قصص حب "مُشعة"
تتحدى الدمار الذي تركه "تشرنوبيل"
قصص حب "مُشعة"
إعداد: محمد هاني عطوي
“أحباب تشرنوبيل” أناس عاديون ولدوا وترعرعوا بالقرب من الأراضي الجرداء التي أصبحت هكذا بعد الكارثة النووية التي وقعت في روسيا في العام ،1986 وعاشوا قصص حبهم في هذه المنطقة على الرغم من المخاطر الجمة التي يعرفونها جيداً والمتمثلة في الخطر الإشعاعي المميت . والغريب في الأمر أن بعضعهم عاد ليسكن في “المنطقة المحرمة”، لأنهم يريدون بكل بساطة العيش بسلام ووئام وحب لا غير .
قصة الحب الأولى التي كتبت على واحدة من الأراضي الأكثر تآكلاً في العالم وهي أرض هجرها أهلها واستوطنتها الذئاب بعدما تعرضت لانفجار نووي في أحد المحطات الأوكرانية في 26 ابريل/ نيسان ،1986 بطلاها ريتا وبيوتر . وقبل حدوث الكارثة كان في هذه المنطقة أكثر من 100 ألف نسمة لكنهم اضطروا إلى هجرها خلال أيام فقط وتركوا وراءهم كل حاجياتهم من أثاث وملبس وصور ورسائل وذكريات .
وبعد ربع قرن عادت “المنطقة المحرمة” لتشهد إقبالاً لا سابق له بعدما كانت مسرحاً للنهب والسرقة، رغم أنها كانت تحت مراقبة السلطات السوفييتية قبل سقوط الاتحاد السوفييتي .
في هذه المنطقة التي لا يزيد محيطها على الثلاثين كيلومتراً، حدث اللقاء الأول بين ريتا وبيوتر قبل ثماني سنوات، بينما كانا يسرقان معادن مشعة من مدفن للمعدات العسكرية . واليوم تتجول ريتا (37 سنة) بين هياكل طائرات الهيلوكوبتر والسيارات الصدئة بحثاً عن غطاء محرك لسيارة ما أو قطعة منه، أما بيوتر فيبحث عن النحاس واللاتيون “النحاس الأصفر” . وتعود قصة اللقاء بين الاثنين إلى العام 2002 حين ظهرت فجأة كتائب من الجيش الروسي محاولة أن توقف ريتا وإخوانها، لكن بيوتر حاول تخليصهم وأرشدهم إلى طريق يخرجهم من الغابة . وهكذا بدأت قصة الحب بين بقايا أشجار تشرنوبيل التي قضت عليها الإشعاعات . ويبدو أن الانفعالات والعواطف لا يمكن أن يعيشها المرء إلا في الحالات الطارئة والممنوعة، وكأن كل إحساس كان يبلغ ذروته بسبب المشهد الطبيعي في هذه البساتين والحقول التي تعرضت لتلوث عال بالمواد المشعة والتي تصل إلى ذروتها في بعض المناطق، أو الحرائق التي اجتاحت هذا الصيف الغابة محولة المستقبل إلى أمر بعيد المنال والسماء إلى ما يشبه لون النعوش التي حملت ضحايا الانفجار .
ولدت ريتا في “نوفو سوكولي”، وهي قرية صغيرة يبلغ تعداد سكانها بضع مئات فقط، وتقع على مسافة قصيرة من الحاجز المعدني الذي أقامته السلطات الروسية لمنع دخول الناس إلى الأماكن الملوثة بالإشعاع . ومن المحتمل أن يكون حتف ريتا في قريتها التي ولدت بها، لأن الإشعاع وصل إليها بالطبع، ما يعني أن حياتها قضتها بين هياكل السيارات الكبيرة التي لم تزل عليها آثار بسيطة للنجوم الحمراء الدالة على الدولة السوفييتية، تجمع منها ما يساعدها على سد رمقها ومن تعيلهم . فضلاً عن ذلك يتوجب على ريتا أن ترضخ لمطالبات أفراد الكتائب العسكرية الحكومية بالمال مقابل غضهم للبصر عما تقوم به من جمع للخردة المشعة لبيعها، وهو ما تعتبره السلطات بمثابة السرقة ويستحق عقوبة مدتها سنة سجن .
أما بيوتر موريافوف الذي قضى من سنوات عمره الخمسين 14 سنة في السجن بسبب مشاجرات متعددة وحركات تمرد وعصيان، فينظر إلى المنطقة التي تمتد بعيداً من منزله، ويقول: “مع مطلع كل صباح، يأتي الجنود لأخذ أموالنا، علماً بأن تجارة تهريب المعادن المشعة هم من يتحكمون بها” . ويضيف إن كل المنطقة المحيطة بالمنطقة المشعة التي يفترض الابتعاد عنها أصبحت المورد الوحيد للعيش وكسب الرزق، لأن جمع المعادن المشعة هو السبيل لبلوغ هذا الأمر، خاصة أن كل الشركات، بما فيها الزراعية، لم ترد الإقامة في هذا الجزء من أوكرانيا . وفي إحدى البقالات أو المقاهي تجتمع النساء حول جهاز راديو يصدر منه صوت مسجل على مدار اليوم ليذكر بالنتائج الكارثية التي ترتبت على الحرائق التي اجتاحت المنطقة في أغسطس/ آب الماضي، وأتت على مئات الهكتارات ولم تكن تبعد سوى 60 كلم إلى الجنوب من المفاعل الذري . وعندما تطرح الأسئلة على هؤلاء النساء عن حياتهن، يرفعن أيديهن إلى السماء ويقلن واليأس يبلغ منهن مبلغه: “ماذا نقول والدقائق تمر علينا كأنها ساعات؟ إننا نعيش بفضل المساعدات التي تقدم لنا على أساس أننا ضحايا تشرنوبيل، إضافة بالطبع إلى ما نحصل عليه من مال جراء بيعنا للمعادن الخردة المشعة” .
وتقول ريتا التي تبلغ من العمر 50 سنة: “الكل يذهب إلى المنطقة المشعة للبحث عن المعادن المشعة، أما بقية الوقت فنقضيه في تحضير الطعام وشرب الفودكا” . يبدو أن تناول “الفودكا” هو الذي جعل ريتا تغرق في الإدمان خاصة في ليالي الشتاء التي تصبح قاسية للغاية ويصبح فيها أمر تربية الطفل الصغير ميشا البالغ من العمر سنتين صعباً جداً، وأمر الإذعان لأفراد الجيش شيئاً لا يطاق وهم لا يكفون عن قرع باب المنازل على مدار اليوم .
الزوج بيوتر لم يعد يطيق من زوجته هذا الإدمان، فذات مساء وضع الزوجان بعض الحاجيات في حقيبة صغيرة، ووضعا الطفل الصغير في عربته وتوجها نحو طريق مملوء بالحجارة يؤدي إلى الجدار الشائك الذي أقامته الدولة . وتقول ريتا “كان ذلك في بداية ربيع 2009 وكان زوجي بيوتر لا يكف عن القول لا بد أن نذهب للعيش في تلك المنطقة، فهناك لا أحد يزعجنا ولا يوجد فودكا . والفكرة في البداية لم ترق لي وكنت أحسب أن بيوتر جن أو يهذي . وبما أنني أحبه لأنه رجل بكل معنى الكلمة ولا يخشى أحداً، وافقت على مشروعه وقلت له هيا بنا لنرحل” .
بدأت الرحلة واستغرقت من بيوتر وزوجته ريتا سيراً على الأقدام حوالي ست ساعات إلى أن وصلا إلى قرية مدمرة تقع وسط الغابة، وهناك بدأت حياة جديدة ترى النور، إذ أعاد بيوتر ترميم أحد المنازل المهجورة ونظف المكان المحيط به وزرع بعض الخضراوات والفاكهة واستمتع أخيراً برؤية ابنه “ميشا” وهو يلعب أمام هذا المنزل . وتصف ريتا الوضع الجديد بالقول: “حقاً إنه لأمر مدهش فها نحن أخيراً نعيش بسلام بعيدين عن زيارات أفراد الجيش وإزعاجهم المستمر وها نحن نجد أخيراً معنى للهدوء والصمت والطبية، إننا بالفعل نبحث عن الحب والسلام لا غير” . وتتابع “يخرج زوجي بيوتر صباحاً للصيد، وبعد الظهر نخرج سوياً مع طفلنا ميشا للصيد البحري، وفي المساء نشعل النار ونطبخ ونتدفأ، أما عن الإشعاعات فلم نعد نفكر بها، فهي بالنسبة لنا غير موجودة” .
وتشير ريتا إلى أن فصل الصيف كان حاراً نوعاً ما لكن مع قدوم الخريف اتخذت الأرض لونين بنفسجي وأصفر وبدأ الفطر بالظهور . وتقول إنه بالفعل فصل استثنائي بالنسبة لنا، فنحن نجمع الفطر بكميات كبيرة من أجل أن نحفظه لفصل الشتاء، وزوجي يصيد الوعل والخنزير البري . ويبدو أن سعادة بيوتر الشيشاني وريتا الأوكرانية لم تدم طويلاً، فمع هطول أول زخات مطر وندائف الثلج وصل رجال الجيش وعثروا عليهما، ولذا كان لا بد من أن يتركا المكان . ومن حسن الحظ أن ريتا طوال تلك الفترة لم تتناول الخمر وبرأت من إدمانها وتخلصت نوعاً ما من مشكلاتها النفسية، وتقول إن تلك الأرض المشعة الملوثة كانت سبباً في شفائها علماً بأنها أرض تسبب الأمراض للآخرين . إنها، حسب وصفها، عالم آخر .
الإنذار غير مفيد
السلطات الرسمية وجهت الكثير من الإنذارات والتوصيات والنصائح للأشخاص الذين كانوا يقطنون هذه المنطقة، فاستجاب غالبيتهم وتركوها، إلا أن أكثر من 300 أسرة أصرت على البقاء بعد كارثة تشرنوبيل، وجل هؤلاء من كبار السن، وذلك لعدم توفر مأوى آخر مناسب . ومنذ فترة لوحظ أن شباناً من الجنسين بدأوا يعودون إليها وغالبيتهم من المتزوجين . ويبحث هؤلاء عن مكان يهربون إليه من الصعوبات التي يواجهونها في المدن الكبرى التي تتمحور جلها في نقص المال وكثرة الإغراءات الحياتية .
ويقول أحد هؤلاء إن منطقة تشرنوبيل المشعة أصبحت بالنسبة لكثير من الشبان بمثابة المدينة الجديدة التي يجدون فيها مكاناً للحب والوئام والسلام من دون تفكير بالمشاريع المستقبلية .
فيكا مثلاً لم تولد في منطقة تشرنوبيل، لكنها اختارت أن تعيش فيها، لأنها تريد بكل بساطة أن تكون مع الرجل الذي اختارته شريكاً لها . وها هي تعيش منذ سنتين في ضيعة صغيرة تسمى “كوبافاتيه” تطل على واد رمادي مدمر بفعل الكارثة الإشعاعية .
ولتصل فيكا إلى المنطقة، لا بد من عبور الحاجز الحديدي الشائك الذي أقامته السلطات الرسمية ثم متابعة طريقها في سهل نصفه مدمر بفعل النيران وتخطي وأعمدة الكهرباء الملقاة هنا وهناك، والانتباه إلى أفراد الجيش كل لا يظهروا فجأة ويعيدوها هي وخطيبها من حيث أتت . وتقول فيكا “جئت إلى هنا من أجل خطيبي ميشا، وقبل ذلك كنت أسكن مع والدتي في جوبان وهي قرية تقع خارج المنطقة المحرمة . وذات صباح تقابلت مع ميشا وخطبني واقترح عليّ أن نأتي إلى هنا لنكمل حياتنا بحب وسلام . وتشير فيكا إلى أنه لا يوجد ما يمكن للمرء أن يفعله هنا سوى تحضير الطعام وصيد الأسماك في الصيف . وتضيف: لا يمكننا الرحيل من هنا، وإلى أين سنذهب؟ إذ ليس هناك عمل نقوم به ولا نملك مالاً ولذا فمن الأفضل أن نعيش هنا ونموت .
ويقول فيكتور، وهو جار لفيكا، حاول في إحدى المرات الانتحار “كانت هذه الأرض جنة، وكانت الطبيعة هنا رائعة، وكان العمل كثيراً في المفاعل النووي، أما اليوم فهي أرض مهجورة منسية ينتظر فيها الناس الموت” .
عبور الحاجز
يعتقد الجيل الجديد الصاعد في روسيا أن تشرنوبيل لم تعد مجرد ذكرى حكى قصتها الكبار وتناقلتها الألسنة، بل هي أمر واقع لا بد من إعادته إلى الحياة . ومن هنا فضلت شابات مثل ناتاشا وآنا وآلا اللواتي لم يبلغن العشرين ربيعاً الإقامة في المنطقة لبناء مساكن جديدة مع عرسانهن . وتقول الفتيات الثلاث: على الرغم من المدرسة الجديدة التي فتحت أبوابها بالقرب من تشرنوبيل والمركز الثقافي الجديد الذي نتردد عليه، إلا أن الفرصة لمقابلة الشباب نادرة جداً، ولذا نفضل أن نقيم هنا للأبد . وتقول آلا “حاول الجميع أن يخيفنا من منطقة تشرنوبيل المشعة، وها نحن نقيم هنا من فترة طويلة ولم تظهر علينا أعراض مرضية، بل لم تظهر على الذين عاشوا قبلنا ولم نسمع أن أحداً مات بسبب المواد المشعة، ولذا سأبحث عن شاب يخطبني وسنتزوج ونعيش هنا إلى آخر لحظة في حياتنا، والحق أنني لا أفهم لماذا يجب عليّ أن أرحل؟” .
أما يوليوا فحلمها يتمثل في الرحيل إلى تشرنوبيل لإقامة مسكن دائم هناك وبناء أسرة، علماً بأنها تقيم حالياً مع والدتها في “ستاري سوكولي” التي لا تبعد سوى كيلومترين فقط عن تشرنوبيل . وتقول يوليوا، ولدت هناك قبل الكارثة ولي ذكرياتي وأحلامي، لكن أفراد الجيش أبعدونا من هناك بسبب خطر الإشعاعات .
وتضيف “إنهم نسوا تشرنوبيل ويريدون أن ننساها رغماً عنا، ولكن هيهات، فنحن أطفال تشرنوبيل لا نحلم إلا بالحب والسلام والأمن ولا بد أن نعيده إلى هذه الأرض مهما حاولوا إبعادنا عنها” .
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات