هي دير الزور .. التي نشأنا وكبرنا على أرضها .. والتي نعرفها من تصرفات مواطنيها ... هي دير الزور التي نحرص جميعا على إلقاء السلام سواء عرفنا بعضنا أم لم نعرف.
هي دير الزور التي نحب شمسها ، ونعشق فراتها ، والمرور في شوارعها ، والتغني ببساتينها ، وشم عبق ( عجاجها ) ، ورؤية صباياها يزينَّ أسواقها ، والتمتع بمنظر العباية الديرية على جسد أمي وأمك ، واليشمر على رأس ( أبوي وأبوك ) .
هي دير الزور التي يحس كل واحد فينا أنه يعرف الآخر ، وهي دير الزور التي تربط بين أبنائها صلة قرابة مهما تباعدت الأنساب ، وهي دير الزور التي تعيش فيها عائلتي وعائلتك ، والتي تنعم علينا بخيراتها ، وتنهال علينا بوافر غلالها ، وهي التي احتضنتنا ، وأحبتنا ، وقدمت لنا الكثير وسط جحود بعضنا وثناء بعضنا الآخر .
هي دير الزور التي شهدت معنا ايام الغضب على المستعمر الفرنسي ، وشهدت معنا ولادة الرجال الذين ثاروا على الذل ( الاستعماري ) ، وأبت أن تعيش إلا بكرامتها تحت ظل الانتماء إلى الوطن الأكبر ، والأم الحقيقية سورية ، وهي دير الزور التي أنجبت الأبطال ، على ساحات المعارك في حرب تشرين ، وعلى ساحات الوغى أيام الثورات ، وفي بساتين قراها التي ثارت على المعتدين ، وأذلت الكائدين ، وارهقت الآلات العسكرية التي سعت للنيل من ( ذرة تراب واحدة ) من تراب هذا الوطن الطاهر .
هي دير الزور التي اعتادت أن تلمس التفاؤل في وجه ابنائها مهما ضامهم الزمن ، ومهما جار عليهم الحال ، ومهما نالهم من مصيبة وضنك وفقر وعوز ، وهي التي يلتف أبناؤها حول بعضهم البعض ، يقدمون كل مايمكن تقديمه من أجل الوقوف بعزة وكرامة .
وهم أبناء دير الزور الذين يغارون على أعراض بعضهم ، ويحرصون على سمعة ونزاهة جيرانهم ، ويستميتون من أجل شرفهم ، ويضحون بالكثير عندما تقتضي الحاجة للتضحية ، وينبرون في أول المسيرة عندما تناديهم سورية من أجلها ، هم الأبطال فمن ينكر علينا هذا .
هي دير الزور التي كانت تنعم بالأمس فقط ببسمة صباياها في الشوارع ، ولعب أطفالها بالحدائق ، وعشق شبانها لمعالم مقاهيها ، ومطاعمها ، وهي دير الزور التي لم نبكي إلا من أجلها ، ولم نحزن إلا عليها ، ولم نألُ جهداً في سبيل أن تبقى أم الخير ، وام الغلال والمواسم .
دلوني أين هي اليوم ، هل ضاعت ، أم ضيعناها ، هل أعمتنا الرؤية أم أن العيب في أعيننا ، هل شابت المحافظة بحيث لم تعد تعجبنا ، ومن يرسم لها صورة أخرى دون أن يطلعنا على تفاصيلها .....

لعلي أرى بعض معالم تلك الصورة الخبيثة ، ولعلي أقدر أن أوضح شيئاً من تفاصيلها .
تبدو في الصورة الجديدة شوارع مكسرة ، وجدران مستهدفة ، وأطفال هم وقود المرحلة ، وتبدو في الصورة ملامح الفقر ، والاهانة ، وربما الاعتداء على الشرف ، أو ربما الاستهانة به ، وتبدو في الصورة لطخات من الدماء ، هذا يرسمها وذاك يشدد عليها ، وآخرون يهتفون من البعيد .. المزيد المزيد .
تبدو في الصورة مجموعات شابة لاتدري أين هي ماضية ، ولم تعي بعد أن دورها انتهى ، فاستحبت الصورة ، واستحبت أن نحيا في داخلها دون قدرة لنا حتى على المشي في شوارعها .
يبدو في الصورة اب حزين لايعرف أين ولده ، وصورة تربوية سيئة تهيء للولد أن يتطاول على أبوه ، وللبنت أن تهمل تعليمات أمها ، ورجال لم يعرفوا عهد الله ، فطالت لحاهم وقصرت محاسنهم ، يسعون للوصول على أكتافنا من أجل غاياتهم ، وهم سيقفون على رؤسنا إذا ماأتى الطوفان ، لتبقى الحياة حكرا لهم ، ونبقى نحن أبناء الموت ، وابناء المذلة .
تبدو في الصورة عبارات الموت ولا المذلة ، وليش خايفين الله معنا ، واللي مايشارك مافيه ناموس ، وحرية حرية حرية ...ولاأقول أن هذا المشهد سيء ،
هي دير الزور .. الوالدة .. والأخت .. والأب .. والصديق .. فهل ماتت فينا هذه القيم ، وهل قتلنا بداخلنا حب الانتماء للدير .. وهل نحن مضطرون لسكب الجليد على قلوبنا الدافئة حتى أننا لم نعد نرى إلا من خلال أعين الآخرين .
والسؤال : إلى أين نحن ماضون .. . حسنا لنتفق جميعا على صيغة لتحقيقها بعيداً عن أذية الوطن والنيل من كرامته .
هي سورية ياناس . وهي الدير ياديريين .. من لايؤمن بالأولى لن يعشق الثانية ، ومن لايحس بآلام الأولى لن توجعه دموع الثانية .


الحق ينتصر دائما