوار، تلك التي توهب ولا تسأل اذ يمنحها الله سبحانه تقوية للضعفاء، وتشجيعاً للمتكاسلين، وتخفيفاً من المشقة والسأم - الذي يعتريهم من شدة الاجهاد في العبادة - فينجرون الى تفضيل تلك الكرامات والاذواق والانوار على فروض الدين والخدمة تحت لوائه وقراءة الاذكار والاوراد، فيسقطون في هذا المزلق.

وقد سبق ان اجملنا في النقطة الثالثة من التلويح السادس وفي كلمات اخرى، بأن هذه الدنيا هي دار خدمة وعمل وليس دار ثواب ومكافأة، فالذين يرغبون في قطف ثمار اعمالهم في هذه الحياة الفانية، انما يستبدلون المكافأة الدنيوية الفانية بثمار الاخرة الابدية الباقية، فضلاً عن ان هذا يدل على بقايا تعلق بالدنيا ورغبة في الاستمتاع بها، ويكون هذا سبباً في خفوت شوقهم وتطلعهم الى الحياة البرزخية، بل يريدون هذه الحياة، اذ يجدون فيها نوعاً من ثمار الآخرة.



السادسة:

وهي المنزلق الذي يقع فيه قسم من سالكي الطرق الصوفية من غير اهل الحقيقة عندما يلتبس عليهم الامر فيتوهمون بان ظلال مقامات الولاية ونماذجها المصغرة كأنها هي المقام الحقيقي والكلي والاصلي..

ولقد اثبتنا في الغصن الثاني من ((الكلمة الرابعة والعشرين)) وفي كلمات اخرى بما لاشك فيه؛ ان الشمس وان تعددت صورها بتعدد المرايا التي تنعكس عليها، فهذه الصور تملك ضياء الشمس وحرارتها ولكن ليس هو الضياء الاصلي نفسه، ولا هي الحرارة نفسها فهي باهتة الانوار بالنسبة للشمس الحقيقية.

كذلك فان لمقام النبوة ولمقام كبار الاولياء، شيئاً من الظلال التي يمكن لاهل الطرق ان يستظلوا بها، ولكنهم يظنون اثناء دخولهم فيها انهم اعظم درجة من كبار الاولياء، بل حتى من الانبياء - والعياذ بالله - فيسقطون في مزلق.

ولانقاذ انفسهم من جميع هذه المزالق المذكورة سابقاً عليهم ان يضعوا اصول الايمان واسس الشرع نصب اعينهم ويتخذوها مرشداً دائماً لهم، وان يخالفوا اذواقهم ومشهوداتهم ويتهموها عند تعارضها مع تلك الاسس.



السابعة:

وهي المزلق الذي يقع فيه قسم من اهل الاذواق والاشواق من اصحاب الطرق عندما ينصرفون الى الفخر والادعاء واشاعة الشطحات وطلب توجه الناس ونيل المرجعيات الدينية، ويفضلون هذه العجالات على الشكر والتضرع والحمد والاستغناء عن الناس، بينما عبودية محمد e هي اسمى مرتبة في العبودية، تلك العبودية التي نستطيع وصفها بالمحبوبية، او عبودية المحبة.

فأساس العبودية وسرها هو التضرع والحمد والدعاء والخشوع والعجز والفقر والاستغناء عن الناس، وبهذا فقط يمكن الوصول الى كمال تلك الحقيقة، حقيقة العبودية.

نعم ان عدداً من الاولياء الكبار اضطروا - دون اختيار منهم لغلبة الحال وبشكل موقت فقط - الى الخروج الى ساحة الفخر والطلب والشطحات، لذا فلا يجوز اتباعهم اختياراً في حالهم هذه، فهم مهتدون، ولكنهم هنا وفي هذه النقطة بالذات ليسوا قدوة في الهداية، لذا لا يمكن السير وراءهم والاقتداء بهم.



الثامنة:

وهي الورطة التي يتورط فيها قسم من المتعجلين والقاصدين المنافع الذاتية من اهل الطرق من الذين يرغبون في تناول ثمرات الولاية في الدنيا بدلاً من قطفها في الآخرة. وعندما يدل سلوكهم على هذه الرغبة، وتتكشف نيتهم من خلال هذا السلوك يكونون فعلاً قد سقطوا في هذه الورطة. علماً ان آيات كثيرة في القرآن الكريم من امثال } وما الحياة الدنيا الا متاع الغرور{ (آل عمران:185) تدل بوضوح ما اثبتناه سابقاً في عدة ((كلمات)) من ان ثمرة واحدة من ثمرات عالم البقاء ترجح الف بستان في هذه الحياة الفانية، لذا فالافضل عدم تناول تلك الثمرات المباركة هنا، وان اعطيت دون توجه ورغبة فيها، فيجب ابداء الحمد والشكر في قبولها - لا على انها مكافأة - بل على انها احسان وفضل من الله وهبت للتشويق.

C التلويح التاسع:

نذكر هنا مجملاً تسع ثمرات من الثمار الوفيرة للطريقة وفوائدها:

الاولى:

هي ظهور الحقائق الايمانية وانكشافها ووضوحها الى درجة عين اليقين بوساطة الطريقة الصحيحة المستقيمة. هذه الحقائق التي هي منابع خزائن ابدية وسعادة دائمة وكنوزها ومفاتيحها.



الثانية:

هي تحقيق الوجود الحقيقي للانسان بانسياق لطائفه جميعاً الى ما خُلقت لأجله. وذلك بأن تكون الطريقة واسطة لتحريك قلب الانسان الذي يعتبر مركزاً لجسمه ولولباً لحركته وتوجيهه الى الله. فيندفع بهذا كثير من اللطائف الانسانية الى الحركة والظهور فتتحقق حقيقة الانسان.



الثالثة:

التخلص من وحشة الانفراد والوحدة في السير والسلوك، والشعور بالانس المعنوي في الحياة الدنيا والبرزخ بالالتحاق باحدى سلاسل الطريقة عند سيرها وتوجهها وسفرها نحو الحياة البرزخية ونحو الحياة الاخروية، وعقد اواصر الصداقة والمحبة بتلك القافلة النورانية في طريق أبد الآباد، فتندفع الاوهام والشبه عن النفس باستناد المريد الى اجماعهم واتفاقهم باعتبار كل استاذ مرشد حجة قوية وسنداً لا يضعف في دفع الاضاليل والاوهام التي ترد الى الذهن.



الرابعة:

وهي خلاص الانسان من الوحشة الهائلة التي تكتنفه في حياته الدنيا، والانسلال من الغربة الاليمة التي يحسها ازاء الكون، وذلك بما تقوم به الطريقة الصائبة الصافية من تفجير ينابيع محبة الله ومعرفته في الايمان.

وقد سبق ان اثبتنا في كلمات عدة بأن سعادة الدارين، واللذة التي لايشوبها ألم، والانس الذي لا تخالطه وحشة، والسعادة الحقيقية لا توجد الا في حقائق الايمان والاسلام التي تسعى الطريقة للوصول اليها كما اننا بينا في ))الكلمة الثانية(( بان الايمان يحمل بذرة شجرة طوبى في الجنة.

نعم فبالتربية الموجودة في الطريقة تنمو تلك البذرة وتكبر.



الخامسة:

الشعور بالحقائق اللطيفة في التكاليف الشرعية وتقديرها بوساطة القلب المنتبه بدوام ذكر الله، كما يعينه على ذلك المنهج التربوي للطريقة. وبذلك تكون الطاعة والعبادة مثار اشتياق وحب، لا مثار تعب وتكليف.



السادسة:

نيل مقام التوكل، ودرجة الرضى، ومرتبة التسليم. هذه المقامات هي السبيل الى تذوق السعادة الحقيقية والتسلية الخالصة واللذة التي لا يشوبها حزن، والانس الذي لا تقربه وحشة.



السابعة:

وهي نجاة الانسان من الشرك الخفي والرياء والتصنع وامثالها من الرذائل وذلك بالاخلاص الذي هو اهم شرط لدى سالك الطريقة واهم نتيجة لها. وكذا التخلص من اخطار النفس الامارة بالسوء ومن أدران الانانية بتزكية النفس التي هي السلوك العملي في الطريقة.



الثامنة:

هي جعل الانسان عاداته اليومية بحكم العبادات واعماله الدنيوية بمثابة اعمال اخروية، والاحسان في استغلال رأس مال عمره من الحياة بدقائقها وجعلها بذوراً تتفتح عن زهرات الحياة الاخروية وسنابلها.

وذلك بدوام الذكر القلبي، والتأمل العقلي، مع الحضور القلبي الدائم والاطمئنان، ودوام شحذ الارادة، والنية الصافية، والعزيمة الصادقة التي تلقنها الطريقة.

التاسعة:

وهي العمل للوصول الى مرتبة الانسان الكامل، وذلك بالتوجه القلبي الى الله طوال سيره وسلوكه، واثناء معاناته الروحية التي تسمو بحياته المعنوية، اي الوصول الى مرتبة المؤمن الحق والمسلم الصادق، اي نيل حقيقة الايمان والاسلام لا صورتيهما، ثم ان يكون الانسان عبداً خالصاً لرب العالمين، وموضع خطابه الجليل، وممثلاً عن الكائنات من جهة، وولياً للّه وخليلاً له، حتى كانه مرآة لتجلياته سبحانه، وفي احسن تقويم حقاً فيقيم الحجة على افضلية بني آدم على الملائكة.

وهكذا يطير بجناحي الايمان والعمل بالشريعة الى المقامات العليا والتطلع من هذه الدنيا الى السعادة الابدية بل الدخول فيها.

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{

اللّهم صلّ على الغوث الاكبر في كل العصور والقطب الأعظم في كل الدهور سيدنا محمد الذي تظاهرت حشمة ولايته ومقام محبوبيته في معراجه واندرج كل الولايات في ظل معراجه وعلى آله وصحبه اجمعين

آمين والحمد لله رب العالمين

ذيـل

هذا الذيل القصير جداً له اهمية عظيمة ومنافع للجميع

للوصول الى الله سبحانه وتعالى طرائق كثيرة، وسبل عديدة. ومورد جميع الطرق الحقة ومنهل السبل الصائبة هو القرآن الكريم. الا ان بعض هذه الطرق اقرب من بعض واسلم واعم.

وقد استفدت من فيض القرآن الكريم بالرغم من فهمي القاصر طريقاً قصيراً وسبيلاً سوياً هو:

طريق العجز، الفقر، الشفقة، التفكر.

نعم! ان العجز كالعشق طريق موصل الى الله، بل اقرب واسلم، اذ هو يوصل الى المحبوبية بطريق العبودية.

والفقر مثله يوصل الى اسم الله ((الرحمن)).

وكذلك الشفقة كالعشق موصل الى الله الا انه انفذ منه في السير واوسع منه مدى، اذ هو يوصل الى اسم الله ((الرحيم)).

والتفكر ايضاً كالعشق الا انه اغنى منه واسطع نوراً وارحب سبيلاً، اذ هو يوصل السالك الى اسم الله ((الحكيم)).

وهذا الطريق يختلف عما سلكه اهل السلوك في طرق الخفاء - ذات الخطوات العشر كاللطائف العشر - وفي طرق الجهر - ذات الخطوات السبع حسب النفوس السبعة - فهذا الطريق عبارة عن اربع خطوات فحسب، وهو حقيقة شرعية اكثر مما هو طريقة صوفية.

ولا يذهبن بكم سوء الفهم الى الخطأ. فالمقصود بالعجز والفقر والتقصير انما هو اظهار ذلك كله امام الله سبحانه وليس اظهاره امام الناس.

اما اوراد هذا الطريق القصير واذكاره فتنحصر في اتباع السنة النبوية.. والعمل بالفرائض، ولاسيما اقامة الصلاة باعتدال الاركان والعمل بالاذكار عقبها.. وترك الكبائر.

اما منابع هذه الخطوات من القرآن الكريم فهي:

} فلا تُزكّوا انفُسَكم{ (النجم:32) تشير الى الخطوة الاولى.

} ولا تكونوا كالذين نَسُوا الله فأنساهُم أنفُسَهم{ (الحشر:19) تشير الى الخطوة الثانية.

} ما اصابكَ مِن حسنةٍ فمن الله، ومَا اصابكَ مِن سيئةٍ فِمن نفسِ{ (النساء:79) تشير الى الخطوة الثالثة:

} كلُّ شيءٍ هالكٌ الاّ وجْهَه{ (القصص:88)، تشير الى الخطوة الرابعة.

وايضاح هذه الخطوات الاربع بايجاز شديد هو:

الخطوة الاولى:

كما تشير اليها الآية الكريمة } فلا تزكوا انفسكم{ وهي عدم تزكية النفس. ذلك لان الانسان حسب جبلّته، وبمقتضى فطرته، محبٌ لنفسه بالذات، بل لا يحب الا ذاته في المقدمة. ويضحي بكل شئ من اجل نفسه، ويمدح نفسه مدحاً لا يليق الا بالمعبود وحده، وينزّه شخصه ويبرئ ساحة نفسه، بل لا يقبل التقصير لنفسه اصلاً ويدافع عنها دفاعاً قوياً بما يشبه العبادة، حتى كأنه يصرف ما أودعه الله فيه من اجهـزة لحمده سبحـانه وتقديسه الـى نفسه، فيصيبه وصـف الآية الكريمة: } من اتّخذ الهَه هَواه{ (الفرقان:43) فيعجب بنفسه ويعتد بها.. فلابد اذن من تزكيتها. فتزكيتُها في هذه الخطوة وتطهيرها هي بعدم تزكيتها.

الخطوة الثانية:

كما تلقّنه الآية الكريمة من درس: } ولا تكونوا كالذين نَسُوا الله فأنساهُم انفُسَهم{ . وذلك: ان الانسان ينسى نفسه ويغفل عنها، فاذا ما فكر في الموت صرفه الى غيره، واذا ما رأى الفناء والزوال دفعه الى الآخرين، وكأنه لا يعنيه بشئ، اذ مقتضى النفس الامارة انها تذكر ذاتها في مقام اخذ الاجرة والحظوظ وتلتزم بها بشدة، بينما تتناسى ذاتها في مقام الخدمة والعمل والتكليف. فتزكيتها وتطهيرها وتربيتها في هذه الخطوة هي:

العمل بعكس هذه الحالة، اي عدم النسيان في عين النسيان، اي نسيان النفس في الحظوظ والاجرة، والتفكر فيها عند الخدمات والموت.

والخطوة الثالثة:

هي ما ترشد اليه الآية الكريمة: } ما اصابكَ مِن حَسَنةٍ فَمِنَ الله وما اصابكَ مِنْ سيئة فمن نفسك{ وذلك: ان ما تقتضيه النفس دائماً انها تنسب الخير الى ذاتها، مما يسوقها هذا الى الفخر والعجب. فعلى المرء في هذه الخطوة ان لا يرى من نفسه الا القصور والنقص والعجز والفقر، وان يرى كل محاسنه وكمالاته احساناً من فاطره الجليل، ويتقبلها نعماًمنه سبحانه، فيشكر عندئذ بدل الفخر ويحمد بدل المدح والمباهاة. فتزكية النفس في هـذه المرتبة هـي فـي سـر هذه الآية الـكريمة: } قَد أفلَحَ مَنْ زَكّاها{ (الشمس:9).

وهي ان تعلم بأن كمالها في عدم كمالها، وقدرتَها في عجزها، وغناها في فقرها، (اي كمال النفس في معرفة عدم كمالها، وقدرتها في عجزها امام الله، وغناها في فقرها اليه).

الخطوة الرابعة:

هي ما تعلمه الآية الكريمة: } كُلُّ شَيٍء هالكٌ إلا وجْهَه{ . ذلك لان النفس تتوهم نفسها حرة مستقلة بذاتها، لذا تدّعى نوعاً من الربوبية، وتضمر عصيانا حيال معبودها الحق. فبادراك الحقيقة الاتية ينجو الانسان من ذلك وهي: كل شئ بحد ذاته، وبمعناه الاسمي: زائلٌ، مفقود، حادث، معدوم، الا انه في معناه الحرفي، وبجهة قيامه بدور المرآة العاكسة لأسماء الصانع الجليل، وباعتبار مهامه ووظائفه: شاهد، مشهود، واجد، موجود.

فتزكيتها في هذه الخطوة هي معرفة ان عدمها في وجودها ووجودها في عدمها، اي اذا رأت ذاتها واعطت لوجودها وجوداً، فانها تغرق في ظلمات عدم يسع الكائنات كلها. يعني اذا غفلت عن موجدها الحقيقي وهو الله، مغترة بوجودها الشخصي فانها تجد نفسها وحيدة غريقة في ظلمات الفراق والعدم غير المتناهية، كأنها اليراعة في ضيائها الفردي الباهت في ظلمات الليل البهيم. ولكن عندما تترك الانانية والغرور ترى نفسها حقاً انها لا شئ بالذات، وانما هي مرآة تعكس تجليات موجدها الحقيقي. فتظفر بوجود غير متناه وتربح وجود جميع المخلوقات.

نعم، من يجد الله فقد وجد كل شئ، فما الموجودات جميعها الا تجليات اسمائه الحسنى جل جلاله.



خاتمة

ان هذا الطريق الذي يتكون من اربع خطوات وهي العجز والفقر والشفقة والتفكر، قد سبقت ايضاحاته في ((الكلمات الست والعشرين)) السابقة من كتاب ((الكلمات)) الذي يبحث عن علم الحقيقة، حقيقة الشريعة، حكمة القرآن الكريم. الا اننا نشير هنا اشارة قصيرة الى بضع نقاط وهي: ان هذا الطريق هو اقصر واقرب من غيره، لانه عبارة عن اربع خطوات. فالعجز اذا ما تمكن من النفس يسلّمها مباشرة الى ((القدير)) ذي الجلال.بينما اذا تمكن العشق من النفس - في طريق العشق الذي هو انفذ الطرق الموصلة الى الله - فانها تتشبث بالمعشوق المجازي، وعندما ترى زواله تبلغ المحبوب الحقيقي.

ثم ان هذا الطريق اسلم من غيره، لان ليس للنفس فيه شطحات او ادعاءات فوق طاقتها، اذ المرء لا يجد في نفسه غير العجز والفقر والتقصير كي يتجاوز حده.

ثم ان هذا الطريق طريق عام وجادة كبرى، لانه لا يضطر الى اعدام الكائنات ولا الى سجنها، حيث ان اهل ((وحدة الوجود)) توهموا الكائنات عدماً، فقالوا: ((لا موجود الا هو)) لاجل الوصول الى الاطمئنان والحضور القلبي. وكذا اهل ((وحدة الشهود)) حيث سجنوا الكائنات في سجن النسيان فقالوا: ((لا مشهود الا هو)) للوصول الى الاطمئنان القلبي والحضور الدائمي.

بينما القرآن الكريم يعفو الكائنات بكل وضوح عن الاعدام ويطلق سراحها من السجن، فهذا الطريق على نهج القرآن ينظر الى الكائنات انها مسخرة لفاطرها الجليل وخادمة في سبيله، وانها مظاهر لتجليات الاسماء الحسنى كأنها مرايا تعكس تلك التجليات. اي انه يستخدمها بالمعنى الحرفي ويعزلها عن المعنى الاسمي من ان تكون خادمة ومسخرة بنفسها. وعندها ينجو المرء من الغفلة، ويبلغ الحضور الدائمي على نهج القرآن الكريم. فيجد الى الحق سبحانه طريقاً من كل شئ.

وزبدة الكلام: ان هذا الطريق لا ينظر الى الموجودات بالمعنى الاسمي، اي لا ينظر اليها انها مسخرة لنفسها ولذاتها، بل يعزلها من هذا ويقلدها وظيفة، انها مسخرة لله سبحانه.

المكتوب الثلاثون

وهو (إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز) باللغة العربية

المكتوب الحادي والثلاثون

وقد انقسم الى إحدى وثلاثين لمعة ضمّت في كتاب (اللمعات).

المكتوب الثاني والثلاثون

وهو(اللوامع) المنشورة ختام (الكلمات).

المكتوب الثالث والثلاثون

رسالة (النوافذ) المطلة الى المعرفة الإلهية.نشرت ضمن (الكلمات)، ولم تدرج هنا.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-03-2011
  #39
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 15
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: المكتوبات

واهم سبب لهذا الالتباس هو كون بعض مقامات الاولياء فيه شئ من خواص ((المهدي)) ووظائفه، ويشاهد فيه انتساب خاص مع القطب الاعظم وعلاقة خاصة بالخضر، فهناك مقامات لها علاقات وروابط مع بعض المشاهير، حتى يطلق على تلك المقامات ((مقام الخضر)) و((مقام اويس)) و((مقام المهدية)). وعليه فالواصلون الى ذلك المقام، والى جزء منه، او الى ظل من ظلاله، يتصورون انفسهم انهم هم اولئك الافذاذ المشهورون، فيعتبر الواحد منهم انه هو الخضر او المهدي، او يتخيل انه القطب الاعظم.

فان كانت الانانية فيه قد مُحقت حتى لم يعد لها استشراف وتطلع لحب الجاه والتفاخر على الاخرين فلا يُدان، ونعتبر دعاواه الخارجة عن حده ((شطحات)) قد لا يكون مسؤولا عنها، ويمكن التجاوز عنها.

اما هذه الدعاوى عند الشخص الذي ما زالت الانانية فيه متوفزة، متطلعة لحب الجاه، فستغلبه هذه الانانية وتأخذ بيده الى منازل الفخر مخلفاً وراءه مقام الشكر، ومن هناك يتردى تدريجياً الى هاوية الغرور الماحق للحسنات. فاما ان يتردى الى الجنون، او يضل ضلالاً بعيداً، وذلك لانه جعل نفسه في عداد اولئك الاولياء العظام، وهذا بحد ذاته سوء ظن بهم، لانه يخلع ما في نفسه من قصور، تدركه النفس مهما اغترت على اولئك الاولياء الافذاذ الذين يراهم بمنظار نفسه القاصرة، فيتوهم ان اولئك العظام مقصرون مثله، فيقل احترامه لهم، وبالتالي قد يقل احترامه حتى للانبياء عليهم السلام.

فيجب على هؤلاء المتلبسين ان يمسكوا ميزان الشريعة بايديهم ليزنوا اعمالهم، ويقفوا عند حدود ما حده علماء اصول الدين من دساتير، ويسترشدوا بتعليمات الامام الغزالي والامام الرباني وامثالهم من الاولياء المحققين العلماء، وان يضعوا انفسهم دائماً موضع التهمة، ويعرفوا ان القصور والعجز والفقر ملازم للنفوس مهما ارتقت وتسامت.

فما في هذا المشرب من شطحات عند بعض السالكين، منبعه حب النفس، حتى ليتعاظم هذا الحب فيظن الواحد منهم صفاء نفسه، ولمعان ذاته قطعة الماس رغم انها ليست الا قطعة زجاج تافهة في الحقيقة، اذ عين الرضا كليلة عن العيوب.

هذا وان اخطر المهالك في هذا النوع من السلوك هو: ان المعاني الجزئية التي ترد على قلب السالك بشكل الهام، يتخيلها - هذا السالك - كلام الله، ويعبر عن كل الهام وارد بــ ((آية)) فيمتزج بهذا الوهم عدم احترام لتلك المرتبة السامية العليا للوحي.

نعم ان كل الهام ابتداء من الهام النحل والحيوانات الى الهام عوام الناس والى الهام خواص البشرية، والى الهام عوام الملائكة، والى الهام المقربين الخواص منهم، انما هو نوع من الكلمات الربانية، ولكن الكلام الرباني تجلي الخطاب الرباني المتنوع المتلمع من خلال سبعين الف حجاب حسب قابليات المظاهر والمقامات.

اما ((الوحي)) فهو الاسم الخاص لكلام الله جل وعلا، وابهر مثاله المشخص، هو الذي اطلق على نجوم القرآن، وكل منجمة منه ((آية)) كما ورد توقيفاً. فتسمية هذه الانواع من الالهام بــ (الايات) خطأ محض. اذ بمقدار النسبة بين صورة الشمس الصغيرة الخافتة المتسترة المشاهدة في المرآة الملونة في ايدينا مع الشمس الحقيقية الموجودة في السماء، تكون النسبة بين الالهام الموجود في قلوب اولئك الادعياء وبين آيات شمس القرآن الكريم التي هي كلام إلهي مباشر [كما بينا واثبتنا ذلك في كل من الكلمات الثانية عشرة والخامسة والعشرين والحادية والثلاثين من كتاب ((الكلمات))].

نعم: اذا قيل ان صورة الشمس الظاهرة في مرآة هي صورتها حقاً وذات علاقة مع الشمس الحقيقية، فهذا الكلام لا غبار عليه وهو حق، الا انه لا يمكن ربط الكرة الارضية الضخمة بهذه الشموس ((المرآتية)) المصغرة، ولا يمكن شدها الى جاذبيتها.

C التلويح الخامس:

يعتبر ((وحدة الوجود)) التي تضم ((وحدة الشهود)) من المشارب الصوفية المهمة وهي تعني: حصر النظر في وجود ((واجب الوجود))، اي ان الموجود الحق هو: ((واجب الوجود)) سبحانه فحسب، وان سائر الموجودات ظلال باهتة وزيف ووهم لاتستحق اطلاق صفة الوجود عليها حيال ((واجب الوجود)) لذا فان اهل هذا المشرب يذهبون الى اعتبار الموجودات خيالا ووهماً، ويتصورونها عدما في مرتبة ترك ما سواه، اي: ((ترك ما سوى الله تعالى)) حتى انهم يتطرفون ويذهبون الى حد اعتبار الموجودات مرايا خيالية لتجليات الاسماء الحسنى.

ان اهم حقيقة يحتويها هذا المشرب هي: ان الموجودات الممكنة ((الممكنات والمخلوقات)) تصغر وتتضاءل عند اصحابها من كبار الاولياء الذين وصلوا الى مرتبة حق اليقين بقوة ايمانهم بحيث تنزل عندهم الى درجة العدم والوهم، اي انهم ينكرون وجود الكون بجانب وجود الله تعالى الذي هو واجب الوجود.

غير ان هناك محاذيرومخاطر عدة لهذا المشرب، اولها واهمها:

ان اركان الايمان ستة، فهناك عدا ركن الايمان بالله، اركان اخرى كالايمان بالاخرة، فهذه الاركان تستدعي وجود الممكنات اي ان هذه الاركان المحكمة لايمكن ان تقوم على اساس خيالي.

فعلى صاحب هذا المشرب ألاّ يصحب معه هذا المشرب، وألاّ يعمل بمقتضاه عندما يفيق من عالم الاستغراق والنشوة. ثم ان عليه الا يقلب هذا المشرب القلبي والوجداني والذوقي الى اسس عقلية وقولية وعلمية، ذلك لان الدساتير العقلية.والقوانين العلمية، واصول علم الكلام النابعة من الكتاب والسنة المطهرين لا يمكنها ان تتحمل هذا المشرب، ولاتتسع لامكانية تطبيقه. لذا فلا يرى هذا المشرب في اهل الصحوة الايمانية من الخلفاء الراشدين، والائمة المجتهدين، والعلماء العاملين من اجيال السلف الصالح من هذه الامة، اذن فليس هذا المشرب في اعلى المراتب واسماها، بل قد يكون ذا علو الا انه ناقص في علوه، وقد يكون ذا حلاوة مغرية ولكنه لاذع المذاق. ولظاهر حلاوته، ولجمال ايحائه لا يرغب الداخلون فيه في الخروج منه؛ ويتوهمون ـــ باستشرافات نفوسهم ـــ انه اعلى المراتب واسماها.

ولكوننا قد تناولنا شيئاً من اسس هذا المشرب وماهيته في رسالة نقطة من نور معرفة الله جل جلاله وفي ((الكلمات)) و((المكتوبات)) فاننا نكتفي بذلك، ونقصر الكلام هنا على بيان ورطة خطرة قد يقع فيها قسم من الحائمين حول ((وحدة الوجود)) وهي:

ان هذا المشرب يصلح لأخص الخواص عند حالات الاستغراق المطلق، وللمتجردين من الاسباب المادية، ومن الذين قد قطعوا علائقهم بما سوى الله من الممكنات والاشياء.

ولكن اذا نزل هذا المشرب من علياء الاذواق والمواجيد، والاشواق القلبية الى دائرة المذاهب الفكرية والعلمية وعرض بشكله العلمي والعقلاني على انظار الذين استهوتهم الحياة الدنيا، وغرقوا في الفلسفات المادية والطبيعية، فانه سيكون اغراقاً في الطبيعة والمادة، وابعاداً عن حقيقة الاسلام.

فالشخص المادي المتعلق بالاسباب، والمغرم بالدنيا، يتشوق الى اضفاء صفة الخلود على هذه الدنيا الفانية، لانه يعز عليه ان يرى محبوبته وهي تتبخر بين يديه وتذوب، فيسبغ صفة البقاء والوجود الدائم على دنياه، انطلاقاً من فكرة "وحدة الوجود" فلا يتورع - عندئذٍ - من رفع محبوبته - الدنياــ الى درجة المعبود بعد ان اسبغ عليها صفات الدوام والخلود والبقاء الابدي، فينفتح المجال امامه الى انكار الله سبحانه والعياذ بالله.

ولما كان الفكر المادي قد ترسخت دعائمه في هذا العصر، واستولى على غالبية النشاطات العقلية والعلمية، حتى غدت المادة - عند اصحابه - هي اصل كل شئ ومرجعه، لذا فان ترويج مذهب ((وحدة الوجود)) في هذا العصر - الذي يرى فيه اهل الايمان الخواص الماديات تافهة الى حد العدم - ربما يعطي للماديين حجة ليكونوا دعاة للمذهب نفسه فيخاطبوا اصحابه من اهل الايمان: ((نحن وانتم سواء، نحن ايضاً نقول هكذا ونفكر هكذا)) علما انه لا يوجد مشرب في العالم بعيد عن منهج المادييين وعبدة الطبيعة من مشرب ((وحدة الوجود)). ذلك لان اصحابه يؤمنون بالله ايماناً عميقاً الى درجة يعدون الكون وجميع الموجودات معدوماً بجانب حقيقة الوجود الإلهي، بينما الماديون يولون الموجودات من الاهمية الى حد انهم ينكرون معها وجود الله سبحانه وتعالى... فأين هؤلاء من اولئك؟!

C التلويح السادس: وهو ثلاث نقاط:

النقطة الاولى:

ان اتباع السنة النبوية المطهرة هو اجمل وألمع طريق موصلة الى مرتبة الولاية من بين جميع الطرق، بل اقومها واغناها. والاتباع يعني: تحري المسلم السنة السنية وتقليدها في جميع تصرفاته واعماله، والاستهداء بالاحكام الشرعية في جميع معاملاته وافعاله. فان اعماله اليومية ومعاملاته العرفية وتصرفاته الفطرية الاعتيادية تأخذ بهذا الاتباع شكل العبادة، فضلا عن ان اتباع السنة وتحري شرع الله في شؤون المؤمن جميعها يجعله في صحوة دائمة، وتذكر للشرع مستمر، وتذكّر الشرع هذا يؤدي الى ذكر صاحب الشرع الذي يؤدي الى تذكر الله سبحانه، وذكر الله سبب لسكينة القلب واطمئنانه. اي ان ساعات العمر ودقائقه يمكن ان تنقضي كلها في عبادة دائمة مطمئنة.

لذلك فان اتباع السنة المطهرة هو طريق الولاية الكبرى، وهو طريق ورثة النبوة من الصحابة الكرام والسلف الصالح.

النقطة الثانية:

الاخلاص هو أهم اساس لجميع طرق الولاية وسبل الطريقة، ذلك لان الاخلاص هو الطريق الوحيد للخلاص من الشرك الخفي. فمن لم يحمل اخلاصاً في ثنايا قلبه فلا يستطيع ان يتجول في تلك الطرق، كما ان ((المحبة)) تشكل امضى قوة في تلك الطرق..

نعم، المحبة! فالمحب لا يبحث عن نقص، بل لا يرغب في ان يرى نقصاً في محبوبه، بل يرى اضعف الدلائل والامارات على كمال محبوبه من اقوى الادلة والحجج، لكونه جانب محبوبه على الدوام.

وبناء على هذا السر، فان الذين يتوجهون بقلوبهم الى معرفة الله عن طريق المحبة، لا يصغون الى الاعتراضات ويجاوزون سريعاً العقبات والشبهات، وينقذون انفسهم بسهولة ويحصنونها من الظنون والاوهام، حتى لو اجتمع عليهم آلاف شياطين الارض، فلن يستطيعوا ان يزيلوا امارة او علامة واحدة تدل على كمال محبوبه الحقيقي وسموه. ومن دون هذه المحبة يتلوى الانسان تحت وساوس نفسه وشيطانه، وينهار امام ما تنفثه الشياطين من اعتــراضات وشــبه. فلا يعصمه شـئ سـوى مـتـانـة ايمــانـه وقوتـه، وشدة انتباهـه وحذره.

اذن فالمحبة النابعة من معرفة الله هي جوهر جميع مراتب الولاية واكسيرها. الا ان هناك ورطة كبيرة للمحبة وهي:

انه يُخشى ان ينقلب المحب من التضرع والتذلل لله - اللذين هما سر العبودية - الى الادلال والطلب والدعاوى. فيطيش صوابه ويتحرك مختالاً بمحبته دون ضوابط او موازين.. ويخشى كذلك ان تتحول المحبة لديه من ((المعنى الحرفي)) الى ((المعنى الاسمي)) اثناء توجهه بالمحبة الى ما سوى الله، فتنقلب عندئذِ من داء شاف الى سم زعاف، اذ يحدث احياناً ان المحب يتوجه الى صفات المحبوب - من دون الله - والى كماله الشخصي وجماله الذاتي، اي يكون الحب بمعناه الاسمي - لذاته - اي يستطيع ان يحبه ايضاً من دون تذكر الله ورسوله! مع ان الواجب عليه عند التوجه بالحب لما سوى الله ان يكون هذا الحب في الله ولله، فيربط قلبه به من حيث كونه مرآة لتجلي اسمائه الحسنى.

ان مثل هذا الحب بالمعنى الاسمي لا يكون وسيلة لحب الله، بل ستاراً من دونه. بينما الحب بالمعنى الحرفي اي بسبب من حب الله، فانه يكون وسيلة الى زيادة حب الله، بل يصح القول انه تجل من تجلياته سبحانه.

النقطة الثالثة:

ان الدنيا هي دار العمل ودار الحكمة، وليست داراً للمكافأة والجزاء. فجزاء الاعمال والبر الذي يحصل هنا يكون في الحياة البرزخية والدار الاخرة، فتؤتي هناك اكلها وثمراتها. فما دامت الحقيقة هكذا يجب عدم المطالبة بثمرات الاعمال الاخروية وجزائها في هذه الدنيا، ولو اعطيت يجب اخذها وقبولها من يد الرب سبحانه بفرح مشوب بالحزن، وسرور ممزوج بالأسى، وليس بفرح وسرور خالصين، ذلك لانه ليس من الحكمة تناول ثمرات الاعمال - التي لن تنفد عند تناولها في الجنة - في مثل هذه الحياة الفانية، اذ يشبه ذلك العزوف عن مصباح خالد النور والاضاءة والتعلق بمصباح لا يتوهج نوره الا دقيقة ثم ينطفئ!

وبناء على هذا السر الدقيق - اي انتظار الاجر في الحياة الآخرة - فان الاولياء يستعذبون مشاق الاعمال ومصاعبها والمصائب والبلايا، فلا يشكون ولا يتذمرون.

بل لسانهم دائماً وابداً يردد: الحمدلله على كل حال. واذا وهب الله لهم كرامة او كشفاً او نوراً او ذوقاً فانهم يتناولونه بأدب جم ويعدونه التفاتاً وتكرماً منه سبحانه اليهم، فيحاولون ستر الكرامة واخفاءها ولا يظهرونها ولا يفاخرون بها، بل يسارعون الى زيادة شكرهم وتعميق عبوديتهم، وكثيرون منهم يجأرون الى الله ان يحجب هذه الاحوال عنهم ويحجبهم عنها ويتمنوا ذهابها واختفاءها خوفاً من ان يتعرض الاخلاص في عملهم للخلل.

حقاً ان افضل نعمة إلهية يمكن ان ينالها شخص مقبول عند الله هي التي توهب له من دون ان يشعر بها، لكي لا يتحول من حال التضرع والدعاء الى حال الادلال بعباداته وطلب الاجر عليها، ولئلا يتحول من موقع الشكر والحمد الى موقع الدل والفخر.

فاستناداً الى هذه الحقيقة فان الذين يرغبون في سلوك طريق الولاية والطريقة ان كانوا يرغبون في تناول بعض الثمرات الجانبية للولاية، امثال اللذات المعنوية او الكرامات، ويتوجهون اليها ويطلبونها ويلتذون بها.. فان هذا يعني رغبتهم في تناول تلك الثمرات في هذه الحياة الفانية، وهي - اذا حصلت لهم - ثمرات فانية على اي حال كان. وبذلك يفقدون الاخلاص في اعمالهم الذي به ينالون ثمرة الولاية. كما انهم يمهدون السبيل لفقدان الولاية نفسها.

C التلويح السابع

يتضمن اربع نكات

النكتة الاولى:

ان الشريعة هي نتيجة الخطاب الإلهي الصادر مباشرة - دون حاجز او ستار - من الربوبية المطلقة المتفردة بالاحدية.

لذا فان اعلى مراتب الطريقة واسمى درجات الحقيقة لا يعدوان كونهما اجزاء من كلية الشريعة. اما نتائجهما وما يؤولان اليه فهي الاوامر الشرعية المحكمة. فهما دائماً وابداً يظلان بحكم الخادم للشريعة ووسيلة اليها ومقدمة لها.

فالسالك في الطريقة يرتفع تدريجياً الى اعلى المراتب التي ينال فيها ما في الشريعة نفسها من معنى الحقيقة وسر الطريقة. وعندئذ تكون الطريقة والحقيقة اجزاء الشريعة الكبرى.

لذا فليس صحيحاً ما يتصوره قسم من المتصوفة من ان الشريعة قشر ظاهري، وحقيقتها هي لبها ونتيجتها وغايتها.

نعم، يتنوع انكشاف الاحكام الشرعية ويختلف بالنسبة لمستويات الناس وفهمهم وطبقات مداركهم، فما يظهر منها وينكشف للعوام هو غير ما يظهر وينكشف للخواص..

انه من الخطأ توهم ما يظهر من الشريعة للعوام هو حقيقة الشريعة، واطلاق اسم ((الحقيقة)) و((الطريقة)) على مرتبة الشريعة المنكشفة للخواص.

فالشريعة لها مراتب متوجهة الى جميع طبقات البشر.

وبناء على هذا السر، فان اهل الطريقة، واصحاب الحقيقة كلما تقدموا في مسلكهم وارتقوا في معارجهم، وجدوا انفسهم منجذبين اكثر الى الحقائق الشرعية، متبعين لها، مندرجين ضمن غاياتها ومقاصدها. حتى انهم يتخذون ابسط انواع السنة النبوية الشريفة كأعظم مقصد وغاية، ويسعون الى اتباعها وتقليدها.

لانه بمقدار سمو الوحي وعلوه على الالهام، فالآداب الشرعية التي هي ثمرة الوحي هي اسمى واعلى من آداب الطريقة التي هي ثمرة الالهام، لذا فان اهم اساس للطريقة هو اتباع السنة النبوية المطهرة.

النكتة الثانية:

ينبغي الا تتحول الطريقة والحقيقة من كونهما وسيلتين الى غايتين بحد ذاتهما (تستحوذانعلى قلب السالك وفكره ووجدانه). فاذا اصبحتا - الطريقة والحقيقة - مقصودتين بالذات، فان الاعمال الشرعية المحكمة، وآداب السنة السنية، تنحسر حتى تأخذ الدرجة الثانية من الاهتمام لدى السالك، وتصبح صورية شكلية بانشغال القلب بالتوجه الى آداب الطريقة ورسومها. اي ان المرء - عندئذِ - يفكر بحلقة الذكر اكثر من تفكيره بالصلاة، وينجذب الى اوراده اكثر من انجذابه الى الفرائض، ويلزم نفسه بتجنب مخالفة آداب الطريقة اكثر من التزامه بتجنب الكبائر، والحال ان اداء فريضة واحدة التزاماً بالاوامر الشرعية لا يمكن ان توازيها اوراد الطريقة او تحل محلها.

فآداب الطريقة، واوراد التصوف، وما يحصل للسالك منهما من اذواق ينبغي ان تكون مدخلاً لأذواق أحلى وأعلى وأسمى، يحصل عليها هذا السالك من اداء الفرائض والسنن.

أي ان ما يأخذه المرء من التكية من اذواق، لا بد ان تكون استهلالاً لاذواق الصلاة التي يؤديها في الجامع، بقيامه بأركانها وأدائها على الوجه المطلوب، وإلا فالذي تشغله اذواقه في التكية عن صلاته في الجامع، فيؤديها بخفة وسرعة صورية وشكلية لا حرارة فيها ولا روح، انما يبتعد عن الحقيقة.

النكتة الثالثة:

سؤال: هل يمكن ان توجد طريقة خارج نطاق السنة النبوية الشريفة واحكام الشريعة؟

الجواب: نعم ولا!

نعم، لأن عدداً من الاولياء الكاملين قد اعدموا بسيف الشريعة. ولا، لأن الاولياء المحققين قد اتفقوا على القاعدة التي ذكرها سعدي الشيرازي(1) شعراً:

محالست سعدى براه صفا ظفر بردن جز در بى مصطفى

اي محال ان يصل احد الى الانوار الحقيقية للحقيقة خارج الصراط الذي اختطه الرسول e ، ومن دون اتباع لخطواته.

وسر هذه المسألة هو الآتي:

ما دام الرسول e هو خاتم الانبياء والمرسلين وقد خاطبه الله سبحانه باسم البشرية وممثلا عنها، فلا بد ألاّ تسير البشرية خارج الصراط الذي بينه، فالانضواء تحت لوائه ضروري.

ولكن ما دام اهل الجذب والاستغراق ليسوا مسؤولين عن مخالفاتهم، لما في الانسان من لطائف لا ترضخ للتكاليف الشرعية، فعندما تتحكم فيه تلك اللطيفة لا يبقى مسؤولا امام التكاليف الشرعية، ومادام في الانسان لطائف اخرى لا ترضخ لارادة الانسان كعدم رضوخها للتكاليف، بل لا تنقاد لتدبير العقل ولا تذعن لاوامر القلب والعقل.. فلا بد ان تلك اللطيفة عندما تستحوذ على شخص ما فانه لا يسقط من مرتبة الولاية بمخالفته الشرع، وانما يعد معذوراً - في تلك الاثناء فقط - بشرط الا يصدر عنه شئ ينافي حقائق الشرع وقواعد الايمان انكاراً او تزييفاً او استخفافاً. وينبغي ان يصدق بأحقية الشرع وان لم يكن يؤدي حقه حق الاداء.. والا اذا غلبت عليه الحال، وصدر عنه ما يشم منه التكذيب والانكار لتلك الحقائق المحكمة - نعوذ بالله - فذلك علامة الهلاك.

حاصل الكلام: ان اهل الطريقة الذين هم خارج دائرة الشرع قسمان:

قسم منهم كما ذكرناه آنفاً، فهؤلاء اما ان يكون قد غلب عليه الحال والاستغراق والجذب والسكر. او يكون مغلوباً لسيطرة لطائف لا تنقاد للتكاليف ولا تعير بالاً للارادة، فيخرج من دائرة الشرع.

ولكن هذا الخروج لا ينشأ من عدم الرضى بالشرع، او من رفض الاحكام الشرعية، بل يترك تلك الاحكام اضطراراً دون ارادة منه، فهناك اولياء من هذا القسم، فضلاً عن ان اولياء كباراً قد قضوا فترة بينهم متلبسين بهذه الحال. بل من هذا النوع مَن حكم عليهم اولياء محققون، انهم ليسوا خارجين عن دائرة الشرع وحدها، بل منهم مَن هو خارج عن دائرة الاسلام. الا بشرط ألاّ يكذبوا بجميع ما جاء به الرسول e مِن احكام، مع انهم لا يؤدون حقها، إما لعدم تفكرهم بها، او لعدم استطاعتهم التوجه اليها، او لعدم تمكنهم من معرفتها، او عدم فهمها. ولكن اذا عرفها احد منهم ورفضها فقد هلك.

اما القسم الثاني: فهم المنجذبون لنشوة الاذواق البراقة للطريقة والحقيقة فلا يبالون بالحقائق الشرعية التي هي ارقى من مستوى مذاقهم. ويعتبرها احدهم غير ذات مذاق لعجزه عن بلوغها. فيؤديها صورية شكلية، وهكذا يبلغ به الامر تدريجياً الى ان يظن ان الشريعة مجرد قشر ظاهري، وان ما وجده من الحقيقة هو الاساس والغاية والقصد، فيقول: حسبي ماوجدته. فيقوم بافعال مخالفة لما يأمر به الشرع! فالذين لم يفقدوا شعورهم وعقولهم من هذا القسم مسؤولون عن اعمالهم، ويدانون، بل يهلكون، حتى يكون قسم منهم موضع هزء وسخرية للشيطان.

النكتة الرابعة:

ان اشخاصاً من الفرق الضالة والمبتدعة يكونون من المقبولين بنظر الامة، غير ان امثالهم تردّهم الامة وترفضهم دون ان يكون هناك فرق ظاهري بينهما!!

كنت في حيرة من هذا الامر، فالزمخشري(1) المعتزلي الشديد التعصب لمذهبه لا يكفره اهل التحقيق من اهل السنة ولا يدرجونه في صفوف الضالين على الرغم من اعتراضاته القاسية عليهم، بل يجدون له مبرراً ومجالاً للنجاة، الا ان أبا علي الجبائي(1) وهو ايضاً من ائمة المعتزلة يطرده اهل السنة المحققون ويعدون آراءه مردودة مع انه اخف تعصباً من السابق بكثير، كان هذا يأخذ قسطاً كبيراً من تفكيرى، ثم فهمت بلطف إلهي:

ان اعتراضات الزمخشري على أهل السنة نابعة من محبة الحق الذي يدعو اليه مسلكه، الذي يظنه حقاً كقوله: ان التنزيه الحقيقي لله سبحانه هو بأن يكون الاحياء - في نظره - هم خالقين لافعالهم، لذا فلمحبته الناشئة من تنزيه الحق سبحانه يرد قاعدة اهل السنة في خلق الافعال. اما سائر ائمة الاعتزال المرفوضين فانهم ما انكروا سبيل اهل السنة لفرط محبتهم الحق، وانما لقصور عقولهم عن دساتير اهل السنة السامية، وعجز عقولهم الضيقة عن استيعاب قوانين اهل السنة الواسعة. لذا فأن اقوالهم مردودة وهم مطرودون.

فكما ان مخالفة المعتزلة لاهل السنة هذه بشكلين، وهي الواردة في كتب علم الكلام فان اهل الطريقة الخارجين عن السنة المطهرة ومخالفتهم لها ايضاً من جهتين:

الاولى: ان ينجذب الولي لحاله ونهجه كانجذاب الزمخشري لمذهبه غير مهتم الى حد ما بآداب الشرع التي لم يبلغ اذواقها بعد.

الثانية: ان ينظر الولي الى آداب الشريعة انها غير ذات اهمية اصلاً بالنسبة لدساتير الطريقة وقواعدها (حاش لله) لكونه قد عجز عن ان يستوعب تلك الاذواق الواسعة، فمقامه القصير لا يستطيع ان يبلغ تلك الآداب الرفيعة.

C التلويح الثامن:

وفيه ثمانية مزالق وورطات:

الاولى:

ان الورطة التي يسقط فيها سالكون من الطرق الصوفية - ممن لا يتبعون السنة النبوية على الوجه الصحيح - هي اعتقادهم بأرجحية الولاية على النبوة!! ولقد اثبتنا مدى سمو النبوة على الولاية وخفوت ضوء الاخيرة امام نور النبوة الساطع في الكلمة الرابعة والعشرين والكلمة الحادية والثلاثين من كتاب ((الكلمات)).



الثانية:

وهي تفضيل قسم من المفرطين، الاولياء على الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، بل رؤيتهم في مرتبة الانبياء عليهم السلام. وقد شرحنا في الكلمة الثانية عشرة والكلمة السابعة والعشرين ((الاجتهاد)) وفي ذيلها الخاص بالصحابة كيف ان للصحابة الكرام خواص متميزة بسبب الصحبة النبوية، بحيث لا يمكن للاولياء ان يبلغوا مرتبتهم اصلاً فضلاً عن ان يتفوقوا عليهم. ولا يمكنهم ان يبلغوا قطعاً مرتبة الانبياء.



الثالثة:

وهي ترجيح بعض المتطرفين والمتعصبين جداً للطريقة لأوراد طريقتهم وآدابها على اذكار السنة النبوية الشريفة، فيسقطون بذلك الى منزلق مخالفة السنة النبوية وتركها، في الوقت الذي يظلون متشبثين بأوراد طريقتهم، أي انهم يسلكون سلوك غير المبالي بآداب السنة النبوية الشريفة فيهوون في الورطة، وكما اثبتنا في كلمات كثيرة، وكما اكد كبار محققي الطرق كالامام الغزالي والامام الرباني:

((ان اتباع سنة واحدة من السنن النبوية يكون مقبولاً عند الله اعظم من مائة من الآداب والنوافل الخاصة. اذ كما ان فرضاً واحداً يرجح الفاً من السنن، فان سنة واحدة من السنن النبوية ترجح الفاً من آداب التصوف)).



الرابعة:

ان بعض المتطرفين من اهل التصوف يظنون خطأً ان ((الالهام)) بمرتبة ((الوحي))، كما يعتبرون الالهام نوعاً من انواع الوحي فيسقطون في هذا المزلق الخطير، وقد برهنّا سابقاً في (( الكلمة الثانية عشرة)) و((الكلمة الخامسة والعشرين)) المتعلقة باعجاز القرآن وفي رسائل اخرى؛ كيف ان الوحي سام وعال وساطع وضاء وكلي شامل بينما الالهام بالنسبة اليه جزئي وخافت.



الخامسة:

ان بعض المتصوفين ممن لم يدركوا تماما سر الطريقة - في كونها وسيلة وليست غاية بحد ذاتها - قد ينجذبون ويتوجهون الى ما يفاض عليهم من الكرامات والاذواق والانوار، تلك التي توهب ولا تسأل اذ يمنحها الله سبحانه تقوية للضعفاء، وتشجيعاً للمتكاسلين، وتخفيفاً من المشقة والسأم - الذي يعتريهم من شدة الاجهاد في العبادة - فينجرون الى تفضيل تلك الكرامات والاذواق والانوار على فروض الدين والخدمة تحت لوائه وقراءة الاذكار والاوراد، فيسقطون في هذا المزلق.

وقد سبق ان اجملنا في النقطة الثالثة من التلويح السادس وفي كلمات اخرى، بأن هذه الدنيا هي دار خدمة وعمل وليس دار ثواب ومكافأة، فالذين يرغبون في قطف ثمار اعمالهم في هذه الحياة الفانية، انما يستبدلون المكافأة الدنيوية الفانية بثمار الاخرة الابدية الباقية، فضلاً عن ان هذا يدل على بقايا تعلق بالدنيا ورغبة في الاستمتاع بها، ويكون هذا سبباً في خفوت شوقهم وتطلعهم الى الحياة البرزخية، بل يريدون هذه الحياة، اذ يجدون فيها نوعاً من ثمار الآخرة.



السادسة:

وهي المنزلق الذي يقع فيه قسم من سالكي الطرق الصوفية من غير اهل الحقيقة عندما يلتبس عليهم الامر فيتوهمون بان ظلال مقامات الولاية ونماذجها المصغرة كأنها هي المقام الحقيقي والكلي والاصلي..

ولقد اثبتنا في الغصن الثاني من ((الكلمة الرابعة والعشرين)) وفي كلمات اخرى بما لاشك فيه؛ ان الشمس وان تعددت صورها بتعدد المرايا التي تنعكس عليها، فهذه الصور تملك ضياء الشمس وحرارتها ولكن ليس هو الضياء الاصلي نفسه، ولا هي الحرارة نفسها فهي باهتة الانوار بالنسبة للشمس الحقيقية.

كذلك فان لمقام النبوة ولمقام كبار الاولياء، شيئاً من الظلال التي يمكن لاهل الطرق ان يستظلوا بها، ولكنهم يظنون اثناء دخولهم فيها انهم اعظم درجة من كبار الاولياء، بل حتى من الانبياء - والعياذ بالله - فيسقطون في مزلق.

ولانقاذ انفسهم من جميع هذه المزالق المذكورة سابقاً عليهم ان يضعوا اصول الايمان واسس الشرع نصب اعينهم ويتخذوها مرشداً دائماً لهم، وان يخالفوا اذواقهم ومشهوداتهم ويتهموها عند تعارضها مع تلك الاسس.



السابعة:

وهي المزلق الذي يقع فيه قسم من اهل الاذواق والاشواق من اصحاب الطرق عندما ينصرفون الى الفخر والادعاء واشاعة الشطحات وطلب توجه الناس ونيل المرجعيات الدينية، ويفضلون هذه العجالات على الشكر والتضرع والحمد والاستغناء عن الناس، بينما عبودية محمد e هي اسمى مرتبة في العبودية، تلك العبودية التي نستطيع وصفها بالمحبوبية، او عبودية المحبة.

فأساس العبودية وسرها هو التضرع والحمد والدعاء والخشوع والعجز والفقر والاستغناء عن الناس، وبهذا فقط يمكن الوصول الى كمال تلك الحقيقة، حقيقة العبودية.

نعم ان عدداً من الاولياء الكبار اضطروا - دون اختيار منهم لغلبة الحال وبشكل موقت فقط - الى الخروج الى ساحة الفخر والطلب والشطحات، لذا فلا يجوز اتباعهم اختياراً في حالهم هذه، فهم مهتدون، ولكنهم هنا وفي هذه النقطة بالذات ليسوا قدوة في الهداية، لذا لا يمكن السير وراءهم والاقتداء بهم.



الثامنة:

وهي الورطة التي يتورط فيها قسم من المتعجلين والقاصدين المنافع الذاتية من اهل الطرق من الذين يرغبون في تناول ثمرات الولاية في الدنيا بدلاً من قطفها في الآخرة. وعندما يدل سلوكهم على هذه الرغبة، وتتكشف نيتهم من خلال هذا السلوك يكونون فعلاً قد سقطوا في هذه الورطة. علماً ان آيات كثيرة في القرآن الكريم من امثال } وما الحياة الدنيا الا متاع الغرور{ (آل عمران:185) تدل بوضوح ما اثبتناه سابقاً في عدة ((كلمات)) من ان ثمرة واحدة من ثمرات عالم البقاء ترجح الف بستان في هذه الحياة الفانية، لذا فالافضل عدم تناول تلك الثمرات المباركة هنا، وان اعطيت دون توجه ورغبة فيها، فيجب ابداء الحمد والشكر في قبولها - لا على انها مكافأة - بل على انها احسان وفضل من الله وهبت للتشويق.

C التلويح التاسع:

نذكر هنا مجملاً تسع ثمرات من الثمار الوفيرة للطريقة وفوائدها:

الاولى:

هي ظهور الحقائق الايمانية وانكشافها ووضوحها الى درجة عين اليقين بوساطة الطريقة الصحيحة المستقيمة. هذه الحقائق التي هي منابع خزائن ابدية وسعادة دائمة وكنوزها ومفاتيحها.



الثانية:

هي تحقيق الوجود الحقيقي للانسان بانسياق لطائفه جميعاً الى ما خُلقت لأجله. وذلك بأن تكون الطريقة واسطة لتحريك قلب الانسان الذي يعتبر مركزاً لجسمه ولولباً لحركته وتوجيهه الى الله. فيندفع بهذا كثير من اللطائف الانسانية الى الحركة والظهور فتتحقق حقيقة الانسان.



الثالثة:

التخلص من وحشة الانفراد والوحدة في السير والسلوك، والشعور بالانس المعنوي في الحياة الدنيا والبرزخ بالالتحاق باحدى سلاسل الطريقة عند سيرها وتوجهها وسفرها نحو الحياة البرزخية ونحو الحياة الاخروية، وعقد اواصر الصداقة والمحبة بتلك القافلة النورانية في طريق أبد الآباد، فتندفع الاوهام والشبه عن النفس باستناد المريد الى اجماعهم واتفاقهم باعتبار كل استاذ مرشد حجة قوية وسنداً لا يضعف في دفع الاضاليل والاوهام التي ترد الى الذهن.



الرابعة:

وهي خلاص الانسان من الوحشة الهائلة التي تكتنفه في حياته الدنيا، والانسلال من الغربة الاليمة التي يحسها ازاء الكون، وذلك بما تقوم به الطريقة الصائبة الصافية من تفجير ينابيع محبة الله ومعرفته في الايمان.

وقد سبق ان اثبتنا في كلمات عدة بأن سعادة الدارين، واللذة التي لايشوبها ألم، والانس الذي لا تخالطه وحشة، والسعادة الحقيقية لا توجد الا في حقائق الايمان والاسلام التي تسعى الطريقة للوصول اليها كما اننا بينا في ))الكلمة الثانية(( بان الايمان يحمل بذرة شجرة طوبى في الجنة.

نعم فبالتربية الموجودة في الطريقة تنمو تلك البذرة وتكبر.



الخامسة:

الشعور بالحقائق اللطيفة في التكاليف الشرعية وتقديرها بوساطة القلب المنتبه بدوام ذكر الله، كما يعينه على ذلك المنهج التربوي للطريقة. وبذلك تكون الطاعة والعبادة مثار اشتياق وحب، لا مثار تعب وتكليف.



السادسة:

نيل مقام التوكل، ودرجة الرضى، ومرتبة التسليم. هذه المقامات هي السبيل الى تذوق السعادة الحقيقية والتسلية الخالصة واللذة التي لا يشوبها حزن، والانس الذي لا تقربه وحشة.



السابعة:

وهي نجاة الانسان من الشرك الخفي والرياء والتصنع وامثالها من الرذائل وذلك بالاخلاص الذي هو اهم شرط لدى سالك الطريقة واهم نتيجة لها. وكذا التخلص من اخطار النفس الامارة بالسوء ومن أدران الانانية بتزكية النفس التي هي السلوك العملي في الطريقة.



الثامنة:

هي جعل الانسان عاداته اليومية بحكم العبادات واعماله الدنيوية بمثابة اعمال اخروية، والاحسان في استغلال رأس مال عمره من الحياة بدقائقها وجعلها بذوراً تتفتح عن زهرات الحياة الاخروية وسنابلها.

وذلك بدوام الذكر القلبي، والتأمل العقلي، مع الحضور القلبي الدائم والاطمئنان، ودوام شحذ الارادة، والنية الصافية، والعزيمة الصادقة التي تلقنها الطريقة.

التاسعة:

وهي العمل للوصول الى مرتبة الانسان الكامل، وذلك بالتوجه القلبي الى الله طوال سيره وسلوكه، واثناء معاناته الروحية التي تسمو بحياته المعنوية، اي الوصول الى مرتبة المؤمن الحق والمسلم الصادق، اي نيل حقيقة الايمان والاسلام لا صورتيهما، ثم ان يكون الانسان عبداً خالصاً لرب العالمين، وموضع خطابه الجليل، وممثلاً عن الكائنات من جهة، وولياً للّه وخليلاً له، حتى كانه مرآة لتجلياته سبحانه، وفي احسن تقويم حقاً فيقيم الحجة على افضلية بني آدم على الملائكة.

وهكذا يطير بجناحي الايمان والعمل بالشريعة الى المقامات العليا والتطلع من هذه الدنيا الى السعادة الابدية بل الدخول فيها.

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{

اللّهم صلّ على الغوث الاكبر في كل العصور والقطب الأعظم في كل الدهور سيدنا محمد الذي تظاهرت حشمة ولايته ومقام محبوبيته في معراجه واندرج كل الولايات في ظل معراجه وعلى آله وصحبه اجمعين

آمين والحمد لله رب العالمين

ذيـل

هذا الذيل القصير جداً له اهمية عظيمة ومنافع للجميع

للوصول الى الله سبحانه وتعالى طرائق كثيرة، وسبل عديدة. ومورد جميع الطرق الحقة ومنهل السبل الصائبة هو القرآن الكريم. الا ان بعض هذه الطرق اقرب من بعض واسلم واعم.

وقد استفدت من فيض القرآن الكريم بالرغم من فهمي القاصر طريقاً قصيراً وسبيلاً سوياً هو:

طريق العجز، الفقر، الشفقة، التفكر.

نعم! ان العجز كالعشق طريق موصل الى الله، بل اقرب واسلم، اذ هو يوصل الى المحبوبية بطريق العبودية.

والفقر مثله يوصل الى اسم الله ((الرحمن)).

وكذلك الشفقة كالعشق موصل الى الله الا انه انفذ منه في السير واوسع منه مدى، اذ هو يوصل الى اسم الله ((الرحيم)).

والتفكر ايضاً كالعشق الا انه اغنى منه واسطع نوراً وارحب سبيلاً، اذ هو يوصل السالك الى اسم الله ((الحكيم)).

وهذا الطريق يختلف عما سلكه اهل السلوك في طرق الخفاء - ذات الخطوات العشر كاللطائف العشر - وفي طرق الجهر - ذات الخطوات السبع حسب النفوس السبعة - فهذا الطريق عبارة عن اربع خطوات فحسب، وهو حقيقة شرعية اكثر مما هو طريقة صوفية.

ولا يذهبن بكم سوء الفهم الى الخطأ. فالمقصود بالعجز والفقر والتقصير انما هو اظهار ذلك كله امام الله سبحانه وليس اظهاره امام الناس.

اما اوراد هذا الطريق القصير واذكاره فتنحصر في اتباع السنة النبوية.. والعمل بالفرائض، ولاسيما اقامة الصلاة باعتدال الاركان والعمل بالاذكار عقبها.. وترك الكبائر.

اما منابع هذه الخطوات من القرآن الكريم فهي:

} فلا تُزكّوا انفُسَكم{ (النجم:32) تشير الى الخطوة الاولى.

} ولا تكونوا كالذين نَسُوا الله فأنساهُم أنفُسَهم{ (الحشر:19) تشير الى الخطوة الثانية.

} ما اصابكَ مِن حسنةٍ فمن الله، ومَا اصابكَ مِن سيئةٍ فِمن نفسِ{ (النساء:79) تشير الى الخطوة الثالثة:

} كلُّ شيءٍ هالكٌ الاّ وجْهَه{ (القصص:88)، تشير الى الخطوة الرابعة.

وايضاح هذه الخطوات الاربع بايجاز شديد هو:

الخطوة الاولى:

كما تشير اليها الآية الكريمة } فلا تزكوا انفسكم{ وهي عدم تزكية النفس. ذلك لان الانسان حسب جبلّته، وبمقتضى فطرته، محبٌ لنفسه بالذات، بل لا يحب الا ذاته في المقدمة. ويضحي بكل شئ من اجل نفسه، ويمدح نفسه مدحاً لا يليق الا بالمعبود وحده، وينزّه شخصه ويبرئ ساحة نفسه، بل لا يقبل التقصير لنفسه اصلاً ويدافع عنها دفاعاً قوياً بما يشبه العبادة، حتى كأنه يصرف ما أودعه الله فيه من اجهـزة لحمده سبحـانه وتقديسه الـى نفسه، فيصيبه وصـف الآية الكريمة: } من اتّخذ الهَه هَواه{ (الفرقان:43) فيعجب بنفسه ويعتد بها.. فلابد اذن من تزكيتها. فتزكيتُها في هذه الخطوة وتطهيرها هي بعدم تزكيتها.

الخطوة الثانية:

كما تلقّنه الآية الكريمة من درس: } ولا تكونوا كالذين نَسُوا الله فأنساهُم انفُسَهم{ . وذلك: ان الانسان ينسى نفسه ويغفل عنها، فاذا ما فكر في الموت صرفه الى غيره، واذا ما رأى الفناء والزوال دفعه الى الآخرين، وكأنه لا يعنيه بشئ، اذ مقتضى النفس الامارة انها تذكر ذاتها في مقام اخذ الاجرة والحظوظ وتلتزم بها بشدة، بينما تتناسى ذاتها في مقام الخدمة والعمل والتكليف. فتزكيتها وتطهيرها وتربيتها في هذه الخطوة هي:

العمل بعكس هذه الحالة، اي عدم النسيان في عين النسيان، اي نسيان النفس في الحظوظ والاجرة، والتفكر فيها عند الخدمات والموت.

والخطوة الثالثة:

هي ما ترشد اليه الآية الكريمة: } ما اصابكَ مِن حَسَنةٍ فَمِنَ الله وما اصابكَ مِنْ سيئة فمن نفسك{ وذلك: ان ما تقتضيه النفس دائماً انها تنسب الخير الى ذاتها، مما يسوقها هذا الى الفخر والعجب. فعلى المرء في هذه الخطوة ان لا يرى من نفسه الا القصور والنقص والعجز والفقر، وان يرى كل محاسنه وكمالاته احساناً من فاطره الجليل، ويتقبلها نعماًمنه سبحانه، فيشكر عندئذ بدل الفخر ويحمد بدل المدح والمباهاة. فتزكية النفس في هـذه المرتبة هـي فـي سـر هذه الآية الـكريمة: } قَد أفلَحَ مَنْ زَكّاها{ (الشمس:9).

وهي ان تعلم بأن كمالها في عدم كمالها، وقدرتَها في عجزها، وغناها في فقرها، (اي كمال النفس في معرفة عدم كمالها، وقدرتها في عجزها امام الله، وغناها في فقرها اليه).

الخطوة الرابعة:

هي ما تعلمه الآية الكريمة: } كُلُّ شَيٍء هالكٌ إلا وجْهَه{ . ذلك لان النفس تتوهم نفسها حرة مستقلة بذاتها، لذا تدّعى نوعاً من الربوبية، وتضمر عصيانا حيال معبودها الحق. فبادراك الحقيقة الاتية ينجو الانسان من ذلك وهي: كل شئ بحد ذاته، وبمعناه الاسمي: زائلٌ، مفقود، حادث، معدوم، الا انه في معناه الحرفي، وبجهة قيامه بدور المرآة العاكسة لأسماء الصانع الجليل، وباعتبار مهامه ووظائفه: شاهد، مشهود، واجد، موجود.

فتزكيتها في هذه الخطوة هي معرفة ان عدمها في وجودها ووجودها في عدمها، اي اذا رأت ذاتها واعطت لوجودها وجوداً، فانها تغرق في ظلمات عدم يسع الكائنات كلها. يعني اذا غفلت عن موجدها الحقيقي وهو الله، مغترة بوجودها الشخصي فانها تجد نفسها وحيدة غريقة في ظلمات الفراق والعدم غير المتناهية، كأنها اليراعة في ضيائها الفردي الباهت في ظلمات الليل البهيم. ولكن عندما تترك الانانية والغرور ترى نفسها حقاً انها لا شئ بالذات، وانما هي مرآة تعكس تجليات موجدها الحقيقي. فتظفر بوجود غير متناه وتربح وجود جميع المخلوقات.

نعم، من يجد الله فقد وجد كل شئ، فما الموجودات جميعها الا تجليات اسمائه الحسنى جل جلاله.



خاتمة

ان هذا الطريق الذي يتكون من اربع خطوات وهي العجز والفقر والشفقة والتفكر، قد سبقت ايضاحاته في ((الكلمات الست والعشرين)) السابقة من كتاب ((الكلمات)) الذي يبحث عن علم الحقيقة، حقيقة الشريعة، حكمة القرآن الكريم. الا اننا نشير هنا اشارة قصيرة الى بضع نقاط وهي: ان هذا الطريق هو اقصر واقرب من غيره، لانه عبارة عن اربع خطوات. فالعجز اذا ما تمكن من النفس يسلّمها مباشرة الى ((القدير)) ذي الجلال.بينما اذا تمكن العشق من النفس - في طريق العشق الذي هو انفذ الطرق الموصلة الى الله - فانها تتشبث بالمعشوق المجازي، وعندما ترى زواله تبلغ المحبوب الحقيقي.

ثم ان هذا الطريق اسلم من غيره، لان ليس للنفس فيه شطحات او ادعاءات فوق طاقتها، اذ المرء لا يجد في نفسه غير العجز والفقر والتقصير كي يتجاوز حده.

ثم ان هذا الطريق طريق عام وجادة كبرى، لانه لا يضطر الى اعدام الكائنات ولا الى سجنها، حيث ان اهل ((وحدة الوجود)) توهموا الكائنات عدماً، فقالوا: ((لا موجود الا هو)) لاجل الوصول الى الاطمئنان والحضور القلبي. وكذا اهل ((وحدة الشهود)) حيث سجنوا الكائنات في سجن النسيان فقالوا: ((لا مشهود الا هو)) للوصول الى الاطمئنان القلبي والحضور الدائمي.

بينما القرآن الكريم يعفو الكائنات بكل وضوح عن الاعدام ويطلق سراحها من السجن، فهذا الطريق على نهج القرآن ينظر الى الكائنات انها مسخرة لفاطرها الجليل وخادمة في سبيله، وانها مظاهر لتجليات الاسماء الحسنى كأنها مرايا تعكس تلك التجليات. اي انه يستخدمها بالمعنى الحرفي ويعزلها عن المعنى الاسمي من ان تكون خادمة ومسخرة بنفسها. وعندها ينجو المرء من الغفلة، ويبلغ الحضور الدائمي على نهج القرآن الكريم. فيجد الى الحق سبحانه طريقاً من كل شئ.

وزبدة الكلام: ان هذا الطريق لا ينظر الى الموجودات بالمعنى الاسمي، اي لا ينظر اليها انها مسخرة لنفسها ولذاتها، بل يعزلها من هذا ويقلدها وظيفة، انها مسخرة لله سبحانه.

المكتوب الثلاثون

وهو (إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز) باللغة العربية

المكتوب الحادي والثلاثون

وقد انقسم الى إحدى وثلاثين لمعة ضمّت في كتاب (اللمعات).

المكتوب الثاني والثلاثون

وهو(اللوامع) المنشورة ختام (الكلمات).

المكتوب الثالث والثلاثون

رسالة (النوافذ) المطلة الى المعرفة الإلهية.نشرت ضمن (الكلمات)، ولم تدرج هنا.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-03-2011
  #40
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 15
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: المكتوبات

نـوى الـحقائــق

توضيح

منذ مدة وعمي العزيز ((بديع الزمان)) لا يتوجه الى المسائل عقلاً بل قلباً. وما يظهر على قلبه يمليه عليّ ويقول: ((ان العلم هو ما يستقر في القلب، فلو استقر في العقل وحده لا يكون ملك الانسان)). وكان يقول: ((ان هذه المسائل ليست قواعد علمية وحدها، بل ما اتخذته وجداناً من اسسٍ لبعض دساتير قلبية)). وقد أمرني: ((انتخب ما يروق لك مما سنح لقلبي)) فانا بدوري اقتطفت هذه الفقرات من آثاره الآتية:

نقطة من نور معرفة الله ـ اشارات الاعجاز في مظان الايجاز ـ سنوحات ـ شعاعات معرفة النبي e ـ رموز ـ طلوعات ـ محاكمات ـ مناظرات ـ اشارات ـ قزل ايجاز .

عبدالرحمن

( من الطبعة الاولى المطبوعة في مطبعة الاوقاف الاسلامية باستانبول سنة 1337)المترجم.

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد
وعلى آله وصحبه اجمعين.

1 - عصرٌ مريض، وعنصر سقيم، وعضو عليل، وَصفَتها الطبية هي إتباع القرآن.

2 - قارة شاسعة عظيمة الجانب، رديئة الطالع.. دولة مشهورةٌ عريقة المجد، سيئة الحظ.. أمة عزيزة جليلة القدر، بلا رائد.. وصفتُها الطبية الاتحاد الاسلامي.

3 - ان الذي لا يملك قبضة قوية يستطيع بها حمل الارض وجميع النجوم والشموس وتحريكها كحبات المسبحة، لا يستطيع ادعاء الخلق والايجاد؛ اذ كلّ شيء مربوط بغيره.

4 - ان احياء جميع ذوي الارواح يوم الحشر لا يثقل على القدرة الإلهية كما لا يثقل عليها احياء حشرة وانشائها بعد سبات عميق طوال الشتاء بما يشبه الموت؛ لأن القدرة الإلهية ذاتية، لا تتغير قطعاً، ولا يمكن أن يتخا العجزُ، ولا تتداخل فيها العوائقُ، فليس فيها مراتب مطلقاً، وكل شيء بالنسبة اليها سواء.

5 - ان الذي خلق عين البعوضة هو الذي خلق الشمس ايضاً.

6 - والذي نظّم معدة البرغوث هو الذي نظم المنظومة الشمسية ايضاً.

7 - ان في تأليف الكون اعجازاً باهراً، بحيث لو فرضنا - فرضاً محالاً - ان كل سبب من الاسباب الطبيعية فاعلٌ مختارٌ، مقتدرٌ، لسجَدَت تلك الاسبابُ جميعُها ـ بكمال العجزـ امام ذلك الاعجاز، قائلة: [سبحانك .. لا قدرة لنا.. انك انت العزيز الحكيم](1).

8 - ان الاسباب لم تُمنحَ التأثير الحقيقي.. هكذا تقتضي الوحدة والجلال. إلاّ ان الاسباب قد اصبحت ستاراً بين يدي القدرة في جهة المُلك.. هكذا تقتضي العزة والعظمة، وذلك لئلا تُرى في ظاهر النظر يدُ القدرة مباشِرةً للامور الخسيسة في جهة المُلك.

9 - ان جهة الملكوت التي هي محل تعلّق القدرة في كل شئ، شفافة نزيهة.

10ـ ان عالم الشهادة ستار مزركش ملقى على عوالم الغيب.

11ـ يلزم لايجاد نقطة في مكانها الصحيح، قدرة مطلقة تستطيع ايجاد الكون كله، ذلك لأن كل حرف من حروف كتاب الكون الكبير - لا سيما ما كان ذا حياة - له وجه ناظر الى كل جملة من جمل الكتاب، وله عين شاخصة اليها.

12ـ لقد اشتهرت حادثة: انه بينما كان الناس يراقبون هلال العيد، ولم يره أحد، اذا بشيخ هرم يحلف أنه قد رأى الهلال، ثم تبين ان ما رآه لم يكن هلالاً بل شعرة بيضاء مقوسة قد تدلت من حاجبه! فاين تلك الشعرة من الهلال؟ واين حركات الذرات من فاعل تشكيل الانواع؟

13ــ الطبيعة مطبعة مثالية وليست طابعة، نقش لا نقّاش، قابلة للانفعال لا فاعلة، مِسطرَ لا مصدر، نظام لانظّام، قانون لا قدرة، شريعة ارادية لا حقيقة خارجية.

14ــ ان الانجذاب والجذبة المغروزين في الوجدان - الذي هو فطرةٌ ذات شعور - ليس إلاّ من جذبة حقيقية جذابة.

15ــ ان الفطرة لا تكذب، ففي البذرة ميلان للنمو، اذا قال: سأنبت، سأثمر، فهو صادق. وفي البيضة ميلان للحياة، اذا قال: سأكون فرخاً، فيكون باذن الله، وهو صادق، واذا قال ميلان التجمد في غرفة من ماء: سأحتل مكاناً أوسع فلا يستطيع الحديد - رغم صلابته - ان يكذبه. بل إن صدقَ قوله يفتت الحديد، فهذه الميول انما هي تجليات الأوامر التكوينية الصادرة عن الأرادة الإلهية.

16ــ ان القدرة الازلية التي لا تترك النملة من دون أمير والنحلَ من دون يعسوب، لا تترك البشر من دون نبي ايضاً، وان انشقاق القمر كما هو معجزة احمدية للانسان في عالم الشهادة، فالمعراج ايضاً معجزة احمدية كبرى للملائكة والروحانيات في عالم الملكوت. وقد اثبتت ولاية نبوته بهذه الكرامة الباهرة، فكانت شخصيته المشرقة كالشعلة الوضاءة كالبرق والبدرفي عالم الملكوت.

17ــ ان كلمتي الشهادة شاهدتان احداهما على الاخرى. فالكلمة الاولى برهان لـمّي للثانية، والثانية برهان إنّي للاولى(1).

18ــ ان الحياة نوعٌ من تجلي الوحدة في الكثرة، لـذا فـهـي تـدفـع الـى الاتحاد، فالحيـاة تجعـل الشيء الواحـد مالكاً لكل شيء.

19ــ ان الروح قانون ذو وجود خارجي، وناموس ذو شعور، وهو آتٍ من عالَم الأمر وصفةِ الارادة، كالقوانين الفطرية الثابتة الدائمة. وقد كستْه القدرةُ الوجودَ الحسي، وجعلتْ سيالةً لطيفة صَدَفَةً لذلك الجوهر. ان الروح الموجود اخ للقانون المعقول. كلاهما دائـمي وكلاهما آتٍ من عالــم الأمـر. ولو ألبست القدرةُ الازلية قوانين الانواع وجوداً خارجياً لأصبحت روحاً، ولو طرح الروحُ الشعورَ، لأصبح قانوناً لا يموت ايضاً.

20ــ انما تُشاهد الموجودات بالضياء، ويُعرف وجود الموجودات بالحياة، فكل منهما كشّاف.

21ــ ان النصرانية سوف تلقي السلاح وتستسلم للاسلام سواءً بالانطفاء او بالإصطفاء، فلقد تمزقت النصرانية عدة مرات حتى انتهت الى البروتستانية. وتمزقت البروتستانية فاقتربت من التوحيد، وهي تتهيأ للتمزّق مرة اخرى. فإما إنها تنطفئ وينتهي أمرُها، وإما أن تجد تجاهها الحقائق الاسلامية الجامعة لأسس النصرانية الحقّة ومبادئها، فتستسلم. وقد اشار الرسول e الى هذا السرّ العظيم بأنه: سينزل عيسى (عليه السلام)وسيكون من امتي ويعمل بشريعتي.

22ــ ان الذي يسوق جمهور الناس الى الاتباع وامتثال الاوامر هو ما يتحلى به المصدر من قدسية، هذه القدسية هي التي تدفع جمهور الناس الى الانقياد اكثر من قوة البرهان ومتانة الحجة.

23ــ ان تسعين بالمائة من مسائل الشريعة – التي هي الضروريات والمسلـّمات الدينية - كل منها عمود من الالماس، أما المسائل الاجتهادية الخلافية فهي تمثل عشرة بالمائة فقط. ولا ينبغي ان يكون تسعون عموداً من الالماس تحت حماية عشرة منها من ذهب، فالكتب الفقهية والاجتهادات ينبغي ان تكون مرايا ومناظير لرؤية القرآن وليست حُجُباً وظلالاً وبديلاً عنه.

24ــ كل مَن يملك استعداداً للاجتهاد يستطيع ان يجتهد لنفسه إلاّ انه لا يستطيع ان يشرّع.

25ــ ان الدعوة الى أي فكر كان منوطةٌ بقبول جمهور العلماء لها والاّ فهي بدعة، مردودة.

26ــ ان الانسان لكونه مكرّماً فطرة يبحث عن الحق دوماً، واثناء بحثه يعثر على الباطل احياناً فيخفيه في صدره ويحفظه، وقد يقع الضلالُ - بلا اختيار منه - على رأسه اثناء تنقيبه عن الحقيقة، فيظنه حقاً، فيلبسه كالقلنسوة.

27ــ ان للقدرة مرايا كثيرة جداً، كل منها أشفّ وألطف من الاخرى. وهي تتنوع، من الماء الى الهواء، ومنه الى الاثير، ومنه الى عالم المثال، ومنه الى عالم الارواح بل الى الزمان والى الفكر.

ففي مرآة الهواء تصبح الكلمة الواحدة ملايين الكلمات. فان قلم القدرة يستنسخ سرّ هذا التناسل بشكل عجيب. ان الانعكاس إما يحوي الهوية او يحوي الهوية مع الماهية. ان تماثيل المادة - أي صورها - الكثيفة عبارة عن اموات متحركة، أما تماثيل الارواح النورانية في مراياها فحيّة مرتبطة بالحياة، ان لم تكن عينُها فليست غيرَها.

28ــ اذا انتفضت الشمسُ بحركتها المحورية، فلا تسقط ثمارُها، وإن لم تنتفض فان ثمارها من السيارات تسقط وتتفرق.

29ــ ان نور الفكر ظلام يفجر ظلماً مالم يتوهج بضياء القلب ويمتزج به. فكما اذا لم يمتزج نهار العين الابيض غير المنور بليلها الاسود(1) فلا تكون بصراً، كذلك لا بصيرة لفكرة بيضـاء لا توجـد فيهـا سويـداء القـلـب.

30ــ اذا لم يكن في العلم اذعان القلب فهو جهل، لأن الالتزام شئ والاعتقاد شئ آخر.

31ــ ان تصوير الاباطيل تصويراً جيداً إضلالٌ للاذهان الصافية.

32ــ ان العالم المرشد ينبغي ان يكون كالشاة لا كالطير. فالشاة تُطعِم بَهْمَتها اللبن والـطير تلـقم فراخهـا الـقئ.

33ــ ان وجود شئ يتوقف على وجود جميع اجزائه، بينما عدمُه يتوقف على عدم جزءٍ منه، لذا يميل الشخص الضعيف الى التخريب لإثبات قدرته، فيرتكب اعمالاً سلبية تخريبية بدل افعال ايجابية تعميرية.

34ــ اذا لم تمتزج دساتير الحكمة مع نواميس الحكومة ولم تمتزج قوانين الحق مع روابط القوة فلن تكون مثمرة بين جمهور العوام.

35ــ لقد وضع الظلمُ على رأسه قلنسوةَ العدالة ولبست الخيانةُ رداءَ الحمية واُطلق على الجهاد اسم البغي وعلى الأسر اسم الحرية. وهكذا تبادلت الاضدادُ صُوَرَها.

36ــ ان السياسة الدائرة على المنافع وحش رهيب.

37ــ ان التودد الى وحش جائع لا يثير شفقته بل يثير شهيته فضلاً عن أنه يطالب باجرة انيابه واظفاره.

38ــ لقد اظهر الزمانُ أن الجنة ليست رخيصة وان جهنم ايضاً ليست زائدة عن الحاجة.

39ــ قد صارت مزية الخواص من اهل الدنيا التي تستدعي التواضع والتراحم سبباً للتكبرّ والغرور، وصار عجز الفقراء وفقر العوام المستثيران للرحمة والاحسان سبباً لأسارتهم وسفالتهم.

40ــ ان كان في شئ ما محاسنُ وشرف فسرعان ما يُهدى الى الخواص ويُنسَب اليهم. اما ان كان فيه سيئات فيلصقوها بالعوام وينسبوها اليهم.

41ــ اذا لم تكن للفكر غاية ومثلٌ عليا، أو نُسيت تلك الغاية، أو تنوسيت تحولت الاذهان الى ((انا)) - الافراد - ودارت حولها.

42ــ لو تأملت في مساوئ جمعية البشر لرأيت: اس اساس جميع اختلالاتها وفسادها، ومنبع كل الاخلاق الرذيلة في الهيئة الاجتماعية، كلمتين فقط:

احداهما: إن شبعتُ فلا عليّ ان يموت غيري من الجوع.

والثانية:إكتسب انت لآكل أنا،واتعبْ انت لاستريح انا.

والقاطع لعرق الكلمة الاولى ليس إلاّ ((الزكاة)). والمستأصل والدواء للكلمة الثـانية ليس إلاّ((حرمة الربا)).

ان عدالة القرآن تقف على باب العالم وتصيح في الربا: ممنوع، لا يحق لك الدخول! ان البشرية لما لم تصغ الى هذا الكلام تلقت صفعة قوية. وعليها أن تُصغي اليها قبل ان تتلقى صفعة اقوى وأمرّ.

43ــ ان حروب الدول والشعوب - بعضها بعضاً - ستتخلى عن ساحتها لتحل محلها حروب الطبقات البشرية؛ لان الانسان كما لا يرضى ان يكون اسيراً لا يرضى ان يكون أجيراً ايضاً.

44ــ ان الذي يسلك الى مقصد طريقاً غير مشروع، كثيراً ما يعاقَب بخلاف مقصوده، فان جزاء محبةٍ غير مشروعة - كمحبة اوروبا - هي عداء غادر من المحبوب.

45ــ ينبغي النظر الى الماضي والى المصائب بنظر ((القدر)) بينما النظر الى "المستقبل" والى المعاصي يلزم ان يكون من زاوية التكليف، فالجـبـر والاعتـزال يـتصـالحـان هـنـا.

46 - ينبغي عدم اللجوء الى العجز فيما يمكن حلّه، وعدم الالتجاء الى الجزع فيما لا يمكن علاجه.

47 - ان جراح الحياة تلتئم، بيد أن جراحات العزة الاسلامية وشرف الامة وسيادتها غائرة جداً.

48ــ سيكون زمانٌ؛ تسبب فيه كلمةٌ واحدة توريط جيش كامل في الحرب، وطلقة واحدة ابادة ثلاثين مليون نسمة(1).

وستكون هناك أحوالٌ: حركةٌ بسيطة - عندئذ - تسمو بالانسان الى اعلـى عليين .. وفعـل صغير يُرديه في اسفل سافلين..

49ــ ان حبة واحدة من صدقٍ تبيد بيدراً من الاكاذيب، وان حقيقة واحدة افضل من بيدر من الخيالات.

عليك ان تصدُق في كل ما تتكلمه ولكن ليس صواباً ان تقول كل صدق؛ اذ



[ لايلزم من لزومِ صدق كل قول ٍ، قولَُ كل صدقٍ ]

50 - مَنْ أحسن رؤيته حَسُنتْ رويّته وجمل فكره ومن جمل فكره تمتع بالحياة والتذ بها.

51ــ ان الأمل يبعث الحياة في الناس،واليأس يقتلهم.

52ــ هذه الدولة الاسلامية التي اخذت على عاتقها - منذ السابق - القيام بفريضة الجهاد - فرضاً كفائياً - اعلاء لكلمة الله وحفاظاً على استمرار حرية العالم الاسلامي، وهو كالجسد الواحد، ووضعت نفسها موضع الفداء للعالم الاسلامي، وحامل راية الخلافة، ستعوّض عما اصابها من مصائب وتزيلها السعادة التي سوف يَرفُل بها عالم الاسلام.. ان هذه المصيبة قد عجلت بعث الاخوة الاسلامية وظهورها في ارجاء العالم الاسلامي تلك الاخوة التي هي جوهر حياتنا وروحها.

53 - ان اسناد محاسن المدنية الى النصرانية التي لا فضل لها فيها، واظهار التدني والتقهقر قريناً بالاسلام الذي هو عدوّ له، دليل على دوران المقدرات بخلاف دورتها، وعلى قلب الاوضاع.

54 - ان قطعة الماسٍ نادرةٍ مهما كانت صدئةً، افضل من قطعة زجاج لامعة دوماً.

55 - ان الذين يبحثون عن كل شئ في المادة، عقولهم في عيونهم، والعين لاتبصر المعنويات.

56ــ اذا وقع المجاز من يد العلم الى يد الجهل، ينقلب الى حقائق مادية، ويفتح الباب الى الخرافات.

57ــ ان احساناً يزيد على الاحسان الإلهي، ليس باحسان؛ اذ ينبغي وصف كل شئ بمــا هـو عليـه من صفــات.

58 - ان الشهرة تُملّك الانسانَ ما ليس له.

59 - ان الحديث النبوي معدن الحياة وملهم الحقائق.

60 - ان احياءَ الدين، إحياءٌ للامة، وحياة الدين نور الحياة.

61 - ان القرآن الكريم الذي هو رحمة للبشرية كافة. انما يقبل المدنية التي تكفل سعادة العموم أو في الاقل سعادة الاكثرية المطلقة، بينما المدنية الحاضرة قد



تأسست على خمسة اسس سلبية:ـ

1ــ نقطة استنادها وركيزتها: القوة، وهذه من شأنها: التجاوز والاعتداء.

2ــ هدفها وقصدها: المنفعة، وهذه من شأنها: التزاحم.

3ــ دستورها في الحياة: الجدال والصراع، وهذا من شأنه: التنازع.

4ــ رابطتها بين الكتل البشرية هي العنصرية والقومية السلبية التي تنمو وتتوسع بابتلاع الآخرين وشأنها التصادم الرهيب.

5ــ خدمتها للبشرية خدمة جذابة: تشجيع الهوى والهوسات وتلبية رغبات النفس الأمارة ذلك الهوى الذي هو سبب لمسخ الانسان مسخاً معنوياً.

اما المدنية التي تتضمنها الشريعة الأحمدية وتأمر بها:

فان نقطة استنادها: الحق بدلاً من القوة، والحق من شأنه: العدالة والتوازن.

وهدفها: الفضيلة بدلاًمن المنفعة، والفضيلة من شأنها: المودّة والتجاذب.

جهــة الوحدة فيـهــا: الرابطـة الدينية والوطنية والصنفية(1) بدلاً من العنصرية والقومية، وهذه الرابطة من شأنها: الأخوة المخلصة والمسالـمة الجادة والـدفاع فقط عند الاعتـداء الخارجي.

دستورها في الحياة:التعاون بدلاً من الجدال والصراع، والتعاون من شأنه: الاتحاد والتساند.

وتضع الهدى بدلاً من الهوى، والهدى من شأنه:رفع الانسان روحياً الى مراقي الكمالات.

فلا ترخِ يدك عن الاسلام الذي هو حامي وجودنا، واستعصم به، وإلاّ هلكت.

62ــ ان المصائب العامة انما تنزل لأخطاء الاكثرية، فالمصيبة نتيجةُ جنايةٍ ومقدمةُ مكافأة.

63ــ ان الشهيد يعدّ نفسه حياً، ولكونه لم يذق سكرة الموت، يرى الحياة التي ضحّى بها باقيةً وغير منقطعة. إلاّ انها على افضل وجه وانزهه.

64- العدالة القرآنية المحضة، لا تهدر دم برئ ولا تزهق حياته حتى لو كان في ذلك حياة البشرية جمعاء. فكما أن كليهما في نظر القدرة سواء، فهما في نظر العدالة سواء ايضاً. ولكن الذي تمكّن فيه الحرصُ والانانية يصبح انساناً يريد القضاء على كل شئ يقف دون تحقيق حرصه حتى تدمير العالم والجنس البشري ان استطاع.

65ــ ان الخوف والضعف يشجعان التأثيرات الخارجية.

66ــ لا تُضحّى مصلحةٌ محقّقة في سبيل مضرّة موهومة.

67ــ ان السياسة الحالية لاستانبول مرض شبيه بمرض (اسباني)، يسبب الهذيان.

68ــ ليس نادراً أن يتحسن مجنون اذا قيل له: انت سليم انت طيب، وليس من المستبعد أن يفسد عاقل اذا قيل له: انت فاسد انت طالح!

69ــ عدوّ العدوّ صديق ما دام عدوّاً له، وصديق العدو عدوّ ما دام صديقاً له.

70 – امر العناد هو: أنه اذا ما ساعد شيطانٌ امرءاً قال له: انه ((مَلَك)) وترحمّ عليه. بينما اذا رأى مَلَكاً في من يخالفه في الرأي، قال: ((انـه شيطان قد بدّل لباسه)). فيلعنه.

71 - قد يكون دواء مرض سماً لداءٍ آخر. واذا جاوز الدواء حدَّه انقلب الى ضده.

72 – [ الجمعية التي فيها التساند آلة خُلقتْ لتحريك السكنات، والجماعة التي فيها التحاسد آلة خلقتْ لتسكين الحركات ].

73 - اذا لم يكن في الجماعة الواحد الصحيح(1)، يصغر الجمع والضم، كالضرب الكسري في الحساب.

74ــ كثيراً ما يلتبس عدم القبول بقبول العدم، مع ان عدم القبول دليله عدم ثبوت الدليل، أما قبول العدم فيحتاج الى دليل العدم، فاحدهما شك والآخر إنكار.

75 - ان الشك في المسائل الايمانية، اذا أسقط دليلاً واحداً بل حتى مائة دليل، فلا يورث المدلول أي ضرر كان، لان هناك آلاف الادلة.

76 - يجب اتباع السواد الاعظم (من الناس). اذ لما اعتمد الامويون على الاكثرية والسواد الاعظم، فانهم دخلوا - مع تهاونهم - في نهاية الامر في عداد اهل السنة والجماعة.بينما العلوية، فلإعتمادها على قلة العدد انتهى الامر ببعض منهم ـــ مع تصلبها ـــ الى الدخول في الرافضية.

77 - ان كان الاتفاق في الحق اختلافاً في الأحق، يكون الحق احياناً أحق من الأحق، والحسن أحسن من الأحسن. ويحق لكل امرئٍ ان يقول في مذهبه: ((هو حق، هو حسن))، ولكن لا يحق له القول: ((هو الحق هو الحسن)).

78 - لولا الجنة لما عذّبت جهنم.

79 - كلما شابَ الزمانُ شبَّ القرآنُ، وتوضحت رموزه. وكما يتراءى النور كالنار، تتراءى احياناً شدة البلاغة مبالغة.

08 - ان مراتب الحرارة عبارة عن تداخل البرودة، ودرجات الحُسن عبارة عن تداخل القبح. أما القدرة الازلية فهي ذاتية ولازمة وضرورية، لذا لا يتخللها العجز فلا مراتب فيها. كل شئ بالنسبة اليها سواء.

81ــ ان تمثال الشمس (صورتها) الذي هو تجلّ لفيضها، يبيّن الهوية نفسها على سطح البحر، وفي قطراته.

82ــ ان الحياة من تجلي التوحيد، ومنتهاها تكسب الوحدة.

83ــ ما دام الولي في الناس، وساعة الاجابة في الجمعة، وليلة القدر في رمضان، واسم الله الاعظم في الاسماء الحسنى، والأجَل في العمر.. مجهولاً، ستظل لسائر الافراد قيمتها واهميتها؛ فان عشرين سنة من عمر مبهم افضل من الف سنة من عمر معلوم النهاية.

84ــ ان عاقبة المعصية في الدنيا، دليل على العقاب الاخروي.

85ــ ان الرزق ذو اهمية في نظر القدرة كأهمية الحياة. فالقُدرة تُخرج الرزق والقَدَرُ يلبسه - الّلباس المعين - والعناية تربيّه وترعاه، فالحياة محصّلة مضبوطة- أي مشاهدة محدّدة - اما الرزق فهو غير محصل - آنيّاً - وتدريجي، ومنتشر، يحمل المرءَ على التدبر. لا موت من الجوع، لان الشخص لا يموت قبل استهلاك الشحم وسائر المواد المدخرة في الجسم. اذن فسبب الموت هو المرض الناشئ من ترك العادة، لا إنعدام الرزق.

86 - ان رزق أكلة اللحوم الوحشية الحلال هو جيف الحيوانات التي لا حدّ لها، وهي اذ تتناول رزقها تنظف وجه البسيطة ايضاً.

87 - لقمةٌ بفلسٍ واحد واخرى بعشرة فلوس مثلاً كلتاهما متساوية قبل دخولهما الفم، وبعد مرورهما من الحلقوم مع فارق واحد هو تلذذ الفم بها لعدة ثوانٍ، لذا فان صرف عشرة فلوس بدلاً من فلس واحد إرضاءً لحاسة الذوق الموظفة بالتفتيش والحراسة أسفه انواع الاسراف.

88 - كلما نادت اللذائذ ينبغي الاجابة بـ((كأنني أكلت)) فالذي جعل هذا دستوراً له كان بوسعه ان يأكل مسجداً مسمىً بـ((كأنني اكلت))(1) فلم يأكل.

89 - لم يكن اكثر المسلمين في السابق جائعين، فكان الترفّه جائز الاختيار، أما الآن فهم جائعون فلا اختيار في التلذذ.

90ــ ينبغي التبسم في وجه الألم المؤقت والترحيب به اكثر من التبسم للّذة المؤقتة، اذ اللذات الماضية تُنطِق المرء بالحسرات وما هي إلاّ ترجمان لألمٍ مستتر بينما الآلام الماضية تُنطِق المرء: بالحمد لله الذي يخبر عن لذةٍ ونعمةٍ مضمرة.

91ــ ان النسيان كذلك نعمة. لأنهُ يذيق الآلام اليومية وحدها، بينما يُنسي المتراكمة منها.

92ــ ان لكل مصيبة درجة نعمة كدرجات الحرارة - التي تتداخلها البرودة - لذا ينبغي الشكر لله بالتفكير فيما هو أعظم، ورؤية النعمة في الأصغر. وإلاّ اذا نُفخ فيها واستُعظِمتْ فانها تعظُم، واذا اُقلق من اجلها تتوأمت وانقلب مثالُها الوهمي في القلب الى حقيقة تسحق القلب.

93ــ لكل شخص نافذة يطل منها على المجتمع - للرؤية والاراءة - تسمى مرتبة، فاذا كانت تلك النافذة ارفعَ من قامة قيمته يتطاول بالتكبر، اما اذا كانت اخفضَ من قامة قيمته، يتواضع بالتحدّب وينخفض حتى يشهد في ذلك المستوى ويُشاهد. إن مقياس العظمة في الانسان هو التواضع،أما مقياس الصغر فيه فهو التكبر والتعاظم.

94ــ ان عزة النفس التي يشعر بها الضعيف تجاه القوي لو كانت في القوي لكانت تكبراً، وكذا التواضع الذي يشعر به القوي تجاه الضعيف، لو كان في الضعيف لكان تذللاً.

ان جديّة وليّ الامر في مقامه وقارٌ، أما لينُه فهو ذلة. كما ان جديته في بيته دليل على الكبر ولينَه دليل على التواضع.

ان كان الفرد متكلماً عن نفسه فصَفحُه وسماحه - عن المسيئين - وتضحيته - بما يملك - عمل صالح، اما اذا كان متكلماً باسم الجماعة فخيانة وعمل غير صالح.

ان المرء يستطيع ان يكظم الغيظ - لما يعود لنفسه - وليس له ان يتفاخر بشئ يخصّه، ولكن يمكنه ان يفخر باسم الامة من دون ان يكظم غيظاً بحقها.

95ــ ان تفويض الامر الى الله في ترتيب المقامات كسل، أما في ترتّب النتيجة فهو توكل. والرضا بقسمته وثمرة سعيه قناعة، تقوّي من ميل السعي أما الاكتفاء بالموجود فتقاصر في الهمة.

96ــ فكما ان هناك طاعة وعصياناً تجاه الاوامر الشرعية المعروفة، كذلك هناك طاعةٌ وعصيانٌ تجاه الاوامر التكوينية.

وغالباً ما يرى الاول - مطيع الشريعة والعاصي لها - جزاءه وثوابه في الدار الآخرة. والثاني - مطيع السنن الكونية والعاصي لها - غالباً ما ينال عقابه وثوابه في الدار الدنيا.

فكما ان ثواب الصبر النصرُ، وجزاء البطالة والتقاعس الذلُّ والتسفّل. كذلك ثواب السعي الغنى وثواب الثبات التغلب.

ان العدالة التي لا مساواة فيها ليست عدالة.

97ــ ان التماثل مدعاة للتضاد، والتناسب اساس للتساند، وصغر النفس منبع التكبر، والضعف معدن الغرور، والعجز منشأ المخالفة، والشغف استاذ العلم.

98ــ ان القدرة الفاطرة قد ألجمت جميع الأحياء وفي مقدمتها الانسان بدافع الحاجة، ولا سيما حاجة الجوع، واقحمتها في نظام، فانقذت العالم من الهرج والمرج وحققت الرقي للانسان بجعل الحاجة استاذاً للحضارة.

99ــ ان الضيق معلم للسفاهة، واليأس منبع ضلال الفكر، وظلمة القلب منبع ضيق الروح.

100 ـ [ اذا تـأنــث الـرجـال بـالتهـوس تـرجـّل الـنسـاء بالـتـوقـّح ].

كلما دخلت امرأة حسناء في مجلس من مجالس الاخوان تنبّه عرق الرياء والحسد والمنافسة. ففي تكشّف النساء تكشفٌ عن الاخلاق السيئة في الانسان المتحضر.

101ــ ان للصور المتبسمة - تلك الجنائز المصغرة - دوراً مهماً في روح البشر الرعناء الملوثة الآن بالسيئات.

102ــ ان الهياكل الممنوعة شرعاً، إما أنها ظلم متحجّر، أو هوى متجسّم، أو رياء متجسّد.

103ــ ان ميل التوسع والاجتهاد هو ميل للتكمل إن كان من الداخلين بحقٍ في دائرة الاسلام بامتثال مسلّماته جميعاً، بينما يصبح - هذا الميل - ميلاً للتخريب ان كان ممن يهمل الضروريات ويعدّ خارجاً عن الدائرة لعدم مبالاته. فاثناء العواصف المدمرة تقتضي المصلحة سدّ نوافذ الاجتهاد فضلاً عن فتح ابوابه.

ان الذين لا يبالون بالدين لا ينبغي ان يلطّفوا بالرُخص بل ينبهون بشدة، بالعزائم.

104ــ يا للحقائق البائسة، انها تفقد قيمتها في الايدي الاعتيادية الوضيعة.

105ــ ان كرتنا الارضية تشبه الحيوان، تبرز اثار الحياة. تُرى لو صغرت حتى تصبح في حجم بيضة، ألا تصبح نوعاً من حيوان؟ أو إذا كبرت جرثومة بقدر كرتنا أفلا تشبهها؟ فإذا كانت لها حياة، فلها روح ايضاً. فإذا صغر العالم صغر الانسان، وتحولت كواكبه في حكم الذرات أو الجواهر الفردات، أفلا يصبح هو ايضاً حيواناً ذا شعور؟ ان للّه سبحانه كثيراً من امثال هذه الحيوانات.

106ــ الشريعة اثنتان:

احداها: هي الشريعة المعروفة لنا، التي تنظم افعال واحوال الانسان، ذلك العالم الاصغر، والـتـي تأتي من صفـة الكلام.

الثانية: هي الشريعة الكبرى الفطرية، التي تنظم حركات وسكنات العالم، ذلك الانسان الاكبر، والتي تأتي من صفة الارادة. وقد يطلق عليها خطأ اسم الطبيعة.

والملائكة امة عظيمة هم حملة الاوامر التكوينية وممثلوها وممتثلوها تلك الاوامر الآتية من صفة الارادة والتي تسمى بالشريعة الفطرية.

107ـ [ اذا وازنتَ بين حواس حوينةٍ ((مجهرية)) وحواس الانسان، ترى سراً عجيباً: ان الانسان كصورة يس كتب فيها سورة يس ].

108ــ ان الفلسفة المادية طاعون معنوي، حيث سبّب في سريان حمى مدهشة في البشرية وعرضها للغضب الإلهي، وكلما توسعت قابلية التلقين والنقد توسع ذلك الطاعون ايضاً.

109ــ ان اشد الناس شقاءً واضطراباً وضيقاً هو العاطل عن العمل. لأن العطل هو ابن اخ العدم. اما السعي فهو حياة الوجود ويقظة الحياة.

110ــ ان البنوك التي هي وسائط الربا وابوابها، انما تعود بالنفع على الكفار - الذين هم أسوأ البشرــ وعلى اظلمهم، وعلى اسفه هؤلاء. ان ضررها على العالم الاسلامي ضرر محض. ولا يؤخذ رفاه البشرية قاطبة بنظر الاعتبار، ولأن الكافر ان كان حربياً ومتجاوزا ًفلا حرمة ولا عصمة له.

111ــ ان الهدف من خطبة الجمعة تذكير بالضروريات الدينية ومسلّماتها لا تعليم النظريات،والعبارة العربية تذكّرها على افضل وجه واسماه.

واذا قورن بين الآية والحديث، يتضح انه حتى أبلغ البشر لا يستطيع ان يبلغ بلاغة الآية، وان هذا لا يشبه تلك.

سعيد النورسي



بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

يا الله، يا رحمن، يا رحيم،

يا فرد، يا حي، يا قيوم، يا حكم، يا عدل. يا قدوس

بحق الاسم الاعظم وبحرمة القرآن المعجز البيان وبكرامة الرسول الاعظم e ، ادخل الذين قاموا بطبع هذه المجموعة ومعاونيهم الميامين جنة الفردوس والسعادة الابدية.. آمين.

ووفـّقهم في خدمة الايمان والقرآن دوماً وابداً.. آمين واكتب في صحيفة حسناتهم ألف حسنة لكل حرف من حروف كتاب ((المكتوبات)).. آمين.

وأحســن الـيهـم الــثبات والـدوام والاخـلاص فـي نشر ((رسائل النور)). آمين

يا ارحم الراحمين! آت جميع طلاب النور في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة.. آمين.

واحفظهم من شر شياطين الجن والانس.. آمين.

واعف عن ذنوب هذا العبد العاجز الـضعيف سعيد.. آمين

بإسم جميع طلاب النور

سعيد النورسي
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
المكتوبات للإمام الرباني أحمد الفاروقي السرهندي admin المكتبة الرقمية 1 02-13-2014 12:56 PM


الساعة الآن 09:54 PM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir