أنت غير مسجل في منتديات البوحسن . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ، والعجز والكسل ،والبخل والجبن وضلع الدين وغلبة الرجال           

رسائل ووصايا في التزكية كلّ ما يختص بعلوم السلوك وآداب القوم وتزكية النفس والتصوف الإسلامي

إضافة رد
قديم 02-03-2011
  #11
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: المكتوبات

المكتوب الحادي عشر

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{

[ان هذا المكتوب علاج مهم، يشير الى دريرات اُخرجت من خزائن عظمى لآيات اربع كريمات].

اخي العزيز!

ان القرآن الحكيم قد درّس نفسي الامارة بالسوء هذه المسائل المختلفة الاربعة في اوقات متباينة.كتبته لمن شاء من اخواني الذين يرغبون ان يأخذوا حظاً أو درساً منه.

فهذه المسائل تبين دريرات من خزينة الحقائق لأربع آيات كريمات مختلفة من حيث المبحث، ولكل مبحث من تلك المباحث صورتها وفائدتها الخاصة بها.

l المبحث الأول

قال تعالى: } إنّ كيدَ الشّيطان كان ضَعيفاً{ (النساء: 76).

يا نفسي الآيسة من جراء الوساوس والشبهات!

ان تداعي الخيالات، وتخطر الفرضيات نوع من ارتسامٍ غير اختياري، والارتسام إن كان آتياً من الخير والنورانيات، يسري حكم حقيقته الى صورته ومثاله، الىٍ حدٍ ما. مثلما ينتقل ضوء الشمس وحرارتها الى صورتها في المرآة. وإن كان الارتسام صادراً من الشر ومن الكثيف فلا يسرى حكم الأصل وخاصيته الى صورته، ولا الى مثاله. كصورة النجس والقذارة في المرآة ليست نجسة ولا قذرة. وصورة الحية في المرآة لا تلدغ.

وبناء على هذا: ان تصور الكفر ليس كفراً، وتخيّل الشتم ليس شتماً، ولا سيما ان كان بلا اختيار، وكان تخطراً فرضياً، فلا ضرر فيه على الاطلاق.

ثم ان قبح الشئ ونجاسته وقذارته هو بسبب النهي الإلهي، حسب مذهب اهل الحق، اهل السنة والجماعة. وحيث أن الامر خاطر فرضي، وتداع خيالي، بلا اختيار ولا رضى، فلا يتعلق به النهى الإلهي، ولهذا فلا يكون الامر قبيحاً ولا قذراً ولا نجساً مهما كان صورةً لقبيح وقذر ونجس.

l لمسألة الثانية:

ثمرة اينعت في مرعى جبل في بارلا، تحت شجرة الصنوبر والقطران أدرجت في كتاب ((الكلمات)).

l المسألة الثالثة:

هذه المسألة والتي بعدها، قسم من الامثلة التي تبين عجز المدنية الحديثة ازاء اعجاز القرآن، والمذكور في ((الكلمة الخامسة والعشرين)). وهما مثالان من الوف الامثلة التي تثبت مدى الظلم والاجحاف في الحقوق المدنية للحضارة الحديثة والتي تخالف احكام القرآن.

ان الحكم القرآني } فللذكر مثلُ حظِّ الانُثيين{ (النساء: 176) محض العدالة وعين الرحمة في الوقت نفسه نعم، ان ذلك الحكم عدالة؛ لأن الرجل الذي ينكح امرأة يتكفل بنفقتها كما هو في الاكثرية المطلقة. أما المرأة فهي تتزوج الرجل وتذهب اليه، وتحمّل نفقتها عليه، فتلافي نقصها في الارث.

ثم ان الحكم القرآني رحمة؛ لأن تلك البنت الضعيفة محتاجة كثيراً الى شفقة والدها وعطفه عليها والى رحمة اخيها ورأفته بها فهي تجد - حسب الحكم القرآني - تلك الشفقة عليها من والدها وعطفه دون ان يكدرها حذر، اذ ينظر اليها والدها نظرة من لا يخشى منها ضرراً، ولا يقول بانها ستكون سبباً في انتقال نصف ثروتي الى الاجانب والاغيار. فلا يشوب تلك الشفقة والعطف الابوي الحذر والقلق.

ثم انها ترى من اخيها رحمة وحماية لا يعكرّها حسد ولا منافسة، اذ لا ينظر اليها اخوها نظر من يجد فيها منافساً له يمكن أن تبدد نصف ثروة ابيهما بوضعها في يد الاجانب. فلايعكر صفو تلك الرحمة والحماية حقد وكدر.

فتلك البنت اللطيفة الرقيقة فطرة، والضعيفة النحيفة خلقة، تفقد في هذه الحالة شيئاً قليلاً في ظاهر الأمر. الاّ انها تكسب - بدلاً منه - ثروة لا تفنى من شفقة الاقارب وعطفهم عليها ورحمتهم بها. والاّ فان اعطاءها نصيباً اكثر مما تستحق بزعم ان ذلك رحمة في حقها ازيد من رحمة الله سبحانه، ليس رحمة بها قط بل ظلم شنيع في حقها، ربما يفتح سبيلاً امام الحرص الوحشي المستولي على النفوس في هذا الزمان لارتكاب ظلم أشنع، يذكّر بالغيرة الوحشية التي كانت مستولية على النفوس في زمن الجاهلية في وأدهم البنات. فالاحكام القرآنية كلها تصدّق - كما يصدّق هذا الحكم - قوله تعالى: } وما ارسلناك الاّ رحمة للعالمين{ (الانبياء:107).

l المسألة الرابعة: قوله تعالى } فلأمّه السُدُس{ (النساء:11).

ان المدنية (وهي بلا ميم) - اي الدنية - كما قد اصبحت سبباً لمثل هذا الظلم (المذكور في المسألة السابقة) في حق البنات باعطائها اكثر مما تستحق، كذلك تقترف ظلماً أدهى وانكى بحق الوالدات وذلك بحرمانهن من حقوقهن.

نعم! ان شفقة الوالدة وحنانها الذي هو ألطف جلوة من رحمته تعالى بل ألذها واجدرها بالاحترام، اسمى واكرم حقيقة من حقائق الوجود.

والوالدة هي بالذات اكرم صديقة عزيزة وارحم مضحية، بل انها تضحي بدنياها وحياتها وراحتها لولدها، بدافع من حنانها وعطفها. حتى ان الدجاجة التي هي في ابسط مراتب الامومة وتحمل بصيصاً من تلك الشفقة، لا تتردد في الهجوم على الكلب والصولة على الاسد دفاعاً عن فراخها، رغم خوفها وجبنها.

فحرمان الوالدة التي تطوي جوانحها على مثل هذه الحقيقة العزيزة والى هذا الحد، من تركة ولدها، ظلم مريع وعمل اجرامي، واهانة بحقها، وكفران نعمة ازاء الحقيقة الجديرة بالتوقير، بحيث يهتز له عرش الرحمة. وفوق ذلك فهو دسّ للسم في الترياق النافع لحياة البشر الاجتماعية. فان لم يُدرك هذا وحوش البشرية الذين يدّعون خدمتها، فان الناس الحقيقيين الكاملين يعلمون ان حكم القرآن الحكيم في قوله تعالى } فلأمه السدس{ عين الحق ومحض العدل.

الباقي هو الباقي

سعيد النورسي
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-03-2011
  #12
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: المكتوبات

المكتوب الثاني عشر

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{

السلام عليكم وعلى رفقائكم!

اخوتي الاعزاء!

لقد سألتموني في تلك الليلة سؤالاً لم اجب عنه، لأن البحث في المسائل الايمانية والخوض فيها على صورة مناقشات غير جائز. فانتم قد بسطتم الموضوع على بساط النقاش. والآن اكتب جواباً في غاية الاختصار عن الاسئلة الثلاثة التي هي اساس نقاشكم. وتجدون تفاصيله في ((الكلمات)) التي سجل اسماءها ((السيد الصيدلي)) الاّ انه لم ترد ببالي ((الكلمة السادسة والعشرون)) الخاصة بالقدر والجزء الاختياري، فلم اذكرها، راجعوها، ولكن لا تقرأوها قراءة الجرائد والصحف. والسبب الذي دعاني الى احالتي السيد الصيدلي الى مطالعة تلك ((الكلمات)) هو ان الشبهات التي ترد في امثال تلك المسائل نابعة من ضعف الاعتقاد في الاركان الايمانية، وأن تلك ((الكلمات)) تثبت الاركان الايمانية بتمامها اثباتاً كاملاً.

u سؤالكم الاول: ما الحكمة في اخراج سيدنا آدم عليه السلام من الجنة؟ وما الحكمة في ادخال قسم من بني آدم جهنم؟

الجواب: حكمته: التوظيف.. فقد بُعثَ الى الارض موظفاً، موكولاً اليه مهمة جليلة، بحيث ان نتائج تلك الوظيفة هي جميع انواع الرقي المعنوي البشري، وانكشاف جميع استعدادات البشر ونمائها، وصيرورة الماهية الانسانية مرآة جامعة للاسماء الإلهية الحسنى كلها.

فلو كان سيدنا آدم عليه السلام باقياً في الجنة لبقى مقامه ثابتاً كمقام المَلَك، وَلما نمت الاستعدادات البشرية. بينما الملائكة الذين هم ذوو مقام ثابت مطرد كثيرون فلا داعي الى الانسان للقيام بذلك النوع من العبودية. فاقتضت الحكمة الإلهية وجود دار تكليف تلائم استعدادات الانسان التي تتمكن من قطع مقامات لا نهاية لها. ولذلك اُخرج آدم عليه السلام من الجنة بالخطيئة المعروفة التي هي مقتضى فطرة البشر خلاف الملائكة.

اي ان اخراج آدم عليه السلام من الجنة، هو عين الحكمة ومحض الرحمة. كما ان ادخال الكفار جهنم حق وعدالة، مثلما جاء في ((الاشارة الثالثة من الكلمة العاشرة)) ان الكافر وإن عمل ذنباً في عمر قصير، الاّ أن ذلك الذنب ينطوي على جناية لا نهاية لها؛ ذلك لأن الكفر تحقير للكائنات جميعاً وتهوين من شأنها.. وتكذيب لشهادة المصنوعات كلها للوحدانية.. وتزييف للاسماء الحسنى المشهودة جلواتها في مرايا الموجودات.. ولهذا يلقى القهارالجليل، سلطان الموجودات، الكفارَ في جهنم ليخلدوا فيها، أخذاً لحقوق الموجودات كلها منهم.

والقاؤهم في جهنم ابداً هو عين الحق والعدالة، لأن جناية بلا نهاية تقتضي عذاباً بلا نهاية.

u سؤالكم الثاني: لماذا خلقت الشياطين؟ فلقد خلق الله سبحانه وتعالى الشيطان والشرور، فما الحكمة فيه؟ اذ خلق الشر شر وخلق القبح قبيح!.

الجواب: حاشَ لله.. وكلا.. ان خلق الشر ليس شراً، بل كسب الشر شر، لأن الخلق والايجاد يتطلع الى جميع النتائج ويتعلق بها، بينما الكسب يتعلق بنتائج خصوصية، لأنه مباشرةٌ خاصة. فمثلاً: ان النتائج المترتبة على نزول المطر تبلغ الالوف، وجميعها نتائج حسنة وجميلة، فاذا ما تضرر أحدهم من المطر بسوء تصرفه وعمله، فليس له الحق ان يقول: ان ايجاد المطر لا رحمة فيه. وليس له أن يحكم بأن خلق المطر شر، بل صار شراً في حقه بسوء اختياره وسوء تصرفه وبكسبه هو بالذات.

وكذا خلق النار، فيه فوائد كثيرة جداً، وجميعها خير، ولكن لو تأذى أحدهم من النار بسوء كسبه وباستعماله السئ لها، فليس له أن يقول: ان خلق النار شر، اذ النار لم تخلق لإحراقه فقط، بل هو الذي أدخل يده في النار التي تطبخ له طعامه، فجعل بسوء عمله تلك الخادمة المطيعة عدوة له.

حاصل الكلام: ان شراً قليلاً يُقبل به للحصول على خير كثير، اذ لو ترك شرٌ ينتج خيراً كثيراً للحيلولة دون حصول ذلك الشر القليل، لحصل عندئذٍ شر كثير.

مثال ذلك: عند سوق الجيش الى الجهاد لابد من حدوث اضرار وشرور جزئية مادية وبدنية، ومن المعلوم كذلك ان في الجهاد خيراً كثيراً حيث ينجو الاسلام من سيطرة الكفار، فلو ُترك الجهاد خشية حدوث تلك الاضرار والشرور القليلة لحصل اذاً شر كثير من دون الحصول على خير كثير، وهذا هو عين الظلم. ومثال آخر: ان قطع الأصبع التي اصابها (الغنغرينا) فيه خير وهو حسن، بينما يبدو ذلك القطع في الظاهر شراً، ولكن لو لم تقطع تلك الاصبع لقطعت اليد، فيحصل آنذاك شر أكبر.

وهكذا فان خلق الشرور والاضرار والبلايا والشياطين، ليس شراً ولا قبيحاً لأن هذه الامور خُلقت للحصول على نتائج مهمةكثيرة جداً. فالملائكة مثلاً لا درجات رقي لهم، وذلك لعدم تسلط الشياطين عليهم؛ لذا يكون مقامهم ثابتاً لا يتبدل. وكذا الحيوانات فان مراتبها ثابتة وناقصة حيث لم تسلط عليها الشياطين. بينما في عالم الانسان تمتد المسافة بين مراتب الرقي ودركات التدني الى أبعاد مديدة طويلة جداً، اذ بدءً من النماردة والفراعنة وانتهاءً الى الصدّيقين والاولياء والانبياء عليهم السلام هناك مراتب للرقي والتدني؛ لذا بخلق الشياطين؛ وبسر التكليف، وبارسال الانبياء، انفتح ميدان الامتحان والتجربة والجهاد والمسابقة، وبه تتميز الارواح السافلة التي هي كالفحم في خساسته عن الارواح العالية التي هي كالالماس في نفاسته.فلولا المجاهدة والمسابقة لبقيت الاستعدادات كامنة في جوهر الانسانية، اي لتساوى الفحم والالماس. اي لتساوت الروح السامية لسيدنا ابى بكر الصديق رضى الله عنه وهي في اعلى عليين مع روح ابي جهل التي هي في اسفل سافلين!

اذاً فخلق الشياطين والشرور وايجادها ليس شراً وليس؛ قبيحاً؛ لأنه متوجه نحو نتائج كلية وعظيمة. بل الشرور والقبائح الناتجة انما هي حاصلة من سوء الاستعمال ومن الكسب الانساني الذي هو مباشرةٌ خاصة، راجعة الى الكسب الانساني وليست الى الخلق الإلهي.

u واذا سألتم:

ان كثيراً من الناس يسقطون في هاوية الكفر والضلال بوجود الشياطين ويتضررون من جرائهم على الرغم من بعثة الانبياء عليهم السلام. وحيث ان الحكم جار على الاكثرية، وان الاكثرين يتضررون، فخلق الشر اذاً شر، بل يمكن ان يقال ان بعثة الانبياء ليست رحمة!

فالجواب: انه لا اعتبار للكمية بالنسبة الى النوعية، فالاكثرية في الحقيقة متوجهة اصلاً الى النوعية، لا الى الكمية. فلو كانت هناك مائة نواة للتمر - مثلاً - ولم توضع تحت التراب ولم تسق بالماء، اي إن لم تحدث فيها تفاعلات كيمياوية، اي ان لم تنل مجاهدة حياتية، فانها تظل على حالها مائة نواة وتساوي قيمتها مائة درهم. بينما اذا سقيت بالماء وتعرضت لمجاهدة حياتية فتفسخت من جرائها، وبسوء طبعها، ثمانون منها، ونمت عشرون منها نخلاً مثمراً، أفيمكنك ان تقول: ان سقي تلك البذور شر حيث أفسد الكثير منها! لا تستطيع قول ذلك بلا شك، لان تلك النوى العشرين قد اصبحت بمثابة عشرين الف نواة، فالذي يفقد الثمانين ويكسب العشرين ألفاً لاشك انه غانم لم يتضرر، فلا يكون السقي اذاً شراً.

وكذا لو وجدت مائة من بيض الطاووس - مثلاً - فثمنها يساوي ثمن البيض وهو خمسمائة قرش ولكن اذا حضنت تلك المائة من البيض وفرخ عشرون منها، وفسدت الثمانون الباقية، هل يمكن ان يقال حينئذٍ ان ضرراً كبيراً قد حدث، أو أن هذه المعاملة شر، أو أن حضانة الطاووسة على البيض عمل قبيح.. لاشك ان الجواب ليس كذلك، بل العمل هذا خير، لأن الطاووس وبيضه قد كسبا عشرين طاووساً اثمانها باهظة بدلاً عن تلك البيوض الكثيرة الزهيدة الثمن.

وهكذا فقد غنم النوع البشري مائة الف من الانبياء عليهم السلام وملايين الاولياء وملايين الملايين من الاصفياء الذين هم شموس عالم الانسانية واقمارها ونجومها، ببعثة الانبياء وبسر التكليف وبمحاربة الشياطين، ازاء ما خسره من المنافقين - الكثيرين كماً والتافهين نوعاً - والكفار الذين هم ضرب من الحيوانات المضرة.

u سؤالكم الثالث: ان الله سبحانه وتعالى ينزل المصائب ويسـلط البلايا، ألا يكون هذا ظلماً على الابرياء بل حتى على الحيوانات؟

الجواب: حاشَ لله وكلا.. فان المُلك ملكه وحده، وله أن يتصرف فيه كيف يشاء. تُرى لو ان صنّاعاً ماهراً جعلك نموذجاً ((موديلاً)) مقابل اجرة، وألبسك ثوباً زاهياً خاطه بأفضل ما يكون، ثم بدأ يقصّره ويطوله ويقصه.. ثم يقعدك وينهضك ويثنيك.. كل ذلك لكي يبين حذاقته ومهارته، فهل لك أن تقول له: لقد شوهت جمال ثيابي الذي زادني جمالاً، وقد ارهقتنى لكثرة ما تقول لي: اجلس.. إنهض! فلا ريب انك لا تقدر على هذا القول. بل لو قلته، فهو دليل الجنون ليس الاّ.

وعلى غرار هذا فان الصانع الجليل قد ألبسك جسماً بديعاً مزيناً بالعين والاذن والانف وغيرها من الاعضاء والحواس. ولأجل اظهار آثار اسمائه الحسنى المتنوعة يبتليك بانواع من البلايا فيمرضك حيناً ويمتعك بالصحة احياناً اخرى، ويجيعك مرة ويشبعك تارة ويظمئك اخرى. وهكذا يقلبك في امثال هذه الاطوار والاحوال لتتقوى ماهية الحياة وتظهر جلوات اسمائه الحسنى.

فان قلت: لماذا يبليني بهذه المصائب؟ فان مائة من الحِكَم الجليلة تسكتك، كما اشير اليها في المثال السابق. اذ من المعلوم ان السكون والهدوء والرتابة والعطالة نوع من العدم والضرر، وبعكسه الحركة والتبدل وجودٌ وخير. فالحياة تتكامل بالحركة وتترقى بالبلايا وتنال حركات مختلفة بتجليات الاسماء وتتصفى وتتقوى وتنمو وتتسع، حتى تكون قلماً متحركاً لكتابة مقدراتها، وتفى بوظائفها، وتستحق الاجر الاخروي.

نكتفي بهذا القدر من الاجوبة المختصرة لاسئلتكم الثلاث التي دارت حولها مناقشاتكم. أما ايضاحها ففي الثلاث والثلاثين كلمة من ((الكلمات)).

اخي العزيز!

اقرأ هذه الرسالة للسيد الصيدلي، ومن تراه لائقاً ممن سمعوا المناقشة وبلّغ سلامي الى الصيدلي الذي هو من طلابي الجدد، وقل له:

لايجوز بحث المسائل الايمانية الدقيقة - كالمذكورة - بشكل مناقشات جدلية من دون ميزان، ولا امام جماعة من الناس، اذ تتحول الادوية عندئذٍ الى سموم، لانها دون ميزان، فتضر المتكلمين والمستمعين معاً. وانما يجوز ذلك عند فراغ البال وسكون القلب وتوفّر الانصاف عند الباحثين، وتداولاً فكرياً ليس الاّ.

وقل له: ان كانت ترد الى قلبك الشبهات في مثل هذه المسائل ولم تجد لهاجواباً في ((الكلمات)) فليكتب اليّ رسالة خاصة بشأنها.

وقل للصيدلي ايضاً: لقد ورد المعنى الآتي بحق الرؤيا التي رآها، والتي تعود الى والده المرحوم:

لما كان الوالد المرحوم طبيباً، فقد نفع اناساً اتقياء وصالحين كثيرين بل أولياء. فارواح اولئك الميامين الذين انتفعوا منه ظهرت - لأبنه القريب منه - على صورة طيور اثناء وفاته. فخطر لي ان ذلك استقبال مفرح وترحيب مفعم بالشفاعة.

سلامي ودعواتي الى كل من حضر معنا هنا تلك الليلة.

الباقي هو الباقي

سعيد النورسي
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-03-2011
  #13
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: المكتوبات

المكتوب الثالث عشر

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{

السلام على من اتبع الهدى.. والملام على من اتبع الهوى

اخوتى الاعزاء!

تسألون كثيراً عن حالي وراحتي، وعن عدم مراجعتي الجهات المسؤولة للحصول على شهادة (للمنفيين) وعن عدم اهتمامي لأحوال العالم السياسية. وحيث ان اسئلتكم تتكرر كثيراً، فضلاً عن انها تُسأل مني معنىً، اضطر الى اجابة هذه الاسئلة الثلاثة بلسان سعيد القديم وليس بلسان سعيد الجديد.

o سؤالكم الاول:

كيف حالكم؟ أأنتم في خير وعافية؟

الجواب: انني أحمد الله تعالى حمداً لا أحصيه، اذ حوّل أنواع الظلم والمكاره التي جابهني بها أهل الدنيا(1) الى أنواع من الفضل والرحمة. واليكم البيان:

بينما كنت منعزلاً في مغارة أحد الجبال، وقد طلّقت السياسة وتجردت عن الدنيا منشغلاً بامور آخرتي، أخرجني أهل الدنيا من هناك ونفوني ظلماً وعدواناً. فجعل الخالق الرحيم الحكيم هذا النفي لي رحمة، اذ حوّل ذلك الانزواء في الجبل الذي كان معرضاً لعوامل تخل بالاخلاص والأمان، الى خلوة في جبال (بارلا) يحيط بها الأمن والاطمئنان والاخلاص. وقد عزمت عندما كنت أسيراً في روسيا ورجوت الله ان أنزوي في أواخر عمري في مغارة. فجعل أرحم الراحمين (بارلا) في مقام تلك المغارة ويسّر لي فائدتها ولم يحمّل كاهلي الضعيف متاعب المغارة وصعوباتها إلاّ ما اصابتني من مضايقات بسبب أوهام وريوب كان يحملها بضعة أشخاص فيها، فهؤلاء الذين كانوا أصدقائي - وقد ركبتهم الأوهام ظناً منهم انهم يعملون لصالحي ولراحتي - إلاّ انهم بأوهامهم هذه قد جلبوا الضيق على قلبي والضرر على خدمة القرآن.

وعلى الرغم من ان أهل الدنيا اعطوا للمنفيين جميعاً وثائق العودة وأخلوا سبيل المجرمين من السجون وعفوا عنهم، فقد منعوا الوثيقة عني ظلماً وجوراً، ولكن ربي الرحيم شاء ان يبقيني في هذه الغربة ليستخدمني في خدمة القرآن أكثر وليجعلني أكتب هذه الأنوار القرآنية التي سميتها ((الكلمات)) أكثر فاكثر، فابقاني في هذه الغربة بلا ضجة ولا ضوضاء، وحوّلها الى رحمة سابغة.

ومع ان أهل الدنيا سمحوا لذوي النفوذ والشيوخ ولرؤساء العشائر (من المنفيين) - الذين يمكنهم المداخلة في دنياهم - بالبقاء في الأقضية والمدن الكبيرة وسمحوا لأقاربهم ولجميع معارفهم بزيارتهم، فانهم فرضوا عليّ حياة العزلة ظلماً وعدواناً وارسلوني الى قرية صغيرة. ولم يسمحوا لأقاربي ولا لأهل بلدتي - باستثناء واحد أو اثنين - بزيارتي. فقلب خالقي الرحيم هذه العزلة الى رحمة غامرة بالنسبة لي، اذ جعل هذه العزلة وسيلة لصفاء ذهني وتخليصه من توافه الأمور وتوجيهه للاستفاضة من القرآن الحكيم على صفائه ونقائه.

ثم ان أهل الدنيا استكثروا عليّ في البدء حتى كتابة رسالة أو رسالتين أعتياديتين في مدة سنتين كاملتين. بل انهم حتى اليوم لا يرتاحون عندما يحضر لزيارتي ضيف أو ضيفان مرة كل عشرة أيام أو كل عشرين يوماً أو كل شهر، مع ان غرض الزيارة هو ثواب الآخرة ليس إلاّ. فارتكبوا الظلم في حقي، ولكن ربي الرحيم وخالقي الحكيم بدّل لي ذلك الظلم الى رحمة، اذ أدخلني في خلوة مرغوبة وعزلة مقبولة في هذه الشهور الثلاثة التي يكسب المرء فيها تسعين سنة من حياة معنوية. فالحمد لله على كل حال.

هذه هي حالي وظروف راحتي.

o سؤالكم الثاني:

لِمَ لا تراجع (المسؤولين) للحصول على شهادة؟

الجواب: انني في هذه المسألة محكوم للقدر ولست محكوماً لأهل الدنيا، لذا اراجع القدر. وارحل من ههنا متى ما سمح القدر وقطع رزقي هنا ارحل.

وحقيقة هذا المعنى هي:

ان في كل ما يصيب الانسان سببين:

الاول: سبب ظاهر. والآخر: حقيقي.

وقد اصبح اهل الدنيا سبباً ظاهراً وأتوا بي الى ههنا. أما القدر الإلهي فهو السبب الحقيقي، فحكم عليّ بهذه العزلة. والسبب الظاهر ظَلَمَ، أما السبب الحقيقي فقد عدل.

والسبب الظاهر فكرّ على هذا النمط: ((ان هذا الرجل يخدم العلم والدين بافراط، فلربما يتدخل في امور دنيانا)). فنفوني بناء على هذا الاحتمال، وظلموا ظلماً مضاعفاً بثلاث جهات.

اما القدر الإلهي فقد رأى: انني لا اخدم الدين والعلم خدمة خالصة كاملة، فحكم عليّ بهذا النفي، وحوّل ظلمهم المضاعف الى رحمة مضاعفة.

فما دام القدر هو الحاكم في نفيي، والقدر عادل، فانا ارجع اليه وافوض امري اليه. اما السبب الظاهر فليس له الاّ حجج ومبررات تافهة. بمعنى ان مراجعة اهل الدنيا لا يعني شيئاً ولا يجدى نفعاً.فلوكانوا يملكون حقاً أو اسباباً قوية فلربما يمكن مراجعتهم.

انني تركت دنياهم تركاً نهائياً - تباً لها - وفي الوقت الذي اعرضت عن سياساتهم كلياً - وتعساً لها - فان كل ما يساورهم من شكوك واوهام لا أصل لها اطلاقاً؛ لذا لا ارغب في ان اضفي صبغة الحقيقة على تلك الريوب والاوهام بمراجعتهم. فلو كان لي اقل رغبة في التدخل بسياستهم الدنيوية – التي طرف حبالها بايدي الاجانب – لكانت تُظهر نفسها في ثماني ساعات وليست في ثماني سنوات. علماً انني لم ارغب في قراءة جريدة واحدة ولم اقرأها طوال ثماني سنوات. فمنذ اربع سنوات وانا هنا تحت المراقبة، لم تبدُ مني ظاهرة من ذلك، بمعنى ان خدمة القرآن لها من السمو والرفعة ما يعلو على جميع السياسات مما يجعلني اترفّع عن التدخل في السياسات الدنيوية التي يغلب عليها الكذب.

والسبب الثاني لعدم مراجعتهم هو: ان ادعاء الحق ازاء من يظنون الباطل حقاً، نوع من الباطل فلا اريد ارتكاب ظلم كهذا.

o سؤالكم الثالث:

لِمَ لا تهتم الى هذا الحد بمجريات السياسية العالمية الحاضرة.. نراك لا تغيّر من طورِكَ اصلاً امام الحوادث الجارية على صفحات العالم. أفترتاح اليها أم انك تخاف خوفاً يدفعك الى السكوت؟

الجواب: ان خدمة القرآن الكريم هي التي منعتني بشدة عن عالم السياسة بل أنستني حتى التفكر فيها. والاّ فان تأريخ حياتي كلها تشهد بأن الخوف لم يكبلني ولا يمنعني في مواصلة سيري فيما اراه حقاً. ثم ممَّ يكون خوفي؟ فليس لي مع الدنيا علاقة غير الأجل، اذ ليس لي اهل واولاد أفكر فيهم، ولا اموال افكر فيها، ولا افكر في شرف الأصالة والحسب والنسب. ورحم الله من اعان على القضاء على السمعة الاجتماعية التي هي الرياء والشهرة الكاذبة، فضلاً عن الحفاظ عليها..

فلم يبق الاّ أجلي، وذلك بيد الخالق الجليل وحده. ومن يجرأ أن يتعرض له قبل اوانه. فنحن نفضل اصلاً موتاً عزيزاً على حياة ذليلة.

ولقد قال احدهم مثل سعيد القديم؛

ونحن أناسٌ لا تَوَسّطَ بَيْننا لنا الصَدْرُ دونَ العالَمينَ أو القبرُ (1)

أنما هي خدمة القرآن تمنعني عن التفكر في الحياة الاجتماعية السياسية وذلك:

ان الحياة البشرية ما هي الاّّ كركب وقافلة تمضي، ولقد رأيت بنور القرآن الكريم في هذا الزمان، ان طريق تلك القافلة الماضية أدت بهم الى مستنقع آسن، فالبشرية تتعثر في سيرها فهي لا تكاد تقوم حتى تقع في اوحال ملوثة منتنة.

ولكن قسماً منها يمضي في طريق آمنة.

وقسم آخر قد وجد بعض الوسائل لتنجيه - قدر المستطاع - من الوحل والمستنقع.

وقسم آخر وهم الأغلبية يمضون وسط ظلام دامس في ذلك المستنقع الموحل المتسخ.

فالعشرون من المائة من هؤلاء يلطخون وجوههم واعينهم بذلك الوحل القذر ظناً منهم انه المسك والعنبر، بسبب سُكرهم. فتارة يقومون واخرى يقعون وهكذا يمضون حتى يغرقون.

أما الثمانون من المائة، فهم يعلمون حقيقة المستنقع ويتحسسون عفونته وقذارته الاّ انهم حائرون، اذ يعجزون عن رؤية الطريق الآمنة.

وهكذا فهناك علاجان اثنان ازاء هؤلاء:

اولهما: ايقاظ العشرين منهم المخمورين بالمطرقة.

وثانيها: اراءة طريق الأمان والخلاص للحائرين باظهار نور لهم (اي بالارشاد).

فالذي اراه أن ثمانين رجلاً يمسكون بالمطرقة بايديهم تجاه العشرين بينما يظل اولئك الثمانون الحائرون البائسون دون أن يُُبصّروا النور الحق، وحتى لو اُبصروا فان هؤلاء لكونهم يحملون في ايديهم عصا ونوراً معاً فلا يوثق بهم. فيحاور الحائر نفسه في قلق واضطراب: تُرى أيريد هذا أن يستدرجني بالنور ليضربني بالمطرقة؟. ثم حينما تتحطم المطرقة بالعوارض احياناً، يذهب ذلك النور ايضاً ادراج الرياح أو ينطفئ.

وهكذا، فذلك المستنقع هو الحياة الاجتماعية البشرية العابثة الملوثة الغفلة الملطخة بالضلالة.

واولئك المخمورون هم المتمردون الذين يتلذذون بالضلالة.

واولئك الحائرون هم الذين يشمئزون من الضلالة ولكنهم لا يستطيعون الخروج منها، فهم يريدون الخلاص ولكنهم لا يهتدون سبيلاً.. فهم حائرون.

أما تلك المطارق فهي التيارات السياسية، واما تلك الانوار فهي حقائق القرآن فالنور لا تثار حياله الضجة ولا يقابل بالعداء قطعاً، ولا ينفر منه الاّ الشيطان الرجيم.

ولذلك، قلت: ((اعوذ بالله من الشيطان والسياسة)) لكي احافظ على نور القرآن. واعتصمت بكلتا يدي بذلك النور، ملقياً مطرقة السياسة جانباً.

ورأيت أن في جميع التيارات السياسية - سواءً الموافقة منها أو المخالفة - عشاقاً لذلك النور.

فالدرس القرآني الذي يُلقى من موضع طاهر زكي مبرأ من موحيات افكار التيارات السياسية والانحيازات المغرضة جميعها، ويُرشد اليه من مقام أرفع واسمى منها جميعاً، ينبغي الاّ تحجم عنه جهة، ولا يكون موضع شبهة فئة، مهما كانت. اللّهم الاّ اولئك الذين يظنون الكفر والزندقة سياسة فينحازون اليها. وهؤلاء هم شياطين في صورة اناسي أو حيوانات في اجساد بشر.

وحمداً لله فانني بسبب تجردي عن التيارات السياسية لم أبخس قيمة حقائق القرآن التي هي اثمن من الالماس ولم اجعلها بتفاهة قطع زجاجية بتهمة الدعاية السياسية. بل تُزيد قيمة تلك الجواهر القرآنية على مرّ الايام وتتألق اكثر امام انظار كل طائفة.



} وقالوا الحمدُ لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي
لولا أنْ هدانا الله لقدْ جاءت رُسُل ربّنا بالحق{



الباقي هو الباقي

سعيد النورسي

المكتوب الرابع عشر



لم يؤلف
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-03-2011
  #14
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: المكتوبات

المكتوب الخامس عشر

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{

اخي العزيز! ان سؤالك الاول الذي هو:

معلوم ان صغار الصحابة هم اعظم بكثير من اعاظم الاولياء، فلماذا اذن لم يكشف الصحابة الكرام بنظر ولايتهم المفسدين المندسين في المجتمع، حتى سبّبوا استشهاد ثلاثة من الخلفاء الراشدين؟

جوابه: في مقامين اثنين:

المقام الاول

بتوضيح سر دقيق للولاية وبيانه تحل عقدة السؤال وهو:

ان ولاية الصحابة الكرام هي ((الولاية الكبرى)) ومنبعها واصولها الاولى من وراثة النبوة، وطريقها: النفوذ من الظاهر الى الحقيقة مباشرة، من دون المرور بطريق البرزخ. فهي ولاية متوجهة الى انكشاف ((الاقربية الإلهية)) حيث ان طريق هذه الولاية رغم قصرها الشديد سامية وعالية جداً، خوارقها قليلة وكشوفاتها وكراماتها نادراً ما تظهر، الا ان مزاياها وفضائلها عالية جداً. بينما كرامات الاولياء اغلبها ليست اختيارية، فقد يظهر منهم أمر خارق للعادة من حيث لم يحتسبوا، اكراماً من الله لهم، وأغلب هذه الكشوفات والكرامات يظهر لهم اثناء فترة السير والسلوك وعند مرورهم في برزخ الطريقة. وحينما يتجردون - الى حد ما - من حظوظ البشرية ينالون حالات خارقة للعادة.

أما الصحابة الكرام - رضوان الله عليهم اجمعين - فهم ليسوا مضطرين الى قطع الدائرة العظيمة بالسير والسلوك ضمن الطريقة للوصول الى الحقيقة، وذلك لتشرفهم بانعكاس انوار الصحبة النبوية الشريفة، فهم قادرون - بهذا السر - ان ينفذوا من الظاهر الى الحقيقة بخطوة واحدة وفي جلسة واحدة. فمثلاً:

ان هناك طريقين لإدراك ليلة القدر التي مضت ليلتها بالأمس وغدت ماضياً:

الاولى:

معاناة الايام يوماً بعد يوم سنة كاملة، لأجل الوصول الى تلك الليلة المباركة مرة اخرى ومقابلتها وموافقتها، فلابد من السير والسلوك وقطع سنة كاملة للظفر بهذه ((القربـية الإلهية)).

وهذا هو مسلك معظم السالكين من اهل الطرق.

الثانية:

انسلال الجسم المادي المقيد بالزمان من غلافه، والتسامي روحياً بالتجرد، ورؤية ليلة القدر الماضية بالأمس مع ليلة العيد المقبلة بعد يوم حاضرتين ماثلتين كأنهما اليوم الحاضر، حيث ان الروح ليست مقيدة بالزمان. فحينما تسمو الاحاسيس الانسانية الى درجة رهافة الروح يتوسع ذلك الزمان الحاضر - ويطوي فيه الماضي والمستقبل - فتكون الاوقات الماضية والمستقبلة بالنسبة للاخرين بمثابة الحاضر بالنسبة اليه.

في ضوء هذا التمثيل، يكون العبور الى ليلة القدر الماضية بالأمس، بالرقي الى مرتبة الروح ومشاهدة الماضي كأنه الحاضر.

واساس هذا السر الغامض انما هو انكشاف ((الاقربية الإلهية)).

ولنوضح هذا بمثال:

ان الشمس قريبة منا لأن ضياءها وحرارتها وصورتها تتمثل في مرآتنا التي في ايدينا، ولكن نحن بعيدون عنها. فلو أحسسنا بأقربيتها من حيث النورانية، وادركنا علاقتنا مع صورتها المثالية في مرآتنا، وعرفناها بتلك الوساطة، ولمسنا حقيقة ضيائها وحرارتها وهيئتها فان اقربيتها تنكشف لنا لدرجة تغرينا بتكوين علاقة معها عن معرفة وقرب.

ولكن لو اردنا التقرب اليها والتعرف عليها من حيث بعدنا عنها لأضطررنا الى كثير جداً من السير الفكري والسلوك العقلي لنصعد فكرياً بصحبة القوانين العلمية الى السموات ونتصور من ثمة الشمس متألقة في فضاء الكون، ولابد من الاستعانة بهذه القوانين والتدقيقات المطولة جداً لادراك ما في ماهيتها من ضياء وحرارة والوان سبعة. وبعد هذا كله قد نحصل على القربية المعنوية منها، بمثل التي حصل عليها الشخص الاول بتأمل يسير في مرآته.

وعلى غرار هذا المثال؛

فالنبوة، والولاية الموروثة عنها، متوجهتان الى انكشاف ((الاقربية الإلهية)). اما سائر الولايات فان معظمها تسلك على أساس ((القربية الإلهية)) فتضطر الى السير والسلوك عبر مراتب عدة قبل بلوغها المقام المطلوب.



المقام الثاني

ان الذي كان وراء حوادث الفتن ليس هو عدداً قليلاً من اليهود كي يمكن حصرهم وايقاف ذلك الفساد، واطفاء تلك الفتن بمجرد كشفهم. اذ بدخول اقوام كثيرة متباينة الى حظيرة الاسلام، تداخلت واختلطت تيارات متناقضة وغير متجانسة في باطنها مع عقيدة الاسلام. وبخاصة اولئك الذين أصيب غرورهم القومي بالضربات القوية من يد سيدنا عمر رضي الله عنه. فكانوا يضمرون في نفوسهم الانتقام ويترقبون الفرصة له حيث أُبطل دينهم السابق ودُمّر سلطانهم وازيلت دولتهم التي كانت مدار افتخارهم وعزهم، لذا فقد كانوا يحملون احساساً بالانتقام شعورياً وغير شعوري من خلافة الاسلام. ولهذا قيل ان المنافقين الدساسين الاذكياء امثال اليهود قد استغلوا تلك الحالة الاجتماعية.

اي ان مقاومة تلك الفتن وازالتها هي بمواجهتها باصلاح ذلك المجتمع وتنوير الافكار المختلفة، وليس بكشف قلة من المفسدين.

واذا قيل:

ان سيدنا عمر رضي الله عنه قد هتف من فوق المنبر بسارية احد قواد سراياه وهو على بعد مسيرة شهر منه بـ((يا سارية الجبل الجبل!))(1) فهتافه هذا وتوجيهه هذا اصبحا سبباً من اسباب نيل النصر في تلك المعركة. هذه الحادثة المشهورة تبين مدى نفاذ بصيرته الحادة.

والسؤال هو: لماذا لم تر تلك البصيرة بنظرها الثاقب قاتلَه فيروز الذي كان قريباً منه؟

الجواب: نجيب عن هذا السؤال بما اجاب عنه سيدنا يعقوب عليه السلام(2) ،فقد سئل عليه السلام: كيف وجدت ريح يوسف عليه السلام من قميصه الذي في ارض مصر، ولم تره في الجب القريب منك في ارض كنعان؟

فأجاب عليه السلام: ان حالاتنا كالبرق الخاطف، يظهر احياناً ويختفي اخرى، فنكون احيانا كمن هو جالس في اعلى مقام ويرى جميع ما حوله، واحياناً اخرى لا نرى ظهر اقدامنا.

والخلاصة: انه مهما كان الانسان فاعلا ذا اختيار الا أن المشيئة الإلهية هي الاصل، والقدر الإلهي حاكم مهيمن والمشيئة الإلهية ترد المشيئة الانسانية،بمضمون قوله تعالى: } وما تشاؤون إلاّ انْ يشاء الله{ (الانسان:30) واذا جاء القدر عمي البصر، فينفذ حكمه، واذا ما تكلم القدر تسكت القدرة البشرية، ويصمت الاختيار الجزئي.



o مـضمون سؤالكم الثاني هو:

ما حقيقة الوقائع التي دبّت في صفوف المسلمين في عهد سيدنا علي رضي الله عنه؟ وماذا نسمي اولئك الذي ماتوا وقُتلوا فيها؟

الجواب: ان ((معركة الجمل)) التي دارت رحاها بين سيدنا على رضي الله عنه وجماعته من جهة، وبين طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم أجمعين من جهة اخرى، هي معركة بين العدالة المحضة والعدالة الاضافية (النسبية). وتوضيحها كالأتي:

لقد جعل سيدنا علي رضي الله عنه، العدالة المحضة أساساً لسياسته في ادارة دفة الحكم. وسار بمقتضاها على وفق اجتهاده وبمثل ما كان الشيخان يسيران عليه من قبله. أما معارضوه فقد قالوا: ان صفاء القلوب وطهارة النفوس في عهد الشيخين كانا ملائمين وممهّدين لكي تنشر العدالة المحضة سلطانها على المجتمع، الاّ أن دخول اقوام متباينة الطبائع والاتجاهات وهم على ضعف الاسلام بمرور الزمن، في هذا المجتمع ادّى الى وضع عوائق مهمة ازاء الرغبة في تطبيق العدالة المحضة، فغدا تطبيقها صعباً، لذا فقد اجتهدوا على اساس بالعدالة النسبية التي هي اختيار لأهون الشرين.

ولكن، لأن المنافسة حول هذين النوعين من الاجتهاد آلت الى ميدان السياسة، فقد نشبت الحرب بين الطرفين. وحيث أن كل طرف قد توصل الى اجتهاده بنية خالصة ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى ومصلحة الاسلام، ونشبت الحرب نتيجة هذا الاجتهاد الخالص لله، فيصح أن نقول: القاتل والمقتول كلاهما من أهل الجنة، وكلاهما مأجوران مثابان، رغم معرفتنا أن اجتهاد الامام علي رضي الله عنه كان صواباً وان اجتهاد مخالفيه مجانب للصواب. وهؤلاء المخالفون ليسوا اهلاً للعقاب الاخروي. اذ المجتهد لله اذا أصاب فله اجران وان اخطأ فله اجر واحد، أي أنه ينال ثواب بذله الجهد في الاجتهاد، وهو نوع من العبادة، اي هو معذور في خطئه.

وقد قال أحد اعلام علمائنا المحققين ويعدّ قوله حجة، شعراً باللغة الكردية:

ذى شر صحابان مَكَه قال وقيل لورا جنتينه قاتل وهم قتيل

أي لا تخض فيما وقع بين الصحب الكرام؛ لأن القاتل والمقتول كليهما في الجنة.

أما ايضاح الفرق بين العدالة المحضة والعدالة الاضافية فهو:

ان حق الشخص البرئ الواحد لا يبطل لأجل الناس جميعاً، اي أن حقه محفوظ، وهذا المعنى هو الذي تشير اليه الآية الكريمة } مَنْ قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الارض فكأنما قتل الناس جميعاً{ (المائدة: 32) فلا يُضحى بفردٍ واحد لأجل الحفاظ على سلامةٍ الجميع؛ اذ الحق هو حق ضمن اطار الرحمة الإلهية، فلا يُنظر الى كونه صغيراً أو كبيراً، لذا لا يُفدى بالصغير لأجل الكبير، ولا بحياة فرد وحقه لأجل سلامة جماعة والحفاظ عليها، ان لم يكن له رضى في الأمر. اما اذا كانت التضحية برضاه ورغبة منه فهي مسألة اخرى.

أما العدالة الاضافية فهي أن الجزء يضحى لأجل سلامة الجميع، فهذه العدالة لا تأخذ حق الفرد بنظر الاعتبار لأجل الجماعة، وانما تحاول القيام بنوع من عدالة اضافية من حيث الشر الأهون. ولكن اذا كانت العدالة المحضة قابلة للتطبيق فلا يُصار الى العدالة الاضافية، وان صار اليها فقد وقع الظلم. فالامام علي رضي الله عنه قال: ان العدالة المحضة قابلة للتطبيق، كما كان عليه في عهد الشيخين. لذا حاول بناء الخلافة الاسلامية على تلك القاعدة من العدالة المحضة. بينما معارضوه كانوا يقولون ان هذه العدالة المحضة غير قابلة للتطبيق، حيث هناك، عوائق ومشكلات كثيرة تظهر اثناء تطبيقها، فصار اجتهادهم الى العدالة الاضافية.

أما ما أورده التاريخ من اسباب اخرى فهي ليست اسباباً حقيقية، بل حجج ومبررات واهية.

o فان قلت:

لِمَ لَمْ يُوفّق الامام علي رضي الله عنه بمثل ما وفق اسلافه في ادارة دفة الخلافة رغم اتصافه ـ من هذه الناحية - بقابليات فائقة وذكاء خارق، ولياقة تامة جديرة بمنصب الخلافة؟

الجواب: ان الامام علياً كان حرياً ومؤهلاً للقيام بمهمات جسام تفوق اهمية السياسة والحكم، اذ لو كان التوفيق تاماً له في السياسة والحكم لما كان يحرز لقب "سيد الاولياء" بجدارة تامة، ذلك المقام المعنوي الذيهو أهل له بحق. فظفر بسلطنة معنوية وبحكم معنوي أرقى بكثير من خلافة سياسية ظاهرية. حيث اصبح بمثابة استاذ الجميع، وغدا حكمه المعنوي سارياً وماضياً الى يوم القيامة.

m أما ما وقع من حرب بين الامـام علي رضـي الله عنـه وسيـدنا معاوية رضـي الله عنه وانصاره في واقعة ((صفين)) فهي حرب بين الخلافة والسلطنة - الملك الدنيوي - أي أن الامام علياً رضي الله عنه قد اتخذ احكام الدين وحقائق الاسلام والآخرة اساساً، فكان يضحي بقسم من قوانين الحكم والسلطنة وما تقتضيه السياسة من امور فيها اجحاف في سبيل الحقائق والاحكام. أما سيدنا معاوية ومَن معه، فقد التزموا الرخصة الشرعية وتركوا الاخذ بالعزيمة،لاجل اسناد الحياة الاجتماعية الاسلامية بسياسات الحكم والدولة. فعدّوا انفسهم مضطرين في الأخذ بهذا المسلك في عالم السياسة. لذا رجحوا الرخصة على العزيمة، فوقعوا في الخطأ.

m أما مقاومة الحسن والحسين رضي الله عـنهـما للامويـين، فهي في حقـيقـتها صراع بين الدين والقومية، اذ اعتمد الامويون على جنس العرب في تقوية الدولة الاسلامية، وقدّموهم على غيرهم، اي فضّلوا رابطة القومية على رابطة الاسلام فاضروا من جهتين:

الاولى: آذوا الاقوام الاخرى بنظرتهم هذه، فوّلدوا فيهم الكراهية والنفور.

الثانية: ان الاسس المتبعة في القومية والعنصرية اسس ظالمة لا تتبع العدالة ولا توافق الحق، اذ لا تسير تلك الاسس على وفق العدالة، لأن الحاكم العنصري يفضل من هم بنو جنسه على غيرهم، فأنَّى له أن يبلغ العدالة! بينما ((الاسلام يجبّ ما قبله))(1) من عصبية جاهلية، لا فرق بين عبد حبشي وسيد قرشي اذا أسلما(2) فلا يمكن اقامة رابطة القومية بدلاً من رابطة الدين في ضوء هذا الأمر الجازم. اذ لا تكون هناك عدالة قطٍ وانما تهدر الحقوق ويضيع الانصاف.

وهكذا فان سيدنا الحسين رضي الله عنه قد تمسّكَ برابطة الدين، وهو محق في ذلك، لذا قاوم الامويين حتى رزق مرتبةالشهادة.

o واذا قيل:

لِمَ لم ينجح سيدنا الحسين رضي الله عنه في مسعاه رغم انه كان على حق وصواب؟ وكيف سمحت الرحمة الإلهية والقدر الإلهي ان تكون عاقبته وعاقبة آل بيته فاجعة أليمة؟

الجواب: اذا استثنينا المقربين من سيدنا الحسين رضي الله عنه، نجد ان الاقوام المختلفة الذين التحقوا بهم هم ممن اُصيب غرورهم القومي بجروح بيد العرب المسلمين، فهم يضمرون ثأراً تجاههم، مما كّدر صفاء النية ونقاءها التي كان يتحلى بها مسلك الحسين ومن معه، وادّى تعكـُّر ذلك الصفاء وخفوت سطوع ذلك النهج القويم الى تقهقرهم امام اولئك.

m اما حكمة تلك الحادثة المؤلمة من زاوية نظر القدر الإلهي فهي:

ان الحسن والحسين رضي الله عنهما وذويهما ونسلهما كانوا مرشحين لسلطنة معنوية ومؤهلين لتسنم مرتبة سامية معنوية.و لما كان الجمع بين سلطنة الدنيا وتلك السلطنة المعنوية من الصعوبة بمكان، لذا جعلهم القدر الإلهي يُعرضون عن الدنيا، وأظهر لهم وجه الدنيا الدميم، لئلا تبقى لهم علاقة قلبية مع الدنيا، ودفعهم الى أن ينفضوا ايديهم من سلطنة صورية دنيوية مؤقتة زائلة، بينما عيّنهم لتسنم الامور لدى سلطنة معنوية سامية دائمة، فاصبحوا مرجِعاً لأقطاب الاولياء بدلاً من ان يكونوا مرجعاً للولاة الاعتياديين.

o أما سؤالكم الثالث الذي هو:

ما الحكمة في المصيبة الاليمة والمعاملة الظالمة التي اصابت اولئك الطاهرين الميامين؟.

الجواب: لقد بينا سابقاً ان هناك ثلاثة اسس كان معارضو سيدنا الحسين رضي الله عنه وهم الامويون يسيرون عليها والتي ادت الى ارتكاب تلك المظالم والمعاملات القاسية:

الأول: هو دستور السياسة الظالم ومؤداه؛ ان الاشخاص يضحى بهم في سبيل الحفاظ على الدولة واستتباب النظام في البلاد.

الثاني:كانت دولتهم تستند الى القومية والعنصرية، وكان الحاكم المهيمن على الامور قانون القومية الظالم وهو: ((كل شئ يضحى في سبيل الحفاظ على سلامة الامة)).

الثالث: تأصل عرق المنافسة لدى الامويين منذ مدة طويلة تجاه الهاشميين، فظهر في يزيد وامثاله، مما سبب تفجّر استعدادات ظالمة قاسية لا رحمة فيها ولا رأفة.

وهناك سبب رابع وهو الذي يخص الذين انضموا الى صف سيدنا الحسين رضي الله عنه، وهو ان اعتماد الامويين على قومية العرب وحدهم في ادارة شؤون الدولة، ونظرتهم المتعالية على سائر الأقوام كأنهم عبيد لديهم وتسميتهم بالموالي، اصاب غرور اولئك، مما دفعهم الى الالتحاق بصف سيدنا الحسين، وهم يحملون نية غير خالصة لله. وهي نيّة اساسها دافع الثأر. هذا الأمر هيّج العصبية القومية لدى الأمويين فأدى بهم الأمر الى ارتكاب تلك الفاجعة الأليمة التي لا تجد فيها رحمة ولا عطفاً ولا رأفة.

هذه الأسباب الاربعة المذكورة:هي اسباب ظاهرية. الاّ اننا اذا نظرنا الى الأمر من زاوية القدر الإلهي نجد أن سيدنا الحسين وذويه رضي الله عنهم قد احرزوا نتائج اخروية وسلطنة روحية ورقياً معنوياً، من جراء تلك الفاجعة الاليمة، بحيث تكون تلك الآلام والصعوبات التي لاقوها في تلك الحادثة الأليمة زهيدة ويسيرة تجاه تلك المنازل الرفيعة التي حظوا بها.فمثلاً:

ان الذي يستشهد نتيجة تعذيب يستغرق ساعة يغنم من المراتب العالية والدرجات السامية للشهادة مالا يمكن ان يحصل عليها من يسعى بجهد متواصل خلال عشر سنين. فلوسئل ذلك الشهيد بعد فوزه بدرجة الشهادة عن ذلك التعذيب لأجاب: لقد فزت كثيراً جداً بشئ يسير جداً.

o فحوى سؤالكم الرابع:

ان الاكثرية المطلقة من الناس يدخلون الدين الحق بعد قتل سيدنا عيسى عليه السلام الدجالَ في آخر الزمان، بينما وردت في روايات اخرى: ((لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الارض: الله.. الله..))(1) فكيف يسقط الناس بهذه الكثرة في هاوية الكفر بعد أن دخلوا بكثرة مطلقة في حظيرة الايمان؟

الجواب: ان ضعاف الايمان يستبعدون ما جاء في الحديث الصحيح من نزول سيدنا عيسى عليه السلام وقتله الدجال وعمله بالشريعة الاسلامية ولكن لو وضحت حقيقة الرواية لا يبقى موضع للاستبعاد قط. وذلك.

ان المعنى الذي يفيده ذلك الحديث والروايات الواردة حول المهدي والسفياني(1) هو الآتي:

ان تيارين للالحاد سيشتدان ويتقويان في آخر الزمان:

الاول: ان شخصاً رهيباً يقال له ((السفياني)) سينكر الرسالة الأحمدية (نبوة محمد e ) متستراً بالنفاق، ويتولى قيادة المنافقين، ويسعى لتدمير الشريعة الاسلامية، وسيقابله شخص نوراني من آل البيت يسمى محمد المهدي يتولى قيادة اهل الولاية واهل الكمال المرتبطين بالسلالة النورانية لآل البيت، ويقتل تيار النفاق الذي يمثل شخص السفياني المعنوي ويدمّره تدميراً.

أما التيار الثاني: فهو التيار الطاغي المتمرد، المتولد من فلسفة الطبيعيين والماديين، هذا التيار ينتشر ويتقوى تدريجياً بوساطة الفلسفة المادية في آخر الزمان حتى يبلغ به الأمر الى انكار الإلوهية ويمنح افراد هذا التيار المنكرين لله سبحانه انفسَهم نوعاً من الربوبية كأنهم نماردة صغار، مثلما يمنح الجاهل بالسلطان غير المعترف بجنوده وضباطه نوعاً من السلطنة وشكلاً من الحاكمية الى كل جندي. اما الدجال وهو كبيرهم الذي يتولاهم فيؤتى من الخوارق ما يشبه اعمال السحر والتنويم المغناطيسي، ويتمادى كثيراً حتى يضفى على حكومته الجبارة ظاهراً نوعاً من الربوبية، ويعلن الوهيته. ولا ريب ان ادعاء انسان عاجز الالوهيةَ، والذي يقهره ذباب ويعجز حتى عن خلق جناحها، حماقة ما بعدها حماقة، تستحق منتهى الهزء والسخرية.

وهكذا ففي مثل هذه الفترة، وحينما يبدو ذلك التيار قوياً شديداً يظهر الدين الحق الذي اتى به عيسى عليه السلام، والذي هو الشخصية المعنوية لسيدنا عيسى عليه السلام، اي ينزل من سماء الرحمة الإلهية، فتتصفى النصرانية الحاضرة تجاه تلك الحقيقة وتتجرد من الخرافات والتحريفات وتتحد مع حقائق الاسلام، اي ان النصرانية ستنقلب معنى الى نوع من الاسلام، فذلك الشخص المعنوي للنصرانية يكون تابعاً، باقتدائه بالقرآن الكريم ويظل الاسلام في مقام الامام المتبوع، ويجد الدين الحق نتيجة هذا الالتحاق قوة عظمى، اذ في الوقت الذي كان الاسلام والنصرانية منفردين - كل على حدة - غير قادرين على صدّ تيار الإلحاد يكونان بفضل الاتحاد بينهما على استعداد لتدمير تيار الالحاد تدميراً كاملاً. ففي هذه الاثناء يتولى شخص عيسى عليه السلام الموجود بجسمه البشري في عالم السموات قيادة تيار ذلك الدين الحق. اخبر بهذا مخبر صادق استناداً الى وعد من لدن قدير على كل شئ، واذ هو قد أخبر، فالأمر حق لا ريب فيه. واذ وعد به القدير على كل شئ، فلاشك أنه سينجزه.

نعم ان الذي يرسل الملائكة تترى من السموات الى الارض ويجعلهم احياناً في صورة انسان (كما جعل سيدنا جبريل عليه السلام في صورة الصحابي دحية الكلبي) ويرسل الروحانيين من عالم الارواح، ويجعلهم يتمثلون في صور بشرية، بل يرسل حتى ارواح كثير من الاولياءالمتوفين في اجسادهم المثالية الى الدنيا..لا يستبعد من حكمة هذا الحكيم ذي الجلال ان يرسل عيسى عليه السلام الموجود حياً بجسده في سماء الدنيا الى الدنيا، بل حتى لو كان ذاهباً الى اقصى نواحي عالم الآخرة، وكان ميتاً حقاً فانه سبحانه قادر وتقتضي حكمته ان يلبسه جسداً من جديد، ويرسله الى الدنيا لأجل هذه النتيجة الجليلة العظيمة، وليكون مسك الختام والنهاية الجليلة للدين الذي اتى به عيسى عليه السلام. وقد وعد بهذا سبحانه وتعالى لإقتضاء حكمته الجليلة. واذ قد وعد فانه سيرسله حتماً. ولا يلزم ان يعرف كل أحدٍ انه عيسى عليه السلام بذاته اثناء نزوله الى الدنيا، وانما يعرفه خواصه والمقربون منه بنور الايمان، اذ لا يعرفه الناس كلهم بدرجة البداهة.

o سؤال:

لقد جاء في الروايات: ان للدجال جنة كاذبة يلقى فيها اتباعه، وله جهنم كاذبة يلقى فيها من لا يتبعه، حتى انه جعل احد اُذني دابته كالجنة والاخرى كجهنم(1)، وله جسم عظيم طوله كذا وكذا وغيرها من الاوصاف التي يعرف بها. فالسؤال: ما المراد من هذه الروايات؟.

الجواب: ان الشخص الظاهري للدجال هو كالانسان، فهو انسان دساس، شيطان احمق مغرور، تفرعن وطغى ونسى الله تعالى حتى اطلق على حاكميته الجبارة ظاهراً اسم الالوهية.

أما شخصه المعنوي الذي هو تيار الالحاد الطاغي فهو شخص جسيم جداً. وما ورد من روايات في اوصافه الدالة على الضخامة يشير الى ذلك الشخص المعنوي. كما صوّر في وقت ما القائد العام للقوات اليابانية تصوير انسان واضع احدى قدميه في البحر المحيط الهادي والاخرى في قلعة (بورت آرثر) التي تبعد عن الاولى مسافة عشرة ايام. فهذا التصوير لذلك القائد الصغير اظهر ومثّل الشخص المعنوي العظيم لجيشه.

اما الجنة الكاذبة للدجال، فهي ملاهي الحضارة وزخارفها الفاتنة.

أما دابته فهي واسطة نقل شبيهة بالقطار، في رأسه موقد النار يرمى فيها احياناً من لا يتبعه. والاذن الاخرى لتلك الدابة، اي رأسها الآخر مفروش بفرش وثيرة كالجنة اعدّها لجلوس اتباعه.

وحقاً ان القطار دابة مهمة للحضارة السفيهة الظالمة. اذ يأتي بجنة كاذبة لأهل السفاهة والدنيا، الاّ انه بيد المدنية الحاضرة يكون كزبانية جهنم يأتي بالهلاك والاسر والذل لأهل الدين والاسلام المساكين.

وعلى الرغم من نشر الدين الحقيقي الذي اتى به عيسى عليه السلام نورَه على الاكثرية المطلقة من الناس وذلك بظهوره وانقلابه الى الاسلام، الاّ انه عند قرب قيام الساعة يبرز تيار إلحاد مرة اخرى ويتغلب، فلا يبقى على وجه الارض - بالاكثرية العظمى - من يقول: الله.. الله.. اي لا تتولى جماعة مهمة لها شأنها موقعاً مهماً على الكرة الارضية..

ولا يعنى الحديث انه لا يبقى اهل الحق والداعين له على وجه الارض، بل سيبقى اهل الحق الذين يظلون في الأقلية ازاء الالحاد أو يُغلَبون على أمرهم، سيبقون الى يوم القيامة، الاّ أنه اثناء قيامها تُقبض ارواح اهل الايمان اولاً رحمة منه سبحانه بهم لئلا يروا اهوال القيامة، وتقوم القيامة على رؤوس الكفار.

o فحوى سؤالكم الخامس: هل تتأثر الارواح الباقية باهوال القيامة؟

الجواب: نعم تتأثر حسب درجاتها، كما تتأثر الملائكة تأثراً خاصاً بهم بالتجليات القهرية، اذ كما لو إطّلع من كان في مكان دافئ على اناس يرتجفون في الثلوج يتأثر ويتألم لحالهم لما يحمل من عقل ووجدان، كذلك الارواح الباقية التي لها شعور ذات علاقة مع الكون، تتأثر بالحوادث العظيمة التي تجري فيه. كلٌ حسب درجته، والاشارات القرآنية تبين تأثر الارواح بألم ان كانت من اهل العذاب، وإن كانت من اهل السعادة فانها تتأثر بالاستحسان والإعجاب، بل بنوع من الاستبشار. ولما كان القرآن الحكيم يذكر عجائب اهوال القيامة في اسلوب تهديد وزجر قائلاً : } لَتَرونّها{ بينما الذين سيرون تلك الاهوال بأجسامهم الانسانية هم الذين يبلغون قيام الساعة من الناس، اذن الارواح التي رُمّت اجسادها في القبور لها نصيبها من هذا التهديد القرآني ايضاً.

o فحوى سؤالكم السادس:

أتشمل هذه الآية الكريمة: } كلّ شيء هالكٌ الاّ وَجْهَه{ (القصص:88) الآخرة والجنة وجهنم واهليها، ام لا؟

الجواب: لقد صارت هذه المسألة موضع بحث كثير جداً من العلماء المحققين واصحاب الكشف والاولياء الصالحين، فالقول قولهم في هذه المسألة فضلاً عن أن لهذه الآية الكريمة سعة عظيمة جداً مع تضمنها لمراتب كثيرة جداً. فقد قال القسم الاعظم من المحققين: لا تشمل هذه الآية عالم البقاء. في حين قال اخرون: ان تلك العوالم تتعرض ايضاً لنوع من الهلاك في زمن قصير جداً بحيث يعدّ آناً، وهو زمان قصير الى درجة لا يُشعر بذهابها الى الفناء والعودة منه.

أما ما يحكم به بعض اصحاب الكشف المفرطين في افكارهم من حدوث الفناء المطلق، فليس حقيقة ولا صواباً، لأن ذات الله سبحانه وتعالى دائمى وسرمدي، فلابد أن صفاته واسماءه ايضاً دائمية وسرمدية. ولما كانت صفاته واسماؤه دائمية فلابد أن أهل البقاء والباقيات الموجودة في عالم البقاء - التي هي مراياها وجلواتها ونقوشها ومظاهرها - لا تذهب بالضرورة الى الفناء المطلق قطعاً.

وحالياً وردت نقطتان من فيض القرآن الحكيم الى البال نكتبها اجمالاً:

اولاها: ان قدرة الله جل وعلا لا حدود لها، حتى أن الوجود والعدم بالنسبة الى قدرته وارادته تعالى كمنزلَين، يرسل اليهما الاشياء ويجلبها منهما بكل يسر وسهولة، فان شاء يجلبها في يوم واحد أو في آن واحد.



ثم ان العدم المطلق لا وجود له اصلاً لوجود العلم المحيط، علماً انه لا شئ خارج دائرة العلم الإلهي، كي يُلقى اليه شئ. والعدم الموجود ضمن دائرة العلم هو عدم خارجي، وعنوان صار ستاراً على الوجود العلمي، حتى حدا ببعض العلماء المحققين التعبير عن هذه الموجودات العلمية أنها ((اعيان ثابتة)). لذا فالذهاب الى الفناء، انما هو نزع الاشياء لألبستها الخارجية مؤقتاً، ودخولها في وجود معنوي وعلمي، اي أن الهالكات والفانيات تترك الوجود الخارجي وتلبس ماهياتها وجوداً معنوياً وتخرج من دائرة القدرة داخلة في دائرة العلم.

النقطة الثانية: لقد اوضحنا في كثير من ((الكلمات)): ان كل شئ فانٍ بمعناه الاسمي، وبالوجه الناظر الى ذاته، فليس له وجود مستقل ثابت بذاته، وليست له حقيقة قائمة بذاتها وحدها. ولكن الشئ في الوجه الناظر الى الله سبحانه - اي اذا صار بالمعنى الحرفي - فليس فانياً، لأن فيه جلوات ظاهرة لأسماء باقية فلا يكون معدوماً، لانه يحمل ظلاً لوجود سرمدي، وله حقيقة ثابتة وهي حقيقة سامية لأنها نالت نوعاً من ظل ثابت لإسم باقٍ.

ثم ان قوله تعالى } كلُّ شيء هالكٌ الاّ وَجْهَه{ سيفٌ ليقطع يد الانسان عمّا سوى الله تعالى، حيث ان الآية تقطع العلائق مع الاشياء الفانية، في دنيا فانية، في غير سبيل الله. فحكم الآية الكريمة اذاً تنظر الى الفانيات في الدنيا، بمعنى أن الشئ ان كان في سبيل الله، اي ان كان بالمعنى الحرفي، اي ان كان لوجه الله، فلا يدخل ضمن ما سواه تعالى اي لا يضرب عنقه بسيف الآية الكريمة } كل شيء هالك الاّ وجهه{ .

حاصل الكلام: اذا كان الأمر لله، ووجد الله، فلا غير اذن، حتى يُقطع رأسه، ولكن ان لم يجد الله، ولم ينظر في سبيل الله فكل شئ غيرٌ. فعليه أن يسلّ سيف } كلّ شيء هالكٌ الاّ وَجْهَه{ ويمزّق الحجاب حتى يجده سبحانه تعالى.



الباقي هو الباقي

سعيد النورسي
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-03-2011
  #15
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: المكتوبات

المكتوب السادس عشر

بسم الله الرحمن الرحيم

} الذين قالَ لَهُم الناسُ ان الناسَ قد جَمَعوا لكم فاخْشَوهُم فَزَادَهُم إيماناً وقالوا حَسْبُنا الله ونِعمَ الوَكيل{ (آل عمران: 173)



لقد نـال هذا المكـتوب سراً من اسرار الآيـة الكريمة: } فقولا له قولاً ليناً{ (طه:44) فلم يكتب بلهجة شديدة.

وهو جواب عن سؤال يورده الكثيرون صراحة أو ضمناً.

انني لا ارغب قط في ان اسجل هذه الإجابة، ولا ارتاح اليها. فلقد فوّضت أمري كله الى المولى القدير، وتوكلت عليه وحده، ولكني لا اُترك وشأني لأجد الراحة في عالمي، فيلفتون نظري الى الدنيا، لذا اقول مضطراً لا بلسان سعيد الجديد بل بلسان سعيد القديم، ولا اقول إنقاذاً لشخصي بالذات، بل انقاذاً لاصدقائي و ((الكلمات)) من شبهات ينثرها اهل الدنيا ومن أذاهم. فاذكر واقع حالي على حقيقته الى اصدقائي والى أهل الدنيا والى المسؤولين في الحكم، وذلك في خمس نقاط.



o النقطة الاولى:

قيل: لِمَ انسحبت من ميدان السياسة ولا تتقرب اليها قط؟.

الجواب: لقد خاض سعيد القديم غمار السياسة ما يقارب العشر سنوات علّه يخدم الدين والعلم عن طريقها. فذهبت محاولته ادراج الرياح، اذ رأى ان تلك الطريق ذات مشاكل، ومشكوك فيها. وان التدخل فيها فضول ـ بالنسبة اليّ - فهي تحول بيني وبين القيام بأهم واجب. وهي ذات خطورة. وان اغلبها خداع وأكاذيب. وهناك احتمال ان يكون الشخص آلة بيد الأجنبي دون ان يشعر. وكذا فالذي يخوض غمار السياسة إما ان يكون موافقاً لسياسة الدولة او معارضاً لها، فان كنت موافقاً فالتدخل فيها بالنسبة اليّ فضول ولا يعنيني بشئ، حيث انني لست موظفاً في الدولة ولا نائباً في برلمانها، فلا معنى - عندئذٍ - لممارستي الامور السياسية وهم ليسوا بحاجة اليّ لأتدخل فيها. واذا دخلت ضمن المعارضة او السياسة المخالفة للدولة، فلابد ان اتدخل إما عن طريق الفكر او عن طريق القوة. فان كان التدخل فكرياً فليس هناك حاجة اليّ ايضاً، لان الأمور واضحة جداً، والجميع يعرفون المسائل مثلي، فلا داعي الى الثرثرة. وان كان التدخل بالقوة، اي بأن اظهر المعارضة باحداث المشاكل لاجل الوصول الى هدف مشكوك فيه. فهناك احتمال الولوج في آلاف من الآثام والاوزار، حيث يبتلي الكثيرون بجريرة شخص واحد. فلا يرضى وجداني الولوج في الآثام والقاء الابرياء فيها بناء على احتمال او احتمالين من بين عشرة احتمالات، لأجل هذا فقد ترك سعيد القديم السياسة ومجالسها الدنيوية وقراءة الجرائد مع تركه السيجارة.

والشاهد الصادق القاطع على هذا: انني منذ ثماني سنوات لم اقرأ جريدة واحدة ولم استمع اليها من احد قط، فليبرز احدهم ويدّعى انني قد قرأت أو استمعت الى جريدة من احد. بينما كان سعيد القديم يقرأ حوالي ثماني جرائد يومياً قبل ثماني سنوات.

ثم انه منذ خمس سنوات تراقَب احوالي بدقائقها. فليدّع أحد انه قد بدر مني ما يشم منه شئ من السياسة. علماً ان شخصاً ذا اعصاب متوفزة مثلي، ولا علاقة له مع أحد، ويجد اعظم الحيل في ترك الحيلة حسب القاعدة ((انما الحيلة في ترك الحيل)) فمن كان حاله هكذا لا يمكن ان يستر فكره ثمانية ايام، وليست ثمانية اعوام. اذ لو كانت له رغبة ولهفة في السياسة لكانت تدوي دوي المدافع، ولا تدع حاجة الى تحريات أو تدقيقات.

o النقطة الثانية:

لِمَ يتجنب سعيد الجديد تجنباً شديداً والى هذا الحد من السياسة؟

الجواب: لئلا يضحى بسعيه وفوزه لاكثر من مليارات من السنين لحياة خالدة، من جراء تدخل فضولي لا يستغرق سنة أو سنتين من حياة دنيوية مشكوك فيها. ثم انه يفر فراراً شديداً من السياسة، خدمةً للقرآن والايمان والتي هي اجلّ خدمة وألزمها وأخلصها وأحقّها. لأنه يقول:

انني اتقدم في الشيب، ولا علم لي كم سأعيش بعد هذا العمر. لذا فالأولى لي العمل لحياة ابدية. وهذا هو الالزم. وحيث أن الايمان وسيلة الفوز بالحياة الابدية ومفتاح السعادة الخالدة، فينبغي اذاً السعي لأجله. بيد أني عالم ديني، مكلف شرعاً بافادة الناس، لذا اريد أن اخدمهم من هذه الناحية ايضاً. الاّ أن هذه الخدمة تعود بالنفع الى الحياة الاجتماعية والدنيوية، وهذه ما لا اقدر عليها، فضلاً عن انه يتعذر القيام بعمل سليم صحيح في زمن عاصف، لذا تخليت عن هذه الجهة وفضّلت عليها العمل في خدمة الايمان التي هي اهم خدمة والزمها وأسلمها. وقد تركت الباب مفتوحاً ليصل الى الآخرين ما كسبته لنفسي من حقائق الايمان وما جربته في نفسي من ادوية معنوية. لعلّ الله يقبل هذه الخدمة ويجعلها كفّارة لذنوب سابقة.

وليس لأحد سوى الشيطان الرجيم ان يعترض على هذه الخدمة، سواءً كان مؤمناً أو كافراً او صدّيقاً او زنديقاً. لأن عدم الايمان لا يشبهه أمر، فلربما توجد لذة شيطانية منحوسة في ارتكاب الظلم والفسق والكبائر الاّ ان عدم الايمان لا لذة فيه اطلاقاً، بل هو ألم في الم، وعذاب في عذاب، وظلمات بعضها فوق بعض.

وهكذا فان ترك السعي لحياة ابدية، وترك العمل لنور الايمان المقدس، والدخول في ألاعيب السياسة الخطرة وغير الضرورية، في زمن الشيخوخة انما هو خلاف للعقل ومجانبة للحكمة لشخص مثلي لا صلة له مع أحد، ويعيش منفرداً، ومضطر الى التحري عن كفارات لذنوبه السابقة. بل يعدّ ذلك جنوناً وبلاهة، بل حتى البلهاء يفهمون ذلك.

o أما ان قلت: كيف تمنعك خدمة القرآن والايمان عن السياسة؟

فأقول: ان الحقائق الايمانية والقرآنية ثمينة غالية كغلاء جواهر الالماس، فلو انشغلت بالسياسة، لخطر بفكر العوام: أيريد هذا ان يجعلنا منحازين الى جهة سياسية؟ أليس الذي يدعو اليه دعاية سياسية لجلب الاتباع؟ بمعنى انهم ينظرون الى تلك الجواهر النفيسة انها قطع زجاجية تافهة، وحينها أكون قد ظلمت تلك الحقائق النفيسة، وبخست قيمتها الثمينة، بتدخلي في السياسة.

فيا أهل الدنيا! لِمَ لا تدعوني وشأني، وتضايقونني بطرق شتى؟

o وان قلتم:

يتدخل شيوخ الصوفية احياناً في امورنا، والناس يطلقون عليك في بعض الاحيان اسم الشيخ!

اقول: ايها السادة! انني لست شيخاً صوفياً، وانما انا عالم ديني. والدليل على هذا، انني لو كنت قد علّمت احداً من الناس الطريقة الصوفية، طوال هذه السنوات الاربع التي قضيتها هنا، لكان لكم الحق في الارتياب والوقوع في الشكوك. ولكني لم اقل لمن اتاني الاّ أن الزمان ليس زمان الطريقة. الايمان ضروري، والاسلام ضروري.

o وان قلتم:

يطلقون عليك اسم ((سعيد الكردي)) فلربما تحمل فكر العنصرية والدعوة اليها. وهذا ما لا يتفق وشأننا ولا طائل لنا به.

وانا اقول: ايها السادة! ان ما كتبه سعيد القديم وسعيد الجديد في متناول اليد. ابيّنه شاهداً ولقد نظرت - منذ السابق - الى القومية السلبية والدعوة الى العنصرية نظرة السم القاتل، لأنها مرض اوروبي خبيث سار. وذلك حسب الأمر النبوي الجازم بان الاسلام يجب العصبية الجاهلية. ولقد ألقت اوروبا بذلك المرض الوبيل بين المسلمين ليمزقهم ويفرّقهم شذر مذر ليسهل عليها ابتلاعهم قطعاً متناثرة. ولقد بذلت ما وسعني الجهد لعلاج هذا الداء الخبيث، ويشهد طلابي ومن له علاقة معي بذلك.

ولما كان الأمر هكذا، فيا ايها السادة! ما الداعي وراء التشبث بكل حادثة لإيذائي والتضييق عليّ؟ والذي هو من قبيل ادانة جندي في الغرب لخطأ ارتكبه جندي في الشرق - لكونهما جنديين - أو اخذ حانوتي في بغداد - لأنه حانوتي - بجريرة حانوتي في استانبول! فهذا هو شانكم في كل حادثة دنيوية تتخذونها وسيلة للتضييق عليّ. ايّ وجدان يحكم بهذا؟ واية مصلحة تقتضيه؟

o النقطة الثالثة:

ان اصدقائي واحبابي الذين يلاحظون راحتي واحوالي، يستغربون من ايثاري الصمت وتجملي بالصبر تجاه كل مصيبة تنزل بي، فيتساءلون: كيف تتحمل الضيق والمشاق التي تنزل بك؟ فلقد كنتَ من قبل شديد الغضب، لا ترضى ان يمسّ أحد عزتك. وكنتَ لا تتحمل ادنى اهانة؟

الجواب: استمعوا الى هاتين الحادثتين والحكايتين. وخذوا الجواب منهما!

الحكاية الاولى:

قبل سنتين ذكر مدير مسؤول في غيابي كلمات ملفقة فيها اهانة وتحقير لي، دون سبب ومبرر. ونُقل الكلام اليّ، تألمت ما يقرب من ساعة باحاسيس سعيد القديم. ثم وردت برحمته سبحانه وتعالى الى القلب حقيقة أزالت ذلك الضيق، ودفعتني لأصفح عن ذلك الشخص. والحقيقة هي:

قلت لنفسي: ان كان تحقيره وما أورده من نقائص تخص شخصي ونفسي بالذات، فليرض الله عنه اذ اطلعني على عيوب نفسي. فان كان صادقاً، فسوف يسوقني اعتراضه الى تربية نفسي الامارة وتأديبها، فهو اذاً يعاونني في النجاة من الغرور. وان كان كاذباً، فهو عون لي ايضاً للخلاص من الرياء، ومن الشهرة الكاذبة التي هي اساس الرياء.نعم! انني لم اصالح نفسي قط؛ لانني لم اربّها. فان نبهني أحدٌ على وجود عقرب في أي جزء من جسمي، عليّ ان ارضى عنه، لا امتعض منه.

اما ان كانت اهاناته تعود لصفة كوني خادماً للايمان والقرآن، فتلك لا تعود لي، فاحيل ذلك الشخص الى صاحب القرآن الذي استخدمني في هذه المهمة، فهو عزيز حكيم.

وان كان كلامه لأجل تحقيري واهانة شخصي بالذات والحط من شأني، فهذا ايضاً لا يخصني، لأنني أسير مكبل وغريب في هذا البلد، فالدفاع عن كرامتي ليس لي فيه نصيب، بل يخص من يحكم هذه القرية ثم القضاء ثم المحافظة التي انا ضيف لديهم. اذ إن اهانة اسير تعود الى مالكه، فهو الذي يدافع عنه.

فاطمأن القلب بهذه الحقيقة، وتلوتُ: } واُفوّضُ أمري الى الله إنّ الله بَصيرٌ بالعباد{ (غافر: 44) واهملت الحادثة واعتبرتها لم تقع ، ونسيتها. ولكن تبين بعدئذٍ - مع الأسف - ان القرآن لم يتجاوز عنه، فعاقبه.

الحكاية الثانية:

طرق سمعي في هذه السنة ان حادثة وقعت، وقد سمعتها بعد وقوعها اجمالاً فحسب، لكني لقيت معاملة كأنني ذو علاقة قوية بالحادثة. علماً انني ما كنت اراسل احداً، وما كنت اكتب رسالة الاّ نادراً الى صديق وحول مسألة ايمانية، بل لم اكتب حتى لشقيقي الاّ رسالة واحدة خلال اربع سنوات. فكنت أمنع نفسي عن مخالطة الناس والاتصال بهم، فضلاً عن ان اهل الدنيا كانوا يمنعونني عن ذلك. فما كنت ألقى الاّ واحداً أو اثنين من الأحباب خلال اسبوع، مرة أو مرتين. أما الضيوف القادمون الى القرية، وهم آحاد لا يزيدون عن واحد او اثنين فكانوا يلقونني دقيقة او دقيقتين، خلال شهر، ولمسألة اخروية.. كنت على هذه الحالة من الاغتراب، وقد مُنعت عن كل الناس، عن كل شئ، وبقيت وحيداً غريباً، لا قريب لي، في قرية ليس فيها ما يلائم مكسب نفقتي. حتى انني قبل اربع سنوات، عمّرت مسجداً خرباً وقمت فيه بالامامة لاربع سنوات (نسأل الله القبول) حيث أحمل شهادة الامامة والوعظ، من بلدي. ومع هذا لم استطع الذهاب الى المسجد في شهر رمضان الفائت. فصليت احياناً منفرداً وحُرمت من ثواب الجماعة البالغ خمساً وعشرين ضعفاً.

فتجاه هاتين الحادثتين اللتين مرتا بي اظهرتُ صبراً وتحملاً مثلما اظهرتُه قبل سنتين ازاء معاملة ذلك المسؤول. وسأستمر على هذا الصبر والتحمل باذن الله.

والذي يدور في خلدي واريد أن اقوله هو:

ان العنت الذي يذيقني اياه اهل الدنيا. والاذى والتضييق عليّ منهم، ان كان تجاه نفسي القاصرة الملطخة بالعيوب فاني اعفو عنهم، لعلّ نفسي تصلح من شأنها بهذا التعذيب فيكون كفارة لذنوبها. فلئن قاسيت من اذى في هذه الدنيا المضيفة، فانا شاكر ربي، اذ قد رأيت بهجتها ومتعتها.

ولكن ان كان اهل الدنيا يذيقونني العذاب لقيامي بخدمة الايمان والقرآن، فالدفاع عن هذا ليس من شأني وانما احيله الى العزيز الجبار.

وان كان المراد من ذلك التضييق افساد توجّه الناس اليّ والحيلولة دون اقبالهم عليّ، اي للحد من الشهرة الكاذبة التي لا اساس لها، بل هي السبب في الرياء

وافساد الاخلاص.. فعليهم اذاً رحمة الله وبركاته؛ لأني اعتقد ان كسب الشهرة واقبال الناس ضار لأشخاص مثلي. والذين لهم علاقة معي يعرفونني جيداً: انني لا اقبل الاحترام لنفسي، بل انفر منه، حتى ان صديقاً فاضلاً عزيزاً عليّ قد نهرته اكثر من خمسين مرة لشدة احترامه لي.

ولكن ان كان قصدهم من التهوين من شأني واسقاطي في اعين الناس يخص الحقائق الايمانية والقرآنية التي اقوم بتبليغها، فعبثاً يحاولون لأن نجوم القرآن لا تسدل بشئ. فمن يغمض عينه يجعل نهاره ليلاً لا نهار غيره.

o النقطة الرابعة: جواب عن بضعة اسئلة مريبة.

السؤال الأول المريب: يسأل أهل الدنيا ويقولون لي: بماذا تعيش؟ وكيف تدار معيشتك دون عمل؟ نحن لا نقبل في بلادنا المتقاعدين الكسالى الذين يقتاتون على سعي الآخرين وعملهم؟

الجواب: انني أعيش بالاقتصاد والبركة. لا أقبل من غير رزاقي الله منّة من أحد، وقررت أن لا أقبلها طوال حياتي.

نعم، ان الذي يعيش بمائة ثارة(1) بل بأربعين بارة يأبى ان يدخل تحت منة الآخرين.

انني ما كنت أرغب مطلقاً أن اوضح هذه المسألة خشية الإشعار بالغرور والأنانية، واكره أن ابوح بها فهي ثقيلة علي، ولكن لأن أهل الدنيا تدور الاوهام والشبهات في نفوسهم لدى سؤالهم هذا، فأقول:

- ان دستور حياتي كلها هو عدم قبول شئ من الآخرين، فمنذ نعومة اظفاري لم أقبل شيئاً من أحد حتى لو كان زكاة أموالهم.

ثم ان رفضي للمرتّب الحكومي - الا ما عينته الدولة لي لسنتين حينما كنت في دار الحكمة الاسلامية وبعد الحاح اصدقائي واصرارهم اضطررت الى قبوله - وان عدم قبولي لمنّة الآخرين في دفع ضرورات المعيشة الحياتية.. كل ذلك يبين دستور حياتي. فالناس في مدينتي وكل من يعرفني في المدن الاخرى يعرفون هذا مني جيداً. ولقد حاول أصدقاء كثيرون بمحاولات شتى ان أقبل هداياهم في غضون هذه السنوات الخمس التي مرت بالنفي، الا انني رفضت.

o فاذا قيل: فكيف اذن تعيش؟

أقول: أعيش بالبركة والاكرام الإلهي. فان نفسي الامارة مع انها تستحق كل اهانة وتحقير، الا انني - في الإرزاق - احظى بالبركة التي هي إكرام إلهي يمنح كرامة من كرامات خدمة القرآن.

سأورد نماذج منها، وذلك قياماً باداء الشكر المعنوي تجاه تلك النعم التي اكرمني الله بها وعملا بالآية الكريمة } وأما بنعمة ربك فحدّث{ (الضحى:11) ولكني رغم هذا أخشى ان يداخل هذا الشكر المعنوي شئ من الرياء والغرور فتمحق تلك البركة الربانية الطيبة، اذ ان اظهار البركة المخفية بافتخار مدعاة لانقطاعها. ولكن ما حيلتي فاني اضطررت الى ذكر تلك البركة اضطراراً.

فالاول: لقد كفاني في هذه الشهور الستة الماضية ستة وثلاثون رغيفاً قد خبز من كيلة(1) من الحنطة، ولا زال الخبز باقيا، ولا أعرف متى ينفد(2).

ثانيها: في هذا الشهر المبارك شهر رمضان لم يأتني طعام الا من بيتين اثنين، وقد أمرضاني كلاهما. ففهمت من هذا انه ممنوع عليّ طعام الآخرين!. ولقد كفتني أوقية واحدة(3) من الرز وثلاثة ارغفة من الخبز بقية أيام شهر رمضان. فالصديق الصادق ((عبد الله ضاويش))(4) صاحب البيت المبارك الذي يهئ لي الطعام يشهد بهذا ويخبر به، بل ان الرز قد استمر خمسة عشر يوماً آخر بعد شهر رمضان.

ثالثها: لقد كفتنا أنا وضيوفي الكرام أوقية واحدة من الزبد رغم تناوله يومياً مع الخبز طوال ثلاثة أشهر في الجبل. حتى كان لي ضيف مبارك وهو ((سليمان)) وقد أوشك خبزنا على النفاد، وكنا في يوم الاربعاء، فقلت له: اذهب الى القرية وآت بالخبز، اذ ليس حوالينا أحد حتى مسافة ساعتين لنبتاع منه. فقال: اني أرغب ان أبيت معك ليلة الجمعة المباركة على قمة هذا الجبل، لأتضرع معك الى الله.

فقلت: توكلنا على الله. اذن ابق معي.

ثم بدأنا بالسير معاً حتى صعدنا قمة جبل رغم انه لا داعي ولا مناسبة لذلك. وكان لدينا قليل من الماء مع شئ من الشاي والسكر.

قلت:يا أخي أعمل لنا قليلاً من الشاي. وبدأ بالعمل.

وجلست أنا تحت شجرة قطران أتأمل في مشاهدة واد عميق، وافكر بأسف وأسى: ليس لدينا الا كسرة من خبز متعفن ربما يكفينا كلينا هذا المساء. ولكن كيف باليومين التاليين. فماذا أقول لهذا الرجل الطيب النقي السريرة!

وبينما انا غارق في هذا اذا برأسي كأنه يدار الى الشجرة فالتفت واذا بي أرى رغيفاً كبيراً فوق شجرة القطران ينظر الينا بين اغصانها، قلت: أبشر يا سليمان فقد انعم الله سبحانه علينا برزق. فأخذنا الخبز من الشجرة وفتشنا عن أثر من آثار الحيوانات والطيور عليه. واذا به سالم من اي تعرض كان من الحيوانات. فضلاً عن انه لم يصعد هذا الجبل منذ ثلاثين يوماً أحد من الناس. فكفانا ذلك الرغيف يومين. وما أن أوشك على النفاد اذا بالرجل الصادق ((سليمان))(1) الذي كان صديقاً صادقاً طوال أربع سنوات يصعد الجبل متوجهاً نحونا آتياً لنا بالخبز.

رابعها: ان هذه السترة (الجاكيت) قد اشتريتها مستعملة قبل سبع سنوات. وكفت أربع ليرات ونصف الليرة: لمصاريف خمس سنوات مضت للملابس والحذاء والجوارب، فلقد كفتني البركة والاقتصاد والرحمة الإلهية.

وهناك أمثلة كثيرة شبيهة بهذا، اذ ان للبركة الإلهية جهات شتى. وان اهالي هذه القرية يعرفون كثيراً من أمثلة البركة. ولكن حذار حذار أن يذهب بكم الظن انني اذكر هذه الامثلة افتخاراً، وانما اضطررت الى ذكرها اضطراراً. ولا يردنّ في خاطركم انها امثلة تدل على صلاحي، وانما هذه البركات هي احسان إلهي الى أصدقائي الضيوف المخلصين القادمين الي. أو انها اكرام إلهي لخدمة القرآن الكريم، أو انها منافع مباركة للالتزام بالاقتصاد، أو انها رزق للقطط الأربع التي تلازمني هنا وهي التي تذكر في هريرها: يا رحيم يا رحيم يا رحيم.. فهي أرزاقها تأتيها على صورة بركة، وانا بدوري استفيد منها.

نعم! اذا أنصتّ الى هريرها الحزين تدرك جيداً انها تذكر: يا رحيم يا رحيم يا رحيم.

وعلى ذكر القطط يرد بالبال ذكر الدجاج.

كانت لي دجاجة تجلب لي من خزينة الرحمة الإلهية بيضة واحدة يومياً في هذا الشتاء بانقطاع قليل جداً. وذات يوم وضعت بيضتين معاً، فاحترت منها، واستفسرت عن احبابي:

هل يحدث مثل هذا في هذا الشتاء؟ قالوا: ربما هي احسان إلهي.

كان لهذه الدجاجة فرخ في الصيف. بدأ الفرخ بوضع البيض بداية شهر رمضان المبارك، واستمر الوضع طوال أربعين يوماً. فلم تبق لدي شبهة ولا لدى اخوتي الذين يقومون بخدمتي من أن هذا الوضع المبارك للبيض في هذا الشتاء ومن فرخ صغير، في شهر رمضان، انما هو إكرام إلهي ليس الاّ. ثم ان الفرخ بدأ بالوضع حالما قطعته الأم. فلم يدعني دون بيضة والحمد لله.

السؤال الثاني المريب: يقول اهل الدنيا: كيف نثق بك ونطمئن اليك بانك لا تتدخل في امور دنيانا؟ فلربما لو أطلقنا سراحك تتدخل في امورها؟ ثم كيف نعرف انك لا تخدعنا ولا تكيد بنا، اذ تظهر نفسك بمظهر التارك للدنيا الذي لا يأخذ اموال الناس ظاهراً، وربما يأخذها خفية، فكيف نعرف ان ذلك ليس مكراً؟

الجواب: ان احوالي قبل عشرين سنة في المحكمة العسكرية العرفية، واطواري قبل اعلان الدستور(1) ، وفي الدفاع الذي صدر في كتاب ((شهادة مدرستي المصيبة)) معروفة لدى الذين يعرفونني.. كل ذلك يبين بياناً شافياً: انني قد أمضيت حياتي لم اتنازل الى شئ من الخديعة بل حتى الى أدنى حيلة، فلو كانت ثمة حيل لحصلت المراجعة واللجوء اليكم مع تزلّف وتملق خلال هذه السنوات الخمس. اذ المحتال يحاول ان يحبب نفسه الى الناس دوماً بل يسعى الى اغفالهم وخداعهم، وليس من شأنه تجنبهم والابتعاد عنهم. والحال انني لم اتنازل الى التذلل للآخرين على الرغم من جميع الهجمات النازلة بي والانتقادات الموجهة اليّ، بل اعرضت عن اهل الدنيا متوكلاً على المولى القدير وحده. ثم ان الذي عرف حقيقة الآخرة وكشف عن حقيقية الدنيا لا يندم ابداً، ان كان ذا لب. ولا يتشبث بالعودة الى الدنيا مرة اخرى. ثم ان من كان وحيداً فريداً لا علاقة له مع أحد، لا يضحى بحياته الابدية لثرثرة دنيوية وتهريجاتها بعد قضاء خمسين سنة من العمر. بل لو ضحى بها، لا يكون حيالاً بل مجنوناً، وماذا عسى ان يفعل المجنونُ حتى يُهتم به؟

اما الشبهة الواردة حول كوني طالباً للدنيا باطناً وعازفاً عنها ظاهراً. فاقول:

بمضمون الآية الكريمة: } وَمَآ اُبَرِّئُ نَفْسي اِنَّ النَّفْسَ لاَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ{ (يوسف:53)

انني ما ابرئ نفسي ابداً، انها تروم كل فساد. ولكن خسران حياة دائمة وسعادة خالدة لأجل لذة قليلة، في هذه الدنيا الفانية، في هذا المضيف المؤقت، في زمن الشيخوخة، في عمر قصير.. ليس من شأن العقلاء ولا يليق بذوي الشعور؛ لذا انقادت نفسي الأمارة - شاءت أم أبت - للعقل ورضخت له.

السؤال الثالث المريب: يقول اهل الدنيا: أتحبنا؟ أترضى عنا وتعجب بنا؟ فان كنت تحبنا فلماذا اذن اعرضت عنا ولا تخالطنا، وان لم تكن تعجب ولا ترضى عنا فانت اذن تعارضنا، ونحن نسحق معارضينا!

الجواب: انني لو كنت محباً لدنياكم، فضلاً عنكم لما انسحبت منها وأعرضت عنها. فانا لا اعجب بكم ولا بدنياكم، ولكن لا اتدخل ايضاً بها ولا اخالطكم. لانني اصبو الى قصد غير قصدكم، فقد ملأت قلبي امور لم تُبق موضعاً لغيرها كي افكر فيها. وانتم مأمورون بالحكم على ظاهر الحال لا على باطن القلب. لانكم تريدون ادامة النظام وارساء الحكم، وحيث اني لا اتدخل بهما، فليس لكم ان تقولوا: ليحبنا القلب كذلك، فأنتم لستم اهلاً لذلك الحب أصلاً.

وان تدخلتم في أمر القلب، أقول:

كما انني اتمنى مجئ الربيع وسط هذا الشتاء، ولكني لا استطيع اتيانه، كذلك أتمنى صلاح احوال العالم وادعو لذلك، وأسأل الله أن يصلح اهل الدنيا، ولكن ذلك فوق ارادتي ووسعي فلا استطيع عليه. لذا لا أتدخل فعلاً، فهي ليست من وظيفتي ولا ضمن اقتداري وطاقتي.

السؤال الرابع المريب: يقول اهل الدنيا: لقينا بلايا ونزلت بنا مصائب، فلم نعد نثق بأحد من الناس، فكيف نثق بك؟ ولو سنحت لك الفرصة ألا تتدخل في امورنا بالشكل الذي يروق لك؟

الجواب: ان النقاط المذكورة سابقاً رغم انها كافية لإقناعكم وبث الاطمئنان في نفوسكم الاّ انني اقول:

في الوقت الذي لم اتدخل في دنياكم وانا في مدينتي وحولي طلابي واقربائي، واعيش في وسط من يصغي اليّ ويستشيرني، بل لم اتدخل في دنياكم حتى في خضم تلك الحوادث المثيرة، أفيمكن ان يتدخل فيها من هو في دار الغربة، وهو وحيد منفرد وضعيف عاجز، متوجه بكل وسعه للآخرة، منقطع عن الاختلاط والمراسلات، ولم يجد الاّ بضع اصدقاء في طريق الآخرة، وهو الغريب عن الناس، كما ان الناس اصبحوا غرباء عنه، بل ينظر اليهم هكذا.. هذا الانسان اذا تدخل في دنياكم العقيمة والخطرة ينبغي له أن يكون مجنوناً مضاعفاً.

o النقطة الخامسة: تخص خمس مسائل صغيرة:

اولاها: يقول لي اهل الدنيا: لِمَ لا تطبّق على نفسك اصول مدنيتنا وآدابها، ولا تعيش على وفق طراز حياتنا، ولا تلبس هيئة ملابسنا؟ بمعنى انك معارض لنا؟.

وأنا أقول: ايها السادة! بأي حق تكلفونني ان اطبق آداب مدنيتكم؟ فانتم قد اجبرتموني على الاقامة ظلماً في قرية طوال خمس سنوات، ومنعتموني حتى عن المراسلات والاختلاط مع الناس، وكأنكم قد أسقطتموني من الحقوق المدنية، فضلاً عن انكم جردتموني - بغير سبب - من كل شئ، ولم تسمحوا لي أن اقابل اهل مدينتي - سوى واحد أو اثنين - علماً انكم قد اطلقتم سراح جميع المنفيين، وسمحتم لهم بالاقامة بين اهليهم وذويهم في المدن ومنحتموهم شهادات ترخيص بذلك.. فهذه المعاملات تعني انكم لا تعدونني من افراد الامة ولا من رعايا هذا الوطن، فكيف اذن تكلفونني تطبيق قوانين مدنيتكم؟

وانتم قد ضيقتم عليّ الدنيا على سعتها وجعلتموها لي سجناً، أفيكلف من هو في السجن بمثل هذه الامور؟.

وانتم قد اقفلتم عليّ باب الدنيا، وانا بدوري طرقت باب الآخرة، ففتحته الرحمة الإلهية، فكيف يطالَب من هو واقف في باب الاخرة أن يطبق عادات اهل الدنيا وادابها المشوشة؟

فمتى ما اطلقتموني حراً، واعدتموني الى مدينتي وموطني، واعطيتموني حقوقي كاملة، فلكم عندها أن تطالبوا بتطبيق ادابكم!

المسألة الثانية: يقول أهل الدنيا: لدينا مؤسسة حكومية، تقوم بتعليم أحكام الدين وحقائق الاسلام، فبأي صلاحية تقوم انت بنشر رسائل دينية؟ فلا يحق لك مزاولة مثل هذه الامور وانت محكوم بالنفي.

الجواب: ان الحق والحقيقة لا تقيّدان بشئ ولا تنحصران (في مكان وزمان معينين) فكيف ينحصر الايمان ويتقيد القرآن في مؤسسة رسمية؟ فانتم تستطيعون ان تحصروا تطبيق قوانينكم وادابكم (في مؤسساتكم) أما الحقائق الايمانية والاسس القرآنية فلا تُقحمان في المعاملات الدنيوية، ولا تحصران في مؤسسة رسمية يؤدى فيها العمل بأجرة. بل ان تلك الاسرار والفيوضات التي هي موهبة إلهية، لا تتأتى الا بوساطة النية الخالصة والتجرد من الدنيا والعزوف عن حظوظ النفس.

هذا فضلاً عن ان دائرتكم الرسمية قد قبلتني واعظاً وانا في مدينتي، وعينتني في تلك الوظيفة، وقد قمت بتلك الوظيفة، وظيفة الوعظ. الاّ انني تركت مرتّبها، محتفظاً لدي بشهادتها. اي أنا استطيع أن اؤدي بتلك الشهادة مهمة الوعظ والامامة في اي مكان كان، لان نفيي ظلم واضح.

ثم ان المنفيين قد اعيدوا الى اهليهم، فشهادتي السابقة اذن سارىة المفعول.

ثانياً: ان الحقائق الايمانية التي كتبتها، خاطبت بها نفسي مباشرة، ولا ادعو اليها الناس جميعاً،بل الذين ارواحهم محتاجة وقلوبهم مجروحة يتحرون عن تلك الادوية القرآنية، فيجدونها. يستثني من هذا تكليفي أحد الافاضل بطبع رسالتي التي تخص الحشر، قبل تنفيذ الحروف الحديثة، وذلك لكسب قوتي وتأمين معيشتي، ولكن الوالي السابق الظالم تجاهي دقق تلك الرسالة، وعندما لم يجد ما ينتقده لم يتعرض لها.

المسألة الثالثة: ان بعض اصدقائي يتبرأون مني ظاهراً، بل ينتقدونني، ليحببوا أنفسهم الى اهل الدنيا المرتابين مني؛ بينما اهل الدنيا وهم الدساسون قد حملوا تبرئة هؤلاء واجتنابهم مني محمل الرياء وانعدام الوجدان بدلاً من ان يحملوها محمل الحب والاخلاص لهم. لذا بدأوا ينظرون اليهم نظر الريب.

وانا اقول يا رفقائي في الآخرة!

لا تهربوا من خدمتي للقرآن العظيم؛ لأنه لا يلحقكم ضررٌ مني باذن الله.حتى لو وقع عليَّ الظلم، وأتت المصيبة، فلا يمكنكم أن تنجوا منها بالتبرئة مني، بل تستأهلون اكثر لأن تنزل بكم مصيبة أو تداهمكم لطمة تأديب.. ثم ماذا حدث حتى تنتابكم الريوب والاوهام؟.

المسألة الرابعة: في ايام منفاي هذه.. أرى أناساً ممن سقطوا في حمأة السياسة وابتلوا بالاعجاب بالنفس، ينظرون اليّ نظرة تتسم بالمنافسة والانحياز الى جهة. وكأنني مثلهم ذو علاقة مع تيارات دنيوية.

فيا أيها السادة! اعلموا انني في صف الايمان وفي تياره وحده، ويواجهني تيار الالحاد. ولا علاقة لي اصلاً بأي تيار آخر.

فالذي يتخذ وضع المنافس والمخالف لي، ويتعرض لي ويسبب ايلامي، ان كان ممن يعمل لقاء اجرة، ربما يجد شيئاً من العذر في تصرفاته هذه. ولكن الذي لا يعمل لقاء اجرة، وانما يقوم بمثل هذه المعاملات باسم الغيرة والحمية، فليعلم انه يرتكب خطأ ايّما خطأ، لأنه - كما اثبتناه سابقاً - لا علاقة لي قطعاً بالسياسة الجارية في الدنيا، فلقد نذرت حياتي وحصرت وقتي كله لنشر حقائق الايمان والقرآن، لذا فليفكر جيداً من يتعرض لي ويتخذ موقف المنافس، انه في حكم المتعرض للايمان في سبيل الزندقة والالحاد.

المسألة الخامسة: لما كانت الدنيا فانيةً.. والعمر قصيراً.. والواجبات كثيرة.. وان الحياة الأبدية تُكسب هنا، في الدنيا.. وهي ليست بلا مولى.. فللمضيف ربٌ كريم حكيم.. لا يضيّع جزاء السيئة ولا الحسنة.. ولا يكلّف نفساً الاّ وسعها.. وحيث ان السبيل السوي وما فيه اذى لا يستويان.. ولا يجاوز باب القبر اخلاء الدنيا وجاهها..

فلابد ان اسعد انسان هو مَن: لا ينسى الآخرة لأجل الدنيا.. ولا يضحي بآخرته للدنيا.. ولا يفسد حياته الابدية لاجل حياة دنيوية.. ولا يهدر عمره بما لا يعنيه.. ينقاد للأوامر انقياد الضيف للمضيّف. ليفتح باب القبر بأمان.. ويدخل دار السعادة بسلام(1).





ذيـل

المكتوب السادس عشر



باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{

ان اصحاب الدنيا المتكالبين على متاعها الزائف قد توهموا عبثاً ان رجلاً عاجزاً غريباً في هذه الدنيا مثلي له من القوة ما لآلاف الرجال. وقد دفعهم هذا الوهم الى وضعي تحت قيود صارمة مشددة؛ فلم يسمحوا لي مثلاً بالاقامة ليلة او ليلتين في ((بدرة)) وهي كحي من أحياء ((بارلا)) او حتى على جبل من الجبال القريبة منها. وقد سمعتهم يقولون: ((ان لسعيد من القوة ما لخمسين ألف رجل لذا فلا يمكننا إطلاق سراحه))!

وأنا أقول: يا طلاب الدنيا التعساء! مع انكم تعملون للدنيا بكل ما أوتيتم من قوة وجهد فلِمَ لا تعلمون شؤونها ايضاً فتحكمون كالمجانين. فاذا كان خوفَكم من شخصي الفاني، فهوخوف زائف، لا مبرر له اطلاقاً، اذ يستطيع اي انسان - وليس خمسين ألفاً - ان يعمل ضعف عملي خمسين مرة. يستطيع في الأقل ان يقف على باب غرفتي ويقول: ((لن تخرج)).. فينتهي الأمر. أما اذا كان خوفكم من مهنتي التي هي الدعوة الى القرآن، ومن قوة الايمان التي اتسلح بها. ألا فلتعلموا جيداً بأنني لست في قوة خمسين ألف رجل.. كلا.. انكم مخطؤون. انني بفضل الايمان وبحكم مهنتي في قوة خمسين مليون شخص! انني بقوة القرآن الكريم اتحدى اوروبا كلها بما في ذلك ملاحدتكم.. لقد اقتحمت قلاعهم الحصينة التي يسمونها ((العلوم الطبيعية او الحديثة)).. وذلك بفضل ما نشرت من الحقائق الايمانية والبراهين القرآنية الدامغة التي أنزلتُ بها اكبر فلاسفتهم الى رتبة هي أدنى مائة مرة من رتبة الانعام! ولو اجتمعت اوروبا باسرها بما في ذلك ملاحدتكم، فلن تستطيع ان تحول دون مسألة واحدة من مسائل مهنتي ولا ان تغلبني باذن الله وتوفيقه.

ومجمل الكلام: فكما لا أتدخل في شؤون دنياكم لا يحق لكم ان تتدخلوا في شؤون أُخراي كذلك.. ولا تحاولوا.. اما اذا ركبتم راسكم وحاولتم التدخل، الا فلتعلموا يقيناً بانكم لن تجنوا من وراء ذلك شيئاً، وسيكون سعيكم عبثاً.

قوةُ العضد لا ترد تقدير الله

وشمعة اوقدها المولى لا تطفئها الأفواه

ان اهل الدنيا تدور شكوكهم واوهامهم حولي بوجه خاص وكأنهم يتوجسون مني خيفة، اذ يتخيلون وجود امور لا املكها - بل لو وجدت فلا تكون موضع ريوب سياسية واتهامات - كالمشيخة، والرئاسة، والحسب والنسب، والنفوذ في العشيرة، وكثرة الاتباع، واللقاء مع المواطنين، والتعلق بامور الدنيا، بل حتى يتصورون وجود الدخول في امور السياسة بل حتى المعارضة للدولة.. وامثالها من الامور التي ليست موجودة عندي، فيقعون في شكوك وأوهام من جراء تخيلاتهم. حتى انهم حرموني من كل شئ عندما تذاكروا امور العفو، لمن في السجن أو في خارجه، اي مَن لايشملهم العفو في نظرهم.

هناك كلام جميل خالد قاله رجل فاسد فانٍ:

ان كان للظلم مدفع وبندقية وقلعة

فللحق ساعد لا ينثني ووجه لا يتراجع.

وانا اقول:

ان كان لأهل الدنيا حكم وسطوة وقوة..

ففي خادمه بفيض القرآن:

علم لا يلتبس، وكلام لا يسكت، وقلب لا ينخدع، ونور لا ينطفئ.

لقد سألني الآمر العسكري المسؤول عن مراقبتي، وكثير من الاصدقاء هذا السؤال مكرراً: لِمَ لا تراجع الجهات الرسمية؟ ولِمَ لا تقدم طلباً للحصول على شهادة ووثيقة رخصة؟.

الجواب: هناك اسباب عدة تحول بيني وبين مراجعتهم، بل تجعلني لا استطيع مراجعتهم.



السبب الاول: انني لم اتدخل في شؤون اهل الدنيا ولا في دنياهم، كي اكون محكوماً من قبلهم، ومن ثم اراجعهم في هذا الشأن، بل اراجع القدر الإلهي، لأنه هو الذي حكم عليِّ لتقصيراتي تجاهه.

السبب الثاني: لقد تيقنت ان هذه الدنيا دار ضيافة، تتبدل بسرعة وتتغير على الدوام، فهي ليست دار قرار ولا موطناً حقيقياً، لذا فان نواحيها كافة على حد سواء. فما دمت لا اظل في موطني، ولا قرار لي فيه، فان محاولة الرجوع اليه عبث لا طائل وراءه، ولا يعني شيئاً الذهاب اليه. وما دام كل ناحية من نواحي الدنيا دار ضيافة.فإن كل انسان صديق وكل مكان نافع ومفيد ان كانت رحمة صاحب الدار ورحمة رب البيت رفيقة لك، والاّ فكل انسان عدو وكل مكان حمل ثقيل وضيق شديد.

السبب الثالث: المراجعة انما تكون ضمن نطاق القانون، بينما المعاملة التي اعامل بها طوال هذه السنوات الست معاملة اعتباطية وغير قانونية، اذ لم يعاملوني معاملة قانونية على وفق قانون المنفيين، بل نظروا الىّ نظرة الساقط من الحقوق المدنية، بل حتى من الحقوق الدنيوية، فلا معنى اذن من مراجعة قانونية لمن يُعامل معاملة غير قانونية.

السبب الرابع: راجع احدهم باسمي هذه السنة مدير هذه الناحية ((بارلا)) للسماح لي بالذهاب الى قرية ((بدرة)) القريبة جداً منها - حتى تعدّ احد أحيائها - لقضاء بضعة ايام للفسحة هناك، ولم يسمح لي بذلك. فكيف يراجع هؤلاء الذين يرفضون مثل هذه الحاجة البسيطة التي أشعر بها؟ فمراجعتهم اذن ليس إلا تذلل وخنوع غيرمجدٍ.

السبب الخامس: ان طلب الحق من مدّعي الحق زوراً ومراجعتهم ظلمٌ وبخس للحق وقلة توقير له، فلا اريد ان ارتكب هذا الظلم، ولا هذا التهوين من شأن الحق. والسلام.

السبب السادس: ان مضايقة اهل الدنيا لي، ليست ناشئة من انشغالي بالسياسة، لأنهم يعرفون جيداً انني لا اتدخل في الامور السياسية، بل انفر منها، فهم يعذبونني بسبب ارتباطي بالدين وتمسكي باهدابه، اي انهم بعذبونني - بشعور وبغير شعور - ارضاءً للزندقة. لذا فان مراجعتهم تعني ابداء الندامة عن الدين وملاطفة لمسلك الزندقة، فضلاً عن ان القدر الإلهي العادل سيعذبني بايديهم الاثيمة إن التجأتُ اليهم أو راجعتهم، لانهم يضايقونني لتمسكي بالدين، بينما القدر الإلهي يضايقني لنقائصي وقصوري في التقوى والاخلاص ولتزلفي احياناً الى اهل الدنيا. فلا نجاة لي اذن من هذه المضايقات في الوقت الحاضر. اذ لو راجعت اهل الدنيا لقال القدر: ايها المرائي! ذق جزاء مراجعتك هذه. وان لم اراجع اهل الدنيا لقالوا: انك لا تعترف بنا، فلازم المضايقات.

السبب السابع: من المعلوم ان وظيفة اي موظف كان هي الأخذ على يد مَن يلحق الضرر بالمجتمع ومعاونة النافعين لهم. فعند ما كنت اوضح ذوقاً لطيفاً في كلمة ((لا إله الاّ الله)) لشيخ هرم اقترب من باب القبر، أتاني الموظف المسؤول عن مراقبتي وكأنه يريد القبض عليّ وانا متلبّس بجريمة نكراء. علماً انه ما كان يأتيني في اغلب الاحيان، ولكنه حضر في ذلك الوقت وكأنني اقترف جريمة، فحرم ذلك المستمع الى الموضوع باخلاص، وأثار غضبي. علماً انه ما كان يلتفت الى اشخاص في القرية بل بدأ يلاطف ويقدّر اولئك الذين يعربدون ويبثون سموماً في المجتمع.

ومن المعلوم كذلك لو ان مجرماً، ارتكب مائة جريمة، يستطيع ان يقابل مسؤوليه في السجن سواءً أكانوا من الجنود أو الضباط أو الآخرين. بينما المسؤول عن مراقبتي، واثنان من ذوي الشأن لدى الحكومة، لم يسألوا عن حالي ولم يقابلوني قطعاً طوال سنة من الزمان، رغم انهم مرّوا مراراً امام غرفتي. فقد كنت اظن انهم لا يتقربون مني بسبب العداء، ولكن تحقق - بالتالي - ان ذلك نابع مما كان يساورهم من شكوك وريوب، فهم يفرّون مني وكأنني سابتلعهم.

فمراجعة حكومة، رجالها وموظفوها امثال هؤلاء ليس من العقل في شئ، بل ما هي الاّ ذلة وخنوع لا طائل وراءه.

فلو كان سعيد القديم موجوداً لقال مثلما قال عنترة:

ماءُ الحياة بذلةٍ كجهنم وجهنم بالعزّ أفخرُ منزلي

ولكن لا وجود لسعيد القديم. أما سعيد الجديد فيرى انه لا معنى حتى في التكلم مع اهل الدنيا. فليهلكهم الله بدنياهم، وليقضوا ما يقضون، سنتحاكم في المحكمة الكبرى باذن الله.

هذا ما يقوله سعيد الجديد، ثم يسكت.

ومن الاسباب الداعية لعدم مراجعتي:

السبب الثامن: ان القدر الإلهي يعذبني بالايدي الظالمة لأهل الدنيا هؤلاء. وذلك بسبب مالا يستحقونه من ميلي اليهم، وفق القاعدة: ((ان نتيجة محبة غير مشروعة عداوة ظالمة)). وقد كنت اؤثر الصمت، لعلمي اني استحق هذا العذاب، حيث انني قد خدمت بصفة قائد للمتطوعين في الحرب العالمية الاولى، وخضت المعارك، وضحيت بخيرة طلابي واحبّائي مع نيل تقدير القائد العام للجيش، انور باشا. وسقطت جريحاً، واُسرت. وبعد مجيئي من الأسر القيت بنفسي في المهالك، بتأليفي كتاب ((الخطوات الست)) الذي تحديت به الانكليز وهم يحتلون استانبول. فعاونت هؤلاء الاصدقاء الذين ألقوني في عذاب الاسر بغير سبب. وكان هذا جزائي نظير معاونتي لهم، فاذاقني هؤلاء من المصاعب والمتاعب في ثلاثة شهور ما يفوق المصاعب والمتاعب التي قاسيت منها في روسيا طوال ثلاث سنوات.

وعلى الرغم من ان الروس كانوا ينظرون اليّ بصفة قائد للمتطوعين الاكراد والظالم الذي يذبح الاسرى والقازاق، الاّ انهم لم يمنعوني من القاء الدروس. فكنت القيها على معظم زملائي الاسرى من الضباط البالغ عددهم تسعين ضابطاً، حتى ان القائد الروسي استمع مرة الى الدرس، فحسبه درساً سياسياً، لجهله باللغة التركية، ومنعني مرة واحدة فقط ولكنه سمح لي بعد ذلك. ثم اننا جعلنا غرفة في الثكنة التي كنا فيها مسجداً لأداء الصلاة جماعةً، وكنت ائم الجماعة، ولم يتدخلوا في ذلك قط. ولم يمنعونا من الاختلاط والاتصال بعضنا مع البعض ولم يقطعوا عنا المراسلات.

بينما ارى هؤلاء الذين يفترض فيهم انهم اخواني في الدين وفي الوطن يمنعونني من الدرس بغير سبب مع انني احاول ان افيدهم في الايمان، وهم يعلمون انني قد قطعت علاقتي مع الدنيا والسياسة. حتى انهم وضعوني في الأسر طوال ست سنوات - وليس ثلاث سنوات - بل في اسر مشدّد، اذ منعوني عن الاختلاط بالناس، ومن

القاء الدروس، بل حتى من القاء الدروس الخاصة في غرفتي الخاصة. علماً انني احمل شهادة في ذلك، وحالوا بيني وبين المراسلات، بل منعوني حتى عن الامامة في المسجد الذي عمّرته بنفسي، والذي كنت ائم الجماعة فيه طوال اربع سنوات. فحرموني من ثواب الجماعة، بل منعوني عن ان ائم جماعة متكونة من ثلاثة اخوة في الآخرة كنت ائمهم دوماً. فضلاً عن ذلك لو ذكرني احدهم بخير، يغضب الموظف المراقب عليّ، ويحاول بشتى الوسائل ان يهوّن من شأني، ويشدّد من المضايقات كي يحصل على تكريم من آمريه وإلتفاتهم اليه.

فقل لي بنفسك واحكم بما شئت ايها الأخ السائل: ان من كان هذا وضعه، هل يراجع غير الله سبحانه وتعالى؟ فلمن يقدّم الشكوى إن كان الحاكم هو المدّعي؟ ثم قل ما شئت أن تقوله في هذه الاحوال المحيطة بنا.

ولكني اقول: ان كثيراً من المنافقين قد اندسوا بين اصدقائي هؤلاء. وحيث أن المنافق اشد من الكافر واخبث منه، فلهذا يذيقونني من العذاب ما لم يذقني اياه كفار الروس.

ايها التعساء! ماذا فعلت بكم، وما الذي افعله بحقكم؟ انني اسعى لانقاذ ايمانكم وابلاغكم السعادة الابدية. يبدو أن خدمتي لم تخلُص بعدُ لله، لذا يولد خلاف المأمول. وانتم نظير ذلك تؤذونني في كل فرصة سانحة. فلا ريب اننا سنتحاكم في المحكمة الكبرى.. اقول:

حسبنا الله ونعم الوكيل. نعم المولى ونعم النصير.

الباقي هو الباقي

سعيد النورسي
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-03-2011
  #16
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: المكتوبات

المكتوب السادس عشر

بسم الله الرحمن الرحيم

} الذين قالَ لَهُم الناسُ ان الناسَ قد جَمَعوا لكم فاخْشَوهُم فَزَادَهُم إيماناً وقالوا حَسْبُنا الله ونِعمَ الوَكيل{ (آل عمران: 173)



لقد نـال هذا المكـتوب سراً من اسرار الآيـة الكريمة: } فقولا له قولاً ليناً{ (طه:44) فلم يكتب بلهجة شديدة.

وهو جواب عن سؤال يورده الكثيرون صراحة أو ضمناً.

انني لا ارغب قط في ان اسجل هذه الإجابة، ولا ارتاح اليها. فلقد فوّضت أمري كله الى المولى القدير، وتوكلت عليه وحده، ولكني لا اُترك وشأني لأجد الراحة في عالمي، فيلفتون نظري الى الدنيا، لذا اقول مضطراً لا بلسان سعيد الجديد بل بلسان سعيد القديم، ولا اقول إنقاذاً لشخصي بالذات، بل انقاذاً لاصدقائي و ((الكلمات)) من شبهات ينثرها اهل الدنيا ومن أذاهم. فاذكر واقع حالي على حقيقته الى اصدقائي والى أهل الدنيا والى المسؤولين في الحكم، وذلك في خمس نقاط.



o النقطة الاولى:

قيل: لِمَ انسحبت من ميدان السياسة ولا تتقرب اليها قط؟.

الجواب: لقد خاض سعيد القديم غمار السياسة ما يقارب العشر سنوات علّه يخدم الدين والعلم عن طريقها. فذهبت محاولته ادراج الرياح، اذ رأى ان تلك الطريق ذات مشاكل، ومشكوك فيها. وان التدخل فيها فضول ـ بالنسبة اليّ - فهي تحول بيني وبين القيام بأهم واجب. وهي ذات خطورة. وان اغلبها خداع وأكاذيب. وهناك احتمال ان يكون الشخص آلة بيد الأجنبي دون ان يشعر. وكذا فالذي يخوض غمار السياسة إما ان يكون موافقاً لسياسة الدولة او معارضاً لها، فان كنت موافقاً فالتدخل فيها بالنسبة اليّ فضول ولا يعنيني بشئ، حيث انني لست موظفاً في الدولة ولا نائباً في برلمانها، فلا معنى - عندئذٍ - لممارستي الامور السياسية وهم ليسوا بحاجة اليّ لأتدخل فيها. واذا دخلت ضمن المعارضة او السياسة المخالفة للدولة، فلابد ان اتدخل إما عن طريق الفكر او عن طريق القوة. فان كان التدخل فكرياً فليس هناك حاجة اليّ ايضاً، لان الأمور واضحة جداً، والجميع يعرفون المسائل مثلي، فلا داعي الى الثرثرة. وان كان التدخل بالقوة، اي بأن اظهر المعارضة باحداث المشاكل لاجل الوصول الى هدف مشكوك فيه. فهناك احتمال الولوج في آلاف من الآثام والاوزار، حيث يبتلي الكثيرون بجريرة شخص واحد. فلا يرضى وجداني الولوج في الآثام والقاء الابرياء فيها بناء على احتمال او احتمالين من بين عشرة احتمالات، لأجل هذا فقد ترك سعيد القديم السياسة ومجالسها الدنيوية وقراءة الجرائد مع تركه السيجارة.

والشاهد الصادق القاطع على هذا: انني منذ ثماني سنوات لم اقرأ جريدة واحدة ولم استمع اليها من احد قط، فليبرز احدهم ويدّعى انني قد قرأت أو استمعت الى جريدة من احد. بينما كان سعيد القديم يقرأ حوالي ثماني جرائد يومياً قبل ثماني سنوات.

ثم انه منذ خمس سنوات تراقَب احوالي بدقائقها. فليدّع أحد انه قد بدر مني ما يشم منه شئ من السياسة. علماً ان شخصاً ذا اعصاب متوفزة مثلي، ولا علاقة له مع أحد، ويجد اعظم الحيل في ترك الحيلة حسب القاعدة ((انما الحيلة في ترك الحيل)) فمن كان حاله هكذا لا يمكن ان يستر فكره ثمانية ايام، وليست ثمانية اعوام. اذ لو كانت له رغبة ولهفة في السياسة لكانت تدوي دوي المدافع، ولا تدع حاجة الى تحريات أو تدقيقات.

o النقطة الثانية:

لِمَ يتجنب سعيد الجديد تجنباً شديداً والى هذا الحد من السياسة؟

الجواب: لئلا يضحى بسعيه وفوزه لاكثر من مليارات من السنين لحياة خالدة، من جراء تدخل فضولي لا يستغرق سنة أو سنتين من حياة دنيوية مشكوك فيها. ثم انه يفر فراراً شديداً من السياسة، خدمةً للقرآن والايمان والتي هي اجلّ خدمة وألزمها وأخلصها وأحقّها. لأنه يقول:

انني اتقدم في الشيب، ولا علم لي كم سأعيش بعد هذا العمر. لذا فالأولى لي العمل لحياة ابدية. وهذا هو الالزم. وحيث أن الايمان وسيلة الفوز بالحياة الابدية ومفتاح السعادة الخالدة، فينبغي اذاً السعي لأجله. بيد أني عالم ديني، مكلف شرعاً بافادة الناس، لذا اريد أن اخدمهم من هذه الناحية ايضاً. الاّ أن هذه الخدمة تعود بالنفع الى الحياة الاجتماعية والدنيوية، وهذه ما لا اقدر عليها، فضلاً عن انه يتعذر القيام بعمل سليم صحيح في زمن عاصف، لذا تخليت عن هذه الجهة وفضّلت عليها العمل في خدمة الايمان التي هي اهم خدمة والزمها وأسلمها. وقد تركت الباب مفتوحاً ليصل الى الآخرين ما كسبته لنفسي من حقائق الايمان وما جربته في نفسي من ادوية معنوية. لعلّ الله يقبل هذه الخدمة ويجعلها كفّارة لذنوب سابقة.

وليس لأحد سوى الشيطان الرجيم ان يعترض على هذه الخدمة، سواءً كان مؤمناً أو كافراً او صدّيقاً او زنديقاً. لأن عدم الايمان لا يشبهه أمر، فلربما توجد لذة شيطانية منحوسة في ارتكاب الظلم والفسق والكبائر الاّ ان عدم الايمان لا لذة فيه اطلاقاً، بل هو ألم في الم، وعذاب في عذاب، وظلمات بعضها فوق بعض.

وهكذا فان ترك السعي لحياة ابدية، وترك العمل لنور الايمان المقدس، والدخول في ألاعيب السياسة الخطرة وغير الضرورية، في زمن الشيخوخة انما هو خلاف للعقل ومجانبة للحكمة لشخص مثلي لا صلة له مع أحد، ويعيش منفرداً، ومضطر الى التحري عن كفارات لذنوبه السابقة. بل يعدّ ذلك جنوناً وبلاهة، بل حتى البلهاء يفهمون ذلك.

o أما ان قلت: كيف تمنعك خدمة القرآن والايمان عن السياسة؟

فأقول: ان الحقائق الايمانية والقرآنية ثمينة غالية كغلاء جواهر الالماس، فلو انشغلت بالسياسة، لخطر بفكر العوام: أيريد هذا ان يجعلنا منحازين الى جهة سياسية؟ أليس الذي يدعو اليه دعاية سياسية لجلب الاتباع؟ بمعنى انهم ينظرون الى تلك الجواهر النفيسة انها قطع زجاجية تافهة، وحينها أكون قد ظلمت تلك الحقائق النفيسة، وبخست قيمتها الثمينة، بتدخلي في السياسة.

فيا أهل الدنيا! لِمَ لا تدعوني وشأني، وتضايقونني بطرق شتى؟

o وان قلتم:

يتدخل شيوخ الصوفية احياناً في امورنا، والناس يطلقون عليك في بعض الاحيان اسم الشيخ!

اقول: ايها السادة! انني لست شيخاً صوفياً، وانما انا عالم ديني. والدليل على هذا، انني لو كنت قد علّمت احداً من الناس الطريقة الصوفية، طوال هذه السنوات الاربع التي قضيتها هنا، لكان لكم الحق في الارتياب والوقوع في الشكوك. ولكني لم اقل لمن اتاني الاّ أن الزمان ليس زمان الطريقة. الايمان ضروري، والاسلام ضروري.

o وان قلتم:

يطلقون عليك اسم ((سعيد الكردي)) فلربما تحمل فكر العنصرية والدعوة اليها. وهذا ما لا يتفق وشأننا ولا طائل لنا به.

وانا اقول: ايها السادة! ان ما كتبه سعيد القديم وسعيد الجديد في متناول اليد. ابيّنه شاهداً ولقد نظرت - منذ السابق - الى القومية السلبية والدعوة الى العنصرية نظرة السم القاتل، لأنها مرض اوروبي خبيث سار. وذلك حسب الأمر النبوي الجازم بان الاسلام يجب العصبية الجاهلية. ولقد ألقت اوروبا بذلك المرض الوبيل بين المسلمين ليمزقهم ويفرّقهم شذر مذر ليسهل عليها ابتلاعهم قطعاً متناثرة. ولقد بذلت ما وسعني الجهد لعلاج هذا الداء الخبيث، ويشهد طلابي ومن له علاقة معي بذلك.

ولما كان الأمر هكذا، فيا ايها السادة! ما الداعي وراء التشبث بكل حادثة لإيذائي والتضييق عليّ؟ والذي هو من قبيل ادانة جندي في الغرب لخطأ ارتكبه جندي في الشرق - لكونهما جنديين - أو اخذ حانوتي في بغداد - لأنه حانوتي - بجريرة حانوتي في استانبول! فهذا هو شانكم في كل حادثة دنيوية تتخذونها وسيلة للتضييق عليّ. ايّ وجدان يحكم بهذا؟ واية مصلحة تقتضيه؟

o النقطة الثالثة:

ان اصدقائي واحبابي الذين يلاحظون راحتي واحوالي، يستغربون من ايثاري الصمت وتجملي بالصبر تجاه كل مصيبة تنزل بي، فيتساءلون: كيف تتحمل الضيق والمشاق التي تنزل بك؟ فلقد كنتَ من قبل شديد الغضب، لا ترضى ان يمسّ أحد عزتك. وكنتَ لا تتحمل ادنى اهانة؟

الجواب: استمعوا الى هاتين الحادثتين والحكايتين. وخذوا الجواب منهما!

الحكاية الاولى:

قبل سنتين ذكر مدير مسؤول في غيابي كلمات ملفقة فيها اهانة وتحقير لي، دون سبب ومبرر. ونُقل الكلام اليّ، تألمت ما يقرب من ساعة باحاسيس سعيد القديم. ثم وردت برحمته سبحانه وتعالى الى القلب حقيقة أزالت ذلك الضيق، ودفعتني لأصفح عن ذلك الشخص. والحقيقة هي:

قلت لنفسي: ان كان تحقيره وما أورده من نقائص تخص شخصي ونفسي بالذات، فليرض الله عنه اذ اطلعني على عيوب نفسي. فان كان صادقاً، فسوف يسوقني اعتراضه الى تربية نفسي الامارة وتأديبها، فهو اذاً يعاونني في النجاة من الغرور. وان كان كاذباً، فهو عون لي ايضاً للخلاص من الرياء، ومن الشهرة الكاذبة التي هي اساس الرياء.نعم! انني لم اصالح نفسي قط؛ لانني لم اربّها. فان نبهني أحدٌ على وجود عقرب في أي جزء من جسمي، عليّ ان ارضى عنه، لا امتعض منه.

اما ان كانت اهاناته تعود لصفة كوني خادماً للايمان والقرآن، فتلك لا تعود لي، فاحيل ذلك الشخص الى صاحب القرآن الذي استخدمني في هذه المهمة، فهو عزيز حكيم.

وان كان كلامه لأجل تحقيري واهانة شخصي بالذات والحط من شأني، فهذا ايضاً لا يخصني، لأنني أسير مكبل وغريب في هذا البلد، فالدفاع عن كرامتي ليس لي فيه نصيب، بل يخص من يحكم هذه القرية ثم القضاء ثم المحافظة التي انا ضيف لديهم. اذ إن اهانة اسير تعود الى مالكه، فهو الذي يدافع عنه.

فاطمأن القلب بهذه الحقيقة، وتلوتُ: } واُفوّضُ أمري الى الله إنّ الله بَصيرٌ بالعباد{ (غافر: 44) واهملت الحادثة واعتبرتها لم تقع ، ونسيتها. ولكن تبين بعدئذٍ - مع الأسف - ان القرآن لم يتجاوز عنه، فعاقبه.

الحكاية الثانية:

طرق سمعي في هذه السنة ان حادثة وقعت، وقد سمعتها بعد وقوعها اجمالاً فحسب، لكني لقيت معاملة كأنني ذو علاقة قوية بالحادثة. علماً انني ما كنت اراسل احداً، وما كنت اكتب رسالة الاّ نادراً الى صديق وحول مسألة ايمانية، بل لم اكتب حتى لشقيقي الاّ رسالة واحدة خلال اربع سنوات. فكنت أمنع نفسي عن مخالطة الناس والاتصال بهم، فضلاً عن ان اهل الدنيا كانوا يمنعونني عن ذلك. فما كنت ألقى الاّ واحداً أو اثنين من الأحباب خلال اسبوع، مرة أو مرتين. أما الضيوف القادمون الى القرية، وهم آحاد لا يزيدون عن واحد او اثنين فكانوا يلقونني دقيقة او دقيقتين، خلال شهر، ولمسألة اخروية.. كنت على هذه الحالة من الاغتراب، وقد مُنعت عن كل الناس، عن كل شئ، وبقيت وحيداً غريباً، لا قريب لي، في قرية ليس فيها ما يلائم مكسب نفقتي. حتى انني قبل اربع سنوات، عمّرت مسجداً خرباً وقمت فيه بالامامة لاربع سنوات (نسأل الله القبول) حيث أحمل شهادة الامامة والوعظ، من بلدي. ومع هذا لم استطع الذهاب الى المسجد في شهر رمضان الفائت. فصليت احياناً منفرداً وحُرمت من ثواب الجماعة البالغ خمساً وعشرين ضعفاً.

فتجاه هاتين الحادثتين اللتين مرتا بي اظهرتُ صبراً وتحملاً مثلما اظهرتُه قبل سنتين ازاء معاملة ذلك المسؤول. وسأستمر على هذا الصبر والتحمل باذن الله.

والذي يدور في خلدي واريد أن اقوله هو:

ان العنت الذي يذيقني اياه اهل الدنيا. والاذى والتضييق عليّ منهم، ان كان تجاه نفسي القاصرة الملطخة بالعيوب فاني اعفو عنهم، لعلّ نفسي تصلح من شأنها بهذا التعذيب فيكون كفارة لذنوبها. فلئن قاسيت من اذى في هذه الدنيا المضيفة، فانا شاكر ربي، اذ قد رأيت بهجتها ومتعتها.

ولكن ان كان اهل الدنيا يذيقونني العذاب لقيامي بخدمة الايمان والقرآن، فالدفاع عن هذا ليس من شأني وانما احيله الى العزيز الجبار.

وان كان المراد من ذلك التضييق افساد توجّه الناس اليّ والحيلولة دون اقبالهم عليّ، اي للحد من الشهرة الكاذبة التي لا اساس لها، بل هي السبب في الرياء

وافساد الاخلاص.. فعليهم اذاً رحمة الله وبركاته؛ لأني اعتقد ان كسب الشهرة واقبال الناس ضار لأشخاص مثلي. والذين لهم علاقة معي يعرفونني جيداً: انني لا اقبل الاحترام لنفسي، بل انفر منه، حتى ان صديقاً فاضلاً عزيزاً عليّ قد نهرته اكثر من خمسين مرة لشدة احترامه لي.

ولكن ان كان قصدهم من التهوين من شأني واسقاطي في اعين الناس يخص الحقائق الايمانية والقرآنية التي اقوم بتبليغها، فعبثاً يحاولون لأن نجوم القرآن لا تسدل بشئ. فمن يغمض عينه يجعل نهاره ليلاً لا نهار غيره.

o النقطة الرابعة: جواب عن بضعة اسئلة مريبة.

السؤال الأول المريب: يسأل أهل الدنيا ويقولون لي: بماذا تعيش؟ وكيف تدار معيشتك دون عمل؟ نحن لا نقبل في بلادنا المتقاعدين الكسالى الذين يقتاتون على سعي الآخرين وعملهم؟

الجواب: انني أعيش بالاقتصاد والبركة. لا أقبل من غير رزاقي الله منّة من أحد، وقررت أن لا أقبلها طوال حياتي.

نعم، ان الذي يعيش بمائة ثارة(1) بل بأربعين بارة يأبى ان يدخل تحت منة الآخرين.

انني ما كنت أرغب مطلقاً أن اوضح هذه المسألة خشية الإشعار بالغرور والأنانية، واكره أن ابوح بها فهي ثقيلة علي، ولكن لأن أهل الدنيا تدور الاوهام والشبهات في نفوسهم لدى سؤالهم هذا، فأقول:

- ان دستور حياتي كلها هو عدم قبول شئ من الآخرين، فمنذ نعومة اظفاري لم أقبل شيئاً من أحد حتى لو كان زكاة أموالهم.

ثم ان رفضي للمرتّب الحكومي - الا ما عينته الدولة لي لسنتين حينما كنت في دار الحكمة الاسلامية وبعد الحاح اصدقائي واصرارهم اضطررت الى قبوله - وان عدم قبولي لمنّة الآخرين في دفع ضرورات المعيشة الحياتية.. كل ذلك يبين دستور حياتي. فالناس في مدينتي وكل من يعرفني في المدن الاخرى يعرفون هذا مني جيداً. ولقد حاول أصدقاء كثيرون بمحاولات شتى ان أقبل هداياهم في غضون هذه السنوات الخمس التي مرت بالنفي، الا انني رفضت.

o فاذا قيل: فكيف اذن تعيش؟

أقول: أعيش بالبركة والاكرام الإلهي. فان نفسي الامارة مع انها تستحق كل اهانة وتحقير، الا انني - في الإرزاق - احظى بالبركة التي هي إكرام إلهي يمنح كرامة من كرامات خدمة القرآن.

سأورد نماذج منها، وذلك قياماً باداء الشكر المعنوي تجاه تلك النعم التي اكرمني الله بها وعملا بالآية الكريمة } وأما بنعمة ربك فحدّث{ (الضحى:11) ولكني رغم هذا أخشى ان يداخل هذا الشكر المعنوي شئ من الرياء والغرور فتمحق تلك البركة الربانية الطيبة، اذ ان اظهار البركة المخفية بافتخار مدعاة لانقطاعها. ولكن ما حيلتي فاني اضطررت الى ذكر تلك البركة اضطراراً.

فالاول: لقد كفاني في هذه الشهور الستة الماضية ستة وثلاثون رغيفاً قد خبز من كيلة(1) من الحنطة، ولا زال الخبز باقيا، ولا أعرف متى ينفد(2).

ثانيها: في هذا الشهر المبارك شهر رمضان لم يأتني طعام الا من بيتين اثنين، وقد أمرضاني كلاهما. ففهمت من هذا انه ممنوع عليّ طعام الآخرين!. ولقد كفتني أوقية واحدة(3) من الرز وثلاثة ارغفة من الخبز بقية أيام شهر رمضان. فالصديق الصادق ((عبد الله ضاويش))(4) صاحب البيت المبارك الذي يهئ لي الطعام يشهد بهذا ويخبر به، بل ان الرز قد استمر خمسة عشر يوماً آخر بعد شهر رمضان.

ثالثها: لقد كفتنا أنا وضيوفي الكرام أوقية واحدة من الزبد رغم تناوله يومياً مع الخبز طوال ثلاثة أشهر في الجبل. حتى كان لي ضيف مبارك وهو ((سليمان)) وقد أوشك خبزنا على النفاد، وكنا في يوم الاربعاء، فقلت له: اذهب الى القرية وآت بالخبز، اذ ليس حوالينا أحد حتى مسافة ساعتين لنبتاع منه. فقال: اني أرغب ان أبيت معك ليلة الجمعة المباركة على قمة هذا الجبل، لأتضرع معك الى الله.

فقلت: توكلنا على الله. اذن ابق معي.

ثم بدأنا بالسير معاً حتى صعدنا قمة جبل رغم انه لا داعي ولا مناسبة لذلك. وكان لدينا قليل من الماء مع شئ من الشاي والسكر.

قلت:يا أخي أعمل لنا قليلاً من الشاي. وبدأ بالعمل.

وجلست أنا تحت شجرة قطران أتأمل في مشاهدة واد عميق، وافكر بأسف وأسى: ليس لدينا الا كسرة من خبز متعفن ربما يكفينا كلينا هذا المساء. ولكن كيف باليومين التاليين. فماذا أقول لهذا الرجل الطيب النقي السريرة!

وبينما انا غارق في هذا اذا برأسي كأنه يدار الى الشجرة فالتفت واذا بي أرى رغيفاً كبيراً فوق شجرة القطران ينظر الينا بين اغصانها، قلت: أبشر يا سليمان فقد انعم الله سبحانه علينا برزق. فأخذنا الخبز من الشجرة وفتشنا عن أثر من آثار الحيوانات والطيور عليه. واذا به سالم من اي تعرض كان من الحيوانات. فضلاً عن انه لم يصعد هذا الجبل منذ ثلاثين يوماً أحد من الناس. فكفانا ذلك الرغيف يومين. وما أن أوشك على النفاد اذا بالرجل الصادق ((سليمان))(1) الذي كان صديقاً صادقاً طوال أربع سنوات يصعد الجبل متوجهاً نحونا آتياً لنا بالخبز.

رابعها: ان هذه السترة (الجاكيت) قد اشتريتها مستعملة قبل سبع سنوات. وكفت أربع ليرات ونصف الليرة: لمصاريف خمس سنوات مضت للملابس والحذاء والجوارب، فلقد كفتني البركة والاقتصاد والرحمة الإلهية.

وهناك أمثلة كثيرة شبيهة بهذا، اذ ان للبركة الإلهية جهات شتى. وان اهالي هذه القرية يعرفون كثيراً من أمثلة البركة. ولكن حذار حذار أن يذهب بكم الظن انني اذكر هذه الامثلة افتخاراً، وانما اضطررت الى ذكرها اضطراراً. ولا يردنّ في خاطركم انها امثلة تدل على صلاحي، وانما هذه البركات هي احسان إلهي الى أصدقائي الضيوف المخلصين القادمين الي. أو انها اكرام إلهي لخدمة القرآن الكريم، أو انها منافع مباركة للالتزام بالاقتصاد، أو انها رزق للقطط الأربع التي تلازمني هنا وهي التي تذكر في هريرها: يا رحيم يا رحيم يا رحيم.. فهي أرزاقها تأتيها على صورة بركة، وانا بدوري استفيد منها.

نعم! اذا أنصتّ الى هريرها الحزين تدرك جيداً انها تذكر: يا رحيم يا رحيم يا رحيم.

وعلى ذكر القطط يرد بالبال ذكر الدجاج.

كانت لي دجاجة تجلب لي من خزينة الرحمة الإلهية بيضة واحدة يومياً في هذا الشتاء بانقطاع قليل جداً. وذات يوم وضعت بيضتين معاً، فاحترت منها، واستفسرت عن احبابي:

هل يحدث مثل هذا في هذا الشتاء؟ قالوا: ربما هي احسان إلهي.

كان لهذه الدجاجة فرخ في الصيف. بدأ الفرخ بوضع البيض بداية شهر رمضان المبارك، واستمر الوضع طوال أربعين يوماً. فلم تبق لدي شبهة ولا لدى اخوتي الذين يقومون بخدمتي من أن هذا الوضع المبارك للبيض في هذا الشتاء ومن فرخ صغير، في شهر رمضان، انما هو إكرام إلهي ليس الاّ. ثم ان الفرخ بدأ بالوضع حالما قطعته الأم. فلم يدعني دون بيضة والحمد لله.

السؤال الثاني المريب: يقول اهل الدنيا: كيف نثق بك ونطمئن اليك بانك لا تتدخل في امور دنيانا؟ فلربما لو أطلقنا سراحك تتدخل في امورها؟ ثم كيف نعرف انك لا تخدعنا ولا تكيد بنا، اذ تظهر نفسك بمظهر التارك للدنيا الذي لا يأخذ اموال الناس ظاهراً، وربما يأخذها خفية، فكيف نعرف ان ذلك ليس مكراً؟

الجواب: ان احوالي قبل عشرين سنة في المحكمة العسكرية العرفية، واطواري قبل اعلان الدستور(1) ، وفي الدفاع الذي صدر في كتاب ((شهادة مدرستي المصيبة)) معروفة لدى الذين يعرفونني.. كل ذلك يبين بياناً شافياً: انني قد أمضيت حياتي لم اتنازل الى شئ من الخديعة بل حتى الى أدنى حيلة، فلو كانت ثمة حيل لحصلت المراجعة واللجوء اليكم مع تزلّف وتملق خلال هذه السنوات الخمس. اذ المحتال يحاول ان يحبب نفسه الى الناس دوماً بل يسعى الى اغفالهم وخداعهم، وليس من شأنه تجنبهم والابتعاد عنهم. والحال انني لم اتنازل الى التذلل للآخرين على الرغم من جميع الهجمات النازلة بي والانتقادات الموجهة اليّ، بل اعرضت عن اهل الدنيا متوكلاً على المولى القدير وحده. ثم ان الذي عرف حقيقة الآخرة وكشف عن حقيقية الدنيا لا يندم ابداً، ان كان ذا لب. ولا يتشبث بالعودة الى الدنيا مرة اخرى. ثم ان من كان وحيداً فريداً لا علاقة له مع أحد، لا يضحى بحياته الابدية لثرثرة دنيوية وتهريجاتها بعد قضاء خمسين سنة من العمر. بل لو ضحى بها، لا يكون حيالاً بل مجنوناً، وماذا عسى ان يفعل المجنونُ حتى يُهتم به؟

اما الشبهة الواردة حول كوني طالباً للدنيا باطناً وعازفاً عنها ظاهراً. فاقول:

بمضمون الآية الكريمة: } وَمَآ اُبَرِّئُ نَفْسي اِنَّ النَّفْسَ لاَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ{ (يوسف:53)

انني ما ابرئ نفسي ابداً، انها تروم كل فساد. ولكن خسران حياة دائمة وسعادة خالدة لأجل لذة قليلة، في هذه الدنيا الفانية، في هذا المضيف المؤقت، في زمن الشيخوخة، في عمر قصير.. ليس من شأن العقلاء ولا يليق بذوي الشعور؛ لذا انقادت نفسي الأمارة - شاءت أم أبت - للعقل ورضخت له.

السؤال الثالث المريب: يقول اهل الدنيا: أتحبنا؟ أترضى عنا وتعجب بنا؟ فان كنت تحبنا فلماذا اذن اعرضت عنا ولا تخالطنا، وان لم تكن تعجب ولا ترضى عنا فانت اذن تعارضنا، ونحن نسحق معارضينا!

الجواب: انني لو كنت محباً لدنياكم، فضلاً عنكم لما انسحبت منها وأعرضت عنها. فانا لا اعجب بكم ولا بدنياكم، ولكن لا اتدخل ايضاً بها ولا اخالطكم. لانني اصبو الى قصد غير قصدكم، فقد ملأت قلبي امور لم تُبق موضعاً لغيرها كي افكر فيها. وانتم مأمورون بالحكم على ظاهر الحال لا على باطن القلب. لانكم تريدون ادامة النظام وارساء الحكم، وحيث اني لا اتدخل بهما، فليس لكم ان تقولوا: ليحبنا القلب كذلك، فأنتم لستم اهلاً لذلك الحب أصلاً.

وان تدخلتم في أمر القلب، أقول:

كما انني اتمنى مجئ الربيع وسط هذا الشتاء، ولكني لا استطيع اتيانه، كذلك أتمنى صلاح احوال العالم وادعو لذلك، وأسأل الله أن يصلح اهل الدنيا، ولكن ذلك فوق ارادتي ووسعي فلا استطيع عليه. لذا لا أتدخل فعلاً، فهي ليست من وظيفتي ولا ضمن اقتداري وطاقتي.

السؤال الرابع المريب: يقول اهل الدنيا: لقينا بلايا ونزلت بنا مصائب، فلم نعد نثق بأحد من الناس، فكيف نثق بك؟ ولو سنحت لك الفرصة ألا تتدخل في امورنا بالشكل الذي يروق لك؟

الجواب: ان النقاط المذكورة سابقاً رغم انها كافية لإقناعكم وبث الاطمئنان في نفوسكم الاّ انني اقول:

في الوقت الذي لم اتدخل في دنياكم وانا في مدينتي وحولي طلابي واقربائي، واعيش في وسط من يصغي اليّ ويستشيرني، بل لم اتدخل في دنياكم حتى في خضم تلك الحوادث المثيرة، أفيمكن ان يتدخل فيها من هو في دار الغربة، وهو وحيد منفرد وضعيف عاجز، متوجه بكل وسعه للآخرة، منقطع عن الاختلاط والمراسلات، ولم يجد الاّ بضع اصدقاء في طريق الآخرة، وهو الغريب عن الناس، كما ان الناس اصبحوا غرباء عنه، بل ينظر اليهم هكذا.. هذا الانسان اذا تدخل في دنياكم العقيمة والخطرة ينبغي له أن يكون مجنوناً مضاعفاً.

o النقطة الخامسة: تخص خمس مسائل صغيرة:

اولاها: يقول لي اهل الدنيا: لِمَ لا تطبّق على نفسك اصول مدنيتنا وآدابها، ولا تعيش على وفق طراز حياتنا، ولا تلبس هيئة ملابسنا؟ بمعنى انك معارض لنا؟.

وأنا أقول: ايها السادة! بأي حق تكلفونني ان اطبق آداب مدنيتكم؟ فانتم قد اجبرتموني على الاقامة ظلماً في قرية طوال خمس سنوات، ومنعتموني حتى عن المراسلات والاختلاط مع الناس، وكأنكم قد أسقطتموني من الحقوق المدنية، فضلاً عن انكم جردتموني - بغير سبب - من كل شئ، ولم تسمحوا لي أن اقابل اهل مدينتي - سوى واحد أو اثنين - علماً انكم قد اطلقتم سراح جميع المنفيين، وسمحتم لهم بالاقامة بين اهليهم وذويهم في المدن ومنحتموهم شهادات ترخيص بذلك.. فهذه المعاملات تعني انكم لا تعدونني من افراد الامة ولا من رعايا هذا الوطن، فكيف اذن تكلفونني تطبيق قوانين مدنيتكم؟

وانتم قد ضيقتم عليّ الدنيا على سعتها وجعلتموها لي سجناً، أفيكلف من هو في السجن بمثل هذه الامور؟.

وانتم قد اقفلتم عليّ باب الدنيا، وانا بدوري طرقت باب الآخرة، ففتحته الرحمة الإلهية، فكيف يطالَب من هو واقف في باب الاخرة أن يطبق عادات اهل الدنيا وادابها المشوشة؟

فمتى ما اطلقتموني حراً، واعدتموني الى مدينتي وموطني، واعطيتموني حقوقي كاملة، فلكم عندها أن تطالبوا بتطبيق ادابكم!

المسألة الثانية: يقول أهل الدنيا: لدينا مؤسسة حكومية، تقوم بتعليم أحكام الدين وحقائق الاسلام، فبأي صلاحية تقوم انت بنشر رسائل دينية؟ فلا يحق لك مزاولة مثل هذه الامور وانت محكوم بالنفي.

الجواب: ان الحق والحقيقة لا تقيّدان بشئ ولا تنحصران (في مكان وزمان معينين) فكيف ينحصر الايمان ويتقيد القرآن في مؤسسة رسمية؟ فانتم تستطيعون ان تحصروا تطبيق قوانينكم وادابكم (في مؤسساتكم) أما الحقائق الايمانية والاسس القرآنية فلا تُقحمان في المعاملات الدنيوية، ولا تحصران في مؤسسة رسمية يؤدى فيها العمل بأجرة. بل ان تلك الاسرار والفيوضات التي هي موهبة إلهية، لا تتأتى الا بوساطة النية الخالصة والتجرد من الدنيا والعزوف عن حظوظ النفس.

هذا فضلاً عن ان دائرتكم الرسمية قد قبلتني واعظاً وانا في مدينتي، وعينتني في تلك الوظيفة، وقد قمت بتلك الوظيفة، وظيفة الوعظ. الاّ انني تركت مرتّبها، محتفظاً لدي بشهادتها. اي أنا استطيع أن اؤدي بتلك الشهادة مهمة الوعظ والامامة في اي مكان كان، لان نفيي ظلم واضح.

ثم ان المنفيين قد اعيدوا الى اهليهم، فشهادتي السابقة اذن سارىة المفعول.

ثانياً: ان الحقائق الايمانية التي كتبتها، خاطبت بها نفسي مباشرة، ولا ادعو اليها الناس جميعاً،بل الذين ارواحهم محتاجة وقلوبهم مجروحة يتحرون عن تلك الادوية القرآنية، فيجدونها. يستثني من هذا تكليفي أحد الافاضل بطبع رسالتي التي تخص الحشر، قبل تنفيذ الحروف الحديثة، وذلك لكسب قوتي وتأمين معيشتي، ولكن الوالي السابق الظالم تجاهي دقق تلك الرسالة، وعندما لم يجد ما ينتقده لم يتعرض لها.

المسألة الثالثة: ان بعض اصدقائي يتبرأون مني ظاهراً، بل ينتقدونني، ليحببوا أنفسهم الى اهل الدنيا المرتابين مني؛ بينما اهل الدنيا وهم الدساسون قد حملوا تبرئة هؤلاء واجتنابهم مني محمل الرياء وانعدام الوجدان بدلاً من ان يحملوها محمل الحب والاخلاص لهم. لذا بدأوا ينظرون اليهم نظر الريب.

وانا اقول يا رفقائي في الآخرة!

لا تهربوا من خدمتي للقرآن العظيم؛ لأنه لا يلحقكم ضررٌ مني باذن الله.حتى لو وقع عليَّ الظلم، وأتت المصيبة، فلا يمكنكم أن تنجوا منها بالتبرئة مني، بل تستأهلون اكثر لأن تنزل بكم مصيبة أو تداهمكم لطمة تأديب.. ثم ماذا حدث حتى تنتابكم الريوب والاوهام؟.

المسألة الرابعة: في ايام منفاي هذه.. أرى أناساً ممن سقطوا في حمأة السياسة وابتلوا بالاعجاب بالنفس، ينظرون اليّ نظرة تتسم بالمنافسة والانحياز الى جهة. وكأنني مثلهم ذو علاقة مع تيارات دنيوية.

فيا أيها السادة! اعلموا انني في صف الايمان وفي تياره وحده، ويواجهني تيار الالحاد. ولا علاقة لي اصلاً بأي تيار آخر.

فالذي يتخذ وضع المنافس والمخالف لي، ويتعرض لي ويسبب ايلامي، ان كان ممن يعمل لقاء اجرة، ربما يجد شيئاً من العذر في تصرفاته هذه. ولكن الذي لا يعمل لقاء اجرة، وانما يقوم بمثل هذه المعاملات باسم الغيرة والحمية، فليعلم انه يرتكب خطأ ايّما خطأ، لأنه - كما اثبتناه سابقاً - لا علاقة لي قطعاً بالسياسة الجارية في الدنيا، فلقد نذرت حياتي وحصرت وقتي كله لنشر حقائق الايمان والقرآن، لذا فليفكر جيداً من يتعرض لي ويتخذ موقف المنافس، انه في حكم المتعرض للايمان في سبيل الزندقة والالحاد.

المسألة الخامسة: لما كانت الدنيا فانيةً.. والعمر قصيراً.. والواجبات كثيرة.. وان الحياة الأبدية تُكسب هنا، في الدنيا.. وهي ليست بلا مولى.. فللمضيف ربٌ كريم حكيم.. لا يضيّع جزاء السيئة ولا الحسنة.. ولا يكلّف نفساً الاّ وسعها.. وحيث ان السبيل السوي وما فيه اذى لا يستويان.. ولا يجاوز باب القبر اخلاء الدنيا وجاهها..

فلابد ان اسعد انسان هو مَن: لا ينسى الآخرة لأجل الدنيا.. ولا يضحي بآخرته للدنيا.. ولا يفسد حياته الابدية لاجل حياة دنيوية.. ولا يهدر عمره بما لا يعنيه.. ينقاد للأوامر انقياد الضيف للمضيّف. ليفتح باب القبر بأمان.. ويدخل دار السعادة بسلام(1).





ذيـل

المكتوب السادس عشر



باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{

ان اصحاب الدنيا المتكالبين على متاعها الزائف قد توهموا عبثاً ان رجلاً عاجزاً غريباً في هذه الدنيا مثلي له من القوة ما لآلاف الرجال. وقد دفعهم هذا الوهم الى وضعي تحت قيود صارمة مشددة؛ فلم يسمحوا لي مثلاً بالاقامة ليلة او ليلتين في ((بدرة)) وهي كحي من أحياء ((بارلا)) او حتى على جبل من الجبال القريبة منها. وقد سمعتهم يقولون: ((ان لسعيد من القوة ما لخمسين ألف رجل لذا فلا يمكننا إطلاق سراحه))!

وأنا أقول: يا طلاب الدنيا التعساء! مع انكم تعملون للدنيا بكل ما أوتيتم من قوة وجهد فلِمَ لا تعلمون شؤونها ايضاً فتحكمون كالمجانين. فاذا كان خوفَكم من شخصي الفاني، فهوخوف زائف، لا مبرر له اطلاقاً، اذ يستطيع اي انسان - وليس خمسين ألفاً - ان يعمل ضعف عملي خمسين مرة. يستطيع في الأقل ان يقف على باب غرفتي ويقول: ((لن تخرج)).. فينتهي الأمر. أما اذا كان خوفكم من مهنتي التي هي الدعوة الى القرآن، ومن قوة الايمان التي اتسلح بها. ألا فلتعلموا جيداً بأنني لست في قوة خمسين ألف رجل.. كلا.. انكم مخطؤون. انني بفضل الايمان وبحكم مهنتي في قوة خمسين مليون شخص! انني بقوة القرآن الكريم اتحدى اوروبا كلها بما في ذلك ملاحدتكم.. لقد اقتحمت قلاعهم الحصينة التي يسمونها ((العلوم الطبيعية او الحديثة)).. وذلك بفضل ما نشرت من الحقائق الايمانية والبراهين القرآنية الدامغة التي أنزلتُ بها اكبر فلاسفتهم الى رتبة هي أدنى مائة مرة من رتبة الانعام! ولو اجتمعت اوروبا باسرها بما في ذلك ملاحدتكم، فلن تستطيع ان تحول دون مسألة واحدة من مسائل مهنتي ولا ان تغلبني باذن الله وتوفيقه.

ومجمل الكلام: فكما لا أتدخل في شؤون دنياكم لا يحق لكم ان تتدخلوا في شؤون أُخراي كذلك.. ولا تحاولوا.. اما اذا ركبتم راسكم وحاولتم التدخل، الا فلتعلموا يقيناً بانكم لن تجنوا من وراء ذلك شيئاً، وسيكون سعيكم عبثاً.

قوةُ العضد لا ترد تقدير الله

وشمعة اوقدها المولى لا تطفئها الأفواه

ان اهل الدنيا تدور شكوكهم واوهامهم حولي بوجه خاص وكأنهم يتوجسون مني خيفة، اذ يتخيلون وجود امور لا املكها - بل لو وجدت فلا تكون موضع ريوب سياسية واتهامات - كالمشيخة، والرئاسة، والحسب والنسب، والنفوذ في العشيرة، وكثرة الاتباع، واللقاء مع المواطنين، والتعلق بامور الدنيا، بل حتى يتصورون وجود الدخول في امور السياسة بل حتى المعارضة للدولة.. وامثالها من الامور التي ليست موجودة عندي، فيقعون في شكوك وأوهام من جراء تخيلاتهم. حتى انهم حرموني من كل شئ عندما تذاكروا امور العفو، لمن في السجن أو في خارجه، اي مَن لايشملهم العفو في نظرهم.

هناك كلام جميل خالد قاله رجل فاسد فانٍ:

ان كان للظلم مدفع وبندقية وقلعة

فللحق ساعد لا ينثني ووجه لا يتراجع.

وانا اقول:

ان كان لأهل الدنيا حكم وسطوة وقوة..

ففي خادمه بفيض القرآن:

علم لا يلتبس، وكلام لا يسكت، وقلب لا ينخدع، ونور لا ينطفئ.

لقد سألني الآمر العسكري المسؤول عن مراقبتي، وكثير من الاصدقاء هذا السؤال مكرراً: لِمَ لا تراجع الجهات الرسمية؟ ولِمَ لا تقدم طلباً للحصول على شهادة ووثيقة رخصة؟.

الجواب: هناك اسباب عدة تحول بيني وبين مراجعتهم، بل تجعلني لا استطيع مراجعتهم.



السبب الاول: انني لم اتدخل في شؤون اهل الدنيا ولا في دنياهم، كي اكون محكوماً من قبلهم، ومن ثم اراجعهم في هذا الشأن، بل اراجع القدر الإلهي، لأنه هو الذي حكم عليِّ لتقصيراتي تجاهه.

السبب الثاني: لقد تيقنت ان هذه الدنيا دار ضيافة، تتبدل بسرعة وتتغير على الدوام، فهي ليست دار قرار ولا موطناً حقيقياً، لذا فان نواحيها كافة على حد سواء. فما دمت لا اظل في موطني، ولا قرار لي فيه، فان محاولة الرجوع اليه عبث لا طائل وراءه، ولا يعني شيئاً الذهاب اليه. وما دام كل ناحية من نواحي الدنيا دار ضيافة.فإن كل انسان صديق وكل مكان نافع ومفيد ان كانت رحمة صاحب الدار ورحمة رب البيت رفيقة لك، والاّ فكل انسان عدو وكل مكان حمل ثقيل وضيق شديد.

السبب الثالث: المراجعة انما تكون ضمن نطاق القانون، بينما المعاملة التي اعامل بها طوال هذه السنوات الست معاملة اعتباطية وغير قانونية، اذ لم يعاملوني معاملة قانونية على وفق قانون المنفيين، بل نظروا الىّ نظرة الساقط من الحقوق المدنية، بل حتى من الحقوق الدنيوية، فلا معنى اذن من مراجعة قانونية لمن يُعامل معاملة غير قانونية.

السبب الرابع: راجع احدهم باسمي هذه السنة مدير هذه الناحية ((بارلا)) للسماح لي بالذهاب الى قرية ((بدرة)) القريبة جداً منها - حتى تعدّ احد أحيائها - لقضاء بضعة ايام للفسحة هناك، ولم يسمح لي بذلك. فكيف يراجع هؤلاء الذين يرفضون مثل هذه الحاجة البسيطة التي أشعر بها؟ فمراجعتهم اذن ليس إلا تذلل وخنوع غيرمجدٍ.

السبب الخامس: ان طلب الحق من مدّعي الحق زوراً ومراجعتهم ظلمٌ وبخس للحق وقلة توقير له، فلا اريد ان ارتكب هذا الظلم، ولا هذا التهوين من شأن الحق. والسلام.

السبب السادس: ان مضايقة اهل الدنيا لي، ليست ناشئة من انشغالي بالسياسة، لأنهم يعرفون جيداً انني لا اتدخل في الامور السياسية، بل انفر منها، فهم يعذبونني بسبب ارتباطي بالدين وتمسكي باهدابه، اي انهم بعذبونني - بشعور وبغير شعور - ارضاءً للزندقة. لذا فان مراجعتهم تعني ابداء الندامة عن الدين وملاطفة لمسلك الزندقة، فضلاً عن ان القدر الإلهي العادل سيعذبني بايديهم الاثيمة إن التجأتُ اليهم أو راجعتهم، لانهم يضايقونني لتمسكي بالدين، بينما القدر الإلهي يضايقني لنقائصي وقصوري في التقوى والاخلاص ولتزلفي احياناً الى اهل الدنيا. فلا نجاة لي اذن من هذه المضايقات في الوقت الحاضر. اذ لو راجعت اهل الدنيا لقال القدر: ايها المرائي! ذق جزاء مراجعتك هذه. وان لم اراجع اهل الدنيا لقالوا: انك لا تعترف بنا، فلازم المضايقات.

السبب السابع: من المعلوم ان وظيفة اي موظف كان هي الأخذ على يد مَن يلحق الضرر بالمجتمع ومعاونة النافعين لهم. فعند ما كنت اوضح ذوقاً لطيفاً في كلمة ((لا إله الاّ الله)) لشيخ هرم اقترب من باب القبر، أتاني الموظف المسؤول عن مراقبتي وكأنه يريد القبض عليّ وانا متلبّس بجريمة نكراء. علماً انه ما كان يأتيني في اغلب الاحيان، ولكنه حضر في ذلك الوقت وكأنني اقترف جريمة، فحرم ذلك المستمع الى الموضوع باخلاص، وأثار غضبي. علماً انه ما كان يلتفت الى اشخاص في القرية بل بدأ يلاطف ويقدّر اولئك الذين يعربدون ويبثون سموماً في المجتمع.

ومن المعلوم كذلك لو ان مجرماً، ارتكب مائة جريمة، يستطيع ان يقابل مسؤوليه في السجن سواءً أكانوا من الجنود أو الضباط أو الآخرين. بينما المسؤول عن مراقبتي، واثنان من ذوي الشأن لدى الحكومة، لم يسألوا عن حالي ولم يقابلوني قطعاً طوال سنة من الزمان، رغم انهم مرّوا مراراً امام غرفتي. فقد كنت اظن انهم لا يتقربون مني بسبب العداء، ولكن تحقق - بالتالي - ان ذلك نابع مما كان يساورهم من شكوك وريوب، فهم يفرّون مني وكأنني سابتلعهم.

فمراجعة حكومة، رجالها وموظفوها امثال هؤلاء ليس من العقل في شئ، بل ما هي الاّ ذلة وخنوع لا طائل وراءه.

فلو كان سعيد القديم موجوداً لقال مثلما قال عنترة:

ماءُ الحياة بذلةٍ كجهنم وجهنم بالعزّ أفخرُ منزلي

ولكن لا وجود لسعيد القديم. أما سعيد الجديد فيرى انه لا معنى حتى في التكلم مع اهل الدنيا. فليهلكهم الله بدنياهم، وليقضوا ما يقضون، سنتحاكم في المحكمة الكبرى باذن الله.

هذا ما يقوله سعيد الجديد، ثم يسكت.

ومن الاسباب الداعية لعدم مراجعتي:

السبب الثامن: ان القدر الإلهي يعذبني بالايدي الظالمة لأهل الدنيا هؤلاء. وذلك بسبب مالا يستحقونه من ميلي اليهم، وفق القاعدة: ((ان نتيجة محبة غير مشروعة عداوة ظالمة)). وقد كنت اؤثر الصمت، لعلمي اني استحق هذا العذاب، حيث انني قد خدمت بصفة قائد للمتطوعين في الحرب العالمية الاولى، وخضت المعارك، وضحيت بخيرة طلابي واحبّائي مع نيل تقدير القائد العام للجيش، انور باشا. وسقطت جريحاً، واُسرت. وبعد مجيئي من الأسر القيت بنفسي في المهالك، بتأليفي كتاب ((الخطوات الست)) الذي تحديت به الانكليز وهم يحتلون استانبول. فعاونت هؤلاء الاصدقاء الذين ألقوني في عذاب الاسر بغير سبب. وكان هذا جزائي نظير معاونتي لهم، فاذاقني هؤلاء من المصاعب والمتاعب في ثلاثة شهور ما يفوق المصاعب والمتاعب التي قاسيت منها في روسيا طوال ثلاث سنوات.

وعلى الرغم من ان الروس كانوا ينظرون اليّ بصفة قائد للمتطوعين الاكراد والظالم الذي يذبح الاسرى والقازاق، الاّ انهم لم يمنعوني من القاء الدروس. فكنت القيها على معظم زملائي الاسرى من الضباط البالغ عددهم تسعين ضابطاً، حتى ان القائد الروسي استمع مرة الى الدرس، فحسبه درساً سياسياً، لجهله باللغة التركية، ومنعني مرة واحدة فقط ولكنه سمح لي بعد ذلك. ثم اننا جعلنا غرفة في الثكنة التي كنا فيها مسجداً لأداء الصلاة جماعةً، وكنت ائم الجماعة، ولم يتدخلوا في ذلك قط. ولم يمنعونا من الاختلاط والاتصال بعضنا مع البعض ولم يقطعوا عنا المراسلات.

بينما ارى هؤلاء الذين يفترض فيهم انهم اخواني في الدين وفي الوطن يمنعونني من الدرس بغير سبب مع انني احاول ان افيدهم في الايمان، وهم يعلمون انني قد قطعت علاقتي مع الدنيا والسياسة. حتى انهم وضعوني في الأسر طوال ست سنوات - وليس ثلاث سنوات - بل في اسر مشدّد، اذ منعوني عن الاختلاط بالناس، ومن

القاء الدروس، بل حتى من القاء الدروس الخاصة في غرفتي الخاصة. علماً انني احمل شهادة في ذلك، وحالوا بيني وبين المراسلات، بل منعوني حتى عن الامامة في المسجد الذي عمّرته بنفسي، والذي كنت ائم الجماعة فيه طوال اربع سنوات. فحرموني من ثواب الجماعة، بل منعوني عن ان ائم جماعة متكونة من ثلاثة اخوة في الآخرة كنت ائمهم دوماً. فضلاً عن ذلك لو ذكرني احدهم بخير، يغضب الموظف المراقب عليّ، ويحاول بشتى الوسائل ان يهوّن من شأني، ويشدّد من المضايقات كي يحصل على تكريم من آمريه وإلتفاتهم اليه.

فقل لي بنفسك واحكم بما شئت ايها الأخ السائل: ان من كان هذا وضعه، هل يراجع غير الله سبحانه وتعالى؟ فلمن يقدّم الشكوى إن كان الحاكم هو المدّعي؟ ثم قل ما شئت أن تقوله في هذه الاحوال المحيطة بنا.

ولكني اقول: ان كثيراً من المنافقين قد اندسوا بين اصدقائي هؤلاء. وحيث أن المنافق اشد من الكافر واخبث منه، فلهذا يذيقونني من العذاب ما لم يذقني اياه كفار الروس.

ايها التعساء! ماذا فعلت بكم، وما الذي افعله بحقكم؟ انني اسعى لانقاذ ايمانكم وابلاغكم السعادة الابدية. يبدو أن خدمتي لم تخلُص بعدُ لله، لذا يولد خلاف المأمول. وانتم نظير ذلك تؤذونني في كل فرصة سانحة. فلا ريب اننا سنتحاكم في المحكمة الكبرى.. اقول:

حسبنا الله ونعم الوكيل. نعم المولى ونعم النصير.

الباقي هو الباقي

سعيد النورسي
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-03-2011
  #17
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: المكتوبات

المكتوب السابع عشر

ذيل اللمعة الخامسة والعشرين

عزاء بطفل

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{

السيد الحافظ ((خالد)) يا اخا الآخرة العزيز!

بِسْم الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} وَبـَشِّر الصابرين ` الذين اذا اَصابَتْهُم مُصيبةٌ قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون{ (البقرة: 155ــ 156)

أخي! لقد آلمني كثيراً نبأ وفاة طفلكم، ولكن الحكم لله، فالرضاء بقضائه والتسليم بقدره شعار الاسلام. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقكم الصبر الجميل، وأن يجعل لكم المرحوم ذخراً للآخرة، وشفيعاً يوم القيامة.

وسنبيّن لكم ولأمثالكم من المؤمنين المتقين ((خمس نقاط)) تشع بشرى سارة وتقطر سلواناً حقيقياً لكم.

النقطة الاولى:

ان معنى الآية الكريمة } وِلْدانٌ مُخَلَّدون{ وسرها هو هكذا:

إن أولاد المؤمنين المتوفين قبل البلوع سيخلَّدون في الجنة أطفالاً محبوبين بما يليق بالجنة.. وسيكونون مبعث سرور أبدي في احضان آبائهم وأمهاتهم الذين مضوا الى الجنة.. وسيكونون مداراً لتحقيق ألطف الاذواق الابدية للوالدين وهو حب الاطفال وملاطفة الاولاد.

وحيث أن كل شئ لذيذ موجود في الجنة، فلا صحة لقول مَن يقول: ((لا وجود لمحبة الاطفال ومداعبتهم في الجنة لخلوها من التكاثر والتناسل)). بل هناك الفوز العظيم بمحبة الاطفال وملاعبتهم بصفاء تام ولذة كاملة طوال ملايين السنين، من دون أن يشوبها ألمٌ ولا كدرٌ، بدلاً من محبتهم وملاعبتهم في عشر سنوات دنيوية قصيرة فانية مشوبة بالآلام. كل هذا تحققه الآية الكريمة بجملة } وِلْدانٌ مُخَلَّدون{ فتصبح اكبر مدار لسعادة المؤمنين وتزفّ أعظم بشرى لهم.

النقطة الثانية:

كان هناك - ذات يوم - رجل كريم في السجن.. ألُحق به ولده الحبيب أيضاً. فكان يتألم كثيراً بمشقات عجزه عن تأمين راحة إبنه فضلاً عن مقاساته آلامه الشخصية.

بعث اليه الحاكم الرحيم احداً ليبلّغه: ((أن هذا الطفل وإن كان إبنك إلاّ أنه واحد من رعيتي وأحد أفراد امتي، سآخذه منك لأربيه في قصر جميل فخم)).. بدأ الرجل بالبكاء والحسرة والتأوه، وقال: ((لا. لا اعطي ولدي ولا اسلّمه، إنه مدار سلواني!)).

انبرى له اصدقاؤه في السجن: يا هذا لا داعي لأحزانك ولا معنى لتألمك. إن كنت تتألم لأجل الطفل فهو سيمضي الى قصر باذخ رحيب بدلاً من أن يبقى في هذا السجن الملوّث المتعفن الضيق. وان كنت متألماً لذات نفسك وتبحث عن نفعك الخاص، فان الطفل سيعاني مشقات كثيرة مع ضيق وألم شديدين فيما إذا بقي هنا لأجل أن تحصل على نفع مؤقت ومشكوك فيه! اما اذا ذهب الى هناك فسيكون وسيلة لألف نفع وفائدة لك، ذلك لأنه سيكون سبباً لدرّ رحمة الحاكم لك، وسيصبح لك في حكم الشفيع. ولابد أن الحاكم سيرغب يوماً في أن يسعده باللقاء معك، ولا جرم أنه لن يرسله اليك في السجن، بل سيأخذك اليه ويخرجك من السجن ويبعثك الى ذلك القصر لتحظى باللقاء مع الطفل، فيما اذا كنت ذا طاعة له وثقة به.



وفي ضوء هذا المثال - يا أخي العزيز - ينبغي أن يتفكر فيه أمثالُك من المؤمنين عندما يتوفى أطفالهم، ويقولوا: إن هذا الطفل برئ، وان خالقه رحيم وكريم، فبدلاً من رقتي القاصرة عليه، وبدلاً من تربيتي الناقصة له، فقد احتضَنَتْه الرحمة الآلهية وضمته العناية الآلهية الى كنفها العظيم، وأخرجته من سجن المشقات والمصائب والآلام الدنيوية وارسلته الى ظلال جنة فردوسه العظيم. فهنيئاً لذلك الطفل!

ومَن يدري ماذا كان يعمل وكيف كان يتصرف لو ظل في هذه الدنيا؟ لذا فأنا لست متألما عليه، بل أراه سعيداً محظوظاً.. اما تألمي لنفسي بالذات فلا أتألم لها ألماً شديداً، فيما يخص متعتي الخاصة. اذ لو كان باقياً في الدنيا لكان يضمن لي محبّة الاولاد وملاعبتهم المؤقتة زهاء عشرة أعوام وهي مشوبة بالآلام، ولربما لو كان صالحاً بارّاً، وكان ذا قدرة في أمور الدنيا كان يمكنه أن يعينني ويتعاون معي، الا انه بوفاته فقد ضمن لي محبة الاولاد ولعشرة ملايين من السنين وفي الجنة الخالدة، وأصبح مشفّعاً لي للدخول الى السعادة الابدية، فلا أكون اذن شديدَ التألم عليه حتى على حساب نفسي كذلك. لان مَن غابت عنه منفعة عاجلة مشكوك فيها، وربح ألف منفعة آجلة محققة الحصول، لن يظهر الاحزان الأليمة، ولن ينوح يائساً أبداً!

النقطة الثالثة:

إن الطفل المتوفى.. ما كان إلا مخلوقاً لخالق رحيم، وعبداً له، وبكل كيانه مصنوعاً من مصنوعاته سبحانه، وصديقاً مودعاً من لدنه عند الوالدين ليبقى مؤقتاً تحت رعايتهما، وقد جعل سبحانه أمه وأباه خادمَين أمينين له، ومنح كلاً منهما شفقة ملذّة، أجرةً عاجلة أزاء ما يقومان به من خدمة.

والآن. إن ذلك الخالق الرحيم الذي هو المالك الحقيقي للطفل - وله فيه تسع وتسعون وتسعمائة حصة ولوالده حصة واحدة - اذا ما أخذ بمقتضى رحمته وحكمته ذلك الطفل منك مُنهياً خدماتك له، فلا يليق بأهل الايمان أن يحزنوا يائسين ويبكوا صارخين بما يومئ الى الشكوى أمام مولاهم الحق صاحب الحصص الالف، مقابل حصة صورية. وانما هذا شأن أهل الغفلة والضلالة.





النقطة الرابعة:

لو كانت الدنيا أبدية أبد الآباد، ولو كان الانسان فيها خالداً مخلداً، أو لو كان الفراق أبدياً، إذن لكان للحزن الأليم والأسف اليائس معنىً ما. ولكن ما دامت الدنيا دار ضيافة فاينما ذهب الطفل المتوفى فكلنا - نحن وأنتم كذلك - الى هناك راحلون لا مناص.

ثم ان هذه الوفاة ليست خاصة به هو وحده، بل هي طريق يسلكه الجميع.

ولما لم يكن الفراق أبدياً كذلك، بل سيتم اللقاء في الأيام المقبلة في البرزخ وفي الجنة. لذلك ينبغي القول: الحكم لله.. إن لله ما اخذ وما أعطى، مع الاحتساب والصبر الجميل والشكر قائلين: الحمد لله على كل حال.

النقطة الخامسة:

إن الشفقة التي هي ألطف تجليات الرحمة الآلهية وأجملها وأطيبها واحلاها.. لهي أكسير نوراني، وهي أنفذ من العشق بكثير، وهي أسرع وسيلة للوصول الى الحق تبارك وتعالى.

نعم، مثلما أن العشق المجازي والعشق الدنيوي - بمشكلات كثيرة جداً - ينقلبان الى ((العشق الحقيقي)) فيجد صاحبه الله جل جلاله، كذلك الشفقة - ولكن بلا مشكلات - تربط القلب بالله سبحانه ليوصل صاحبَه الى الله جل وعلا بأقصر طريق وأصفى شكل.

والوالد أو الوالدة على السواء يحبان ولدهما بملء الدنيا كلها، فعندما يؤخذ الولد من اي منهما فانه - إن كان سعيداً ومن أهل الايمان - يعرض وجهه عن الدنيا ويدير لها ظهره فيجد المنعم الحقيقي حاضراً فيقول: ما دامت الدنيا فانية زائلة فلا تستحق اذن ربط القلب بها، فيجد إزاء ما مضى اليه ولده علاقة وثيقة ويغنم حالة معنوية سامية.

إن أهل الغفلة والضلالة لمحرومون من سعادة هذه الحقائق الخمس وبُشَرياتها. فقيسوا على ما يأتي مدى ما هم فيه من أحوال أليمة؛ عندما تُشاهد والدة عجوز طفلها الوحيد الذي تحبه حباً خالصاً، يتقلّب في السكرات، يذهب فكرها حالاً الى رقوده في تراب القبر بدل فراشه الناعم الوثير، لما تتصور الموت عدماً وفراقاً أبدياً، لتوهمها الخلود في الدنيا ونتيجة الغفلة والضلالة، لذا لا يخطر على بالها رحمة الرحمن الرحيم ولا جنته ولا نعمة فردوسه المقيم.. فأنت تستطيع أن تقيس من هذا مدى ما يعانيه أهل الضلالة والغفلة من ألم وحزن يائس بلا بصيص من أمل.

بينما الايمان والاسلام وهما وسيلتا سعادة الدارين يقولان للمؤمن:

إن هذا الطفل الذي يعاني ما يعاني من سكرات الموت سيرسله خالقه الرحيم الى قدس جنته بعدما يخرجه من هذه الدنيا القذرة، زد على ذلك أنه سيجعله لك مشفّعاً، كما سيجعله لك أيضاً ولداً أبدياً... فلا تقلق إذن ولا تغتم. فالفراق مؤقت، واصبر قائلاً: الحكم لله } انا لله وِاِنا اليه راجعون{ .

الباقي هو الباقي

سعيد النورسي
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-03-2011
  #18
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: المكتوبات

المكتوب الثامن عشر

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{

(هذا المكتوب يتضمن ثلاث مسائل مهمة)

l المسألة المهمة الاولى:

سؤال:

ان أولياء مشهورين امثال الشيخ محي الدين بن عربي(1) (قدس سره) صاحب كتاب ((الفتوحات المكية)) والشيخ عبد الكريم الجيلي(2) (قدس سره) صاحب كتاب ((الانسان الكامل)) يبحثون في طبقات الارض السبع، وفي الارض البيضاء خلف جبل قاف، وفي امور عجيبة كالمشمشية - كما في الفتوحات - ويقولون: لقد رأينا! فهل ما يقولونه صدق وصواب؟ فان كان هكذا فليس في ارضنا مثل ما يقولون! والجغرافية والعلوم الحاضرة تنكر ما يقولونه! وان لم تكن اقوالهم صواباً فكيف اصبحوا اولياء صالحين، اذ كيف يكون من ينطق بمثل هذه الاقوال المخالفة للواقع المشاهد والمحسوس والمنافية للحقيقة، من اهل الحق والحقيقة!.

الجواب: انهم من اهل الحق والحقيقة، وهم ايضاً اهل ولاية وشهود، فما شاهدوه فقد رأوه حقاً، ولكن يقع الخطأ في قسم من احكامهم، في مشاهداتهم في حالة الشهود التي لا ضوابط لها ولا حدود، وفي تعبير رؤيتهم الشبيهة بالرؤى التي لا حق لهم في التعبير عنها.

اذ كما لا يحق لصاحب الرؤيا التعبير عن رؤياه بنفسه، فذلك القسم من اهل الشهود والكشف ليس لهم الحق ان يعبروا عن مشاهداتهم في تلك الحالة، حالة الشهود. فالذي يحق له التعبير عن تلك المشاهدات انما هم ورثة الانبياء من العلماء المحققين المعروفين بالاصفياء. ولا ريب أن اهل الشهود هؤلاء عندما يرقون الى مقام الاصفياء سيدركون خطأهم بأنفسهم بارشاد الكتاب والسنة ويصححونها. وقد صححها فعلاً قسم منهم.

فاستمع الى هذه الحكاية التمثيلية لتوضيح هذه الحقيقة، وهي:

اصطحب راعيان من اهل القلب والصلاح فحلبا من غنمهما اللبن ووضعاه في اناء خشبي ووضعا الناي القصبي فوق حافتي الصحن. ثم شعر أحدهما بالنعاس، وما فتئ ان غلبه النوم، فنام واستغرق في نومه.

أما الثاني فقد ظل مستيقظاً يرقب صاحبه، واذا به يرى وكأن شيئاً صغيراً - كالذبابة - يخرج من أنف صاحبه النائم، ثم يمرق سريعاً ويقف على حافة الاناء ناظراً في اللبن ثم يدخل من فوهة الناي من احد طرفيه ويخرج من فوهة الطرف الآخر، ثم يمضي ويدخل في ثقب صغير تحت شجيرة مشوكة كانت بالقرب من المكان.

ثم يعود ذلك الشئ بعد مدة ويمضي في الناي أيضاً ويخرج من الطرف الآخر منه، ثم يأتي الى ذلك النائم ويدخل في أنفه.. وهنا يستيقظ النائم من نومه، ويصحو قائلاً لصديقه:

- لقد رأيت يا صديقي في غفوتي هذه رؤيا عجيبة!

- اللّهم ارنا خيراً وأسمعنا خيراً.. قل يا صديقي ماذا رأيت؟

- رأيت - وأنا نائم - بحراً من لبن، وقد مد عليه جسر عجيب، وكان الجسر مسقفاً، ولسقفه نوافذ، مررت من ذلك الجسر، ورأيت في نهاية الطرف الثاني منه غابة كثيفة ذات اشجار مدببة. وبينما انا انظر اليها متعجباً رأيت كهفاً تحت الاشجار فسرعان ما دخلت فيه، ورأيت كنزاً عظيماً من ذهب خالص.

فقل لي يا صديقي، ما ترى في رؤياي هذه، وكيف تعبّرها لي؟ أجابه صديقه الصاحي:

- ان ما رأيته من بحر اللبن هو هذا اللبن في هذا الاناء، وذلك الجسر الذي فوقه هو الناي الموضوع فوق حافتيه، والغابة هي هذه الشجيرة المشوكة، وذلك الكهف الكبير هو هذا الثقب الصغير، تحت هذه النبتة القريبة منا. فهات يا صديقي المعوَل لأريك الكنز بنفسي. فيأتي صديقه بالمعوَل ويبدآن الحفر تحت تلك الشجيرة، ولم يلبثا حتى ينكشف لهما ما يسعدهما في الدنيا من كنز ذهبي.

وهكذا فان ما رآه النائم في نومه صواب وصحيح، وقد رأى ما رأى حقيقة وصدقاً، ولكن لأنه مستغرق في عالم الرؤيا، وعالم الرؤيا لا ضوابط له ولا حدود، فلا يحق للرائي تعبير رؤياه، فضلاً عن أنه لا يميز بين العالم المادي والمعنوي، لذا يكون قسم من حكمه خطأ. حتى أنه يقول لصاحبه صادقاً: لقد رأيت بنفسي بحراً من لبن. ولكن صديقه الذي ظل صاحياً يستطيع ان يميز بسهولة العالم المثالي ويفرزه عن العالم المادي، فله حق تعبير الرؤيا حيث يخاطب صديقه قائلاً:

- ان ما رأيته يا صديقي حق وصدق، ولكن البحر الذي رأيته ليس بحراً حقيقياً، بل قد صار اناء اللبن الخشبي هذا في رؤياك كأنه البحر، وصار الناي كالجسر.. وهكذا..

وبناء على هذا المثال ينبغي التمييز بين العالم المادي والعالم الروحاني، فلو مزجا معاً، تأتي احكامهما خطأ ولا نصيب لها من الصحة.

ومثال آخر:

هب ان لك غرفة ضيقة، وضعت في جدرانها الاربعة مرايا كبيرة، تغطي كل مرآة الجدار كله، فعندما تدخل غرفتك ترى ان الغرفة الضيقة قد اتسعت واصبحت كالساحة الفسيحة، فاذا قلت:

- انني أرى غرفتي كساحة واسعة.. فانك لا شك صادق في قولك.

ولكن اذا حكمت وقلت:

- غرفتي واسعة سعة الساحة فعلاً.. فقد اخطأت في حكمك، لأنك قد مزجت عالم المثال - وهو هنا عالم المرايا - بعالم الواقع والحقيقة، وهو هنا عالم غرفتك كما هي فعلاً.

وهكذا تبين ان ماجاء على ألسنة بعض أهل الكشف، أو ما ورد في كتبهم حول الطبقات السبع للكرة الارضية من تصويرات من دون أن يزِنوا بياناتهم بموازين الكتاب والسنة لا تقتصر على الوضع المادي والجغرافي للارض. اذ قالوا:

ان طبقة من طبقات الارض خاصة بالجن والعفاريت ولها سعة مسيرة ألوف السنين. والحال ان الكرة الارضية التي يمكن قطعها في بضع سنين لا تنطوي على تلك الطبقات العجيبة الهائلة السعة.

ولكن لو فرضنا ان كرتنا الارضية كبذرة صنوبر في عالم المعنى وعالم المثال وفي عالم البرزخ وعالم الارواح، فان شجرتها المثالية التي ستنبثق منها وتتمثل في تلك العوالم ستكون كشجرة صنوبر ضخمة جداً بالنسبة لتلك البذرة. لذا فان قسماً من أهل الشهود يرون أثناء سيرهم الروحاني طبقات الارض في عالم المثال واسعة سعة مهولة جداً، فيشاهدونها بسعة مسيرة ألوف السنين. فما يرونه صدق وحقيقة. ولكن لأن عالم المثال شبيه صورة بالعالم المادي، فهم يرونهما - أي العالمين كليهما - ممزوجين معاً. فيعبّرون عما يشاهدون كما هو. ولكن لأن مشهوداتهم غير موزونة بموازين الكتاب والسنة ويسجلونها كما هي في كتبهم عندما يعودون الى عالم الصحو، فان الناس يتلقونها خلاف الحقيقة. اذ كما ان الوجود المثالي لقصر عظيم وحديقة فيحاء تستوعبه مرآة صغيرة، كذلك سعة الوف السنين من العالم المثالي، والحقائق المعنوية تستوعبها مسافة سنة من العالم المادي.













خاتمة

يُفهم من هذه المسألة:

ان درجة الشهود أوطأ بكثير من درجة الايمان بالغيب. أي ان الكشفيات التي لا ضوابط لها لقسم من الاولياء المستندين الى شهودهم فقط، لا تبلغ أحكام الاصفياء والمحققين من ورثة الانبياء الذين لا يستندون الى الشهود بل الى القرآن والوحي، فيصدرون احكامهم حول الحقائق الايمانية السديدة. فهي حقائق غيبية الا انها صافية لا شائبة فيها. وهي محددة بضوابط، وموزونة بموازين.

اذن فميزان جميع الاحوال الروحية والكشفيات والاذواق والمشاهدات انما هو: دساتير الكتاب والسنة السامية، وقوانين الاصفياء والمحققين الحدسية.

l المسألة الثانية المهمة:

سؤال:

يعتبر الكثيرون ((وحدة الوجود)) من أرفع المقامات، بينما لا نشاهد لها أثراً عند الذين لهم الولاية الكبرى، وهم الصحابة الكرام وفي مقدمتهم الخلفاء الراشدون، ولا عند ائمة آل البيت وفي مقدمتهم الخمسة المعروفون بآل العباء، ولا عند المجتهدين وفي مقدمتهم الأئمة الاربعة، ولا عند التابعين، فهل الذين أتوا من بعد هؤلاء اكتشفوا طريقاً أسمى وارفع من طريقهم؟ وهل سبقوهم في هذا المضمار؟!

الجواب: كلا.. وحاش لله أن يكون الامر كذلك، فليس في مقدور أحد كائناً من كان ان يصل الى مستوى أولئك الأصفياء الذين كانو أقرب النجوم اللامعة الى شمس الرسالة والوارثين السابقين الى كنوز النبوة فضلاً عن أن يسبقوهم. فالصراط المستقيم انما هو طريقهم والمنهج القويم انما هو منهجهم.

أما وحدة الوجود فهي مشرب ونزعة وحال وهي مرتبة ناقصة، ولكن لكونها مشرّبة بلذة وجدانية ونشوة روحية فان معظم الذين يحملونها أو يدخلون اليها لا يرغبون في مغادرتها فيبقون فيها، ظانين أنها هي المرتبة الأخيرة التي لا تسمو فوقها مرتبة ولا يطالها أفق.

لذلك فان صاحب هذا المشرب، ان كان ذا روح متجردة من المادة ومن وسائلها ومزقت ستار الأسباب وتحررت من قيودها ونالت شهوداً في لجة الاستغراق الكلي، فان مثل هذا الشخص قد يصل الى وحدة وجود حالي لا علمي، ناشئة من وحدة شهود وليس من وحدة الوجود، فتحقق لصاحبها كمالاً ومقاماً خاصاً به، بل قد توصله الى انكار وجود الكون عند تركيز انتباهه في وجود الله.

أما ان كان صاحب هذا المشرب من الذين اغرقتهم المادة وأسبابها. فان ادعاءه لوحدة الوجود قد تؤدي به الى انكار وجود الله سبحانه لكون انتباهه منحصراً على وجود الكون.

نعم! أن الصراط المستقيم لهو طريق الصحابة والتابعين والأصفياء الذين يرون أن ((حقائق الاشياء ثابتة)) وهي القاعدة الكلية لديهم، وهم الذين يعلمون أن الأدب اللائق بحق الله سبحانه وتعالى هو قوله تعالى: } ليس كمثله شيء{ (الشورى:11) أي انه منزّه عن الشبيه والتحيز والتجزؤ. وان علاقته بالموجودات علاقة الخالق بالمخلوقات، فالموجودات ليست أوهاماً كما يدعي أصحاب وحدة الوجود، بل هذه الاشياء الظاهرة هي من آثار الله سبحانه وتعالى.

اذن فليس صحيحاً قولهم ((همه اوست)) اي ((لا موجود الا هو)) وانما الصحيح ((همه از اوست)) اي ((لا موجود الا منه)) ذلك لأن الحادثات لا يمكن ان تكون القديم نفسه، أي ازلية.

ويمكن تقريب الموضوع الى الأذهان بمثالين:

الأول: لنفرض ان هناك سلطاناً، وان لهذا السلطان دائرة عدل، فهذه الدائرة تكون ممثلة لاسم ((السلطان العادل)). وان هذا السلطان في الوقت نفسه هو ((خليفة)) اذن فان له دائرة تعكس فيها ذلك الاسم. كما أن هذا السلطان يحمل أسم ((القائد العام للجيش)) لذا ستكون له دائرة عسكرية تظهر ذلك الاسم. فالجيش مظهر لهذا الاسم. والآن اذا قيل بأن هذا السلطان هو ((السلطان العادل)) فقط وانه لا توجد سوى دائرة العدل التي تعكس اسم السلطان الاعظم، ففي هذه الحالة تظهر بالضرورة بين موظفي دائرة العدل صفة اعتبارية - غير حقيقية - لأوصاف علماء دائرة الشؤون الدينية وأحوالهم، أي ينبغي ان يتصور صفة ظلية وتابعة وغير حقيقية لدائرة الشؤون الدينية بين موظفي دائرة العدل. وكذلك الحال بالنسبة للدائرة العسكرية، اذ لابد أن تظهر أحوالها ومعاملاتها بشكل ظلي وفرضي وغير حقيقي بين موظفي دائرة العدل وهكذا.

اذن ففي هذه الحالة فان اسم السلطان الحقيقي وصفة حاكميته الحقيقية ((الحاكم العادل)) وحاكميته في دائرة العدل، أما صفاته الاخرى مثل ((الخليفة)) و ((القائد العام للجيش))...الخ، فتبقى نسبية وغير حقيقية، بينما ماهية السلطان وحقيقة السلطنة تقتضيان هذه الاسماء جميعاً بصورة حقيقية، وان الأسماء الحقيقية تتطلب هي الاخرى دوائر حقيقية وتقتضيها.

وهكذا فان سلطنة الألوهية تقتضي وجود أسماء حسنى حقيقية متعددة لها، أمثال: الرحمن، الرزاق، الوهاب، الخلاق، الفعال، الكريم، الرحيم، وهذه الاسماء والصفات تقتضي كذلك وجود مرايا حقيقية لها.

والآن ما دام أصحاب وحدة الوجود يقولون ((لا موجود الا هو)) وينزلون الموجودات منزلة العدم والخيال فان اسماء الله تعالى أمثال: واجب الوجود، الموجود، الأحد، الواحد، تجد لها تجلياتها الحقيقية ودوائرها الحقيقية، وحتى ان لم تكن دوائر هذه الاسماء ومراياها حقيقية - واصبحت خيالية وعدمية - فلا تضر تلك الاسماء شيئاً، بل ربما يكون الوجود الحقيقي اصفى وألمع ان لم يكن في مرآته لون الوجود. ولكن في هذه الحالة لا تجد اسماء الله الحسنى الاخرى أمثال: الرحمن، الرزاق، القهار، الجبار، الخلاق، تجلياتها الحقيقية. بل تصبح اعتبارية ونسبية، بينما هذه الاسماء هي أسماء حقيقية كأسم ((الموجود)) ولا يمكن ان تكون ظلاً، وهي أصلية لا يمكن ان تكون تابعة.

وهكذا فان الصحابة والمجتهدين والأصفياء وأئمة أهل البيت عندما يشيرون الى أن ((حقائق الأشياء ثابتة)) يقرون بأن لأسماء الله تعالى تجليات حقيقية وان لجميع الأشياء وجوداً عرضياً أسبغه الله عليها بالخلق والايجاد، ومع أن هذا الوجود يعتبر وجوداً عرضياً وضعيفاً وظلاً غير دائم بالنسبة لوجود ((واجب الوجود)) الا أنه ليس وهماً وليس خيالاً، فان الله سبحانه وتعالى قد أسبغ على الاشياء صفة الوجود بتجلي اسمه ((الخلاق)) وهو يديم هذا الوجود.

المثال الثاني: لنفرض أن في هذه الغرفة أربع مرايا جدارية كبيرة موضوعة على جدرانها الاربعة، فصورة الغرفة ترتسم على كل مرآة من هذه المرايا، ولكن كل مرآة تعكس صورة الاشياء بالشكل الذي يناسب صفتها ولونها، أي ان كل مرآة ستعكس منظراً خاصاً للغرفة. فاذا دخل رجلان الى الغرفة واطلع أحدهما على احدى هذه المرايا فانه يعتقد بأنه يرى جميع الأشياء مرتسمة فيها، وعندما يسمع بوجود مرايا اخرى وما فيها من صور فانه يعتقد بأنها صور المرايا التي تنعكس على مرآته نفسها والتي لا تشغل الا حيزاً صغيراً منها، بعد أن تضاءلت صورتها مرتين وتغيرت حقيقتها فيقول:

انني أرى الصورة هكذا. اذن فهذه هي الحقيقة.

فيقول له الرجل الثاني: نعم انك ترى ذلك وما تراه صحيح، ولكن ليس هو في الواقع صورة الحقيقة نفسها، فهناك مرايا أخرى غير المرآة التي تحدق فيها، وتلك المرايا ليست صغيرة وضئيلة ومنعكسة من الظلال كما تراها في مرآتك!

وهكذا فان كل اسم من أسماء الله الحسنى يتطلب مرآة خاصة به كل على حدة. فمثلاً: ان الاسماء الحسنى أمثال: ((الرحمن، الرزاق)) لما كانت أسماء حقيقية وأصلية فانها تقتضي موجودات لائقة بها ومخلوقات محتاجة الى مثل هذا الرزق ومثل هذه الرحمة.

فكما يقتضي اسم ((الرحمن)) مخلوقات حية محتاجة الى الرزق في عالم حقيقي، فان اسم ((الرحيم)) يستدعي جنة حقيقية كذلك. لذا فان اعتبار أسماء معينة من أسماء الله الحسنى أمثال ((الموجود، الواحد، الأحد، واجب الوجود)) هي الاسماء الحقيقية فقط وتوهم الأسماء الحسنى الاخرى تابعة وظلاً لها حكم غير عادل وتنكّب عن واجب الاحترام لهذه الاسماء الحسنى كما ينبغي.

اذن فالصراط المستقيم، بل صراط الولاية الكبرى ان هو الا طريق الصحابة والأصفياء والتابعين وائمة اهل البيت والائمة المجتهدين وهو الطريق الذي سلكه التلاميذ الأوَل للقرآن الكريم.



} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{

} ربنا لا تزغ قلوبنا بعد اذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة انك انت الوهاب{

اللّهم صل على من ارسلته رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين



l المسألة الثالثة:

وهي المسألة المهمة التي لا يمكن حلها بالعقل ولا كشفها بالحكمة والفلسفة.

قال تعالى: } كلّ يومٍٍ هو في شأن{ (الرحمن:29)

} فعّالٌ لما يُريد{ (البروج:16)

سؤال:

ما سر هذه الفعالية المحيرة للالباب الجارية في الكائنات وما حكمتها؟ ولِمَ لا تستقر هذه الموجودات الدائبة في الحركة، بل تتجدد وتتغير؟

الجواب: ان ايضاح هذه الحكمة يحتاج الى الف صحيفة، فندع الايضاح جانباً ونحصر الجواب في غاية الاختصار في صحيفتين اثنتين فنقول:

ان شخصاً ما اذا ادى وظيفة فطرية، أو قام بمهمة اجتماعية، وسعى في انجازها سعياً حثيثاً، فلاشك أن المشاهد يدرك أنه لا يقوم بهذا العمل الاّ بدافعين:

الاول: هو المصالح والثمرات والفوائد التي تترتب على تلك الوظيفة والمهمة وهي التي تسمى بــ ((العلة الغائية)).

الثاني: ان هناك محبة، وشوقاً، ولذة يشعر بها الانسان اثناء ادائه لتلك الوظيفة، مما يدفعه الى القيام بها بحرارة وشوق، وهذا ما يسمى بـ ((الداعي والمقتضي)).

مثال ذلك: ان الاكل وظيفة فطرية يشتاق الانسان الى القيام بها بدافع من لذة ناشئة من الشهية، ومن بعدها فهناك انماء الجسم وادامة الحياة كنتيجة للاكل وثمرة له.

(ولله المثل الاعلى) فان الفعالية الجارية في هذا الكون الواسع التي تحير الالباب وتجعل العقول في غمرة اندهاش واعجاب انما تستند الى قسمين من الاسماء، وتجري نتيجة اظهار حكمتين اثنتين واسعتين بحيث ان كلا منهما لا يحدها حدود.

الحكمة الاولى:

ان اسماء الله الحسنى لها تجليات لا تحد ولا تحصر، فتنوع المخلوقات الى انواع لا تحصر ناشئ من تنوع تلك التجليات غير المحصورة. والاسماء بحد ذاتها لابد لها من الظهور اي تستدعي اظهار نقوشها، اي تقتضي مشاهدة تجليات جمالها في مرايا نقوشها واشهادها. بمعنى ان تلك الاسماء تقضى بتجدد كتاب الكون، اي تجدد الموجودات آناً فآناً، باستمرار دون توقف، اي ان تلك الاسماء تقتضي كتابة الموجودات مجدداً وببلاغة حكيمة ومغزى دقيق بحيث يظهر كل مكتوب نفسه امام نظر الخالق جل وعلا وامام انظار المطالعين من الموجودات المالكة للشعور ويدفعهم لقراءته.

السبب الثاني والحكمة الثانية:

كما ان الفعالية الموجودة في المخلوقات قاطبة نابعة من لذة ومن شهية ومن شوق، بل ان في كل فعالية منها لذة، بل كل فعالية هي بحد ذاتها نوع من اللذة.

(ولله المثل الاعلى) فهناك شفقة مقدسة مطلقة ومحبة مقدسة مطلقة تليقان به سبحانه وتلائمان غناه المطلق وتعاليه وتقدسه وتوافقان كماله المطلق. ثم ان هناك شوقاً مقدساً مطلقاً يليق به آت من تلك الشفقة المقدسة والمحبة المقدسة، وهناك سرور مقدس ناشئ من ذلك الشوق المقدس وهناك لذة مقدسة لائقة به - ان جاز التعبير - ناشئة من ذلك السرور المقدس، ثم ان الرحمة المطلقة النابعة من تلك اللذة المقدسة، وما ينشأ من المخلوقات قاطبة من رضى عام وكمال شامل من انطلاق استعداداتها من القوة الى الفعل وتكمّلها، ضمن فعالية القدرة.. فما ينشأ من كل هذا من رضى مقدس مطلق - ان جاز التعبير - وافتخار مقدس مطلق.. كل ذلك بما يليق ويخص الرحمن الرحيم سبحانه يقتضى فعالية مطلقة وبصورة لا تحد.

وحيث أن الفلسفة والعلم تجهلان هذه الحكمة الدقيقة في الفعالية الجارية في الوجود، خلط اصحابها الطبيعة الصماء والمصادفة العشواء والاسباب الجامدة في غمرة هذه الفعالية البصيرة العليمة الحكيمة، فما اهتدوا الى نور الحقيقة بل ضلوا ضلالاً بعيداً.

} قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون{

} ربنا لا تزغ قلوبنا بعد اذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة انك انت الوهاب{

اللّهم صل وسلم على كاشف طلسم كائناتك بعدد ذرات الموجودات وعلى آله وصحبه ما دام الارض والسموات.



الباقي هو الباقي

سعيد النورسي
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-03-2011
  #19
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: المكتوبات

المكتوب التاسع عشر

تبيّن هذه الرسالة اكثر من ثلاثمائة معجزة من معجزات الرسول الاكرم e الدالة على صدق رسالته، وهي في الوقت الذي تبيّنها تعلن عن نفسها ايضاً بأنها كرامة من كرامات تلك المعجزات، وعطية من عطياتها، فاصبحت هي بذاتها خارقة واضحة باكثر من ثلاثة وجوه:

الاول: ان تأليفها حَدَثٌ خارق بلا شك، حيث اُلـّفت من دون مراجعة لمصدر، اعتماداً على الذاكرة فقط رغم ما تشتمل عليه من روايات للاحاديث الشريفة في أكثر من مائة صحيفة. علاوة على أنها كُتبت في زوايا الجبال وبواطن الوديان والبساتين، خلال ما يقرب من اربعة ايام وبمعدل ثلاث ساعات يومياً، أي في اثنتي عشرة ساعة!.

الثاني: ان مستنسخها لا يملّ من استنساخها مهما استنسخ منها، ومداومة القراءة فيها لا تُذهب بحلاوتها رغم طولها؛ لذا فقد اثارت همم الكسالى من المستنسخين، فكتبوا - حوالينا - ما يقارب السبعين نسخة، خلال سنة واحدة، في هذا الوقت العصيب، مما اعطى للمطلعين على ظروفنا قناعة كافية بأن هذه الرسالة هي واحدةٌ من كرامات تلك المعجزات.

الثالث: ان كلمة ((الرسول الاكرم)) e في الرسالة كلها، ولفظ ((القرآن الكريم)) في القطعة الخامسة منها، قد توافقت عند أحد المستنسخين دون أن يكون له علم بالتوافق، وحصل التوافق نفسه لدى المستنسخين الثمانية الآخرين دون ان يلتقى هؤلاء بعضهم ببعض وقبل ان ينكشف التوافق المذكور حتى بالنسبة لنا. فمن كان على شئ من الانصاف لا يحمل هذا على المصادفة البتة، بل حَكَم كلُ مَن اطلع عليه أن هذا سرٌ من اسرار الغيب، وان الرسالة كرامة من كرامات المعجزة الأحمدية على صاحبها افضل الصلاة والسلام.

هذا وان الاسس التي تتصدر الرسالة مهمة جداً، وان الاحاديث الواردة فيها فضلاً عن كونها صحيحة ومقبولة لدى ائمة الحديث، فهي تبين الاكثر ثبوتاً وقطعية من الروايات.

فلو اردنا تبيان مزايا هذه الرسالة لاحتجنا الى رسالة اخرى مثلها، لذا نهيب بالمشتاقين اليها قراءتها ولو مرة واحدة كي يلمسوا بأنفسهم تلك المزايا.

سعيد النورسي

تنبيه

لقد أوردتُ احاديث شريفة كثيرة في هذه الرسالة، ولم يكن لديّ شئ من كتب الحديث، فإن أخطأت في لفظ الاحاديث الواردة فليُصحح أو ليُحمل على الرواية بالمعنى، اذ القول الراجح: انه تجوز رواية الحديث الشريف بمعناه، اي أن يذكر الراوي معنى الحديث بلفظٍ من عنده، فما وجد في هذه الرسالة من اخطاء في الالفاظ، فلينظر اليها باعتبارها ((رواية بالمعنى)).Y

سعيد النورسي

المعجزات الأحمدية

على صاحبها افضل الصلاة وأتم التسليم

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{

بسم الله الرحمن الرحيم

} هو الذي ارسل رسولَه بالهُدى ودين الحق ليُظهره على الدين كلّه وكفى بالله شهيداً ` محمدٌ رسولُ الله والذين معه اشداءُ على الكفار رحماءُ بينهم تريهم ركّعاً سُجّداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السُجود ذلك مَثَلُهم في التوراة ومثلهم في الانجيل كزرع أخرجَ شطئَه فازره فاستغلظ فاستوى على سوقه يُعجبُ الزرّاع ليغيظ بهم الكفارَ وعَد الله الذين آمَنُوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة ًواجراً عظيماً{ (الفتح: 28ــ 29)



[نظراً لقيام الكلمتين التاسعة عشرة والحادية والثلاثين الخاصتين بالرسالة الاحمدية اثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بدلائل قاطعة، نحيل اليهما قضية الاثبات ونبيّن هنا – تتمةً لهما – لمعاتٍ من تلك الحقيقة الكبرى ضمن ((تسع عشرة اشارة بليغة ذات مغزى))].





الاشارة البليغة الاولى

لا ريب ان مالك هذا الكون وربّه يخلق ما يخلق عن علمٍ ويتصرف في شؤونه عن حكمة، ويدير كل جهة عن رؤية ومشاهدة، ويربي كل شئ عن علم وبصيرة، ويدبّر الأمر قاصداً اظهار الحِكمَ والغايات والمصالح التي تتراءى من كل شئ.

فما دام الخالق يعلم، فالعالِمُ يتكلم. وحيث انه سيتكلم، فسيكون كلامه حتماً مع مَن يفهمه من ذوي الشعور والفكر والادراك، بل مع الانسان الذي هو افضل انواع ذوي المشاعر والفهم وأجمعهم لتلك الصفات. ومادام كلامه سيكون مع نوع الانسان، فسيتكلم، اذاً مع مَن هو أهل للخطاب من الكاملين من بني الانسان الذين يملكون أعلى استعداد وأرفع أخلاق والذين هم أهلٌ لأن يكونوا قدوة للجنس البشري وأئمة له. فلا ريب انه سيتكلم مع محمد صلى الله عليه وسلم الذي شهد بحقه الاولياء والخصماء بأنه صاحب أسمى أخلاق وأفضل استعداد، والذي اقتدى به خُمس العالم، وانضم تحت لوائه المعنوي نصف الارض، واستضاء المستقبل بالنور الذي بُعث به طوال ثلاثة عشر قرناً من الزمان، والذي يصلّي عليه أهل الايمان والنورانيون من الناس دوماً ويدعون له بالرحمة والسعادة والثناء والحب، ويجددون معه البيعة خمس مرات يومياً وقد تكلم معه فعلاً. وسيجعله رسوله حتماً وقد جعله فعلاً. وسيجعله قدوة وإماماً للناس كافة وقد جعله فعلاً.





الاشارة البليغة الثانية

لقد اعلن الرسول الكريم e النبوة، وقدّم برهاناً عليها، وهو القرآن الكريم، واظهر نحو الفٍ من المعجزات الباهرة، كما هو ثابت لدى اهل التحقيق من العلماء(1). هذه المعجزات بمجموعها الكلي ثابتة قطعية كقطعية ثبوت دعوى النبوة، حتى ان اسناد المعجزات الى السحر الذي يورده القرآن الكريم في مواضع كثيرة على لسان الكفار الألداء ليشير الى انهم لم ينكروا وقوع المعجزات ولم يسعهم ذلك، وانما اسندوها الى السحر خداعاً لأنفسهم وتغريراً باتباعهم.

نعم، أن للمعجزات الأحمدية قطعية تامة تبلغ قوة مائة تواتر، فلا سبيل الى انكارها قط.

والمعجزة بحد ذاتها تصديقٌ من رب العالمين لدعوى رسوله الكريم، أي كأن المعجزة تقوم مقام قول الله: صدق عبدي فأطيعوه.

مثال للتوضيح:

لو كنتَ في حضرة سلطان أو في ديوانه، وقلتَ لمن حولك: لقد عينني السلطان عاملاً في الأمر الفلاني، وحينما طلبوا منك دليلاً على ادعائك أومأ السلطان بنفسه: أنْ نعم، اني جعلته عاملاً. ألا يكون ذلك شهادة صدق لك؟. فكيف اذا خرق السلطان - لأجلك - عاداته وبدّل قوانينه لرجاء منك؟ أفلا يكون ذلك تصديقاً أقوى لدعواك وأثبت من قول: نعم؟

وكذلك كانت دعوى الرسول e ، اذ قال: انني رسول من رب العالمين. وأما دليلي فهو انه سبحانه يبدّل قوانينه المعتادة بالتجائي ودعائي وتوسلي اليه. وهاكم انظروا الى أصابعي، انه يفجّر منها الماء كما يتفجّر من خمس عيون.. وانظروا الى القمر، انه يشقّه لي شقين باشارة من اصبعي.. وانظروا الى تلك الشجرة كيف تأتي اليّ لتصدقني وتشهد لي.. وانظروا الى هذه الحفنة من الطعام كيف انها تُشبع مائتين أو ثلاثمائة رجلٍ! وهكذا أظهر صلى الله عليه وسلم مئات من المعجزات أمثال هذه.

واعلم، ان دلائل صدق الرسول e وبراهين نبوته لا تنحصر في معجزاته، بل يرى المدققون ان جميع حركاته وافعاله وأحواله وأقواله وأخلاقه وأطواره وسيرته وصورته، كل ذلك يثبت اخلاصَه وصدقَه. حتى آمن به كثير من علماء بني اسرائيل بمجرد النظر الى طلعته البهية، أمثال: عبد الله بن سلام الذي قال: ((فلما اسْتَبنتُ وجهَهُ عرفتُ ان وجهه ليس بوجه كاذب))(1).

وعلى الرغم من ان العلماء المحققين قد ذكروا ما يقارب الألف من دلائل نبوته ومعجزاته فان هناك ألوفاً منها، بل مئات الألوف. ولقد صدّق بنبوته مئات الألوف من الناس المتباينين في الفكر بمئات الألوف من الطرق. والقرآن الكريم وحده يظهر ألفاً من البراهين على نبوته e ، عدا اعجازه البالغ أربعين وجهاً.

ولما كانت النبوة محققة وثابتة في الجنس البشري، وان مئات الألوف(1) من البشر جاءوا فاعلنوا النبوة، وقدّموا المعجزات برهاناً وتأييداً لها، فلا شك ان نبوة محمد e تكون اثبت واكد من الجميع، لأن مدار نبوة الانبياء وكيفية معاملاتهم مع اممهم والدلائل والمزايا والأوضاع التي دلت على نبوة عامة الرسل أمثال موسى وعيسى عليهما السلام توجد بأتم صورها وأفضل معانيها لدى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. وحيث ان علة حكم النبوة وسببها أكمل وجوداً في ذاته e ، فان حكم النبوة لا محالة ثابت له بقطعية اوضح من سائر الانبياء عليهم السلام.

الاشارة البليغة الثالثة

ان معجزات الرسول e كثيرة جداً ومتنوعة جداً، وذلك لأن رسالته عامة وشاملة لجميع الكائنات؛ لذا فله في أغلب أنواع الكائنات معجزات تشهد له، ولنوضح ذلك بمثال:

لو قَدِم سفير كريم من لدن سلطان عظيم لزيارة مدينة عامرة بأقوام شتى، حاملاً لهم هدايا ثمينة متنوعة، فان كل طائفة منهم ستُوفد في هذه الحال ممثلاً عنها لاستقباله بأسمها والترحيب به بلسانها.

كذلك لما شرَّف العالَم السفيُر الأعظم صلى الله عليه وسلم لملك الأزل والأبد، ونوَّره بقدومه، مبعوثاً من لدن رب العالمين الى أهل الأرض جميعاً، حاملاً معه هدايا معنوية وحقائق نيّرة تتعلق بحقائق الكائنات كلها، جاءه من كل طائفة مَن يرحب بمقدمه ويهنؤه بلسانه الخاص، ويقدِّم بين يديه معجزة طائفته تصديقاً بنبوته، وترحيباً بها، ابتداء من الحجر والماء والشجر والانسان، وانتهاء بالقمر والشمس والنجوم، فكأن كلاً منها يردد بلسان الحال: أهلاً ومرحباً بمبعثك.

ان بحث تلك المعجزات كلها يحتاج الى مجلدات لكثرتها وتنوعها، وقد ألّف العلماء الأصفياء مجلدات ضخمة حول تفاصيل دلائل النبوة والمعجزات، إلاّ أننا هنا نكتفي باشارات مجملة الى ما هو قطعي الثبوت والمتواتر معنىً من الأنواع الكلية لتلك المعجزات.

ان دلائل نبوة الرسول e قسمان:

الأول: الحالات التي سُميت بالأرهاصات، وهي الحوادث الخارقة التي وقعت قبل النبوة ووقت الولادة.

الثاني: دلائل النبوة الاخرى وهذا ينقسم الى قسمين:

أحدهما: الخوارق التي ظهرت بعده صلى الله عليه وسلم تصديقاً لنبوته.

ثانيهما: الخوارق التي ظهرت في فترة حياته المباركة e . وهذا ايضاً قسمان:

الأول: ما ظهر من دلائل النبوة في شخصه وسيرته وصورته وأخلاقه وكمال عقله.

الثاني: ما ظهر منها في أمور خارجة عن ذاته الشريفة، أي في الآفاق والكون. وهذا أيضاً قسمان:

قسم معنوي وقرآني. وقسم مادي وكوني. وهذا الأخير قسمان أيضاً:

القسم الأول: المعجزات التي ظهرت خلال فترة الدعوة النبوية، وهي إما لكسر عناد الكفار أو لتقوية أيمان المؤمنين؛ كانشقاق القمر، ونبعان الماء من بين أصابعه الشريفة، وإشباع الكثيرين بطعام قليل، وتكلم الحيوان والشجر والحجر.. وأمثالها من المعجزات التي تبلغ عشرين نوعاً، كل نوع منها بدرجة المتواتر المعنوي، ولكل نوع منها نماذج عدة مكررة.

القسم الثاني: الحوادث التي أخبر عنها صلى الله عليه وسلم قبل وقوعها - بما علّمه الله سبحانه - وظهرت تلك الحوادث وتحققت كما أخبر.

ونحن الآن نستهل بهذا القسم الأخير للوصول الى فهرس متسلسل عام(1).





الاشارة البليغة الرابعة

ان ما أنبأ به الرسول الكريم e من أنباء الغيب بتعليم من الله علام الغيوب كثيرٌ لا يعد ولا يحصى، وقد أشرنا الى أنواعه في ((الكلمة الخامسة والعشرين)) الخاصة باعجاز القرآن، وسقنا هناك براهينه؛ لذا فالأخبار الغيبية المتعلقة بالأزمنة السالفة والأنبياء السابقين وحقائق الألوهية وحقائق الكون، وحقائق الآخرة يُراجع في شأنها تلك الكلمة.

أما هنا فسنورد بضعة أمثلة من اخبار غيبية صادقة تتعلق بالحوادث التي ستصيب الآل والاصحاب - رضوان الله عليهم أجمعين - من بعده صلى الله عليه وسلم وما ستلقاه أمته في مُقبل أيامها.

ولأجل الوصول الى ادراك هذه الحقيقة ادراكاً كاملاً نبين بين يديها أسساً ستة مقدّمة لها.

l الاساس الاول

ان جميع احوال الرسول الكريم e وأطواره يمكن ان تكون دليلاً على صدقه وشاهداً على نبوته، الاّ ان هذا لا يعني ان تكون جميع احواله وافعاله خارقة للعادة؛ ذلك لأن الله سبحانه قد أرسله بشراً رسولاً، ليكون باعماله وحركاته كلها إماماً ومرشداً للبشر كافة، وفي احوالهم كافة، ليحقق لهم بها سعادة الدنيا والآخرة وليبيّن لهم خوارق الصنعة الربانية وتصرف القدرة الإلهية في الأمور المعتادة، تلك الامور التي هي بحد ذاتها معجزات.

فلو كان صلى الله عليه وسلم في جميع أفعاله خارقاً للعادة، خارجاً عن طور البشر، لما تسنّى له ان يكون أسوةً يُقتدى به، وما وَسِعه ان يكون بأفعاله وأحواله وأطواره إماماً للآخرين؛ لذا ما كان يلجأ الى اظهار المعجزات الاّ بين حين وآخر، عند الحاجة، اقراراً لنبوته أمام الكفار المعاندين. ولما كان الابتلاء والاختبار من مقتضيات التكليف الإلهي، فلم تعد المعجزة مُرغِمةً على التصديق - اي سواء أراد الانسان أم لم يرد - لأن سر الامتحان وحكمة التكليف يقتضيان معاً فتح مجال الاختيار أمام العقل من دون سلب الارادة منه. فلو ظهرت المعجزة ظهوراً بديهياً ملزماً للعقل كما هو شأن البديهيات لما بقي للعقل ثمة إختيار، ولصدَّق ابو جهل كما صدّق أبو بكر الصديق - رضى الله عنه ـ ولأنتفت الفائدة من التكليف والغاية من الامتحان، ولتساوى الفحم الخسيس مع الألماس النفيس!

بيد ان الذي يثير الدهشة والحيرة؛ انه في الوقت الذي آمن ألوف من أجناس مختلفة من الناس بمعجزة منه e أو بكلام منه أو بالنظر الى طلعته البهية، أو ما شابهها من دلائل صدق نبوته e ، وآمن به ألوف العلماء المدققين والمفكرين المحققين بما نُقِل اليهم من صدق أخباره وجميل آثاره نقلاً صحيحاً متواتراً، أقول: أفلا يدعو الى العجب ان يرى أشقياء هذا العصر جميع هذه الدلائل الواضحة كأنها غير وافية لايمانهم وتصديقهم فتراهم ينزلقون الى هاوية الضلال؟

l الاساس الثاني

ان الرسول الكريم e بشر، فهو يتعامل مع الناس انطلاقاً من بشريته هذه. وهو كذلك رسول، وبمقتضى الرسالة هو ناطق أمين باسم الله تعالى ومبلّغ صادق لأوامره سبحانه، فرسالته تستند الى حقيقة الوحي. والوحي قسمان:

الأول: الوحي الصريح كالقرآن الكريم وبعض الأحاديث القدسية. فالرسول e في هذا مبلّغ محض لا غير، من دون أن يكون له تصرف أو تدخل في شئ منه.

الثاني: الوحي الضمني، وهو الذي يستند في خلاصته ومُجمَله الى الوحي والالهام، الاّ انه في تفصيله وتصويره يعود الى الرسول صلى الله عليه وسلم. فتفصيل الحادثة الآتية مُجملةً من هذا الوحي وتصويرها إما يبينه الرسول e أحياناً استناداً الى الالهام أو الى الوحي، أو يبينه بفراسته الشخصية. وهذه التفاصيل التي يبينها الرسول صلى الله عليه وسلم باجتهاده الذاتي. اما أنه يبينها بما يتمتع به من قوة قدسية عليا، بمقتضى الرسالة، أو يبينها بخصائصه البشرية وبمستوى عرف الناس وعاداتهم وافكارهم.

وهكذا لا يُنظر الى جميع تفاصيل كل حديث شريف بمنظار الوحي المحض. ولا يُتحرى عن الآثار السامية للرسالة في معاملاته e وافكاره التي تجري بمقتضيات البشرية.

وحيث أن بعض الحوادث يوحى اليه وحياً مجملاً ومطلقاً وهو بدوره يصوّره بفراسته الشخصية أو حسب نظر العرف العام، لذا يلزم أحياناً التفسير وربما التعبير لهذه المتشابهات والمشكلات التي ينطوي عليها ذلك التصوير. مثال ذلك:

سمع الناس - ذات مرة - وهم جلوس عند الرسول صلى الله عليه وسلم دوياً هائلاً فقال الرسول e موضحاً الحدث: ((ان هذا صوت حجر ظل يتدحرج سبعين عاماً حتى وصل الآن الى قعر جهنم))(1)... ولم تمض ساعة حتى جاء الجواب، اذ أتى أحدهم يقول: ان المنافق المشهور الذي ناهز السبعين من عمره قد مات وولّى الى جهنم وبئس المصير، فكان هذا تأويلاً للتشبيه البليغ الذي ذكره الرسول e .

l الاساس الثالث

ان الآثار المنقولة إن كانت متواترة فهي قطعية الثبوت وتفيد اليقين. والتواتر قسمان:

الأول: التواتر الصريح، أو التواتر اللفظي.

الثاني: التواتر المعنوي وهذا قسمان:

الأول: سكوتي؛ أي ابداء الرضا بالسكوت عنه. مثال ذلك:

لو أخبر شخصٌ جماعته عن حادثة وقعت أمامهم ولم يكذّبوه في خبره بل قابلوه بالسكوت، فان ذلك يعني قبولهم لوقوعها، ولاسيما اذا كانت الحادثة المروية ذات علاقة بالجماعة، والجماعة مستعدة للانتقاد والرد والتجريح، وممن لا يقبلون بالخطأ أصلاً، بل يرون الكذب أمراً قبيحاً بشعاً، فان سكوتهم عنها يدل على وقوع تلك الحادثة دلالة قاطعة.

القسم الثاني من التواتر المعنوي: هو اتفاقهم على القدر المشترك بين أخبارهم وان كانت الروايات متنوعة. مثال ذلك:

اذا قيل ان أوقية من الطعام أشبعت مائتي رجل. فالذين حدّثوا بهذا يروونه في صور متنوعة وبعبارات مختلفة متباينة. فهذا ذكر مائة رجل وذاك ثلاثمائة رجل والآخر أوقيتين من الطعام وهكذا. فترى ان الجميع متفقون على وقوع الحادثة، وهو ان الطعام القليل أشبع أناساً كثيرين. فالحادثة اذن بشكلها المطلق متواترة معنىً، وهي تفيد اليقين، ولا تضرّ بها صور الاختلاف. وفي بعض الاحيان يفيد خبر الآحاد ضمن بعض الشروط حكم القطعي كقطعية التواتر، وقد يفيد القطعية احياناً تحت امارات خارجية.

وهكذا، فالقسم الأعظم مما نقل الينا من دلائل النبوة ومعجزات الرسول e هو: بالتواتر الصريح أو المعنوي أو السكوتي، وقسم منها بخبر الآحاد، الاّ انه ضمن شروط معينة ممحّصة اُخذ وقُبل من قبل أئمة الجرح والتعديل من أهل الحديث النبوي فاصبحت دلالته قطعية كالتواتر. ولاشك اذا ما قبل بصحة خبر الآحاد محدِّثون محققون من أصحاب الصحاح الستة وفي مقدمتهم البخاري ومسلم وهم الحفاظ الجهابذة الذين كانوا يحفظون ما لا يقل عن مائة ألف حديث، واذا ما رضى به ألوف من الأئمة العلماء المتقين، ممن يصلون صلاة الفجر بوضوء العشاء زهاء خمسين سنة من عمرهم. أقول: اذا ما قَبِل هؤلاء بصحة خبر الآحاد، فلا ريب اذاً في قطعيته ولا يقلّ حكمُه عن التواتر نفسه.

نعم، ان علماء علم الحديث ونقّاده قد تخصصوا في هذا الفن الى درجة انهم اكتسبوا مَلَكَةً في معرفة سمو كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وبلاغة تعابيره، وطراز افادته، فاصبحوا قادرين على تمييزه عن غيره، بحيث لو رأوا حديثاً موضوعاً بين مائةٍ من الأحاديث لرفضوه قائلين: هذا موضوع!. هذا لا يمكن ان يكون حديثاً شريفاً! فقد أصبحوا كالصيارفة الـبـارعين الأصـلاء يـعرفون جوهـر الحديث النــبوي من الدخيل فيه.

بيد ان قسماً من المحققين قد أفرط في نقد الحديث كابن الجوزي الذي حكم على أحاديث صحيحة بالوضع(1). علماً أن ((الموضوع)) يعني: ان هذا الكلام ليس بكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يعني انه باطل وكلام فاسد.

سؤال: ما فائدة السند الطويل: عن فلان.. عن فلان.. عن فلان.. حيث لا جدوى من ذكرهم في حادثة معلومة؟.

الجواب: فوائده كثيرة، اذ ان ذكر هذا السند الطويل يبين نوعاً من الاجماع فيمن هم في السند من الموثوقين الصادقين من الرواة الذين يعتّد بهم، فيظهر لنا نوعاً من الأتصال والاتفاق لأهل العلم المحققين في ذلك السند، فكأنما كلّ أمامٍ وعلامة في السند يوقّع على حكم ذلك الحديث الشريف ويختم على صحته بختمه.

سؤال: لماذا لم تُنقل ((المعجزات)) باهتمام بالغ مثلما نُقلَت الأحكام الشرعية الضرورية الأخرى نقلاً متواتراً وبطرق متعددة؟.

الجواب: لأن معظم الناس في أغلب الأوقات محتاجون حاجة ماسة الى الاحكام الشرعية، فهي ((كفروض عين)) لهم، لما لها من علاقة بكل شخص. بينما المعجزات لا يحتاجها كل انسان كل حين. حتى لو فرضنا الحاجة اليها، فيكفي سماعها مرة واحدة، فهي ((كفروض كفاية)) اذ يكفي ان يعلم بها عادةً قسمٌ من الناس.

ولهذا السبب قد يحدث ان نرى وقوع أحدى المعجزات ثابتاً بقطعيةٍ أقوى من قطعية ثبوت حكم شرعي أضعافاً مضاعفة، الاّ ان راويها شخص واحد أو شخصان، بينما يكون عدد رواة ذلك الحكم الشرعي عشرة أو عشرين.

l الاساس الرابع

ان قسماً من حوادث المستقبل الذي أخبر عنه الرسول e هو حوادث كليّة، تتكرر في أوقات مختلفة، وليس بحادثة جزئية مفردة. فالرسول صلى الله عليه وسلم قد يُخبر عن تلك الحادثة الكلية بصورة جزئية مبيناً بعض حالاتها، حيث ان لمثل هذه الحادثة الكلية وجوهاً كثيرة، فيبين صلى الله عليه وسلم في كل مرة وجهاً من وجوهها. ولكن لدى جمع هذه الوجوه من قبل راوي الحديث في موضع واحد، يبدو هناك ما يشبه الخلاف للواقع. مثال ذلك:

هناك روايات مختلقة حول ((المهدي)) تتباين فيها التفاصيل والتصويرات. وقد أخبر الرسول e عن ظهور المهدي مستنداً الى الوحي، ليصون قوة أهل الأيمان المعنوية في كل عصر، وليحول دون سقوطهم في اليأس والقنوط ازاء ما يرونه من حوادث مهولة، وليربط الأمة ربطاً معنوياً بالسلسلة النورانية لآل البيت. وقد أثبتنا ذلك في أحد اغصان الكلمة الرابعة والعشرين. ومن هنا ترى أن كل عصر من العصور قد وجد نوعاً من ((المهدي)) من آل البيت كالذي يظهر في آخر الزمان، بل مهديين، حتى وجد في المهدي العباسي - الذي يعدّ من آل البيت - كثيراً من أوصاف ذلك المهدي الكبير.

وهكذا، فاوصاف الذين يسبقون المهدي الكبير ممن يمثّلونه في عهودهم - كالخلفاء المهديين والأقطاب المهديين - اختلطت وتداخلت مع أوصاف ذلك المهدي الكبير. فوقع الاختلاف في الروايات(1).

l الاساس الخامس

لم يكن الرسول الأعظم e يعلم الغيب ما لم يُعلّمه الله سبحانه، اذ لا يعلم الغيب الاّ الله فهو e يبلغ الناس ما علـّمه الله اياه. وحيث ان الله حكيم ورحيم، فحكمته ورحمته تقتضيان ستر أغلب الأمور الغيبية وابقاءها في طي الخفاء والابهام، لأن ما لا يسرّ الانسان من حوادث في هذه الدنيا هو اكثر مما يسره، فمعرفته تلك الحوادث قبل وقوعها أليم جداً.

فلأجل هذه الحكمة ظل الموت والأجل مبهَمَين مستورين عن علم الانسان، وبقي ما سيصيب الانسان من مصائب ونكبات محجوباً في ثنايا الغيب، فكان من مقتضى هذه الحكمة الربانية والرحمة الإلهية الاّ يُطلع سبحانه نبيَّه e اطلاعاً كلياً ومفصلاً على ما سيلقاه آلُه وصحبه وامته من بعده من حوادث مؤلمة ومصائب مفجعة، بل أخبره سبحانه عن بعضٍ من الحوادث المهمة - بناء على حِكَم معينة - إخباراً غير مفجع، رفقاً بما يحمله من رحمة عظيمة ورأفة شديدة نحو أمته وتجاه آله واصحابه. كما انه سبحانه قد بشّره بحوادث مفرحة أيضاً بشارةً مجملة لبعضها ومفصلةً للاخرى(1) فأخبر e أمته بما علّمه ربُّه ونقله المحدّثون الصادقون العدول بروايات صحيحة الينا، اولئك الذين كانوا أشد تقوى وخشية من ان يصيبهم الزجر المخيف في قوله e : ((مَن كَذب عليَّ مُتعمـّداً فَلْيَتبوأ مَقعدَه من النار))(2) والذين كانوا يهربون خوفاً من ان تنالهم الآية الكريمة: } فَمَنْ أظْلمُ ممّن كَذَبَ على الله{ (الزمر:32).



l الاساس السادس

ان احوال الرسول e واوصافه قد بُيّنت على شكل سيرة وتاريخ. الا ان اغلب تلك الاحوال والاوصاف تعكس بشريته فحسب، اذ ان الشخصية المعنوية لتلك الذات النبوية المباركة رفيعة جداً وماهيته المقدسة نورانية الى حدّ لا يرقى ما ذُكر في التاريخ والسيرة من اوصاف واحوال الى ذلك المقام السامي والدرجة الرفيعة العالية، لأنه e في ضوء قاعدة ((السبب كالفاعل)) تضاف يومياً - حتى الآن - الى صحيفة كمالاته عبادةٌ عظيمة بقدر عبادات امته بأكملها. وكماينال باستعداد غير متناه نفحات الرحمة الإلهية غير المتناهية بشكل غير متناهٍ وبقدرة غير متناهية، كذلك ينال يومياً دعاءً غير محدود ممن لا تحد من امته.

هذا النبي المبارك e الذي هو انبل نتائج الكائنات واكمل ثمراتها والمبلّغ عن خالق الكون، وحبيب رب العالمين، لا تبلغ احوالُه واطوارهُ البشرية التي ذكرَتْها كتب السيرة والتاريخ الاحاطة بماهيته الكاملة ولا تصل الى حقيقة كمالاته. فأنّى لهذه الشخصية المباركة الذي كان كلُّ من جبرائيل وميكائيل مرافقين امينين(1) له في غزوة بدر ان تنحصر في حالة ظاهرية أو ان تظهرها بجلاء حادثة بشرية كالتي وقعت مع صاحب الفرس الذي ابتاع e الفرس منه ولكنه أنكر هذا البيع وطلب من الرسول الكريم شاهداً يصدّقه فتقدم الصحابي الجليل ((خزيمة)) بالشهادة له(2).

فلئلا يقع أحدٌ في غائلة الخطأ يلزم من يسمع اوصافه e البشرية الاعتيادية ان يرفع بصره دوماً عالياً لينظر الى ماهيته الحقيقية، والى شخصيته المعنوية النورانية الشامخة في قمة مرتبة الرسالة، وإلاّ أساء الادب، ووقع في الشبهة والوهم.

ولإيضاح هذه المسألة تأمل في هذا المثال:

نواة للتمر وضعت تحت التراب فانفلقت عن نخلة مثمرة باسقة، وهي في توسع ونمو مطرد، أو بيضة للطاووس فقست عن فرخ الطاووس بعدما سلطت عليها الحرارة، وكلما نما وكبر اصبح اجمل وازهى، بما زيّن قلمُ القدرة على كل جهاته من نقوش بديعة رائعة.

فهناك صفات وحالات خاصة تعود لكل من تلك النواة ولتلك البيضة، ويحوي كل منهما مواد دقيقة لطيفة جداً. والنخلة والطاووس كذلك لهما صفات عالية وكيفيات واوضاع راقية بالنسبة لصفات البذرة والبـيضة. فعندما تُربط اوصاف النواة والبيضة بأوصاف النخل والطير وتُذكران معاً، يلزم ان يرفع العقل الانساني بصره عن النواة الى النخلة وينظر اليها، وان يتوجه من البيضة الى الطاووس ويمعن فيه، كي يقبل تلك الاوصاف التي يسمعها. وبخلافه ينساق الى التكذيب حين يسمع احدهم يقول: ((لقد اخذتُ طناً من التمر من حفنة من النوى، او هذه البيضة هي سلطان الطيور)).

وهكذا فان بشرية الرسول الاكرم e تشبه تلك النواة أو البيضة ((في المثال)) وماهيته المشعة بمهمة الرسالة مثلُها كمثل شجرة طوبى الجنة وطير الجنة في سمو ورقي.

لذا في الوقت الذي نفكر في النزاع الذي حصل في السوق مع البدوي، يلزم ان نرفع عين الخيال عالياً ونتصور الذات النورانية الممتطية الرفرف ((البُراق)) والمنطلقة سعياً الى قاب قوسين أو أدنى، تاركة خلفها جبريل عليه السلام. وإلاّ فان النفس الامارة بالسوء إما ستسئ الادب وتنحط الى درك قلة التوقير والاحترام، أو تزل قدماها الى عدم التصديق.

الاشارة البليغة الخامسة

وهي تخص الحوادث المتعلقة بامور غيبية، نذكر منها بضعة أمثلة:

المثال الاول:

T قال رسول الله e في خطبةٍ بين جمع من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، ونقل الينا الحديث نقلاً صحيحاً ومتواتراً: ((ان إبني هذا سَيّدٌ ولَعلّ الله انْ يُصلحَ به بين فِئَتين من المسلمين))(1) وفي رواية ((عظيمتين)). وبعد مرور أربعين سنة التقى جيشان عظيمان للمسلمين، فصالح الحسنُ معاوية رضى الله عنهما، وصدَّق بهذا الصلح المعجزةَ الغيبية لجدِّه الأمجد e .

المثال الثاني:

T ثبت بنقل صحيح انه e قال لعلي رضى الله عنه:ستقاتل الناكثين(2) والقاسطين والمارقين(3). فأخبر عن وقعة الجمل وصفين وعن الخوارج.

T وقال e للزبير: ((لتقاتلُنَّه وانتَ ظالمٌ له))(4) عندما رآه وعلياً يتحابّان.





T وقال e لأزواجه الطاهرات: ((كيف بأحداكن تنبح عليها كلاب الحوأب))(1) ((يُقتَل عن يمينها وعن يسارها قتلى كثيرة..))(2).

وبعد ثلاثين سنة تحققت هذه الأحاديث الصحيحة فعلاً، وذلك في وقعة الجمل التي جرت بين عليّ وعائشة ومعها الطلحة والزبير رضي الله عنهم أجمعين، كما تحققت في وقعة صفين التي جرت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، وقد تحققت في وقعة حروراء ونهروان التي كانت بين عليّ رضي الله عنه والخوارج.

T وأخبر e علياً عن الذي يقتله فقال: ((الذي يضربك يا عليّ على هذه حتى تبلّ منها هذه))(3) اي تبلّ لحيته من دم رأسهِ وكان عليّ يعرفه، وهو عبدالرحمن بن ملجم الخارجي.

T وأخبر كذلك عن ذي الثُدية بعلامة فارقة فيه، انه سيكون بين قتلى الخوارج وفعلاً كان ذو الثدية فيهم وهو ((رجل أسود أحدى عضدية مثل ثدي المرأة)) فجعله عليٌّ حجةً على انه المُحِقُّ، وأعلن عن معجزة الرسول الاكرم e .(4)

T وأخبر e برواية صحيحة عن أم سلمة وغيرها: ان الحسين يُقتَل بالطَّفْ(1) أي في كربلاء. وبعد خمسين سنة وقعت تلك الفاجعة الأليمة، فصدّقت ذلك الاخبار الغيبي.

T وأخبر e : ((ان أهل بيتي سيلقون بعدي من أمتي قتلاً وتشريداً))(2)، فكان كما أخبر.

T T T

هنا يرد سؤال مهم:

يُقال: ان علياً رضي الله عنه كان أحرى بالخلافة وأولى بها، فهو ذو قرابة مع النبي e ، وذو شجاعة نادرة خارقة، وذو علم غزير.. فلماذا لم يُقدَّموه في الخلافة؟ ولماذا اضطربت أحوال المسلمين في عهده؟.

الجواب: لقد قال قطب عظيم من آل البيت: كان الرسول e قد تمنّى ان يكون عليّ هو الخليفة، ولكن اُعلِم من الغيب أن إرادة الله غير هذا، فتخلى عن رغبته تبعاً لما يريده الله سبحانه وتعالى.

وفيما يأتي حكمةٌ واحدة مما تنطوي عليه ارادة الله تعالى في هذا الأمر:

كان الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين أحوج الى الاتفاق والاتحاد بعدما ارتحل النبي e الى الرفيق الأعلى، فلو كان عليّ رضي الله عنه قد تولّى الخلافة، لكان هناك احتمال قوي ان تثير اطواره المتسمة بعدم مسايرة الآخرين واستقلالية آرائه مع زهده الشديد وبسالته النادرة واستغنائه عن الناس فضلاً عن شجاعته الفائقة، فتحرِّك - هذه المزايا - عرق المنافسة لدى كثير من الأشخاص والقبائل، فتنجم الفرقة بين صفوف المسلمين، مثلما حدث في عهد خلافته من حوادث وفتن.

أما سبب تأخر خلافة عليّ رضي الله عنه فان احد أسبابه هو ما يأتي:

لقد هبّت أعاصير الفتن في أوساط أمة الاسلام التي تضم أقواماً متباينة في الفكر والتي يحمل كلٌّ منها بذور الفرقة الى ثلاث وسبعين فرقة - مثلما أخبر بذلك الرسول e (1) - فكان ينبغي وجود شخصية قوية فذة، مهيبة الجانب، ذات شجاعة فائقة وفراسة نافذة ونسب عريق أصيل من أهل البيت ومن بني هاشم، كي يَثْبُت أمام هذه الفتن. فمثل هذه الشخصية الفذة، كانت تتمثل في علّي رضي الله عنه، فثبت فعلاً أمام تلك الأعاصير الهوجاء.. ولقد أخبره الرسول e بذلك أنه سيحارب في سبيل تأويل القرآن كما حارب هو e في سبيل نزوله(2). ثم انه لولا علي رضي الله عنه لربما كانت سلطنة الدنيا تعصف بالأمويين وتفتنهم كلياً، وتزلّهم عن الصراط السوى، ولكن لأنهم كانوا يرون ازاءهم علياً وآل البيت، فقد حاولوا ان يبلغوا شأوهم ويوازوهم في مكانتهم لئلا يفقدوا منزلتهم في نظر الأمة، فاضطر أغلبُ رؤساء الدولة الأموية الى حضّ اتباعهم على القيام بحفظ حقائق الايمان ونشرها وصيانة أحكام القرآن والإسلام رغم أنهم لم يفعلوا شيئاً بأنفسهم، لذا نشأت في ظل دولتهم مئات الألوف من العلماء المحققين المجتهدين وائمة الحديث والأولياء الصالحين والأصفياء والعاملين، فلولا كمالات يتصف بها آل البيت وصلاحهم وولايتهم لله لزلّ الأمويون وابتعدوا كلياً عن طريق الصواب، كما آل اليه أمرهم في أواخر أيامهم، وكما حدث في أواخر أيام العباسيين.

واذا قيل:

لماذا لم تستقر الخلافة في آل البيت، علماً انهم كانوا أحق بها؟

الجواب: ان سلطنة الدنيا خدّاعة، بينما أهل البيت مكلفون بالحفاظ على حقائق الإسلام واحكام القرآن. وينبغي لمن يتسلم زمام الخلافة الاّ تغره الدنيا، كأن يكون معصوماً كالنبي، أو يكون عظيم التقوى عظيم الزهد كالخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز والمهدي العباسي لئلا يغتر. فسلطنة الدنيا لا تصلح لآل البيت، اذ تنسيهم وظيفَتهم الاساس؛ وهي المحافظة على الدين وخدمة الاسلام. وخلافة الدولة الفاطمية التي قامت باسم آل البيت في مصر، وحكومة الموحدين في أفريقيا، والدولة الصفوية في إيران، كل منها غدت حجة على ان سلطنة الدنيا لا تصلح لآل البيت. بينما نراهم متى ما تركوا السلطنة، فقد سعوا سعياً حثيثاً وبذلوا جهداً منقطع النظير في خدمة الإسلام ورفع راية القرآن.

فان شئت فتأمل في الأقطاب الذين أتوا من سلالة الحسن رضي الله عنه، ولا سيما الأقطاب الأربعة، وبخاصة الشيخ الكيلاني. وان شئت فتأمل في الأئمة الذين جاءوا من سلالة الحسين رضي الله عنه، ولا سيما زين العابدين وجعفر الصادق وأمثالهم..

فكلٌ من هؤلاء قد أصبح بمثابة مهدي معنوي، بدّدوا الظلم والظلمات المعنوية بنشرهم أنوار القرآن وحقائق الأيمان، واثبتوا حقاً أنهم وارثو جدهم الأمجد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

فان قيل: ما حكمة تلك الفتنة الدموية الرهيبة التي اصابت الأمة الاسلامية في عصر الراشدين وخير القرون، حيث لا يليق باولئك الابرار القهر ونزول المصائب وأين يكمن وجه الرحمة الإلهية فيها؟

الجواب: كما ان الأمطار الغزيرة المصحوبة بالعواصف في الربيع تثير كوامن قابليات كل طائفة من طوائف النباتات وتكشفها فتنثر البذور وتطلق النوى، فتتفتح أزهارها الخاصة بها، ويتسلم كلٌّ منها مهمته الفطرية، كذلك الفتنة التي أبتلي بها الصحابةُ الكرام والتابعون رضوان الله عليهم أجمعين، أثارت بذور مواهبهم المختلفة، وحفّزت نوى قابلياتهم المتنوعة، فانذَرتْ كلَّ طائفةٍ منهم وأخافتهم من أن الخطر مُحدقٌ بالاسلام، وان النار ستنشب في صفوف المسلمين؛ مما جعل كلَّ طائفة تهرع الى حفظ الدين والذود عن حياض الإيمان، فأخذ كلٌ منهم على عهدته مهمةً من مهمات حفظ الايمان وجمع شمل الاسلام، كلٌ حسب قابليته، فانطلق بكل جدٍ واخلاص في هذا السبيل. فمنهم من قام بحفظ الحديث النبوي الشريف، ومنهم من قام بحفظ فقه الشريعة الغراء، ومنهم من قام بحفظ العقائد والحقائق الايمانية، ومنهم من قام بحفظ القرآن الكريم.. وهكذا انضوت كلُّ طائفة تحت مهمةٍ وواجب من الواجبات التي يفرضها حفظ الايمان وصيانة الأسلام، وسَعَتْ في سبيل اداء مهمتها سعياً حثيثاً، فتفتحت من البذور التي نشرتها تلك الأعاصير الهوجاء العنيفة في الارجاء، زهورٌ بهيجة بالوان زاهية شتى في عالم الاسلام، حتى غدا العالم الاسلامي رياضاً يانعة بالورود والرياحين. الاّ انه - للأسف - ظهرت بين تلك الرياض البديعة أشواكُ اهل البدع ايضاً. وكأن يد القدرة الإلهية قد خضَّتْ ذلك العصر بجلال وهيبة، وادارته بشدة وعنف، فأثارت الهمم وألهَبت المشاعر لدى أهل الهمة والغيرة، فبعثت تلك الحركة المنطلقة عن المركز؛ كثيراً من أئمة المجتهدين والمحدّثين والحفاظ والأصفياء والأقطاب الأولياء الى أنحاء العالم الأسلامي وألجأتهم الى الهجرة. وهيّجت المسلمين شرقاً وغرباً وفتحت بصيرتهم ليغنموا من كنوز القرآن وخزائنه. والآن لنرجع الى ما نحن بصدده.

ان ما أخبر عنه الرسول e من امور الغيب ووقع فعلاً كما أخبر، يبلغ الألوف بل يزيد، الاّ اننا نشير الى امثلة منها فقط، تلك التي اتفق على صحتها أصحاب الكتب الستة الصحيحة، وفي مقدمتهم البخاري ومسلم، حتى ان كثيراً منها نقلت نقلاً متواتراً من حيث المعنى، واتفق العلماء وأهل التحقيق على صحة بعضها انه بمثابة التواتر الصريح.

T .. خرَّج أهلُ الصحيح والأئمة: ما أعلَمَ به e أصحابه مما وعدهم به من الظهور على أعدائه وفتح مكة(1) وبيت المقدس(2) واليمن والشام والعراق(3).. وتُفتح خيبر وأخبر(1) عن ((قسمَتِهم كنوز كسرى وقيصر))(2) أكبر دولتين في العالم في ذلك العهد. ثم أنه e حينما كان يخبر بهذا الخبر الغيبي لم يقل: أظن، أحسب، ربما.. وانما أخبر عن علم يقيني كأنه واقع يراه.. وقد وقع كما أخبر، علماً انه عندما أخبر بهذا الخبر كان مأموراً بالهجرة، واصحابه قليلون، والعالم كله ومَن حول المدينة أعداء يحدقون من كل جانب.

T وفي رواية صحيحة، أخبر الرسول e مراراً: ((اقتدوا باللذين من بعدي ابي بكر وعمر))(3) فأفاد بهذا ان ابا بكر وعمر سيعمران بعده، وسيكونان خليفتين، وسيؤديان الخلافة حقها كاملاً بما يرضي الله سبحانه ورسوله. ثم ان ابابكر سيتولى الخلافة لفترة قصيرة، بينما عمر سيتولاها لمدة أطول، فضلاً عن انه سيقوم بكثير من الفتوحات.

T وقال الرسول e : ((ان الله زوى ليَ الأرضَ فرأيت مشارقها ومغاربها وان أمتي سيبلُغ مُلكاً ما زوي لي منها))(4)، وكان كما قال.

T واخبر e قبل غزوة بدر - في رواية صحيحة(5) - عن مصارع الكفار في بدر وأشار الى محال قتلهم ومصارع رؤسائهم: هذا مصرع ابي جهل، هذا مصرع عتبة، وهذا مصرع أميّة، هذا مصرع فلان وفلان ((واعلم بانه سيقتل اُبي بن خلف))(6)، وكان كما أعلم.

T وثبت في الصحيح انه قال كمن يشاهد أصحابه وينظر اليهم في غزوة مؤتة، وهي على بُعدِ مسيرة شهر من حدود الشام: ((أخذ الرايةَ زيدٌ فأصيب ثم أخذ جعفر فأصيب ثم أخذ ابن رواحة فأصيب، وعيناه تذرفان.. حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم))(1)، وبعد مرور بضعة أسابيع عاد يعلى بن مُنبّه من ساحة المعركة، وقبل ان يخبر عما جرى هناك بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما دار في المعركة مفصلاً. فأقسم يعلى، وقال: ((والذي بعثك بالحق ما تركتَ من حديثهم حرفاً واحداً))(2).

T وفي رواية صحيحة انه e أخبر عن ان الخلافة بعده ثلاثون عاماً ثم تصير ملكاً عضوضاً(3)؛ ((وان هذا الامر بدأ نبوة ورحمة، ثم يكون رحمة وخلافة، ثم يكون ملكاً عضوضاً، ثم يكون عتواً وجبروتاً وفساداً في الأمة))(4)، فأخبر e عن مدة الخلافة الراشدة وهي؛ ثلاثون سنة، وتكمل هذه المدة بالأشهر الستة لخلافة الحسن رضي الله عنه، ثم تتعاقب السلطنة والجبروت وفساد الأمة، وفعلاً تحقق مثلما قال.

T وثبت برواية صحيحة ان سيدنا عثمان رضي الله عنه يُقتل وهو يقرأ المصحف(5)، وان الرسول e قد قال: ((ان الله عسى ان يلبسه قميصاً وانهم يريدون خلعه))(1) فكان كما قال.

T وفي رواية صحيحة أخرى أنه؛ عندما احتجم الرسول e شَرب عبد الله بن الزبير دمه الطاهر تبركاً، ولم يسكبه فقال له: ((ويلٌ للناس منك وويلٌ لك من الناس))(2) فأخبر بأن عبد الله سيتولى أمر الناس بشجاعة فائقة، وسيكون هدفاً لهجوم عنيف وستنزل بالناس بسببه نوائبٌ ومصائبٌ. وفعلاً وقع كما قال؛ حيث أعلن عبد الله بن الزبير الخلافة في مكة في عهد الأمويين وحاصره الحجاج بن يوسف الظالم بجيش عظيم في مكة، وبعد قتال عنيف وبسالة نادرة ومعارك دامية سقط شهيداً.

T وأخبر e ((بمُلك بني أمية))(3) أي بظهور الدولة الأموية ((وولاية معاوية، ووصّاه)) لما قال له: اذا ملكت فاسجح أو فأنصح(4) وأخبر عن ((اتخاذ بني أمية مال الله دولاً))(5) وسيكون ملوكها ورؤساؤها ظلمة، وسيظهر منهم أشخاص أمثال يزيد(6) والوليد.

T كما أخبر e عن ((خروج وَلد العباس بالرايات السُّود ومُلْكِهم أضعاف ما مَلكوا))(1) من ان الدولة العباسية ستظهر بعد الأمويين، وسيظلون في الحكم مدة أطول. وتحقق كل ذلك فعلاً كما أخبرe .

T وثبت في الصحيح أنه قال: ((ويلٌ للعرب من شرٍّ قد اقتَرب))(2) فأخبر بفتن جنكيزخان وهولاكو، وتدميرهم الدولة العباسية العربية، وقد تحقق فعلاً كما قالe .

T وقال لسعد بن أبي وقاص في رواية صحيحة، حينما كان في مرض شديد: ((لعلك تُخلـِّفُ حتى ينتَفعَ بكَ أقوامٌ، ويستضرَّ بك آخرون))(3) فأخبر e أنه سيكون قائداً عظيماً، وسيفتح الله بيده بلداناً وينتفع به أقوام كثيرة بدخولهم حظيرة الاسلام، ويتضرر به آخرون حيث تنقرض دولتهم. وقد كان كما قال؛ اذ أصبح سعد قائداً للجيش الأسلامي ودمّر دولة الفرس وصار سبباً في دخول كثير من الأقوام والملل في حوزة الأسلام.

T وثبت كذلك أنه e ((نعى النجاشي(4) في اليوم الذي مات فيه))، في السنة السابعة من الهجرة، وصلّى عليه، وبعد مرور اسبوع جاء الخبر بأنه توفي في اليوم الذي أخبر فيه الرسول e .

T وقال e : ((اُثبت فانما عليك نبي وصديق وشهيد))(5) عندما كان e مع

صفوة من الصحابة الكرام على جبل اُحد - أو على حراء(1) - واهتزّ الجبل من تحتهم، فأفاد أن عمر وعثمان وعلي سيستشهدون، فكان كما قال.



T T T



أيها الضعيف ويا من مات قلبه ويا أيها الشقي!.

لعلك تقول ان محمداً e كان عبقرياً، فعرف بعبقريته هذه الأمور الغيبية وتغمض عينك عن حقيقة النبوة الساطعة كالشمس!.

أيها المسكين! ان ما سمعتَه ليس الاّ جزء من خمسة عشر نوعاً من الأنواع الكلية لمعجزاته e وقد علمتَ انها جميعاً ثابتة بروايات صحيحة وبتواتر معنوي. وانت لم تسمع بعدُ الاّ نبذةً يسيرة مما يتعلق بالامور الغيبية.. أفبعد ما يسمع الانسان هذه المعجزات يقول لصاحبها: انه عبقري يكشف المستقبل بفراسته؟.

هب اننا قلنا مثلك: انه عبقري! أفيمكن ان تلتبس الرؤية على من يملك مئات الأضعاف من الذكاء المقدس والعبقرية السامية؟ وهل يمكن لمثل هذه الشخصية السامية ان تهبط من سموها الصادق فيخبر أخباراً عارية عن الصحة؟ أليس جنوناً وبلاهةً ما بعدها بلاهة الاعراضُ عما تخبر به هذه العبقرية الفذة حول سعادة الدارين!؟.

الاشارة البليغة السادسة

T ثبت انه e أخبر فاطمة: أنها ((أول أهله لحوقاً به))(1).. أي أول من يموت بعده e فيتبعه من أهل البيت. وبعد ستة أشهر وقع ما قال.

T وثبت أيضاً أنه e : ((اخبر أبا ذر رضي الله عنه بتطريده)) أي من المدينة المنورة ((وبعيشه وحده وبموته وحده))(2)، وبعد عشرين سنة وقع الأمر كما أخبر.

T وأيضاً انه e استيقظ من النوم في بيت أم حرام (خالة أنس بن مالك فتبسم قائلاً: ((ناسٌ من امتي عرضوا عليّ غزاةً في سبيل الله يركبون ثَبجَ هذا البحر(3) ملوكاً على الأسرَّة، فقالت: ادع يا رسول الله ان اكون معهم، فدعا لها))(4). وبعد أربعين سنة اصطحبت زوجها عُبادة بن الصامت لفتح قبرص وتوفيت هناك. وقبرها الآن هناك معروف يزار.

T وثبث انه e قال: ((ان في ثقيف كذّاباً ومُبيراً))(5) فاخبر عن المختار المشهور الذي إدّعى النبوة، وسفاك الدماء الحجاج الظالم الذي قتل مائة ألف نفس(1).

T وثبت ايضاً انه e قال: (( لتُفْتَحَنَّ القسطنطينية، فَلَنِعْمَ الأميرُ أميرها ولنعمَ الجيشُ ذلك الجيش))(2) فأفاد بهذا انه ستَفتح مدينة استانبول بيد المسلمين، وسيكون لمحمد الفاتح مرتبة عالية: ((نِعمَ الأمير)). وظهر الأمر كما قال.

T و ثبت كذلك أنه e قال: ((ان الدِّين لو كان منوطاً بالثريا لنالَه رجالٌ من أبناء فارس))(3) مشيراً الى الذين أنجبتهم بلاد فارس من العلماء والأولياء أمثال الأمام ابي حنيفة النعمان.

T وقال e أيضاً: ((عالمُ قريش يَملأ طباق الأرض علماً))(4)، مشيراً بذلك الى الامام الشافعي.

T وأخبر e : ((أن الأمة ستفترق الى ثلاث وسبعين فرقة وان الناجية منها أهل السنة والجماعة))(5).

T وقال e : ((القَدَرية مجوس هذه الأمة))(6)، مشيراً بذلك الى طائفة القدرية المنكرين للقَدر، والتي هي منقسمة الى شعب وفرق كثيرة.

T وكذا أخبر عن فرق كثيرة، اذ ثبت انه قال لعلي ما معناه: ان مثلك مثل عيسى عليه السلام، ستكون سبباً في هلاك فئتين من الناس: احداهما من فرط المحبة والاخرى من فرط العداوة(1). حيث افرط النصارى في حب عيسى عليه السلام حتى تجاوزوا الحد المشروع فيهلكون وقالوا: انه ابن الله ــ حاش لله ـ واليهود أيضاً أفرطوا في العداوة له فانكروا نبوته ومنزلته الرفيعة. وكذلك سيفرط فريق من الناس في الحب لك ويتعدّون الحدّ المشروع فيهلكون، اذ قال e في حقهم: ((لهم نبزٌ يُقال لهم الرافضة))(2)، وفريق آخر سيفرطون في العداء لك وهم (الخوارج وقسم من المغالين في موالاة الأمويين وهم (الناصبة ).

فان قيل:

ان القرآن الكريم يأمر بحب آل البيت، وقد حث النبي e على ذلك، فلربما يشكّل هذا الحب عذراً، حيث ان أهل الحب أهل انتشاء وسكر ـ أي ذاهلون ـ فَلِمَ لا تَنتفع الشّيعة ولا سيما الرّافضة من هذا الحب ولا ينقذهم من العذاب، بل نرى العكس من ذلك فانهم يدانون من فرط الحب كما أشار اليه الحديث الشريف؟!.

الجواب: ان الحب قسمان

أحدهما: حب (بالمعنى الحرفي) وهو حب عليّ والحسن والحسين وآل البيت محبة لله وللرسول وفي سبيلهما. فهذا الحب يزيد حب الرسول e ويكون وسيلة لحب الله عز وجل فهذا الحب مشروع، لا يضر افراطُه، لانه لا يتجاوز الحدود ولا يستدعي ذم الغير وعداوته.

وثانيهما: حب (بالمعنى الاسمي) وهو حبهم حباً ذاتياً، ولأجلهم، اي حب عليّ من أجل شجاعته وكماله، وحب الحسن والحسين من أجل فضائلهما ومزاياهما الكاملة فحسب، من غير تذكّر للنبي e ، حتى ان منهم من يحبهم ولو لم يعرف الله ورسوله. فهذا الحب لا يكون وسيلةً لحب الله ورسوله. واذا ما كان في هذا الحب افراط فانه سيفضي الى ذم الغير وعداوته.

وهكذا أفرط منهم ـ كما ذكر في الحديث الشريف ـ في الحب لعليّ وتبرأوا من أبي بكر وعمر، فوقعوا في خسارة عظيمة. فكان هذا الحب السلبي ـ غير الايجابي ـ سبباً لخسارتهم .

T ونقل نقلاً صحيحاً انه e حذّر الأمة من أنهم ((اذا مشوا المُطَيطاء(1) وخَدَمَتْهم بناتُ فارس والروم ردَّ الله بأسَهُم بينهم وسلّط شِرارَهم على خِيارِهم))(2). وبعد ثلاثين سنة وقع الأمر كما قال.

T وثبت كذلك انه e أعلَمَ أصحابه: ((بفتح خيبر على يَدي عليّ))(3). وفي غد يومه وقعت المعجزة النبوية ـ فوق ما كان يُتوقع ـ فأخذ عليّ باب القلعة بيده وجعله ترساً. ولما تم أمر الفتح رماه في الأرض، وكان الباب عظيماً، حتى انه لم يستطع ثمانية رجال ـ وفي رواية اربعون رجلاً ـ رفعه من الارض(4).

T وقال e : ((لا تقومُ الساعةُ حتى تَقتَتِلَ فئتان عظيمتان دعواهُما واحدة))(1) فأخبر عن الحرب التي وقعت في صفين بين عليّ ومعاوية رضي الله عنهما.

ومما أخبر به e : ((ان عماراً تَقتُلُه الفئةُ الباغية"))(2)، وبعد ذلك قُتل في حرب صفين. فاحتج علي به من ان الموالين لمعاوية هم الفئة الباغية، ولكن معاوية أوّل الحديث. وقال عمرو بن العاص: البغاة هم قاتلوه فقط، ولسنا جميعاً بغاة.

وقال e أيضاً: ((ان الفتنَ لا تَظهر ما دام عمر حياً))(3). فكان الأمر كما أخبر.

T ((ولما اُسِرَ سُهيل بن عمرو ـ قبل اسلامه ـ يوم بدر قال عمر: يا رسول الله انه رجل مفوّه فَدَْعني انتزع ثنيتيه السفليتين، فلا يقوم خطيباً عليك بعد اليوم))، فقال رسول الله e : ((وعسى ان يقومَ مقاماً يَسرُّك يا عمر))(4). فكان كذلك اذ حينما وقعت وفاة النبي e ، تلك الحادثة العظمى التي كلَّ الصبرُ فيها، قام أبو بكر الصديق رضى الله عنه مُعزّياً المسلمين في المدينة المنورة ومثبّتاً قلوبَ الصحابة فخطب فيهم خطبة بليغة. وقام سهيل أيضاً في مكة المكرمة يحذو حذو أبي بكر، فالقى خطبة شبيهة بخطبة أبي بكر، حتى ان كلمات الخطبتين تواردت على معنى واحد، الى حدٍ ما.

T وقال الرسول e لسُراقة: ((كيف بك اذا اُلبستَ سوارَيْ كسرى))(5) وفي عهد عمر رضي الله عنه سقطت دولة كسرى وجاءت زينة كسرى وحليه فألبسها عمرُ سراقةَ وقال: ((الحمد)) الذي سَلَبهما كِسرى والْبَسهما سُراقةَ(1) وصدّق ما أخبر به النبي e .

T وقال أيضاً e : ((اذا هَلكَ كسرى فلا كسرى بعدَه(2))) فكان الأمر كما أخبر.

T وأخبر e رسولَ كسرى: ((ان الله سلّط على كسرى ابنَه شهَرَوَيه فقَتَله في وقت كذا..))(3) فلما حقق ذلك الرسول وقتَ مقتل كسرى، ايقنَ ان قتلَه كان في نفس الوقت الذي أخبر عنه e فأسلم بسبب ذلك. واسمُ ذلك الرسول ((فيروز)) كما ورد في بعض الروايات

T وأخبر عن كتاب حاطب بن أبي بلتعة الذي أرسله سراً الى كفار قريش. فأرسلe علياً والمقداد رضي الله عنهما بأن في الموضع الفلاني جارية معها رسالة. فأتوني بها، فذهبا واتيا بالرسالة في المكان الذي وصفه الرسول e ، واستدعى حاطباً وقال له: ما الذي حَمَلك على هذا؟ فابدى عذره فقَبِل منه(4). وهذه رواية صحيحة ثابتة.

T وثبت أيضاً انه e قال في عتبة ابن أبي لهب: ((يأكله كلبُ الله))(5) فأخبر عن عاقبته المفجعة، وبعد مدة من الزمن ذهب عتبة متوجهاً نحو اليمن فجاءه سبع وأكله. فصدّق دعاءه عليه.

T ونقل نقلاً صحيحاً: ((ان الرسول e لما فتح مكة أمر بلالاً رضي الله عنه بأن يعلو ظهر الكعبة ويؤذن عليها. وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام وهم رؤساء قريش جلوس في فناء الكعبة. فقال عتاب: لقد أكرم الله أسيداً اذ لم ير هذا اليوم. وقال الحارث: أما وَجَد محمدٌ مؤذناً غير هذا الغراب الأسود!

فقال أبو سفيان: لا أقول شيئاً، ولو تكلمتُ لأخْبَرَتْه هذه الحصباء. فخرج عليهم النبي e وقال: لقد علمتُ الذي قلتُم وذكرَ مقالتهم.

فقال الحارث وعتاب: نشهدُ انكَ رسولُ الله، ما اطّلع على هذا أحدٌ كان معنا فنقول به))(1).

فيامن لا يؤمن بهذا النبي الكريم ويا أيها الملحد!

تأمل في هذين العنيدين من رؤساء قريش كيف رأيا نفسيهما مضطرَّين الى الايمان، بما سَمِعاه من أخبارٍ غيبي واحد. فما أفسد قلبك وانتَ تسمع ألوفَ المعجزات من امثالها وكلها ثابتة بطرق التواتر المعنوي ومع ذلك لا يطمئن قلبُك... فلنرجع الى الصدد.

T وثبت أيضاً انه e ((أخبر بالمال الذي تركه عمُّه العباس رضي الله عنه عند أم الفضل (زوجه) بعد أن كتمه))(2) ((فلما أسر ببدر وطُلبَ منه الفداء فقال: لا مال لي)). فقال له e : ما صنع المال الذي وضعتَه عند أم الفضل. فقال: ((ما عَلِمَه غيري وغيرُها. فأسلَمَ))(3).

T وثبت أيضاً: ان الساحر الخبيث لبيد اليهودي عمل سحراً ليؤذي النبي e فشدّ الشعر على مشط، ودسّه في بئر، فأمر الرسول الأكرم e علياً والصحابة؛ أن يذهبوا الى البئر الفلانية ويأتوا بأدوات السحر، فذهبوا وأتوا بها، وكان كلما انحلَّت منه عقدةٌ وَجَد الرسول e شيئاً من الخفة(4).

T وثبت أيضاً، ان الرسول الأكرم e قال لجماعة فيها أبو هريرة وحذيفة: ((ضرسُ احدكم في النار مثلُ اُحد))(1)، فأخبر عن ردّة واحدةمن تلك الجماعة وبيّن عاقبته الوخيمة. قال أبو هريرة: ((فذهب القوم ــ يعني ماتوا ــ وبقيتُ أنا ورجل، فقُتِل مرتداً يومَ اليَمامة))(2). وظهرت حقيقة خبر النبي e .

T وثبت أيضاً ((بقضية عُمَير مع صفوان حين سارَّه وشارَطَه على قتل النبي e )) مقابل مبلغٍ عظيمٍ من المال ((فلما جاء عُمير النبي e قاصداً لقتله، وأطْلَعَه رسول الله e على الأمر والسر ــ ووضع يده على صدره ــ أسلم))(3).

هذا وقد وقع كثيرٌ من أمثال هذه الأنباءات الغيبية الصادقة، وذكرتها كتب الصحاح الستة المعروفة مع أسانيدها. واغلب ما ذكر في هذه الرسالة من الحوادث انما هو في حكم المتواتر المعنوي، وهي قطعية الثبوت ويقينية، وقد نقلها البخاري ومسلم في صحيحَيهما اللذين هما أصح الكتب بعد القرآن الكريم، على ما هو عليه أهل العلم والتحقيق، علماً أنها بُيّنَت في كتب السنن الصحيحة الأخرى كالترمذي والنسائي وابي داود ومستدرك الحاكم ومسند أحمد بن حنبل ودلائل البيهقي مع اسانيدها.

فيا أيها الملحد الغافل! لا تلق الكلام جزافاً فتقول:

ان محمداً e رجل عاقل ذكي! ثم تَدع الامر هكذا وتنصرف، فهذه الاخبار الصادقة التي تمس الامور الغيبية لا تخلو من أمرين اثنين؛ اما انك تقول: ان هذا الرجل له نظرٌ ثاقب وعبقرية واسعة جداً، أي له عينٌ بصيرة ترى الماضي والمستقبل معاً والعالم أجمع، فيعلم بها كل شيء وكل حادث، فاقطار الارض والعالم كله شرقاً وغرباً تحت نظر شهوده، وله من الدهاء العظيم ما يمكنه ان يكشف جميع أمور الماضي والمستقبل.! فهذه الحالة لا يمكن كما ترى ان تكون في بشر قط. واذا ما وقعت في اي فردٍ فهو اذاً خارق للعادة وله موهبة رفيعة منحها له ربُّ العالمين.. وهذا الامر بحد ذاته معجزة عظمى.. أو ينبغي لك أن تؤمن بأن ذلك الشخص الكريم مأمور وتلميذ يتلقى الارشاد والتعليمات ممن يرى كل شئ، وله القدرة بالتصرف في كل شئ في الكون كله والازمان جميعاً، فكل شيء مكتوب في لوحه المحفوظ، يعلّم منه تلميذه ما شاء متى شاء. فثبت اذاً ان محمداً e يتلقى الدرسَ من معلمه الأزلي سبحانه ويبلّغه كذلك.

T وثبت ايضاً انه e حينما بعث خالداً بن الوليد ليحارب اكيدر ـ رئيس دومة الجندل(1) ـ قال له: ((انك سَتَجده يَصيد البَقَر))(2) ـ اي البقر الوحشي ـ وأخبره بأنه سيأتي به أسيراً من غير مقاومة منه. وذهب خالد ورآه كما وصفه الرسول الكريم e فأخذه أسيراً وأتى به.

T وثبت أيضاً انه e أعلم ((قريشاً بأكل الأرضة ما في صحيفتهم التي تظاهروا بها على بني هاشم وقطعوا بها رحمهم، وانها أبْقَت فيها كل اسمٍ لله، فوجدوها كما قال))(3)، وهي معلقة على الكعبة.

T وثبت أيضاً انه e أخبر عن ظهور الطاعون عند فتح بيت المقدس. ففي عهد عمر انتشر وباء الطاعون انتشاراً فظيعاً بحيث ان عدد الذين توفوا نتيجة الأمراض سبعون الف شخص خلال ثلاثة أيام(4).

T وثبت أيضا انه e أخبر عن وجود البصرة(1) وبغداد(2) قبل ان تعمُرا، وأخبر عن جبي خزائن الارض الى مدينة بغداد.

T وأخبرهم e عن ((قتالهم الترك))(3) والأمم التي حول بحر الخزر ثم بعد ذلك يدخل اكثر هؤلاء الامم في دين الاسلام، وسيحكمون العرب بينهم حيث قال: ((يوشَكُ ان يَكثُر فيكم العَجَم يأكلون فيئَكُم ويضربون رِقَابكم))(4).

T وقال e : ((هلاكُ أمتي على يدي اُغيلمةٍ من قريش))(5) فأخبر عن يزيد والوليد وأمثالهم من الرؤساء الأشرار في الأمويين.

T وأخبر e عن وقوع ردّة في بعض الاماكن كاليمامة(6).

T وقال في غزوة الخندق: ((ان قريشاً والأحزاب لا يغزونني أبداً وانا أغزوهم))(7) وكان الأمر كما أخبر.

T وثبت كذلك انه e أخبر قبل وفاته بشهرين: ((بأن عبداً خُيِّرَ فاختار ما عند الله))(8).

T وقال في حق زيد بن صوحان: ((يَسبقُهُ عضوٌ الى الجنة، فقُطعت يدهُ في الجهاد))(1) وأصبحت شهيدة، يوم نهاوند، فسبقته الى الجنة.



T T T



وهكذا فان جميع ما بحثناه من أمور الغيب انما هو نوع واحد فقط من بين عشرة أنواع من معجزاته e ، فنحن لم نعرف بعدُ عُشر معشار هذا النوع، وقد بينّا اجمالاً أربعة أنواع من الاخبار الغيبي في الكلمة الخامسة والعشرين الخاصة باعجاز القرآن.

فتأمل الآن في هذا النوع، وضمّه الى الانواع الاربعة الاخرى التي أخبر عنهاe بلسان القرآن، وانظر كيف يشكل برهاناً قاطعاً لامعاً على الرسالة بحيث يذعن مَن لم يختل عقلُه وقلبُه ويصدّق بأن هذا النبي الكريم e انما هو رسول يخبر عن الغيب من لدن خالق كل شئ وعلام الغيوب.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-03-2011
  #20
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: المكتوبات

المكتوب التاسع عشر

تبيّن هذه الرسالة اكثر من ثلاثمائة معجزة من معجزات الرسول الاكرم e الدالة على صدق رسالته، وهي في الوقت الذي تبيّنها تعلن عن نفسها ايضاً بأنها كرامة من كرامات تلك المعجزات، وعطية من عطياتها، فاصبحت هي بذاتها خارقة واضحة باكثر من ثلاثة وجوه:

الاول: ان تأليفها حَدَثٌ خارق بلا شك، حيث اُلـّفت من دون مراجعة لمصدر، اعتماداً على الذاكرة فقط رغم ما تشتمل عليه من روايات للاحاديث الشريفة في أكثر من مائة صحيفة. علاوة على أنها كُتبت في زوايا الجبال وبواطن الوديان والبساتين، خلال ما يقرب من اربعة ايام وبمعدل ثلاث ساعات يومياً، أي في اثنتي عشرة ساعة!.

الثاني: ان مستنسخها لا يملّ من استنساخها مهما استنسخ منها، ومداومة القراءة فيها لا تُذهب بحلاوتها رغم طولها؛ لذا فقد اثارت همم الكسالى من المستنسخين، فكتبوا - حوالينا - ما يقارب السبعين نسخة، خلال سنة واحدة، في هذا الوقت العصيب، مما اعطى للمطلعين على ظروفنا قناعة كافية بأن هذه الرسالة هي واحدةٌ من كرامات تلك المعجزات.

الثالث: ان كلمة ((الرسول الاكرم)) e في الرسالة كلها، ولفظ ((القرآن الكريم)) في القطعة الخامسة منها، قد توافقت عند أحد المستنسخين دون أن يكون له علم بالتوافق، وحصل التوافق نفسه لدى المستنسخين الثمانية الآخرين دون ان يلتقى هؤلاء بعضهم ببعض وقبل ان ينكشف التوافق المذكور حتى بالنسبة لنا. فمن كان على شئ من الانصاف لا يحمل هذا على المصادفة البتة، بل حَكَم كلُ مَن اطلع عليه أن هذا سرٌ من اسرار الغيب، وان الرسالة كرامة من كرامات المعجزة الأحمدية على صاحبها افضل الصلاة والسلام.

هذا وان الاسس التي تتصدر الرسالة مهمة جداً، وان الاحاديث الواردة فيها فضلاً عن كونها صحيحة ومقبولة لدى ائمة الحديث، فهي تبين الاكثر ثبوتاً وقطعية من الروايات.

فلو اردنا تبيان مزايا هذه الرسالة لاحتجنا الى رسالة اخرى مثلها، لذا نهيب بالمشتاقين اليها قراءتها ولو مرة واحدة كي يلمسوا بأنفسهم تلك المزايا.

سعيد النورسي

تنبيه

لقد أوردتُ احاديث شريفة كثيرة في هذه الرسالة، ولم يكن لديّ شئ من كتب الحديث، فإن أخطأت في لفظ الاحاديث الواردة فليُصحح أو ليُحمل على الرواية بالمعنى، اذ القول الراجح: انه تجوز رواية الحديث الشريف بمعناه، اي أن يذكر الراوي معنى الحديث بلفظٍ من عنده، فما وجد في هذه الرسالة من اخطاء في الالفاظ، فلينظر اليها باعتبارها ((رواية بالمعنى)).Y

سعيد النورسي

المعجزات الأحمدية

على صاحبها افضل الصلاة وأتم التسليم

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{

بسم الله الرحمن الرحيم

} هو الذي ارسل رسولَه بالهُدى ودين الحق ليُظهره على الدين كلّه وكفى بالله شهيداً ` محمدٌ رسولُ الله والذين معه اشداءُ على الكفار رحماءُ بينهم تريهم ركّعاً سُجّداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السُجود ذلك مَثَلُهم في التوراة ومثلهم في الانجيل كزرع أخرجَ شطئَه فازره فاستغلظ فاستوى على سوقه يُعجبُ الزرّاع ليغيظ بهم الكفارَ وعَد الله الذين آمَنُوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة ًواجراً عظيماً{ (الفتح: 28ــ 29)



[نظراً لقيام الكلمتين التاسعة عشرة والحادية والثلاثين الخاصتين بالرسالة الاحمدية اثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بدلائل قاطعة، نحيل اليهما قضية الاثبات ونبيّن هنا – تتمةً لهما – لمعاتٍ من تلك الحقيقة الكبرى ضمن ((تسع عشرة اشارة بليغة ذات مغزى))].





الاشارة البليغة الاولى

لا ريب ان مالك هذا الكون وربّه يخلق ما يخلق عن علمٍ ويتصرف في شؤونه عن حكمة، ويدير كل جهة عن رؤية ومشاهدة، ويربي كل شئ عن علم وبصيرة، ويدبّر الأمر قاصداً اظهار الحِكمَ والغايات والمصالح التي تتراءى من كل شئ.

فما دام الخالق يعلم، فالعالِمُ يتكلم. وحيث انه سيتكلم، فسيكون كلامه حتماً مع مَن يفهمه من ذوي الشعور والفكر والادراك، بل مع الانسان الذي هو افضل انواع ذوي المشاعر والفهم وأجمعهم لتلك الصفات. ومادام كلامه سيكون مع نوع الانسان، فسيتكلم، اذاً مع مَن هو أهل للخطاب من الكاملين من بني الانسان الذين يملكون أعلى استعداد وأرفع أخلاق والذين هم أهلٌ لأن يكونوا قدوة للجنس البشري وأئمة له. فلا ريب انه سيتكلم مع محمد صلى الله عليه وسلم الذي شهد بحقه الاولياء والخصماء بأنه صاحب أسمى أخلاق وأفضل استعداد، والذي اقتدى به خُمس العالم، وانضم تحت لوائه المعنوي نصف الارض، واستضاء المستقبل بالنور الذي بُعث به طوال ثلاثة عشر قرناً من الزمان، والذي يصلّي عليه أهل الايمان والنورانيون من الناس دوماً ويدعون له بالرحمة والسعادة والثناء والحب، ويجددون معه البيعة خمس مرات يومياً وقد تكلم معه فعلاً. وسيجعله رسوله حتماً وقد جعله فعلاً. وسيجعله قدوة وإماماً للناس كافة وقد جعله فعلاً.





الاشارة البليغة الثانية

لقد اعلن الرسول الكريم e النبوة، وقدّم برهاناً عليها، وهو القرآن الكريم، واظهر نحو الفٍ من المعجزات الباهرة، كما هو ثابت لدى اهل التحقيق من العلماء(1). هذه المعجزات بمجموعها الكلي ثابتة قطعية كقطعية ثبوت دعوى النبوة، حتى ان اسناد المعجزات الى السحر الذي يورده القرآن الكريم في مواضع كثيرة على لسان الكفار الألداء ليشير الى انهم لم ينكروا وقوع المعجزات ولم يسعهم ذلك، وانما اسندوها الى السحر خداعاً لأنفسهم وتغريراً باتباعهم.

نعم، أن للمعجزات الأحمدية قطعية تامة تبلغ قوة مائة تواتر، فلا سبيل الى انكارها قط.

والمعجزة بحد ذاتها تصديقٌ من رب العالمين لدعوى رسوله الكريم، أي كأن المعجزة تقوم مقام قول الله: صدق عبدي فأطيعوه.

مثال للتوضيح:

لو كنتَ في حضرة سلطان أو في ديوانه، وقلتَ لمن حولك: لقد عينني السلطان عاملاً في الأمر الفلاني، وحينما طلبوا منك دليلاً على ادعائك أومأ السلطان بنفسه: أنْ نعم، اني جعلته عاملاً. ألا يكون ذلك شهادة صدق لك؟. فكيف اذا خرق السلطان - لأجلك - عاداته وبدّل قوانينه لرجاء منك؟ أفلا يكون ذلك تصديقاً أقوى لدعواك وأثبت من قول: نعم؟

وكذلك كانت دعوى الرسول e ، اذ قال: انني رسول من رب العالمين. وأما دليلي فهو انه سبحانه يبدّل قوانينه المعتادة بالتجائي ودعائي وتوسلي اليه. وهاكم انظروا الى أصابعي، انه يفجّر منها الماء كما يتفجّر من خمس عيون.. وانظروا الى القمر، انه يشقّه لي شقين باشارة من اصبعي.. وانظروا الى تلك الشجرة كيف تأتي اليّ لتصدقني وتشهد لي.. وانظروا الى هذه الحفنة من الطعام كيف انها تُشبع مائتين أو ثلاثمائة رجلٍ! وهكذا أظهر صلى الله عليه وسلم مئات من المعجزات أمثال هذه.

واعلم، ان دلائل صدق الرسول e وبراهين نبوته لا تنحصر في معجزاته، بل يرى المدققون ان جميع حركاته وافعاله وأحواله وأقواله وأخلاقه وأطواره وسيرته وصورته، كل ذلك يثبت اخلاصَه وصدقَه. حتى آمن به كثير من علماء بني اسرائيل بمجرد النظر الى طلعته البهية، أمثال: عبد الله بن سلام الذي قال: ((فلما اسْتَبنتُ وجهَهُ عرفتُ ان وجهه ليس بوجه كاذب))(1).

وعلى الرغم من ان العلماء المحققين قد ذكروا ما يقارب الألف من دلائل نبوته ومعجزاته فان هناك ألوفاً منها، بل مئات الألوف. ولقد صدّق بنبوته مئات الألوف من الناس المتباينين في الفكر بمئات الألوف من الطرق. والقرآن الكريم وحده يظهر ألفاً من البراهين على نبوته e ، عدا اعجازه البالغ أربعين وجهاً.

ولما كانت النبوة محققة وثابتة في الجنس البشري، وان مئات الألوف(1) من البشر جاءوا فاعلنوا النبوة، وقدّموا المعجزات برهاناً وتأييداً لها، فلا شك ان نبوة محمد e تكون اثبت واكد من الجميع، لأن مدار نبوة الانبياء وكيفية معاملاتهم مع اممهم والدلائل والمزايا والأوضاع التي دلت على نبوة عامة الرسل أمثال موسى وعيسى عليهما السلام توجد بأتم صورها وأفضل معانيها لدى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. وحيث ان علة حكم النبوة وسببها أكمل وجوداً في ذاته e ، فان حكم النبوة لا محالة ثابت له بقطعية اوضح من سائر الانبياء عليهم السلام.

الاشارة البليغة الثالثة

ان معجزات الرسول e كثيرة جداً ومتنوعة جداً، وذلك لأن رسالته عامة وشاملة لجميع الكائنات؛ لذا فله في أغلب أنواع الكائنات معجزات تشهد له، ولنوضح ذلك بمثال:

لو قَدِم سفير كريم من لدن سلطان عظيم لزيارة مدينة عامرة بأقوام شتى، حاملاً لهم هدايا ثمينة متنوعة، فان كل طائفة منهم ستُوفد في هذه الحال ممثلاً عنها لاستقباله بأسمها والترحيب به بلسانها.

كذلك لما شرَّف العالَم السفيُر الأعظم صلى الله عليه وسلم لملك الأزل والأبد، ونوَّره بقدومه، مبعوثاً من لدن رب العالمين الى أهل الأرض جميعاً، حاملاً معه هدايا معنوية وحقائق نيّرة تتعلق بحقائق الكائنات كلها، جاءه من كل طائفة مَن يرحب بمقدمه ويهنؤه بلسانه الخاص، ويقدِّم بين يديه معجزة طائفته تصديقاً بنبوته، وترحيباً بها، ابتداء من الحجر والماء والشجر والانسان، وانتهاء بالقمر والشمس والنجوم، فكأن كلاً منها يردد بلسان الحال: أهلاً ومرحباً بمبعثك.

ان بحث تلك المعجزات كلها يحتاج الى مجلدات لكثرتها وتنوعها، وقد ألّف العلماء الأصفياء مجلدات ضخمة حول تفاصيل دلائل النبوة والمعجزات، إلاّ أننا هنا نكتفي باشارات مجملة الى ما هو قطعي الثبوت والمتواتر معنىً من الأنواع الكلية لتلك المعجزات.

ان دلائل نبوة الرسول e قسمان:

الأول: الحالات التي سُميت بالأرهاصات، وهي الحوادث الخارقة التي وقعت قبل النبوة ووقت الولادة.

الثاني: دلائل النبوة الاخرى وهذا ينقسم الى قسمين:

أحدهما: الخوارق التي ظهرت بعده صلى الله عليه وسلم تصديقاً لنبوته.

ثانيهما: الخوارق التي ظهرت في فترة حياته المباركة e . وهذا ايضاً قسمان:

الأول: ما ظهر من دلائل النبوة في شخصه وسيرته وصورته وأخلاقه وكمال عقله.

الثاني: ما ظهر منها في أمور خارجة عن ذاته الشريفة، أي في الآفاق والكون. وهذا أيضاً قسمان:

قسم معنوي وقرآني. وقسم مادي وكوني. وهذا الأخير قسمان أيضاً:

القسم الأول: المعجزات التي ظهرت خلال فترة الدعوة النبوية، وهي إما لكسر عناد الكفار أو لتقوية أيمان المؤمنين؛ كانشقاق القمر، ونبعان الماء من بين أصابعه الشريفة، وإشباع الكثيرين بطعام قليل، وتكلم الحيوان والشجر والحجر.. وأمثالها من المعجزات التي تبلغ عشرين نوعاً، كل نوع منها بدرجة المتواتر المعنوي، ولكل نوع منها نماذج عدة مكررة.

القسم الثاني: الحوادث التي أخبر عنها صلى الله عليه وسلم قبل وقوعها - بما علّمه الله سبحانه - وظهرت تلك الحوادث وتحققت كما أخبر.

ونحن الآن نستهل بهذا القسم الأخير للوصول الى فهرس متسلسل عام(1).





الاشارة البليغة الرابعة

ان ما أنبأ به الرسول الكريم e من أنباء الغيب بتعليم من الله علام الغيوب كثيرٌ لا يعد ولا يحصى، وقد أشرنا الى أنواعه في ((الكلمة الخامسة والعشرين)) الخاصة باعجاز القرآن، وسقنا هناك براهينه؛ لذا فالأخبار الغيبية المتعلقة بالأزمنة السالفة والأنبياء السابقين وحقائق الألوهية وحقائق الكون، وحقائق الآخرة يُراجع في شأنها تلك الكلمة.

أما هنا فسنورد بضعة أمثلة من اخبار غيبية صادقة تتعلق بالحوادث التي ستصيب الآل والاصحاب - رضوان الله عليهم أجمعين - من بعده صلى الله عليه وسلم وما ستلقاه أمته في مُقبل أيامها.

ولأجل الوصول الى ادراك هذه الحقيقة ادراكاً كاملاً نبين بين يديها أسساً ستة مقدّمة لها.

l الاساس الاول

ان جميع احوال الرسول الكريم e وأطواره يمكن ان تكون دليلاً على صدقه وشاهداً على نبوته، الاّ ان هذا لا يعني ان تكون جميع احواله وافعاله خارقة للعادة؛ ذلك لأن الله سبحانه قد أرسله بشراً رسولاً، ليكون باعماله وحركاته كلها إماماً ومرشداً للبشر كافة، وفي احوالهم كافة، ليحقق لهم بها سعادة الدنيا والآخرة وليبيّن لهم خوارق الصنعة الربانية وتصرف القدرة الإلهية في الأمور المعتادة، تلك الامور التي هي بحد ذاتها معجزات.

فلو كان صلى الله عليه وسلم في جميع أفعاله خارقاً للعادة، خارجاً عن طور البشر، لما تسنّى له ان يكون أسوةً يُقتدى به، وما وَسِعه ان يكون بأفعاله وأحواله وأطواره إماماً للآخرين؛ لذا ما كان يلجأ الى اظهار المعجزات الاّ بين حين وآخر، عند الحاجة، اقراراً لنبوته أمام الكفار المعاندين. ولما كان الابتلاء والاختبار من مقتضيات التكليف الإلهي، فلم تعد المعجزة مُرغِمةً على التصديق - اي سواء أراد الانسان أم لم يرد - لأن سر الامتحان وحكمة التكليف يقتضيان معاً فتح مجال الاختيار أمام العقل من دون سلب الارادة منه. فلو ظهرت المعجزة ظهوراً بديهياً ملزماً للعقل كما هو شأن البديهيات لما بقي للعقل ثمة إختيار، ولصدَّق ابو جهل كما صدّق أبو بكر الصديق - رضى الله عنه ـ ولأنتفت الفائدة من التكليف والغاية من الامتحان، ولتساوى الفحم الخسيس مع الألماس النفيس!

بيد ان الذي يثير الدهشة والحيرة؛ انه في الوقت الذي آمن ألوف من أجناس مختلفة من الناس بمعجزة منه e أو بكلام منه أو بالنظر الى طلعته البهية، أو ما شابهها من دلائل صدق نبوته e ، وآمن به ألوف العلماء المدققين والمفكرين المحققين بما نُقِل اليهم من صدق أخباره وجميل آثاره نقلاً صحيحاً متواتراً، أقول: أفلا يدعو الى العجب ان يرى أشقياء هذا العصر جميع هذه الدلائل الواضحة كأنها غير وافية لايمانهم وتصديقهم فتراهم ينزلقون الى هاوية الضلال؟

l الاساس الثاني

ان الرسول الكريم e بشر، فهو يتعامل مع الناس انطلاقاً من بشريته هذه. وهو كذلك رسول، وبمقتضى الرسالة هو ناطق أمين باسم الله تعالى ومبلّغ صادق لأوامره سبحانه، فرسالته تستند الى حقيقة الوحي. والوحي قسمان:

الأول: الوحي الصريح كالقرآن الكريم وبعض الأحاديث القدسية. فالرسول e في هذا مبلّغ محض لا غير، من دون أن يكون له تصرف أو تدخل في شئ منه.

الثاني: الوحي الضمني، وهو الذي يستند في خلاصته ومُجمَله الى الوحي والالهام، الاّ انه في تفصيله وتصويره يعود الى الرسول صلى الله عليه وسلم. فتفصيل الحادثة الآتية مُجملةً من هذا الوحي وتصويرها إما يبينه الرسول e أحياناً استناداً الى الالهام أو الى الوحي، أو يبينه بفراسته الشخصية. وهذه التفاصيل التي يبينها الرسول صلى الله عليه وسلم باجتهاده الذاتي. اما أنه يبينها بما يتمتع به من قوة قدسية عليا، بمقتضى الرسالة، أو يبينها بخصائصه البشرية وبمستوى عرف الناس وعاداتهم وافكارهم.

وهكذا لا يُنظر الى جميع تفاصيل كل حديث شريف بمنظار الوحي المحض. ولا يُتحرى عن الآثار السامية للرسالة في معاملاته e وافكاره التي تجري بمقتضيات البشرية.

وحيث أن بعض الحوادث يوحى اليه وحياً مجملاً ومطلقاً وهو بدوره يصوّره بفراسته الشخصية أو حسب نظر العرف العام، لذا يلزم أحياناً التفسير وربما التعبير لهذه المتشابهات والمشكلات التي ينطوي عليها ذلك التصوير. مثال ذلك:

سمع الناس - ذات مرة - وهم جلوس عند الرسول صلى الله عليه وسلم دوياً هائلاً فقال الرسول e موضحاً الحدث: ((ان هذا صوت حجر ظل يتدحرج سبعين عاماً حتى وصل الآن الى قعر جهنم))(1)... ولم تمض ساعة حتى جاء الجواب، اذ أتى أحدهم يقول: ان المنافق المشهور الذي ناهز السبعين من عمره قد مات وولّى الى جهنم وبئس المصير، فكان هذا تأويلاً للتشبيه البليغ الذي ذكره الرسول e .

l الاساس الثالث

ان الآثار المنقولة إن كانت متواترة فهي قطعية الثبوت وتفيد اليقين. والتواتر قسمان:

الأول: التواتر الصريح، أو التواتر اللفظي.

الثاني: التواتر المعنوي وهذا قسمان:

الأول: سكوتي؛ أي ابداء الرضا بالسكوت عنه. مثال ذلك:

لو أخبر شخصٌ جماعته عن حادثة وقعت أمامهم ولم يكذّبوه في خبره بل قابلوه بالسكوت، فان ذلك يعني قبولهم لوقوعها، ولاسيما اذا كانت الحادثة المروية ذات علاقة بالجماعة، والجماعة مستعدة للانتقاد والرد والتجريح، وممن لا يقبلون بالخطأ أصلاً، بل يرون الكذب أمراً قبيحاً بشعاً، فان سكوتهم عنها يدل على وقوع تلك الحادثة دلالة قاطعة.

القسم الثاني من التواتر المعنوي: هو اتفاقهم على القدر المشترك بين أخبارهم وان كانت الروايات متنوعة. مثال ذلك:

اذا قيل ان أوقية من الطعام أشبعت مائتي رجل. فالذين حدّثوا بهذا يروونه في صور متنوعة وبعبارات مختلفة متباينة. فهذا ذكر مائة رجل وذاك ثلاثمائة رجل والآخر أوقيتين من الطعام وهكذا. فترى ان الجميع متفقون على وقوع الحادثة، وهو ان الطعام القليل أشبع أناساً كثيرين. فالحادثة اذن بشكلها المطلق متواترة معنىً، وهي تفيد اليقين، ولا تضرّ بها صور الاختلاف. وفي بعض الاحيان يفيد خبر الآحاد ضمن بعض الشروط حكم القطعي كقطعية التواتر، وقد يفيد القطعية احياناً تحت امارات خارجية.

وهكذا، فالقسم الأعظم مما نقل الينا من دلائل النبوة ومعجزات الرسول e هو: بالتواتر الصريح أو المعنوي أو السكوتي، وقسم منها بخبر الآحاد، الاّ انه ضمن شروط معينة ممحّصة اُخذ وقُبل من قبل أئمة الجرح والتعديل من أهل الحديث النبوي فاصبحت دلالته قطعية كالتواتر. ولاشك اذا ما قبل بصحة خبر الآحاد محدِّثون محققون من أصحاب الصحاح الستة وفي مقدمتهم البخاري ومسلم وهم الحفاظ الجهابذة الذين كانوا يحفظون ما لا يقل عن مائة ألف حديث، واذا ما رضى به ألوف من الأئمة العلماء المتقين، ممن يصلون صلاة الفجر بوضوء العشاء زهاء خمسين سنة من عمرهم. أقول: اذا ما قَبِل هؤلاء بصحة خبر الآحاد، فلا ريب اذاً في قطعيته ولا يقلّ حكمُه عن التواتر نفسه.

نعم، ان علماء علم الحديث ونقّاده قد تخصصوا في هذا الفن الى درجة انهم اكتسبوا مَلَكَةً في معرفة سمو كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وبلاغة تعابيره، وطراز افادته، فاصبحوا قادرين على تمييزه عن غيره، بحيث لو رأوا حديثاً موضوعاً بين مائةٍ من الأحاديث لرفضوه قائلين: هذا موضوع!. هذا لا يمكن ان يكون حديثاً شريفاً! فقد أصبحوا كالصيارفة الـبـارعين الأصـلاء يـعرفون جوهـر الحديث النــبوي من الدخيل فيه.

بيد ان قسماً من المحققين قد أفرط في نقد الحديث كابن الجوزي الذي حكم على أحاديث صحيحة بالوضع(1). علماً أن ((الموضوع)) يعني: ان هذا الكلام ليس بكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يعني انه باطل وكلام فاسد.

سؤال: ما فائدة السند الطويل: عن فلان.. عن فلان.. عن فلان.. حيث لا جدوى من ذكرهم في حادثة معلومة؟.

الجواب: فوائده كثيرة، اذ ان ذكر هذا السند الطويل يبين نوعاً من الاجماع فيمن هم في السند من الموثوقين الصادقين من الرواة الذين يعتّد بهم، فيظهر لنا نوعاً من الأتصال والاتفاق لأهل العلم المحققين في ذلك السند، فكأنما كلّ أمامٍ وعلامة في السند يوقّع على حكم ذلك الحديث الشريف ويختم على صحته بختمه.

سؤال: لماذا لم تُنقل ((المعجزات)) باهتمام بالغ مثلما نُقلَت الأحكام الشرعية الضرورية الأخرى نقلاً متواتراً وبطرق متعددة؟.

الجواب: لأن معظم الناس في أغلب الأوقات محتاجون حاجة ماسة الى الاحكام الشرعية، فهي ((كفروض عين)) لهم، لما لها من علاقة بكل شخص. بينما المعجزات لا يحتاجها كل انسان كل حين. حتى لو فرضنا الحاجة اليها، فيكفي سماعها مرة واحدة، فهي ((كفروض كفاية)) اذ يكفي ان يعلم بها عادةً قسمٌ من الناس.

ولهذا السبب قد يحدث ان نرى وقوع أحدى المعجزات ثابتاً بقطعيةٍ أقوى من قطعية ثبوت حكم شرعي أضعافاً مضاعفة، الاّ ان راويها شخص واحد أو شخصان، بينما يكون عدد رواة ذلك الحكم الشرعي عشرة أو عشرين.

l الاساس الرابع

ان قسماً من حوادث المستقبل الذي أخبر عنه الرسول e هو حوادث كليّة، تتكرر في أوقات مختلفة، وليس بحادثة جزئية مفردة. فالرسول صلى الله عليه وسلم قد يُخبر عن تلك الحادثة الكلية بصورة جزئية مبيناً بعض حالاتها، حيث ان لمثل هذه الحادثة الكلية وجوهاً كثيرة، فيبين صلى الله عليه وسلم في كل مرة وجهاً من وجوهها. ولكن لدى جمع هذه الوجوه من قبل راوي الحديث في موضع واحد، يبدو هناك ما يشبه الخلاف للواقع. مثال ذلك:

هناك روايات مختلقة حول ((المهدي)) تتباين فيها التفاصيل والتصويرات. وقد أخبر الرسول e عن ظهور المهدي مستنداً الى الوحي، ليصون قوة أهل الأيمان المعنوية في كل عصر، وليحول دون سقوطهم في اليأس والقنوط ازاء ما يرونه من حوادث مهولة، وليربط الأمة ربطاً معنوياً بالسلسلة النورانية لآل البيت. وقد أثبتنا ذلك في أحد اغصان الكلمة الرابعة والعشرين. ومن هنا ترى أن كل عصر من العصور قد وجد نوعاً من ((المهدي)) من آل البيت كالذي يظهر في آخر الزمان، بل مهديين، حتى وجد في المهدي العباسي - الذي يعدّ من آل البيت - كثيراً من أوصاف ذلك المهدي الكبير.

وهكذا، فاوصاف الذين يسبقون المهدي الكبير ممن يمثّلونه في عهودهم - كالخلفاء المهديين والأقطاب المهديين - اختلطت وتداخلت مع أوصاف ذلك المهدي الكبير. فوقع الاختلاف في الروايات(1).

l الاساس الخامس

لم يكن الرسول الأعظم e يعلم الغيب ما لم يُعلّمه الله سبحانه، اذ لا يعلم الغيب الاّ الله فهو e يبلغ الناس ما علـّمه الله اياه. وحيث ان الله حكيم ورحيم، فحكمته ورحمته تقتضيان ستر أغلب الأمور الغيبية وابقاءها في طي الخفاء والابهام، لأن ما لا يسرّ الانسان من حوادث في هذه الدنيا هو اكثر مما يسره، فمعرفته تلك الحوادث قبل وقوعها أليم جداً.

فلأجل هذه الحكمة ظل الموت والأجل مبهَمَين مستورين عن علم الانسان، وبقي ما سيصيب الانسان من مصائب ونكبات محجوباً في ثنايا الغيب، فكان من مقتضى هذه الحكمة الربانية والرحمة الإلهية الاّ يُطلع سبحانه نبيَّه e اطلاعاً كلياً ومفصلاً على ما سيلقاه آلُه وصحبه وامته من بعده من حوادث مؤلمة ومصائب مفجعة، بل أخبره سبحانه عن بعضٍ من الحوادث المهمة - بناء على حِكَم معينة - إخباراً غير مفجع، رفقاً بما يحمله من رحمة عظيمة ورأفة شديدة نحو أمته وتجاه آله واصحابه. كما انه سبحانه قد بشّره بحوادث مفرحة أيضاً بشارةً مجملة لبعضها ومفصلةً للاخرى(1) فأخبر e أمته بما علّمه ربُّه ونقله المحدّثون الصادقون العدول بروايات صحيحة الينا، اولئك الذين كانوا أشد تقوى وخشية من ان يصيبهم الزجر المخيف في قوله e : ((مَن كَذب عليَّ مُتعمـّداً فَلْيَتبوأ مَقعدَه من النار))(2) والذين كانوا يهربون خوفاً من ان تنالهم الآية الكريمة: } فَمَنْ أظْلمُ ممّن كَذَبَ على الله{ (الزمر:32).



l الاساس السادس

ان احوال الرسول e واوصافه قد بُيّنت على شكل سيرة وتاريخ. الا ان اغلب تلك الاحوال والاوصاف تعكس بشريته فحسب، اذ ان الشخصية المعنوية لتلك الذات النبوية المباركة رفيعة جداً وماهيته المقدسة نورانية الى حدّ لا يرقى ما ذُكر في التاريخ والسيرة من اوصاف واحوال الى ذلك المقام السامي والدرجة الرفيعة العالية، لأنه e في ضوء قاعدة ((السبب كالفاعل)) تضاف يومياً - حتى الآن - الى صحيفة كمالاته عبادةٌ عظيمة بقدر عبادات امته بأكملها. وكماينال باستعداد غير متناه نفحات الرحمة الإلهية غير المتناهية بشكل غير متناهٍ وبقدرة غير متناهية، كذلك ينال يومياً دعاءً غير محدود ممن لا تحد من امته.

هذا النبي المبارك e الذي هو انبل نتائج الكائنات واكمل ثمراتها والمبلّغ عن خالق الكون، وحبيب رب العالمين، لا تبلغ احوالُه واطوارهُ البشرية التي ذكرَتْها كتب السيرة والتاريخ الاحاطة بماهيته الكاملة ولا تصل الى حقيقة كمالاته. فأنّى لهذه الشخصية المباركة الذي كان كلُّ من جبرائيل وميكائيل مرافقين امينين(1) له في غزوة بدر ان تنحصر في حالة ظاهرية أو ان تظهرها بجلاء حادثة بشرية كالتي وقعت مع صاحب الفرس الذي ابتاع e الفرس منه ولكنه أنكر هذا البيع وطلب من الرسول الكريم شاهداً يصدّقه فتقدم الصحابي الجليل ((خزيمة)) بالشهادة له(2).

فلئلا يقع أحدٌ في غائلة الخطأ يلزم من يسمع اوصافه e البشرية الاعتيادية ان يرفع بصره دوماً عالياً لينظر الى ماهيته الحقيقية، والى شخصيته المعنوية النورانية الشامخة في قمة مرتبة الرسالة، وإلاّ أساء الادب، ووقع في الشبهة والوهم.

ولإيضاح هذه المسألة تأمل في هذا المثال:

نواة للتمر وضعت تحت التراب فانفلقت عن نخلة مثمرة باسقة، وهي في توسع ونمو مطرد، أو بيضة للطاووس فقست عن فرخ الطاووس بعدما سلطت عليها الحرارة، وكلما نما وكبر اصبح اجمل وازهى، بما زيّن قلمُ القدرة على كل جهاته من نقوش بديعة رائعة.

فهناك صفات وحالات خاصة تعود لكل من تلك النواة ولتلك البيضة، ويحوي كل منهما مواد دقيقة لطيفة جداً. والنخلة والطاووس كذلك لهما صفات عالية وكيفيات واوضاع راقية بالنسبة لصفات البذرة والبـيضة. فعندما تُربط اوصاف النواة والبيضة بأوصاف النخل والطير وتُذكران معاً، يلزم ان يرفع العقل الانساني بصره عن النواة الى النخلة وينظر اليها، وان يتوجه من البيضة الى الطاووس ويمعن فيه، كي يقبل تلك الاوصاف التي يسمعها. وبخلافه ينساق الى التكذيب حين يسمع احدهم يقول: ((لقد اخذتُ طناً من التمر من حفنة من النوى، او هذه البيضة هي سلطان الطيور)).

وهكذا فان بشرية الرسول الاكرم e تشبه تلك النواة أو البيضة ((في المثال)) وماهيته المشعة بمهمة الرسالة مثلُها كمثل شجرة طوبى الجنة وطير الجنة في سمو ورقي.

لذا في الوقت الذي نفكر في النزاع الذي حصل في السوق مع البدوي، يلزم ان نرفع عين الخيال عالياً ونتصور الذات النورانية الممتطية الرفرف ((البُراق)) والمنطلقة سعياً الى قاب قوسين أو أدنى، تاركة خلفها جبريل عليه السلام. وإلاّ فان النفس الامارة بالسوء إما ستسئ الادب وتنحط الى درك قلة التوقير والاحترام، أو تزل قدماها الى عدم التصديق.

الاشارة البليغة الخامسة

وهي تخص الحوادث المتعلقة بامور غيبية، نذكر منها بضعة أمثلة:

المثال الاول:

T قال رسول الله e في خطبةٍ بين جمع من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، ونقل الينا الحديث نقلاً صحيحاً ومتواتراً: ((ان إبني هذا سَيّدٌ ولَعلّ الله انْ يُصلحَ به بين فِئَتين من المسلمين))(1) وفي رواية ((عظيمتين)). وبعد مرور أربعين سنة التقى جيشان عظيمان للمسلمين، فصالح الحسنُ معاوية رضى الله عنهما، وصدَّق بهذا الصلح المعجزةَ الغيبية لجدِّه الأمجد e .

المثال الثاني:

T ثبت بنقل صحيح انه e قال لعلي رضى الله عنه:ستقاتل الناكثين(2) والقاسطين والمارقين(3). فأخبر عن وقعة الجمل وصفين وعن الخوارج.

T وقال e للزبير: ((لتقاتلُنَّه وانتَ ظالمٌ له))(4) عندما رآه وعلياً يتحابّان.





T وقال e لأزواجه الطاهرات: ((كيف بأحداكن تنبح عليها كلاب الحوأب))(1) ((يُقتَل عن يمينها وعن يسارها قتلى كثيرة..))(2).

وبعد ثلاثين سنة تحققت هذه الأحاديث الصحيحة فعلاً، وذلك في وقعة الجمل التي جرت بين عليّ وعائشة ومعها الطلحة والزبير رضي الله عنهم أجمعين، كما تحققت في وقعة صفين التي جرت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، وقد تحققت في وقعة حروراء ونهروان التي كانت بين عليّ رضي الله عنه والخوارج.

T وأخبر e علياً عن الذي يقتله فقال: ((الذي يضربك يا عليّ على هذه حتى تبلّ منها هذه))(3) اي تبلّ لحيته من دم رأسهِ وكان عليّ يعرفه، وهو عبدالرحمن بن ملجم الخارجي.

T وأخبر كذلك عن ذي الثُدية بعلامة فارقة فيه، انه سيكون بين قتلى الخوارج وفعلاً كان ذو الثدية فيهم وهو ((رجل أسود أحدى عضدية مثل ثدي المرأة)) فجعله عليٌّ حجةً على انه المُحِقُّ، وأعلن عن معجزة الرسول الاكرم e .(4)

T وأخبر e برواية صحيحة عن أم سلمة وغيرها: ان الحسين يُقتَل بالطَّفْ(1) أي في كربلاء. وبعد خمسين سنة وقعت تلك الفاجعة الأليمة، فصدّقت ذلك الاخبار الغيبي.

T وأخبر e : ((ان أهل بيتي سيلقون بعدي من أمتي قتلاً وتشريداً))(2)، فكان كما أخبر.

T T T

هنا يرد سؤال مهم:

يُقال: ان علياً رضي الله عنه كان أحرى بالخلافة وأولى بها، فهو ذو قرابة مع النبي e ، وذو شجاعة نادرة خارقة، وذو علم غزير.. فلماذا لم يُقدَّموه في الخلافة؟ ولماذا اضطربت أحوال المسلمين في عهده؟.

الجواب: لقد قال قطب عظيم من آل البيت: كان الرسول e قد تمنّى ان يكون عليّ هو الخليفة، ولكن اُعلِم من الغيب أن إرادة الله غير هذا، فتخلى عن رغبته تبعاً لما يريده الله سبحانه وتعالى.

وفيما يأتي حكمةٌ واحدة مما تنطوي عليه ارادة الله تعالى في هذا الأمر:

كان الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين أحوج الى الاتفاق والاتحاد بعدما ارتحل النبي e الى الرفيق الأعلى، فلو كان عليّ رضي الله عنه قد تولّى الخلافة، لكان هناك احتمال قوي ان تثير اطواره المتسمة بعدم مسايرة الآخرين واستقلالية آرائه مع زهده الشديد وبسالته النادرة واستغنائه عن الناس فضلاً عن شجاعته الفائقة، فتحرِّك - هذه المزايا - عرق المنافسة لدى كثير من الأشخاص والقبائل، فتنجم الفرقة بين صفوف المسلمين، مثلما حدث في عهد خلافته من حوادث وفتن.

أما سبب تأخر خلافة عليّ رضي الله عنه فان احد أسبابه هو ما يأتي:

لقد هبّت أعاصير الفتن في أوساط أمة الاسلام التي تضم أقواماً متباينة في الفكر والتي يحمل كلٌّ منها بذور الفرقة الى ثلاث وسبعين فرقة - مثلما أخبر بذلك الرسول e (1) - فكان ينبغي وجود شخصية قوية فذة، مهيبة الجانب، ذات شجاعة فائقة وفراسة نافذة ونسب عريق أصيل من أهل البيت ومن بني هاشم، كي يَثْبُت أمام هذه الفتن. فمثل هذه الشخصية الفذة، كانت تتمثل في علّي رضي الله عنه، فثبت فعلاً أمام تلك الأعاصير الهوجاء.. ولقد أخبره الرسول e بذلك أنه سيحارب في سبيل تأويل القرآن كما حارب هو e في سبيل نزوله(2). ثم انه لولا علي رضي الله عنه لربما كانت سلطنة الدنيا تعصف بالأمويين وتفتنهم كلياً، وتزلّهم عن الصراط السوى، ولكن لأنهم كانوا يرون ازاءهم علياً وآل البيت، فقد حاولوا ان يبلغوا شأوهم ويوازوهم في مكانتهم لئلا يفقدوا منزلتهم في نظر الأمة، فاضطر أغلبُ رؤساء الدولة الأموية الى حضّ اتباعهم على القيام بحفظ حقائق الايمان ونشرها وصيانة أحكام القرآن والإسلام رغم أنهم لم يفعلوا شيئاً بأنفسهم، لذا نشأت في ظل دولتهم مئات الألوف من العلماء المحققين المجتهدين وائمة الحديث والأولياء الصالحين والأصفياء والعاملين، فلولا كمالات يتصف بها آل البيت وصلاحهم وولايتهم لله لزلّ الأمويون وابتعدوا كلياً عن طريق الصواب، كما آل اليه أمرهم في أواخر أيامهم، وكما حدث في أواخر أيام العباسيين.

واذا قيل:

لماذا لم تستقر الخلافة في آل البيت، علماً انهم كانوا أحق بها؟

الجواب: ان سلطنة الدنيا خدّاعة، بينما أهل البيت مكلفون بالحفاظ على حقائق الإسلام واحكام القرآن. وينبغي لمن يتسلم زمام الخلافة الاّ تغره الدنيا، كأن يكون معصوماً كالنبي، أو يكون عظيم التقوى عظيم الزهد كالخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز والمهدي العباسي لئلا يغتر. فسلطنة الدنيا لا تصلح لآل البيت، اذ تنسيهم وظيفَتهم الاساس؛ وهي المحافظة على الدين وخدمة الاسلام. وخلافة الدولة الفاطمية التي قامت باسم آل البيت في مصر، وحكومة الموحدين في أفريقيا، والدولة الصفوية في إيران، كل منها غدت حجة على ان سلطنة الدنيا لا تصلح لآل البيت. بينما نراهم متى ما تركوا السلطنة، فقد سعوا سعياً حثيثاً وبذلوا جهداً منقطع النظير في خدمة الإسلام ورفع راية القرآن.

فان شئت فتأمل في الأقطاب الذين أتوا من سلالة الحسن رضي الله عنه، ولا سيما الأقطاب الأربعة، وبخاصة الشيخ الكيلاني. وان شئت فتأمل في الأئمة الذين جاءوا من سلالة الحسين رضي الله عنه، ولا سيما زين العابدين وجعفر الصادق وأمثالهم..

فكلٌ من هؤلاء قد أصبح بمثابة مهدي معنوي، بدّدوا الظلم والظلمات المعنوية بنشرهم أنوار القرآن وحقائق الأيمان، واثبتوا حقاً أنهم وارثو جدهم الأمجد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

فان قيل: ما حكمة تلك الفتنة الدموية الرهيبة التي اصابت الأمة الاسلامية في عصر الراشدين وخير القرون، حيث لا يليق باولئك الابرار القهر ونزول المصائب وأين يكمن وجه الرحمة الإلهية فيها؟

الجواب: كما ان الأمطار الغزيرة المصحوبة بالعواصف في الربيع تثير كوامن قابليات كل طائفة من طوائف النباتات وتكشفها فتنثر البذور وتطلق النوى، فتتفتح أزهارها الخاصة بها، ويتسلم كلٌّ منها مهمته الفطرية، كذلك الفتنة التي أبتلي بها الصحابةُ الكرام والتابعون رضوان الله عليهم أجمعين، أثارت بذور مواهبهم المختلفة، وحفّزت نوى قابلياتهم المتنوعة، فانذَرتْ كلَّ طائفةٍ منهم وأخافتهم من أن الخطر مُحدقٌ بالاسلام، وان النار ستنشب في صفوف المسلمين؛ مما جعل كلَّ طائفة تهرع الى حفظ الدين والذود عن حياض الإيمان، فأخذ كلٌ منهم على عهدته مهمةً من مهمات حفظ الايمان وجمع شمل الاسلام، كلٌ حسب قابليته، فانطلق بكل جدٍ واخلاص في هذا السبيل. فمنهم من قام بحفظ الحديث النبوي الشريف، ومنهم من قام بحفظ فقه الشريعة الغراء، ومنهم من قام بحفظ العقائد والحقائق الايمانية، ومنهم من قام بحفظ القرآن الكريم.. وهكذا انضوت كلُّ طائفة تحت مهمةٍ وواجب من الواجبات التي يفرضها حفظ الايمان وصيانة الأسلام، وسَعَتْ في سبيل اداء مهمتها سعياً حثيثاً، فتفتحت من البذور التي نشرتها تلك الأعاصير الهوجاء العنيفة في الارجاء، زهورٌ بهيجة بالوان زاهية شتى في عالم الاسلام، حتى غدا العالم الاسلامي رياضاً يانعة بالورود والرياحين. الاّ انه - للأسف - ظهرت بين تلك الرياض البديعة أشواكُ اهل البدع ايضاً. وكأن يد القدرة الإلهية قد خضَّتْ ذلك العصر بجلال وهيبة، وادارته بشدة وعنف، فأثارت الهمم وألهَبت المشاعر لدى أهل الهمة والغيرة، فبعثت تلك الحركة المنطلقة عن المركز؛ كثيراً من أئمة المجتهدين والمحدّثين والحفاظ والأصفياء والأقطاب الأولياء الى أنحاء العالم الأسلامي وألجأتهم الى الهجرة. وهيّجت المسلمين شرقاً وغرباً وفتحت بصيرتهم ليغنموا من كنوز القرآن وخزائنه. والآن لنرجع الى ما نحن بصدده.

ان ما أخبر عنه الرسول e من امور الغيب ووقع فعلاً كما أخبر، يبلغ الألوف بل يزيد، الاّ اننا نشير الى امثلة منها فقط، تلك التي اتفق على صحتها أصحاب الكتب الستة الصحيحة، وفي مقدمتهم البخاري ومسلم، حتى ان كثيراً منها نقلت نقلاً متواتراً من حيث المعنى، واتفق العلماء وأهل التحقيق على صحة بعضها انه بمثابة التواتر الصريح.

T .. خرَّج أهلُ الصحيح والأئمة: ما أعلَمَ به e أصحابه مما وعدهم به من الظهور على أعدائه وفتح مكة(1) وبيت المقدس(2) واليمن والشام والعراق(3).. وتُفتح خيبر وأخبر(1) عن ((قسمَتِهم كنوز كسرى وقيصر))(2) أكبر دولتين في العالم في ذلك العهد. ثم أنه e حينما كان يخبر بهذا الخبر الغيبي لم يقل: أظن، أحسب، ربما.. وانما أخبر عن علم يقيني كأنه واقع يراه.. وقد وقع كما أخبر، علماً انه عندما أخبر بهذا الخبر كان مأموراً بالهجرة، واصحابه قليلون، والعالم كله ومَن حول المدينة أعداء يحدقون من كل جانب.

T وفي رواية صحيحة، أخبر الرسول e مراراً: ((اقتدوا باللذين من بعدي ابي بكر وعمر))(3) فأفاد بهذا ان ابا بكر وعمر سيعمران بعده، وسيكونان خليفتين، وسيؤديان الخلافة حقها كاملاً بما يرضي الله سبحانه ورسوله. ثم ان ابابكر سيتولى الخلافة لفترة قصيرة، بينما عمر سيتولاها لمدة أطول، فضلاً عن انه سيقوم بكثير من الفتوحات.

T وقال الرسول e : ((ان الله زوى ليَ الأرضَ فرأيت مشارقها ومغاربها وان أمتي سيبلُغ مُلكاً ما زوي لي منها))(4)، وكان كما قال.

T واخبر e قبل غزوة بدر - في رواية صحيحة(5) - عن مصارع الكفار في بدر وأشار الى محال قتلهم ومصارع رؤسائهم: هذا مصرع ابي جهل، هذا مصرع عتبة، وهذا مصرع أميّة، هذا مصرع فلان وفلان ((واعلم بانه سيقتل اُبي بن خلف))(6)، وكان كما أعلم.

T وثبت في الصحيح انه قال كمن يشاهد أصحابه وينظر اليهم في غزوة مؤتة، وهي على بُعدِ مسيرة شهر من حدود الشام: ((أخذ الرايةَ زيدٌ فأصيب ثم أخذ جعفر فأصيب ثم أخذ ابن رواحة فأصيب، وعيناه تذرفان.. حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم))(1)، وبعد مرور بضعة أسابيع عاد يعلى بن مُنبّه من ساحة المعركة، وقبل ان يخبر عما جرى هناك بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما دار في المعركة مفصلاً. فأقسم يعلى، وقال: ((والذي بعثك بالحق ما تركتَ من حديثهم حرفاً واحداً))(2).

T وفي رواية صحيحة انه e أخبر عن ان الخلافة بعده ثلاثون عاماً ثم تصير ملكاً عضوضاً(3)؛ ((وان هذا الامر بدأ نبوة ورحمة، ثم يكون رحمة وخلافة، ثم يكون ملكاً عضوضاً، ثم يكون عتواً وجبروتاً وفساداً في الأمة))(4)، فأخبر e عن مدة الخلافة الراشدة وهي؛ ثلاثون سنة، وتكمل هذه المدة بالأشهر الستة لخلافة الحسن رضي الله عنه، ثم تتعاقب السلطنة والجبروت وفساد الأمة، وفعلاً تحقق مثلما قال.

T وثبت برواية صحيحة ان سيدنا عثمان رضي الله عنه يُقتل وهو يقرأ المصحف(5)، وان الرسول e قد قال: ((ان الله عسى ان يلبسه قميصاً وانهم يريدون خلعه))(1) فكان كما قال.

T وفي رواية صحيحة أخرى أنه؛ عندما احتجم الرسول e شَرب عبد الله بن الزبير دمه الطاهر تبركاً، ولم يسكبه فقال له: ((ويلٌ للناس منك وويلٌ لك من الناس))(2) فأخبر بأن عبد الله سيتولى أمر الناس بشجاعة فائقة، وسيكون هدفاً لهجوم عنيف وستنزل بالناس بسببه نوائبٌ ومصائبٌ. وفعلاً وقع كما قال؛ حيث أعلن عبد الله بن الزبير الخلافة في مكة في عهد الأمويين وحاصره الحجاج بن يوسف الظالم بجيش عظيم في مكة، وبعد قتال عنيف وبسالة نادرة ومعارك دامية سقط شهيداً.

T وأخبر e ((بمُلك بني أمية))(3) أي بظهور الدولة الأموية ((وولاية معاوية، ووصّاه)) لما قال له: اذا ملكت فاسجح أو فأنصح(4) وأخبر عن ((اتخاذ بني أمية مال الله دولاً))(5) وسيكون ملوكها ورؤساؤها ظلمة، وسيظهر منهم أشخاص أمثال يزيد(6) والوليد.

T كما أخبر e عن ((خروج وَلد العباس بالرايات السُّود ومُلْكِهم أضعاف ما مَلكوا))(1) من ان الدولة العباسية ستظهر بعد الأمويين، وسيظلون في الحكم مدة أطول. وتحقق كل ذلك فعلاً كما أخبرe .

T وثبت في الصحيح أنه قال: ((ويلٌ للعرب من شرٍّ قد اقتَرب))(2) فأخبر بفتن جنكيزخان وهولاكو، وتدميرهم الدولة العباسية العربية، وقد تحقق فعلاً كما قالe .

T وقال لسعد بن أبي وقاص في رواية صحيحة، حينما كان في مرض شديد: ((لعلك تُخلـِّفُ حتى ينتَفعَ بكَ أقوامٌ، ويستضرَّ بك آخرون))(3) فأخبر e أنه سيكون قائداً عظيماً، وسيفتح الله بيده بلداناً وينتفع به أقوام كثيرة بدخولهم حظيرة الاسلام، ويتضرر به آخرون حيث تنقرض دولتهم. وقد كان كما قال؛ اذ أصبح سعد قائداً للجيش الأسلامي ودمّر دولة الفرس وصار سبباً في دخول كثير من الأقوام والملل في حوزة الأسلام.

T وثبت كذلك أنه e ((نعى النجاشي(4) في اليوم الذي مات فيه))، في السنة السابعة من الهجرة، وصلّى عليه، وبعد مرور اسبوع جاء الخبر بأنه توفي في اليوم الذي أخبر فيه الرسول e .

T وقال e : ((اُثبت فانما عليك نبي وصديق وشهيد))(5) عندما كان e مع

صفوة من الصحابة الكرام على جبل اُحد - أو على حراء(1) - واهتزّ الجبل من تحتهم، فأفاد أن عمر وعثمان وعلي سيستشهدون، فكان كما قال.



T T T



أيها الضعيف ويا من مات قلبه ويا أيها الشقي!.

لعلك تقول ان محمداً e كان عبقرياً، فعرف بعبقريته هذه الأمور الغيبية وتغمض عينك عن حقيقة النبوة الساطعة كالشمس!.

أيها المسكين! ان ما سمعتَه ليس الاّ جزء من خمسة عشر نوعاً من الأنواع الكلية لمعجزاته e وقد علمتَ انها جميعاً ثابتة بروايات صحيحة وبتواتر معنوي. وانت لم تسمع بعدُ الاّ نبذةً يسيرة مما يتعلق بالامور الغيبية.. أفبعد ما يسمع الانسان هذه المعجزات يقول لصاحبها: انه عبقري يكشف المستقبل بفراسته؟.

هب اننا قلنا مثلك: انه عبقري! أفيمكن ان تلتبس الرؤية على من يملك مئات الأضعاف من الذكاء المقدس والعبقرية السامية؟ وهل يمكن لمثل هذه الشخصية السامية ان تهبط من سموها الصادق فيخبر أخباراً عارية عن الصحة؟ أليس جنوناً وبلاهةً ما بعدها بلاهة الاعراضُ عما تخبر به هذه العبقرية الفذة حول سعادة الدارين!؟.

الاشارة البليغة السادسة

T ثبت انه e أخبر فاطمة: أنها ((أول أهله لحوقاً به))(1).. أي أول من يموت بعده e فيتبعه من أهل البيت. وبعد ستة أشهر وقع ما قال.

T وثبت أيضاً أنه e : ((اخبر أبا ذر رضي الله عنه بتطريده)) أي من المدينة المنورة ((وبعيشه وحده وبموته وحده))(2)، وبعد عشرين سنة وقع الأمر كما أخبر.

T وأيضاً انه e استيقظ من النوم في بيت أم حرام (خالة أنس بن مالك فتبسم قائلاً: ((ناسٌ من امتي عرضوا عليّ غزاةً في سبيل الله يركبون ثَبجَ هذا البحر(3) ملوكاً على الأسرَّة، فقالت: ادع يا رسول الله ان اكون معهم، فدعا لها))(4). وبعد أربعين سنة اصطحبت زوجها عُبادة بن الصامت لفتح قبرص وتوفيت هناك. وقبرها الآن هناك معروف يزار.

T وثبث انه e قال: ((ان في ثقيف كذّاباً ومُبيراً))(5) فاخبر عن المختار المشهور الذي إدّعى النبوة، وسفاك الدماء الحجاج الظالم الذي قتل مائة ألف نفس(1).

T وثبت ايضاً انه e قال: (( لتُفْتَحَنَّ القسطنطينية، فَلَنِعْمَ الأميرُ أميرها ولنعمَ الجيشُ ذلك الجيش))(2) فأفاد بهذا انه ستَفتح مدينة استانبول بيد المسلمين، وسيكون لمحمد الفاتح مرتبة عالية: ((نِعمَ الأمير)). وظهر الأمر كما قال.

T و ثبت كذلك أنه e قال: ((ان الدِّين لو كان منوطاً بالثريا لنالَه رجالٌ من أبناء فارس))(3) مشيراً الى الذين أنجبتهم بلاد فارس من العلماء والأولياء أمثال الأمام ابي حنيفة النعمان.

T وقال e أيضاً: ((عالمُ قريش يَملأ طباق الأرض علماً))(4)، مشيراً بذلك الى الامام الشافعي.

T وأخبر e : ((أن الأمة ستفترق الى ثلاث وسبعين فرقة وان الناجية منها أهل السنة والجماعة))(5).

T وقال e : ((القَدَرية مجوس هذه الأمة))(6)، مشيراً بذلك الى طائفة القدرية المنكرين للقَدر، والتي هي منقسمة الى شعب وفرق كثيرة.

T وكذا أخبر عن فرق كثيرة، اذ ثبت انه قال لعلي ما معناه: ان مثلك مثل عيسى عليه السلام، ستكون سبباً في هلاك فئتين من الناس: احداهما من فرط المحبة والاخرى من فرط العداوة(1). حيث افرط النصارى في حب عيسى عليه السلام حتى تجاوزوا الحد المشروع فيهلكون وقالوا: انه ابن الله ــ حاش لله ـ واليهود أيضاً أفرطوا في العداوة له فانكروا نبوته ومنزلته الرفيعة. وكذلك سيفرط فريق من الناس في الحب لك ويتعدّون الحدّ المشروع فيهلكون، اذ قال e في حقهم: ((لهم نبزٌ يُقال لهم الرافضة))(2)، وفريق آخر سيفرطون في العداء لك وهم (الخوارج وقسم من المغالين في موالاة الأمويين وهم (الناصبة ).

فان قيل:

ان القرآن الكريم يأمر بحب آل البيت، وقد حث النبي e على ذلك، فلربما يشكّل هذا الحب عذراً، حيث ان أهل الحب أهل انتشاء وسكر ـ أي ذاهلون ـ فَلِمَ لا تَنتفع الشّيعة ولا سيما الرّافضة من هذا الحب ولا ينقذهم من العذاب، بل نرى العكس من ذلك فانهم يدانون من فرط الحب كما أشار اليه الحديث الشريف؟!.

الجواب: ان الحب قسمان

أحدهما: حب (بالمعنى الحرفي) وهو حب عليّ والحسن والحسين وآل البيت محبة لله وللرسول وفي سبيلهما. فهذا الحب يزيد حب الرسول e ويكون وسيلة لحب الله عز وجل فهذا الحب مشروع، لا يضر افراطُه، لانه لا يتجاوز الحدود ولا يستدعي ذم الغير وعداوته.

وثانيهما: حب (بالمعنى الاسمي) وهو حبهم حباً ذاتياً، ولأجلهم، اي حب عليّ من أجل شجاعته وكماله، وحب الحسن والحسين من أجل فضائلهما ومزاياهما الكاملة فحسب، من غير تذكّر للنبي e ، حتى ان منهم من يحبهم ولو لم يعرف الله ورسوله. فهذا الحب لا يكون وسيلةً لحب الله ورسوله. واذا ما كان في هذا الحب افراط فانه سيفضي الى ذم الغير وعداوته.

وهكذا أفرط منهم ـ كما ذكر في الحديث الشريف ـ في الحب لعليّ وتبرأوا من أبي بكر وعمر، فوقعوا في خسارة عظيمة. فكان هذا الحب السلبي ـ غير الايجابي ـ سبباً لخسارتهم .

T ونقل نقلاً صحيحاً انه e حذّر الأمة من أنهم ((اذا مشوا المُطَيطاء(1) وخَدَمَتْهم بناتُ فارس والروم ردَّ الله بأسَهُم بينهم وسلّط شِرارَهم على خِيارِهم))(2). وبعد ثلاثين سنة وقع الأمر كما قال.

T وثبت كذلك انه e أعلَمَ أصحابه: ((بفتح خيبر على يَدي عليّ))(3). وفي غد يومه وقعت المعجزة النبوية ـ فوق ما كان يُتوقع ـ فأخذ عليّ باب القلعة بيده وجعله ترساً. ولما تم أمر الفتح رماه في الأرض، وكان الباب عظيماً، حتى انه لم يستطع ثمانية رجال ـ وفي رواية اربعون رجلاً ـ رفعه من الارض(4).

T وقال e : ((لا تقومُ الساعةُ حتى تَقتَتِلَ فئتان عظيمتان دعواهُما واحدة))(1) فأخبر عن الحرب التي وقعت في صفين بين عليّ ومعاوية رضي الله عنهما.

ومما أخبر به e : ((ان عماراً تَقتُلُه الفئةُ الباغية"))(2)، وبعد ذلك قُتل في حرب صفين. فاحتج علي به من ان الموالين لمعاوية هم الفئة الباغية، ولكن معاوية أوّل الحديث. وقال عمرو بن العاص: البغاة هم قاتلوه فقط، ولسنا جميعاً بغاة.

وقال e أيضاً: ((ان الفتنَ لا تَظهر ما دام عمر حياً))(3). فكان الأمر كما أخبر.

T ((ولما اُسِرَ سُهيل بن عمرو ـ قبل اسلامه ـ يوم بدر قال عمر: يا رسول الله انه رجل مفوّه فَدَْعني انتزع ثنيتيه السفليتين، فلا يقوم خطيباً عليك بعد اليوم))، فقال رسول الله e : ((وعسى ان يقومَ مقاماً يَسرُّك يا عمر))(4). فكان كذلك اذ حينما وقعت وفاة النبي e ، تلك الحادثة العظمى التي كلَّ الصبرُ فيها، قام أبو بكر الصديق رضى الله عنه مُعزّياً المسلمين في المدينة المنورة ومثبّتاً قلوبَ الصحابة فخطب فيهم خطبة بليغة. وقام سهيل أيضاً في مكة المكرمة يحذو حذو أبي بكر، فالقى خطبة شبيهة بخطبة أبي بكر، حتى ان كلمات الخطبتين تواردت على معنى واحد، الى حدٍ ما.

T وقال الرسول e لسُراقة: ((كيف بك اذا اُلبستَ سوارَيْ كسرى))(5) وفي عهد عمر رضي الله عنه سقطت دولة كسرى وجاءت زينة كسرى وحليه فألبسها عمرُ سراقةَ وقال: ((الحمد)) الذي سَلَبهما كِسرى والْبَسهما سُراقةَ(1) وصدّق ما أخبر به النبي e .

T وقال أيضاً e : ((اذا هَلكَ كسرى فلا كسرى بعدَه(2))) فكان الأمر كما أخبر.

T وأخبر e رسولَ كسرى: ((ان الله سلّط على كسرى ابنَه شهَرَوَيه فقَتَله في وقت كذا..))(3) فلما حقق ذلك الرسول وقتَ مقتل كسرى، ايقنَ ان قتلَه كان في نفس الوقت الذي أخبر عنه e فأسلم بسبب ذلك. واسمُ ذلك الرسول ((فيروز)) كما ورد في بعض الروايات

T وأخبر عن كتاب حاطب بن أبي بلتعة الذي أرسله سراً الى كفار قريش. فأرسلe علياً والمقداد رضي الله عنهما بأن في الموضع الفلاني جارية معها رسالة. فأتوني بها، فذهبا واتيا بالرسالة في المكان الذي وصفه الرسول e ، واستدعى حاطباً وقال له: ما الذي حَمَلك على هذا؟ فابدى عذره فقَبِل منه(4). وهذه رواية صحيحة ثابتة.

T وثبت أيضاً انه e قال في عتبة ابن أبي لهب: ((يأكله كلبُ الله))(5) فأخبر عن عاقبته المفجعة، وبعد مدة من الزمن ذهب عتبة متوجهاً نحو اليمن فجاءه سبع وأكله. فصدّق دعاءه عليه.

T ونقل نقلاً صحيحاً: ((ان الرسول e لما فتح مكة أمر بلالاً رضي الله عنه بأن يعلو ظهر الكعبة ويؤذن عليها. وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام وهم رؤساء قريش جلوس في فناء الكعبة. فقال عتاب: لقد أكرم الله أسيداً اذ لم ير هذا اليوم. وقال الحارث: أما وَجَد محمدٌ مؤذناً غير هذا الغراب الأسود!

فقال أبو سفيان: لا أقول شيئاً، ولو تكلمتُ لأخْبَرَتْه هذه الحصباء. فخرج عليهم النبي e وقال: لقد علمتُ الذي قلتُم وذكرَ مقالتهم.

فقال الحارث وعتاب: نشهدُ انكَ رسولُ الله، ما اطّلع على هذا أحدٌ كان معنا فنقول به))(1).

فيامن لا يؤمن بهذا النبي الكريم ويا أيها الملحد!

تأمل في هذين العنيدين من رؤساء قريش كيف رأيا نفسيهما مضطرَّين الى الايمان، بما سَمِعاه من أخبارٍ غيبي واحد. فما أفسد قلبك وانتَ تسمع ألوفَ المعجزات من امثالها وكلها ثابتة بطرق التواتر المعنوي ومع ذلك لا يطمئن قلبُك... فلنرجع الى الصدد.

T وثبت أيضاً انه e ((أخبر بالمال الذي تركه عمُّه العباس رضي الله عنه عند أم الفضل (زوجه) بعد أن كتمه))(2) ((فلما أسر ببدر وطُلبَ منه الفداء فقال: لا مال لي)). فقال له e : ما صنع المال الذي وضعتَه عند أم الفضل. فقال: ((ما عَلِمَه غيري وغيرُها. فأسلَمَ))(3).

T وثبت أيضاً: ان الساحر الخبيث لبيد اليهودي عمل سحراً ليؤذي النبي e فشدّ الشعر على مشط، ودسّه في بئر، فأمر الرسول الأكرم e علياً والصحابة؛ أن يذهبوا الى البئر الفلانية ويأتوا بأدوات السحر، فذهبوا وأتوا بها، وكان كلما انحلَّت منه عقدةٌ وَجَد الرسول e شيئاً من الخفة(4).

T وثبت أيضاً، ان الرسول الأكرم e قال لجماعة فيها أبو هريرة وحذيفة: ((ضرسُ احدكم في النار مثلُ اُحد))(1)، فأخبر عن ردّة واحدةمن تلك الجماعة وبيّن عاقبته الوخيمة. قال أبو هريرة: ((فذهب القوم ــ يعني ماتوا ــ وبقيتُ أنا ورجل، فقُتِل مرتداً يومَ اليَمامة))(2). وظهرت حقيقة خبر النبي e .

T وثبت أيضاً ((بقضية عُمَير مع صفوان حين سارَّه وشارَطَه على قتل النبي e )) مقابل مبلغٍ عظيمٍ من المال ((فلما جاء عُمير النبي e قاصداً لقتله، وأطْلَعَه رسول الله e على الأمر والسر ــ ووضع يده على صدره ــ أسلم))(3).

هذا وقد وقع كثيرٌ من أمثال هذه الأنباءات الغيبية الصادقة، وذكرتها كتب الصحاح الستة المعروفة مع أسانيدها. واغلب ما ذكر في هذه الرسالة من الحوادث انما هو في حكم المتواتر المعنوي، وهي قطعية الثبوت ويقينية، وقد نقلها البخاري ومسلم في صحيحَيهما اللذين هما أصح الكتب بعد القرآن الكريم، على ما هو عليه أهل العلم والتحقيق، علماً أنها بُيّنَت في كتب السنن الصحيحة الأخرى كالترمذي والنسائي وابي داود ومستدرك الحاكم ومسند أحمد بن حنبل ودلائل البيهقي مع اسانيدها.

فيا أيها الملحد الغافل! لا تلق الكلام جزافاً فتقول:

ان محمداً e رجل عاقل ذكي! ثم تَدع الامر هكذا وتنصرف، فهذه الاخبار الصادقة التي تمس الامور الغيبية لا تخلو من أمرين اثنين؛ اما انك تقول: ان هذا الرجل له نظرٌ ثاقب وعبقرية واسعة جداً، أي له عينٌ بصيرة ترى الماضي والمستقبل معاً والعالم أجمع، فيعلم بها كل شيء وكل حادث، فاقطار الارض والعالم كله شرقاً وغرباً تحت نظر شهوده، وله من الدهاء العظيم ما يمكنه ان يكشف جميع أمور الماضي والمستقبل.! فهذه الحالة لا يمكن كما ترى ان تكون في بشر قط. واذا ما وقعت في اي فردٍ فهو اذاً خارق للعادة وله موهبة رفيعة منحها له ربُّ العالمين.. وهذا الامر بحد ذاته معجزة عظمى.. أو ينبغي لك أن تؤمن بأن ذلك الشخص الكريم مأمور وتلميذ يتلقى الارشاد والتعليمات ممن يرى كل شئ، وله القدرة بالتصرف في كل شئ في الكون كله والازمان جميعاً، فكل شيء مكتوب في لوحه المحفوظ، يعلّم منه تلميذه ما شاء متى شاء. فثبت اذاً ان محمداً e يتلقى الدرسَ من معلمه الأزلي سبحانه ويبلّغه كذلك.

T وثبت ايضاً انه e حينما بعث خالداً بن الوليد ليحارب اكيدر ـ رئيس دومة الجندل(1) ـ قال له: ((انك سَتَجده يَصيد البَقَر))(2) ـ اي البقر الوحشي ـ وأخبره بأنه سيأتي به أسيراً من غير مقاومة منه. وذهب خالد ورآه كما وصفه الرسول الكريم e فأخذه أسيراً وأتى به.

T وثبت أيضاً انه e أعلم ((قريشاً بأكل الأرضة ما في صحيفتهم التي تظاهروا بها على بني هاشم وقطعوا بها رحمهم، وانها أبْقَت فيها كل اسمٍ لله، فوجدوها كما قال))(3)، وهي معلقة على الكعبة.

T وثبت أيضاً انه e أخبر عن ظهور الطاعون عند فتح بيت المقدس. ففي عهد عمر انتشر وباء الطاعون انتشاراً فظيعاً بحيث ان عدد الذين توفوا نتيجة الأمراض سبعون الف شخص خلال ثلاثة أيام(4).

T وثبت أيضا انه e أخبر عن وجود البصرة(1) وبغداد(2) قبل ان تعمُرا، وأخبر عن جبي خزائن الارض الى مدينة بغداد.

T وأخبرهم e عن ((قتالهم الترك))(3) والأمم التي حول بحر الخزر ثم بعد ذلك يدخل اكثر هؤلاء الامم في دين الاسلام، وسيحكمون العرب بينهم حيث قال: ((يوشَكُ ان يَكثُر فيكم العَجَم يأكلون فيئَكُم ويضربون رِقَابكم))(4).

T وقال e : ((هلاكُ أمتي على يدي اُغيلمةٍ من قريش))(5) فأخبر عن يزيد والوليد وأمثالهم من الرؤساء الأشرار في الأمويين.

T وأخبر e عن وقوع ردّة في بعض الاماكن كاليمامة(6).

T وقال في غزوة الخندق: ((ان قريشاً والأحزاب لا يغزونني أبداً وانا أغزوهم))(7) وكان الأمر كما أخبر.

T وثبت كذلك انه e أخبر قبل وفاته بشهرين: ((بأن عبداً خُيِّرَ فاختار ما عند الله))(8).

T وقال في حق زيد بن صوحان: ((يَسبقُهُ عضوٌ الى الجنة، فقُطعت يدهُ في الجهاد))(1) وأصبحت شهيدة، يوم نهاوند، فسبقته الى الجنة.



T T T



وهكذا فان جميع ما بحثناه من أمور الغيب انما هو نوع واحد فقط من بين عشرة أنواع من معجزاته e ، فنحن لم نعرف بعدُ عُشر معشار هذا النوع، وقد بينّا اجمالاً أربعة أنواع من الاخبار الغيبي في الكلمة الخامسة والعشرين الخاصة باعجاز القرآن.

فتأمل الآن في هذا النوع، وضمّه الى الانواع الاربعة الاخرى التي أخبر عنهاe بلسان القرآن، وانظر كيف يشكل برهاناً قاطعاً لامعاً على الرسالة بحيث يذعن مَن لم يختل عقلُه وقلبُه ويصدّق بأن هذا النبي الكريم e انما هو رسول يخبر عن الغيب من لدن خالق كل شئ وعلام الغيوب.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
المكتوبات للإمام الرباني أحمد الفاروقي السرهندي admin المكتبة الاسلامية 1 02-13-2014 12:56 PM


الساعة الآن 12:06 PM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir