يقول الحق سبحانه في سورة الإسراء:
بسم الله الرحمن الرحيم يقول الحق سبحانه في سورة الإسراء: “وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً، فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً” (4 - 5).
في هاتين الآيتين الكريمتين يتحدث الحق سبحانه وتعالى عن فساد بني إسرائيل في كل ربوع الأرض والذي يمتد عبر الأزمنة والعصور ويطال كل خلق الله، ويتوعد سبحانه هؤلاء القوم الذين عم فسادهم وشاع إجرامهم بالانتقام منهم إذا لم يعودوا إلى طريق الحق والخير ويكفوا أياديهم عن ارتكاب الجرائم البشعة ضد المخالفين لهم في العقيدة وخاصة المسلمين الذين أحسنوا إليهم.
والمعنى العام للآية الأولى: “وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب”، أن وحيا مؤكدا، أعلمناهم فيه على لسان نبيهم موسى عليه السلام بما سيقع منهم من الإفساد الكبير في أرض الشام مرتين.
ومعنى قوله سبحانه: “لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا”: إنكم ستعصون الله تعالى، وتتكبرون عن طاعته، وتخلفون أمره في أرضه مرتين، وتستعلون على الناس استعلاء كبيرا بغير حق يؤدي بكم إلى الخسران والدمار.
مظاهر الإفساد
وكان من مظاهر إفسادهم في الأرض، تحريفهم للتوراة وتركهم العمل بما فيها من أحكام، وقتلهم الأنبياء واعتداؤهم على الذين يأمرون بالقسط من الناس، وشيوع الفواحش والرذائل فيهم.
ولكن: ما فائدة أن يخبر الله تعالى بني إسرائيل في التوراة بأنهم يفسدون في الأرض مرتين، وأنه يعاقبهم على ما كان منهم فيها بتسليط الأعداء عليهم ليدمروهم؟
يقول علماء التفسير: إن إخبارهم بذلك يفيد بأن الله تعالى لا يظلم الناس شيئا، وإنما يعاقبهم على ما يكون منهم من إفساد، ويعفو عن كثير، وأن رحمته تتسع للمفسدين متى أصلحوا وأنابوا إليه.
وهناك فائدة أخرى لهذا الإخبار، وهي تنبيه العقلاء في جميع الأمم أن يحذروا من مواقعة المعاصي التي تؤدي بالأمة إلى الهلاك، وأن يحذروا أممهم من ذلك، ويبصروهم بعواقب العصيان والإفساد في الأرض حتى لا يعرضوا أنفسهم لعقوبة الله تعالى.
والفائدة الثالثة من هذا الإخبار: بيان أن الأمم المغلوبة تستطيع أن تستعيد قوتها، وأن تسترد مجدها السالف إذا صحت عزائمها على طاعة الله تعالى، والعمل بما جاءهم به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
ومن فوائد إيراد هذا الخبر في القرآن الكريم: تنبيه اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم ومن على شاكلتهم من المشركين إلى سنة من سنن الله تعالى في خلقه، وهي أن الإفساد في الأرض والانصراف عن طاعته سبحانه، والتعدي لحدوده، والمخالفة لأوامره، والعصيان لرسله، كل ذلك يؤدي إلى الخسران في الدنيا والآخرة، فعلى اليهود وغيرهم من الناس أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي ثبتت نبوته ثبوتا لا شك فيه، حتى يسعدوا في دنياهم وأخراهم.
عقاب إلهي
ثم بين الله تعالى أنه يسلط عليهم بعد الإفساد الأول من يقهرهم ويستبيح حرماتهم ويدمرهم تدميرا، عقوبة لهم على ما كان منهم فقال تعالى: “فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا”.
والمعنى: فإذا جاء وعد عقابكم يا بني إسرائيل على أولى المرتين اللتين تفسدون فيهما في الأرض، وجهنا إليكم، وسلطنا عليكم “عبادا لنا أولي بأس شديد” ذوي قوة وبطش في الحرب شديد، “فجاسوا خلال الديار”: ترددوا بين المساكن لقتلكم، وسلب أموالكم، وهتك أعراضكم، وتخريب دياركم وسبي نسائكم وأولادكم، “وكان وعدا مفعولا”: أي كان ذلك العقاب لكم بسبب إفسادكم في الأرض، وعدا نافذا لا مرد له، ولا مفر لكم منه.
والمراد بقوله تعالى: “بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار” جالوت وجنوده على أرجح أقوال المفسرين.