لمحات من إبداع المتصوفة


صهيب السيد ذاكر
الأربعاء/14/10/2009
عرف التصوف على مر العصور بأشكال و مظاهر مختلفة و عندما نقول التصوف هنا فنحن بالتأكيد لا نقصد من اقتصر فهمه على معرفة مصطلح التصوف من خلال ما يسمى( بالدروشة) الدروشة التي أفرغت التصوف من حقيقته و جعلت منه حالة هلامية .

مع العلم أن دارسي الفلسفة الإسلامية بالتحديد منهم من اعتبره مدرسة فلسفية و منهم من اعتبره مدرسة روحية و منهم .. و منهم ..و لا أريد هنا أن أدخل في تعريفات علم التصوف أو أبوابه أو الآراء فيه من موافقة أو مخالفة له فالحالة الإبداعية في التصوف هي ما تستوقفني حالة من الثراء الفكري و الروحي و الفني كسرت قوالب الجمود و فتحت الآفاق الواسعة و تداخلت مع الكثير من أصناف الفنون الأدبية و أشكال الفنون الأخرى فأثرتها بنتاجات فنية و فكرية و رو حية أو كما تسمى في علم التصوف بالذوقية .‏

في حين أنه و في كثير من الأحيان لا ينوه ولا يصرح على أن هذا النتاج الفني أو الأدبي هو منتج من منتجات التصوف فما زال الدارس و القارئ يتنقل من الجنيد البغدادي و مجاهداته للنفس إلى الرفاعي و التربية الذوقية في التسامح و صولاً لسيد الفلاسفة الصوفية الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي والحلاج و وحدة وجوده و السهروردي المقتول بمنهجه الإشراقي مروراً بابن الفارض و خمرياته إلى الحكم العطائية لابن عطاء الله السكندري التي فاقت كل نظريات اختزال اللغة كما تسمى عند شعراء الحداثة إلى مواقف ألنفري التي تحلق في عوالم الإبداع معرجين على الرواس في هيامه و تألقه غافلين عن الكثير من الذين أثروا المكتبة العربية بنتاجات قال عنها البروفسور الفرنسي ماسنيون الذي درس التصوف الإسلامي و كتب فيه و ناقش الكثير من الأطروحات الأكاديمية حول رجاله و إبداعاتهم ( أنها روح العالم ) .‏

و قد أثر الأدب الصوفي في عموم الأدب العربي بما سمي بصوفية الأدب التي حلق من خلالها الشعراء و المبدعين بعوالم الروح و النفس عاكسين اقتراباتهم بين المادي المحض و الروحي المتقدم على استغراقاتهم في عالم الأدب تفريقاً له عن أدب التصوف الذي أبدعه المتصوفة ذاتهم من خلال كتبهم و بمصطلحاتهم التي أفرد البعض لها كتاباً خاصاً باسم المصطلحات الصوفية محاولاً الاقتراب من مفاهيم أعطاها المتصوفة و إشارات كما يطلقون عليها أما في المجال الفني كالغناء مثلاً و الذي يعرفه المتصوفة بالسماع فالحديث يطول فمن خمريات ابن الفارض التي تغنى بها عالم الإنشاد إلى أشواق عبد الرحيم البرعي وصولاً إلى الشاعر السوداني / الفيتوري/ بقصائده و خاصة مجموعته الشعرية عن (ياقوت العرش ) التي يحلق بها بين عالمي الموت و الحياة و قد خلق فن القدود التي هي أساساً حمصية اشتهرت بها مدينة حلب فسميت باسمها ( القدود الحلبية ) و القد هو قصيدة تحمل روح التصوف على قد أغنية شعبية و من أشهر من كتب القدود الشاعر الحمصي الشيخ أمين الجندي و منها مثلاً أغنية :‏

يا اهويدلك يا اهويدلي نارك و لا جنة هلي‏

و الذي أصبح القد عليها :‏

قد لذّ لي قد لذّ لي حب الغزال الأكحل‏

أفديه من بدر على غصن نضير قد علا‏

نشوان من خمر الطلا بين الكواكب ينجلي‏

أما القصائد التي كتبها الجندي و ما زالت مكتبة الغناء ترددها و خاصة الطرب الحلبي فهي كثيرة جداً منها :‏

عيرتني بالشيب و هو و قار ليتها عيرت بما هو عار‏

إن تكن شابت الذوائب مني فالليالي تزينها الأقمار‏

و منها :‏

حلو الشمايل يا قوام البان قم و اجل كأس الراح بالريحان‏

و منها :‏

يا صاح الصبر وهى مني و شقيق الروح نأى عني‏

و كذلك :‏

هيمتني تيمتني عن سواها أشغلتني‏

عاتبي ماذا عليها باللقا لو أتحفتني‏

أخت شمس ذات أنس لا بكأس أسكرتني‏

لست أسلوها ولو في نار هجران سلتني‏

و مثلها :‏

يا غزالي كيف عني أبعدوك شتتوا شملي و هجري عودوك‏

أما السهروردي فما يزال يردد له :‏

على العقيق اجتمعنا نحن و سود العيون‏

أضن مجنون ليلى قد جن بعض جنوني‏

إن مت وجداً عليهم بأدمعي غسلوني‏

نوحوا عليّ و قولوا هذا قتيل العيون‏

أيا عيوني عيوني و يا جفوني جفوني‏

فيا فؤادي تصبر على الذي فارقوني‏

و ما تزال إلى الآن تكية الراوي بدير الزور شاهدة على مرور الملحن و الشاعر الملا عثمان الموصلي أثناء تنقله في رحلاته بين الموصل و القاهرة وإنشاده فيها أعذب الألحان و أشداها من القصائد و التنزيلات كما يطلق عليها أهل المقام أما في عصرنا الحديث و بعيداً عن التراث .‏

فقد دخلت قصائد المتصوفة إلى ساحات الغناء العربي و قد لا يعلم الكثير من الناس أن هذه الأغنيات ما هي إلا قصائد صوفية كأغنية أم كلثوم ( القلب يعشق كل جميل ) عداك عن ( ولد الهدى) و غيرها حتى بعض ما يسمى بأغنيات الشباب كأغنية / سيدي منصور يا بابا و نجيك نزور يا بابا / ما هي إلا أغنية عن متصوف من المغرب العربي تردد عند زيارة ضريحه أثناء زيارة مريديه لهذا الضريح . و أغنية ( الله يا مولانا )التي غنيت و هي من التراث المغربي و كذلك الأغنية المشهورة للجزائري الشاب خالد المعروفة باسم ( عبد القادر يا بو علم ..) و ما تزال الفرق الفنية الدينية تجوب العالم و هي تقدم ما يسمى بالرقصات المولوية بفنية عالية و حركات إيمائية معبرة و أشعار و موسيقى جميلة منتسبة إلى الشاعر الصوفي جلال الدين الرومي مؤسس المولوية‏

أما في الفن التشكيلي فيقال أن الوحدة الزخرفية في الفن الأندلسي أو ما يسمى بالوحدة الزخرفية في فن الأرابيسك هي منتج من منتجات الفكر الصوفي في مرحلة من المراحل وخاصة في أوج ازدهار الأندلس و هذا النزر القليل من تداخل التصوف مع الكثير من أشكال الفنون نجد أننا بحاجة كبيرة لإزالة الغبار عن الكثير من التراثيات التي ما تزال بشكل أو بآخر تؤثر في منتجنا الحالي داعين إلى القيام بتنقية هذا التراث و تطويره‏