سيدي أبو القاسم الجنيد البغدادي
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
أبو القاسم الجنيد
؟ - 297 للهجرة
الجنيد بن محمد، الخراز القواريري أبو القاسم. شيخ وقته، ونسيج وحده. أصله نهاوند، ومولده ومنشؤه ببغداد.
صحب جماعة من المشايخ، واشتهر بصحبة خاله السري، والحارث المحاسبي. ودرس الفقه علي أبي ثور، وكان يفتي في حلقته - بحضرته - وهو ابن عشرين سنة.
قال: " كنت بين يدي سري ألعب، وأنا ابن سبع سنين، وبين يديه جماعة يتكلمون في الشكر؛ فقال لي: " يا غلام! ما الشكر؟ " قلت: " الشكر ألا تعصي الله بنعمه " . فقال لي: " أخشي أن يكون حظك من الله لسانك! " قال الجنيد: " فلا أزال أبكي علي هذه الكلمة التي قالها لي السري " .
وقال: " علامة لإعراض عن العبد أن يشغله بما لا يعنيه " .
وقال: " من لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث، لا يقتدي به في هذا المر، لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة " .
وقال: " من طلب عزاً بباطل أورثه الله ذلا بحق " .
وقال: " من هم بذنب لم يفعله ابتلي بهم لم يعرفه " .
وقال: " الصوفية أهل بيت واحد، لا يدخل فيهم غيرهم " .
وقال: " الأدب أدبان: أدب السر، و أدب العلانية. فالأول طهارة القلب من العيوب، والعلانية حفظ الجوارح من الذنوب " .
وقال له رجل: " علمني شيئاً يقربني إلي الله وإلي الناس " ، فقال: " أما الذي يقربك إلي الله فمسألته، وأما الثاني فترك مسألتهم " .
وقال: " لكل أمة صفوة، وصفوة هذه الأمة الصوفية " .
وسئل: " من العرف؟ " فقال: " من نطق عن سرك وأنت ساكت " .
ورؤى في يده يوماً سبحة، فقيل له: " أنت، مع تمكنك وشرفك، تأخذ بيدك سبحة؟! " فقال: " نعم! سبب وصلنا به إلي ما وصلنا لا نتركه أبداً " .
وقال: " قال لي خالي سرى السقطى: " تكلم علي الناس! " وكان في قلبي حشمة من ذلك، فاني كنت أتهم نفسي في استحقاق ذلك، فرأيت ليلة، في المنام، رسول الله صلي الله عليه وسلم - وكان ليلة جمعة - فقال لي: " تكلم علي الناس! " . فانتبهت، وأتيت باب سري قبل أن أصبح، فدققت الباب، فقال: " لم تصدقنا حتى قيل لك! " . فقعدت في غد للناس بالجامع، وانتشر في الناس أني قعدت أتكلم، فوقف علي غلام نصراني متنكر وقال: " أيها الشيخ! ما معني قوله عليه السلام: )اتقوا فراسة المؤمن. فانه ينظر بنور الله( فأطرقت، ثم رفعت رأسي فقلت: " أسلم! فقد حان وقت غسلامك! " فأسلم " .
وقال الجنيد: " معاشر الفقراء! إنما عرفتم بالله، وتكرمون له؛ فإذا خلوتم به فانظروا كيف تكونون معه " وقال رجل له: " علي ماذا يتأسف المحب من أوقاته؟ " . قال: " علي زمان بسط أورث قبضاً، أو زمان أنس أورث وحشة " . ثم أنشأ يقول:
قد كان لي مشرب يصفو برؤيتكم ... فكدرته يد الأيام حين صفا
وقال الخلدي: " دفع إلى الجنيد درهما، وقال: " اشتر به تيناً وزيرياً، فاشتريته، فلما أفطر أخذ واحدة، ووضعها في فيه، ثم ألقاها وبكي، وقال لي: " احمله! " فقلت له في ذلك، فقال: " هتف بي هاتف في قلبي: أما تستحي؟! تركت هذا من أجلي ثم تعود؟! " . ثم أنشد:
نون الهوان من الهوى مسروقة ... فصريع كل هوى صريع هوان
وقال أبو عمرو بن علوان: " خرجت يوماً إلي سوق الرحبة في حاجة، فرأيت جنازة، فتبعتها لأصلي عليها، فوقفت حتى تدفن، فوقعت عيني علي امرأة مسفرة، من غير تعمد، فألححت بالنظر إليها، واسترجعت واستغفرت الله تعالى وعدت إلي منزلي. فقالت عجوز لي: " يا سيدي! مالي أري وجهك أسود؟!. فأخذت المرآة فنظرت، فإذا هو كما قالت، فرجعت إلي سري أنظر من أين ذهبت، فذكرت النظرة، فانفردت في موضع، أستغفر الله، وأسأله الإقامة، أربعين يوماً. فخطر في قلبي: أن زر شيخك الجنيد!. فانحدرت إلي بغداد، فلما جئت حجرته طرقت الباب، فقال لي: " ادخل يا أبا عمرو! تذنب بالرحبة ونستغفر لك ببغداد " .
وقال علي بن ابرهيم الحداد: " حضرت مجلس ابن سريج الفقيه الشافعي، فكان يتكلم في الفروع والأصول بكلام حسن عجيب. فلما رأي إعجابي قال: " أتدري من أين هذا؟ " قلت: " لا! " قال: " هذا ببركة مجالسة أبي القاسم الجنيد " .
وقال خير: " كنت يوماً جالساً في بيتي، فخطر لي خاطر، أن الجنيد بالباب فاخرج إليه، فنقيته عن قلبي وقلت: " وسوسة! " . فوقع لي خاطر ثان بأنه علي الباب فاخرج اليه، فنقيته عن سري؛ فوقع لي ثالث، فعلمت أنه حق، ففتحته، فإذا بالجنيد قائم، فسلم علي، وقال لي: " يا خير! لم لا تخرج مع الخاطر الأول؟! " .
وقال عبد الرحمن بن إسماعيل: " كنت ببغداد، ووافي الحاج من خراسان، فلقيني بعض أصحابنا ممن له فضل وإفضال، فسألني أن أعرفه بجماعة ليصلهم بشيء، فقلت له: " ابدأ بالجنيد! " فحمل إليه دراهم وثياب كثيرة، فلما رآه أعجبه أدبه في رفقه، فقال: " اجعل بعضه لفقراء اذكرهم لك " فقال: " أنا أعرف الفقراء أيها الشيخ؟! " فقال له الجنيد: " وأنا! أؤمل أن أعيش حتى آكل هذا؟! " ، فقال: " إني لم أقل لك: أنفقه في الخل والبقل، والكامخ والجبن والمالح!، إنما أريد أن تنفقه في الطيبات وألوان الحلاوات،فكل ما أسرع فهو أحب إلي " . فتبسم الجنيد وقال: " مثلك لا يجوز أن يرد عليه! " وقبل ذلك منه. فقال الخراساني: " ما أعلم أحداً ببغداد أعظم منة علي منك! " ، فقال الجنيد: " ولا ينبغي لأحد أن يرتفق إلا ممن كان مثلك " .
وقال الجنيد: " رأيت إبليس في المنام كأنه عريان، فقلت له: " أما تستحي من الناس؟! " فقال: " يا لله! هؤلاء عندك من الناس؟!. لو كانوا منهم ما تلاعبت بهم كما تتلاعب الصبيان بالكرة، ولكن الناس غير هؤلاء " . فقلت: " ومن هم؟ " قال: " قوم في مسجد الشونيزي، قد أضنوا قلبي، وأنحلوا جسمي؛ كلما هممت أشاروا بالله، فأكاد أحرق " . فانتبهت ولبست ثيابي، وأتيت مسجد الشونيزي وعلى ليل، فلما دخلت المسجد إذا أنا بثلاثة أنفس - قيل: هم أبو حمزة، وأبو الحسين النوري، وأبو بكر الزقاق - جلوس، ورءوسهم في مرقعاتهم؛ فلما أحسوا بي قد دخلت أخرج أحدهم رأسه وقال: " يا أبا القاسم! أنت كلما قيل لك شيء تقبله! " .
وبات الجنيد ليلة العيد في الموضع الذي كان يعتاده في البرية، فإذا هو وقت السحر بشاب ملتف في عباءته يبكي ويقول:
بحرمة ربتي! كم ذا الصدود؟! ... الا تعطف علي؟! ألا تجود؟!
سرور العيد قد عم النواحي ... وحزني في ازدياد لا يبيد
فإن كنت أفترفت خلال سوء ... فعذري في الهوى أفلا تعود؟
وقال أبو محمد الجريري: " كنت واقفاً علي رأس الجنيد وقت وفاته - وكان يوم جمعة - وهو يقرأ، فقلت: " ارفق بنفسك! " فقال: " ما رأيت أحداً أحوج إليه مني في هذا الوقت، هو ذا تطوي صحيقتي " .
وقال أبو بكر العطار: حضرت الجنيد عند الموت، في جماعة من أصحابنا، فكان قاعداً يصلي ويثني رجله، فثقل عليه حركتها، فمد رجليه وقد تورمتا، فرآه بعض أصحابه فقال: " ما هذا يا أبا القاسم؟! " ، قال: " هذه نعم!. الله أكبر " . فلما فرغ من صلاته قال له أبو محمد الجريري: " لو اضطجعت! " ، قال: " يا أبا محمد! هذا وقت يؤخذ منه. الله أكبر " . فلم يزل ذلك حاله حتى مات " .
وقال ابن عطاء: " دخلت عليه، وهو في النزع، فسلمت عليه، فلم يرد، ثم رد بعد ساعة، وقال: " اعذرني! فإني كنت في وردي " ، ثم حول وجهه إلي القبلة ومات " .
وكان عند موته قد ختم القرآن، ثم ابتدأ في البقرة فقرأ سبعين آية " .
وكانت وفاته في شوال، آخر ساعة من يوم الجمعة، سنة سبع وتسعين ومائتين ببغداد. وقيل: سنة ثمان.
وغسله أبو محمد الجريري، صلي عليه ولده، ودفن بالشونيزيه، بتربة مقبرة بغداد، عند خاله سري. وحزر الجمع الذين صلوا عليه، فكانوا ستين ألفاً.
قال أبو محمد الجريري: " كان في جوار الجنيد رجل مصاب في خربة، فلما مات الجنيد ودفناه، تقدمنا ذلك المصاب، وصعد موضعاً رفيعاً، وقال لي: " يا أبا محمد! تراني أرجع إلي تلك الخربة بعد أن فقدت ذلك السيد؟! " ، ثم أنشد:
واأسفي من فراق قوم ... هم المصابيح والحصون!
والمدن والمزن والرواسي ... والخير والأمن والسكون
لم تتغير لنا الليالي ... حتي توفتهم المنون
فكل جمر لنا قلوب ... وكل ماء لنا عيون
ثم غاب عنا فكان ذلك آخر العهد منه " .
وسئل الجنيد عن التوحيد، فأنشد قائلا:
وغني لي من قلبي ... وغنيت كم غني
وكنا حيثما كانوا ... وكانوا حيثما كنا
فقال السائل: " وأين القرآن والأخبار؟! " فقال: " الموحد يأخذ علي التوحيد من أدني الخطاب " .
وأنشد مرة:
وإن امرءاً لم يصف لله قلبه ... لفي وحشة من كل نظرة ناظر
وإن امرءاً لم يرتحل ببضاعة ... إلي داره الأخرى فليس بتاجر
وإن امرءاً باع دنيا بدينه ... لمنقلب منها بصفقة خاسر
وسئل عن الفقر فأنشأ يقول:
لا الفقر عار ولا الغنى شرف ... ولا شئ في طاعة سرف
قلت: وأستاذ الجنيد محمد بن علي القصاب، أبو جعفر البغدادي. وكان الجنيد يقول " الناس ينسبوني إلي سري، وإنما أستاذي هذا يعني القصاب.
سئل القصاب: " ما بال أصحابك محرومين من الناس؟ " قال: " لثلاث خصال: أحدها: أن الله لا يرضي لهم ما في أيديهم، ولو رضي لهم ما لهم لترك ما لأنفسهم عليه.
وثانيها: أن الله لا يرضي أن يجعل حسناتهم في صحائفهم، ولو رضي لهم لخلطهم بهم.
وثالثها: أنهم قوم لم يسيروا إلا إلي الله، فمنعهم كل شيء سواه وأفردهم به " .
أصحاب الجنيد
ومن أصحاب الجنيد أبو محمد أحمد بن محمد بن الحسين الجريري، وأبن الأعرابي أبو العباس احمد بن محمد بن زياد، وقد سلفاً؛ وكذا اسماعيل بن نجيد؛ أما الشبلي فسيأتي.
وصحبه علي بن بندار أبو الحسن الصيرفي، من جلة مشايخ نيسابور. صحب أيضاً الحيري، وكتب الحديث الكثير، وكان ثقة. رزق من رؤية المشايخ وصحبتهم ما لم يرزق غيره.مات سنة تسع وخمسين وثلثمائة.
قال: " دخلت دمشق علي أبي عبد الله بن الجلاء، فقال: " متي دخلت دمشق؟ " قلت: " منذ ثلاثة أيام " فقال: " ما لك لم تجئني؟! " قلت: " دخلت إلي أبي ابن جوصاء، وكتبت عنه الحديث " . فقال: " شغلتك السنة عن الفريضة " .
ومن كلامه: " فساد القلوب علي حسب فساد الزمان وأهله " .
وقال: " زمان يذكر فيه بالصلاح زمان لا يرجى منه الصلاح " .
وقال: " دار أسست على البلوي بلا بلوي محال " .
وقال: " إياك والخلاف على الخلق، فمن رضي الله به عبداً فارض به أخاً " .
وكان يقول: " إياك والاشتغال بالخلق فقد عدم الربح عليهم اليوم " .
وقال لبعض أصحابه: " إلى أين؟ " قال: " أخرج إلى النزهة " . فقال: " من عدم الأنس من حاله لم تزده النزهة إلا وحشة " .
وقال: " كنت أماشي يوماً أبا عبد الله بن خفيف، فقال لي: " تقدم يا أبا الحسن! " فقلت: " بأي عذر أتقدم؟! " قال: " بأنك لقيت الجنيد وما لقيته " .
ومنهم عبد الله بن محمد الشعراني أبو محمد الرازي الأصل، النيسابوري المولد والمنشأ. وصحب أيضاً رويماً والحيري وسمنوناً وغيرهم. ومات سنة ثلاث وخمسين وثلثمائة.
ومن كلامه: من أراد أن يعرف متابعة للحق فلينظر إلي من يخالفه في مراد له، كيف يجد نفسه عند ذلك، فإن لم يتغير فليعلم أن نفسه متابعة للحق " .
سئل: " ما بال الناس يعرفون عيوبهم ولا ينتقلون عنها، ولا يرجعون إلي الصواب؟! " فقال: " لأنهم اشتغلوا بالمباهاة بالعلم، ولم يشتغلوا باستعماله، واشتغلوا بآداب الظواهر وتركوا آداب البواطن، فأعمي الله قلوبهم، وقيد جوارحهم عن العبادات " .
ومن أصحابه أيضاً علي بن محمد المزين أبو الحسن البغدادي. وصحب أيضاً سهلا. ومات مجاوراً بمكة سنة ثمان وعشرين وثلثمائة.
ومن كلامه: " من استغني بالله أحوج الله الخلق إليه، ومن افتقر إلى الله، وصح فقره أليه بملازمة آدابه، أغناه الله عن كل ما سواه " .
وقال: " الذنب بعد الذنب عقوبة الذنب؛ والحسنة بعد الحسنة ثواب الحسنة " .
وقال المزين: " لما مرض أبو يعقوب النهرجوري، قلت - وهو في النزع - : " قل: لا إله إلا الله! " فتبسم إلي وقال: " إياي تعني؟! وعزة من لا يذوق الموت! ما بيني وبينه إلا حجاب العزة " وانطفأ من ساعته. فكان المزين يأخذ بلحيته ويقول: " حجام مثلي يلقن أولياء الله الشهادة؟! واخجلتاه منه! " ويبكي إذا ذكر ذلك.
وروي أنه رؤي يوماً متفكراً، ثم أنشد:
منازل كنت تهواها وتألفها ... أيام أنت علي الأيام منصور
وقد كان يوماً يبكي - وهو بالتنعيم يريد العمرة - وهو ينشد:
أنافعي دمعي فأبكيك؟! ... هيهات! مالي طمع فيك
فلم يزل كذلك حتي بلغ مكة.
وممن لقيه أبو محمد عبد الله بن محمد المرتعش النيسابوري، أحد مشايخ العراق. كان يقيم في مسجد الشونيزية ببغداد، وصحب أبا حفص وأبا عثمان، وكان كبير الشأن.
قيل: " عجائب بغداد ثلاثة: نكت المرتعش؛ وإشارات الشبلي، وحكايات جعفر الخلدي " . مات ببغداد سنة ثمان وعشرين وثلثمائة.
من كلامه: " سكون القلب إلي غير المولي تعجيل عقوبة من الله في الدنيا " .
وقيل له: " بماذا ينال العبد حب الله تعالي؟ " . قال: " ببغض ما أبغضه وهي الدنيا والنفس " .
وقيل له: " إن فلاناً يمشي علي الماء! " . فقال: " عندي أن من مكنه الله من مخالفة هواه فهو أعظم من المشي علي الماء " .
وسئل عن التصوف فقال: " الأشكال والتلبيس والكتمان " . ثم أنشد يقول:
سري وسرك لا يعلم به أحد ... إلا الجليل ولا ينطق به نطق
وانشد أيضاً علي إثره:
إذا جئت فامنح طرف عينك غيرنا ... لكيلا يحسبوا أن الهوى حيث تنظر
وسئل: " بماذا ينال العبد المحبة؟ " . فقال: " بمولاة أولياء الله تعالي ومعاداة أعدائه " .
ثم قال لبعض جلسائه: " أنشدني الأبيات التي كنت تنشد بالأمس " فأنشأ يقول:
وقف الهوى بي حيث أنت فلي ... س لي متأخر عنه ولا متقدم
أجد الملامة في هواك لذيذة ... حباً لذكرك فليلمني اللوم
أشبهت أعدائي فصرت أحبهم ... إذ صار حظي منك حظي منهم
وأهنتني فأهنت نفسي صاغراً ... ما من يهون عليك ممن يكرم
وقال السلمي: سمعت أحمد بن علي بن جعفر يقول: " كنت عند المرتعش قاعداً، فقال رجل: " قد طال الليل وطال الهوى! " فنظر أليه المرتعش وسكت ساعة، ثم قال: " لا أدري ما تقول! غير أني سمعت بعض القوالين في هذه الليالي:
لست أدري أطال الليل أم لا ... كيف يدري بذاك من غفلا
لو تفرغت لاستطالة ليلي ... ولرعي النجوم كنت مخلي
ان للعاشقين عن قصر الليل وعن طوله من الوجد شغلا فبكي من حضره، واستدلوا علي عمارة أوقاته " .
وقال وقت وفاته: " سألت الله ثلاث حوائج فقضاها لي: سألته أن يكون موتي في مسجد الشونيزية، فأني قد صحبت فيه أقواماً، سادة كراماً، وهوذا أنا أموت فيها.
وألا يكون لي أمر الدنيا شيء وقت خروجي منها، وليس لي غير الخرقه التي تحتي؛ فإذا مت فأخرجوها من تحتي واشتروا بها شيئاً للفقراء، فإنهم لا يدفنونني بغير كفن.
وسألته ألا يحضرني في وقت وفاتي رجل أبغضه، وأنا أحبكم كلكم وليس فيكم من أبغضه " . ثم مات.
ومن أصحابه أيضاً محمد بن علي بن جعفر الكتاني - نسبة إلي الكتان، بفتح الكاف، وعمله - أبو بكر، ويقال: أبو بكر عبد الله، البغدادي، ثم المكي.
هاجر ال مكة وبها مات مجاوراً سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة. وصحب أيضاً النوري والخراز.
ومن كلامه: " التصوف خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في التصوف " .
وقال: " العاجز من عجز عن سياسة نفسه " .
وقال: " إذا صح الافتقار إلي الله صح الغني به، لأنهما حالان لا يصح أحدهما إلا بصاحبه " .
وقال: " رأيت النبي صلي الله عليه وسلم في النوم، فقلت: " يا رسول الله! ادع الله ألا يميت قلبي " . قال: " قل - كل يوم أربعين مرة - : " يا حي! يا قيوم! لا إله إلا أنت! " فإنه لا يموت فلبك، ويكون قلبك حياً " .
وقال: " من حكم المريد أن يكون فيه ثلاثة أشياء: نومه غلبة، وأكله فاقة، وكلامه ضرورة " .
وقال: " النقباء ثلثمائة، والنجباء سبعون، والأبدال أربعون، والأخيار سبعة، والعمداء أربعة، والغوث واحد " .
فمسكن النقباء المغرب، والنجباء مصر، والأبدال الشام، والأخيار سياحون في الأرض، والعمداء زوايا الأرض، والغوث بمكة.
فإن عرضت الحاجة من أمر العامة ابتهل النقباء، ثم النجباء، ثم الأبدال، ثم الأخيار، ثم العمداء؛ فإن أجيبوا وإلا ابتهل الغوث، فلا يتم مسألته حتى تجاب دعوته " .
وقال: " صحبني رجل، وكان ثقيلا علي قلبي، فوهبت له شيئاً ليزول ما في قلبي، فلم يزل، فحملته إلي بيتي، وقلت: " ضع رجلك علي خدي " فأبي، فقلت: " لا بد تفعل! " واعتقدت أنه لا يرفع رجله علي خدي حتى يرفع الله من قلبي الذي كنت أجده. فلما زال عن قلبي ما كنت أجده قلت له: " ارفع رجلك الآن! " .
وسئل عن الفائدة في مذاكرة الحكايات، فقال: " الحكايات جند من جنود الله، تقوي بها أبدان المريدين " . فقيل له: " هل لهذا شاهد؟ " . قال: " نعم! قال الله تعإلي: )وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك(.
وروي عنه انه قال: " كنت وأبو سعيد الخراز، وعباس بن المهتدي، وآخر لم يذكره، نسير بالشام علي ساحل البحر وإذا شاب يمشي ومعه محبرة، فظننا أنه من أصحاب الحديث، فتثاقلنا به، فقال أبو سعيد: " يا فتي! علي أي طريق تسير؟ " فقال: " ليس أعرف إلا طريقتين: طريق الخاصة و طريق العامة؛ أما طريق العامة فهذا الذي أنتم عليه، وأما طريق الخاصة فباسم الله! " وتقدم إلي البحر ومشي حيالنا علي الماء، فلم نزل نراه حتي غاب عنا " .
ونظر الكتاني إلي شيخ أبيض الرأس واللحية يسأل، فقال: " هذا رجل أضاع حق الله في صغره فضيعه الله في كبره " .
وكان كثيراً ما ينشد:
الشوق والوجد في مكاني ... قد منعاني من القرار
هما في لا يفارقاني ... فذا شعاري وذا دثاري
وخيم في الطواف اثنتي عشرة ألف ختمة.
وقال: " لو لا أن ذكره فرض علي ما ذكرته إجلالا له، مثلي يذكره ولم يغسل فاه بألف توبة متقبلة عن ذكره؟! " .
وأنشد:
ما إن ذكرتك إلا هم يغلبني ... قلبي وسري وروحي عند ذكراكا
حتي كأن رقيباً منك يهتف بي: ... إياك! ويحك والتذكار! إياكا!
ومن أصحابه أيضاً محمد بن موسى الواسطي - نسبة إلي واسط العراق بلدة مشهورة - أبو بكر الخراساني، من فرغانة. وصحب أيضاً النوري وكان عالماً كبير القدر.
مات بمرو بعد العشرين وثلثمائة.
ومن كلامه: " الخوف والرجاء زمامان يمنعان من سوء الأدب " .
وانقطع شسع نعله في غدوة إلي الجمعة، فأصلح له، فقال: " إنما انقطع لأني لم أغتسل للجمعة! " . واغتسل بعد ذلك.
ومن أصحابه أبو الحسين علي بن هند القرشي الفارسي، من كبار مشايخ الفرس وعلمائهم.
وصحب أيضاً جعفر الحذاء، وعمراً المكي. له الأحوال العالية، والمقامات الزكية.
ومن كلامه: " اجتهد ألا تفارق باب سيدك بحال، فإنه ملجأ الكل، فمن فارقه لا يري لقدمه قراراً ولا مقاماً " .
وانشد:
كنت من كربتي أفر إليهم ... فهم كربتي! فأين المفر؟!
ومن أصحابه أبو بكر أحمد بن محمد بن أبي سعدان البغدادي، وصحب النوري أيضاً. شافعي المذهب، إمام في المعارف.
ومن كلامه: الصابر علي رجائه لا يقنط من فضله " .
ومن أستاذيه محمد بن ابرهيم البغدادي البزاز أبو حمزة، من أولاد عيسى بن أبان. وجالس بشر بن الحارث، وسافر مع أبي تراب، وصحب سرياً. وكان عالماً بالقراءات، فقيهاً زاهداً واعظاً.
وهو أول من تكلم ببغداد في المحبة والشوق، والقرب والأنس، على رءوس الناس. وهو أستاذ جميع البغاددة؛ وكان الإمام أحمد يقول له في المسائل: " ما تقول فيها يا صوفي؟! " .
مات سنة تسع وثمانين ومائتين.
وكان يتكلم في مجلسه يوم الجمعة، فتغير عليه الحال، وسقط عن كرسيه، ومات في الجمعة الثانية، ودفن بباب الكوفة.
ومن كلامه: من رزق ثلاثة أشياء مع ثلاثة أشياء فقد نجا من الآفات: بطن خال مع قلب قانع، وفقر دائم مع زهد حاضر؛ وصبر كامل مع ذكر دائم " .
وقال: " علامة الصوفي الصادق أن يفتقر بعد الغني ويذل بعد العزة، وينحط بعد الشهرة. وعلامة الصوفي الكاذب أن يستغني بعد الفقر، ويعز بعد الذل، ويشتهر بعد الخفاء " .
وروى أنه ولد له مولود في ليلة ممطرة، وما كان في منزله شئ، وأشتد المطر، وكانت داره علي الطريق، وأخذ السيل يدخل داره، وكان في الدار صبي يخدمه، فقام هو والصبي، وأخذ جرتين، فكانوا ينقلون الماء إلي الطريق حتى أصبحوا. فلما أصبحوا تحيلت المرأة في دراهم، وقالت له: " أشتر لنا بها شيئاً " ، فخرج فإذا بجارية صغيرة تبكي، فقال: " ما بكاؤك؟ " قالت: " لي مولي شرير، وقد دفع إلي قارورة اشتري له فيها زيتاً، فوقعت وهلك الزيت، وأخاف أن يضربني! " ، فأشتري لها بما معه ذلك، ومشي معها إلي مولاها، وشفع فيها ألا يضربها بتأخيرها عنه، ثم رجع إلي المسجد، فقال له الصبي: " ما العمل؟! " فقال: " اسكت! " فقعد إلى العصر، ثم قال الصبي: " قم بنا نعود إلى المنزل! " فجاءوا والزقاق كله حمالون، معهم ما يحتاج أليه لمثل هذا، وخمسمائة درهم، ورجل معه رقعة فيها مكتوب: " أخبرنا انك البارحة ولد لك مولود فتفضل بقبول ذلك " فقال الصبي: " إذا عاملت فعامل من هذه معاملته! " .
وروى أنه كان له مهراً قد رباه، وكان يحب الغزو، فيخرج عليه متوكلا، فقيل له: " ما تعمل في أمر الدابة؟ " ، قال: " كان إذا رحل العسكر تبقي تلك الفضلات من الدواب ومن الناس، يدور فيأكل " .
وقيل له: " هل يفرغ المحب الى شئ سوى محبوبه؟ " فقال: " لا! لأنه بلاء دائم وسرور منقطع، وأوجاع متصلة؛ لا يعرفها إلا من باشرها " . وأنشد:
يقاسي المقاسي شجوه دون غيره ... وكل بلاء عند لاقيه أوجع
وقال الجنيد: " وافي أبو حمزة من مكة، وعليه وعناء السفر، فسلمت عليه وشهيته، فقال: " سكباج وعصيدة تخليني بهما " ؛ فيأتيهما له، وأدخلته الدار، وأسبلت الستر، فدخل واكله أجمع؛ فلما فرغ قال: " يا أبا القاسم! لا تعجب! فهذا - من مكة - الأكلة الثالثة " .
وأما حكاية وقوعه في البئر، وإخراج السبع له فمشهورة. وهتف به هاتف: " يا أبا حمزة! نجيناك من التلف بالتلف! " فقال:
أهابك أن أبدي إليك الذي أخفي ... وسري يبدي ما بقول له طرفي
نهاني حيائي منك أن أكتم الهوى ... فأغنيتني بالفهم منك عن الكشف
تلطفت في أمري وأبديت شاهدي ... إلى غائبي واللطف يدرك باللطف
تراءيت لي بالغيب حتي كأنما ... تبشرني بالغيب إنك في الكف
أراك وبي من هيبتي لك حشمة ... فتؤنسني باللطف منك وبالعطف
وتحيي محباً أنت في الحب حتفه ... وذا عجب كون الحياة مع الحتف
وقال الخطيب - فيما ذكر أبو نعيم - : " إنه أبو حمزة هذا " وقال غيره: " إنه أبو حمزة الخراساني " .
وأبو حمزة الخراساني أحد المشايخ، أصله من نيسابور، صحب مشايخ بغداد، وهو من أقران الجنيد صحبه أيضاً وغيره، وكان ورعاً ديناً.
ومن كلامه: " من استشعر ذكر الموت حبب إليه كل باق وبغض إليه كل فان " .
وسئل عن الإخلاص، فقال: " الخالص من الأعمال ما لا يجب أن يجده عليه إلا الله تعالى " .
وقال له رجل: " أوصي! " . فقال: " هيء زادك للسفر الذي بين يديك، فكأني بك وأنت في جملة الراحلين عن منزلك؛ وهيء لنفسك منزلا إذا نزل أهل الصفة منازلهم، لئلا تبقى متحسراً " .
وخرج مرة يشيع بعض الغزاة، فسمع قائلا يقول:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول
فسقط مغشياً عليه.
ومات سنة تسعين ومائتين.
ومن أصحابه محمد بن ابرهيم الزجاجي، أبو عمرو النيسابوري. صحب أيضاً النوري وأبا عثمان، ورويما، والخواص.
وأقام بمكة، وصار شيخها، والمشار أليه فيها. حج قريباً من ستين حجة. قيل: إنه لم يبل ولم يتغوط في الحرم أربعين سنة، وهو بها مقيم.
مات سنة ست وأربعين وثلثمائة.
وروي أنه كان يجتمع بمكة الكتاني والنهرجوري والمرتعش وغيرهم. فكانوا يعقدون حلقة وصدرها للزجاجي، وإذا تكلموا في شيء رجع جميعهم إلى قوله.
وكان أول ما دخل مكة يطوف كل يوم سبعين مرة، ويعتمر عمرتين.
ومن كلامه: " المحبة ترك الشكوى من البلوى، بل استلذاذ البلوى، إذا الكل منه، فمن أسخطه وارد من محبوبه تبين عليه نقصان محبته " .
وقيل له: " كيف الطريق إلي الله؟ " فقال للسائل: " أبشر! أزعجك لطلب دليل يدلك عليه " .
وسئل عن حديث: )تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة( فقال: " ذاك التفكير هو نسيان النفس " .
ومن أقران الجنيد علي بن سهل الأصبهاني أبو الحسن. لقي أبا تراب وطبقته، وقصده عمرو بن عثمان المكي في دين كان عليه بمكة، ومبلغه ثلاثون ألف درهم، فكتب بديونه سفانج إلى مكة، ولم يعلمه بذلك.
ومن كلامه: " المبادرة إلى الطاعات من علامة التوفيق، والتقاعد عن المخالفات من علامة حسن الرعاية، ومراعاة الأسرار من علامة التيقظ، وإظهار الدعاوى من رعونات البشرية، ومن لم تصح مبادئ إرادته لا يسلم في منتهى عواقبه " .
وقال: " من فقه قلبه أورثه ذلك الإعراض عن الدنيا وأبنائها، فان من جهل القلب متابعة سرور لا يدوم " .
وأنشد لنفسه:
ليتني مت فاسترحت، فإني ... كلما قلت: قدقربت! بعدت
وسئل عن حقيقة التوحيد، فقال: " قريب من الظنون، بعيد من الحقائق " . وأنشد لبعضهم:
فقلت لأصحابي:هي الشمس ضوؤها ... قريب، ولكن في تناولها بعد
أما أبو الحسن علي بن سهل الصائغ الدينوري، أحد السادات، فأقام بمصر، ومات سنة ثلاثين وثلثمائة.
قيل له: " بماذا يبتلي المحب؟ وبماذا يروح فؤاده عند هيجانه؟ " فأنشأ يقول:
لو شربت السلو ما سليت ... ما بي غني عنك وإن غنيت
وأما خاله وأستاذه سري، فهو أبو الحسن سري بن المغلس السقطي، أحد الأوتاد. كان أوحد زمانه في الورع وعلوم التوحيد، ملازماً بيته لا يخرج منه ولا يراه إلا من يقصده. وكان تلميذ معروف الكرخي.
قيل: كان يوماً في دكانه، فجاء معروف ومعه صبي يتيم، فقال لي: " اكسه! " . قال سري: فكسوته، ففرح به معروف، فقال: بغض الله إليك الدنيا، وأراحك مما أنت فيه! " . قال: " فقمت من الدكان وليس شئ أبغض إلي من الدنيا وما فيها، وكل ما أنا فيه من بركاته " .
مات سنة ثلاث وخمسين ومائتين، علي الأصح. ودفن بالشونيزية.
ومن كلامه: " ثلاث من كن فيه استكمل الإمان: من إذا غضب لم يخرجه غضبه من الحق، وإذا رضي لم يخرجه رضاه إلي الباطل؛ وإذا قدر لم يتناول ما ليس له " .
وقال: " الشكر ثلاثة أوجه: للسان، وللبدن، وللقلب. فالثالث أن يعلم أن النعم كلها من الله، والثاني ألا يستعمل جوارحه إلا في طاعته بعد أن عافاه الله، والأول دوام الحمد عليه " .
قال الجنيد: " أرسلني خاليي، فأبطأت عليه، فقال لي: " إذا أرسلك من يتكلمون في موارد القلوب في حاجة فلا تبطئ عليهم، فإن قلوبهم لا يتحمل الانتظار " .
ومكث سري عشرين سنة، يطوف بالساحل، يطلب صادقاً، فدخل يوماً إلى مغارة، فإذا زمني قعود وعميان ومجذمين، قال: فقلت: " ما تصنعون ها هنا؟! " قالوا: " ننتظر شخصاً يخرج علينا فنعافى! " . فقلت: " إن كان صادقاً فاليوم! " . فقعدت فخرج كهل معليه مدرعة من شعر، فسلم وجلس، ثم أمر يده علي عمي هذا فأبصر، وأمر يده علي زمانة هذا فصح، وأمر يده علي جذام هذا فبرئ. ثم قام مولياً، فضربت بيدي اليه، فقال لي: سري؟!. خل عني، فانه غيور. لا يطلع علي سرك فيراك وقد سكنت إلي غيره، فتسقط من عينه " .
وقال الجنيد: " ما رأيت أعبد من خالي!. أني عليه ثمان وسبعون سنة ما رؤى مضطجعاً إلا في علة الموت " .
قال: وسمعته يقول: " أشتهي أن أموت ببلد غير بغداد! " فقيل له: " ولم؟! " . قال: " أخاف ألا يقبلني قبري فأفتضح " .
قال: وسمعته يقول: " من أراد أن يسلم دينه، ويستريح قلبه وبدنه، ويقل غمه، فليعتزل الناس، لأن هذا زمان عزلة ووحدة " .
قال: وكان يقول: " لولا الجمعة والجماعة لسددت علي نفسي الباب ولم أخرج " .
قلت: " كيف في زمننا هذا - في القرن الثامن - وما أهله إلا كما قيل:
لم يبق في الناس موثوق بصحبته ... ولا أمر لك مرضي إذا اختبرا
ولا أخ لك تدعوه لنائبة ... ولا لسر إذا استودعته سرا
ما إن تري غير ذي الوجهين قد طويت ... منه الضلوع علي غير الذي ظهرا
يلقاك يظهر وداً زائداً فإذا ... ما غبت عاد عدواً مبغضاً اشرا
له لسانان في فيه يديرهما ... يهدي لمن يشاء شهداً منه أو صبرا
مواصل لك ما دامت تواصله ... منك الأيادي وإن أمسكتها هجرا
وإن بدت منك يوماً زلة خطأ ... عن غير عمد تراه حية ذكرا
يسعي إلى كل من يلقاه عنك بما ... يراه، مفترياً ما لا يكون يري
فكن علي حذر من مثلهم أبداً ... فالمرء من كان من أمثالهم حذرا
وقال الجنيد: دفع السري إلي رقعة، وقال: " هذا خير لك من سبعمائة فضة! " . فإذا فيها:
ولما ادعيت الحب، قالت: كذبتني ... ألست أرى الأعضاء منك كواسيا؟!
فما الحب حتى يلصق القلب بالحشا ... وتذبل حتي لا تجيب المناديا
وتنحل حتى لا يبق لك الهوى ... سوي مقلة تبكي بها وتناجيا
وروي أنه أنشد يوماً:
لا في النهار ولا في الليل لي فرح ... فلا أبالي أطال الليل أو قصرا
لأني طول ليلي هائم دنف ... وبالنهار أقاسي الهم والفكرا
وقال الجنيد، قال لي خالي: " اعتللت بطرطوس علة القيام، فعادني ناس من القراء، فأطالوا الجلوس، فقلت: " ابسطوا أيديكم حتى ندعو! " فقلت: " اللهم علمنا كيف نعود المرضى! " قال: فعلموا أنهم قد أطالوا فقاموا " .
وقال علي بن عبد الحميد الغضائري: " دققت علي سري بابه فسمعته يقول: " اللهم من شغلني عنك فاشغله بك عني! " فكان من بركة دعائه أني حججت من حلب ماشياً أربعين حجة " .
وقال الجنيد: " دخلت عليه، وهو في النزع، فجلست عند رأسه، ووضعت خدي علي خده، فدمعت عيناي، فوقع دمعي علي خده، ففتح عينيه، وقال لي: " من أنت؟ " قلت: " خادمك الجنيد! " فقال: " مرحباً " . فقلت: " أوصني بوصية أنتفع بها بعدك! " قال: " إياك ومصاحبة الأشرار، وأن تنقطع عن الله بصحبة الأخيار " .
ولما حضرته الوفاة، قلت له: " يا سيدي! لا يرون بعدك مثلك! " قال: " ولا أخلف عليهم - بعدي - مثلك " .
قال أبو عبيد بن حربوية: " حضرت جنازته، فلما كان في بعض الليالي رأيته في النوم، قلت: " ما فعل الله بك؟ " قال: " غفر لي ولمن حضر جنازتي وصلي علي! " . فقلت: " فأني ممن حضر جنازتك وصلي عليك! " قال: " فاخرج درجاً فنظر فيه، فلم ير لي اسماً، فقلت: بلي! حضرت، فنظر فاذا اسمي في الحاشية " .
وولد سري، ابرهيم أبو اسحاق، زاهد تقي، وله أحوال في المعاملات سنية، قريب في السيرة من أبيه.
حكي عن أبيه. روي عنه أبو العباس السراج، قال: سمعته يقول، سمعت أبي يقول: " عجيب لمن غدا وراح، في طلب الأرباح، وهو مثل نفسه لا يربح أبداً " .
ومن أصحاب سري، إبرهيم النصراباذي، وأحمد النوري، وقد سلفاً. وكذا أحمد بن مسروق.
ومن أصحابه سمنون - بضم السين علي المشهور - ابن حمزة أبو الحسن. أصله من البصرة، سكن بغداد.
وصحب - مع السري - أبا أحمد القلانسي وغيرهما. ومات قبل الجنيد، فيما قيل. وقال ابن الجوزي: " بعده سنة ثمان وتسعين ومائتين " . وهذا غلط، فان وفاة الجنيد في هذه السنة، أو سنة تسع، كما سلف.
ومن كلامه: إذا بسط الجليل غداً بساط المجد دخل ذنوب الأولين والآخرين في حاشية من حواشي كرمه. وإذا أبدي عيناً من عيون الجود ألحق المسئ بالمحسن " .
وقال: " لا يعبر عن شئ إلا بما هو أدق منه، ولا شئ أدق من المحبة، فبم يعبر عنها؟! " .
وأنشد:
أنت الحبيب الذي لا شك في خلدي ... منه، فان فقدتك النفس لم تعش
يا معطشي بوصال كنت واهبه ... هل فيك لي راحة إن صحت:واعطشي
وجاءه رجل فقال: " لي أربعون شاة، كم أخرج عنها؟ " قال: " علي مذهبي: الكل؛ وعلي مذهب القوم: واحدة " .
وكان ورده كل يوم وليلة خمسمائة ركعة.
قيل أنه أنشد:
وليس لي في سواك حظ ... فكيفما شئت فاختبرني
إن كان يرجو سواك قلبي ... لا نلت سؤلي، ولا التمني!
فأخذه الأسر من ساعته، فكان يدور علي المكاتب، ويقول للصبيان: " ادعوا لعمكم الكذاب! " .
وقيل: إنه شاع عنه الدعاء بذلك، ولم يكن وقع منه، فعلم أن القصد منه إظهار الجزع، تأدباً بالعبودية، وستراً لحاله، فأخذ يفعل ذلك.
وروي أنه لما أخذه السر، احتبس بوله أربعة عشر يوماً، فكان يلتوي كما تلتوي الحية علي الرمل، يميناً يتقلب وشمالا؛ أطلق بوله قال: " يا رب! قد تبت إليك! " .
وأنشد:
أنا راض بطول صدك عني ... ليس إلا لأن ذاك هواكا
فامتحن بالجفاء ضميري ... علي الود، ودعني معلقاً برجاكا
وقيل إنه كان جالساً علي شاطئ دجلة، وبيده قضيب يضرب به فخذه، ويقول:
كان لي قلب أعيش به ... ضاع مني في قلبه
رب! فاردده علي فقد ... عيا صبري في تطلبه
وأغث، ما دام في رمق ... يا غياث المستغيث به!
وقال: " كنت ببيت المقدس، وكان البرد شديداً، وعلي جبة كساء، وأنا أجد البرد، والثلج يسقط، وإذا بشاب مار في الصحن، وعليه خلقان، فقلت: " يا حبيبي! لو استترت ببعض هذه الأردية، فتكنك من البرد! " فقال: " يا أخي سمنون:
وحسن ظني فيه أنني في فنائه ... وهل أحد في كنه يجد القرا؟!
ولكن من أعري من الحب قلبه ... وأفرد من أحبابه تجد الحرا
وسئل عن الفقير الصادق، فقال: " الذي يأنس بالعدم كما يأنس بالغني، ويستوحش من الغني كما يستوحش الجاهل من الفقر " .
وانشد:
وكان فؤادي خالياً قبل حبكم ... وكان بذكر الخلق يلهو ويمرح
فلما دعا قلبي هواك أجابه ... فلست أراه عن فنائك يبرح
رميت بببن منك إن كنت كاذباً ... وإن كنت في الدنيا بغيرك أفرح
وإن كان شئ في البلاد بأسرها ... إذا غبت عن عيني، لعيني يملح
فإن شئت واصلني وإن شئت لا تصل ... فلست أري قلبي لغيرك يصلح
وسئل عن قوله تعالى: )ومكروا مكراً ومكرنا مكراً(: " هل ينسب المكر إلي الله؟ " فأنشد:
وقبح من سوك الفعل عندي ... وتفعله فيحسن منك ذاكا
فمهما كان من خير وجود ... فما يرجي له أحد سواكا
وله أيضاً:
يعاتبني فينبسط انقباضي ... وتسكن روعتي عند العتاب
جري في الهوى مذ كنت طفلا ... فمإلي قد كبرت عن التصابي
وله أيضاً: أحن بأطراف النهار صبابة ... وفي الليل يدعوني الهوى فأجيب
وأيامنا تفني، وشوقي زائد ... كأن زمان الشوق ليس يغيب
وله أيضاً:
بكيت ودمع الشوق للنفس راحة ... ولكن دمع العين يبكي به القلب
وذكري بما ألقاه ليس بنافع ... ولكنه شئ يهيج به الكرب
ولو قيل لي: ما أنت؟ قلت: معذب ... بنار مواجيد يضرمها الغيب
بليت بمن لا أطيق عذابه ... ويعتبني حتى يقال له الذنب
ومن أصحابه أيضاً أبو محمد، جعفر بن محمد بن نصير الخلدي البغدادي؛ وصحب النوري، ورويماً، وسمنون وغيرهم. وحج قريباً من ستشن حجة.
مات سنة ثمان وأربعين وثلثمائة، ودفن عند قبر سري والجنيد. سمي الخلدي لأنه كان يوماً عند الجنيد، فسئل الجنيد عن مسألة، فقال له: " أجبهم! " فأجابهم، فقال: " يا خلدي! من أين لك هذه الأجوبة؟! " فبقي عليه هذا الاسم.
والمسألة التي أجاب فيها، هي أنهم قالوا: " أنطلب الرزق. " فقال الخلدي: " إن علمتم في أي موضع هو فاطلبوه! " فقالوا: " نسأل الله ذلك! " ، فقال: " إن علمتم أنه نسيكم فذكروه! " فقالوا: " ندخل البيت، ونتوكل علي الله؟ " . فقال: " تجربون الله في التوكل؟! فهذا شك! " قالوا: " فكيف الحيلة؟! " قال: " ترك الحيلة " .
ومن كلامه: " لا يجد العبد لذة المعاملة مع لذة النفس؛ لأن أهل الحقائق قطعوا العلائق، التي تقطعهم عن الحق، قبل أن تقطعهم العلائق " .
وقال: " إنما بين العبد وبين الوجود أن تسكن التقوى قلبه، فهذا سكن نزلت عليه بركات العلم، وزال عنه رغبة الدنيا " .
وقال: " إني أخاف أن يوقفني المشايخ بين يدي الله، ويقولون: لم أخرجت أسرارنا إلى الناس " .
وروي أنه مر بمقبرة الشونيزية، وامرأة علي قبر تندب؛ وتبكي بكاء بحرقة، فقال لها: " ما لك؟! " فقالت: " ثكلي بولدي! " فأنشأ يقول:
يقولون: ثكلي! ومن لك يذق ... فراق الأحبة لم يثكل
لقد جرعتني ليإلي الفرا ... ق شراباً أمر من الحنظل
كما جرعتني ليالي الوصا ... ل شراباً ألذ من السلسل
وقال: " المحب يجتهد في كتمان محبته، وتأبي المحبة إلا اشتهاراً، وكل شئ ينم علي المحب حتى يظهره " .
وأنشد:
زائر نم عليه حسنه ... كيف يخفي الليل بدراً طلعا؟!
راقب الغفلة حتى أمكنت ... ورعي الحارس حتى هجعا
ركب الأهوال في رؤيته ... ثم ما سلم حتى ودا
وروي أنه كان له فص، فوقع منه يوماً في دجلة، وكان عنده دعاء مجرب للضالة، إذا دعا به عادت. فدعا به، فوجد الفص في وسط أوراق كان يتصفحها.
وصورة الدعاء أن يقول: " يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه! اجمع علي ضالتي! " . وقد روي أنه يقرأ قبله " سورة الضحى ثلاثاً. وهذا الدعاء والنص لهما سبب ذكره الخطيب في " تاريخه " .
قال: " ودعت في بعض حجاتي المزين الكبير الصوفي، فقلت: " زودني شيئاً " فقال: " إن ضاع منك شئ، أو أردت أن يجمع الله بينك وبين إنسان، فقل: " يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد، اجمع بيني وبين كذا وكذا. فان الله يجمعه " .
قال: " فجئت إلي الكتاني الكبير، فودعته، فقلت: " زودني شيئاً " فأعطاني فصاً عليه نقش كأنه طلسم، وقال: " إن اغتممت فانظر إلي هذا، فانه يزول غمك " قال: " فانصرفت، فما دعوت الله بتلك الدعوة إلا استجيب لي، ولا رأيت الفص، وقد اغتممت إلا زال غمي " ، وهو هذا الفص الذي ذهب منه ثم وجده.
وروي عنه أنه قال: " خرجت سنة من السنين إلي البادية، فبقيت أربعاً وعشرين يوماً لم أطعم بطعام، فلما كان بعد ذلك رأيت كوخاً فيه غلام، فقصدت الكوخ، فرأيت الغلام قائماً يصلي، فقلت في نفسي: " بالعشي يجئ إلي هذا طعام فآكل معه! " فبقيت تلك الليلة، والغد وبعد غد، ثلاثة أيام لم يجءه أحد بطعام، ول رأيت أحداً، فقلت: " هذا شيطان! ليس هذا من الناس! " فتركته وانصرفت. فلما كان بعد عدة أشهر، وأنا جالس في منزلي، لاذا بداق يدق الباب، فقلت: " من؟ ادخل! " فدخل علي ذلك الغلام، وقال: " يا جعفر! أنت كما سميت! " جاع فر " .
ومن أصحاب الخلدي أبو الحسن محمد بن علي العلوي، وسيأتي في حرف الميم إن شاء الله تعالى
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات