كيف اعتنق جينو الإسلام ؟ ولِمَ اعتنقه ؟ وعلى يد مَنْ أسلم ؟
هذه الأسئلة وضعها الغربيون , وأخذوا يفترضون مختلف الفروض للإجابة عليها , ولكن لم تخرج عن أن تكون مجرّد فروض .
ولقد قال جينو إنّه اتصل بممثّلي الأديان الشرقيّة عن طريق مباشر ؛ فكيف اتصل بهم ؟ وبمن منهم اتصل ؟ ثمّ إنّ جينو أهدى أحد كتبه إلى الشيخ
( عبد الرحمن عليش ) .فمن هو هذا الشيخ عبد الرحمن عليش ؟ وكيف عرفه جينو ؟ وهل هو الذي هداه إلى الإسلام ؟ وكيف ؟
كلّ هذه الأسئلة كانت غامضة حتّى ألقى عليها الأستاذ
( فلسن ) ـ الذي اعتنق هو الآخر الإسلام , وأتقن لغة القرآن ـ شيئاً من الضوء في بحث مستفيض نشر في عدد يناير سنة 1953م من مجلّة
( إتيد ترادسيونل ) الفرنسيّة , وهذا البحث نلخّصه فيما يأتي :
{ من تاريخ الحركة الصوفيّة في مصر }
الشيخ عليش والشيخ عبد الواحد
(( الشيخ عليش : أسرة الشيخ عليش أسرة مغربيّة أشهر رجالها هو الشيخ محمد عليش الكبير 1218- 1299 , وقد درس الشيخ محمد عليش في الأزهر ثمّ جلس للتدريس به 1245هـ , وكان يحضر عليه ما ينوف عن المئتين من الطلبة , وقد تقلّد مشيخة السادة المالكيّة والإفتاء بالديار المصريّة سنة 1270هـ , وتذكر الخطط التوفيقيّة " أنّه كان في حال حياته مستغرقاً زمنه في التأليف والتدريس والعبادة , متجافياً عن الدنيا وأهلها , لا تأخذه في الله لومة لائم " . وقد ألّف الكثير من الكتب في مختلف الفنون التي تدرّس بالأزهر .
والطريف أنَّ الشيخ عليش في 1 يونيه سنة 1882م خطب ممتدحاً " الجيش الذي خلّص البلاد من الوقوع في أيدي الكفّار " وأثنى على رؤسائه وعلى وطنيّتهم , وكانت هذه الخطبة تتعارض كلّ المعارضة مع سياسة الخديوي توفيق , ولكنّ الشيخ عليش لم يبالِ به .
ثمّ أفتى الشيخ عليش بمروق الخديوي توفيق من الدّين كمروق السّهم من الرمية لخيانته دينه ووطنه , وتلا الشيخ محمد عبده هذه الفتوى في الجمعيّة العموميّة في 22 يوليه سنة 1882م , وكان الخديوي قد أصدر أمراً بعزل عرابي , وتداول الأعضاء في الموقف , وفيما يجب عمله فاتفقت آراؤهم على عدم قبول عزل عرابي , وقرّرت الجمعيّة وقف أوامر الخديوي وعدم تنفيذها ) .
الشيخ عليش والشيخ عبد الواحد
إنّ الصّلة بين الشيخ الأكبر ؛ سيدنا محيي الدين بن عربي , وبين الشيخ عبد الواحد بادية ظاهرة , ولقد اعتنق جينو الإسلام بواسطة شيخ ينتسب إلى روحانيّة الشيخ الأكبر ؛ أعني الشيخ عليش الكبير , وهو الشخص الذي أهدى إليه جينو أحد كتبه في هذه العبارة : (( إلى الذكرى المقدّسة , ذكرى الشيخ عبد الرحمن عليش الكبير , المالكي , المغربي , الذي أدين له بالفكرة الأولى لهذا الكتاب . مصر القاهرة 1329 – 1347 هـ )) .
وهذا الشيخ المصري يهمّنا من ناحية أخرى لأنّه فضلاً عن صفته الصوفيّة السامية , كان له صفة أخرى , فلقد كتب جينو في أحد خطاباته يقول : " كان الشيخ عليش شيخ فرع من الطريقة الشاذليّة , وكان في الوقت نفسه شيخ المذهب المالكي بالأزهر " .
والشاذليّة طريقة أسّسها في القرن السابع الهجري الشيخ أبو الحسن الشاذلي , وهو صورة من أروع الصور الروحانيّة في الإسلام .
كان الشيخ الذي ينتسب إليه جينو , إذاً , يجمع بين صفتين هما الحقيقة والشريعة ؛ كان شيخ طريقة , وشيخ مذهب , وهذا له أهمّية بالنسبة لتلميذه فيما يتعلق بتقديرنا لآرائه من الناحية الإسلاميّة .
ومما ينبغي ملاحظته في عناية أنَّ هذا الشيخ هو الذي يدين له جينو بالفكرة الأولى لكتابه
(( رمزيّة الصليب )) , وهكذا كان هذا الشيخ يفتح السبل أمام جينو , ويهديه الطريق , ولذلك ينبغي أن نعرّف القراء بهذا الشيخ , وبالواسطة التي كانت بينه وبين جينو , والمعلومات التي سنتحدث عنها مصدرها مجلّة عربيّة إيطاليّة كانت تصدر في القاهرة 1907م تسمّى
(( النادي )) .
كانت الروح التي تسود هذه المجلّة هي روح الشيخ الأكبر محيي الدين , وكانت هذه المجلّة تعتبر طليعة لمجلّات أخرى صدرت فيما بعد في فرنسا , وساهم فيها جينو بحظّ وافر , وكان من ألمع محرّري مجلّة النادي _ سواء ذلك قسمها العربي أو قسمها الإيطالي _ وهو عبد الهادي, وعبد الهادي هذا من أصل لتواني فنلندي , ونشأ مسيحيّاً , وكان اسمه
(( إيفان جوستاف )) , ثمّ اعتنق الإسلام , وتعلّم العربيّة , وأخذ يكتب في المجلّة المقالات , ويطبع فيها الرسائل الصوفيّة الإسلاميّة من مؤلفات الشيخ الأكبر , ويترجم بعض النصوص , وقد تحدّثت هذه المجلّة كثيراً عن الشيخ عبد الرحمن عليش , ولقد كتب فيها الشيخ عليش نفسه مقالة خاصّة بمحيي الدين بن عربي .
وكان عبد الهادي على صلة شخصيّة طبعاً بالشيخ عبد الرحمن عليش , قد أعطانا عنه معلومات نفيسة ؛ إنّه يراه من أشهر رجال الإسلام , ووالده من كبار رجال المذهب المالكي , أمّا هو نفسه فقد كان حكيماً عميق الحكمة , وكان محترماً من الجميع , سواء في ذلك الرجال العاديّون أم الأمراء والسلاطين , وكان شيخاً لكثير من الجماعات الدينيّة المنتشرة في جميع أنحاء العالم الإسلامي .
كان زعيماً من زعماء الإسلام , سواء في ذلك ما اتّصل بالجانب الصوفي , أو الجانب الفقهي , أو الجانب السياسي ؛ ومع ذلك فقد ابتعد هو ووالده عن ألاعيب السياسة ومؤامرتها , وكانت صفاتها الكريمة , وتقشّفها في الحياة , ومعرفتها المستفيضة العميقة , وحسبها العريق ,,, كلّ ذلك سما بهما إلى مركز ممتاز في العالم الإسلامي , بيد أنّهما لم يعيرا ذلك اِلتفتاً واِلتزاماً مرضاة الله .
أمّا شهرتهما بالتعصّب التي لا أساس لها , فقد كان مصدرها فتوى شهيرة كانت نتيجتها كما يقولون ثورة عرابي باشا 1882م , وفي هذه السّنة ؛ سنة 1882م زُجَّ بالشيخين في السجن , وحكم عليهما بالإعدام , وقد مات الأب في السجن , أمّا الشيخ عبد الرحمن فقد استبدل حكم الإعدام فيه بالنفي .
ولكن الحظّ السيّئ تابعه في منفاه ؛ كانت شهرته وكان حسبه ونبله الذاتي ..., كان كلّ ذلك من عوامل الشّك فيه , واتّهم ؛ في حماقة , بأنّه يتطلّع إلى إقامة الخلافة الإسلاميّة لحسابه أو لحساب سلطان مراكش , فوضع في السّجن من جديد , ولكن وضعه في السّجن هذه المرّة كان بناء عن أمر أمير مسلم .
ومكث عامين في زنزانة لا تطاق , حيث العفونة والروائح الكريهة , وغير ذلك مما تضيق به النفس , ولأجل بعث الرّعب في نفسه كانوا يتعمدون أن يقتلوا أمامه بعض من حكم عليهم بالإعدام , ثمّ أخرج من السّجن من جديد , ونفي إلى رودس .
ولقد أقام أيضاً في دمشق , حيث التقى بعدوّ الفرنسيّين العتيد ؛ الأمير عبد القادر الجزائري , فتألفت بينهما صداقة وطيدة ؛ كان من أسسها الحبّ القوي في نفسيهما للشيخ الأكبر الذي كان الأمير يكرّس وقته في أخريات حياته لدراسته , وحمله إعجابه به على أن يموّل الطبعة الأولى لكتاب الفتوحات المكيّة ؛ ذلك الكتاب الذي تبلغ صفحاته حوالي ( 2500 ) , ولمّا مات الأمير كفّنه الشيخ وصلّى عليه , ودفنه في الصالحيّة بجوار مقبرة الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي .
وأصدرت الملكة فيكتوريا العفو عن الشيخ , فعاد إلى مصر وأقام في القاهرة , وأخذ نوره ينبعث من القاهرة إلى جميع أقاليم العالم الإسلامي.
وكان يبتعد ويبعد تلاميذه عن جميع الصغائر , وكان تأثيره قوياً إلى درجة أنّه حينما تلتقي برجل شرقيّ ترى فيه سموّ الأخلاق وسعة المعرفة , فيجب أن تعلم أنّه " شاذلي " . ( هذا رأي عبد الهادي , ورجال التصوّف الحقيقيّون كلّهم خير وكلّهم بركة ) , والشاذليّة لا شكّ مدينة في احتفاظها بالمثل العليا للسنّة التي أقامها أبو الحسن الشاذليّ ؛ إلى السموّ الروحي للشيخ عليش .
وقد نشرت مجلّة النادي مقالة للشيخ عليش عن محيي الدين وقد اختتمها بشكره لعبد الهادي بسبب ما أدّاه للحضارة من خدمة جليلة هي تعريف النّاس بمحيي الدين , ثمّ ينتهي الشيخ بأنّ يحثّ عبد الهادي على أن يستمر في متابعة دراساته الصوفيّة غير معني بما يثيره حوله بعض من لم يفهموا الإسلام على حقيقته .
وما إن نشرت مقالة الشيخ في المجلّة حتّى أعلن في العدد التالي أنّه تألّفت جمعيّة في إيطاليا وفي الشرق لدراسة ابن عربي وسمّيت
(( الأكبريّة )) ووضعت منهاجاً هو التالي :
1- دراسة ونشر تعاليم الشيخ محيي الدين سواء ما يتصل منها بالشريعة وما يتصل بالحقيقة , والعمل على طبع مؤلّفاته ومؤلّفات تلاميذه وشرحها , وإلقاء محاضرات خاصّة به , وأحاديث تشرح آراءه .
2- جمع أكبر عدد ممكن من محبّي الشيخ ابن عربي , وعقد صلة قويّة بينهم تقوم على الأخوّة , وتؤسّس على الترابط الفكري بين النخبة المختارة من الشّرقيّين والغربيّين .
3- تقديم المساعدة المادّية والتشجيع الأدبي لمن هم في حاجة إلى ذلك ممن يتبعون الطريق الذي اختطّه محيي الدين بن عربي ؛ وعلى الخصوص هؤلاء الذين ينشرون دعوته بالقول أو بالعمل .
4- ولا يقتصر عمل الجمعيّة على ذلك ؛ بل يتعداه أيضاً إلى دراسة مشايخ الصوفيّة الشّرقيّين ؛ كجلال الدين الرومي مثلاً , بيد أنّ مركز الدائرة يجب أن يستمرّ ابن عربي .
5- ولا صلة للجماعة قطّ بمسائل السّياسة مهما كان مظهرها ؛ إذ أنّها لا تخرج عن دائرة البحث في الدين والحكمة .
وبدأ عبد الهادي ينشر دراساته الصّوفيّة , وقد ساعده الحظّ فوجد حوالي عشرين رسالة لابن عربي مخطوطة , نادرة الوجود ، نفيسة القيمة , فأخذ في تحليلها .
ولكنّ المجلّة للأسف لم تسلم من شرّ أعداء التصوّف فقضي عليها , ورأى عبد الهادي ؛ متابعاً لإشارة الشيخ عليش أن يحاول إقامة صلة روحيّة بين الشرق والغرب , فسافر إلى فرنسا حيث التقى بجينو .
وكان جينو إذ ذاك يصدر مجلّة باسم
(( المعرفة )) , فأخذ عبد الهادي في سنة 1910م يساهم فيها بجدّ ونشاط . لقد نشر فيها أبحاثاً , ولكنّه نشر فيها على الخصوص ترجمة كثير من النصوص الصوفيّة إلى اللغة الفرنسيّة , وأثمرت مرافقته لجينو أن عقد بينه وبين الشيخ عليش صلة قويّة متينة عن طريق تبادل الرسائل والآراء , كانت النتيجة أن اعتنق جينو الإسلام سنة 1912م بعد أن درسه دراسة مستفيضة .
وقامت الحرب سنة 1914م فأوقفت كلّ نشاط يتّصل بالدين والروح والفكر , وسافر عبد الهادي إلى إسبانيا ؛ وهناك في بلدة برشلونة توفاه الله سنة 1917م .
وحمل جينو راية الجهاد فاستمر يبني على ما أسّسته
(( الأكبريّة )) ؛ تلك الجماعة التي تنتهج نهج الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي .
والواقع هو أنّ الذي وجّه جينو هذه الوجهة هو الشيخ عليش ؛ والشيخ عليش إنّما كان مرآة تعكس صورة الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي ؛ وهو أسمى مظهر للتصوف الإسلامي والعقيدة الإسلاميّة , وإذا كان الشيخ عليش مالكيّاً محافظاً , فإنّ تصوفه لا يخرج عن التعاليم الإسلاميّة .
وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة له فإنّه كذلك أيضاً بالنسبة لتلميذه جينو .