يقع جامع السلطان "إبراهيم ابن الأدهم" في الشمال الشرقي من مدينة "جبلة" القديمة وهو يعتبر الحد الشمالي الشرقي لها إضافة لكونه يشغل حالياً وسط المدينة الحديثة، وهو مبني من الحجر الرملي ويحتوي على ست قباب متفاوتة الأحجام.
الكتابات الموجودة داخل المسجد تشير إلى استكمال بناءه في العصر المملوكي ومن ثم العصر العثماني، وبعدها في عهد القائد الخالد "حافظ الأسد" حيث أعيد بناء مئذنته في العام "1976" من قبل مؤسسة الإسكان العسكري بتوجيه من الرئيس الراحل "حافظ الأسد" بعد أن هدمتها صاعقة في العام \1974\، كما أعيد ترميم الجامع مع إضافة بعض غرف الخدمات في العام \1984\.
يغصّ هذا المسجد بالمصلين في مختلف الصلوات ويضيق بهم أحياناً على الرغم من اتساعه واستيعابه لعدد كبير منهم وسبب ذلك عائد إلى عدة عوامل فندها لنا الحاج "عاطف حاج إبراهيم" بالقول: «أهل "جبلة" كما كل المسلمين يكنون مكانة خاصة للسلطان "إبراهيم ابن الأدهم" هذا الرجل العابد الزاهد، وهم يشعرون بكثير من الروحانية عندما يصلون بالقرب من ضريح هذا الرجل الطاهر.
لكن هذا ليس العامل الأهم في ارتفاع نسبة المصلين ومكانة المسجد بالنسبة لهم، وإنما العامل الأهم هو أن المسجد يحتوي على ذكرى من الرسول "محمد" -صلى الله عليه وسلم- وهي عبارة عن "شعرة شريفة" جيء بها منذ سنوات بعيدة ووضعت في صندوق خشبي داخل الغرفة التي يوجد فيها ضريح السلطان "إبراهيم"».
عرف جامع السلطان إبراهيم منذ بنائه بهذا الاسم الذي لازمه على مر العصور، والسلطان "إبراهيم بن الأدهم" كما هو معروف عابد زاهد متصوف توفي في مدينة "جبلة" ودفن فيها، وللحديث عن تسمية الجامع والتعريف بـ"السلطان إبراهيم" eSyria التقى الباحث "طه الزوزو" حيث قال:
«السلطان "إبراهيم بن الأدهم" هو اسحق إبراهيم بن أدهم العجلي كان والده من ملوك خراسان التي كانت عاصمتها مدينة "بلخ" والتي هي اليوم قرية صغيرة في "أفغانستان"، تزوج والده "أدهم" من ابنة سلطان "بلخ" التي كانت تنفر من الأمراء وتحب الرجال الأتقياء وكان "إبراهيم" من ثمرة هذا الزواج.
ولد "إبراهيم" حوالي سنة "100" للهجرة وبعد وفاة والده ترعرع في بلاط "بلخ" واستلم الإمارة بعد وفاة جده لأمه، وحسب السيرة فإن "إبراهيم" بعد استلامه مقاليد الحكم سمع نداءات خفية تحضه على التخلي عن العرش والانصراف عن الدنيا وتكريس نفسه لحياة الزهد والاعتكاف فلبى تلك النداءات وترك القصر انطلق زاهداً في بلاد الله الواسعة وكانت مدينة "جبلة" آخر محطة له حيث أقام فيها حتى وفاته.
وبعد أن توفي أقامت له والدته مقاماً و(مسجداً) وتكية وحماماً من أموالها الكثيرة، ثم اشترت قرى عديدة أوقفتها لمقامه، ومنذ ذلك الحين والجامع يعرف بجامع السلطان إبراهيم».
شكل هذا المسجد نقطة للالتقاء الناس من مختلف بلاد المسلمين ممن أتوا لزيارة ضريح السلطان، إضافةً إلى كونه يعتبر أهم المساجد في مدينة "جبلة" لكثرة ما له من أهمية تاريخية وما يتمتع به من ميزات حالياً، فقد أم المصليين فيه
عاطف حاج إبراهيم عدد كبير من رجال الدين المعروفين والمشهود لهم وكان آخرهم مفتي الجمهورية سماحة الشيخ "أحمد بدر الدين حسون" الذي صلى على جثمان فقيد المدينة الشيخ "بشير غلاونجي" مفتي المحافظة وإمام المسجد سابقاً، ويقول السيد "فادي جازة" أحد سكان مدينة "جبلة":
«في الماضي القريب كان هذا المسجد أشبه بمزار يزوره الناس من كل مكان ويقيمون الصلوات فيه ويقرؤون الفاتحة على روح السلطان إبراهيم، كما أنه كان بيتاً من بيوت الله التي يطعم فيها الناس على حب السلطان إبراهيم وتوزع فيه الأموال على الفقراء والمحتاجين، حيث أنه كان يضم غرفاً عرفت بغرف الدراويش الذين كانوا يتولون عملية طهي الطعام وتوزيعه على الفقراء والمحتاجين، لكن هذه الأمور أصبحت من الذاكرة، وتم تكريس أهمية المسجد في مجال العلم حيث تم إنشاء مدرسة ثانوية شرعية بداخله يتعلم أبناء المدينة فيها، إضافةً إلى أن المسجد هو المرجعة الدينية بالنسبة لأهالي "جبلة" لكونه مركز اجتماع مجلس الإفتاء الأعلى في المدينة».
هندسية المسجد وطرق بنائه تنتمي إلى عصور عدة ومراحل متتابعة بحسب ما حدثنا به المهندس "إبراهيم خير بك" وأضاف "خيربك": «يأخذ الجامع شكلاً مستطيلاً باتجاه شرق غرب، وتبلغ أبعاده 95×75 متراً تقريباً، ويقع المقام في الجهة الجنوبية الشرقية من الجامع ضمن غرفة لها قبة ومحراب، ويحوي المصلى على منبر ومحراب مبنيان من الرخام مزينان بالزخارف الهندسية، ونوافذ كبيرة زين إطارها الخارجي بزخارف هندسية بالإضافة لنوافذ صغيرة مزينة بالزجاج المعشق، ويوجد في الجهة الغربية من الجامع مئذنة أسطوانية الشكل يغلب عليها الطابع العثماني.
ويبدو أن الجامع بني على ثلاث مراحل، المرحلة الأولى (بناء غرفة الضريح وتعود للمرحلة السلجوقية)، المرحلة الثانية (وفيها تم بناء المسجد والمنارة والبركة والبلاطة والبوابة واخذ الجامع أبعاده القريبة من الوضع الراهن وتعود للفترة المملوكية)، المرحلة الثالثة (المرحلة العثمانية حيث تم إنشاء القباب الأربعة الرئيسية في حرم الجامع وترميم الواجهات وتجديدها مع النوافذ والأقواس على الواجهات وتجديد المنارة الحالية أيضاً لتأخذ شكل المآذن العثمانية الأسطوانية المدببة بارتفاع 26 م إلا إن المئذنة القائمة الآن أقل ارتفاعاً ورشاقة من القديمة).
وفي العهد العثماني أنشئ خلف شجرة السرو المعمرة والتي يزيد عمرها عن ألف عام غرف معدة للمطابخ ومستودعات مئونة أقيم فوقها غرف ذات قباب أقام فيها عسكر الإنكشارية».
الجامع الذي ارتبط اسمه بسلطان الزاهدين له مواصفات تميزه وشواهد تاريخية تدل على أحداث بعينها، وعن ذلك يحدثنا رئيس دائرة أوقاف جبلة "عبد الرحمن غلاونجي" بالقول: «من المرجح أن الجامع قد بني في السنين التي تلت وفاة السلطان إبراهيم أي بين عامي \161-170\ للهجرة، \777-785\ ميلادي، وقد تم بناءه عبر ثلاث مراحل رئيسية (تحدثنا عنها في الأعلى)، إلا أن ما بني في تلك المراحل الثلاث أزيل بعض الأقسام منه وهي (غرف الدراويش والطاحون والمخبز والفرن)، حيث تم هدمها في العام \1929\ وهو تاريخ وضع المخطط المساحي لمدينة جبلة.
وبعد ذلك تم ردم البلاط الأصلي ورفع منسوب صحن الجامع حوالي
ابراهيم خير بك \40\سم، وأزيلت البركة وتم تبليط الصحن ببلاط أرصفة، كما تم إلغاء القناة التي كانت موجودة وأعيد بناء دورات مياه وبعض الغرف الملحقة وكلها بالبيتون المسلح، وقد تم تزريق أقواس المدخل كما وتم بناء سور إسمنتي.
في سبعينيات القرن الماضي أصابت صاعقة المئذنة مما أدى لانهيارها، فأعيد ترميمها كما هي عليه الآن تقليدا لما كانت عليه سابقا باستثناء الجزء العلوي منها وتفاصيل المقرصنات الموجودة على قاعدة شرفة المئذنة.
وفي التسعينات أضافت مؤسسة الإسكان العسكرية أقسام جديدة على الجامع في الجهة الغربية من المصلى وهذه الأقسام هي (قاعة شرف أربع صالات تحوي مكتبة وغرفة للإمام واستراحة ورواق مقبب) ومن الجهة الشمالية تم تجديد دورات المياه مع إضافة صالة ميكانيك وكهرباء وملحقات خدمية أخرى وأقيم مسجد صغير للنساء يتم الوصول إليه عبر درج خارجي شمالي متوضع فوق الميضأة التي تم وصلها بالجامع، في الجهة الغربية تم إضافة الرواق وغرف خاصة بالمؤذن وميضأة وقبو».
ويضيف "غلاونجي": «هناك سبعة لوحات علقت على جدران الجامع منذ زمن بعيد ومنها لوحة كتب عليها بيتين من الشعر \قد أنال إبراهيم من ربه\ مانال من قلبه\ والناس تأتي إلى بابه\ ويطعمون الطعام على حبه\.
ونقرأ على طرفي هذا النص كلمة "بطل" وكلمة "شجاع" وهما تشكلان التاريخ الحرفي لبناء الغرفة وكانت الطريقة مستعملة قبل اعتماد التاريخ الشعري المعروف وهكذا يكون البناء يعود إلى سنة\415\ للهجرة الموافق \1024\1025\ م أي إلى ماقبل الحرب الصليبية وليس في النص الشعري أي إشارة إلى اسم الباني أو المشرف على البناء.
وهناك لوحة أخرى تقع على الجدار الشرقي المفتوح على حرم الصلاة، كتب عليها ستة أسطر بخط الثلث المتداخل نقرأ فيها "بسم الله الرحمن الرحيم" (إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا) "سورة الكهف" آية /30/.
ثم "أنشئ هذا المكان المبارك في أيام مولانا المقر الإشراف العالي المولوي الكافي السيفي، طرغاي الصالحي كافل الممالك الطرابلسية أعز الله أنصاره، وذلك بإذن العبد الفقير إلى الله تعالى عز الدين أيبك بن عبد الله الدودار من ماله، أثابه الله تعالى ابتغى به وجه والدار الآخرة..... سنة ثلث وأربعين وسبعمائة (743هـ الموافق /1342-1343\ ميلادي، وتولى عمارته الفقير إلى الله تعالى أبو بكر عثمان الهكاري"، وهناك لوحات أخرى غير واضحة العبارات وتتعذر قراءتها إضافةً إلى ذلك فقد كتب كثيراً عن هذا المسجد وتحدث الرحالة "ابن بطوطة" عن بركة شاهدها ضمن المسجد، فيما تمكن العالم والرحالة "van berchem" من معرفة العصر الذي كتبت فيه إحدى اللوحات وهو العصر المملوكي».
الجدير ذكره عن وصف الجامع أن له ثلاثة مداخل متعامدة (شمالي وجنوبي يؤديان إلى الصحن المكشوف ومدخل شرقي يؤدي إلى القسم الحديث)، كما وله صحن مكشوف يأخذ شكلا قريبا من المستطيل إضافةً إلى مدخلين شمالي وجنوبي.
القسم الأكثر أهمية هو المصلى الذي يقسم إلى قسمين رئيسيين، القسم الأول هو (الغرفة التي بها الضريح وهي على شكل قلعة مربعة طول ضلعها \8\ أمتار
محراب الصلاة وتعلوها قبة معقودة من الحجر الرملي، وتحتوي غرفة الضريح على محراب نصف دائري يعلوه قوس مدبب، وجود هذا المحراب إن دل على شيء فهو يدل أن هذه الغرفة كانت تستخدم كمصلى قبل بناء المصلى الحالي.
كما أن المدقق بتفاصيل البناء ونوافذ الضريح المطلة على المصلى والمفتوحة على الخارج يدرك أن عملية بناء المسجد تمت على مراحل، وأن مبنى الضريح شكل المرحلة الأولى، علما أن ضريح السلطان ابراهيم بن الأدهم يتوضع في الزاوية الشمالية الشرقية للغرفة وفق الاتجاه شرق غرب).
أما المصلى الحالي للجامع فقد بني في العهدين المملوكي والعثماني وبه أخذ الجامع شكله الحالي، والدخول إليه عبر بوابة كبيرة في الجهة الغربية مفتوحة على الصحن المكشوف وتبلغ سماكة جدرانه (116،5) سم، بينما تتوزع النوافذ على جدران المصلى لتضفي عليه منظرا بديعا، فنرى على الجانب الشمالي ثلاث فتحات مستطيلة يعلو النوافذ الثلاثة نافذتان علويتان مستطيلتان ونافذة وردية الشكل مثمنة ذات زجاج ملون.
أما المنبر فهو مربع الشكل صغير الأبعاد محاط بأربعة أعمدة رخامية ذات بدن رفيع تحمل قبة صغيرة، ولا ننسى أن الوصول إلى المنبر يتطلب صعود درجاته الثمانية.