أنت غير مسجل في منتديات البوحسن . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           أعوذ بكلمات الله التَّامَّة من غضبه وعقابه، وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأنْ يحضرون           

رسائل ووصايا في التزكية كلّ ما يختص بعلوم السلوك وآداب القوم وتزكية النفس والتصوف الإسلامي

 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع
قديم 02-02-2011
  #39
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

النافذة الخامسة والعشرون

إن المضروب يدل بالضرورة على فاعل، وهو الضارب، والمصنوع المُتْقَنُ يستوجب الصانِعَ المتقِنَ، ووجود الولد يقتضي الوالد، والتحت يستلزم الفوق... وهكذا..

وقد أطلق العلماء على أمثال هذه الصفات مصطلح (الامور الإضافية) أي النسبية، أي لا يحصل الواحد دون الآخر.

فجميع ما في هذه الأمور من (إمكان) سواء في جزئيات الكون أو كلياته، تدل على (الوجوب). وما يُشَاهدُ في الجميع من انفعالات تدل على فعل واحد، وما يشاهد في جميعها من مخلوقية تدل على الخالقية، وما يشاهد فيها من كثرة وتركيب يستلزم الوحدة.

فالوجوب، والفعل، والخالقية، والوحدة، تستلزم بالبداهة والضرورة مَنْ هو الموصوف بــ(الواجب، الفاعل، الخالق، الواحد) الذي هو ليس ممكناً ولا منفعلاً ولا مخلوقاً ولا كثيراً ولا مركّباً.

وعلى هذا الأساس فان ما في الكون من إمكان، وما فيه من إنفعال، وما فيه من مخلوقية، وما فيه من كثرة، وما فيه من تركيب، يشهد شهادة واضحة على ذاتِ واجب الوجود، الواحد الأحد، خالق كل شئ الفعال لما يريد.

الخلاصة: كما يُشاهَدُ (الوجوب) من خلال (الإمكان) ويُشَاهَدُ (الفعل) من خلال (الأفعال) وتُشاهَدُ (الوحدة) من خلال (الكثرة)، وكما يدل وجود كل منها على وجود الآخر دلالة قاطعة، كذلك الصفات المشاهدة على الموجودات كـ (المخلوقية، والمرزوقية) (أي كون الموجود مخلوقاً ومرزوقاً) تدل على شؤون (الخالقية والرزاقية) دلالة قاطعة.. فوجود هذه الصفات أيضاً يدل بالضرورة وبالبداهة على (الخلاّق الرزّاق، والصانع الرحيم)...

أي أن كل موجود يشهد على (الذات الأقدس لواجب الوجود) وعلى مئات من اسمائه الحسنى بما يحمل من مئاتٍ من أمثال تلك الصفات.

فإن لم تقبل أيها الإنسان بجميع هذه الشهادات فينبغي لك إذن إنكار أمثال تلك الصفات كلها.

النافذة السادسة والعشرون (1)

ان أنواع الجمال الزاهر، وأشكال الحسن الباهر، التي تتلألأ على وجوه الكائنات السريعة الأفول، ثم تتابع هذا الجمال وتجدده بتجدد هذه الكائنات، واستمراره باستمرار تعاقبها.. إنما يظهر أنه ظِلٌ من ظلال تجليات جمال سرمدي لا يحول ولا يزول. تماماً كما ان تلألأ الحباب على وجه الماء الرقراق، وتتابع هذا اللمعان في تتابع الحباب يدل على أن الحباب والزبد والتموجات التي تطفو على سطح الماء إنما تمثل مرايا عاكسة لأشعة شمسٍ باقية.. فتلمّع أنواع الجمال أيضاً على الموجودات السيالة في نهر الزمان الجاري يشير الى جمال سرمدي خالد، ويدل على ان تلك الموجودات انما تمثل اشارات وعلامات على ذلك الجمال.

ثمَّ ان ما يخفق به قلب الكون من حُبّ جاد وعشق صادق يدل على معشوق دائمٍ باقٍ... إذ كما لا يظهر شئٌ في الثمرة ما لم يوجد في الشجرة نفسها، فكذلك العشق الإلهي العَذْب الذي يستحوذ على قلب الانسان - وهو ثمرة شجرة الكون - يبين أن عشقاً خالصاً ومحبةً صادقة بأشكال شتّى، مغروزة في كيان الكون كله، وتتظاهر بأشكال شتّى. هذا الحب المالك قلب الكون يفصح عن محبوب خالد سرمدي.

ثُمَّ إنَّ ما تمور به قلوب اليقظين الراشدين من أصفياء الناس، وما يشعرون به من انجذاب، وما يؤرقهم من وَجْد، وما يحسون به من جذبات، وما تتدفق به صدورهم من توق وحنين، إنما يدل على أن حنايا ضلوع الكون تعاني ما يعاني الانسان، وتكاد تتمزق من شدة انجذابها وعظيم جذباتها، التي تتظاهر بصور متنوعة. وهذا الجذب لا ينشأ إلاّ من جاذب حقيقي، وجاذبية باقية أبدية.

ثم ان أرقَّ الناس طبعاً وألطفهم شعوراً، وأنورهم قلباً، وهم الأولياء الصالحون من أهل الكشف والشهود قد أعلنوا متفقين على أنهم قد تبددت ظلمات نفوسهم باشراق أنوار تجليات ذي الجلال، وذاقوا حلاوة تعريف الجميل ذي الجلال، وتودّده اليهم.

فاعلانهم هذا شهادة ناطقة على (الواجب الوجود) وتعريف نفسه عن طريقهم للانسان..

ثم ان قلم التجميل والتحسين الذي يبدع نقوشه في وجه الكائنات، يدل بوضوح على جمال أسماء مالك ذلك القلم المبدع..

وهكذا فالجمال الذي يشع من وجه الكون.. والعشق الذي يخفق به قلبه.. والانجذاب الذي يمتلئ به صدره.. والكشف والشهود الذي تبصره عينه.. والروعة والإبداع في مجموع الكون كله.. يفتح نافذة لطيفة جداً ونورانية ساطعة أمام العقول والقلوب اليقظة، يتجلى منها ذلك الجميل ذو الجلال، الذي له الأسماء الحسنى، وذلك المحبوب الباقي والمعبود الأزلي.

فيا أيها المغرور التائه في ظلمات المادية! ويا أيها الغافل المتقلب في ظلمات الأوهام والمختنق بحبال الشبهات! عُد الى رشدك، واسمُ سمواً لائقاً بالانسان، أنظر من خلال هذه المنافذ الاربعة، وشاهد جمال الوحدانية، وأظفر بكمال الايمان، وكن انساناً حقيقياً.

النافذة السابعة والعشرون

] الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكيلٌ[ (الزمر:62).

سنطل من هذه النافذة على ما في موجودات الكون من (أسباب ومسبـَّبات) فـنرى ان اسمـى الأسبـاب وأشرفها قاصـرةٌ يدُهـا عـلى بلوغ أدنى المسببات وعاجزة عن ادراك ما ينجم عنها. فالأسباب إذن ليست الاّ ستائر وحجباً، فالذي يوجِد (المسبَّبات) هوغير الأسباب. ولنوضح الكلام بمثال:

القوة الحافظة في ذهن الانسان، وهي بحجم حبة من خردل موضوعة في زاوية من زوايا دماغه، نراها وكأنها كتاب جامع شامل، بل مكتبة وثائقية لحياة الانسان، حيث تضم مستندات جميع أحداث حياته من دون اختلاط ولا سهو. تُرى أي سبب من الأسباب يمكن ان يبرز لتوضيح وتفسير هذه المعجزة الظاهرة للقدرة الإلهية؟ أهو تلافيف الدماغ؟ أم أن ذرّات حجيرات الدماغ وهي بلا شعور تستطيع الحفظ والتسجيل؟ ام رياح المصادفات العشوائية؟

فلا يمكن أن تكون هذه المعجزة الباهرة الاّ من إبداع (صانعٍ حكيمٍ) جعلَ تلك (القوة الحافظة) مكتبة أو سجلاً يضم صحائف أعمال الأنسان، ليذكّره بأن ربَّه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ احصاها، وليعرضه أمام المشهد الأعظم يوم الحساب.. خذ (القوة الحافظة) في ذهن الانسان، وقس عليها سائر المسبّبات من بيوض ونوى وبذور وأمثالها من المعجزات البديعة المصغرة، تَرَ أينما وليتَ نظرك وفي أي مصنوع كان، فإنك أمام خوارق إبداع لا يقوى عليها سببٌ من الأسباب، بل حتى لو اجتمعت الأسباب جميعها لأيجاد تلك الصنعة الخارقة لأظهرت عجزها عجزاً تاماً ولو كان بعضها لبعض ظهيراً.

ولنأخذ الشمس مثلاً - التي يُظَنّ أنها سبب عظيم - فلو قيل لها مفترضين فيها الشعور والإختيار: أيتها الشمس العظيمة! هل تستطيعين إيجادَ جسم ذبابة واحدة؟ فلاشك أنها ستردُّ قائلة:

إنَّ ما وهبني ربي من ضياء، وأغدق عليَّ من حرارة وألوان، لا يؤهلني للخلق، ولا يمنحني ما يتطلبه إيجاد ذبابة من عيون وسمع وحياة، لستُ مالكة لشئ منها قط، فهذا الأمر هو فوق طاقتي كلياً.

نعم، كما أن الابداع الظاهر على (المسبَّبات) وروعة جمالها قد عَزَلت الأسباب وسلبتها قدرة الخلق، ودلَّتنا بلسان حالها على مسبِّب الأسباب، وسلَّمتْ الأمور كلها بيد الله كما جاء في الآية الكريمة:] وَالَيه يُرْجَعُ الاَمْرُ كُلُّهُ[ (هود:123) كذلك النـتائج التـي نيطت بالمسبَّبات، والغـايات الناشئة والفـوائد الحاصلة منها، تظهر جميعاً بداهـةً أن وراء حجاب الأسباب ربّاً كريماً، حكيماً، رحيماً، وأن ما نراه من أشياء ليست إلاّ من صنعه وإبداعه سبحانه.

ذلك لأن (الأسباب) التي هي بلا شعور عاجزة كلياً عن ملاحظة - مجرد ملاحظة - غاية لشئٍ مُسَبّبٍ، بينما اي مخلوق يرد الوجود لا تُناط به حكمة واحدة بل حكمٌ عديدة جداً وفوائد جمَّة وغايات شتى. أي أن الرب الحكيم والكريم هو الذي يُوجِد الأشياء ثم يرسلها الى هذا العالم ويجعل تلك الفوائد غاية وجودها. فمثلاً:

ان الأسباب الظاهرة لتكوين المطر، عاجزة عجزاً مطلقاً، وبعيدةٌ كل البعد عن أن تشفق على الحيوانات، أو تلاحظ أمورها وترحمها وتنزل لأجلها.

إذن فالذي تكفّل برزقها هو الخالق الجليل الذي يرسل المطر ويغيثها رحمة بها، وكأنه - أي المطر - رحمة متجسمة لكثرة ما فيه من آثار الرحمة والفوائد الجمة. ومن هنا أطلق على المطر اسم (الرحمة).

ثم ان التزيينات البديعة والجمال المبتسم على النباتات والحيوانات التي تملأ وجه المخلوقات قاطبة، وجميع المظاهر الجمالية عليها، تدل على أن وراء ستار الغيب مدبّراً يريد أن يعرِّف نفسه ويحبّبها بهذه المخلوقات الجميلة البديعة وتدل على وجوب وجوده ووحدانيته.

إذن فالتزيينات الرائعة في الأشياء، وما في مظاهرها من جمال بديع، وكيفياتها المتسمة بالحكمة، كلها تدل قطعاً على صفتي التعريف والتوّدد. وهاتان الصفتان - التعرف والتودّد - تشهدان بالبداهة على صانع قدير معروف ودود، فضلاً عن شهادتهما على وحدانيته سبحانه..

وزبدة الكلام: ان السبب الذي نراه شيئاً عادياً جداً، وعاجزاً عجزاً تاماً، قد استند اليه مسبَّبٌ في منتهى الإتقان والنفاسة. فهذا (المسبَّب) المتقن لا بد أنه يعزل ذلك السبب العاجز عن القيام بايجاده.

ثم ان غاية (المسبَّب) وفوائده ترفع الأسباب الجاهلة والجامدة فيما بينها وتسلمها الى يد الصانع الحكيم.

ثم ان التزيينات المنقوشة على ملامح (المسبَّب) وما يتجلى عليها من عجائب الرحمة تشير الى صانع حكيم يريد ان يُعرِّف قدرتَهُ الى ذوي الشعور من مخلوقاته، ويحبّب نفسه اليهم.

فيا عابد الأسباب. أيها المسكين!. ما تفسير هذه الحقائق المهمة الثلاث التي وضعناها بين يديك؟ وكيف يمكنك ان تقنع نفسك بأوهامك؟ ان كنت راشداً فمزّق حجاب الأسباب وقل: (هو الله وحده لا شريك له) وتحرر من الأوهام المضلّة.

النافذة الثامنة والعشرون

] وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمواتِ وَالاَرْضِ وَاخْتِلافُ اَلْسِنَتِكُم وَالْوَانِكُمْ اِنَّ في ذلِكَ لاياتٍ لِلْعَالمينَ[ (الروم:22)

لو نتأمل في هذه الكائنات فسنشاهد أنَّ في كل شئ ابتداءً من حجيرات الجسم وانتهاءً بمجموع العالم كله، حكمة شاملة، ونظاماً متقناً.

فلدى فحصنا لحجيرات الجسم نجد أن تدبيراً بالغ الاهمية ينظّم شؤون تلك الحجيرات المتناهية في الصغر؛ ينظمها حسبَ أوامر مَنْ يرى مصالح الجسم كله، ويدير اموره. فكما أن قسماً من الأغذية يدَّخر في الجسم على صورة شحوم داخلية تُصرف عند الحاجة، كذلك نجد في كل من تلك الحجيرات الصغيرة قابلية إدِّخار دقيقة. ثم ننظر الى النباتات فنجد أنها مشمولة بتربية خاصة. وننظر الى الحيوانات فنجد أنها تعيش في بحبوحة من الكرم العميم. وننظر الى أركان الكون العظيمة فنجد أن ادارةً وتنويراًً في منتهى العظمة يكتنفانه من كل جوانبه ويفضيان به الى غايات عظيمة وجليلة. وننظر الى مجموع الكون كله، فاذا به يتجلى أمامنا وكأنه مملكة منسقة الأرجاء، أو مدينة رائعة الجمال، أو قصر منيف باذخ، وإذا بنا أمام أنظمة دقيقة ترقى به لبلوغ حكم عالية وغايات سامية.

فكما أثبتنا في الموقف الأول من الكلمة الثانية والثلاثين:

ان الموجودات مرتبطة ببعضها ارتباطاً معنوياً وثيقاً الى حد لا يدع مجالاً قط لمداخلة أي شريك، حتى بمقدار ذرة واحدة من المداخلة، ابتداءً من الذّرات وانتهاءً بالمجرات.

فَمَنْ لم يكن مسخِّراً لحُكمه جميع المجرات والنجوم والسيارات ويملك زمام أمورها ويتصرف بمقاليد شؤونها، لا يمكنه ان يُوقِعَ حُكمَهُ، ويُمْضي أمرهُ على ذرة واحدة، أي - بعبارة أخرى - مَنْ يكون رباً حقيقياً على ذرة واحدة ينبغي ايضاً أن يكون مالكاً لمقاليد الكون كله.

وفي ضوء ما أوضحنا وأثبتنا في (الموقف الثاني) من الكلمة الثانية والثلاثين: أنه من يعجز عن الهيمنة على السماوات كلها يعجز عن رسم خطوط سيماء الانسان، أي إن لم يكن ربّاً لما في السماوات والأرض، لا يستطيع أن يخط ملامح وجه انسان، ويضع عليه علاماته الفارقة.

وهكذا تجد أمامك نافذة واسعة سعة الكون كله فإذا ما أطْلَلْتَ منها تجد - حتى بعين العقل - أن الآيات الكريمة الآتية، قد كُتبت بحروف كبيرة واضحة على صفحات الكون كله:

] الله خَالِقُ كُلِّ شـَيْءٍ وَهُوَ عَلىَ كُلِّ شيء وكيلٌ ^ لَهُ مَقَـالـيدُ السَّمواتِ وَالاَرْضِ[ (الزمر:62 - 63).

لذا فَمَنْ لا يستطيع رؤية هذه الحروف البارزة العظيمة المسطرة على صحيفة الكائنات، فما هو إلاّ واحد من ثلاثة إما فاقد عقله..أو فاقد قلبه. أو آدمي الصورة أنعامي التطلعات.

النافذة التاسعة والعشرون

] وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاَّ يسَبِّحُ بِحَمْدِهِ[ (الاسراء:44)

كنت سارحاً في رفقة غربتي، أسوح مع الفكر، وأجول مع الخيال والتأمل، فقادتني قدماي الى سفح رابية مزدانة بالخضرة، فرنت اليَّ - على استحياء - من وسط هذا البساط الأخضر، زهرة صفراء ساطعة الصفرة، وألوت بجيدها اليَّ تناغيني بودّ ومحبَّة، فأثارت مشاعري وأشواقي الى زهرات مثلها كنت التقيَها في ربوع بلدتي (وان) وفي سائر المدن الأخرى التي كانت تحتضن غربتي مرةً بعد أخرى، فانثال هذا المعنى فجأةً على قلبي، وها أنذا أسرده كما ورد:

هذه الزهرة الرقيقة ليست الاّ طغراء على صفحة الجمال، وختم يختم به خالقُ الجمال رسالته الخضراء الى العالم، فَمَنْ كانت هذه الزهرة طغراءه ونقشه على البساط الأخضر فأن جميع الأنواع من هذه الزهرة إذن هي أختامه على بسط الأرض جميعاً، وعلامات وحدة صنعه.

وعقب هذه الصورة المتخيلة ورد الى القلب هذا التصور؛ إن الختم المختوم به أية رسالة كانت إنما يدل على صاحب الرسالة. فهذه الزهرة إنما هي ختم رحماني على رسالة الرحمن. وهذه الرسالة هي سفح التل الصغير المسطور فيها الكلمات البليغة للنباتات والأعشاب، والمحفور فوقها أنواع الزخارف الحكيمة الإتقان. فهذه الرسالة إذن تعود لصاحب الختم هذا.

ثم أوغلت في التأمل أكثر فأكثر. فاذا بهذا السفح الجميل يتحول في نظري ويأخذ صورة ختم كبير وواضح على رسالة هذه الفلاة الممتدة بعيداً. وانتصب السهل المنسبط أمام خيالي رسالةً رحمانيةً رائعةً، ختمُها هذا السفح الجميل. وقد أفضى بي هذا التصور الى هذه الحقيقة:

كما أن كلّ ختم على أية رسالة يشير الى صاحبها، فكل شئ كالختم يُسنِد جميعَ الأشياء التي تحيط به الى خالقه الرحيم، وكأنه ختم رحماني. فكل شئ من حوله يمثل رسالةً لخالقه الرحيم.

وهكذا، فما من شئ الاّ ويغدو نافذة توحيد عظيمة الى حد يسلّم جميع الأشياء الى الواحد الأحد... كل شئ - ولا سيما الأحياء - يملك من النقوش الحكيمة والإتقان البديع بحيث أن الذي خلقه على هذه الصورة البديعة قادرٌ على خلق جميع الأشياء، أي أن الذي لا يستطيع أن يخلق جميع الأشياء لا يمكن أن يخلق شيئاً واحداً.

أيها الغافل!

تأمل في وجه الكائنات تجد أن صحيفة الموجودات ما هي الاّ بمثابة رسائل متداخلة بعضها في البعض الآخر، مبعوثة من قبل الأحد الصمد. وان كل رسالة منها قد خُتِمَتْ بما لا يُعدُّ من أختام التوحيد.تُرى مَنْ يجرأ على تكذيب شهادات هذه الأختام غير المتناهية؟ أية قوة يمكنها أن تكتم أصوات هذه الشهادات الصادقة؟ وأنت إذا ما أنصتَّ بأذن القلب لأيٍ منها تسمعها تردد: اَشْهَدُ اَنْ لآ اِلهَ إلاَّ الله.

النافذة الثلاثون

] لَوْ كَانَ فيهمآ الِهَةٌ اِلاّ الله لَفَسَدَتَا[ (الأنبياء:22)

] كُلَّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلاّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَاِلَيْهِ تُرجْعَوُنَ[ (القصص:88)

هذه نافذة يطل منها علماء الكلام الذين سلكوا في سبيل إثبات وجود الله سبحانه طريقاً مدعماً بأدلة (الإمكان) و (الحدوث). ونحن إذ نحيل تفاصيل تلك الأدلة الى مظانها من أمهات كتب العلماء الأعلام كـ(شرح المواقف) و (شرح المقاصد) نذكر هنا شعاعات من فيض نور القرآن غمرت القلبَ، ونفذَتْ اليه من خلال هذه النافذة.

إنَّ الآمرية أو الحاكمية تقتضي رفض المنافسة، وردَّ المشاركة، ودفع المداخلة أياً كانت. ومن هنا نرى أنه إذا وجد مختاران في قرية اختلَّ نظام القرية، واضطرب أمن الناس وراحتهم، وإذا ما كان هناك مديران في ناحية، أو محافظان في محافظة واحدة، فان الحابل يختلط بالنابل، وإذا ما وجد سلطانان في بلاد فان الفوضى تضرب اطنابها في أركان البلاد كلها، ويسببان من القلاقل والاضطرابات ما لا يُحمد عقباها.

فلئن كان الانسان الذي هو عاجز ومحتاج الى معاونة الآخرين، والذي يحمل ظلاً جزئياً ضعيفاً من الآمرية أو الحاكمية، لا يقبل مداخلة أحدٍ من مثيله في شؤونه، ويردُّ المنافس رداًّ شديداً. نعم، لئن كان الانسان العاجز هذا شأنه فكيف بآمرية القدير المطلق وحاكمية السلطان الأعظم ربّ العالمين.؟

قِسْ بنفسك كيف سيسود قانون ردّ المداخلة ويهيمن على الكون كله. أي أن الوحدة أو الإنفراد من لوازم الألوهية، ومقتضى الربوبية، التي لا تنفك عنها. فان رُمْتَ برهاناً قاطعاً على هذا، وشاهداً صادقاً عليه، فدونك النظام الأكمل، والإنسجام الأجمل المشاهدان في الكون. فتلمس النظام البديع سائداً في كل شئ ابتداءً من جناح ذبابة وانتهاءً بقناديل السماء، حتى يجعل هذا النظامُ المتقنُ العقلَ مشدوهاً أمامه ويردّد من إعجابه: سبحان الله.. ما شاء الله كان.. تبارك الله.. ويهوي ساجداً لعظمة مُبدعه. فلو كان هناك موضعٌ ولو بمقدار ذرةٍ لشريكٍ مهما كان، أو مداخلة في شــؤون الكون مهما كــان نوعها، لَفَسد نظــام السماوات والأرض ولبدت آثار الفساد عياناً، ولَمَا كانت هذه الصورة البديعة الماثلة أمامنا... وصدق الله العظيم الذي يقول: ] لَوْ كَانَ فيهِمآ الِهَةٌ اِلاَّ الله لَفَسَدتَا[ (الانبياء:22) علما أن الآية الكريمة الآتية:] فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ^ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ اِلَيكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسيرٌ[ (الملك:3 - 4).

انه مهما كان الانسان جاداً في تحرّيه القصور، فسيرجع خائباً، مما يدلنا أن النظام والانتظام هما في غاية الكمال. أي أن انتظام الكائنات شاهد قاطع على الوحدانية.

أما بصدد (الحدوث) فقد قال علماء الكلام:

إن العالم متغير، وكل متغير حادث، وكل مُحْدَثٍ لابد له من مُحْدِث، أي: موجِد، لذا فالكون لابد له من (موجِدٍ قديم)..

ونحن نقول:

نعم، ان الكون حادث، حيث نشاهد في كل عصر وفي كل سنة بل في كل موسم عالَماً يرحل ويحطُّ آخرُ مكانه، تمضي كائنات، وتأتي أخرى. فالقدير ذو الجلال هو الذي يوجِد هذا العالم من العدم في كل سنة، بل في كل موسم، بل في كل يوم، ويعرضه امام ارباب الشعور ثم يأخذه الى الغيب، ويأتي مكانه بآخر، وهكذا ينشر الواحدَ تلو الآخر في تعاقب مستمر، معلقاً تلك العوالم بشكل متسلسل على شريط الزمان.

فترى الربيع معجزة باهرة من معجزات القدير الجليل، يُوجِدُ فيه الأشياء من (العدم) ويجدد تلك العوالم الشاسعة من غير شئ مذكور. فالذي يبدل تلك العوالم، ويجددها ضمن العالم الأكبر، ليس الاّ رب العالمين الذي بسط سطح الأرض مائدةً عامرةً لضيوفه الكرام.

أما موضوع (الإمكان) فقد قال المتكلمون:

إنَّ (الإمكان) متساوي الطرفين، أي اذا تساوى العدم والوجود بالنسبة الى شئ ما، فلابُدَّ من مخصّص ومرجّح وموجد.

لأن الممكن لا يمكنه بداهةً ان يُوجِدَ ممكناً آخر مثله. أي لا يمكنُ ان يُوجَدَ الممكنُ الآخر، لأنَّ وجوده يكونُ سلسلةً دائرةً مغلوقةً من (الممكنات). فلابدَّ إذن من (واجب الوجود) يوجِدُ الأشياء كلها..

ولقد فنَّد علماء الكلام فكرة (الدّور والتسلسل) وأثبتوا بطلانها باثنى عشر برهاناً سُميت بالبراهين (العرشية والسلمية) وقطعوا سلسلة الأسباب والمسبَّبات وأثبتوا بذلك (الواجب الوجود).

ونحن نقول:

إنَّ اظهار الختم الخاص للخالق الجليل على كل شئ المختوم به كل شئ لهو أسهل وأقوى وضوحاً من برهان (انقطاع سلسلة الأسباب) ثم بلوغ اثبات الخالق جلَّ وعلا.

ولقد درجت بفيض القرآن جميعُ (الكلمات) و (النوافذ) على هذا المدرج السهل القاطع. ومع ذلك فان بحث (الإمكان) واسع جداً، إذ يبينُ الخالقَ من جهات لا حصر لها، وليس منحصراً بما سلكه المتكلمون من طريقٍ لإثبات الصانع باثبات انقطاع التسلسل، فالطريق واسعة بلا حدود، اذ تؤدي الى معرفة لا حدود لها لمعرفة واجب الوجود.

وتوضيح ذلك كالآتي:

بينما نرى كُلَّ شئٍ، في وجوده وفي صفاته وفي مدة بقائه وحياته، متردداً ضمن طرق إمكانات واحتمالات لا حدَّ لها، إذا بنا نشاهده قد سلك من بين تلك الجهات التي لا حدَّ لها طريقاً منتظماً خاصاً به، وتُمنح كل صفة من صفاته كذلك بهذا الطراز المخصَّص، بل تُوهَبُ له بتخصيص معين صفات وأحوال يبدّلها باستمرار ضمن حياته وبقائه..

إذن فَسَوقُ كل شئٍ الى طريق معينة، واختيار الطريق المؤدية الى حِكَم معينة، من بين طرق غير متناهية. إنما هو بإرادة مخصِّص، وبترجيح مُرجِّح، وبأيجاد موجدٍ حكيم. إذ ترى الشئ يُلبَس لباس صفات منتظمة، وأحوال منسقة معينة مخصصة له، ثم تراه يُساق - أي هذا الشئ - ليكون جزءاً من جسم مركب، فيخرج بهذا من الإنفراد، وعندئذٍ تزداد طرق الإمكانات أكثر، لأنَّ هذا الجزء يمكن أن يتخذ ألوفاً من الأشكال والأنماط في ذلك الجسم المركب، والحال إننا نرى أنه يُمنح له وضع معين ذو فوائد ومصالح، ويُختارُ له هذا الوضع من بين ما لا يُحدّ من الأوضاع التي لا جدوى له فيها. أي يُساق الى أداء وظائف مهمة وبلوغ منافع شتى لذلك الجسم المركب.

ثم نراه قد جُعل جزءاً من جسم مركب آخر، فتزداد طرق الإمكانات أكثر، لأن هذا الجسم كذلك يمكن أن يتشكل بألوف الأنماط، بينما نراه قد أختير له وضعٌ معين ضمن الألوف المؤلفة من الطرز والأنماط، فيساق الى أداء وظائف اخرى... وهكذا كلما اوغلتَ في الإمكانات تبيّن لك بجلاء ان جميع هذه الطرق توصلك الى مدبّر حكيم، وتجعلك تقتنع اقتناعاً تاماً بأن كل شئ يساق الى وظيفة بأمر آمر عليم. حيث أن جميع المركبات مركبة من أجزاء، وهذه مركبة من أجزاء اخرى.. وهكذا فكل جزء موضوع في موضع معين من المركب، وله وظائفه المخصصة في ذلك المكان.. يشبه ذلك علاقة الجندي مع فصيله وسريته ولوائه وفرقته والجيش كله. فله علاقات معينة ذات حكمة مع جميع تلك التشكيلات العسكرية المتداخلة، وله مهمات ذات تناسق معين مع كل منها.. وبمثل الخلية التي في بؤبؤ عينك، لها علاقة وظيفية مع عينك، ولها وظيفة ذات حكمة ومصالح مع الرأس ككل حتى لو اختلط شئ جزئي بتلك الخلية لاختلت ادارة الجسم وصحته، ولها علاقة خاصة مع الشرايين والأوردة والأعصاب، بل علاقة وظيفية مع الجسم كله، مما يثبت لنا أن تلك الخلية قد اعطيَ لها ذلك الموضع المعين في بؤبؤ العين وأختير لها ذلك المكان من بين ألوف الأمكنة، للقيام بتلك المهام. وليس ذلك الاّ بحكمة صانع حكيم.

فكل موجودات الكون على هذا الغرار، فكل منها يعلن بذاته، بصفاته، عن صانعه بلسانه الخاص، ويشهد على حكمته بسلوكه في طريق معينة ضمن طرق امكانات لا حد لها. وكلما دخل الى جسم مركب اعلن بلسان آخر عن صانعه ضمن تلك الطرق التي لا تحد من الإمكانات. وهكذا يشهد كل شئ على صانعه الحكيم وإرادته وإختياره، شهادةً بعدد تلك الطرق من طرق الإمكانات التي لا تحد، وبعدد المركبات وإمكاناتها وعلاقاتها التي فيها، الى أن تصل الى أعظم مركب. لأن الذي يضع شيئاً ما بحكمة تامة في جميع المركبات، ويحافظ على تلك العلاقات فيما بينها لا يمكن أن يكون الاّ خالق جميع المركبات.

أي ان شيئاً واحداً بمثـابة شـاهـد بألـوف الألسنـة عـلـيـه سبحانه وتعالى. بـل ليس هناك ألوف الشهادات على وجوده سبحانه وحكمته واختياره وحدها، بل الشهادات موجودة ايضاً بعدد الكائنات، بل بعدد صفات كل موجود وبعدد مركباته. وهكذا ترد من زاوية (الإمكان) شهادات لا تحدّ على (الواجب الوجود).

فيا أيها الغافل! قل لي بربك أليس صمّ الأذان عن جميع هذه الشهادات التي يملأ صداها الكون كله لهو صمم ما بعده صممٌ، وجهل ما بعده جهل؟

النافذة الحادية والثلاثون

] لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فى اَحْسَنِ تَقْويمٍ[ (التين:4)

] وَفىِ الاْرضِ آيَاتٌ لِلْموُقنينَ^ وَفى اَنْفُسِكُمْ اَفَلاَ تُبْصِرونَ[ (الذاريات:20ـ21)

نحنُ هنا أمام نافذة الانسان، نتطلع من خلال نفس الانسان الى نور التوحيد، ونحن إذ نحيل تفاصيل ذلك الى الكتب والأسفار المدونة من قبل ألوف الأولياء الصالحين الذين بحثوا في نفس الانسان بأسهاب، نود ان نشير الى بضع اشارات مستلهمة من فيض نور القرآن الكريم، وهي كما يأتي:

ان الانسان هو نسخة جامعة لما في الوجود من خواص، حتى يُشعِرُهُ الحقُّ سبحانه وتعالى جميع اسمائه الحسنى المتجلية بما اودع في نفس الانسان من مزايا جامعة. نكتفي في بيان هذا بما ذكرناه في (الكلمة الحادية عشرة) وفي رسائل أخرى، غير أننا نبين هنا ثلاث نقاط فقط:

النقطة الأولى:

إن (الانسان) مرآةٌ عاكسة لتجليات الأسماء الإلهية الحسنى، وهو مرآة لها ثلاثة أوجه:

الوجه الاول: كما أن الظلام سبب لرؤية النور، أي أن ظلام الليل وشدّته يبين النور ويظهره بشكل أكثر وضوحاً.. فالأنسان ايضاً يُعرِّف بضَعفه وعَجزه وبفقره وحاجاته، وبنقصه وقصوره، قدرةَ القدير ذي الجلال، وقوتَهُ العظيمة، وغناه المطلق، ورحمته الواسعة.

فيكون الانسان بهذا كأنه مرآة عاكسة لكثير من تجليات الصفات الإلهية الجليلة. بل حتى ان ما يحمله من ضعف شـديد، وما يكتـنـفـه من اعـداء لا حد لهم، يجعله يتحرى دائماً عن مرتكز يرتكز عليه، ومستند يستند اليه. فلا يجد وجدانه الملهوف إلاّ الله سبحانه.

وهو مضطر ايضاً الى تحري نقطة استمداد يستمد منها حاجاته التي لا تتناهى، ويسد بها فقره غير المتناهي، ويشبع آماله التي لا نهاية لها، فلا يجد في غمرة تحريه الا الاستناد - من هذه الجهة - الى باب غني رحيم، فيتضرع اليه بالدعاء والتوسل.

أي أن في كل وجدان نافذتين صغيرتين من جهة نقطة الاستناد والاستمداد، فيتطلع الانسان منهما دوماً الى ديوان رحمة القدير الرحيم.

أما الوجه الثاني: فهو أن الانسان مرآة لتجليات الأسماء الحسنى، اذ ان ما وهِبَ من نماذج جزئية من (العلم، والقدرة، والبصر، والسمع، والتملك، والحاكمية) وأمثالها من الصفات الجزئية، يصبح مرآة عاكسة يُعرَف منها الصفات المطلقة لله سبحانه وتعالى، وادراك علمه وقدرته وبصره وسمعه وحاكميته وربوبيته، فيفهم تلك الصفات المطلقة للربوبية بالنسبة لمحدوديتها عنده.. ولا شك أنه بعد ذلك سيحاور نفسه ويقول مثلاً:

كما أنني قد قمت ببناء هذا البيت، وأعلم تفاصيله، وأشاهد جميع جوانبه وأجزائه، وأديره بنفسي، فأنا مالكه، كذلك لابد لهذا الكون العظيم من مبدعٍ ومالكٍ يعرف اجزاءه معرفة كاملة، ويبصر كل صغيرة وكبيرة فيه، ويديره.

الوجه الثالث: لكون الانسان مرآة عاكسة للأسماء الحسنى، فهو ايضاً مرآة عاكسة لها من حيث نقوشها الظاهرة عليه. ولقد وضِحَ هذا بشئ من التفصيل في مستهل (الموقف الثالث) من الكلمة (الثانية والثلاثين( ان (الماهية) الجامعة للأنسان، فيها أكثر من سبعين نقشاً ظاهراً من نقوش الأسماء الإلهية الحسنى، فمثلاً:

يبين الأنسان من كونه مخلوقاً، اسمَ الصانع (الخالق) ويُظهر من حسن تقويمه اسمَ (الرحمن الرحيم) ويدلّ من كيفية تربيته ورعايته على اسم (الكريم) واسم (اللطيف). وهكذا يُبرز الانسان نقوشاً متنوعة ومختلفة للأسماء الحسنى المتنوعة بجميع أعضائه وأجهزته، وجوارحه وبجميع لطائفه ومعنوياته، وبجميع حواسه ومشاعره.

أي كما أن في الأسماء الحسنى أسماً أعظم لله تعالى، فهناك نقش أعظم في نقوش تلك الأسماء وذلك هو الانسان.

فيا مَنْ يعدّ نفسه انساناً حقاً، إقرأ نفسك بنفسك، وإن لم تفعل فلربما تهبط من مرتبة الانسانية الى مرتبة الإنعام.

النقطة الثانية:

تشير هذه النقطة الى سرٍ مهمٍ من أسرار الأحدية، وتوضيحه كما يأتي:

كما أن روح الإنسان، ترتبط بعلاقات وأواصر مع جميع أنحاء جسم الانسان، حتى تجعل جميع اعـضائه وجميع اجزائه، في تعاون تامٍّ فيما بينها، أي أن الروح - التي هي لطيفة ربانية وقانون أمري اُلبس الوجود الخارجي بالأوامر التكوينية التي هي تجلي الإرادة الإلهية - لا يحجبها شئ عن إدارة شؤون كل جزء من اجزاء الجسم، ولا يشغلها شئٌ عن تفقدها، وإيفاء حاجات الجسم بكل جزء من أجزائه، فالبعيد والقريب إزاءها سواء، ولا يمنع شئ شيئاً قط، إذ تقدر على مدّ عضو واحد بأمداد من سائر الأعضاء، وتستطيع ان تسوق الى خدمته الأعضاء الأخرى. بل تقدر أن تعرف جميع الحاجات بكل جزء من أجزاء الجسم، وتُحِسُّ من خلال هذا الجزء بجميع الاحساسات، وتدير من هذا الجزء الواحد الجسمَ بأكمله، بل تتمكن الروح أن ترى وتسمع بكل جزء من اجزاء الجسم ان كانت قد اكتسبت نورانية اكثر..

فما دامت الروح التي هي قانون أمري من قوانين الله سبحانه - لها هذه القدرة لإظهار أمثال هذه الاجراءات في العالم الصغير وهو الانسان، فكيف يصعب إذن على الإرادة المطلقة (ولله المثل الاعلى)، وعلى قدرته المطلقة من القيام بأفعال لا حدَّ لها في العالم الأكبر، وهو الكون، وسماع أصوات لا حد لها فيه، وبأجابة دعوات لا نهاية لها تنطلق من موجوداته؟ فهو سبحانه يفعل ما يشاء في آن واحد، فلا يؤده شئ ولا يحتجب عنه شئ، ولا يمنع منه شئٌ شيئاً، ولا يُشغله شئ عن شئٍ. يرى الكل في آن واحد، ويسمع الكل في آن واحد. فالقريب والبعيد لديه سواء، إذا أراد شيئاً يسوق له كُلَّ شئ، يبصر كُلَّ شئ من أي شئ كان، يسمع أصوات كل شئ، ويعرف كلَّ شئ بكل شئ، فهو ربُّ كل شئ.

النقطة الثالثة:

ان للحياة ماهية عظيمة مهمة، ووظيفة ذات أهمية بالغة، وحيث أن هذا البحث قد فصل في (نافذة الحياة) من (النافذة الثالثة والعشرين) وفي المكتوب العشرين - الكلمة الثامنة منه - لذا نحيل البحث اليهما، وننبه هنا الى ما يأتي:

ان النقوش الممزوجة في الحياة والتي تظهر على صورة حواسّ ومشاعر، هذه النقوش تشير الى اسماء إلهية حسنى كثيرة، والى شؤون ذاتية لله سبحانه وتعالى. فتكون الحياة من هذه الوجهة مرآة عاكسة ساطعة لتجليات الشؤون الذاتية للحي القيوم.

ولما كان وقتنا لا يتسع لأيضاح هذا السر لأولئك الذين لم يرتضوا بالله ربّاً، والذين لم يبلغوا بعد مرتبة الايمان اليقين، لذا سنغلق هذا الباب.







النافذة الثانية والثلاثون

] هُوَ الّذى اَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدينِ الحَقِّ ليُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلِّه وكَفى بِاللّهِ شَهيداً^ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله..[ (الفتح:28 - 29)

] قُلْ يَآ اَيُّها النَّاسُ اِنّى رَسُولُ الله اِلَيْكُمْ جَميعاً الَّذى لَهُ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالاَرْضِ لا إلهَ اِلاّ هُوَ يُحْيي وَيُميتُ..[ (الاعراف:158)

هذه النافذة هي نافذة تخص شمس سماء الرسالة، بل شمس شموس النبوة، حبيب رب العالمين، محمداً عليه أفضل الصلاة والتسليم.

ان هذه النافذة ساطعة سطوع الشمس، وواسعة سعة الكون، ومنورة نورانية النهار. وحيث أننا قد أثبتنا (النبوة) إثباتاً قاطعاً في الكلمة الحادية والثلاثين، رسالة (المعراج) وفي الكلمة التاسعة عشرة، رسالة (دلائل النبوة) وفي المكتوب التاسع عشر، رسالة (المعجزات الأحمدية) لذا فنحن نستعيد هنا بذاكرتنا بعض ما هو مذكور في تلك الرسائل، ونحيل اليها، إلاّ أننا نقول:

ان الرسول الإكرم عليه أفضل الصلاة والسلام، الذي هو برهان التوحيد الناطق، قد أعلن التوحيد واظهره بجلاء، وبيّنه للبشرية أبلغ بيان، في جميع سيرته العطرة، وبكل ما وهبه الله من قوة، فهو الذي يملك بجناحي الرسالة والولاية قوة إجماع وتواتر جميع الأنبياء الذين أتوا قبله، وقوة تواتر واجماع جميع الأولياء والأصفياء الذين أتوا بعده. وفتح بهذه القوة الهائلة نافذة واسعة عظيمة سَعَة العالم الاسلامي إزاء معرفة الله سبحانه، فبدأ يتطلع منها ملايين العلماء المحققين والأصفياء والصديقين أمثال: الإمام الغزالي والإمام الرباني ومحي الدين بن عربي والشيخ الكيلاني، فهؤلاء وغيرهم يتطلعون من هذه النافذة المفتوحة، ويبينونها للآخرين.

فهل هناك من ستار يا ترى يمكن اسداله على هذه النافذة العظيمة! وهل أنَّ مَنْ لا ينظر من هذه النافذة يملك شيئاً من العقل، فاحكم أنت!





النافذة الثالثة والثلاثون

] اَلْحَمْدُ للهِ الَّذى اَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً[ (الكهف:1)

] الر كِتَابٌ اَنْزَلْنَاهُ اِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ اِلىَ النّورِ[ (ابراهيم:1)

تأمل وأعلم ان ما ذُكر في جميع (النوافذ) السابقة ما هو إلاَّ بضع قطرات من بحر (القرآن الكريم)، فاذا كان الأمر هكذا فانك تستطيع الآن قياس الامداء العظيمة لأنوار التوحيد التي تفيض من بحر الحياة في القرآن الكريم، ولو أننا نظرنا - مجرد نظرة بسيطة ومجملة - الى منبع جميع تلك النوافذ، وكنزها وأصلها وهو القرآن العظيم، لوجدناه نافذة جامعة ساطعة تشع نوراً فياضاً لا حدَّ له، وحيث ان الكلمة الخامسة والعشرين (رسالة إعجاز القرآن) والاشارة الثامنة عشرة من المكتوب التاسع عشر، قد بحثتا سعة هذه النافذة وسطوعها، بما فيه الكفاية، لذا نحيل البحث اليهما.

وختاماً نرفع أكفنا ضارعين أمام عرش الرحمن جل جلاله الذي انزل علينا هذا القرآن الكريم رحمةً ونوراً وهدايةً وشفاءً ونقول:

] رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَآ اِنْ نَسِينآ اَوْ اَخْطَاْنَا[

] رَبَّنَا لاَ تُزغْ قُلوُبَنَا بَعْدَ اِذْ هَدَيْتَنَا[

] رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنّآ اِنّكَ اَنْتَ السّميعُ الْعَليمُ ^ وَتُب عَلَيْنَآ اِنَّكَ اَنْتَ التَّوّابُ الرَّحيمُ[ .















تنـبيه

هذا المكتوب (الثالث والثلاثون) الذي يضم ثلاثاً وثلاثين نافذة، نسأل الله تعالى أن يكون زاداً لمن لا إيمان له، فيدعوه الى حظيرة الإيمان.. ويشدَّ من إيمان الذي يجد في إيمانه ضعفاً فيقويه.. ويجعل الإيمان القوي التقليدي إيماناً تحقيقياً راسخاً.. ويوسع من آفاق الايمان التحقيقي الراسخ.. ويهب لمن كان إيمانه واسعاً مدارج الرقي في المعرفة الإلهية التي هي الأساس في الكمال الحقيقي، ويفتح أمامه مشاهد أكثر نورانية وأشدّ سطوعاً.

لأجل هذا، فليس لك ان تقول:

أكتفي بنافذة واحدة دون الأخرى، ذلك لأن القلب يطلب حظه رغم أن العقل قد انتفع، والروح هي الأخرى تطالب بحظها، بل حتى الخيال يطالب بقبسٍ من ذلك النور. أي ان كل نافذة من النوافذ لها فوائد متنوعة، ومنافع شتى. ولقد كان المخاطب الأساس في رسالة (المعراج) السابقة، هو المؤمن، وكان الملحد في موضع الاستماع، أما هذه الرسالة فالمخاطب الأساس فيها هو المنكر الجاحد، والمؤمن هو في موضع الاستماع.

ولما كنت قد كتبتُ هذا المكتوب في غاية السرعة - بناءً على سبب مهم - لذا فقد بقي على حاله، ولم أراجع مسودته، ولم أدخل عليها أي تعديل، فلا جرم أنْ سيكون فيه شئٌ من القصور والتشوش في بعض العبارات، وفي طريقة العرض. فأرجو من إخواني ان ينظروا اليه بعين الصفح والسماح، ويصححوا - إن استطاعوا - ما بدر مني من خطأ، ويدعوا لي بالمغفرة. والسلام على مَن اتبع الهدى.. والـمَلامُ على من إتبع الهوى.

] سُبحَانَك لا عِلْمَ لَنَا اِلاّ مَا عَلَّمْتَنا اِنَّكَ انْتَ العليم الحكيمُ[

اللّهم صلِّ على مَنْ أرسلته رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وسلم..

آمين

اللوامع

من بين هلال صومٍ وهلال العيد

ازاهير تفتحت عن نوى الحقائق وديوان شعر إيماني لطلاب النور

تنبيه:

ان هذا الديوان الموسوم بـ(اللوامع) لا يجري مجرى الدواوين الاخرى على نمط واحد متناولاً عدداً من المواضيع؛ ذلك لأن المؤلف المحترم قد وضح فيه المقولات البليغة المختصرة جداً لأحد مؤلفاته القديمة (نوى الحقائق)، ولأنه قد كتب على اسلوب النثر، زد على ذلك لا يجنح الى الخيالات والانطلاق من احاسيس غير موزونة، كما هو في سائر الدواوين. فلا يضم هذا الديوان بين دفتيه الاّ ما هو موزون بميزان المنطق وحقائق القرآن والايمان. فهو درس علمي بل قرآني وايماني ألقاه المؤلف على مسامع ابن أخيه وامثاله من الطلاب الذين لازموه. ولقد اقتدى استاذنا واستفاض من نور ] وما علّمناه الشعر[ فما كان له ميل الى النظم والشعر ولم يشغل نفسه بهما ابداً، كما بيّنه في التنبيه المتصدر للأثر وادركنا نحن ايضاً منه هذا الامر.

وقد تم تأليف هذا الديوان الشبيه بالمنظوم خلال عشرين يوماً، بعد سعي متواصل لساعتين او زيادة نصف ساعة من الزمان يومياً، مع كثرة المشاغل والمهام الجليلة لـ(دار الحكمة الاسلامية). ان تأليفاً كهذا ضمن هذا الوقت القصير جداً، مع ما في كتابة صحيفة واحدة من المنظوم صعوبة تفوق عشر صفحات من غيره، ومع وروده فطرياً وطبعه كما ورد دون أن يطرأ عليه تصحيح أو تشذيب أو تدقيق.. يجعلنا نراه خارقة من خوارق رسائل النور، فلا نعلم ديوان شعر مثل هذا يسهل قراءته نثراً دون تكلّف .

نسأل الله ان يجعل هذا المؤلَّف النفيس بمثابة المثنوي (الرومي) لطلاب النور، اذ هو خلاصة قيمة لرسائل النور وفي حكم فهرس يبشر بقدومها ويشير اشارة مستقبلية اليها، تلك الرسائل التي ظهرت بعد عشر سنوات واكتملت في غضون ثلاث وعشرين سنة.

صنغور، محمد فيضي، خسرو

من طلاب النور

تنـبيه

لم اقدّر النظم والقافية قدرهما، لعدم معرفتي بهما، فالمرء عدوّ لما جهل.

ولم أشأ قط تغيير صورة الحقيقة لتوافِق اهواء القافية، نظير (التضحية بصافية فداء للقافية)(1) ولأجل هذا فقد ألبستُ أسمى الحقائق أردأ الملابس في هذا الكتاب الخالي من القافية والنظم. وذلك:

اولاً:

لأنني لا أعلم أفضل من هذا. فكنت احصر فكري في المعنى وحده، دون اللفظ.

ثانياً:

أردت أن ابين بهذا الاسلوب نقدي لأولئك الشعراء الذين ينحتون الجسد ليوافق اللباس!

ثالثاً:

أردت اشغال النفس ايضاً بالحقائق العالية مع انشغال القلب بها في هذا الشهر المبارك، شهر رمضان.

ولأجل هذه الاسباب اُختير هذا الاسلوب الشبيه باساليب المبتدئين.

ولكن ايها القارىء الكريم!

لئن كنت قد أخطأت - وانا اعترف به - فإياك أن تخطىء فتنظر الى الاسلوب المتهرئ ولا تنعم النظر في تلك الحقائق الرفيعة، ومن ثم تهوّن من شأنها.

ايضاح

ايها القارئ الكريم!

انني اعترف سلفاً بضجري من فقر قابليتي في صنعة الخطّ وفن النظم، اذ لا استطيع الآن حتى كتابة إسمي كتابة جيدة، ولم اتمكن طوال حياتي من نظم بيتٍ واحد أو من وزنه.

ولكن، وعلى حين غرّة ألحّتْ على فكري رغبةٌ قويةٌ في النظم، وقد كانت روحي ترتاح لما في كتاب (قول نوالاسيسيبان)(1) من نظمٍ فطري عفوي على نمط مدائح تصف غزوات الصحابة الكرام رضوان الله عليهم. فاخترتُ لنفسي طراز نظمه، وكتبتُ نثراً شبيهاً بالنظم. ولم اتكلف للوزن قطعاً. فليقرأه مَن شاء نثراً قراءة سهلة دون تذكّر النظم والاهتمام به، بل عليه أن يعدّه نثراً ليفهم المعنى، اذ هناك ارتباط في المعنى بين القِطعَ، وعليه الاّ يتوقف في القافية(2). فكما تكون الطاقية والطربوش بلا شُرّابة كذلك يكون الوزن ايضاً بلا قافية، والنظم بلا قاعدة. بل اعتقد انه لو كان اللفظ والنظم جذابين صنعةً يُشغلان فكر الانسان بهما ويشدّانه اليهما، فالأولى اذن ان يكون اللفظ بسيطاً من غير تزويق لئلا يصرف النظر اليه.

ان استاذي ومرشدي في هذا الكتاب: القرآن الكريم.

وكتابي الذي أقرأه: الحياة

ومخاطبي الذي أوجّه له الكلام: نفسي.

أما أنت ايها القارئ العزيز، فمستمعٌ ليس الاّ، والمستمع لا يحق له الانتقاد، بل يأخذ ما يعجبه ولا يتعرض لما لا يعجبه.

ولما كان كتابي هذا نابعاً من فيض الشهر الكريم، شهر رمضان المبارك(3)، فإنني آمل ان يؤثر في قلب اخي في الدين، فيهدي لي بظهر الغيب دعاءً بالمغفرة أو قراءة سورة الفاتحة.

الداعي (1)

قبري المهدّم(2) يضم تسعاً وسبعين جثة (3) لسعيد ذي الآثام والآلام وقد غدا تمام الثمانين شاهد قبري

والكل يبكي(4) لضياع الاسلام.

فيئن ذلك القبر الملئ بالاموات مع شاهده.

وغداً انطلقُ مسرعاً الى ساحة عقباي

وانا على يقينٍ: أن مستقبل آسيا بأرضها وسمائها

يستسلم ليد الاسلام البيضاء

اذ يمينه يمن الايمان

يمنح الطمأنينة والامان للأنام(5).

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

برهانان عظيمان للتوحيد

C هذا الكون بذاته برهان عظيم.

اذ لسان الغيب ولسان الشهادة يسبّحان بالتوحيد، توحيد الرحمن. ويذكُران بصوت هائل: (لا إله الاّ هو).

فكل ذرات الكون، وحجيراته، وأركانه، وأعضائه؛ لسان ذاكر يلهج مع ذلك الصوت الداوي بـ:(لا إله الاّ هو).

في تلك الألسنة تنوّع، وفي تلك الاصوات مراتب، الاّ انها تنطلق معاً بـ: (لا إله إلاّ هو).

هذا الكون انسان أكبر.. يذكر ربَّه بصوت عالٍ، والأصوات الرقيقة لأجزائه وذراته كلها تدوي مع ذلك الصوت الهادر:(لا إله الاّ هو).

نعم ان هذا العالم يتلو آيات القرآن في حلقة ذكر عظيمة.

وهذا القرآن المشرق المنور يترنم مع ذوي الأرواح كلها بـ:(لا إله الاّ هو).

هذا الفرقان الحكيم، برهان ناطق لذلك التوحيد. آياتُه كلها ألسنة صادقة.. وأشعة ساطعة بالايمان.. فالجميع يذكر معاً: (لا إله الاّ هو).

فاذا ما ألصقتَ الأذن بصدر هذا الفرقان، ستسمع من أعمق الأعماق صدىً سماوياً صريحاً ينبعث :(لا إله الاّ هو).

فذلك الصوت اللطيف، صوت رفيع عالٍ، في منتهى الجدية وغاية الإيناس، ونهاية الصدق والاخلاص. ومدعم بالبرهان القاطع المقنع.. يقول مكرراً :(لا إله الاّ هو).

هذا البرهان المنور، جهاتُه الست شفافة رائقة اذ:

عليه نقش الاعجاز الظاهر.

وفيه يلمع نور الهداية، ويقول:(لا إله الاّ هو).

تحته نسيج البرهان والمنطق.

في يمينه استنطاق العقل، ويصدّقه بـ :(لا إله الاّ هو).

وفي شماله - الذي هو يمين - استشهاد الوجدان.

امامه الحسن والخير.

وهدفه السعادة.

مفتاحه دائماً:(لا إله الاّ هو).

ومن ورائه الذي هو أمام. أي استناده؛ سماوي وهو: الوحي المحض.

فهذه الجهات الست منيرة مضيئة، يتجلى في بروجها :(لا إله الاّ هو).

فأنّى للوهم ان يسترق منها السمع، وانّى للشبهة ان تطرق بابها.

أفيمكن ان يدخل ذلك المارق هذا الصرح البارق الشارق!!

فأسوار سوره شاهقة، وكل كلمة منه مَلَك ناطق بــ:(لا إله الاّ هو).

فذلك القرآن العظيم بحر ناطق للتوحيد.

لنأخذ قطرة منه مثالاً؛ (سورة الاخلاص). نتناولها رمزاً قصيراً مما لا يعد من الرموز.

انها تردّ الشرك بجميع أنواعه ردّاً قاطعاً. وتثبت سبعة أنواع من التوحيد في جملها الست: ثلاث جملٍ منها مثبتة وثلاث منها منفية.

الجملة الاولى: (قل هو):اشارة بلا قرينة، أي هو تعيين بالاطلاق، ففي ذلك التعيين تعيّن. أي: لا هو الاّ هو. وهذا اشارة الى توحيد الشهود. فلو استغرقت البصيرةُ النافذة الى الحق في التوحيد، لقالت: (لا مشهود الاّ هو).

الجملة الثانية: (الله أحد) تصريح بتوحيد الألوهية، اذ الحقيقة تقول بلسان الحق: (لا معبود الاّ هو).

الجملة الثالثة: (الله الصمد) صدف لدرّين من درر التوحيد.

الأول: توحيد الربوبية: فلسان نظام الكون يقول: (لا خالق الاّ هو).

الثاني: توحيد القيومية: أي: ان لسان الحاجة الى مؤثر حقيقي في الكون كله يقول: (لا قيوم الاّ هو).

الجملة الرابعة: (لم يلد) يستتر فيها توحيد الجلال، ويردّ أنواع الشرك، ويقطع دابر الكفر:

لان الذي يتغير ويتناسل ويتجزأ لاشك انه ليس بخالق ولا قيوم ولا إله.

و (لم يلد): يردّ مفهوم البنوة والتولد، اذ يقطع قطعاً شرك بنوة عيسى وعزير (عليهما السلام) والملائكة أو العقول. فلقد ضل كثير من الناس، وهووا في غياهب الضلال من هذا الشرك.

خامستها: (ولم يولد) توحيد سرمدي يشير الى اثبات الأحدية.

فمن لم يكن واجباً قديماً أزلياً لا يكون إلهاً، أي: إن كان حادثاً زمانياً، أو متولداً مادةً، أو منفصلاً عن أصل، لا يمكن ان يكون إلهاً لهذا الكون.

هذه الجملة تردّ شرك عبادة الأسباب، وعبادة النجوم، وعبادة الأصنام، وعبادة الطبيعة.

سادستها: (ولم يكن) توحيد جامع، أي: لا نظير له في ذاته، ولا شريك له في أفعاله. ولا شبيه له في صفاته. كل ذلك مندمج معاً يوجه النظر الى (لم).

فهذه الجمل الست متضمنة سبع مراتب من مراتب التوحيد، كل منها نتيجة للأخرى، وبرهان لها في الوقت نفسه.

أي ان (سورة الاخلاص) تشتمل على ثلاثين سورة من سور الاخلاص سورٍٍ منتظمة مركبة من دلائل يثبت بعضها بعضاً.

لا يعلم الغيب الا الله.

السبب ظاهري بحت

تقتضي عزة الالوهية وعظمتها، ان تكون الاسباب الطبيعية أستاراً بين يدي قدرته تعالى أمام نظر العقل.

ويقتضي التوحيد والجلال، ان تسحب الاسبابُ الطبيعية يدَها عن التأثير الحقيقي في آثار القدرة الإلهية(1).

الوجود غير منحصر في العالم الجسماني

ان انواع الوجود المختلفة التي لا تحصى، لا تنحصر في هذا العالم، عالم الشهادة.

فالعالم الجسماني (المادي) شبيه بستار مزركش ملقىً على عوالم الغيب المنورة.

الاتحاد في قلم القدرة يعلن التوحيد

ان ظهور أثر الابداع في كل زاوية من زوايا الفطرة يردّ ـ بالبداهة - ايجاد الاسباب لها.

ان نقش القلم نفسه والقدرة عينها، في كل نقطة في الخلقة، يرفض - بالضرورة - وجود الوسائط.

لا شئ دون الاشياء كلها

ان سر التساند والترابط، المستتر في الكائنات كلها، المنتشر فيها.. وكذا انبعاث روح التجاوب والتعاون من كل جانب.. يبين:

أنه ليست الاّ قدرة محيطة بالعالم كله، تخلق الذرة وتضعها في موضعها المناسب.

فكل حرف وكل سطر من كتاب العالم، حيّ، تسوقه الحاجة، وتعرّف الواحد الآخر، فيُلبي النداء اينما انطلق.

وبسر التوحيد تتجاوب الآفاق كلها، اذ توجّه القدرة كل حرف حي الى كل جملة من جمل الكتاب وتبصّرها.

حركة الشمس للجاذبية، وهي لشدّ منظومتها

الشمس شجرة مثمرة، تنتفض لئلا تسقط ثمارها السيارات المنتشية المنجذبة اليها.. ولو سكنتْ بصمتها وسكونها لزالت الجذبةُ، وتبخرت النشوةُ، وبكتْ - شوقاً اليها - مجاذيبُها السيارات المنتظمة في الفضاء الوسيع.

الاشياء الصغيرة مربوطة بالكبيرة

ان الذي خلق عين البعوضة، هو الذي خلق الشمس ودرب التبانة.. والذي نظّم معدة البرغوث هو الذي نظّم المنظومة الشمسية.. والذي ادرج الرؤية في العين وغرز الحاجة في المعدة هو الذي كحّل عين السماء باثمد النور وبسط سفرة الاطعمة على وجه الارض.



في نظم الكون اعجاز عظيم

شاهد الاعجاز في تأليف الكون؛ فلو اصبح كلُ سببٍ من الاسباب الطبيعية فاعلاً مختاراً مقتدراً - بفرضٍ محال - لسجدتْ تلك الاسبابُ عاجزةً ذليلةً أمام ذلك الاعجاز قائلة: سبحانك.. لا قدرة فينا.. ربنا انت القدير الازلي ذو الجلال.

كل شئ امام القدرة سواء

] ما خَلْقُكُمْ ولا بَعْثُكُم الاّ كنفسٍ واحدة[

القدرة الإلهية ذاتية وأزلية لا يتخللها العجز أصلاً، فلا مراتب فيها، ولا تداخلها العوائق قطعاً، فالكل والجزء ازاءها سواء، لا يتفاوتان؛ لأن كل شئ مرتبط بالاشياء كلها.

فمن لا يقدر على خلق كل الاشياء لا يقدر على خلق شئ واحد.

مَن لم يقبـض على زمام الكون كلّه لا يقدر على خلق ذرة

ان من لا يملك قبضة قوية يرفع بها ارضنا والشموس والنجوم التي لا تحصى، ويضعها على هامة الفضاء، وفوق صدره، بانتظام واتقان، ليس له ان يدّعي الخلق والايجاد قطعاً.

احياء النوع كإحياء الفرد

كما ان إحياء ذبابة غطت في نومٍ شبيه بالموت في الشتاء، ليس عسيراً على القدرة الإلهية، كذلك احياء هذه الدنيا بعد موتها، بل احياء ذوي الارواح قاطبة، سهلٌ ويسير علىها.

الطبيعة صنعة إلهية

الطبيعة ليست طابعة، بل مطبع.. ولا نقاشة بل نقش، ولا فاعلة بل قابلة للفعل.. ولا مصدراً، بل مسطر.. ولا ناظماً بل نظام.. ولا قدرة بل قانون.

فهي شريعة ارادية، وليست حقيقة خارجية.

الوجدان يعرف الله بوَجْده ونَشوته

في الوجدان انجذاب وجذب، مندمجان فيه دوماً، لذا ينجذب، والانجذاب انما يحصل بجذبِ جاذبٍ.

وذو الشعور ينجذب انجذاباً، إذا ما بدا ذو الجمال وتجلّى ببهاء دون حُجُب.

هذه الفطرة الشاعرة تشهد شهادة قاطعة على الواجب الوجود ذي الجلال والجمال. شاهدها الاول ذلك الجذب.. والآخر ذلك الانجذاب.

شهادة الفطرة صادقة

لا كذبَ في الفطرة، فما تقوله صدق؛ فميلان النمو الكامن في النواة يقول: سأنمو وأثمر. والواقع يصدّقه.

في داخل البيضة، يقول ميلان الحياة، في تلك الاعماق: سأكون فرخاً .. ويكون باذن الله فعلاً، ويُصدّق كلامه.

واذا نوت غرفة من ماء داخل كرة من حديد الانجماد، فان ميلان انبساطها اثناء البرودة يقول: توسَّع ايها الحديد، أنا محتاج الى مكان اوسع. فيحاول الحديد الصلب الاّ يكذّبه، بل ما فيه من اخلاص وصدق الجنان يفتّت ذلك الحديد.

كلٌ ميلٍ من هذه الميول، أمرٌ تكويني، حكمٌ إلهي، شريعة فطرية، تجلٍّ للإرادة الإلهية في ادارة الاكوان.

فكلُ ميل، وكل امتثال، انقيادٌ لأمر إلهي تكويني.

فالتجلي في الوجدان جلوة كهذه، بحيث أن الانجذاب والجذبة صافيان كالمرآة المجلوة، ينعكس فيهما نور الايمان وتجلّي الجمال الخالد.

النبوة ضـرورية للبشرية

ان القدرة الإلهية التي لا تترك النمل من دون أمير، والنحل من دون يعسوب، لا تترك حتماً البشر من دون نبي، من دون شريعة.

نعم هكذا يقتضي سرٌُ نظام العالم.

المعراج معجزة للملائكة مثلما انشقاق القمر معجزة للانسان

المعراجُ ولايةٌ عظمى في نبوة مسلَّمة بها رأته الملائكة رؤية حقة كرامةً.

ركب النبي الباهر (البُراق) وغدا بَرقاً، فدار الوجود كالقمر مشاهداً عالم النور ايضاً.

فكما ان انشقاق القمر معجزةٌ حسيّة عظمى للانسان المنتشر في عالم الشهادة، فهذا المعراج ايضاً هو أعظم معجزة لساكني عالم الارواح.

كلمة الشهادة برهانها فيها

كلمتا الشهادة: كل منها شاهدة للاخرى، ودليل، وبرهان.

فالأولى: برهان لِمّي للثانية، والثانية: برهان إنّي للاولى(1).

الحياة طراز من تجلّي الوحدة

الحياة نور الوحدة.

فالتوحيد يتجلى بالحياة في هذه الكثرة.

نعم! ان تجلّياً من تجليات الوحدة يجعل الكثرة الكاثرة من الموجودات، وجوداً واحداً؛ لأن الحياة تجعل الشئ الواحد مالكاً لكل شئ.. بينما كل الاشياء عند فاقد الحياة عدم.

الروح قانون اُلبس وجوداً خارجياً

الروح قانون نوراني، وناموس اُلبس وجوداً خارجياً. اُودع فيه الشعور.

فهذا الروح الموجود - وجوداً خارجياً - وذاك القانون المعقول - المدرك عقلاً - اصبحا اخوين وصديقين.

اذ هذا الروح آتٍ من عالم الأمر، ومن صفة الارادة، كالقوانين الفطرية الثابتة الدائمة.

وان القدرة الإلهية تكسو الروحَ وجوداً حسياً، وتودع فيه الشعور، فتجعل سيالة لطيفة صَدَفة لذلك الجوهر.

ولو ألبست قدرةُ الخالق القوانينَ الجارية في الانواع، وجوداً خارجياً، لأصبح كل منها روحاً. ولو نزع الروحُ هذا الوجودَ، وطرح عنه الشعور، لأصبح قانوناً باقياً.

الوجود بلا حياة كالعدم

الضياء والحياة، كلاهما كشّافان للموجودات.

ان لم يكن هناك نور الحياة، فالوجود معرّض للعدم، بل هو كالعدم.

نعم! إن ما لا حياة فيه غريب، يتيم، حتى لو كان قمراً.

النملة بالحياة اكبر من الارض

اذا وازنت النملة بميزان الوجود، فالكون الذي تنطوي عليه النملة بسر الحياة، لا تسعه كرتنا الارضية.

فلو قارنا هذه الكرة الارضية - التي اراها حية ويراها البعض ميتة - مع النملة، فانها لا تعدل نصف رأس هذا الكائن المجهز بالشعور.

النصرانية ستسلِّم أمرها للاسلام

ستجد النصرانية امامها الانطفاء أو الاصطفاء. وسوف تلقي السلاح وتستسلم للاسلام. لقد تمزقت عدة مرات، حتى آلت الى (البروتستانتية) ولم تسعفـها كذلك، وتمـزق الستار مرة اخرى، فوقعت في ضلالة مطلقة. الاّ أن قسماً منها اقترب مـن التوحيد، وسيجد فيه الفلاح. وهي الآن على وشك التمزق(1)، ان لم تنطفىء فانها تتصفّى وتكون ملك الاسلام (اذ تجد نفسها امام الحقائق الاسلامية الجامعة لاسس النصرانية الحقيقية).

هذا سر عظيمٌ اشار اليه الرسول الكريم e بنزول عيسى عليه السلام، وأنه سيكون من امته ويعمل بشريعته.

النظر التقليدي يرى المحال ممكناً

لقد اشتهرت حادثة: انه بينما كان الناس يراقبون هلال العيد، ولم ير أحد شيئاً،اذا بشيخ هرم يحلف أنه قد رأى الهلال، ثم تبين ان ما رآه لم يكن هلالاً بل شعرة بيضاء تقوست من اهدابه. فاصبحت تلك الشعرة هلالاً له. فأين تلك الشعرة المقوسة من الهلال؟.

فهلا فهمت هذا الرمز!

لقد أصبحت حركات الذرات شعرات مظلمة لأهداب العقل، أسدلت على البصر المادي واعمته، فلم يعد يرى الفاعلَ لتشكيل الانواع كلها. وهكذا تقع الضلالة.

فأين حركات الذرات من نظّام الكون؟.

ان توهم صدور تلك الانواع من تلك الحركات محال في محال.

القرآن لا يحتاج الى وكيل بل الى مرآة

ان ما في المصدر من قدسية هي التي تحض جمهور الأمة والعوام على الطاعة وتسوقهم الى امتثال الاوامر اكثر من قوة البرهان.

ان تسعين بالمئة من احكام الشريعة مسلَّمات وضروريات دينية، شبيهة باعمدة من الالماس، أما المسائل الاجتهادية الخلافية الفرعية، فلا تبلغ الاّ عشرة بالمئة. فلا ينبغي ان يكون تسعون عموداً من الالماس تحت حماية عشرة منها من ذهب، ولا تابعة لها.

ان معدن اعمدة الالماس وكنزها: الكتاب والسنة. فهي ملكهما ولا تُطلب الاّ منهما.

اما الكتب الاخرى والاجتهادات فينبغي ان تكون مرايا عاكسة للقرآن أو مناظير اليه ليس الاّ. اذ إن تلك الشمس المنيرة المعجزة لا ترضى لها ظلاً ولا وكيلاً.

المبُطل يأخذ الباطل بظن الحق

ان الانسان يقصد الحق ويتحراه دوماً، لما يحمل من فطرة مكرّمة، وقد يعثر على باطل فيظنه حقاً ويحافظ عليه، وقد يقع عليه الضلالُ من دون اختيار وهو ينقّب عن الحقيقة، فيظنه حقاً ويصدّقه.

مرايا القدرة كثيرة

ان مرايا القدرة الإلهية كثيرة جداً، كلٌ منها يفتح نوافذ أشفّ وألطف من الاخرى الى عالم من عوالم المثال.

فابتداءً من الماء الى الهواء، ومن الهواء الى الاثير، ومن الاثير الى عالم المثال، ومن عالم المثال الى عالم الارواح، ومن عالم الارواح الى الزمان، ومن الزمان الى الخيال، ومن الخيال الى الفكر، كلها مرايا متنوعة تتمثل فيها الشؤون الإلهية السيالة. فتأمل باُذنك في مرآة الهواء ترَ الكلمة الواحدة تصبح مليوناً من الكلمات.

هكذا يسطّر قلمُ القدرة الإلهية سرّ هذا التناسل والاستنساخ العجيب.





اقسام التمثلات مختلفة

ينقسم التمثل في المرآة الى اربع صور:

فإما أنها صورة تمثل الهوية فحسب، او تمثل معها الخاصية، او تمثل الهوية ونور الماهية، أو ماهية الهوية.

فان شئت مثالاً، فدونك الانسان والشمس، والمَلَك والكلمة.

ان تمثلات الكثيف تصبح امواتاً متحركة في المرآة.

وتمثلات روح نورانية في مراياها كل منها حية مرتبطة، ونور منبسط. ان لم يكن عينه فليس هو غيره.

فلو كانت للشمس حياة، لكانت حرارتُها حياتها، وضياؤها شعورَها.فصورتُها المنعكسة في المرآة تملك هذه الخواص.

فهذا هو مفتاح هذه الاسرار:

ان جبرائيل عليه السلام وهو في سدرة المنتهى يتمثل في صورة دحية الكلبي في المجلس النبوي وفي اماكن اخرى كثيرة.

وان عزرائيل يقبض الارواح في مكان وفي اماكن كثيرة لا يعلمها الاّ الله.

وان الرسول e يظهر لأمته في وقت واحد، في كشف الاولياء، وفي الرؤى الصادقة، ويقابلهم جميعاً بشفاعته لهم يوم القيامة يوم الحشر الاعظم. وأن الابدال في الاولياء يظهرون هكذا في اماكن عدة في آن واحد.

قد يكون المستعد مجتهداً لا مشرعاً

كل من لديه استعداد وقابلية على الاجتهاد وحائز على شروطه، له أن يجتهد لنفسه في غير ما ورد فيه النص، من دون أن يلزم الاخرين به، اذ لا يستطيع أن يشرّع ويدعو الامة الى مفهومه. اذ فهمه يُعدّ من فقه الشريعة ولكن ليس الشريعة نفسها، لذا ربما يكون الانسان مجتهداً ولكن لا يمكن ان يكون مشرّعاً. فالدعوة الى اي فكر كان مشروطة بقبول جمهور العلماء له، والاّ فهو بـدعـة مـردودة. تنحصر بصاحبها ولا تتعداه. لأن الإجماع وجمهور الفقهاء هم الذين يميزون ختم الشريعة عليه.



نور العقل يشعّ من القلب

على المفكرين الذين غشيَهم ظلامٌ ان يدركوا الكلام الآتي:

لا يتنور الفكر من دون ضياء القلب.

فإن لم يمتزج ذلك النور وهذا الضياء، فالفكر ظلامٌ دامس يتفجّر منه الظلم والجهل. فهو ظلام قد لبس لبوس النور (نور الفكر) زوراً وبهتاناً.

ففي عينك نهار لكنه بياض مظلم، وفيها سواد لكنه منور.

فان لم يكن فيها ذلك السواد المنور، فلا تكون تلك الشحمة عيناً، ولا تقدر على الرؤية.

وهكذا، لا قيمة لبصر بلا بصيرة.

فإن لم تكن سويداء القلب في فكرة بيضاء ناصعة، فحصيلةُ الدماغ لا تكون علماً ولا بصيرة.

فلا عقل دون قلب.

مراتب العلم في الدماغ مختلفة وملتبسة

في الدماغ مراتب، يلتبس بعضها ببعض، احكامها مختلفة.

يحصل التخيل اولاً، ثم يأتي التصور، ثم يرد التعقل، ثم التصديق، ثم يصبح اذعاناً ثم يأتي الالتزام، ثم الاعتقاد. فاعتقادك بشئ غير التزامك به.

وعن كلٍ من هذه المراتب تصدر حالة:

فالصلابة تصدر عن الاعتقاد، والتعصب عن الالتزام، والامتثال عن الاذعان، والالتزام عن التصديق، ويحصل الحياد في التعقل، والتجرد في التصور، والسفسطة في التخيل إن عجز عن المزج.

إن تصوير الامور الباطلة تصويراً جيداً جرحٌ للاذهان الصافية واضلال لها.

لا يُلقَّن مالا يُستوعب من علم

ان العالم المرشد الحقيقي يهب للناس علمه في سبيل الله دون انتظار عوض ويصبح كالشاة لا كالطير، فالشاة تُطعم بَهْمتها لبناً خالصاً والطير تلقم فراخها قيئها الملئ باللعاب.



التخريب أسهل والــضعيف يكون مخرّباً

ان وجود الشئ يتوقف على وجود جميع اجزائه، بينما عدمه يحصل بانعدام جزءٍ منه، لذا يكون التخريب أسهل .

ومن هنا يميل الضعيفُ العاجز الى التخريب وارتكابِ اعمال سلبية تخريبية. بل لا يدنو من الايجابية ابداً.

ينبغي للقوة ان تخدم الحق

ان لم تمتزج دساتير الحكمة ونواميس الحكومة وقوانين الحق وقواعد القوة بعضها ببعض ولم يستمد كل من الآخر ولم يستند اليه، فلا تكون مثمرة ولا مؤثرة لدى جمهور الناس. فتُهمَل شعائر الشريعة وتعطّل، فلا يستند اليها الناس في امورهم ولا يثقون بها.

الشئ يتـضمن ضـدَّه احياناً

سيكون زمان يُخفي الضدُّ ضدَّهُ، واذا باللفظ ضد المعنى في لغة السياسة. واذا بالظلم(1) يلبس قلنسوة العدالة، واذا بالخيانة ترتدي رداء الحمية بثمن زهيد. ويُطلق اسم البغي على الجهاد في سبيل الله ويسمّى الأسر الحيواني والاستبداد الشيطاني حرية.

وهكذا تتماثل الاضداد، وتتبادل الصور، وتتقابل الاسماء، وتتبادل المقامات المواضعَ.

السياسة الدائرة على المنفعة وحش رهيب

ان السياسة الحاضرة الدائرة رحاها على المنافع وحشٌ رهيبٌ، فالتودد الى وحش جائع لا يدرّ عطفه بل يثير شهيته، ثم يعود ويطلب منك اجرة انيابه واظفاره!

تتعاظم جناية الانسان لعدم تحدد قواه

ان القوى المودعة في الانسان لم تُحدد فطرةً خلافاً للحيوان، فالخير والشر الصادران عنه لا يتناهيان. فاذا ما اقترن غرورٌ من هذا وعنادٌ من ذاك، يولدان ذنباً عظيما(2) الى حد لم يعثر له البشر على إسم. ان هذا دليل على وجود جهنم، اذ لا جزاء له الاّ النار.

ومثلاً: يتمنى احدُهم أن تحل بالمسلمين مصيبة كي يظهر صدق كلامه وصواب تنبؤه!!.

ولقد أظهر هذا الزمان ايضاً: ان الجنة غالية ليست رخيصة وان جهنم ليست زائدة عن الحاجة.

رُبَّ خير يكون وسيلة لشر

ان المزية التي يتحلّى بها الخواص، في الحقيقة سبب لدفعهم الى التواضع وانكار الذات. ولكن مع الاسف اصبحت وسيلة للتحكم بالآخرين والتكبر عليهم.

وكذلك عجز الفقراء وفقر العوام، هما داعيان في الحقيقة للاشفاق عليهم، ولكن مع الاسف انجرا - في الوقت الحاضر - الى سوقهم الى الذل والأسر.

لو حصل شرف ومحاسن في شئٍ ما، فانه يُسند الى الخواص والرؤساء. أما ان حصلت منه السيئات والشرور فانه توزع على الافراد والعوام.

فالشرف الذي نالته العشيرة الغالبة يقابل بـ: احسنت يا شيخ العشيرة!

ولكن لو حصل العكس فيقال: سحقاً لافرادها

وهذا هو الشر المؤلم في البشر!



ان لم تكن للجماعة غاية وهدف فالانانية تقوى

ان لم يكن لفكر الجماعة غاية وهدف مثالي، أو نُسيت تلك الغاية، أو تنوسيت، تحولت الاذهان الى انانيات الافراد وحامت حولها.

اي: يتقوى (أنا) كل فرد، وقد يتحدد ويتصلب حتى لا يمكن خرقه ليصبح (نحن) فالذين يحبون (أنا) أنفسهم لا يحبون الآخرين حباً حقيقياً.

انتعاش الاضـطرابات بموت الزكاة وحياة الربا

ان معدن جميع انواع الاضطرابات والقلاقل والفساد واصلها، وان محرك جميع انواع السيئات والاخلاق الدنيئة ومنبعها كلمتان اثنتان أو جملتان فقط:

الكلمة الاولى: اذا شبعتُ انا فمالي إن مات غيري من الجوع.

الكلمة الثانية: تحمّل انتَ المشاق لأجل راحتي، اعمل انت لآكل أنا. لك المشقة وعليّ الاكل.

والداء الشافي الذي يستأصل شأفة السم القاتل في الكلمة الاولى هو: الزكاة، التي هي ركن من اركان الاسلام.

والذي يجتث عرق شجرة الزقوم المندرجة في الكلمة الثانية هو: تحريم الربا.

فان كانت البشرية تريد صلاحاً وحياة كريمة فعليها ان تفرض الزكاة وترفع الربا.

على البشرية قتل جميع انواع الربا ان كانت تريد الحياة

لقد انقطعت صلة الرحم بين طبقة الخواص والعوام. فانطلقت من العوام اصداء الاضطرابات وصرخات الانتقام،ونفثات الحسد والحقد. ونزلت من الخواص على العوام نار الظلم والاهانة وثقل التكبر ودواعي التحكم.

بينما ينبغي ان يصعد من العوام: الطاعة والتودد والاحترام والانقياد، بشرط ان ينزل عليه من الخواص: الاحسان والرحمة والشفقة والتربية.

فان ارادت البشرية دوام الحياة فعليها ان تستمسك بالزكاة وتطرد الربا.

اذ إن عدالة القرآن واقفة بباب العالم وتقول للربا: (ممنوع، لا يحق لك الدخول ارجع!).

ولكن البشرية لم تصغ الى هذا الأمر، فتلقّت صفعة قوية(1). وعليها ان تصغي اليه قبل أن تتلقى صفعة اخرى أقوى وأمرّ.

لقد كسر الانسان قيد الأسر وسيكسر قيد الأجر

لقد قلتُ في رؤيا:

ان الحروب الطفيفة بين الدول والشعوب تتخلى عن مواضعها الى صراعات اشد ضرواة بين طبقات البشر؛ لأن الانسان لم يرض في ادواره التاريخية بالأسر، بل كسر الاغلال بدمه. ولكن الآن اصبح أجيراً يتحمل أعباءه، وسيكسرها يوماً ما.

لقد اشتعل رأس الانسان شيباً، بعد أن مرّ بادوار خمسة:

الوحشية والبداوة والرق وأسر الاقطاع، وهو الآن أجير. هكذا بدأ وهكذا يمضي.

الطريق غير المشروع يؤدي الى خلاف المقصود

( القاتل لا يرث)(1) دستور عظيم

ان الذي يسلك طريقاً غير مشروع لبلوغ مقصده، غالباً ما يجازى بخلاف مقصوده.. فمحبة اوروبا غير المشروعة وتقليدها والألفة بها كان جزاؤها العداء الغادر من المحبوب! وارتكاب الجرائم.

نعم، فالفاسق محروم لا يجد لذةً ولا نجاة.

في الجبرية والمعتزلة حبة من حقيقة

يا طالب الحقيقة!

ان الشريعة تنظر الى الماضي والى المصيبة غير نظرتها الى المستقبل والى المعصية.

اذ تنظر الى الماضي والى المصائب بنظر القدر الإلهي، فالقول هنا للجبرية.

اما المستقبل والمعاصي فتنظر اليهما بنظر التكليف الإلهي، فالقول هنا للمعتزلة. وهكذا تتصالح الجبرية والمعتزلة.

ففي هذه المذاهب الباطلة تندرج حبة من حقيقة، لها محلها الخاص بها، وينشأ الباطل من تعميمها.

العجز والجزع شأن الـضعفاء

ان رمت الحياة، فلا تتشبث بالعجز فيما يمكن حلّه.

وان رمت الراحة فلا تستمسك بالجزع فيما لا علاج له.

قد يؤدي الشئ الصغير الى عظائم الامور

ستكون هناك احوال، بحيث ان حركة بسيطة عندها تسمو بالانسان الى اعلى عليين.

وكذا تحدث حالات، بحيث أن فعلاً بسيطاً يردي بصاحبه الى اسفل سافلين.

آن واحد يعدل سنة عند بعـضهم

فطرة الانسان قسمان: قسم يسطع في الحال، وقسم آخر يتألق بالتدرج، ويسمو رويداً رويداً.

فطبيعة الانسان تشبه كليهما معاً. وهي تتبدل حسب الشروط والاحوال.

فتمضي احياناً بشكل تدريجي، واحياناً تتفجر ناراً مضيئة تفجر البارود الاسود.

ورب نظرة تحول الفحم ألماساً.

وربّ مسّ يحول الحجر اكسيراً.

فنظرة من النبي e يقلب الاعرابي الجاهل عارفاً بالله منوراً في الحال.

وان سألت ميزاناً، فدونك عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل الاسلام وبعده.

ومثالهما: البذرة والشجرة التي اعطت ثمارها اليانعة دفعة واحدة.

فحوّل ذاك النظر النبوي وهمّته الفطرَ المتفحمة

في الجزيرة العربية الى ألماسات لامعات.

وتحولت السجايا المظلمة المحرقة - كالبارود الاسود - الى خصال فاضلة نيّرة.

الكذب لفظ كافر

حبة واحدة من صدق تبيد بيدراً من الاكاذيب.

ان حقيقة واحدة تهدم صرحاً من خيال.

فالصدق اساس عظيم وجوهر ساطع،

وربما يتخلى عن مكانه للسكوت، ان كان فيه ضرر، ولكن لا موضع للكذب قطعاً، مهما يكن فيه من فائدة ونفع.

ليكن كلامك كله صدقاً ولتكن احكامك كلها حقاً،

ولكن عليك أن تدرك هذا: انه لاحق لك أن تبوح بالصدق كله.

اتخذ هذه القاعدة دستوراً لك:

(خذ ما صفا دع ما كدر). فانظر بُحسن وشاهد بُحسن ليكون فكرك حسناً، وظُن ظناً حسناً، وفكّر حسناً لتجد الحياة اللذيذة الهانئة.

ان الامل المندرج في حسن الظن ينفخ الحياة في الحياة،

بينما اليأس المخبوء في سوء الظن ينخر سعادة الانسان ويقتل الحياة.

مجلس في عالم المثال

(موازنة بين الحضارة الحاضرة والشريعة الغراء، والدهاء العلمي والهدى الإلهي)

ابان الهدنة، نهاية الحرب العالمية الاولى، وفي ليلة من ليالي الجمعة، دخلت مجلساً مهيباً في عالم المثال، وذلك في رؤيا صادقة، فسألوني:

- ماذا سيحدث لعالم الاسلام عقب هذه الهزيمة؟

اجبت بصفتي ممثلاً عن العصر الحاضر، وهم يستمعون اليّ:

- ان هذه الدولة التي اخذت على عاتقها - منذ السابق - حماية استقلال العالم الاسلامي، واعلاء كلمة الله بالقيام بفريضة الجهاد - فرضاً كفائياً - ووضعت نفسها موضع التضحية والفداء عن العالم الاسلامي الذي هو كالجسد الواحد حاملة راية الخلافة، اقول: ان هذه الدولة، وهذه الامة الاسلامية، ستعوّض عن هذا البلاء الذي أصابها، سعادة يرفل بها العالم الاسلامي، وحرية يتمتع بها، وستتلافى المصائب والاضرار الماضية، فالذي يكسب ثلاثمائة بدفع ثلاثٍ لا شك انه غير خاسر، وذو الهمة يبدل حاله الحاضرة الى مستقبل زاهر. فهذه المصيبة قد بعثت الشفقة والاخوة والترابط بين المسلمين بعثاً خارقاً.

ان تنامي الاخوة بين المسلمين يُسرع في هزّ المدنية الحاضرة ويقرب دمارها، وستتبدل صورة المدنية الحاضرة، وسيقوض نظامها. وعندها تظهر المدنية الاسلامية، وسيكون المسلمون اول من يدخلونها بارادتهم.

وان اردت الموازنة بين المدنية الشرعية والمدنية الحاضرة، فدقق النظر في اسس كلٍ منهما ثم انظر الى آثارهما.

ان اسس المدنية الحاضرة سلبية، وهي اسس خمسة، تدور عليها رحاها.

فنقطة استنادها: القوة بدل الحق، وشأن القوة الاعتداء والتجاوز والتعرض، ومن هذا تنشأ الخيانة.

هدفها وقصدها: منفعة خسيسة بدل الفضيلة، وشأن المنفعة: التزاحم والتخاصم، ومن هذا تنشأ الجناية.

دستورها في الحياة: الجدال والخصام بدل التعاون، وشأن الخصام: التنازع والتدافع، ومن هذا تنشأ السفالة.

رابطتها الاساس بين الناس: العنصرية التي تنمو على حساب غيرها، وتتقوى بابتلاع الآخرين وشأن القومية السلبية والعنصرية: التصادم المريع، وهو المشاهد. ومن هذا ينشأ الدمار والهلاك.

وخامستها: هي ان خدمتها الجذابة، تشجيع الاهواء والنوازع، وتذليل العقبات امامهما، واشباع الشهوات والرغبات. وشأن الاهواء والنوازع دائماً: مسخ الانسان، وتغيير سيرته، فتتغير بدورها الانسانية وتمسخ مسخاً معنوياً.

ان معظم هؤلاء المدنيين، لو قلبتَ باطنهم على ظاهرهم، لرأيت في صورتهم سيرة القرد والثعلب والثعبان والدب والخنزير.

نعم! ان خيالك ليمس فراء تلك الحيوانات وجلودها.. وآثارهم تدل عليهم.

انه لا ميزان في الارض غير ميزان الشريعة. انها رحمة مهداة نزلت من سماء القرآن العظيم.

أما اسس مدنية القرآن الكريم، فهي ايجابية تدور سعادتها على خمسة اسس ايجابية.

نقطة استنادها: الحق بدل القوة، ومن شأن الحق دائماً: العدالة والتوازن. ومن هذا ينشأ السلام ويزول الشقاء.

وهدفها: الفضيلة بدل المنفعة، وشأن الفضيلة: المحبة والتقارب، ومن هذا تنشأ السعادة وتزول العداوة.

دستورها في الحياة: التعاون بدل الخصام والقتال، وشأن هذا الدستور: الاتحاد والتساند اللذان تحيا بهما الجماعات.

وخدمتها للمجتمع: بالهدى بدل الاهواء والنوازع، وشأن الهدى: الارتقاء بالانسان ورفاهه الى ما يليق به مع تنوير الروح ومدّها بما يلزم.

رابطتها بين المجموعات البشرية: رابطة الدين والانتساب الوطني وعلاقة الصنف والمهنة واخوة الايمان. وشأن هذه الرابطة: اخوة خالصة، وطرد العنصرية والقومية السلبية.

وبهذه المدنية يعم السلام الشامل، اذ هو في موقف الدفاع ضد اي عدوان خارجي.

والآن! ندرك لِمَ اعرض العالم الاسلامي عن المدنية الحاضرة، ولم يقبلها، ولم يدخل المسلمون فيها بارادتهم.

انها لا تنفعهم، بل تضرهم. لانها كبّلتهم بالاغلال، بل صارت سماً زعافاً للانسانية بدلاً من ان تكون لها ترياقاً شافياً؛ اذ ألقت ثمانين بالمائة من البشرية في شقاء، لتعيش عشرة بالمائة منها في سعادة مزيفة. اما العشرة الباقية فهم حيارى بين هؤلاء وهؤلاء.

وتتجمع الارباح التجارية بايدي أقلية ظالمة، بينما السعادة الحقة، هي في اسعاد الجميع، أو في الأقل ان تصبح مبعث نجاة الاكثرية.

والقرآن الكريم النازل رحمة للعـالمين لا يقبل الاّ طرازاً من المدنية التي تمنح السعادة للجميع او الاكثرية، بينما المدنية الحاضرة قد اطلقت الاهواء والنوازع من عقالها، فالهوى حر طليق طلاقة البهائم، بل اصبح يستبد، والشهوة تتحكم، حتى جعلتا الحاجات غير الضرورية في حكم الضرورية. وهكذا مُحيت راحة البشرية؛ اذ كـان الانسان في البداوة محتاجاً الى اشياء اربعة، بينما، افقرته المدنية الحاضرة الآن وجعلته في حاجة الى مائة حاجة وحاجة. حتى لم يعد السعي الحـلال كافياً لسد النفقات، فدفعت المدنية البشرية الى ممارسة الخداع والانغماس فـي الحرام. ومن هنا فسدت اسس الاخلاق، اذ أحاطت المجتـمع والبشرية بهالة من الهيبة ووضعت في يدها ثروة الناس فاصبح الفرد فقيراً وفاقداً للأخلاق.

والشاهد على هذا كثير، حتى ان مجموع ما ارتكبته البشرية من مظالم وجرائم وخيانات في القرون الاولى قاءتها واستفرغتها هذه المدنية الخبيثة مرة واحدة. وسوف تصاب بالمزيد من الغثيان في قابل أيامها(1) ومن هنا ندرك لِمَ يتوانى العالم الاسلامي في قبولها ويتحرج. ان استنكافه منها له مغزى، يلفت النظر.

نعم! ان النور الإلهي في الشريعة الغراء يمنحها خاصة مميزة وهي: الاستقلال الذي يؤدي الى الاستغناء.

هذه الخاصية لا تسمح ان يتحكم في ذلك النور دهاء(1) روما - الممثل لروح هذه المدنية - ولا يطعّم بها ولا يمتزج معها. ولن تكون الشريعة تابعة لذلك الدهاء.

اذ الشريعة تربي في روح الاسلام الشفقة وعزة الايمان. فلقد اخذ القرآن بيده حقائق الشريعة. كل حقيقة منها عصا موسى (في تلك اليد). وستسجد له تلك المدنية الساحرة سجدة تبجيل واعجاب.

والآن دقق النظر في هذا:

كانت روما القديمة واليونان يملكان دهاءً، وهما دهاءان توأمان، ناشئان من أصل واحد. احدهما غلب الخيال عليه. والآخر عبد المادة. ولكنهما لم يمتزجا، كما لا يمتزج الدهن بالماء. فحافظ كل منهما على استقلالها، رغم مرور الزمان، ورغم سعي المدنية لمزجهما، ومحاولة النصرانية لذلك. الاّ ان جميع المحاولات باءت بالاخفاق.

والآن، بدلت تلكما الروحان جسديهما، فاصبح الألمان جسد احدهما والفرنسيون جسد الآخر. وكأنهما قد تناسخا منهما.

ولقد أظهر الزمان: ان ذينك الدهاءين التوأمين قد ردّا أسباب المزج بعنف، ولم يتصالحا الى الوقت الحاضر.

فلئن كان التوأمان، الصديقان، الاخوان الرفيقان في الرقي قد تصارعا ولم يتصالحا، فكيف يمتزج هدى القرآن - وهـو من اصل مغاير ومعــدن آخر ومطلع مختلف - مع دهاء روما وفلسفتها؟! فذلك الدهاء، وهذا الهدى مختلفان في المنشأ.

الهدى نزل من السماء.. والدهاء خرج من الارض.

الهدى فعّال في القلب، يدفع الدماغ الى العمل والنشاط. بينما الدهاء فعال في الدماغ، ويعكرّ صفو القلب ويكدّره.

الهدى ينور الروح حتى تثمر حباتها سنابل، فتتنور الطبيعة المظلمة، وتتوجه الاستعدادات نحو الكمال. ولكن يجعل النفس الجسمانية خادمة مطيعة. فيضع في سيماء الانسان الساعي الجاد صورة المَلَك.

أما الدهاء فيتوجّه مقدماً الى النفس والجسم ويخوض في الطبيعة، ويجعل النفس المادية مزرعة لإنماء الاستعداد النفساني وترعرعه. بينما يجعل الروح خادمة، حتى تتيبس بذورها وحباتها، فيضع في سيماء الانسان صورة الشيطان.

الهدى يمنح السعادة لحياة الانسان في الدارين وينشر فيهما النور والضياء، ويدفع الانسان الى الرقي. اما الدهاء الاعور كالدجال، فيفهم الحياة انها دار واحدة فحسب، لذا يدفع الانسان ليكون عبد المادة، متهالكاً على الدنيا حتى يجعله وحشاً مفترساً.

نعم! ان الدهاء يعبد الطبيعة الصماء، ويطيع القوة العمياء.

أما الهدى فانه يعرف الصنعة المالكة للشعور، ويقدّر القدرة الحكيمة.

الدهاء يسدل على الارض ستار الكفران.. والهدى ينثر عليها نور الشكر والامتنان.

ومن هذا السر: فالدهاء أعمى أصم.. والهدى سميع بصير.

اذ في نظر الدهاء: لا مالك للنعم المبثوثة على الارض ولا مولى يرعاها، فيغتصبها دون شكران، اذ الاقتناص من الطبيعة يولد شعوراً حيوانياً.

أما في نظر الهدى فان النعم المبسوطة على الارض هي ثمرات الرحمة الإلهية، وتحت كلٍ منها يد المحسن الكريم. مما يحض الانسان على تقبيل تلك اليد بالشكر والتعظيم.

زد على ذلك:

فمما ينبغي الاّ ننكر ان في المدنية محاسن كثيرة، الاّ انها ليست من صنع هذا العصر، بل هي نتاج العالم وملك الجميع، اذ نشأت بتلاحق الافكار وتلاقحها، وحث الشرائع السماوية - ولا سيما الشريعة المحمدية - وحاجة الفطرة البشرية. فهي بضاعة نشأت من الانقلاب الذي احدثه الاسلام. لذا لا يتملكها احدٌ من الناس.

وهنا عاد رئيس المجلس فسأل قائلاً:

يا رجل هذا العصر! ان البلاء ينزل دوماً نتيجة الخيانة، وهو سبب الثواب. ولقد صفع القدر صفعته ونزل القضاء بهذه الامة. فبأىٍ من اعمالكم قد سمحتم للقضاء والقدر حتى أنزل القضاء الإلهي بكم البلاء ومسّكم الضر؟ فان سبب نزول المصائب العامة هو خطأ الاكثرية من الناس.

قلت:

ان ضلال البشرية وعنادها النمرودي وغرورها الفرعوني، تضخّم وانتفش حتى بلغ السماء ومسّ حكمة الخلق، وأنزل من السموات العلا ما يشبه الطوفان والطاعون والمصائب والبلايا.. تلك هي الحرب العالمية الحاضرة. اذ أنزل الله سبحانه لطمة قوية على النصارى بل على البشرية قاطبة. لأن أحد أسبابها التي يشترك فيها الناس كلهم هو الضلال الناشئ من الفكر المادي، والحرية الحيوانية، وتحكّم الهوى.

أما ما يعود الينا من سبب فهو:

اهمالنا اركان الاسلام وتركنا الفرائض؛ اذ طلب منا سبحانه وتعالى ساعة واحدة من اربع وعشرين ساعة، طلبها لأجلنا نحن، لأداء الصلوات الخمس، فتقاعسنا عنها. واهملناها غافلين، فجازانا بتدريب شاق دائم لأربع وعشرين ساعة طوال خمس سنوات متواليات، أي أرغمنا على نوع من الصلاة!

وانه سبحانه طلب منا شهراً من السنة نصوم فيه رحمة بأنفسنا. فعزّت علينا نفوسُنا فأرغمنا على صوم طوال خمس سنوات، كفّارة لذنوبنا.

وانه سبحانه طلب منا الزكاة عُشراً أو واحداً من اربعين جزءاً من ماله الذي اعطاه لنا، فبخلنا وظلمنا وخلطناه بالحرام، ولم نعطها طوعاً. فأرغمنا على دفع زكاة متراكمة. وانقذنا من الحرام، فالجزاء من جنس العمل.

ان العمل الصالح نوعان:

احدهما: ايجابي واختياري.

والآخر: سلبي واضطراري.

فالآلام والمصائب كلها اعمال صالحة سلبية اضطرارية، كما ورد في الحديث الشريف وفيه سلواننا وعزاؤنا.

ولهذا، فلقد تطهرت هذه الامة المذنبة وتوضأت بدمها. وتابت توبة فعلية.

وكان ثوابها العاجل رفع خُمس هذه الامة العثمانية - اي اربعة ملايين من الناس - الى مرتبة الولاية ومنحهم درجة الشهادة والمجاهدين.. هكذا كفّر عن الذنوب.

استحسن مَن في المجلس الرفيع المثالي هذا الكلام.

وانتبهتُ من نومي، بل قد نمتُ مجدداً باليقظة. لأنني اعتقد ان اليقظة رؤيا والرؤيا نوع من اليقظة.

سعيد النورسي هنا
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
 

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
عاتب نفسك بهذه الكلمات هبة الله المواضيع الاسلامية 5 09-01-2010 11:05 PM
عاتب نفسك بهذه الكلمات عبدالرحمن الحسيني السِــيرْ وتـراجم أعــلام الإســـلام 1 06-21-2010 01:11 PM
كلمات فوق الكلمات عبدالقادر حمود القسم العام 8 01-09-2009 01:58 PM
كلمات ليست كا الكلمات بنت الاسلام القسم العام 11 10-27-2008 10:48 AM


الساعة الآن 09:34 AM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir