هل أحرق طارق بن زياد سفنه؟
نفى الواقعة مؤرخون كثر وأعادوها إلى أسطورة الفارسي «وهرز» في اليمن
هل أحرق طارق بن زياد سفنه؟
حلمي النمنم
درسنا جميعا الفتوحات الاسلامية، ومن بينها فتح الاندلس والبطولة الخارقة للقائد العظيم طارق بن زياد، وقد اختار القائمون على الكتب المدرسية في عالمنا العربي عنوانا لهذه البطولة قيام طارق بن زياد بإحراق سفن أسطوله وخطبته الشهيرة في جنوده “العدو من أمامكم والبحر من خلفكم”. وصارت هذه العبارة ملهمة للخطباء وللشعراء العرب، ووضعت حولها الدراسات، لكن في المقابل ظهرت دراسات علمية تشكك في هذه الواقعة بالمرة، وتؤكد ان طارق بن زياد لم يقم بحرق سفن الأسطول ولا ألقى هذه الكلمات الرنانة التي درسناها في مناهجنا التعليمية وانتهى الأمر بأستاذ التاريخ الاسلامي د.عبدالحليم عويس إلى وضع كتابه الأخير حول هذه القضية “أسطورة إحراق طارق بن زياد للسفن” والعنوان دال فقد انتهى الى أنها اسطورة.
وهناك مدرستان في علم التاريخ تابعت كل منهما فتح الاندلس، ولم يرد لدى أي من أعلام المدرستين شيئا عن حكاية إحراق السفن، الأولى مدرسة ابن عبدالحكم المؤرخ المصري صاحب كتاب “فتوح مصر والمغرب والاندلس” وعبدالملك بن حبيب المؤرخ الاندلسي الأصل، المصري وطنا، صاحب كتاب “مبتدأ قلق الدنيا” المعروف بتاريخ عبدالملك بن حبيب.
أسطورة يمانية
الثانية هي المدرسة الأندلسية والتي ظهرت في القرن الرابع الهجري وهي مدرسة أبي بكر القرطبي المعروف بابن القوطية، صاحب كتاب “تاريخ افتتاح الأندلس” وحين تطورت المدرسة التاريخية المغربية والاندلسية وتألقت في القرن الخامس الهجري وقدمت عددا من المؤرخين المرموقين مثل ابن حيان القرطبي الملقب شيخ مؤرخي الاندلس وابن حزم الاندلسي والحميري وصاعد والطرطوشي والرفيق القيرواني وغيرهم، لم يرد لدى أي منهم أي حديث عن إحراق السفن والتي نسبت لطارق بن زياد، لم يذكروها بالمرة. وبمتابعة مؤرخي الغرب والاندلس حتى القرن الثامن الهجري وعلى رأسهم عبدالرحمن بن خلدون ولسان الدين بن الخطيب لم يرد لديهم شيء في هذا الصدد، وبعد ذلك بدأ تخليق أو تكوين هذه الأسطورة.
أستاذ الاندلسيات بجامعة القاهرة د.محمود علي مكي، ذهب بعد دراسات عديدة الى ان أسطورة إحراق السفن في المعارك موجودة في الشرق وفي الغرب، ومن أساطير الشرق أسطورة إحراق القائد الفارسي “وهرز” لأسطوله حين عاون سيف بن ذي يزن في تحرير اليمن والتغلب على الأحباش، وقبل ان يقوم “وهرز” بتلك العملية ألقى خطبة عصماء في جنوده يحثهم على القتال، على النحو الذي يرد فيما بعد في فتح الاندلس، ويذهب د.مكي الى ان العرب الذين كانوا في جيش طارق بن زياد كانوا من العرب اليمانية وهؤلاء كانوا يعرفون جيدا أسطورة “وهرز” وقد ألهب انتصار طارق وفتح الأندلس خيالهم فنقلوا أسطورتهم القديمة الى الأندلس، ورددوها على نطاق واسع وانتشرت فيما بعد، وصارت حقيقية لدى الكثيرين.
أما د. عويس فيرى مصدرا آخر لإشاعة تلك الأسطورة، واقعة إحراق السفن في الحرب معروفة في التراث الإسباني، هناك واقعة مشابهة لها عند قيام اسبانيا بغزو المكسيك، وكان سهولة الفتح العربي لاسبانيا، أمرا مثيرا لهم، كان جيش طارق يتجاوز عدده بقليل 12 ألف مقاتل وكان أمامهم جيش به اكثر من مائة ألف مقاتل، ولم يكن جيش طارق به تجهيزات ومثل تسليح الجيش الآخر، لذا كان لابد ان يجدوا تفسيرا لهذا النصر، وكان من الصعب عليهم ان يرجعوا النصر الى قوة الايمان والعقيدة الدينية لدى الجيش المسلم وهكذا اختلقوا حكاية إحراق الأسطول، أي ان الفتح تم بعملية أو مغامرة انتحارية في طابعها، وانه دون ذلك ما كان ليحدث.
خطبة بربرية
اما الخطبة التي ألقاها طارق بن زياد، أو المنسوبة اليه، فيرى د.عويس انها وضعت على لسانه، طارق كان بربريا، ولم يكن عربيا ومن ثم لم يكن قادراً على ان يلقي مثل هذه الخطبة مرتجلا، بل إنه خطب في جنوده بغير العربية، فقد كان معظم الجيش من البربر، ولم تكن العربية قد انتقلت اليهم بعد، ولذا فإن المؤرخين الذين صاغوا تلك الاسطورة اختلقوا تلك الخطبة الرصينة التي تتناقلها مسامع الاجيال الى اليوم.
يقول لهم “العدو من أمامكم والبحر من خلفكم” وهي ليس فيها إشارة من بعيد ولا من قريب الى الإحراق ولا يفهم منها ذلك بأي حال، ولكن ربما أخفى طارق سفنه بعيدا حتى لا يصل اليها الخصوم، لكن لايمكن لقائد ناجح أن يحرق أسطوله، لسبب بسيط، هو انه سوف يحتاجه حتى بعد النصر، فبدونه لم يكن ليحقق تواصل في ذلك الزمان بين الذين دخلوا الاندلس أو شبه الجزيرة الآيبرية وبين من بقوا في المغرب، لم يعبروا المضيق، فضلا عن ذلك لم يكن الخليفة الاموي ليسمح له بالإقدام على هذه الخطوة، ذلك ان تجهيز أسطول آخر كان مكلفا وكان يحتاج الى وقت.
وهناك بعد ديني وشرعي في الموضوع، فإحراق السفن يعني القيام بعمل انتحاري وهو مالا تجيزه الشريعة الاسلامية بأي حال من الأحوال وما كان طارق خاصة أنه كان في الجيش عدد من التابعين ليقوم على مثل هذه الخطوة، وما كان هؤلاء التابعين ليقبلونها منه ومن ثم فمستبعد تماما أن يحرق سفنه.
ويلاحظ ان عدد من المؤرخين المعاصرين قد تجاهلوا تماما واقعة الإحراق، وبينهم من قام بنفيها، جورجي زيدان في روايته “فتح الاندلس” لم يذكرها ونفاها ومحمد عبدالله عنان انتهى فيها الى القول انه يراها واقعة يغلب عليها لون الاسطورة وان كانت مع ذلك تعرض في ثوب التاريخ. ونفاها كذلك د.حسين مؤنس بينما د.مختار العبادي انتهى الى انه لا يمكن إثباتها كما لا يمكنه نفيها. وهناك من ذكرها واعتمدها مثل د.احمد شلبي ود.حسن ابراهيم وغيرهما.
ما يعنينا هنا ان المؤرخين الاوائل الذين يعتبرون المصدر الاول لنا في فتح الاندلس ذكروا تفاصيل الفتح ومعاركه ولم يرد فيها تلك الواقعة، وانها ظهرت في عصر متأخر مثلها مثل أسطورة إحراق عمرو بن العاص لمكتبة الاسكندرية التي ظهرت كذلك في فترة متأخرة.
والمؤكد ان أسطورة إحراق طارق لسفنه شاعت وانتشرت في الثقافة العربية والإسلامية بعد سقوط الاندلس نهائيا وكان العرب يرددونها حسرة وتألما على ما آل اليه حالهم في بلاد فتحوها بالقوة والبسالة والحماس، ولم يتمكن الخلف من الاحتفاظ بها بعد ان غلبهم الضعف وفقدوا الحماس والبسالة. والمعروف انه في وقت الضعف والهزائم تنتشر الاساطير التي تحاول تغيير وتعويض تلك الهزيمة، لكن في كل الأحوال وأيا كانت الأسباب فإن تاريخنا قديمه وحديثه يحتاج الى التعامل معه بمنهج علمي وروح نقدية، لنحرره مما فيه من أساطير أو أكاذيب كي نكون قادرين على إدراك الحقيقة والانطلاق منها.
http://www.alittihad.ae/details.php?...#ixzz11qudFc00
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
أنت غير مسجل في منتديات البوحسن . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا
10-09-2010
تعليمات المشاركة
المواضيع المتشابهه
العرض العادي
