طرق الحفظ لدى الشناقطة :
ولهم في الحفظ وسائل وطرق أجملها فيما يلي :
أولاً : التعليم الزّمَرِيّ أو ما يسمى بلغة المحاظر (الدولة) وهو دراسة جماعية
يشترك فيها مجموعة من الطلبة متقاربي المستويات يقع اختيارهم على متن واحد
يدرسونه معاً ، حصةً حصةً ، يتعاونون على تكراره واستظهار معانيه
[15] ،
يتحاجون فيه ، ويُنَشّط بعضهم بعضاً على المواصلة والاستمرار ومدافعة السآمة
والملل . أذكر وأنا في المرحلة (المتوسطة الإعدادية) أنني أدركت مجموعة من
طلاب العلم الشناقطة ( دولة ) في المسجد النبوي في شعر المعلقات .
ثانياً : تقسيم المتن إلى أجزاء وهو ما يعرف بلغة المحاظر (الأقفاف) مفردها:
قُفّ . والمشهور في المحاظر أن متوسط درس أو قف المتن المنظوم خمسة أبيات
لا يزيد عليها إلا المبرزون الأذكياء . وأما المتون المنثورة فيتعارف أهل المحاظر
على تقسيم شائع بينهم ، فمثلاً مختصر العلامة الشيخ خليل عندهم ثلاثمائة
وستون
[16] قفاً ، ولا تخفى فائدة هذا التقسيم للمتن المراد حفظه ، فيعرف الطالب
مواضع الصعوبة من السهولة فيحتاط في المراجعة والتكرار ، كما أن تخزين
المادة في الذاكرة مرتبة منتظمة أيسر في استظهارها واسترجاعها .
ويرى الشناقطة وهم مضرب المثل في قوة الحافظة والذكاء أن (القف) الكثير
لا يستطيع استيعابه مع الاحتفاظ به في الذاكرة إلا قلة من الحفاظ ولذلك عمدوا إلى
تجزئة كل متن .
وسارت عندهم هذه العبارات مسار المثل : (قفْ أف) أي أنه بمثابة الريح
(أف اسم صوت) يمر عابراً فلا يستقر منه شيء في الذاكرة .
(نص لا بُدّ الُ يْخصّ) أي أن النصف لا يمكن الاحتفاظ به جملة فلا بد أن
ينسى قارئه بعضه أو يعجز عن استيعابه أصلاً .
(الثلث يوترث) أي أن ثلث القف يعلق بالذاكرة فلا ينساه قارئه حتى يموت
كأنه يورث من بعده
[17] .
ثالثاً : وحدة المتن واستيفاؤه : فينصحون الطالب أن يشتغل بدراسة متن واحد
يفرغ قلبه له ، ويستجمع قوته لحفظه ولا يجمع إليه غيره ، ولا ينتقل عنه حتى
يستوفي دراسته كله ، بل يرون أن جمع متنين معاً يحد من قدرة الطالب على
الاستيعاب فيظل جهده الذهني موزعاً بين عدة متون لا يكاد يتقن أياً منها ، كما أن
بتر المتن دون حفظه كله يضيع جهد الدارس هباءً ، وينم عن كسل وقصور في
همة الطالب ، ويمثلون لمن يروم حفظ نصين في وقت واحد بالتوأمين ؛ فلا سبيل
إلى خروجهما معاً في آن واحد ، بل لا بد أن يسبق أحدهما الآخر ، ونظموا هذا
المبدأ بقولهم :
وإن تُرد تحصيلَ فَنّ تَمّمهْ = وعن سواهُ قبل الانتهاءِ مَه
وفي ترادف الفنون المنعُ جا = إذ توأمان اجتمعا لن يخرجا
[18]
رابعاً : صياغة المتن المنثور نظماً :
لقد وظف الشناقطة ملكَة الشعر كثيراً في تيسير العلوم للحفظ ، وضمان حظ
أوفر من القبول والبقاء له ، ولذا غلبت الصبغة النظمية في نظام الدرس المحظري .
وكما هو معلوم فإن النظم أسهل حفظاً واستحضاراً من النثر ، قال ابن معط رحمه
الله في خطبة ألفيّة في النحو :
لعلمهم بأن حفظ النظم = وفق الذكي والبعيد الفهم
لا سيما مشطور بحر الرّجز = إذا بُني على ازدواج موجز
وفي المحضرة قلّ أن تجد متناً يُدرس في فن إلا وجدت من نظمه حتى يسهل
حفظه على الطلاب ، فمن ذلك
[19] أن أبا بكر بن الطفيل التشيتي رحمه الله
(ت 1116هـ) نظم كتاب (قطر الندى) لابن هشام رحمه الله .
والعلامة محمد المامي الشمشوي رحمه الله (ت 1282هـ) عقد كتاب
الأحكام السلطانية للماوردي بنظم سماه ( زهر الرياض الورقية في عقد الأحكام
الماوردية ) .
والعلامة الأديب عبد الله بن أحمد أُبّه الحسني نظم كتاب (مجمع الأمثال)
للميداني .
خامساً : تركيزهم على بداية الحفظ والمراجعة المستمرة للمحفوظ ، فعدد
تكرار الطالب المتوسط للقدر المراد حفظه من مائة مرة إلى ألف مرة ، ويسمونه
بلغة المحاضر (أَقَبّاد) فيجلس طالب العلم يكرر لوحة بصوت مرتفع في
الصباح
[20] ثم يعود إليه بعد الظهر ثم بعد المغرب ثم من الغد يبدأ بمراجعته
وتسميعه قبل أن يبدأ في درس جديد ، وهكذا يفعل مع الدرس الجديد وفي نهاية
الأسبوع تكون مراجعة لما حفظ من بداية الأسبوع مع ما قبله من المتن حتى ينتهي
من المتن بهذه الطريقة ، ثم يأخذ متناً آخر وتصبح لهذا المتن الأول ختمة أسبوعية
يمر عليه كله ، وبعد تثبيته في الذاكرة ومزاحمة غيره له ، لا يصل الإهمال
والانشغال أن يترك ختمة شهرية للمتن ، وأعرف من المشايخ في المدينة
النبوية من عنده ختمة أسبوعية للألفية ولمختصر خليل وختمة شهرية للمتون
القصيرة كـ (لامية الأفعال) في الصرف لابن مالك والبيقونية والرحبية
وبلوغ المرام وغيرها .
سادساً : حفظ النص قبل الحضور إلى الشيخ ليشرحه ، وهذه من أهم الطرق
التي تعين الطالب على متابعة الحفظ دون انقطاع أو تأخر ، وكان شيخنا الشيخ سيد
أحمد بن المعلوم البصادي رحمه الله لا يشرح لأي طالب نصاً حتى يسمعه منه غيباً ،
فيبدأ الشيخ في شرحه وتفكيك ما استغلق على الطالب فهمه .
سابعاً : لا يحفظ الطالب إلا ما يحتاجه ويمارسه في حياته من العلوم
والأبواب في الفن . فالطالب إذا كان يقرأ مختصراً فقهياً مثلاً ، وبلغ في المتن
كتاب الحج ، ولم يكن من أهل الوجوب والاستطاعة فإنه يتعداه إلى غيره وهكذا
في أبواب الفرائض والقضاء والجهاد وقِس على ذلك بقية الأبواب في الفنون
المختلفة .
ثامناً : تأثر البيئة بالحركة العلمية : فقد خالط حفظ العلم في بلاد شنقيط حياة
الناس هناك ؛ ففي بلاد الزوايا
[21] ، يعتبرون من تقصير الأب في حق ابنه إذا
بلغ وهو لا يحفظ القرآن حفظاً متقناً ولا يعرف من الأحكام ما يقيم به عباداته ، ولا
من العربية ما يصلح به لسانه ، بل ينظرون إليه نظرة ازدراء واحتقار وأنه قد عق
ابنه وقصّر في تربيته . وكان من عادة أهل الشيخ القاضي (اجيجبه) أن لا
يتسرول
[22] الشاب منهم حتى يتم دراسة مختصر خليل ، فحفظ المختصر عندهم
شرط معتبر للرجولة وسمة للنضج .
وتجد أمثال العامة ومخاطباتهم خارج حلقات الدرس قد صبغت بلون المتون
السائدة ؛ فمن أمثالهم إذا أرادوا وصف الشيء بأنه بلغ إلى منتهاه يقولون : (لا حِق
فلا إشكال) أي وصل في كذا إلى ذروته وعبارة (لاحق فلا إشكال) هي آخر جملة
في مختصر الشيخ خليل .
ومن أمثالهم قولهم : (وحَذْفُ ما يُعلم جائز) وهو جزء من بيت من خلاصة
ابن مالك في الألفية .
تاسعاً : عقد مجالس للمذاكرة والإنشاد والألغاز في العطلة المحضرية . وهي
عطلة نهاية الأسبوع العمرية (الخميس وجناحاه مساء الأربعاء وصباح الجمعة) .
فيعقد طلاب (الدولة) أو المنتهون مجالس السمر وغالباً تكون ليلة الخميس أو
الجمعة يتذاكرون فيها ما درس خلال الأسبوع ويتبارون في تجويد حفظه وإتقانه ،
أو يحددون باباً أو فصلاً من كتاب يتحاجون فيه ، وأعرف عدة مجالس في المدينة
المنورة عقدت لهذا الغرض منها مجالس لبعض النساء عَقَدْنَهُ لمذاكرة حفظ القرآن
والفقه والسيرة النبوية ، ومن ذلك ما يُروى أن محمد بن العباس الحسني وهو راوية
شعر ادعى ليلة في مجلس سمر أنه لا يسمع بيتاً من الشعر إلاّ روى القطعة التي
هو منها ، وذكر الكتاب الذي توجد فيه ، فتصدى له حبيب ابن أمين أحد تلامذة
العلامة حُرْمة بن عبد الجليل رحمة الله على الجميع فسأله من القائل :
لو كنت أبكي على شيء لأبكاني = عصر تصرّم لي في دير غسّانِ
فقال ابن العباس : نسيت قائل هذا البيت وهو من قطعة أعرفها في حماسة
أبي تمام ، فدعي بالكتاب ، وقلب ورقة ورقة ، فلم توجد فيه فقال لهم حبيب :
هاهي بقية الأبيات وذكرها :
دير حوى من (ثمار) الشام أودها = وساكنوه لعمري خير سكان
دهراً يدير علينا الراح كل رشا = خمصان غض بزنديه سُواران
وقال : إن القطعة من إنشائه ، نظمها تعجيزاً لزميله ، وساق دليلاً على صحة
قوله أن دير غسان لا وجود له في أديرة العرب .
كان شيخ المحضرة الفقيه اللغوي الشاعر حرمة بن عبد الجليل
(ت 1234 هـ) رحمه الله حاضراً فالتفت إلى تلميذه حبيب وأنشأ على
البديهة :
لله درك يا غليّم من فتى = سن الغليم في ذكاء الأشيب
لستَ الصغير إذا تَنِدّ شريدةٌ = وإذا تذاكر فتيةٌ في موكب
إن الكواكب في العيون صغيرة = والأرض تصغر عن بساط الكوكب
[23]
عاشراً : اغتنام لحظات السحر في تثبيت الحفظ ، فلا تكاد تجد طالباً من
طلاب المحضرة في وقت السحر نائماً بل يزجرون عن النوم في هذا الوقت .
حدثني الوالد حفظه الله قال : كان إذا صعب علينا حفظ شيء انتظرنا به
السحر فيسهله الله علينا ، ولا ريب أنها لحظات مباركة ؛ لأنها وقت النزول الإلهي ،
ووقت الهبات والأعطيات
[24] . وساعات السحر هي لحظات الإدلاج التي
أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالسير إلى الله فيها كما في صحيح البخاري
رحمه الله (واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدّلجة) وهي سير آخر
الليل
[25] .
وذكر أهل العلم بالتفسير آثاراً عن بعض الصحابة والتابعين رضي الله عن
الجميع في انتظار يعقوب عليه السلام لزمان الإجابة حين قال له أبناؤه : يَا أَبَانَا
اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ [يوسف : 97] فقال : قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ
رَبِّي إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ [يوسف : 98] أنه أخّرهم إلى وقت السحر [26] .
وضابط وَقت السحر على الصحيح أنه قبل طلوع الفجر بساعة تقريباً على ما
حققه الحافظ رحمه الله في الفتح .
وبعدُ .. أخي القارئ الكريم :
بهذه العوامل والأسباب خطف علماء الشناقطة المتجولون الأضواء ، وبهذه
الطرق والأساليب في الحفظ بزّوا غيرهم في العلوم التي شاركوهم فيها ، فهل تجد
في هذه الإجابة المقتضبة ما يشحذ همتك ويحرك إرادتك ويكون مثالاً لك تحتذيه ،
ويستحثك لجعل الحفظ أهم طرق العلم الشرعي ؟ ! ذلك ما كنا نبغي ، وفضل الله
واسع ، وكم ترك الأول للآخر وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ [المطففين : 26] .
وصلى الله وسلم وبارك على النبي وعلى آله وصحبه أجمعين .