أنت غير مسجل في منتديات البوحسن . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           الحَمْدُ لله الذِي عَافَانِي في جَسَدِي ورَدَّ عَلَيَّ رُوحِي، وأَذِنَ لي بِذِكْرهِ           
العودة   منتديات البوحسن > الشريعة الغراء > المواضيع الاسلامية

إضافة رد
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع
قديم 09-23-2014
  #1
عبد القادر الأسود
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبد القادر الأسود
 
تاريخ التسجيل: Feb 2010
المشاركات: 216
معدل تقييم المستوى: 15
عبد القادر الأسود is on a distinguished road
افتراضي فيض العليم ... سورة الأعراف، الآيات: 100 ، 101 ، 102

أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ
(100)
قولُهُ ـ تبارك وتعالى: (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا) عُطِفَتْ هذه الآيةُ الكريمةُ على قولِهِ تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى} الآية: 97. من هذه السورة، لاشتراك مضمون الآيتين في الاستفهام التعجيبي، فانتقل عن التعجيب من حال الذين مضوا إلى التعجيب من حال الأمة الحاضرة، وهي الأمة العربية الذين ورثوا ديار الأمم الماضية فسكنوها: مثل أهل نجران، وأهل اليمن، ومن سكنوا ديار ثمود مثل بلي، وكعب، والضجاغم، وبهراء، ومن سكنوا ديار مدين مثل جهينة، وجرم، وكذلك من صاروا قبائل عظيمة فنالوا السيادة على القبائل: مثل قريش، وطي، وتميم، وهذيل، فالموصول بمنزلة لام التعريف العهدي، وقد يقصد بالذين يرثون الأرض كلُّ أمَّةٍ خلفتْ أمَّةً قبلَها.
وهذه أيضاً آية وعيدٍ، ويَهْدي معناه يُبَيِّنُ، والهُدى الصباح وأنشدوا على ذلك:
حتى اسْتِبَنْتُ الهُدى والبيدُ هاجمةٌ ..... يُسَبِّحْنَ في الآلِ غُلْفاً أوْ يُصَلِّينا
و"يهدي لهم" أي يُبَيِّنُ للذين يَرِثونَ الأرضَ طَريقَ الخَيرِ، ومعنى "يَرِثُونَ الأرض مِن بَعْدِ أَهْلِهَا" أنَّ الأرضَ كانتْ مملوكةً لسواهم، ثمَّ جاءوا هم من بعدِهم. وحينَ يستقرئُ الإِنسانُ الوُجودَ الحَضاريَّ الإنسانيَّ على الأرضِ، يجدُ أنَّ كلَّ حضارةٍ بُنِيَتْ على أنقاضِ حضارةٍ أخرى سبقتها، والذي يأتي على أنقاضِ الغيرِ يُسَمَّى إرْثاً، وما دمتم وَرِثْتم غيرَكم يجبُ أنْ يَظَلَّ في بالكم أنَّ غيرَكمُ سَيَرِثُكم، فالمسألةُ دُوَلٌ بين العبادِ، فعلى الإنسان العاقل أن يتفكَّر ويتدبَّر ويعلمَ أنَّ ما في يده سينتقل يوماً إلى غيره، إذاً فلا تغترَّ بما أنت فيه من نعمة واشكر الله الذي أنعم عليك بها.
ويحتملُ أنْ يَكونَ المُبينَ اللهُ، ويحتملُ أنْ يَكونَ المُبينَ قولُهُ: {أنْ لو نشاءُ} أيْ عِلْمُهم بذلك، وقالَ ابْنُ عبَّاسٍ ومجاهدٌ وابنُ زَيْدٍ ـ رضي اللهُ عنهم: و"يهدي" معناهُ يَتَبَيَّنُ، أَيْ يُبَيِّنُ ويُوَضِّحُ للوارثين مآلَهم وعاقبةَ أَمْرِهم ـ والمقصودُ هم كُبراءُ مَكَّةَ ـ وإصابَتَنا إيَّاهُم بذنُوبِهم لو شِئْنا ذلك، وهم الذِينَ يَسْتَخْلِفُهُمُ اللهُ فِي الأَرْضِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَهْلَكَ آخَرِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، سَارُوا سِيَرَتَهُمْ، وَعَمِلُوا عَمَلَهُمْ، وَعَتَوا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، أَوَ لم يتبيَّنْ لهم أَنْ اللهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ بِهِمْ مَا فَعَلَهُ بِمَنْ قَبْلَهُمْ ، عِقَاباً لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ، وَأَنَّهُ تَعَالَى يَخْتِمُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ وَعْيَ مَوْعِظَةٍ، وَلا فَهْمَ نَصِيحَةٍ.
قولُه: {أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} نطبع: أيْ نختِمُ، ونختم عليها بالشَقاوَةِ، وفي هذه العبارة ذِكْرُ القومِ الذين قُصِدَ ذِكْرُهم وتَعديدُ النِّعمةِ عَليهم فيما "ورثوا" والوعظُ بحالِ مَنْ سَلَفَ مِنَ المُهْلَكين.
قولُه: {فَهُم لاَ يَسْمَعُونَ} أيْ لا يَقْبَلون، كما تقولُ في الصلاة، سَمِعَ اللهُ لمَن حَمِدَهُ، أيْ قَبِلَ اللهُ ممن حَمِدَهُ، وقال الشاعر:
دَعَوْتُ اللهَ حَتَّى خِفْتُ أَلاَّ .................. يَكُونَ اللهُ يَسْمَعُ مَا أَقُولُ
أي يقبل.
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} هذه ألف تقرير دخلت على واو العطف، وفعلٌ مضارعٌ فاعلُه المصدر المؤولُ من "أنْ" وما في حَيِّزها، والمفعولُ محذوفٌ والتقدير: أو لم يَهْدِ أي: يبيِّن ويوضِّح للوارثين مآلهم وعاقبةَ أمرِهم وإصابتنا إياهم بذنوبهم لو شِئْنا ذلك، فقد سَبَكْنا المصدر من "أنْ" ومن جواب "لو". أو أنَّ الفاعلَ هو ضميرُ اللهِ تعالى أي: أوَ لم يبيِّنِ اللهُ، ويؤيدُه قراءةُ مَنْ قرأ "نَهْدِ" بالنون. أو أنَّ الفاعلَ ضميرٌ عائدٌ على ما يُفْهَمُ مِنْ سياق الكلام أي: أوَ لم يَهْدِ ما جَرَى للأممِ السابقةِ كقولهم: "إذا كان غداً فَأْتني" أي: إذا كان ما بيني وبينك مما دلَّ عليه السياق. وعلى هذين الوجهين ف "أنْ" وما في حيِّزها بتأويل مصدر كما تقدَّم في محلِّ المفعول والتقدير: أَوَ لم يُبَيِّن ويوضحِ اللهُ أوْ ما جَرَى للأممِ إصابَتَنا إياهم بذنوبهم لو شئنا ذلك.
وعدَّى فعلَ الهدايةِ باللام "للذين" لأنها بمعنى التبيين. والتعريف في الأرض تعريف الجنس، أي يرثون أي أرض كانت منازل لقوم قبلهم، وهذا إطلاق شائع في كلام العرب. فالأرض بهذا المعنى اسمُ جِنْسٍ صادقٌ على شائعٍ مُتَعَدِّدٍ، فتعريفُه تعريفُ الجِنْسِ، وبهذا الإطلاق جمعت على أرضين، فالمعنى: أو لم يهد للذين يرثون أرضاً من بعد أهلها.
وقولُه: {أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ} "أنْ" مفعولٌ فقط، وهي المخففةُ من الثقيلة، واسمُها ضميرُ الشأنِ، وجملةُ {لَوْ نَشَاءُ} خبرُها, ولما كانت "أن" المفتوحة الهمزة من الحروف التي تفيد المصدريَّةِ على التَحقيق لأنها مركبةٌ مِنْ "إنَّ" المكسورة المشددة، ومن "أن" المفتوحة المخففَّة المصدريَّة، لذلك عُدَّتْ في الموصولات الحرفيَّةِ، وكان ما بعدها مؤولاًّ بمصدرٍ مُنْسَبِكٍ مِنْ لَفظِ خبرِها إنْ كان مُفرداً مُشتَقّاً، أو مِنْ الكونِ إنْ كان خبرُها جملةً. فموقع "أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ" موقعُ فاعلِ "يَهْدِ"، والمعنى: أو لم يبين للذين يخلفون في الأرض بعد أهلها كون الشأن المهم وهو لو نشاء أصبناهم بذنوبهم كما أصبنا من قبلهم. و "لو" فاصلةٌ بينها وبين الفعل، وقد تقدَّم أن الفصلَ بها قليلٌ. و "نشاء" وإن كان مضارِعاً لفظاً فهو ماضٍ معنىً؛ لأنَّ "لو" الامتناعيةَ تخلِّصُ المضارع للمضيّ. وفي كلامِ ابنِ الأنباري خلافُه فإنَّه قال في "ونطبعُ": هذا فعلٌ مستأنَفٌ ومنقطع مما قبله، لأنَّ قولَه: "أَصَبْنا" ماضٍ و "نَطْبع" مستقبل. ثم قال: ويجوزُ أنْ يكونَ معطوفاً على "أَصَبْنا" إذ كان بمعنى نُصيب، والمعنى: لو يَشاءُ يُصيبُهم ويَطْبَعُ، فَوَضَع الماضي موضع المستقبل عند وضوحِ معنى الاستقبالِ كقولِهِ تعالى في سورة الفرقان: {إِن شَاءَ جَعَلَ لَكَ} الآية: 10. أي: يجعل، بدليل قوله بعد ذلك: {ويجعل لَك}. وهذا ظاهرٌ قويٌّ في أنَّ "لو" هذه لا تخلِّصُ المضارعَ للمُضيّ، وتنظيرُه بالآيةِ الأخرى مُقَوٍّ لَهُ أيضاً.
وقال الفراء: وجاز أن تَرُدَّ "يَفْعلُ" على فَعَلَ في جواب "لو" كقوله تعالى في سورة يونس: {وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشرَّ استعجالهم بالخير لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ} الآية: 11.
وقولُه: {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} هذه الجملةُ ليست معطوفة على جملةِ "أَصَبْنَاهُمْ" حتى تكون في حكم جواب "لو" لأنَّ هذا يُفسدُ المعنى، فإنَّ هؤلاءِ الذين ورثوا الأرضَ مِن بعدِ أهلِها فقد طُبِعَ على قلوبهم، ولذلك فلم تُجْدِ فيهم دعوة النبيِّ محمَّدٍ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ منذ بُعِثَ إلى زمن نُزولِ هذِهِ السُورةِ، فلو كان جوابا لـ "لو" لصار الطبعُ على قلوبهم ممتَنِعاً، وهذا فاسد، فتعيَّنَ: إمّا أنْ تكونَ جملةُ "وَنَطْبَعُ" معطوفةً على جملة الاستفهام برُمَّتِها فلَها حُكمًها مِنَ العطف على أَخبارِ الأمَمِ الماضية والحاضرة، والتقدير: وطبعنا على قلوبهم، ولكنَّه صيغَ بصيغة المضارع للدلالة على استمرار هذا الطبع وازدياده آناً فآناً، وإمّا أن تجعل "الواو" للاستئناف والجملة مستأنفة، أي: ونحن نطبعُ على قلوبهم في المستقبل كما طبعنا عليها في الماضي. ويُعرَفُ الطبعُ عليها في الماضي بأخبار أُخرى كقوله تعالى في سورة البقرة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} الآية: 6، فتكون الجملة تذييلاً لإنهاء القصة، ولكن موقع الواو في أول الجملة يرجِّح الوجهَ الأوَّل.
وقولُه: {فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} جملةٌ معطوفة بالفاء على "وَنَطْبَعُ" متفرعاً عليه.
قرأ الجمهور: "يَهْدِ" بالياء مِنْ تحتِ. وقرأَ مجاهدٌ "نَهْدِ" بنونِ العَظَمَةِ.
وقرأ أبو عَمْرٍو: {ونطبعّ على} بإدغامِ العينِ في العين، وإشمامِ الضَمِّ.
تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ
(101)
قولُهُ ـ عَزَّ مِنْ قائلٍ: {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا} أي قرى قومِ نوحٍ وهودَ وصالحٍ ولوطَ وشُعيبٍ، البائدةُ التي تقدَّم ذكرُها واستعمل اسم الإشارة "تلك" للبُعدِ. "نقصَُّعليك من أخبارها" عن غاية غَوايةِ الأممِ المذكورة وتماديهم فيها بعد ما أتتهم الرسلُ بالمعجزات الباهرة، والحجج الظاهرة الواضحة البينة، وهو كقولِهِ في سورة هود: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} الآية: 120. فهذا هو المرادُ من سردِ القِصصِ بالنسبة لرسولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي أَوضحَه الحَقُّ ـ تبارك وتعال ـ في غير موضعٍ من القرآن الكريم، كما هي للعظة والعبرة، ليتعظ من كان له قلب ولبٌّ، قال تعالى في سورة ق: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} الآية: 37.
قولُهُ: {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} فالمرسلون جميعاً ـ عليهمُ السلامُ ـ جاؤوا أقوامهم بالبراهين القاطعة، والحجج الواضحة البيِّنةِ، والمعجزات الباهرة، لكنَّ أقوامهم جميعاً قابلوهم بالجحود والإنكار، وكذَّبوهم وعَذبوهم، فإذا ما لقيت ـ يا رسول الله ـ من أمتك وقومك شيئاً من العناد والإِصرارِ والمكابرة، فاعلم أنك لَسْتَ بِدْعاً مِنَ الرُسُلِ؛ لأنَّ كلَّ رسولٍ قد قوبل بمثل هذا الإِلحاد، من الذين أرسل إليهم. وإذا كان لكلُّ رسول من البلاء بقدر ما في رسالتِهِ من العلوِّ، فلا بدَّ أنْ تُلاقيَ أنتَ من الابتلاءات ما يساوي ابتلاءاتِ الرُسُلِ جميعاً لأنَّ رسالتك هي الخاتمة الجامعة الشاملةُ لكلِّ الرسالات، وأنت الرسولُ الخاتم لجميع المرسلين. ولتَعلم ـ يا محمد ـ أنّنا نَنْصُر رسُلَنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا على أعدائنا وأهلِ الكفر بنا، وليعلمَ مكذبوك من قومِك ما عاقبةُ أمرِ مَنْ كذَّب رُسُلَ اللهِ، فيرتَدِعوا عن تَكذيبِكَ، ويُنيبوا إلى توحيدِ اللهِ وطاعتِه.
قولُهُ: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} أخرج الطبري عن السُدِّيِّ أنَّ قالَ: ذلك يومَ أَخذَ مِنْهُمُ الميثاق فآمَنُوا كرْهًا. وعليه فالمعنى: فما كان هؤلاء المشركون الذين أهلكناهم من أهل القرى ليؤمنوا عند إرسالنا إليهم بما كذبوا من قبل ذلك، وذلك يوم أخذِ ميثاقهم حين أخرجهم من ظهر آدم ـ عليه السلام.
وأخرج أيضاً عن الربيع بن أنس قال، يحقُّ على العباد أن يأخذوا من العلم ما أبدى لهم ربهم والأنبياء، ويَدَعوا علمَ ما أخفى الله عليهم، فإنَّ علمه نافذٌ فيما كان وفيما يكون، وفي ذلك قال: "ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين"، قال: نَفَذَ عِلمُه فيهم، أيُّهم المطيعُ مِنَ العاصي حيثُ خلقهم في زمان آدم. وتصديقُ ذلك حيث قال لنوح: {اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ}، سورة هود، الآية: 48، وقال في ذلك: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}، سورة الأنعام، الآية: 28، وفي ذلك قال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} سورة الإسراء، الآية: 15، وفي ذلك قال: {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} سورة النساء، الآية: 165، ولا حُجَّةَ لأحدٍ على الله تعالى.
وقال آخرون: معنى ذلك: "فما كانوا" لو أحييناهم بعد هلاكهم ومعاينتهم ما عاينوا من عذاب الله، "ليؤمنوا بما كذبوا من قبل" هلاكهم، كما قال جل ثناؤه: {ولو رُدّوا لعادوا لما نهوا عنه}.
فقد روى الطبريُّ بسنده عن مجاهد، في قول الله: "بما كذبوا من قبل"، قال: كقوله: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ}.
وقد كان سبق في علم الله تبارك وتعالى لمن هلك من الأمم التي قص نبأهم في هذه السورة، أنه لا يؤمن أبدًا، فأخبر جل ثناؤه عنهم، أنهم لم يكونوا ليؤمنوا بما هم به مكذبون في سابق علمه، قبل مجيء الرسل وعند مجيئهم إليهم.
ولو قيل: تأويله: فما كان هؤلاء الذين وَرِثوا الأرض، يا محمد، من مشركي قومك من بعد أهلها، الذين كانوا بها من عاد وثمود، ليؤمنوا بما كذب به الذين ورثوها عنهم من توحيد الله ووعده ووعيده كان وجهًا ومذهبًا.
قولُهُ: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} تقدم أنَّ الطبعَ هو الختمُ، فقد ختم الله على قلوب الكافرين لأنها ملئت كفراً وإلحاداً ولم يبق فيها متَّسع لشيءٍ غير ذلك. فكما طبع الله على قلوب هؤلاء الذين كفروا بربهم وعصوا رسله من هذه الأمم التي قصصنا عليك نبأهم، يا محمد، في هذه السورة، حتى جاءهم بأسُ الله فهلكوا به "كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين" ، الذين كتب عليهم أنهم لا يؤمنون أبدًا من قومك.
قوله تعالى: {تِلْكَ القرى نَقُصُّ عليك من أنبائها} تلك: مبتدأٌ، مشارٌ بها إلى ما بعده، و"القرى" خبره، و جملةُ "نقصُّ" حالٌ، أي قاصّين، وهو كقوله في سور النمل: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} الآية: 52. والحالُ هنا لازمةٌ ليفيدَ التركيب، كما تلزم الصفة في قولك: (هو الرجل الكريم) ألا ترى أنك لو اقتصرت على (هو الرجل) لم يكن مفيداً، ويجوزُ أن تكون "القرى" صفةً لتلك، و "نقصُّ" هو الخبر، ويجوز أن يكون "نَقُصُّ" خبراً بعد خبرٍ. ويجوز أن يكون "نقصُّ" على حاله من الاستقبال أي: قد قَصَصْنا عليك من أنبائها ونحن نقصُّ عليك أيضاً بعضَ أنبائها، وأُشير بالبعد تنبيهاً على بُعد هَلاكِها وتقادُمِه عن زمن الإِخبار فهو من الغيب. وفي قوله "القرى" ب "أل" تعظيمٌ وهو كقوله تعالى: {ذلك الكتابُ}، وكقول الرسول ـ عليه الصلاةُ والسلام: ((أولئك الملأُ من قريش)) وكقول أُميَّة بن الصلت:
تلك المكارمُ لا قَعْبانِ من لبنٍ ............... شِيبا بماءٍ فعادا بعدُ أبوالا
و "مِنْ" للتبعيض كما تقدَّم، لأنَّه إنما قَصَّ على رسوله ـ عليه الصلاةُ والسلام ـ ما فيه عِظَةٌ وانزجارٌ دونَ غيرهما.
قوله: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ} ما: موصولةٌ اسميةٌ، وعائدُها محذوفٌ لأنه منصوب متصل، أي: بما كذَّبوه. ولا يجوز أن يُقَدَّر "به" وإن كان الموصولُ مجروراً بالباء أيضاً لاختلاف المتعلَّق. وهي نافية واللامُ في "ليؤمنوا" للجحودِ، ونفيُ الفعلِ معها أبلغ.
وقال هنا: {بِمَا كَذَّبُواْ} فلم يذكر متعلق التكذيب، وفي يونس ذكره فقال: {بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ} سورة يونس، الآية: 74، والفرق أنه لمَّا حذفه في قوله: {ولكن كَذَّبُواْ} سورة الأعراف، الآية: 96. استمرَّ حَذْفُه بعد ذلك، وأمَّا في يونس فقد أبرزه في قوله: {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ} سورة يونس، الآية: 74. وقوله: {كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} سورة يونس، الآية: 73. فناسب ذكرَه موافقةٌ. والظاهرُ أنَّ الضمائرَ كلَّها عائدةٌ على أهل القرى، وقيل إنَّ الضميرين الأوَّلَيْن لأهل القرى، والضمير في "كذَّبوا" لأسلافهم. أي: فما كان الأبناءُ ليؤمنوا بما كذَّب به الآباء.
وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ
( 102 )
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} قال ابنُ عبّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما: وذلك أنَّ اللهَ إنما أَهْلَكَ القُرى لأنهم لم يَكونوا حَفِظوا ما أَوْصاهم بِهِ. وقال الحسن ـ رضي اللهُ عنه: العهد: الوفاء. وقال مجاهد: العهد: الذي أخذ من بني آدم في ظهر آدم لم يفوا به. وقال أُبيُّ بنُ كعبٍ: الميثاق الذي أخذه في ظهر آدم. وأخرج ابن المنذر أيضاً عنه قولَه: "وما وجدنا لأكثرهم من عهد" قال: عَلِمَ اللهُ- يومئذٍ مَنْ يَفي ممن لا يَفي فقال: "وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين". وقال أبو العالية: هو ذاكَ العَهْدُ يومَ أُخِذَ الميثاق. أمَّا قَتادةُ ـ رضي اللهُ فقال: "وما وجدنا لأكثرهم من عهد" قال: لمّا ابْتَلاهم بالشِدَّةِ والجهدِ والبَلاءِ ثمَّ أَتاهم بالرَّخاءِ والعافيةِ، ذَمَّ اللهُ أكثَرهم عند ذلك فقال: "وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين". والمعنى لَمْ يَثْبُتَ أَكْثَرُ هؤُلاَءِ الأَقْوَامِ عَلَى عَهْدِ الفِطْرَةِ، الذِي أَخَذَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى النَّاسِ، وَهُمْ فِي أَصْلابِ آبَائِهِمْ، بِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ رَبُّهُمْ وَخَالِقُهُمْ، وَأَنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَيَعْبُدُوهُ، فَخَالَفُوا هَذا العَهْدَ، وَتَرَكُوهُ وَرَاءَهُمْ ظِهْرِيّاً، وَعَبَدُوا مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى بِلاَ دَليلٍ وَلاَ حُجَّةٍ، وَلا بُرْهَانٍ، فَكَانُوا مِنَ الفَاسِقِينَ الخَارِجِينَ عَنْ طَاعَةِ اللهِ، وَعَنْ عَهْدِ الفِطْرَةِ.
قوله تعالى: {لأَكْثَرِهِم}: الظاهرُ أنه متعلِّقٌ بالوِجْدان كقولك: ما وَجَدْت له مالاً أي: ما صادَفْتُ له مالاً ولا لَقِيْتُه. الثاني: أن يكون حالاً من "عهد" لأنه في الأصل صفةُ نكرةٍ فلمَّا قُدِّم عليها نُصِب على الحال، والأصل: وما وَجَدْنا عهداً لأكثرهم، وهذا ما لم يذكر أبو البقاء غيره. وعلى هذين الوجهين ف "وجد" متعدية لواحد وهو "مِنْ عهد"، و "مِنْ" مزيدة فيه لوجودِ الشرطين. الثالث: أنه في محل نصب مفعولاً ثانياً لوجد إذ هي بمعنى عِلْمية، والمفعول هو "من عهد". وقد يترجَّح هذا بأن "وَجَد" الثانيةَ عِلْمية لا وِجْدانية بمعنى الإِصابة، وسيأتي دليل ذلك. فإذا تقرَّر هذا فينبغي أن تكونَ الأولى كذلك مطابقةً للكلام ومناسبة له. ومَنْ يرجِّح الأولَ يقول: إنَّ الأولى لمعنى، والثانية لمعنى آخر.
قوله: {وَإِن وَجَدْنَا} إنْ: هذه هي المخففة، وليست هنا عاملةٌ لمباشرتها الفعلَ فزال اختصاصُها المقتضي لإِعمالها. وقال الزمخشري: "وإنَّ الشأنَ والحديثَ وَجَدْنا" فظاهرُ هذه العبارة أنها مُعْمَلة، وأنَّ اسمَها ضميرُ الأمر والشأن. وقد صَرَّح أبو البقاء هنا بأنها معملةٌ وأن اسمَها محذوفٌ، إلا أنه لم يقدِّره ضميرَ الحديث بل غيرَه. فقال: واسمُها محذوفٌ. أي: إنَّا وجدنا، وهذا مذهب النحويين أعني اعتقادَ إعمالِ المخففِ من هذه الحروفِ في "أنْ" المفتوحة على الصحيح وفي "كأنْ" التشبيهية، وأما "إنْ" المخففةُ المكسورةُ فلا. وقد تقدَّم ذلك بأوضح من هذا. و"وجدنا" وَجَدَ هنا متعديةٌ لاثنين أوَّلهما "أكثرهم"، والثاني "لَفاسقين". قال الزمخشري: والوجودُ بمعنى العِلْمِ مِنْ قولِكَ: وَجَدْتُ زيداً ذا الحفاظ بدليل دخول "إنْ" المخففة، واللامُ الفارقة، ولا يَسُوغ ذلك إلا في المبتدأ والخبر والأفعالِ الداخلةِ عليهما. يعني أنها مختصةٌ بالابتداء أو بالأفعالِ الناسخة له، وهذا مذهب الجمهور، وقد تقدَّم لك خلافٌ عن الأخفش: أنه يُجَوِّز على غيرها وقَدَّمْتُ دليله على ذلك. واللام فارقةٌ. وقيل: هي عوضٌ من التشديد. قال مكي: ولَزِمَتِ اللامُ في خبرها عوضاً من التشديد. والمحذوفُ الأول. وتقدَّم الكلامُ أيضاً أن بعض الكوفيين يجعلون "إنْ" نافيةً، واللامَ بمعنى "إلا" في قوله تعالى: {وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً} سورة البقرة، الآية: 143.
__________________
أنا روحٌ تضمّ الكونَ حبّاً
وتُطلقه فيزدهر الوجودُ
عبد القادر الأسود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
فيض العليم ... سورة الأعراف، الآية: 121 عبد القادر الأسود المواضيع الاسلامية 0 10-07-2014 02:19 PM
فيض العليم ... سورة الأعراف، الآية: 120 عبد القادر الأسود المواضيع الاسلامية 0 10-07-2014 02:12 PM
فيض العليم ... سورة الأعراف، الآية: 116 عبد القادر الأسود المواضيع الاسلامية 0 10-01-2014 01:32 PM
فيض العليم ... سورة الأعراف، الآية: 115 عبد القادر الأسود المواضيع الاسلامية 0 10-01-2014 09:16 AM
فيض العليم ... سورة الأعراف، الآية: 114 عبد القادر الأسود المواضيع الاسلامية 0 09-30-2014 09:50 PM


الساعة الآن 08:06 PM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir