السبت 26 رمضان 1431


قصَاص الأثر ...بحث جنائي من الطراز الأول

الأربعاء 01 أيلول 2010



متابعة الأثر ومعرفته موهبة ربانية ولدت عند البدوي بالفطرة، ونمّاها بزيادة العلم والمعرفة بأدق تفاصيلها، حيث اختص بها رجال دون الآخرين، وكان قاص الأثر مساعد رئيسي للقاضي أو مايسمى "العارفة" ويعتمد عليه مباشرة بأمور تخص السرقة أو الاعتداء على الشرف أو الاعتداء على الأشخاص من قبل رجال من القبيلة أو من خارجها، حتى انه يوازي معمل البحث الجنائي في زماننا هذا.







ولمعرفة هذا المعمل المتنقل، والذي اعتمد على أدواته الجسمانية والعقلية في كشف أكثر الجرائم تعقيداً التقى esyria الأستاذ "خالد العبد" من قرية "الطوب" وهو من عشيرة "شمر" العربية والذي حدثنا بالقول: «إن البدوي حذر دائم الانتباه لما يدور حوله، وهو يهتم بملاحظة الآثار الجديدة فوق أرض البادية، يدفعه ذلك الخوف من الخطر على نفسه أو على أفراد عشيرته أو الخوف على أغراض بيته والاهم من ذلك الخوف على عرضه، لقص الأثر تفاصيل دقيقة و كثيرة لا يعرفها إلا أبناء البادية، ولاسيما العارفين منهم، ومن ذلك أن القصّاص يمعن النظر إلى طبعة القدم سواء أكانت لإنسان أم لحيوان، ويعرف إن كان بها اعوجاج أو حنف، وعندما يلاحظ القصّاص عمق القدم اليسرى عن القدم اليمنى يوقن بأن صاحب القدم إنساناً كان أم حيواناً يبصر بعينه اليسرى أم اليمنى أو به مرض أو ماشابه ذلك، ولقص أثر الحيوانات مهارات خاصة، حيث لايجد قصاص الأثر صعوبة في معرفة أثر الحيوانات بأنواعها، وتشخيصها، لأنها كانت واسطة النقل الوحيدة والتي قد تستخدم من قبل المجرمين، ولمعرفة أثر الناقة من الجمل يلاحظ القصّاص أن خف الجمل لايكاد يلامس الأرض بينما خف الناقة يلامس الأرض بلطف، في حين تكون خطوة الناقة، الحامل مضطربة تكون خطوة الجمل الذي يحمل أثقالاً على ظهره عميقة ومتقاربة، في حين أن الجمل الذي لا يحمل ثقلاً يكون أثر خطواته واسعاً وقدمه على سطح الأرض وإذا تبين أثر




الاستاذ خالد العبد



لجمل ظهرت فيه الأرجل الأمامية مع الخلفية فهذا الجمل يجري وهو يحمل شيئاً، أما إذا كانت خطواته منتظمة فهذا يدل على أن الجمل طبيعي لا يحمل شيئاً، كما أن الطريق التي تحتوي أعشاباً تكشف عن إمكان الرؤية عند الجمل، فالجمل الأعور يأكل من جهة واحدة في الطريق حيث يرى بعينه السليمة، أما إذا وجد شيئاً من وبر الجمل على الأشواك فهذا يدل على أن الجمل المار في المكان أجرب يحك جسمه باستمرار».

وأضاف"العبد" بالقول: «يجب أن تتوفر عدة شروط في قاص الأثر وذلك لنجاحه في مهمته، أن يكون ذكي وسريع البديهة، يتمتع بالصبر، وأن يكون صحيح الجسم لايشكوا من علة، لأنه قد يتطلب منه الأمر السير لأيام متواصلة متقفياً الأثر حتى يجد صاحبه، وعند حدوث سرقة في القبيلة أو اعتداء على احد أفرادها، ولم يجدوا دليلاً مادياً ملموساً فإن القاضي يستدعي قاص الأثر مباشرةً ويكلفه بهذه المهمة، فيبدأ من داخل القبيلة وإن لم يجد شيئاً فإنه يتابع مسيرته إلى خارجها حتى يأتي بالخبر اليقين، طبعاً هو مباشرةً يعطي مواصفات المجرم، أنثى أم ذكر متزوجة أو عازبة، طويل أو قصير أقدامه إن كان فيها عرج أم لا، ويأخذ هذه كدلائل أولية،

وكذلك استخدم قصاصي الأثر أثناء الثورات على المحتلين، حيث كانوا بمثابة رجال الاستطلاع، فكانوا يحددون عدد الجنود والعتاد المرافق، من مركبات وآليات عسكرية، وكذلك إن كانوا خيالة أم راجلين، وزمن مسيرهم ووصولهم، حيث




اثناء قيام البدوي بقص الاثر





ذكر في كتاب الباحث "مازن شاهين" تاريخ" ديرا لزور"، وفي ملحمة البوجمعة 1925 ضد الفرنسيين، عندها استقصى الثوار على أثر سيارة تقل ضابطين هما،"فانيير" و"فيسكوكي" برتبة مقدم "كومندان" وتم تجهيز كمين لهما عند الجسر الحجري، وتم قتلهم مع السائق،واغتنام مايحملون من أسلحة وذخيرة،وإذا وصل القصّاص إلى منطقة غير مسموح بها للدخول كحدود دولة مجاورة أو مناطق عسكرية لذا يجب عليه العودة متتبعاً الأثر بالعكس ليصل إلى المكان الذي بدأ منه صاحب الأثر، وبالتالي فمسؤولية صاحب الأثر المتبع تقع على عاتق أصحاب المكان الذي انتهى إليه الأثر ويسمّى هذا القصّ قص الأثر بالعاقب، أي بالعكس، ولقاص الأثر مكانة كبيرة عند أهله وذويه وحتى عند القبائل الأخرى، وذلك لما يقدمونه من خدمات نبيلة تتعلق بأمن القبيلة ومنع السرقات وسلامة المواشي والأموال والأعراض« .

"محمد العساف" من بادية "دير الزور" قرية منطقة مالحة الذرو قال:« إن تعلق البدوي الدائم بمنطقته وارتباطه بالقبيلة يدفعانه إلى المحافظة على استمرارية الحياة بشكلها الطبيعي لمنع حدوث أية مشاكل، فالبدوي يتفحص منطقته ليل نهار، فإن لاحظ أثراً غريباً تبعه حتى يكشف حقيقته، ومن هنا فإن قصاص الأثر، يعين الجهة التي جاء منها صاحب الأثر، كما يعين الجهة التي اتجه إليها بعد ارتكابه الجريمة، وباعتبار أن البادية مقسمة إلى قبائل ولكل قبيلة منطقتها، فإن الجهة التي يتجه إليها الأثر تساعد في حصر المسؤولية بتلك الطريقة لتبرئة ساحة بقية أفراد القبيلة».

"بشار العلي" من قرية"جرمز" مدينة" الحسكة تحدث بالقول:« كان لقصاصي الأثر دور كبير في الكشف عن أكثر الجرائم غموضاً، ولكن دورهم انحسر، أو انعدم تقرباً بسبب كثرة البشر وكثرة وسائط النقل المختلفة، وكذلك تطور معمل البحث الجنائي في مجال كشف البصمات وحتى بصمة العين، والكلاب البوليسية المدربة، والكشف عن طريق الحمض النووي dna، ولاننكر الدور الهام جداً الذي أدوه خلال فترة طويلة من الزمن ».






**مصادر تم الرجوع إليها:

*تاريخ محافظة "ديرا لزور"، ملحمة البوجمعة1925 م، الصفحة176، للباحث "مازن شاهين"