أنت غير مسجل في منتدى الإحسان . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           الحَمْدُ لله الذِي عَافَانِي في جَسَدِي ورَدَّ عَلَيَّ رُوحِي، وأَذِنَ لي بِذِكْرهِ           
العودة   منتدى الإحسان > الشريعة الغراء > المواضيع الاسلامية

إضافة رد
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع
قديم 01-26-2015
  #1
عبد القادر الأسود
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبد القادر الأسود
 
تاريخ التسجيل: Feb 2010
المشاركات: 216
معدل تقييم المستوى: 15
عبد القادر الأسود is on a distinguished road
افتراضي فيض العليم ... سورة الأنفال، الآية: 15

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ (15)
قولُهُ ـ عزَّ مِن قائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا} يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِالثَّبَاتِ فِي المَعْرَكَةِ مع أعداء الدين، وَبِمُوَاجَهَةِ الكَافِرِينَ بِقُلُوبٍ مُؤْمِنَةٍ ثابتةٍ، وأَصْلُ اللِّقاءِ أَنهَّ الحُضورُ لدى الغَيرِ، وقَدْ غَلَبَ اسْتِعْمالُهُ في كَلامِهم عَلى مُناجَزَةِ العَدُوِّ في الحَربِ. وزحفاً أي إذا لقيتم جيشاً معادياً لكم زاحفاً لقتالكم، والزحفُ: الجماعةُ كثيرةُ العَدَدِ يمشُونِ إلى عَدوِّهم، وكأنهم كتلةٌ واحدةٌ، قالَ الأَعْشى:
لِمَنِ الظَعائنُ سَيْرُهُنَّ تَزْحَفُ ......... مِنْكَ السَّفينَ إذا تَقاعَسَ تَجْرِفُ
والزَحْفُ أيضاً هو الدُّنُوُّ من العدوِّ والمشيِ إليه في ساحةِ القِتالِ قليلاً قليلاً باحْتِراسٍ وتَرَصُّدِ فرصةٍ للانقضاضِ عليه بغتَةً دون أنْ يلفتَ انْتِباهَهُ ومفاجأتُهُ فَكَأنَّهُ يَزْحَفُ إليْهِ ويأتيه زحفاً أو حبواً. فتقولُ: أَزْحَفْتُ القَوْمَ إذا دَنَوْتَ منهم لِقِتالهم، ويُقالُ: أَزْحَفَ لَنا عَدُوُّنا إزْحافاً: أيْ صاروا يَزْحَفونَ لِقِتالِنا، ونقولُ: ازْدَحَفَ القَومُ ازْدِحافاً إذا مَشَى بَعْضُهم إلى بَعْضٍ، والزُّحافُ في الشِعْرِ: أَنْ يَسْقَطَ مِنَ الحَرْفَينِ حَرْفٌ ويَزْحَفُ أَحَدُهما إلى الآخَرِ. وسُمّي الجيشُ العَرَمْرَمُ المقابِلُ عدوَّهُ لقتالِهِ زَحْفاً لِثِقَلِ حركته في تنقُّلِهِ بسببِ كَثْرَةِ الناسِ فيهِ فيثقُل تَنَقُلُهُ ويتباطأُ لذلك وُصِفَ بالمَصْدَرِ (الزحف)، ولأنَّه يّنْدَفِعُ للقِتالِ شيئاً فشيئاً فكأَنَّه يَزْحَفُ أوْ يَدِبُّ دَبِيباً، وهوَ مِنْ زَحَفَ الصَبيُّ إذا دَبَّ عَلى إِلْيَتِهِ. وقدْ جُمِعَ على أَزْحُفٍ وزُحوفٍ. مِنْ ذلك قولُ الهُذَليِّ يَصِفُ مِنْهَلاً للماء كَثُرَت أثارُ الحياة من حوله الزاحفة إليه قُبَيْلَ الفَجْرِ لِتَشْرَبَ منه مشبِّهاً لها بآثَارِ السياطِ على الظهرِ إذا جُلِدَ:
كأنَّ مَزَاحِفَ الحَيَّاتِ فِيهِ ................... قُبَيْلَ الصُبْحِ آثارُ السِّياطِ
وهذا مِنْ بابِ إطلاقِ المصْدَرِ على العَينِ. واسمَ المصدر منه مَزاحِف، جمع مَزْحَف. والزَّحْفُ أيضاً الدبيب، مِنْ زَحَفَ الصبيُّ"، قال امرؤُ القيس:
فَزَحْفاً أَتَيْتُ على الرُّكْبَتَيْنِ ................... فثوباً لَبِسْتُ وثوباً أَجُرّْ
قولُهُ: {فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} حثٌّ لهم عَلَى عَدَمِ الفِرَارِ وَتَوْلِيَةِ الظُّهُورِ لِلأَعْدَاءِ، وَإِنْ كَانَ الكَافِرُونَ أَكْثَرَ مِنَ المُؤْمِنِينَ عَدَداً، لأنَّ الفِرَارَ يُحْدِثُ الوَهَنَ فِي الجَيْشِ الإِسْلاَمِي المُقَاتِلِ. وفي هذِهِ الآيةِ تَدْريبٌ للمُسْلِمينَ على الشَجاعَةِ والإقْدامِ والثَباتِ عِنْدَ اللِّقاءِ، وهيَ خطَّةٌ محمودَةٌ عِنْدَ العَرَبِ لم يَزِدْها الإسْلامُ إلاَّ تَقْوِيَةً، قالَ الشاعر الحُصَينُ بْنُ الحُمامِ سَيِّدُ بَني سهم بْنِ مُرَّةَ، أَنصاريٌّ له صُحْبَةٌ يُعَدُّ في الشعراءِ من شعراء الحماسة:
تَأَخَّرْتُ اسْتََبْقِي الحياةَ فَلَمْ أَجِدْ ........... لِنَفْسي حياةً مِثلَ أَنْ أَتَقَدَّما
و "الأدبار" جمعُ دُبُرٍ، وهُوَ ضِدُّ قُبُلِ الشَيْءِِ أيْ: وجْهُِهُ وما يَتَوَجَّهُ إليكَ مِنْهُ عِنْدَ إقْبالِهِ عَلى شَيْءٍ وجَعْلُهُ أَمامَهُ، ودُبُرُهُ ظَهْرُهُ وما تَراهُ مِنْهُ حين انْصِرافِهِ، وجَعْلُهُ إيَّاكَ وراءَهُ، ومِنْه يُقالُ اسْتَقْبَلَ واسْتَدْبَرَ، وأَقْبَلَ وأَدْبَرَ، فمَعنى تَوْلِيَتِهمُ الأَدْبارَ صَرْفُها إِلَيْهم، أَيْ: الرُجوعُ عَنِ اسْتِقْبالهم، وتَوْلِيَةُ الأَدْبارِ كِنايَةٌ عَنِ الفِرارِ مِنَ العَدُوِّ بِقَرينَةِ ذِكْرِهِ في سِياقِ لِقاءِ العَدُوِّ، فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ في لازِمِ مَعْناهُ مَعَ بَعْضِ المَعنى الأَصْلِيِّ، وإلاَّ فإنَّ صَرْفَ الظَهْرِ إلى العَدُوِّ بَعْدَ النَصْرِ لا بُدَّ مِنْهُ.
وهذه الآيةُ عندَ جمهور أَهْلِ العِلْمِ نَزَلَتْ بعد انقضاءِ وَقْعَةِ بَدْرٍ، كما تقدَّمَ آنِفاً، فإنَّ هذه السورةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ الاخْتِلافِ في الأنفالِ عِنْدَ قسمتها، وهذه الآيةُ جزءٌ مِنْ هذِهِ السُورَةِ فحُكْمُ هذِه الآيةِ شَرْعٌ شَرَعَهُ اللهُ على المسلمين بِسَبَبِ تِلْكَ الغَزْوَةِ لِتَوَقُّعِ حُدوثِ غَزَواتٍ يَكونُ فيها جيشُ المُسلمين قليلَ العدد كما كان يومَ بدرٍ، فنَهاهُم اللهُ عَنِ التراجُعِ والتَقَهْقُرِ والفرارِ مِنْ لِقاءِ عَدوِّهم من الكفارِ إذا فرضَ ذلك عليهم وهاجمهم أعداء اللهِ وأعداؤهم. فأَمَّا يومَ بدرٍ فلم يَكنْ حُكْمٌ مَشروعٌ في هَذا الشأنِ فإنَّ المُسلمينَ وَقَعُوا في الحَرْبِ بَغْتَةً وتَولَّى اللهُ نَصرَهم.
وحُكْمُ هَذِهِ الآيةِ باقٍ غيرُ مَنْسوخٍ عِنْدَ جمهورٍ من العلماءِ، رُوِيَ هَذا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وبِهِ قالَ مالِكٌ، والشافعيُّ، وجمهورٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ. لكنَّهم جَعَلوا عُمومَ هذِهِ الآيةِ مخْصوصاً بآية: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ * الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} سورة الأَنفال، الآيتان: 65, 66. فقد أخرجَ الشافعيُّ، وابْنُ أَبي شَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قال: مَنْ فَرَّ مِنِ اثْنينِ فقد فَرَّ. وأَخرجَ ابنُ جَريرٍ الطبريُّ، وأبو جعفر النَحاسُ في ناسِخِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قال: الفرار مِنَ الزَحْفِ مِنَ الكَبائرِ لأنَّ اللهَ تَعالى قال: {ومَنْ يُوَلِّهم يومئذٍ دُبُرَهُ إلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقتالٍِ} الآيةَ. وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضيَ اللهُ عَنْهُما، قال: الفرارُ مِنْ الزَحْفِ مِنَ الكَبائِرِ. وأَخْرجَ ابْنُ مَردويْهِ عَنْ أُمامَةَ ـ رضيَ اللهُ عنْها، مَولاةِ النَبيِّ ـ صَلى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، قالت: كنتُ أُوَضِّئُ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم، أُفْرِغُ على يَدَيْهِ، إذْ دَخَلَ عَليْه رجلٌ فقال: يا رَسُولَ اللهِ أُريدُ اللُّحوقَ بأهْلي، فأَوْصِني بِوَصِيَّةٍ أَحْفَظُها عَنْكَ.قال: ((لا تَفِرَّ يومَ الزَحْفِ، فإنَّهُ مَنْ فَرَّ يَوْمَ الزَحْفِ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ومأواهُ جَهَنَّمَ وبِئْسَ المَصيرُ)). وأَخْرَجَ الخَطيبُ في المُتَّفِقِ والمُفْتَرِقِ، عنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رضيَ اللهُ عَنْهُما، قال: لما نَزَلَتْ هذِهِ الآية: "يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار". قال لنا رسولُ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((قاتلوا كما قال الله)). وأَخْرَجَ الإمامُ أَحمدُ عَنْ عَمْرٍو بْنِ العاصِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَبيِّ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ، أَنَّهُ اسْتَعاذَ مِنْ سَبْعِ مَوتاتٍ. مَوْتِ الفَجْأَةِ، ومِنْ لَدْغِ الحَيَّةِ، ومِنَ السَبُعِ، ومِنَ الغَرَقِ، ومِنَ الحَرْقِ، ومِنْ أَنْ يَخِرَّ عليه شيءٌ، ومِنَ القتلِ عِنْدَ فِرارِ الزَحْفِ. وأَخْرَجَ الإمامُ أَحمدُ عنْ أُبي اليُسْرِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أنَّ رَسُولَ اللهِ كانَ يَدْعُو بهؤلاءٍ الكَلماتِ السَبْعِ يقولُ: ((اللهُمَّ إني أَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَرَمِ، وأَعُوذُ بِكَ مِنَ الغّمِّ والغَرَقِ والحَرَقِ، وأَعُوذُ بِكَ أَنْ يَتَخَبَّطِني الشيطانُ عِنْدَ الموت، وأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَموتَ في سبيلك مُدْبِراً، وأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَمُوتَ لَديغاً)). وأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ، وأَبو داوودَ، والتِرْمِذِيُّ، والبَيْهَقِيُّ في الأسماءِ والصِفاتِ، عنْ بِلالِ بْنِ يَسارٍ، عَنْ زَيْدٍ مَوْلى رَسُولِ اللهِ ـ صَلى اللهُ عليه وسَلَّمَ، عن أَبيهِ عنْ جده، أَنَّه سمِعَ رَسُولَ اللهِ يَقولُ: ((مَنْ قالَ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ الذي لا إلَهَ إلاَّ هُوَ الحَيَّ القَيُّومَ وأَتُوبُ إليهِ، غُفِرَ لَهُ وإنْ كانَ فَرَّ مِنَ الزَحْفِ)). وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ مَسْعودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْه، قال: قالَ رَسُولُ اللهِ: ((مَنْ قالَ أَسْتَغْفِرُ اللهَ الذي لا إلهَ إلاَّ هُو الحيَّ القَيّومَ ثلاثاً غُفِرَتْ ذُنُوبِهِ وإنْ كَانَ فَرَّ مِنَ الزَحْفِ)). وأَخْرجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنْ مُعاذِ بْنِ جَبَلٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، مِثْلَهُ مَوْقوفاً، وَلَهُ حُكْمُ الرَفْعِ.
ذَكَرَ أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ فِي مُقَدّمَاتِهِ عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ قَالَ إذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا لَمْ يَجُزْ لَهُمْ الْفِرَارُ مِنْ ثَلاثَةِ أَمْثَالِهِمْ وَلا مِنْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصلاةُ والسّلامُ: ((لَنْ تُغْلَبَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلّةٍ)). وَالْقَدْرُ الّذِي يَحْرُمُ مَعَهُ الْفِرَارُ الْوَاحِدُ مَعَ الْوَاحِدِ وَالْوَاحِدُ مَعَ الاثْنَيْنِ فَإِذَا كَانَ الْوَاحِدُ للثّلاثَةِ لَمْ يُعَبْ عَلَى الْفَارّ فِرَارُهُ كَانَ مُتَحَيّزًا إلَى فِئَةٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَقَدْ كَانَ وُقُوفُ الْوَاحِدِ إلَى الْعَشَرَةِ حَتْمًا فِي أَوّلِ الأَمْرِ ثُمّ خَفّفَ اللهُ وَنَسَخَهُ بِقَوْلِهِ: {الآنَ خَفّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنّ فِيكُمْ ضَعْفًا} الآيَةَ. كَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، واللهُ أَعْلَمُ.
ورُويَ عن أبي سعيد الخدري، وعطاءٍ، والحَسَنِ، ونافعٍ، وقتادة، والضحاك ـ رضي اللهُ عنهم: أَنَّ هَذِهِ الآيةَ نَزَلَتْ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرِ. وقالوا إنَّ حُكْمَها نُسِخَ بآيةِ الضعْفِ، أَيْ بقولِه تعالى بعد ذلك: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ ..} الآية. وبهذا قالَ أَبو حَنيفة النعمانُ ـ رضي اللهُ عنه. فقد أَخْرَجَ سَعيدُ بْنُ مَنصورٍ، وابْنُ سَعْدٍ، وابْنُ أَبي شَيْبَةَ، والإمامً أَحمدُ، وعبد بْنُ حميد، والبُخاريُّ في الأَدَبِ المُفْرَدِ (واللفْظُ لَهُ) وأَخرجَ أبو داوود، والترمِذِيُّ وحَسَّنَهُ، وابْنُ ماجةَ، وابْنُ المَنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، والنَحَّاسُ، وأَبو الشَيخ، وابنُ مردويه، والبَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإِيمانِ، عن ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قال: كُنَّا في غَزاةٍ، فحاصَ الناسُ حيْصَةً، قلْنا: كيفَ نَلْقى النبيَّ ـ صَلى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، وقد فَرَرْنا مِنَ الزَحْفِ وبُؤْنا بالغَضَبِ؟! فأَتَيْنا النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم، قبلَ صلاةِ الفَجْرِ، فخرجَ فقال: ((مَنِ القَوْمُ . . . ؟)) فقُلْنا: نحنُ الفَرّارونَ. فقال: ((لا بَلْ أَنْتُمْ العَكّارون. فقَبَّلْنا يَدَهُ، فقالَ: أَنَا فِئَتُكم وأَنَا فِئَةُ المُسْلِمين، ثمَّ قَرَأَ: {إلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فئةٍ}.والعَكّارُ: الذي يُوَلِّى في الحُرُوب ثم يَكُرُّ راجِعاً. وقد رُوِيَ ذلك يومَ عادوا مِنْ مُؤْتَةَ. قالها لخالدٍ بْنِ الوليدِ ولجيشِه الذي انسَحَبِ بِهِ مِنْ غَزْوَةِ مُؤتَةَ لماّ آلتْ إليه قيادة الجيشِ، بعد أنْ استشهدَ كلٌّ من زيدُ بْنُ حارثةَ، وجعفرُ ابْنُ أبي طالب، وعبدُ اللهِ ابْنُ رواحةَ ـ رضي الله عنهم أجمعين، والرسول ـ صلى الله عليه وسلم، ينقلُ لأصحابِهِ في المدينة أخبارَ المعركة، فقد نادى في الناسِ الصلاةُ جامعةٌ، ثم صَعِدَ المِنْبرَ وعَيْناهُ تَذْرِفانِ، وقال: ((أَيُّها الناسُ بابُ خيرٍ، بابُ خيرٍ، بابُ خيرٍ، (ثلاثا) أُخْبرُكم عَنْ جَيْشِكُمُ هذا الغازي إنهم انْطَلَقوا فَلَقُوا العَدُوَّ فَقُتِلَ زَيدٌ ـ رضيَ اللهُ تَعالى عَنْهُ شَهيداً فاسْتَغْفِروا لَهُ، ثمَّ أَخَذَ الرايَةَ جَعْفَر ـ رضيَ اللهُ تعالى عنه، فَشَدَّ على القومِ حتى قُتِلَ شَهيداً، فاستغفروا لَه، ثمَّ أَخَذَ الرايةَ عبدُ اللهِ ابْنُ رَواحَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْه، وأَثْبَتَ قَدَمَيْهِ حتى قُتِلَ شَهيداً فاستغفروا له، ثمَّ أخَذَ اللواءَ خالدُ بْنُ الوَليدِ، ولم يَكُن مِنَ الأُمراءِ، وهُوَ أَميرُ نَفْسِهِ، ولكنَّهُ سَيْفٌ مِنْ سُيوفِ اللهِ فآبَ بِنَصْرِهِ)) وفي لفظٍ ((ثمَّ أَخَذَ الرايةَ خالدُ بْنُ الوليدِ، نِعْمَ عبدُ اللهِ، وأَخو العشيرةِ، وسَيْفٌ مِنْ سُيوفِ اللهِ، سَلَّهُ اللهُ على الكُفّارِ والمُنافِقيَن مِنْ غَيرِ إمْرَةٍ حتى فَتَحَ اللهُ عليهم)). وفي رواية أنَّهُ ـ صلى الله عليه وسلم: قال اللهُمَّ إنَّهُ سَيْفٌ مِنْ سُيوفِكَ فانْصُرْهُ)). فمِنْ يَؤمِئِذٍ سُمِّيَ خالدٌ سَيْفَ اللهِ، وكان جيشُ الروم قد تجاوزَ مئتيْ أَلْفِ مقاتلٍ، وجيشُ المُسلمين، يومَها ثلاثةُ آلافِ مُقاتلٍ، فقاتلَ خالدٌ ذلكَ اليومِ ثمَّ ناورَ بالجيش، وهي خطّةٌ ما زَالت تدرّسُ في المعاهد العسكرية وكليّاتِ الأركان الحربيِّة إلى اليومِ في العالم كلِّه. ذلك أنَّ خالداً ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ لما أَصْبَحَ جَعَلَ مُقَدِّمَةَ الجيشِ ساقةً، وساقَتَهُ مقدمةً، ومَيْمَنَتَهُ مَيْسَرَةً ومَيْسَرَتَهُ مَيْمَنَةً، وفي أَثْناءِ عَمَلِيَّةِ الاسْتِبْدالِ اصْطَنَعَ ضَجَّةً صاخبَةً وجَلَبَةً قَوِيَّةً، ثم حملَ على العدوِّ، عندَ الفَجْرِ، بهَجَماتٍ سريعةٍ مُتَتَالَيَةٍ وقويَّةٍ ليُدْخِلَ في رَوْعِهِ أنَّ إمداداتٍ كَثيرةً وَصَلَتْ إلى المُسْلِمين فَظَنَّ الرومُ أَنّ أَعْداداً جَديدةً مِنَ المُسْلِمين قدْ جاءتْ لهم مَدداً فقذفَ الله الرُعْبَ في قلوبهم وانهزموا فقُتِّلوا قَتْلَةً لم يُقْتَلْها قومٌ، وأدركوا أَنَّ إحرازَ نَصْرٍ حاسِمٍ ونهائيٍّ على المسلمين أَمْرٌ مُسْتَحيلٌ، فتَخَاذَلوا وتَقاعَسوا عَنْ مُتابَعَةِ الهُجومِ، وَضَعُفَ نَشاطُهم وانْدِفاعُهم، فَخَفَّ الضَغْطُ عَنْ جَيْشِ المُسلمين، وانْتَهَزَ خالدٌ الفُرْصَةَ فبَاشَرَ الانْسِحابَ. وكانتْ عمليَّةُ التَراجُعِ التي قامَ بها خالدٌ في أَثناءِ مَعْرَكَةِ (مؤتَة) مِنْ أَكْثَرِ العَمَليَّاتِ في التَاريخِ العَسْكَرِيِّ مَهارَةً ونجاحاً، فقدَ عَمَدَ خالدٌ إلى سَحْبِ الجَناحَيْنِ بحمايَةِ القَلْبِ، ولمَّا أَصْبَحَ الجناحانِ بمنْأَى عَنِ العَدُوِّ، وفي مَأْمَنٍ مِنْهُ، عَمَدَ إلى سَحْبِ القَلْبِ بحِمايَةِ الجَناحَين، إلى أنْ تمكَّنَ وضَمِنَ سَلامَةَ الانْسِحابِ كُلِّيّاً. يقولُ المؤرِّخونَ إنَّ خَسارَةَ المُسْلِمين لم تَتَعَدَّ الاثني عَشَرَ شهيداً في هذِهِ المَعْرَكَةِ. رُوي عَنْ عَبْدِ اللهِ ابْنِ أَبي أَوْفى قال: اشْتَكى عَبْدُ الرَحمنِ ابْنَ عوفٍ خالدَ بْنَ الوَليدِ للنَبيِّ ـ صلى الله عليه وسلَّم، فقال: ((يا خالدُ لِمَ تُؤْذي رَجُلاً مِنْ أهلِ بَدْرٍ؟ لَو أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً لَمْ تُدْرِكْ عَمَلَهُ)). فقال: يا رَسولَ اللهِ إنَّهم يَقْعونَ فِيَّ (أي بسببِ انسحابه مِن مؤتَة وعدم ملاحقة الروم) فأَرُدُّ عليهم. فقال ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((لا تُؤذوا خالداً فإنَّهُ سيفٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ صَبَّهُ اللهُ على الكُفَّارِ)). قالَ بعضُهم وكونُ هذا نَصْراً وفَتْحاً واضِحٌ لإحاطَةِ العَدُوِّ بهم وتَكاثَرِهِمْ عَلَيْهِ لأنَّهم كانوا مئتيْ أَلْفٍ والصَحابَةُ ثلاثةُ آلافٍ، كما تَقَدَّمَ. روى البخاري عن خالد ـ رضيَ اللهُ تعالى عَنْهُ، قال: انْدَقَّتْ في يَدي يَوْمَ مُؤْتَةَ تِسْعَةُ أسيافٍ وما ثَبَتَ في يَدي إلاَّ صَفيحَةٌ يمانِيَّةٌ. وأَخرجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وابْنُ جَريرٍ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: لا تَغُرَّنَّكم هذِهِ الآيةُ فإنَّها كانتْ يَوْمَ بَدْرٍ، وأَنَا فِئةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. وَقَدْ قَالَ ـ رضي اللهُ عنه، حِينَ بَلَغَهُ قَتْلُ أَبِي عُبَيْدِ بْنِ مَسْعُودٍ وَمَا أَوْقَعَ الْفُرْسُ بِالْمُسْلِمِينَ هَلاَّ تَحَيّزَ إلَيَّ أَبُو عُبَيْدِ بْنُ مَسْعُودٍ فَإِنّي فِئَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. وأَخْرَجَ البُخاريُّ في تاريخِهِ، والنَسائيُّ، وابْنُ أبي حاتمٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ نافعٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عُمَرٍ ـ رضيَ اللهُ عَنْهُما قال: إنَّا قومٌ لا نَثْبُتُ عِنْدَ قِتالِ عَدُوِّنا، ولا نَدْري مَنِ الفِئَةُ أَمامَنا أَوْ عَسْكَرَنا؟ فقال لي: الفِئَةُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلى اللهُ عليه وسلم. فقلتُ: إنَّ اللهَ تَعالى يَقول: "إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار" قال: إنَّما أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيةُ في أَهْلِ بَدْرٍ لا قَبْلَها ولا بَعْدَها. وأَخْرَجَ عبد بْنُ حميد، وأَبو داوودَ، والنَسائيُّ، وابْنُ جَريرٍ الطبريُّ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وأبو جعفر النحّاسُ، في ناسِخِهِ، وأَبو الشَيْخِ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والحاكمُ، عَنْ أَبي سَعيدٍ الخِدْرِيِّ ـ رَضيَ اللهُ عَنْهُ في قولِهِ: "ومن يولهم يومئذٍ دُبُرَهُ" قال: إنها كانَتْ لأَهْلِ بَدْرٍ خاصَّةً. وأخرجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وابْنُ جَريرٍ، عَنْ أَبي نَضْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْه، في قولِهِ: "ومن يولهم يومئذ دبره" الآية. قال: نَزَلَتْ يَوْمَ بَدْرٍ ولم يَكنْ لَهُمْ أَنْ يَنْحازُوا، ولو انحازوا لم يَنْحازوا إلاَّ للمُشْرِكين. وأَخْرَجَ عَبدُ بْنُ حميدٍ، وابْنُ جَريرٍ، عَنْ قَتادةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، في الآيَةِ قال: ذاكم يَوْمَ بَدْرٍ لأنَّهم كانوا مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ. وأَخْرَجَ أَبو الشَيْخِ، وابْنُ مَرْدَويهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، في الآيةَِ قالَ: نَزَلَتْ في أَهْلِ بَدْرٍ خاصَّةً، ما كانَ لهم أَنْ يُهْزَمُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، ويَتْرُكُوهُ. وأَخرجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وعبد بْنُ حميد، وابْنُ جَريرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ وأبو جعفر النِحَّاسُ في ناسِخِهِ، وأَبو الشيخِ، عَنِ الحَسَنِ البصريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في قوله تعالى: "ومَنْ يُوَلِّهم يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ" قال: إنَّما كانتْ يومَ بَدْرٍ خاصَّةً، ليسَ الفِرارُ مِنَ الزَحْفِ مِنَ الكَبائرِ. وأضاف في الروض الأنف: (3/124) عنه ـ رضي اللهُ عنه: وفِي الْمَلْحَمَةِ الْكُبْرَى الّتِي تَأْتِي آخِرَ الزّمَانِ. وَقَالَ غَيْرُهُ هُوَ مِنْ الْكَبَائِرِ إذَا حَضَرَ الإِمَامُ وَلَمْ يَتَحَيّزْ إلَى فِئَةٍ فَأَمّا إذَا كَانَ الْفِرَارُ إلَى الإِمَامِ فَهُوَ مُتَحَيّزٌ إلَى فِئَةٍ. وأَخْرَجَ ابْنُ المُنذِرِ، وأَبو الشَيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في قولِهِ: "ومن يولهم يومئذ دبره" قال: ذاكَ في يومِ بَدْرٍ. وأَخْرَجَ عَبدُ الرَزَّاقِ في مُصَنَّفِه، وابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وابْنُ جَريرٍ، عَنِ الضَحّاكِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: إنَّما كانَ يومُ بَدْرٍ، ولم يَكُنْ للمُسْلِمينَ فِئَةٌ يَنْحازونَ إلَيْها. وأَخْرَجَ عبدُ الرَزَّاقِ عَنْ قَتادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنه: "ومَنْ يُوَلِّهمْ يَوْمَئذٍ دُبُرَهُ" قال: يَرَوْنَ أَنَّ ذلكَ في بَدْرٍ، أَلا تَرى أَنَّهُ يَقولُ: "ومن يولهم يومئذ دبره". وأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ عَنْ يَزيدِ بْنِ أَبي حَبيبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْه، قال: أَوْجَبَ اللهُ تَعالى لِمَنْ فَرَّ يَوْمَ بَدْرٍ النَارَ. قال: "ومن يولهم يومئذ دبره" إلى قولِهِ: {فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ} فلمّا كانَ يَوْمُ أُحُدٍ بَعدَ ذَلكَ قال: {إنما اسْتَزَلَّهُمُ الشيطانُ ببعضِ ما كَسَبُوا ولقد عَفَا اللهِ عَنْهُم} سورة آل عمران، الآية: 155. ثمَّ كان يَومَ حنَينٍ بعدَ ذلكَ بِسَبْعِ سِنينَ فقال سبحانه: {ثمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبرين} سورة التوبة، الآية: 25. وقال: {ثمَّ يتوبُ اللهُ مِنْ بَعدِ ذَلِكَ على مَنْ يَشاءُ} سورة التوبة، الآية: 27. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، في قوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهم يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} قال: يَعني يَوْمَ بَدْرٍ خاصَّةً ...مُنْهَزِماً {إلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ} يَعْني مُسْتَطْرِداً يُريدُ الكَرَّةَ على المشركين {أَوْ مَتَحَيِّزاً إلى فئةٍ} يَعْني أَوْ يَنْحازَ إلى أَصْحابِهِ مِنْ غيرِ هَزيمةٍ {فقدْ باءَ بغضبٍ مِنَ اللهِ} يَقولُ: اسْتَوْجَبَ سَخَطاً مِنَ اللهِ {ومأواهُ جَهَنَّمُ وبئسَ المَصيرِ} فهذا يَوْمُ بَدْرٍ خاصَّةً، كأَنَّ اللهَ شَدَّدَ على المُسْلِمينَ يَومَئِذٍ لِيَقْطَعَ دابِرَ الكافرين، وهوَ أَوَّلُ قتالٍ قاتَلَ فِيهِ المُشركين مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ.وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن عطاء بن أبي رباح ـ رضي الله عنه، في قوله: {ومَنْ يُوَلِّهم يَوْمَئذٍ دُبُرَهُ} قال: هذِهِ مَنْسوخَةٌ بالآيةِ التي في الأنْفالِ {الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكم} الآية: 66. ومثالُ القولين واحدٌ بالنسبة لما بعد يوم بدر، ولذلك لم يختلفوا في فِقْهِ هذِهِ الآيةِ، إلاَّ ما رُويَ عَنْ عطاءٍ وقد تقدَّم، وقيل الصحيحُ هُوَ الأوَّلُ كما يَقْتَضيهِ سِياقُ انْتِظامِ آي السُورة، ولو صَحَّ قولُ أَصحابِ الرأيِ الثاني للَزِمَ أَنْ تَكونَ هذِهِ الآيةُ قدْ نَزَلَتْ قبْلَ الشُروعِ في القِتالِ يَوْمَ بَدْرٍ، ثمَّ نَزَلَتْ سُورَةَ الأَنْفالِ بعد ذلك فأُلْحِقَتِ هذه الآيةُ بها، وهذا عند أصحاب هذا الرأي ما لم يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحابِ الأَثَرِ مطلقاً أَبَداً.
وذَهَبَ فريقٌ ثالثٌ إلى أَنَّ قولَهُ تَعالى: {فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} الآية. محْكَمٌ عامٌّ في الأَزْمانِ، لا يُخَصَّصُ بِيَوْمِ بَدْرٍ ولا بِغَيرِهِ، ولا يَخْتَصُّ بِعَدَدٍ دُونَ عدَدٍ. ولم يَسْتَقِرَّ مِنْ عَمَلِ جُيوشِ المُسْلِمينَ، في غَزَواتهم مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى اللهُ علَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعَ الأُمراءِ الصالحينَ في زَمَنِ الخُلفاء الراشدين، ما يَنْضَبِطُ بِهِ مَدَى الإذْنِ بالفِرارِ أَوْ المَنْعِ مِنَه. وقدِ انْكَشَفَ المُسْلِمونَ يَوْمَ أُحُدٍ فَعَنَّفَهم اللهُ تَعالى بِقَوْلِهِ في سورة آل عمران: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} الآية: 155. وما عَفا عَنْهُم إلاَّ بَعْدَ أَنِ اسْتَحَقّوا الاثْمَ، ولمَّا انْكَشَفوا عِنْدَ لِقاءِ هَوازِنٍ يومَ حُنَينٍ عَنَّفَهم اللهُ بِقولِهِ في سورة التوبة: {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} إلى قوله: {ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} الآية: 25 ـ 27. من سورة التوبة. وذِكْرُ التَوْبَةِ التي مَنَّ بها الله سبحانَه عليهم، يَقْتَضي سَبْقَ الإثمِ منهم.
ومِنَ الواضحٌ أنَّ الفرقاءَ من أهلِ العِلْمِ مختلفونِ في حُكْمِ التولي يومَ الزَحْفِ، بين مَنْ عدَّه من الكبائرِ مطلقاً، وبين من لم يعدَّه كذلك، وبين مَنْ قيَّدَهُ بِزمانٍ أو عَدَدٍ، ولكلٍّ فريقٍ أَدِلَّتُهُ وحُجَجُهُ.
والذي أَراهُ أَنَّ المقصودَ هو الثباتُ طالما كانَ النصرُ ممكناً، فإذا لم يكنْ هناك أملٌ وخُشيَ من إبادةِ جيشِ المسلمين واستئصالِ شأفتهم، فإنَّ الانسحابَ أولى، للتهيؤِ أكثر، والاستعدادِ لجولَةٍ أُخرى يكونُ النصرُ فيها أقرب، وهذا أمْرٌ يحدِّدُ الأميرُ بعد مشورة أركانِ حربه من أهل الرأي والنظر والخبرة، وليس الأفرادُ، وهو ما درجت عليه جيوشُ المسلمين عبر تاريخ معاركها وفتوحاتها، بل وجيوش العالم أجمع، فللإقدام ساحاتُه، وللإحجامِ مبرِراته، وإنَّ الإقدامَ حيث يكون من الأفضل الإحجامُ، هو في رأينا ورأيِ العُقلاءِ ضَرْبٌ مِنَ المُخاطَرَةِ وإلْقاءِ النَفْسِ والأُمَّةِ في التَهْلُكَةِ، وهو مِنَ الحَماقةِ، وليسَ مِنَ الشَجاعَةِ في شيءٍ، وهذِهِ القاعدةُ إنما تَنْطَبِقُ على جميع شؤون الحياةِ، والله أعلم. ولذلك قلت:
تُواعِدُنا وبعضُ الوعْدِ شهدُ ........... وحسْبكَ منْ ذواتِ الدلِّ وَعْدُ
وما أنا بالذي يرضى بلُقيا .................... ولكنَّ الهوى أخذٌ وردُّ
فنعمَ الطَلُّ إمّا كانَ جَدْبٌ ................. ونعمَ الوعدُ إمّا كانَ صدُّ
تجمَّلْنا بثوب الصبرِ لمّا ................. تقاصَرَ عن بُلوغِ القصدِ جُهدُ
كذاك الحَزْمُ إرجاءٌ وصبرٌ ................... وأخذٌ قادرٌ إنْ حانَ جِدُّ
فمن يستعجلِ الدُنيا تلاشى .................. ورُبَّ مُظَفَّرٍ أخذاهُ عندُ
قولُهُ تَعالى: {زَحْفاً} مَنْصوبٌ على المَصدَرِ، وذلكَ الناصِبُ لَهُ في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ، والتَقديرُ: إذا لَقِيتُمُ الذين كَفَروا زاحفين زَحْفاً، أَوْ يَزْحَفون زَحْفاً. أو أَنَّهُ مَنْصوبٌ على الحالِ بِنَفْسِهِ، ثمَّ اخْتَلَفوا في صاحِبِِ الحالِ، فقيلَ: الفاعِلُ، أَيْ: وأَنْتم زَحْفٌ مِنَ الزُحوفِ، أيْ: جماعةٌ، أَوْ وأَنْتم تمشونَ إلَيْهم قَليلاً قليلاً، على حَسَبِ ما يُفَسَّرُ بِهِ الزَّحْفُ. وقيلََ: هُوَ المَفْعولُ، أيْ: وَهُمْ جَمٌّ كَثيرٌ، أَوْ يَمْشونَ إلَيْكُمْ. وقيلَ: هِيَ حالٌ مِنْهُما، أَيْ: لَقيتموهم مُتَزاحِِفين بَعْضَكم إلى بعض في ساحةِ الوغى.
وقوله: {فلا تولّوهمُ الأَدْبار} تولّوا: من "ولَّى" وقد تعّدَّى إلى مَفعولين بِسَبَبِ التَضْعيفِ، لأنَّ مجرَّدَهُ "ولى" إذا جُعِلَ شَيئاً والياً، أَيْ قريباً، فيَكونُ وَلَى المضاعفُ مثلُ قَرُبَ المُضاعَفُ، والهاءُ في محلِّ نصبِ مفعولٍ بِهِ أَوَّلٌ، و "الأَدْبار" مفعولٌ به ثانٍ، وفاعلُهُ ضمير المخاطَبِ المقدَّر "أنتم" يَعود على "الذين آمنوا".
__________________
أنا روحٌ تضمّ الكونَ حبّاً
وتُطلقه فيزدهر الوجودُ
عبد القادر الأسود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
فيض العليم ... سورة الأنفال، الآية: 17 عبد القادر الأسود المواضيع الاسلامية 0 01-27-2015 11:32 PM
فيض العليم ... سورة الأنفال، الآية: 16 عبد القادر الأسود المواضيع الاسلامية 0 01-27-2015 09:27 AM
فيض العليم ... سورة الأنفال، الآية: 14 عبد القادر الأسود المواضيع الاسلامية 0 01-26-2015 10:08 AM
فيض العليم ... سورة الأنفال، الآية: 13 عبد القادر الأسود المواضيع الاسلامية 0 01-25-2015 10:20 AM
فيض العليم ... سورة الأنفال، الآية: 12 عبد القادر الأسود المواضيع الاسلامية 0 01-23-2015 09:31 PM


الساعة الآن 10:10 PM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir