أنت غير مسجل في منتديات البوحسن . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين ِ وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت           
العودة   منتديات البوحسن > التزكية > رسائل ووصايا في التزكية

رسائل ووصايا في التزكية كلّ ما يختص بعلوم السلوك وآداب القوم وتزكية النفس والتصوف الإسلامي

إضافة رد
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع
قديم 03-23-2011
  #1
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي المثنوي العربي النوري - زهرة


المثنوي العربي النوري - ص: 259
الرسالة السابعة
زهرة
من رياض القرآن الحكيم 1
_____________________
1 طبعت هذه الرسالة لأول مرة بمطبعة "نجم استقبال" باستانبول سنة 1341هـ (1923)م ثم ترجمها الاستاذ النورسى الى اللغة التركية مع شئ من الايضاح وجعلها "اللمعة السابعة عشرة" في خمس عشرة مذكرة وقد اشرنا الى موضع كل مسألة من اللمعة المذكورة، فمن شاء فليراجعها.



المثنوي العربي النوري - ص: 260
كلُّ حيّ في الدنيا كعسكر موظّف، انما يعمل بحساب المَلِك وبإسمه.
فمن زَعمَ انه مالِكٌ، فهو هالِكٌ..
ان هذا النظام والميزان المشهودين عنوانان لقبضتي الرحمن وبابان من الكتاب المبين.. ومن كتاب الكائنات.
والقرآن ترجمانُ الكتابين وفهرستة البابين وفذلكةُ القَبْضَتين.


المثنوي العربي النوري - ص: 261
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الحاكم الحَكَمِ الحكيمِ الازلي الذي نظَّمَ هذه الكائنات بقوانينِ عادتهِ وسنَّتهِ، وعيَّنها بدساتير قضائهِ وقدَره، وأسس بنيانَها باُصول مشيئته وحِكمته، وزيَّنها بنواميسِ عنايتهِ ورحمتهِ، ونوَّرَها بجلواتِ اسمائهِ وصفاتِه. وهو القادرُ القيومُ السرمدي الذي ما هذه الكائنات بماهياتها وهوُياتها وتمايزاتها وتزييناتها وموازينها ومحاسنها الا خطوطُ قلمِ قضائهِ وقدَره، ونقوشُ بركار عِلمه وحِكمته، وتزييناتُ يدِ بيضاء صُنعه وعنايته، وازاهيرُ رياضِ لُطفه وكرمه، وثمراتُ فيّاض رحمتهِ ونعمتهِ، ولمعاتُ تجليات جمالهِ وكمالهِ جلَّ جلالهُ؛ حمداً يزيدُ على ضرب جميع الذرات في الذرات.
فيا من بتلألؤ لمعاتِ بروقِ شروق اسمائه ظهر عجائب المخلوقات..
ويامَن تساوى بالنسبة الى قدرته الذراتُ والسياراتُ..
ويامن كتبَ على مِسطَرِ الكتاب المبين - المصدر للنظام والميزان - هذه الكائنات المتزينات:
إنّا نُقدِّمُ اليكَ بين يَدي كلِّ سُكونٍ وحركةٍ تتحرك بها ذراتُ العالم ومركباتها شهادةً:
نشهدُ ان لا اله الاّ انت وحدكَ لا شريكَ لك ونشهد أن محمّداً عبدك ورسولُك ارسلته رحمةً للعالمين.
اللّهمَ صلّ وسلّم عليه وعلى آله وصحبه بعدد جميعِ الحروفات المتشكّلة في الكلمات المتمثلة بإذنِكَ في مرايا تموجات الهواء عند قراءة كلِّ كلمةٍ من القرآن مِن كل قارئٍ من حين النزول الى يوم النشور...


المثنوي العربي النوري - ص: 262
اعلم! 1 ان مايوصل اليك - بحسب الظاهر - من الوسائل؛ إمّا له اختيار أو لا. وما لا اختيار له، لاريب انه يعطيك ما يعطيك بحساب الله وباسمه. فخذ وكُل انت باسم الله، وتوجَّه بتمام شكرك اليه.. وإما له اختيارٌ ما، فلا تأخذ ولاتأكل منه ما لَمْ يُذكَرِ اسمُ الله عَليهِ، أي باخطار صاحبه الحقيقي وبتوجيه نظرك اليه كما ترمز اليه الآية: (ولا تأكُلوا مِمّا لَم يُذكَرِ اسمُ الله عليه) 2 .. فان لم يَذكُر هو، فاذكر انت. وانظر من فوقه الى مَن أنعمَ عليه وعليك. فانظر في النعمة الى الانعام، ومنه الى المنعم الحقيقي. فاشكره بهذا النظر، فإن هذا النظر شكرٌ، ثم ارجع ان شئت وانظر الى الوسيلة وادعُ له مُثنياً عليه بسبب ارسال النعمة على يده. واياك اياك ياقلبي ان تنظر اوّلاً وبالذات الى المنعم الظاهري..
الحاصل: لابد من "بسم الله": مرتين في المختار، ومرة في غيره. واياك اياك يانفسي ان تظني "الاقتران علّية.." فقد يقارن وصولُ نعمةٍ فعلَ أحدٍ، فيظنُ قاصرُ النظر أن فعله علّتُها، كلا!. واياك ان تجعل عدمَ نعمةٍ عند عدمِ شئ دليلاً على ان وجودَ ذلك الشئ علةُ وجودها. فقد تترتب النتيجةُ على الوفِ امورٍ، فلاتوجد - بسنّة الله - تلك النعمة لفِـقَدْ اي جزءٍ كان ولو اضعف الامور. فهل يجوز لمن فتحَ قنطرة جدولٍ فسال الماءُ على نواة وبذر فانشجرت وتسنبلت، ان يدّعي ان الشجرة صُنعهُ ومُلكه ومالهُ حقيقةً؟ فهذه المسألة ميزان تُعرف به درجاتُ الغفلة والشرك الخفي..
واياك اياك ياقلبي ان تسنِد مايُفاض على الجماعة او يتظاهر منها او يتحصل من مساعيها اليكَ والى غيرك من ممثل الجماعة او استاذها او مرشدها؛ اذ مع ان هذا الاسناد والتصوّر ظلمٌ عظيم يوقع المسنَد اليه - المستتر فيه "انا" - في غرور عظيم، وانانية غليظة، ويفتح لمَن يسنِد منافذ الى نوع شركٍ خفي، فتأخذ الوسيلةُ حكمَ المقصود ويلبس البوابُ زيّ السلطان..
واياك اياك اذا رأيت من احدٍ فيوضاتٍ تَردُ عليك، ان تظن انه مصدرُها او منبعها. بل ما هو الاّ مظهرها ومَعكَسُها، بل يحتمل ان لايكون مصدراً ولامظهراً،
_____________________
1 المسألة الرابعة من المذكرة الثالثة عشرة للّمعة السابعة والعشرين توضح هذه المسألة. وفي (ط1): اعلم يا سعيد الشقي: ان ما يوصل...
2 الانعام : 121



المثنوي العربي النوري - ص: 263
بل لأجل حصر نظرك عليه تتخيل ما يُفاض عليك من مقلّبِ القلوب الى قلبك، كأنه تمثّل أولاً في مرشدك، ثم انعكس عليك. كَمَثل من يُمعن النظر في زجاجة، فيتجرد ذهنه فيجول في عالم المثال، فيشاهد غرائب فيزعمها متمثلة في الزجاجة، كلا!. 1
اعلم! 2 يامن يستمد من الاسباب: "تنفخ في غير ضرمٍ وتستسمن ذا وَرَم" 3
مثلاً: اذا شاهدت قصراً عجيباً يبنى من جواهر غريبة لايوجد وقت البناء بعضُ تلك الجواهر الا في الصين، وبعضها الا في فاس، وبعضها الا في اليمن، وبعضها الا في سبيريا، وهكذا.. أفلا تشهد ان ذلك القصر بناء يبنيه مَن يحكم على كرة الارض ويجلب من اطرافها ما يريد في اسرع وقت؟
وهكذا؛ كل حي بناء، وكل حيوان قصر إلهي، لاسيما ان الانسان من احسن تلك القصور، ومن اعجبها، لانه امتدت حاجاتهُ الى الابد، وانتشرت آمالهُ في اقطار السموات والارض، وشرعت روابطهُ في مابين ادوار الدنيا والآخرة. فيا هذا الانسان، لايليق بك ولايحق لك وانت تحسبك انسانا ان تدعو وتعبد الاّ مَن يَحكم على الارض والسماء ويملك ازمة الدنيا والعقبى!..
اعلم! 4 ياقلبي ان الابله الذي لايعرف الشمسَ اذا رأى في مرآةٍ تمثالَ شمس، لايحب الا المرآة ويحافظ عليها بحرص شديد لاستبقاء الشمس، واذا تفطن ان الشمس لاتموت بموت المرآة ولا تفنى بانكسارها، توجَّه بتمام محبته الى الشمس؛ اذ ما يشاهَد في المرآة ليس بقائم بها، بل هو قيومُها. وبقاؤه ليس بها، بل بنفسهِ.. بل بقاء حيوية المرآة وتلألؤها انما هو ببقاء تجليات الشمس ومقابلتها، اذ هي قيومُها. ياهذا قلبُك وهويتُك مرآةٌ. فما في فطرتك من حب البقاء ليس لأجلها، بل لأجل ما فيها.. فقل "ياباقي انت الباقي" فاذ انت باقي فليفعل الفناءُ بنا ما شاء فلا نبالي بما نلاقي..
_____________________
1 المسألة الخامسة من المذكرة السابعة.
2 يراجع الرمز الاول من المذكرة الرابعة عشرة.
3 نفخت في غير ضرم... مثل يضرب لمن يصنع الشئ في غير موضعه. والضرم: النار او الحطب السريع الالتهاب، ونفخ في غير ضرم اي في مكان لا نار فيه.
4 الرمز الثاني من المذكرة نفسها.



المثنوي العربي النوري - ص: 264
اعلم! 1 ياايها الانسان! انّ من غرائب ما اودع الفاطرُ الحكيم في ماهيتك أنه قد لاتَسعك الدنيا فتقول (اوف) 2 كالمسجون المخنوق، مع انه تَسعُك خردلةٌ وحجيرةٌ وخاطرةٌ ودقيقةٌ حتى تفنى فيها، وتستعمل اشد حسياتك لها.. واعطاك لطائف بعضُها يبتلع الدنيا فلا يشبع، وبعضها يضيق عن ذرة ولا يتحمل شُعيرة، كما ان العين لاتتحمل شعرة.
فاحذر وخفّف الوطء، وخَف ان تغرق ويغرق معك ألطفُ لطائفك في أكلةٍ، او كلمةٍ، او شعرة، او شُعيرة، او لمعةٍ، او لحمةٍ، او بقلةٍ، او قبلةٍ.. فان في كل شئ جهة من عدم التناهي يطيق ان يُغرقَك، ولايضيق عن بلعِك. فانظر الى مرآتك كيف يغرقُ فيها السماء بنجومها! والى خردلة حافظتك كيف كتب "الحق" فيها اكثر ما في صحيفة اعمالك واغلب ما في صحائف اعمارك! فسبحانه من قادرٍ قيوم! .
اعلم! 3 ان دنياك كمنزل ضيق كالقبر، لكن لأجل ان جدرانه من زجاجة تتعاكس تراه واسعاً مقدار مد البصر؛ اذ الماضي المعدومُ من جهة الدنيا، والآتي المفقودُ؛ مرآتان متقابلتان تصلان جناح حالك وتتصلان بزمانك. فلا تفرق بين الحقيقة والمثال؛ فيصير خطُ "آنِكَ" سطحاً، حتى اذا تحركت بتحريك المصائب ضربت الجدرانُ رأسكَ فيطيرُ خيالكَ ويُطرد نومُك، فترى دنياكَ اضيق من القبر والجسر، وزمانك اسرع من البرق والنهر..
اعلم! 4 يامن يريد ان يرى شواهد تجليات اسمه "الحفيظ" المشار اليه بـ
)فمَن يَعمل مثقَالَ ذَرَّةٍ خيراً يرهُ_ ومَن يعملْ مِثقالَ ذرَّةٍ شراً يرهُ) 5 وبـ: (وما يَعزُبُ عَن رَبِّكَ مِن مِثقالِ ذَرَّةٍ في الارضِ ولا في السّمآءِ ولا أصغَرَ منْ ذلكَ ولا أكبرَ الاّ في كتابٍ مُبين) 6 في صحائف كتاب الكائنات المكتوب ذلك الكتاب على مِسطرِ الكتاب المبين.
_____________________
1 الرمز الثالث منها.
2 كلمة تضجر.
3 يراجع الرمز الرابع من المذكرة الرابعة عشرة.
4 المسألة الاولى من المذكرة الخامسة عشرة.
5 الزلزلة : 7،8
6 يونس : 61



المثنوي العربي النوري - ص: 265
انظر الى غرفة تأخذها بقبضتك من اشتات بذور الازهار والاشجار، قد اختلطت تلك البذور والحبات المختلفة الاجناس والانواع، المتشابهة الاشكال والاجرام، بحيث لايميَّز بينها. ثم ادفنها معا - في الظلمة - في ظلمات تراب بسيط جامد محدود. ثم اسقه بالماء الذي لاميزان له ولايفرّق بين الاشياء، فاينما توجهه يذهب. ثم انظر اليها عند الحشر السنوي وقد حُشر بنفخ الرعد في الصُور في الربيع، حتى ترى تلك البذور المختلطة المتشابهة كيف امتثلت بلا خطأ الأوامر التكوينية من فاطرها الحكيم، بصورة يتلمع منها كمالُ الحِكمة والعلم والارادة والقصد والبصيرة والشعور!. ألا ترى تلك المتماثلات كيف تمايزت؟ حتى صارت هذه شجرةَ التين تنشُر وتنثر على رؤسكم نِعم ربها!. وصارت هذه ازاهير تزيَّنت لاجلك وتضحك في وجهك وتتودّد لك؟ وصارت هاتيك فواكه مما تشتهون تدعوك الى انفسها وتفديها لك؟ حتى صارت تلك الغرفة باذن خالقها جنة مشحونة من الازهار المختلفة والاشجار. وانظر هل ترى فيها غلطاً او قصوراً؟. (فَارجِعِ البَصرَ هَل تَرى من فُطور) 1 بل قد اعطى "الحفيظ" لكلٍ منها ماورثه من مال ابيه وأصله بلا نقصان وبلا التباس. فما يفعل هذا الفعل الا من يقتدر على ان يقيم القيامة. فمن يفعل هذا، هو الذي يفعل تلك.. فاظهار كمال الحفظ ها هنا مِن الامور التافهة الزائلةِ حجةٌ بالغة على محافظة ما له اهمية عظيمة وتأثير ابدي، كافعال خلفاء الارض وآثارهم، واعمال حَملة الامانة واقوالهم، وحسنات عبدة الواحد الاحد وسيئآتهم. (أيَحسَبُ الانسَانُ اَنْ يُتركَ سُدىً) 2 بلى انه لمبعوث الى الابد، فيحاسب على السبَد واللبد.
فهذا المثال الذي تنسج انت على منواله ليس قبضةً من صُبرة او غرفة من بحر، بل حبة من رمال الدهناء، ونقطة من تلال الفيفاء، 3 وقطرة من زلال السماء.. فسبحانه مِن حفيظ رقيب وشهيد حسيب.
اعلم! ايها السعيد الغافل! ان ما لايرافقك بعد فناء هذا العالم بل يفارقك بخراب الدنيا، لايليق ان تلزق قلبك به. فكيف بما يتركك بانقراض عصرك؟.. بل
_____________________
1 الملك : 3
2 القيامة : 36
3 الفيفاء: الصحراء الملساء والجمع: فيافى.



المثنوي العربي النوري - ص: 266
فكيف بما لايصاحبك في سفر البرزخ؟.. بل فكيف بما لايشيّعك الى باب القبر؟.. بل فكيف بما يفارقك سنة او سنتين فراقاً ابدياً مورِثاً إثمه في ذمتك؟.. بل فكيف بما يتركك على رغمك في آن سرورك بحصوله؟.
فان كنت عاقلاً لاتهتم ولاتغتم، واترك ما لا يقتدر ان يرافقك في سفر الابد، بل يضمحل ويفنى تحت مصادمات الانقلابات الدنيوية والتطورات البرزخية والانفلاقات الاُخروية. الا ترى ان فيك شيئاً لايرضى ألا بالابد والابدي، ولا يتوجه الا اليه، ولا يتنزل لما دونه؟ وذلك الشئ سلطانُ لطائفك، فأطِعْ سلطانك المطيع لأمر فاطره الحكيم جلّ جلاله.
......... 1
اعلم! 2 يا ايها السعيد الغافل! تنظر الى اطرافك الآفاقية فتراها ثابتة مستمرة في الجملة وبالنوع، فتظن نفسك ايضاً ثابتة دائمة حتى لاتتدهش الاّ من القيامة، كأنك تدوم الى ان تقوم هي. كلا!.. انك ودنياك في معرض الزوال والفناء في كل آن. فمثلك في هذا الغَلط كمثل مَن في يده مرآة متقابلةٌ لمنزل او بلد او حديقة ارتسمتْ هي فيها، ففي ادنى حركة للمرآة وتغيرها يحصل الهرج والمرج في تلك الثلاثة التي اطمأننت بها. واما بقاؤها في انفسها فلا يفيدك، اذ ليس لك منها الا ماتعطيك مرآتُك بمقياسها وميزانها. فتأمل في مرآتك وامكان موتها وخراب ما فيها في كل دقيقة. فلا تحمل عليها ما لاطاقة لها به..
اعلم! 3 ان من سنة الفاطر الحكيم - في الاكثر - ومن عادته، اعادةُ ما لهُ اهميةٌ وقيمةٌ غاليةٌ بعينهِ لابمثله في الادوار والفصول المتكررة بتجدد الامثال في اكثر الاشياء. فانظر الى الحشر العصري والسنوي واليومي، تَرَ هذه القاعدة مطّردة. وقد اتفقت الفنونُ وشهدت العلومُ على ان الانسان اكملُ ثمرات شجرة الخلقة، وله اهمية عظيمة وقيمة غالية، وفردُه كنوعِ غيره. فبالحدس القطعي يُعادُ كلُّ فردٍ من البشر في الحشر والنشر بعينه وجسمه واسمهِ ورسمهِ..

_____________________
1 في (ط1): اعلم! اني رأيتني في المنام وأنا أقول للناس: يا أيها الانسان! ان من دساتير القرآن: ان لا تحسبن شيئا مما سواه سبحانه أعظم منك بحيث تتعبد له.. وان لا تحسبن انك أعظم من شئ من الاشياء بحيث تتكبر عليه. اذ يتساوى ما سواه في البعد عن المعبودية وفي نسبة المخلوقية.
2 تراجع المذكرة الثالثة.
3 تراجع المذكرة الرابعة.



المثنوي العربي النوري - ص: 267
......... 1
اعلم! ان الفذلكات المذكورة في اواخر الآيات، لاتنظر الى تلك الآية التي هي فيها فقط، بل تنظر الى مجموع القصة، بل الى تمام السورة، بل الى جميع القرآن؛ لتساند الايات وتلاحظها وتناظرها، فلا تزن ما في الفذلكة بميزان مآل آيتها فقط، ولاتحمل عظمتها على حُكمٍ جزئي مُهّد المحلُ لذكرها، والاّ بَخَسْتَها حقَّها. مثلاً قال
Lوكَذلكَ نُفصِّلُ الآيــات) 2 (ولقدْ صَرَّفنا في هذا القرآن) 3 (ولقد ضَربنا للناسِ في هذا القرآن من كلِّ مثل) 4 (وانّ الله عَزيزٌ حكيم) 5 (وانّ الله عَليمٌ قَديرٌ) 6 ومثل (لعَلّكم تَذَكَّرون) 7 و (لعلَكم تتقونَ) 8 وامثالها مما له عيون ناظرة الى اكثر الآيات التنزيلية، واكثر الآيات التكوينية، واكثر الاحوال البشرية.
فهذه الخواتيم القرآنية التي تُمهَرُ بها الآيات مع تأييدها لاياتها، ترفع رأس المخاطب من الجزئى المشتّت الى الكلي البسيط؛ ومن الجزء المفصّل الى الكل المجمل. وتوجِّه نظره الى المقصد الاعلى.. وغير ذلك من اسرار البلاغة.
اعلم! 9 ياقلبي قد يغالطك الشيطان باراءة الغير الغير المحدود، ليهون عندك قيمة ما انعم عليك. فانظر حينئذٍ الى احتياجك ونفسك وعجزك وحكمة النعمة والانعام القصدي في النعمة، والى عدم تناهي تجلي القدرة والعلم والارادة، والى

_____________________
1 في (ط1) اعلم! يا نفسي الجاهلة المغرورة! ان لكل مقام ومرتبة ظلا، بل ظلالا متباينة وأين الظل من الاصل؟ فهل يليق بمن يرى عكس سرير سلطان في الماء تحته او في المنام، فقعد عليه ان يظن نفسه سلطاناً او مساوياً للسلطان؟ او يشاهد النجوم في حوضه فيظن نفسه في السماء كمن يسري بين النجوم وفوقها. على ان من يرافقه علمه وعقله في السير الملكوتي على خطر عظيم من الغرور، فيقيس نفسه بسبب اخذ علمه ظلاً من ظلال مرتبة على صاحب اصل المرتبة. وكذا على خطأ جسيم من العجب فقد يقول كفراناً للنعمة انما اوتيته على علم... بل هي فتنة...
2 الاعراف : 174
3 الاسراء : 41
4 الروم : 58
5 التوبة : 71
6 النحل : 70
7 الذاريات : 49
8 البقرة : 183
9 قد مرّ في ذيل الحباب اجمال هذه المسألة - المؤلف.



عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 03-23-2011
  #2
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: المثنوي العربي النوري - زهرة


المثنوي العربي النوري - ص: 268
غايات وجودك ونتائجه العائدة الى مالكه وصاحبه الحقيقي الذي له الاسماء الحسنى. وكذا يغالطك الموسوس مستمداً من انانيتك ومستنداً بفرعونية النفس باراءة صغار الحيوانات وخساس الحشرات، ويضعها نصب عينك ويقول لك: ما الفائدة في خلقتها السريعة الزوال؟ فيلقنك العبثية - بعد تلقين ان غاية الحياة هي الحياة، وان قيمة الحياة بالبقاء - ليسقِطَ في عينك اهمية الرحمة والنعمة واتقان الصنعة فيما تشاهد هذه الثلاثة فيه، ليُنسيكَ الصانع بالتعطيل. فقابل انت باراءة السموات بنجومها والارض بحيواناتها. هذا اذا نظرت اليها وانت انت.. واما اذا نظرت الى ماهو اصغر منك، فانظر ايتها الحجيرة الكبرى الى غرائب حياة حجيرات جسدك ووظائف الكريوات الحمراء والبيضاء في دمك الدائر مادمتَ في هذه الدار، والى رقائق لطائفك الطائفة بقلبك.
اعلم! يا ايها الاوروبا!. 1 انك اخذت بيمينك الفلسفة المضلة السقيمة، وبيسارك المدنية المضرة السفيهة، تدعي ان سعادة البشر بهما. شلّت يداك وبئست هديتاك.
ألا يا ناشر الكفر والكفران! هل يمكن لمن اصيب في قلبه وعقله ووجدانه وروحه بمصائب هائلة، السعادة بكونه في ذروة الرفاه والزينة بجسمه؟ ألا ترى ان من انكسر خياله او خاب من امل وهمي او انقطع رجاؤه من امر جزئي كيف يَمر 2 له الحلو ويعذّبه العَذبُ اللذيذ وتضيق عليه الدنيا؟ فكيف بمن اُصيب بشؤمك في اعماق قلبه وروحه باليُتم الروحي والضلالة التي فيها انقطاع كل الآمال وانشقاق كل الآلام؟ فهل يقال لمن روحُه مع قلبه في جهنم، وجسمُه في جنةٍ كاذبة زائلة: انه مسعود؟
فاستمع ايها الروح المفسد لما يتلى عليك، اذكر لك واحداً فقط، من الوفِ المهالك التي اوقعت البشر فيها، واقدّم لايضاحه مثالاً.
مثلا: ههنا طريقان؛ فذهبنا في هذه، فنرى في سيرنا بمد النظر في مدة السفر عند كل خطوة رجلاً عاجزاً يتهاجم عليه رجالٌ غُلَّب يغتصبون ماله ودوابَه ويخرّبون
_____________________
1 ان اوروبا اثنان: احدهما: نافع للبشر باستفادته من الدين العيسوي والمدنية الاسلامية. اظهر باحسان الله ما يستريح به البشر في هذه الحياة.. واوروبا الثاني: خالف الاديان السماوية واستند بالفسلفة الطبيعية المادية وغلبت سيئات المدنية حسناتها، وصار سبباً لمشقة اكثر البشر وشقاوتهم. فاني اخاطب هذا القسم الثاني - المؤلف. والمذكرة الخامسة توضح المسألة اكثر.
2 من المرارة التي هي ضد الحلو.



المثنوي العربي النوري - ص: 269
بيتَه، وقد يجرحونه بحيث تبكي عليه السماء، فاينما نظرنا نرى الحال على هذا المنوال بحيث لاتسمع الاّ صيحات الظالمين ونياحات المظلومين، فطمّ عليهم المأتم العمومي. فبسر:" ان الانسان يتألم بألم الغير" والحال ان الوجدان لايتحمل التألم بهذه الدرجة، يضطر الناظرُ للتجرد عن الانسانية والتزام نهاية الوحشة بتبطّن قلبٍ لايبالي بهلاك الناس عند سلامته.
فيا اوروبا اهديت بدهائك الاعور لروح البشر هذه الحالة الجهنّمية، ثم تفطنت لهذا الداء العضال دواءً لإبطال الحسّ في الجملة، وهو الملاهي الجذابة والهَوسات الجلابة. فتعساً لك ولدوائك..
ثم ذهبنا في الطريق الاخرى؛ فترى في كل منزل وفي كل مكان وفي كل بلاد عساكر موظفين منتشرين في الآفاق والطرق، فيجيئ بعض المأمورين فيرخّصون 1 بعضهم من الوظيفة ويأخذون سلاحهم ودوابهم ولوازماتهم الميرية ويعطون لهم تذكرة الاذن، فيفرحون بالترخيص وبالرجوع الى المَلِك وزيارته باطناً، وان حزنوا بترك المألوف ظاهراً. ونرى انه قد يصادف المأمورون نفراً عجمياً لايعرفهم فيقول لهم: انا عسكر السلطان وفي خدمته، واليه ارجع، فان جئتم باذنه ورضائه فعلى الرأس والعين، والاّ تَنَحوا عني لأقاتلنكم وحدي ولو كنتم اُلوفاً، لا لنفسي بل لحفظ امانة مالكي، وحماية حيثية سلطاني وعزته. وهكذا نرى في مد طريقنا ومدة سفرنا تحشيدات بتهليل وسرور تسمى "تولدات" و"ترخيصات" بتكبير وحبور تسمى"وفيات". فالقرآن الحكيم أهدى للبشر هديةً لو اهتدوا بها لسلكوا بها في مثل هذا الطريق..
(لاخوفٌ عَليهم ولاَهُم يحزنونَ) 2.
فيا أوروبا تزعم ان كل ذي حياة من اصغر السمك الى اكبر المَلَك مالك لنفسه ويعمل لذاته وانما يسعى للذته، له حق حياة وغايةُ همته حفظ البقاء. وما ترى فيما بينها من "التعاون" المأمور به من جانب خالقها: كامداد النباتات للحيوانات والحيوانات للانسان، تظنه "جدالاً".. حتى حكمتَ بان "الحياة جدال". 3 فيا سبحان الله كيف يكون امداد ذرات الطعام بكمال الشوق لتغذية حجيرات البدن
_____________________
1 اي يسرحونهم من الوظيفة.
2 يونس : 62
3 اي: ان الحياة صراع دائم والبقاء فيها للأقوى!



المثنوي العربي النوري - ص: 270
جدالاً وخصاماً؟ بل انما الامداد تعاون بامر رب كريم. والدليل على ان ذا الحياة ليس مالكاً لنفسه، هو:
ان اشرف الاسباب واوسعها "اختياراً" الانسانُ. والحال انه ليس في يد اختياره ودائرة اقتداره من اظهر افعاله الاختيارية - كالاكل والكلام والتفكر - من المائة الاّ جزء واحد منهم. فاذا كان الاشرف الواسع الاختيار هكذا مغلول الايدي عن التملك والتصرف الحقيقي، فكيف بسائر البهيمات والجمادات؟
وما ورّطك في هذا الخطأ الاّ دهاؤك الاعور؛ اذ نسيَ ربّه الذي هو خالق كل شئٍ، واستند بالطبيعة الموهومة واسند الآثار الى الاسباب، وقسم مال الله على الطواغيت. فعنده يضطر الانسان وكل ذي حياة ان يصارع مع ما لايعد من الاعداء لتحصيل ما لايحد من الحاجات، باقتدارٍ كذرة، واختيار كشعرة، وشعور كلمعة تزول، وحياة كشعلة تنطفئ، وعمر كدقيقة تنقضي؛ مع أنه لايكفي كل ما في يده لواحد من مطالبه. فاذا اُصيب بمصيبة لايستمد الا من اسباب صمّ وعمي:
(ومَا دُعاءُ الكافرينَ الاّ في ضَلالٍ) 1 فقَلب دهاؤك المظلم نهارَ البشر ليلاً متنوراً بانوار كاذبة مستهزية. وصَيّر كل ذي حياة في نظر تلاميذه كالرجل المسكين المبتلى بهجوم الظلمة كما رأينا في الطريق الاولى.. ويرى في الدنيا مأتماً عمومياً، ويرى الاصوات نعيات الموت ونياحات اليتامى.
وصير تلميذه الخاص: "فرعونا" لكن يعبد اخس الاشياء. ويرى كل سبب نافع أنه ربَّه.. "متمرداً" لكن يتمسكن بنهاية الذلة للذَّته. ويقبّل رِجلَ الشيطان لمنفعة خسيسة.. و"جباراً" لكن لعدم نقطة الاستناد عاجزٌ في ذاته بغاية العجز.
وان غاية همة تلميذك: بطنهَ وفرجه او منفعة قومه، لا لقومه بل لاجل منفعة نفسه او تطمين رقة الجنسية، 2 او تسكين حرصه وغروره. ولايحب الاّ نفسه، ويفدي لها كل شئ..
واما خالص تلميذ القرآن فـ"عبد" لكن لا يتنزل للعبودية لأعظم المخلوقات ولا لأعظم المنفعة ولو كانت جنة.. و"ليّن هيّن" لكن لايتذلّل لغير فاطره الاّ باذنه..
_____________________
1 الرعد : 14
2 تطمين ما يشعر به من رقةٍ نحو بني جنسه.




المثنوي العربي النوري - ص: 271
و"فقير" لكن يستغنى بما ادخر له مالكه الكريم.. و"ضعيف" لكن يستند بقوة سيده الذي لانهاية لقدرته. ولايرضى تلميذهُ الحقيقي حتى بالجنة الابدية مقصداً وغايةً، فضلاً عن هذه الدنيا الزائلة. فانظر الى درجة تفاوت همة التلميذين.
وكذا، مايرى اعظم الاشياء كالعرش والشمس الا مخلوقاً عاجزاً مسخّراً مأموراً، ويرى في روحه علاقة شديدة مع كل الصالحين من اهل السموات والارض، فيدعو لهم من صميم قلبه، كما يدعو المرء لأهل بيته..
فانظر التفاوت بين مروءة التلميذين؛ ذاك يفر من اخيه لنفسه، وهذا يرى كل العباد اخوانه. والقرآن يعطي ليد تلاميذه بدل هذا التسبيح العادى 1 اعداد ذرات الكائنات فيسبّحوا الله، وفي ايديهم بدل التسبيح الذي عدده تسعة وتسعون "سلسلة جميع ذرات الكائنات" فيقرأون اورادهم بذلك التسبيح العجيب، ويذكرون ربهم باعداد ذلك، بل يزيدون.. فانظر الى تلاميذ التنزيل من الاولياء امثال الكيلاني، والرفاعي، 2 والشاذلي كيف اخذوا في اياديهم سلاسل الذرات والقطرات وانفاس المخلوقات وغيرها كالتسبيح يذكرون الله بها، بل يستقلّونها فيمدون ايديهم الى مالايتناهى من عدد معلومات "علام الغيوب"!.. انظر الى هذا الانسان الذي يصارعه اصغر مكروب ويصرعه ادنى كرب، كيف ترفَّع وانبسط لطائفه بفيض ارشاد القرآن، حتى استصغر الدنيا ان تكون تسبيحاً لوِرده، واستقل الجنة ان تكون غايةً لذكره!.. ومع ذلك لايرى لنفسه فضلاً على ادنى شئ من خلقه سبحانه.
واما هدى القرآن فيقول: يا ايها الانسان ان ما في يدك امانة، وملكاً لمالك قدير على كل شئ وعليم بكل شئ، رحيم بك، كريم يشتري منك مُلكه الذي عندك ليحفظه لك، لئلا يضيع في يدك، واجَّل لك ثمناً عظيماً وانت مأمور وموظف كالعسكر فاعمل بحسابه وباسمه، وهو الذي يرزقك ما تحتاج اليه، ويحفظك مما لاتقتدر عليه.
_____________________
1 المراد: المسبحة.
2 الرفاعي: (512 - 578هـ) احمد بن علي بن يحيى الرفاعي، ابو العباس، الامام الزاهد مؤسس الطريقة الرفاعية. ولد في قرية حسن في واسط بالعراق سنة 512هـ وتفقه وتأدب في واسط. وكان يسكن قرية ام عبيدة بالبطائح (بين واسط والبصرة) وتوفي بها سنة 578هـ. وفيات الاعيان 55/1 الطبقات الكبرى 140/1 نور الابصار 220 الاعلام 174/1 جامع كرامات الاولياء 490/1



المثنوي العربي النوري - ص: 272
وغاية حياتك: مظهريتك لتجليات اسمائه وشؤونه. فاذا اصابتك مصيبة فقل: "إنّا لله" وفي خدمته، فان جئت ايتها المصيبة باذنه ورضاه فمرحباً بك: "إنّا اليه راجعون" والى رؤيته مشتاقون. وسيعتقنا من تكاليف الحياة يوماً ما، فليكن على يدك وان جئت بارادته وأمره فقط ابتلاءً دون إذنه ورضاه فلا اسلّم امانته لغير الامين ما استطعت.
فحقيقة الحال في الطرفين على هذا المنوال. لكن درجات الناس متفاوتة في الهداية والضلالة. ومراتب الغفلة مختلفة. لكن الغفلة ابطلت الحس بدرجة لايحس المدنيّون بايلام هذا الالم الاليم، ولكن بتزايد الحساسية العلمية وايقاظات الموت تتشقق الغفلة. فويل ثم ويل لمن ضل بطواغيت الاجانب.
فيا شبان الترك! فهل بعد كل مارأيتم من ظلم اوروبا معكم وعداوتهم لكم تتبعونهم في سفاهاتهم وافكارهم بل تلتحقون بصفهم بلا شعور؟.. ألا انكم تكذبون في دعوى الحمية، اذ هذا الاتباع استخفاف بالملية واستهزاء بالملة. "هدانا الله واياكم الى الصراط المستقيم".
اعلم! 1 يامن يستكثر عدد الكفار ويتزلزل باتفاقهم على انكار بعض حقائق الايمان!
اما اولاً: ان القيمة ليست في الكمية، اذ الانسان اذا لم يصر انساناً انقلب حيواناً شيطاناً، لان الانسان اذا ترقى في الاحتراصات 2 الحيوانية كالمنكرين للاديان، فهو اشد حيوانية. وانت ترى كثرة كميات الحيوانات بلا حد وقلة الانسان مع انه هو الخليفة.
وثانياً: ان الانكار نفي، والفُ نافٍ لايرجّحون على اثنين من اهل الاثبات.
فان قلت: كافرٌ ما هو؟ قيل لك: فالكفار الذين لا دين لهم نوعٌ خبيث من حيوانات الله، خَلَقهم لعمارة الدنيا، وللنار.. وليكون 3 واحداً قياسياً لدرجات نِعَمه تعالى على عباده المؤمنين.
_____________________
1 تراجع المذكرة السادسة.
2 اي: اوغل في الحرص على الحياة الدنيوية المادية.
3 ليكون كل كافر واحداً قياسياً.




المثنوي العربي النوري - ص: 273
واما اتفاقهم على انكار حق ونفيه فلا قوة في اتفاقهم بسر النفي. اذ الكفر نفيٌ وانكارٌ وجهلٌ وعدمٌ، ولو كان في صورة الاثبات. مثلا: لو نفى كلُّ أهل استانبول رؤية الهلال؛ واثبت رؤيته شاهدان، ترجّحا على اجماعهم بسر تساند الاثبات، ونظر الاثبات الى نفس الامر، ونظر النفي الى نفس النافي وعنده. مثلا: لو طبق الغيم في وجه السماء فرفعنا رؤسنا، فما رأى الشمس من جميع اهل المملكة الا حزب قليل. فهل يقبل منك ان تقول: ان النافين متواترون، والرائون اقلّ قليل فاتباع الاكثر أولى؟ كلا.. اذ لمن لم ير ان يقول: لا شمس عندي، وفي رؤيتي،دون لا شمسَ في نفس الامر وفي وجه السماء. وهكذا فلتعدد المدعى بهذا الاعتبار بين النافين لا يقوى حكم بعض ببعض. فاجماعُهم في قيمة الفرد كالاجتماع لحل مسألة، او المرور في ثقبة ضيقة. خلافاً للمثبتين الناظرين الى نفس الامر لاتحاد المدعى وتعاون القوى، كالتساند على رفع صخرة عظيمة.
اعلم! 1 يامن يشوّق المسلمين على الدنيا ويدعوهم الى صنائعها وترقياتها ويضربهم بعصا التشويق، تمهّل وتأمل في رقة بعض حبالهم المربوطين بها بالدين، واحذر ان ينقطع قسمٌ من حبالهم فيصيرون ضرراً محضاً في الحياة الاجتماعية، بسر: ان المرتد لاحقّ له في الحياة لانفساده بالكلية، خلافاً للكافر، فالشريعة تعطي له حق حياة، وان الفاسق خائن ومردودُ الشهادة، لانفساد وجدانه خلافاً للذمي في مذهب الحنفية. فاعتبر! ولا تغتَر بكثرة الفساق؛ فان الفاسق لايرضى بالفسق، وما طَلبه بالذات بل وقع فيه.. وما من فاسق الاّ ويتمنى ان يكون متقياً وان يكون آمرهُ متديناً صالحاً، الا ان ارتدّ، العياذ بالله! اتظن ان المسلمين لايحبون الدنيا ويحتاجون لان يُنبَّهوا ولاينسَوا نصيبهم من الدنيا؟ كلا! بل اشتد الحرصُ.. والحرص في المؤمن سببُ الخيبة؛ اذ الدعاة الى الدنيا في كل شخص بكثرة؛ كنفسه واحتياجه وحواسه وهواه وشيطانه، وامثالكم من رفقاء السوء، وحلاوة العاجلة وغيرها، مع ان الداعي الى الآخرة الباقية بقلّة. فمن الحَمية والهمة امداد القليل. ام تحسب ان فقرنا من زهدنا؟ كلا.. الا ترى المجوس والبراهمة وسائر مَن تسلط عليهم الأوروبائيون افقرَ منا؟ ام انت اعمى لاترى ان ما زاد على القوت الضروري لا يبقى في يد المسلمين في الاكثر، بل يغتصبه او يختلسه الكفار بدسائسهم؟ وان اردتَ من تمدنِهم، تسهيل
_____________________
1 تراجع المذكرة السابعة.



المثنوي العربي النوري - ص: 274
ادارتهم وحصول الامن في المملكة؛ فقد اخطأت الطريق. لان ادارة مائةٍ من الفاسقين الذين فسدت اخلاقهم وتزلزل اعتقادهم اصعب من ادارة الوف من المتدينين. فاهل الاسلام لايحتاجون الى التشويق على الحرص على الدنيا، بل يحتاجون الى تنظيم مساعيهم، والتعاون، والامنية بينهم، 1 وما هي الاّ بالتقوى..
اعلم!2 ان الحق سبحانه بكمال كرمه ادمج قسماً من مكافاة الخدمة في نفس الخدمة، وادرج اجرة العمل في نفس العمل. حتى ان الموجودات ولو الجمادات تمتثل اوامره التكوينية بكمال الشوق والتلذذ، وبالامتثال تصير معاكسَ تجليات اسماء نور الانوار. كالحباب الحقير المظلم الذي يتوجه بقلبه الصافي الى الشمس، فيتنور مبتسماً في وجهك، بجعل قلبه سرير الشمس. وكيف لاتلتذ الذراتُ ومركباتها - بفرض شعورٍ فيها - بمظهريتها لتجليات اسماء ذي الجلال والجمال والكمال المطلق مع ارتقائها بالامتثال، مثل الحباب من نهاية الخمود والظلمة الى نهاية الظهور والنور!
انظر الىحواسك واعضائك وخدَمتها التي تخدم لبقاء الشخص او النوع كيف تتلذذ بنفس خدمتها حتى يكون التَركُ عذاباً لها.
ثم انظر الى الحيوانات كيف تلتذ بوظائفها، ألا ترى الديك مثلا: كيف يوُثر الدجاجات على نفسه في دعوتها الى اكل مارآه من الغذاء ولا يأكل هو؟ ويرى من طوره انه يفعل هذا بالشوق والتلذذ والافتخار. وهكذا الدجاجة الراعيةُ لأفراخها وهي صغيرة، التاركةُ لها اذا كَبُرت كسائر الوالدات النباتية والامهات الحيوانية غير الانسان!.. فيظهر من هذه الحال انها لاتعمل بحساب نفسها ولا لكمالها، بل بحساب من وظَّفها مُنعِماً عليها برحمته بإلقاء لذةٍ في وظيفتها.
ثم انظر الى النباتات والاشجار كيف تمتثل اوامر فاطرها بطورٍ يرمز بشوقٍ ولذة؛ اذ تزّيناتها ونشر روائحها تُظهِر شوقَها، وفداؤها نفسها لسنبلتها ولثمراتها تُعلن ان لذتها في امتثال الامر. اذ تُعد وتُحضر وهي سائلة من باب الرحمة اطيَب الغذاء، فتطعِم ثمرتَها باذن ربّها. ألا ترى شجرة التين كيف تُطعم التين لبناً خالصاً تأخذه من خزينة الرحمة وهي لاتُطعم نفسها الا الطين!.. وشجرة الرمان تسقي الرمان شراباً صافياً مما اعطاها ربُّها وهي لاتشرب الاّ الماء!.. وهكذا.
_____________________
1 اشاعة الثقة، فيأمن بعضهم بعضا.
2 تراجع المذكرة الثامنة.



المثنوي العربي النوري - ص: 275
ثم انظر الى الحبوبات تَرَ فيها اشتياقاً ظاهراً للتسنبل كمثل المحبوس في اضيق المكان كيف يشتاق للخروج الى البستان. ومن هذا السر الجاري في الكون بسنةِ الله يكون العاطلُ المستريح اشقى من الساعي المجدّ، اذ ذاك شاكٍ من عمره، وهذا شاكرٌ. واندمجت الراحةُ في الزحمة، والزحمة في الراحة.. 1
ثم انظر الى الجامدات ترى فيها ان ما "بالقوة" يجتهد لأن يصير "بالفعل" ويسعى بسنة الله بطور يرمز الى ان في المسألة شوقاً ولذة. ألا ترى قطرة الماء كيف يشتمل قلبُها على شوق لامتثال امر بارئها، بحيث اقتدر الماءُ بشدّة ذلك الشوق مع لطافة الماء وضعفه على شق الحديد مع قوة مقاومته عند سماع امر: "توسَّع ايها الماء باذن ربك" بواسطة لسان البرودة! وهكذا.
حتى ان جميع ما في الكون من السعي والحركة: من اهتزاز الذرات، الى دوران الشمس انما يجري على قانون القَدر، وانما يصدر من يد القُدرة، وانما يظهر بالامر التكويني المتضمن للعلم والامر والارادة، بل يتضمن القُدرة ايضاً. حتى ان كل ذرة وكل مركب وكل ذي حياة كنفرٍ من العسكر له نَسَب في دوائر المركبات. وله وظائف لفوائد، بعدد نَسَبه فيها كذرة عينك في حجيرة عينك، وفي عينك، وفي اعصاب وجهك، وفي شرايين بدنك.. لها في كل نسبةٍ وظيفةٌ لفائدة وهكذا.. فكل شئ يشهدُ على وجوب وجود القدير الازلي بلسان عجزه عن تحمل ما لاطاقة له به، من وظائفه المحمولة عليه في نظام الكون وحفظ موازنة قوانينه؛ اذ "النظام والموازنة" بابان مهمان دقيقان من "الكتاب المبين". فاين الذرة والنحلة - مثلا - واين قراءة ذلك الكتاب الذي هو في يد مَن يطوي السماء كطي السجلّ للكتب!.. وكذا يشهد كلُّ شئ على وحدة واجب الوجود الحق سبحانه بعلاقته وهو فرد بالمركبات المتداخلة المتصاعدة ووظائفه في مقاماتها ونَظَر نِسَبِه ووضعيته الى نقوشها!.. ثم ان الفاطر الحكيم أجمل لكل شئ دساتير بابي الكتاب المبين في لذة خاصة واحتياج مخصوص بذلك الشئ، اذا عمل الشئ عليها صار ممتثلاً من حيث لايشعر لأحكام ذلك الكتاب. مثلا: ان البعوض في حين ما يجئ الى الدنيا يخرج من بيته بلا توقف، فيهجم على وجه الانسان فيضربه بعصاه فينفجر منه له ماءُ
_____________________
1 اي الراحة في التعب والنصب، والضيق والتعب في الراحة.



المثنوي العربي النوري - ص: 276
الحياة، فمَن علّمه بهذه الصنعة كرّا وفراً؟. واعترف أني لو كنتُ في موقعه لما تعلّمتها الا بتدرّس مديد وتدرب عديد. فقس على البعوضة والنحلة والعنكبوت الملهمين كل الحيوانات والنباتات، قد اعطى الجواد المطلق سبحانه ليدِ كل فرد منها "تذكرة مكتوبة بمداد اللذة والاحتياج". فسبحانه سبحانه! كيف ادرج سرائر ما في سطور بابَي الكتاب المبين في تذكرة مسطورة في رأس النحلة مثلا، مفتاحُها لذة خاصة بالنحلة المأمورة؟
وهكــذا فيظهر ممـا سمــعــت مما مـر بالحـدس الايمــاني ســـرٌ من اســرار:
(وَرحمتى َوسِعَت كُلَّ شئ) 1 وسرٌ من أسرار: (وإنْ مِنْ شَئٍ الاّ يُسَبِّحُ بحَمدهِ ولَكِن لاتفقهونَ تَسبيحهُم) 2 وسرٌ من اسرار: (انما امرُهُ اذا اَرادَ شَيئاً أنْ يقولَ لهُ كُنْ فَيكونُ_ فَسُبحَانَ الذَّي بيده مَلَكوتُ كُلِّ شَئٍ واليهِ تُرجَعونَ) 3.
اعلم! يامن يدعو المسلمين الى الدنيا، اخطأت!.. اتحسب ايها الغافل ان المطلوب بالذات من الانسان عمارةَ الدنيا، واختراع الصنايع، وتحصيل الرزق وغير ذلك مما يعود الى الدنيا؟ والحال ان صاحب الملك الذي أمرهُ بين الكاف والنون يقول بقول يصدقّه الوجود والكون والواقع وتجهيزات الفطرة الانسانية:
(وَما خَلقتُ الجنَّ والانسَ إلاّ لِيَعْبـُدونَ) 4 (وَكأيّن مِن دآبَةٍ لاتَحمِلُ رِزقها الله يَرْزُقُهَا وإيَاكُم) 5 ام تزعم ان مَن صنعك ويصنعك دائماً بتجديدِ وجودكَ في كل زمان يحتاجُ لما تصنعُ في نظام ملكه والى توسيطك في تصرفاته؟.. اترى كل مصنوعات البشر تساوي خلقة نخلة او نحلة او صنعة عين او لسان؟
اعلم! يا ايها الغافل! ان من ابعد المحالات ان لايعلم مَن خلقك ما يتوارد عليك وانت تتقلب فيه من الاحوال الاجتماعية والاطوار الدنيوية. فكن من شئت اعتقاداً وفكراً ولو معطِلاً وماديوناً، 6 فبالضرورة والمشاهدة ترى في النطفة والبيضة والحبة
_____________________
1 الاعراف : 156
2 الاسراء : 44
3 يس : 82 -83
4 الذاريات : 56
5 العنكبوت : 60
6 اي: ولو منكرا لوجود الله وممن يحصرون الوجود فيما يرونه من مادة فقط.



المثنوي العربي النوري - ص: 277
والنواة فعالية وخلاقية وصنعة وتصرفاً. أيمكن في عقلك ان يكون المتصرف في النواة - هذا التصرف البصير الحكيم الناظر الى مناسبات تلك النواة لعالم نوعها ولمن يستفيد منها - غير عالمٍ بعالم الاشجار واحوالها وارتباطها بسائر العوالم؟ وان لايرى ولايشاهد "فالق الحبة ومُسَنبلها" مَن يزرعها ولِمَ يزرعها وما يحصل منها وما يحصد منها وجهة ارتباطها بعالم الحيوانات ومحيطها وما يجري فيه؟ ان يُحتمل عندك ان يكون مَن يصوّر البيضة - فرخاً مجهزاً بالآلات اللائقة بعالم الطير - غير بصيرٍ باحوال عالم الطيور واطوار جيران الطيور من سائر الأنواع؟ ام يجوز في زعمك ان لايرى خالقُ النطفة علقةً، والعلقةَ مضغةً، والمضغةَ عظاماً وكاسِ العظامَ لحماً ومنشئه خلقاً آخر ذا حياة؛ ومصوره بصورة تتلمع منها اثر صنعة عليمٍ، بصير حكيم، بما لا غاية فوق علمه ورؤيته وحكمته؛ ومجهزه بجهازات يتصرف بها ذلك الانسان المخرَج من النطفة في كثير من الانواع والعوالم. وان لايشاهد ذلك الخلاق عالم الانسان واحواله وشؤونه وما يجري على رأس نوع الانسان. وان لايعلم ادوار الانسان والعوالم التي يجول الانسانُ فيها بجسمه وحواسه وروحه وعقله وخياله، وغير ذلك مما اودع في جوهر الانسان من نظارات العوالم ومراصد الحقائق؟
ايها الغافل! اتظن انك حرّ ومأمون من مداخلةِ مَن يمد الى يدك بعصا الغصن رمانةً مصنوعةً لك وبخيط الشار 1 بطيخة مطبوخةً لاجلك؟ فمن غفلتك تظن صانعَ البطيخ غافلاً عن آكله، ومِن عُميكَ تتوهم صانعَ الرمانة قوةً عمياء لاتعلمُ ما تعمله للمتفكهين بالرمانة وطراوتها والمتحيرين في صنعتها القائلة:"سبحان من صوّرني فاحسن صورتي". والمتفكرين في لطافتها الناطقة بـ:
(فتَباركَ الله أحسنُ الخالقينَ) 2. والمتــأملين في انتظامها المتقن المنضّد المنــــادي باعلى صــوتـــــه: (ألاَ يعلَمُ مَن خَلَقَ وهوَ اللطيفُ الخبيرُ) 3. ام تحسب ايها الجاهل ان لايرانا ولا يعرفنا مَن يرسل الينا لحاجاتنا الخصوصية هذه الثمرات؟ او لايشاهدنا مَن يبث في ما بين ايدينا وفي خلال ديارنا ولمنافعنا بهيمات الانعام وسائر الحيوانات؟
_____________________
1 شار العسل: اجتناه.
2 المؤمنون : 14
3 الملك : 14


عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 03-23-2011
  #3
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: المثنوي العربي النوري - زهرة


المثنوي العربي النوري - ص: 278
اعلم! يامن يعتمد على نفسه وعلى الاسباب وعلى الدنيا! انك حينئذٍ تصير كالذباب ذي النُجيم يترك النهار بشمسه، ويعتمد على نُجيم نفسه وتلمّعه في الليل.. ومثلك كمثل نفر عسكر يتصور أن سلطانه يعمّ احسانه وانفاقه، حتى ادنى نفر وحيوان؛ ثم يقول في نفسه اين انا؟ واين نظرهُ الخاص وعنايته الخصوصية من بين مالايتناهى من المنعَم عليهم، مع ان قلبي محتاج لحبيب وشفيق خاص يعينني على حسياتي ويصاحبني. فالاولى ان اتخذ من دونه ولياً ومرجعاً، ثم يتحرى في خارج نظام العسكر روابط ومعاملات حتى يصير عاصياً، فيُطرد ويُحبس "كالفاسق المحروم". ويقال له: ألم تعلم ايها المسكين ان خزينة الملكِ تكفي لكل حاجتك وحاجات سائر الافراد المرتزقين؟. واما ما في يدك ويد اربابك فلا يكفي لأدنى حاجتك، اذ انت بين اعداء لاتُعد وآمال لاتُحد. وان قانون الملك لتجرده عن الماديات لايُشغل - ذلك القانون - نفرٌ عن نفر، بل يتوجه بتمامه لأي فردٍ كان. ولو كنتَ وحدكَ في السلك العسكري لما تفاوتَت المعاملة. فكأن السلطان ينظر اليك خاصةً دائماً في منظار قانونه، ويراك بأبصار ملتزمي قانونه، لاسيما اذا لم يكن السلطان مادياً كقانونه المجرد، فلا يغفل عنك حينئذٍ ولو طرفة عين. ففي عموم احسانه نظرٌ خصوصي اليك، بدليل انطباق الاحسان على الحوائج التي تخصك بذاتها، او تخصك بكيفياتها. ومفتاح هذا السر هو: ان الاحدية تتلمع في خلال وُسعة الواحدية، كتلمع عين الشمس في خلال الضياء المحيط حتى في كل ما مسه الضياء من الذرات الشفافة وكتلمع النظام التام في خلال المشوشية الظاهرية الناشئة من اشتباك اشتات الاشياء.
والحاصل: ان فاطرك ومالكك ارحمُ واكرمُ وألطفُ وأرأفُ بك من كل قريبٍ وحبيبٍ ورفيقٍ وشفيقٍ وهو العليمُ بك وباسرارك، وهو القديرُ على اعظمِ مطالبك وعلى اخفاها. فاترك الكلَّ وتوكل عليه..
اعلم! 1 ان كتاب الكائنات الذي هو "كتابُ القُدرة" مكتوبٌ على مِسطرِ "الكتاب المبين" الذي هو "كتاب العلم" بشهادة ان هذا النظام والميزان المشهودَين المحيطين بابان بعينهما من هذين الكتابين، ورابطة اتصالهما، وبرزخٌ بينهما، وعنوانان
_____________________
1 في المكتوب العاشر وفي حاشية المقصد الثاني من الكلمة الثلاثين يميّز الاستاذ النورسى بين الكتاب المبين والامام المبين.



المثنوي العربي النوري - ص: 279
لقبضتي الرحمن: ولا رَطبٍ ولايابسٍ الاّ وهما داخلانِ من باب هذين البابين في الكتاب المبين. ولأجل انه لاخارج في الكون والوجود من البابين بالمشاهدة، فكل شئ داخل في ذلك الكتاب.
واما القرآن المبين الذي هو كتاب "صفة الكلام" فهو ترجمان الكتابين الغيبيّ والشهودي، القُدرتي والعلمي. وفهرستةُ البابين وفذلكة القبضتين.
ومن دساتير هذه الكتب الثلاثة الآتية من الصفات الثلاث التي هي "العلم والقدرة والكلام"؛ أنّ كلَّ حي بل كلَّ شئٍ كعسكرٍ موظفٍ وكعبدٍ مأمورٍ، انما يعمل بحساب الملِكِ المالكِ له، لابحساب نفسه ومالكيتها، ولا لِذاته وللذته، بل انما لذّته في ذات وظيفته. ومن زَعمَ انه مالكٌ فهو هالكٌ ومَن تملّك تهتّك.
اعلم! ان السموات مصنوعة من غير فطور ترونها. فصانعها اعزُّ واجلُّ واكبرُ واعظمُ من ان يتعسَّر عليه ايجادُ كل جزئيات كلِّ ما في جوفها، ومن ان يخرُج من ملكه شئٌ ما من الاشياء.. فلأجل الاشتباك التام بين جزئيات الانواع لابد ان يكون خالقُ نوعٍ واحد كالسمك والذباب مثلا، خالقُ كل الانواعِ. فله المُلكُ وله الحمد وله الخلقُ وله الامرُ وله الحُكمُ لا إله الاّ هو..
اعلم! 1 ان النبي صلى الله عليه وسلم ونبوتَه فذلكةُ الكمال والخير، وان مسلكه والدين فهرستة السعادة والحُسن المجرد. وقد نرى في العالم كمالاً فائقاً وحقاً ناطقاً، وخيراً شاهقاً وحُسناً شارقاً، فبالضرورة يكون الحقُ والحقيقة في جانب النبي، والضلالةُ والوهم والعدم في خلافه. فإن شئت فانظر من الوف الوف محاسن العبودية التي جاء بها النبيُّ الى هذا الواحد: وهو توحيد قلوب الموحدين وجمعُ ألسنتهم في امثال صلاة العيد والجمعة والجماعة، بحيث يقابل هذا الانسانُ عظمة خطاب المعبود الازلي بجميع اصوات القلوب وادعيتها واذكارها، بتظاهرٍ وتظافرٍ في اتفاقٍ وتساندٍ وتجاوب في وسعةٍ كأن هذه الارض تنطقُ هي بنفسها، وتصلي باقطارها وتمتثل باطرافها أمر: "اقيموا الصلاة" النازل بالعزّة والعظمة من فوق السموات السبع، حتى صار هذا الانسان المخلوق الضعيف - مع صغره وكونه كذرة بين هذه العوالم - عبداً محبوباً لخالق الارض والسموات وخليفة الارض، ورئيس الحيوانات،
_____________________
1 تراجع المذكرة التاسعة.



المثنوي العربي النوري - ص: 280
وغاية خِلقةِ الكائنات. الا ترى ان لو اجتمع في الشهادة كما في الغيب اصواتُ المكبرين البالغين مئات الملايين في آن واحد بـ"الله اكبر" في صلاة العيد وادبار الصلوات تساوي تكبير كرة الارض لو كبّرت، فكأن الارض في العيد تتزلزل زلزالها فتكبّر الله باقطارها واوتادها، وتتكلم من صميم قلب قِبلَتِها، بفم مكَّتِها بـ"الله اكبر" فتتموج كلمتُها متمثلةً في هواء كهوف افواه المؤمنين المنتشرين في اطرافها، بل - وكذا - في اطراف البرزخ والسموات جل جلالُ مَن خَلَقها ومَهَّدها وجعلها مسجداً لعباده سبحانه..
اعلم! 1 يامن يحب ان ينظر ويصل الى نور معرفة الحق سبحانه من مسامات الدلائل والبراهين ومن مرايا الآيات والشواهد، لاتتجسّس باصابع التنقيد ماجرى عليك، ولاتنقد بيد التردد ماهبّ اليك، ولاتمدنّ يدَك لأخذ نورٍ اضاء لك. بل تجرّد وتعرّض وتوجّه.. فاني قد شاهدت من انواع الشواهد والبراهين ثلاثة:
قسم منها كالماء يُرى ويُحسّ، ولكن لايُستمسك بالاصابع، فتجرد عن خيالاتك وانغمس فيه بكليتك، ولاتتجسسّ باصبع التنقيد، فأنه يسيل ولايرضى بالاصبع محلا.
وقسم منها كالهواء يُحسّ ولكن لايُرى ولايُتخذ.. فتعرّض بوجهك وفمك وروحك لنفحات رياح الرحمة، ولاتقابلها بيد الاخذ والتنقيد والتردد بدل تنفسِ الفم وتروّح الروح، فانه يزول، وهو منطلقٌ ولايرضى باليد منزلاً.
وقسم منها كالنور يُرى ولكن لايُحس ولايُؤخذ؛ فتوجّه ببصرِ بصيرتك مقابلاً له بقلبك، فان النور لايؤخذ ولايُصاد الا بالنور، ولاتمدّ يداً ماديةً حريصة، ولاتزنه بميزان الماديات فانه يختفى، وان لم ينطفى. ولايرضى بالماديّ حَبساً وقيداً وبالكثيف مالكاً وسيداً..
اعلم! 2 وانظر الى درجة رحمة القرآن وشفقته على جمهور العوام ومراعاته لبساطة افكارهم كيف يكرر ويُكثر الآيات الواضحة المسطورة في جباه السموات والارض فيُقرؤهم الحروفات الكبيرة الظاهرة التي تُقرأ بكمال السهولة بلا شبهة
_____________________
1 تراجع المذكرة العاشرة.
2 تراجع المذكرة الحادية عشرة.




المثنوي العربي النوري - ص: 281
كخلق السموات والارض، وانزال الماء من السماء، واحياء الارض وامثالها. ولا يوجّه الانظار الى الحروف الدقيقة المكتوبة في الحروف الكبيرة الاّ نادراً. ثم انظر الى جزالة بيان القرآن كيف يتلو على الانسان ما كتبَتْه القدرةُ في صحائف الكائنات ، حتى كأن القرآن قراءة للكائنات ونظاماتها وتلاوة لشؤون مكونها وافاعيله. فان شئت فاستمع بقلب شهيد امثال سورة "عمَّ" وآية (قُل اللّهُمَّ مالِكَ المُلك) 1 وامثالهما..
اعلم! 2 اني قد اكتب تضرع قلبي الى ربي - مع ان من شأنه ان يُستَرَ ولايُسطر - رجاءً من رحمته تعالى ان يقبل نطق كتابي، بدلا عني اذا اسكت الموت لساني "ومنه هذه المناجاة":
ياربي الرحيم ويا الهي الكريم!.
قد ضاع بسوء اختياري عمري وشبابي وما بقي من ثمراتهما الاّ آثام مؤلمة مذلة، وآلام مضرة مضلة، ووساوس مزعجة معجزة. وانا بهذا الحمل الثقيل والقلب العليل والوجه الخجيل متقرب بالمشاهدة بكمال السرعة بلا انحراف وبلا اختيار كآبائي واحبابي واقاربي واقراني الى باب القبر، بيت الوحدة والانفراد في طريق ابد الآباد للفراق الابدي من هذه الدار الفانية الهالكة باليقين، والآفلة الراحلة بالمشاهدة، ولاسيما الغدارة المكارة لمثلي ذي النفس الامارة.
فياربي الرحيم، وياربي الكريم!.
اراني عن قريب قد لبست كفني وركبت تابوتي وودعت احبابي وتوجهت الى باب قبري، فانادي في باب رحمتك:
الامان الامان ياحنان يامنان نجني من خجالة العصيان.
آه كفني على عنقي، وانا قائم عند رأس قبري، ارفع رأسي الى باب رحمتك انادي:
الامان الامان يارحمن ياحنان خلصني من ثقل حمل العصيان.
_____________________
1 آل عمران : 26
2 تراجع المذكرة الثانية عشرة.




المثنوي العربي النوري - ص: 282
آه انا ملتف بكفني وساكن في قبري وتركني المشيعون، وانا منتظر لعفوك ورحمتك.. ومشاهد بان لاملجأ ولامنجأ الا اليك وانادي:
الامان الامان من ضيق المكان ومن وحشة العصيان ومن قبح وجه الآثام، يا رحمــن يا حنان يامنان يا ديان نجني من رفاقة الذنوب والعصيان..
الـــهي !.. رحمتك ملجئي ووسيلتي، واليك ارفع بثي وحزني وشكايتي..
ياخالقي الكريم، وياربي الرحيم، وياسيدي، يامولاي!
مخلوقك ومصنوعك وعبدك العاصي العاجز الغافل الجاهل العليل الذليل المسيئ المسن الشقي الآبق قد عاد بعد اربعين سنة الى بابك ملتجأ الى رحمتك، معترفاً بالذنوب والخطيئات، مبتلى بالاوهام والاسقام، متضرعاً اليك. فان تقبل وتغفر وترحم فانت لذاك اهل وانت ارحم الراحمين . والا فأي باب يقصد غير بابك، وانت الرب المقصود والحق المعبود. ولا اله الا انت وحدك لاشريك لك..
آخر الكلام:
اشهد ان لاَ إله الاّ الله واشهد ان محمّداً رسول الله


المثنوي العربي النوري - ص: 283
ذيل الزهرة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على نعمته بانزال القران، وعلى رحمته بارسال سيد الانام، عليه وعلى آله الصلاة والسلام.
اعلم! ان الفاطر الحكيم جل جلاله جعل النباتات والحيوانات - لا سيما صغارهما - من اوسع ميادين تصرفات قدرته، ومن اكثر مظاهر تجليات صفاته، ومن اغلب مرايا جلوات اسمائه؛ لأسرارٍ غالية وحكمٍ عالية: منها: ان النبات كالنواتات للارض، وان الحيوان ثمرةُ العالم. والنواة انموذج مصغّر للشجرة، والثمرة مثال مصغر لها. فكل ما يتجلى عليها يتجلى عليهما ايضاً.
فما دام ان غايات الخلقة والحياة هي المظهرية لتجليات اسماء ذي الجلال والجمال والكمال المطلق، تكون العناية بتكثير جزئيات النبات والحيوان، لاسيما دقائقهما هي الأوفق للحكمة الأزلية.


المثنوي العربي النوري - ص: 284
روي ان موسى عليه السلام اشتكى الى الله من كثرة البعوضات الهاجمة عليه، وسأل: "ما الحكمة في تكثيرها؟ فأوحى اليه: ان البعوض يسأل: لِمَ خلقت هذا الانسان بهذه الجسامة، وهو يغفل عنك؟ ولو خلقت رأسه بعوضاتٍ لبلغت مائة الف مسبحين بحمدك في عالمهم، وذاكرين لك بين اخوانهم، مظهرين لجلوات اسمائك ونقوش صنعتك بلسان قالهم وحالهم".
نعم! ان القرآن المعنوي المكتوب بمداد النجوم على صحائف طبقات السموات، إذا قرأ على الانظار آيات العظمة والجبروت التكوينية، يقرأ معه - رأساً برأس - القرآنُ المكتوب بمداد الجواهر الفردة على جزء لا بتجزأ في حجيرة عينك: آيات العلم والحكمة.
فاذا سمعت من ذاك: سبحانه ما أعظم شأنه! سمعت من هذا ايضاً: سبحانه ما ادق حكمته وما ألطف صنعته! فاذ تساوى القرآنان، واقتضت الحكمة تكثير نسخ احدهما - وتكثير نسخ الكبير لا يفيد الناظرين - فلا بد من تكثير نسخ الصغير للمطالعين المتفكرين الغير المحدودين، من المَلَك والجن والانس وغيرهم. وفي تكثير النسخ لايبقى الكتاب كتاباً واحداً، بل تتنوع الكتب وتتفاوت الفوائد وتتعدد المفاهيم، فتتلاحق الامثالُ فيتزايد الحُسن والجزالة. ولولا ادراج كثير من سور الكتاب الصغير ونُسَخه في بعض حروفات القرآن الكبير لفاق الصغير على الكبير بدرجة صغره!. ومنها ايضاً: ان اتم التجليات؛ تجلي الاحدية. واكمل الصنعة؛ ادراج الاكبر بتمام نقوشه في الأصغر. وان الثمرة والنواة بالنسبة الى النبات، وان النبات والحيوان بالنسبة الى الارض، وان الانسان والنبي بالنسبة الى العالم. وان القلب والسر بالنسبة الى الانسان.. انموذج مختصٌر جامع مظهر لجميع الاسماء المتجلية على الاصل والكل والمحيط.
وان الثمرة - مثلاً - كما انها "جزء" من الشجرة وهي "كلّها"، فتشير من هذه الجهة الى الواحدية.. كذلك "كالجزئي" لها تشتمل على تمام الشجرة وهي "كلّيها" فترمز بهذه الجهة الى الأحدية.. فالواحدية شاهدة الوحدة عند تجلي الاحدية في مرايا الكثرة والجزئيات.


المثنوي العربي النوري - ص: 285
مثلا (ولله المثل الاعلى) ان الضياء المحيط في النهار مثال الواحدية، وتمثال الشمس في كل ذرة شفافة وقطرةٍ وحوضٍ وبحرٍ ونجوم سيارة مثال لتجلي الاحدية.
فاذا رأيت الشمس في مرآتك بلون مرآتك، وبما تقتضيه وضعيتّها، ثم رأيتها في مرايا اخرى،فتنظر الى الضياء، فيشهد لك بالوحدة، وان لا كثرة في المتجلي، كما تتوهم. وتنشد الكثرة والمرايا:
عباراتنا شتى وحسنك واحد وكلٌ الى ذاك الجمال يشير
فيُتحدس من هذه الاسرار، ان الفاطر الحكيم جلّت حكمته، ودقّت صنعته متوجهٌ بألطف قدرته وأتمّ عنايته وأكمل رحمته وأدق حكمته من العالم الى الارض، ومنها الى ذوى الحياة، ومنهم الى الانسان، ومن فرد الانسان الى قلبه، ومن نوع الانسان الى ما هو قلبُ النوع وقلبُ العالم ونواتُه التي خُلق العالمُ عليها، وثمرتُه المنوّرة التي انتهى اليها مخلوقاً لأجلها، وتمثال محبة فاطر العالم، ومثال رحمته.. وما ذلك القلب العالي الغالي المطهّر المنزّه الاّ سيدنا وسيد الأنام محمد عليه صلوات وتسليمات بعدد ثمرات شجرة العالم.
اعلم! يا من يتوهم الاسراف والعبثية في بعض الموجودات! ان كمال النظام والميزان في انشاء كل موجودٍ يطرد هذا الوهم إذ النظامُ خيط نُظم فيه الغايات المترتبة على الاجزاء الجزئية والتفاصيل الفرعية. ومن المحال ان يراعي احدٌ كلّ غايات تفاصيل قصرٍ - بدلالة انتظام بنائه - ويترك غاية المجموع، التي بها تصير الغايات الجزئية غاياتٍ.
فان شئت التحقيق فاستمع يا من له قلب شهيد وسمع حديد!: ان لكل شئ غايات دقيقة كثيرة تعود منها الى الحي القيوم المالك بمقدار مالكيته وتصرفه بمظهرية الشئ لانواع تجليات اسمائه، وما تعود الى الحي الاّ بدرجة تلبّسه الجزئي.
وان كل شئ من الاشياء يصير هدفاً مشتركاً بين ذوي العقول، فلا يصير عبثاً اصلا؛ اذ إذا لم يطالعه هذا هنا الآن، طالعه هؤلاء، ومع ان وجوه استفادة كل أحدٍ من كل شئ في غاية الكثرة، وان جنود الله لا تحصى
(وَمَا يعلمُ جنودَ رَبّك إلاّ هو) 1. فلا شئ في الكون الاّ ويتزاحمُ عليه - بلا مزاحمةٍ - انظارُ مَن لا يحصى
_____________________
1 المدثر : 31



المثنوي العربي النوري - ص: 286
من الملائكة المسبّحين المقدّسين باجناسهم وانواعهم المالئين للكون، ومن الجان المتحيرين المتفكرين باقسامهم واصنافهم، ومن الارواح المكبّرين المهللين بطوائفهم، وقبائلهم وغيرهم ممن لا يمنعهم كثيفات الاشياء عن رؤية ما في اجوافها، ولا يشغلهم شهودُ شئ عن شئ، وفوق الكل رؤية صانع الكل لصنعته.. وكذا كثير من الناس المؤمنين المتنبهين، بل وكذا الحيوانات المتحسسات المتأثرات بحواسهم.
فان قلت: أية آيات كتاب الكائنات تدل على وجود معتبرين و متحيرين و متفكّرين ومسبحّين من غير الانسان؟ واي سطرٍ من ذلك الكتاب يشير اليه؟.
قيل لك: آية النظام في سطر الميزان من صحيفة الحكمة.
الا ترى انك اذا ذهبت الى دار تمثيل - مثلا - فرأيت في تلك الدار انواعاً كثيرة من الغرائب التي تتحير فيها الانظارُ، واصنافاً من الملاهى التي تستحسنها الاسماعُ، واقساماً متنوعة من السحر والشعبذة التي تتلذذ بها العقول والخيال. وهكذا من كل ما يتلذذ به مالا يحد من لطائف الإنسان وحواسه وحسياته، ثم نظرت في ساحة محل التمثيل، فما رأيت الاّ صبياناً صماً عمياً مفلوجي الحواس والحسيات الاّ قليل منهم. فبالضرورة العرفية تتفطن وتتيقن بأن خلف هذه الحُجُب والاستار المرسلة على وجوه الجدار عقلاء مختلفون في الاذواق والمشارب لهم حواسُ سليمة جاءوا للتنزّه، يشتاقون لكل ما ابدع وشهر في ذلك المجلس، ويرونك والتمثيل من حيث لا ترونهم.
فاذ تفطنت لسر التمثيل، فانظر من دار الدنيا الى هذه المصنوعات. فمنها كزرابي مبثوثة، وفُرُشٍ مرفوعة، وحلل ملبوسة، وحلية منثورة، وصحائف منشورة.. ومنها ازاهير وثمرات اصطفت؛ تدعو بألوانها وطعومها وروائحها ذوى الحياة واصحاب الحاجات وتدعو بنقوشها وزينتها وصنعتها اولى الالباب وذوى الاعتبار.. ومنها نباتات شمّرت عن ساقاتها لوظيفة خلْقَتها، وحيوانات قامت على ارجلها لوظيفة عبوديتها، واكثرها لا تشعر بما أودع في أنفسها من المحاسن الرائقة واللطائف الفائقة..
فليست تلك اللطائفُ والمحاسن لِحَمَلَتَها البُهْمُ العُجْمُ، بل ما هي الاّ لغيرها السميع البصير.. ومنها الى مالا يحد ولا يعد. فمع كل هذه الحشمة الجلابة والزينة الجذابة، وانواع التلطيفات والتوددات، وانواع التحببات والتعرفات، واقسام التعهدات والتعمدات واصناف التزينات والتبسمات واشكال الاشارات والجلوات،


المثنوي العربي النوري - ص: 287
وغير ذلك من ألسنة الحال التي كادت ان تنطق بالقال مع انه لا نرى ظاهراً في ساحة الدنيا من ذوي الاعتبار والابتصار الاّ هؤلاء الثقلين اللذين صيرت الغفلة اكثرهم كصبيانٍ صمٍ عميٍ فلج في ظلمات طاغوت الطبيعة يعمهون.
فبالحدس الصادق وبالضرورة القطعية وبالبداهة العقلية، لابد ان يكون الكون مشحوناً من ذوي الارواح المعتبرين المسّبحين مما عدا الثقلين. كما قال من قوله القول:
(تسبّح له السمــوات السّبع والارض ومن فيهن، وان من شئ الاّ يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) 1.
اعلم! ان بمقدار توسع تصرف القدرة في الجزئيات وتزييد الامثال تتقوى العناية بالفرد. فلا تقل: انا قطرة في بحر، فيُنسينى البحرُ. كلا! بل البحر شاهدٌ على انك بنسبة محاطيتك به محفوظ ابداً بنظام قوي نافذ بقوته في جميع امثالك؛ إذ بدرجة الصغر والخفاء والمحُاطية يتزايد الاهتمام به، والمصونية من الاهمال، والمحفوظية من مداخلة الغير، ومن لعب التصادف، ويزيد ظهورُ المخلوقية والمجعولية.
الا ترى أن المركز أصون من تسلط الغير والمهاجمات، وان النواة أحصن من لعب التصادفات وتعجيز العاصفات، وان الاهتمام بالنواة أشد؟
ايها الانسان! انت نواة الارض والارض بيضة العالم. ومن هذا السر يُكثر القرآن ذكر خلق السمــوات والارض ويجعله عنواناً لخلق كل شئ.
اعلم! وانظر الى كمال النعمة في كمال الحكمة، وكمال الحكمة في كمال النظام، وكمال النظام في كمال الميزان، في صنعة الحواس الخمسة الانسانية؛ اذ فطَرها فاطرها بوضعيةٍ وجهزّها صانعها بجهازاتٍ، يحس الانسانُ بها ويَذُوّق صاحَبَها خصوصيات جميع انواع الثمرات والازهار والاصوات والروائح وغيره، حتى ان في حاسة الذائقة حسيات رقيقة دقيقة منتظمة بعدد طعوم جميع اجناس الثمرات وانواعها واصنافها.. وهكذا حاسة السمع لخصوصيات مالا يحد من الاصوات. وقس سائر الحواس الظاهرة، ولاسيما الباطنة التي هي اكثرُ غناءً وجهازاً.
ومن هذا السر بلغت جامعيةُ فطرة الانسان الى درجة صيّرَت هذا الانسان: مظهراً لما لا يحد من انواع تجليات اسماء فاطره جلّ شأنه، وذائقاً لما لا يعدّ من الوان نِعمه، عمّ نواله.
_____________________
1 الاسراء : 44



عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 03-23-2011
  #4
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: المثنوي العربي النوري - زهرة


المثنوي العربي النوري - ص: 288
مثلك ايها الانسان، كمثل المركز العمومي للتلفون، فكما ان فيه لمخابرة كل موقع في الولاية مفتاح خاص، كذلك فيك لحسّ ذوق جميع انواع نِعَمه، ولذوق لذة مظهريتك لما لا يحد من اقسام تجلياته مفاتيح مخصوصة عُلّقت برأسك ولطائفك، فاستعملها كما يرضى به بارئُها، بالحركة بميزان شريعته.
ومن هذا السر يمكن التفاوت بلا نهاية بين مراتب لذائذ شخصين هما في عين جنةٍ وفي عين مكانٍ. وبشارة (المرء مع من أحب) 1 قد تجمع بين الادنى والاعلى.
اعلم! ان ما يرى عند اختلاط اشتات الاشياء وأوباشها من المشوشية المنافية للنظام والميزان، فليس مما لعب به التصادف، بل خرج من صورة النظام الى نقش الكتابة، لكن تلك الكتابة غير مقروءة بالسهولة للنظر الظاهري الامي الناظر الى معكوسها في مرآة الوهم!
ألا ترى أن تلك الاشتات لو كانت بذوراً، اذاً تنبتت، تكشفت عن نظام تام. فالجمع بينها كتابةٌ غريبة لقلم القدر.
اعلم! ان الحجة القاطعة على خاتمية النبوة الأحمدية، ايصالُها حدود الدين في كل قاعدةٍ منه الى حدٍ لا يتعقل أوسع ولا اكمل ولا اتمّ منه.
مثلاً، في مسألة التوحيد والربوبية، يقول:
(بيده ملكوت كل شئ) 2 (هو آخذ بناصية كل شئ) 3 (والسّمــوات مطويات بيمينه) 4 (هو الذي يصّوركم في الارحام كيف يشاء) 5 (هو الاول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شئٍ عليم) 6 (وَمَا تَشَاؤون الاّ ان يشاء الله) 7 (وَنحْنُ اقرب اليه من حبل الوريد). 8
وكذا يحكم ذلك الدين بأن نهايات ما تنقسم اليه المادة وتنبسط وتصل اليه حدود الماديات من الجواهر الفردة والذرات واعظم ثمرات العالم من الشموس
_____________________
1 رواه البخارى في الادب 96 ومسلم برقم 2640 عن ابى موسى الاشعرى واخرجه احمد 4/392، 395، 398، 405 وابن حبان 557 .
يراجع في تفصيل هذه الفقرة " الكلمة الثامنة والعشرين" من مجموعة " الكلمات".
2 يس : 83
3 هود : 56
4 الزمر : 67
5 آل عمران : 6
6 الحديد : 3
7 الانسان : 30
8 ق : 16



المثنوي العربي النوري - ص: 289
والسيارات، متساوية الاقدام كتفاً بكتف في امتثال امر خالقها المنزّه عن صفاتها، المقدس عن حدودها ولوازماتها.
وفي مسألة الحشر والتوحيد، وصل الى مرتبة لا حد فوقها بالبداهة.
وهكذا في كل مسألة مسألة، فلا يمكن فيه الاكمالُ والاتمام بآخرِ. فحقه الابدية والدوام الى يوم القيام.
اعلم! ان قلبي قد يبكي في خلال انيناته العربية بكاءً تركياً، بتهييج المحيط الحزين التركي، فاكتب كما بكيت:
[لا اريد من كان زائلاً لا اريد
أنا فان، مَنْ كان فانياً لا اريد، أنا عاجز، من كان عاجزاً لا اريد
سلّمت روحي للرحمن، سواه لا اريد
بل اريد،
حبيباً باقياً اريد.
انا ذرة شمساً سرمداً اريد.
انا لا شئ ومن غير شئ، الموجودات كلها اريد.
* * *
لا تدعني الى الدنيا، فقد جئتها ورأيت الفساد.
اذ لما حجبت الغفلة انوار الحق،
رأيت الاشياء والدنيا اعداءً ضارين.
ذقت اللذائذ، ولكن وجدت الألم في زوالها.
أما الوجود، فقد لبسته،
آه لا تسل كم عانيت من الالم في العدم.
ان قلت الحياة، فقد رأيتها عذاباً في عذاب.
نعم، لما استتر نور الحق عني،
اذا بالعقل يتحول عقاباً، ورأيت البقاء بلاء، والكمال هباء،
والعمر ذهب ادراج الرياح.


المثنوي العربي النوري - ص: 290
نعم! بدونه، انقلبت العلوم اوهاماً.
واصبحت الحكم اسقاماً، والانوار ظلمات، والاحياء أمواتاً،
والاشياء اعداء.
ولمست الضر في كل شئ.
والآمال انقلبت الآماً.
والوجود هو العدم بعينه. وصار الوصال زوالاً.
والالم يعصرنى مما لابقاء فيه.
نعم! ان لم تجد الله فالاشياء كلها تعاديك؛
اذى في اذى، بل هو عين الاذى.
وان وجدت الله،
فلن تجده الاّ في ترك الاشياء.
فرأيت بذلك النور: الجنة في الدنيا،
وبدت الاموات احياء.
ورأيت الاصوات اذكاراً وتسابيح.
والاشياء مؤنسة، واللذائذ في الآلام نفسها.
والحياة اصبحت مرآة تعكس انوار الحق.
والبقاء رأيته في الفناء.
والذرات تلهج بالذكر.
يقطُر من السنتها وتتفجر من عيونها؛
شهدُ شهادة الحق.]
وفي كل شئ له آية تدل على أنه واحد
اعلم! 1 يا من يتوهم اللذة والسعادة الدنيوية في الغفلة وفي عدم التقيد بالدين!
اني جربت نفسي مرةً فرأيتني على جسر امتد من رأس جبلٍ الى رأس جبل شاهقين، وتحتهما وادٍ عميق في غاية العمق، وقد أظلم علينا الدنيا بما فيها.
_____________________
1 تفصيل هذا المثال في الكلمة الثالثة والعشرين.




المثنوي العربي النوري - ص: 291
فنظرت في يميني الماضي، فما رأيت الاّ ظلمات عدمية مدهشة.
ثم في يساري المستقبلي، فما رأيت الاّ غياهب مهددة دهاشة.
ثم الى تحتي، فرأيت عمقاً الى اسفل السافلين.
ثم الى فوقي، فما رأيت الاّ غيماً بكماً صماً يمطر الغم واليتم واليأس والبأس..
ثم في امامي فرأيت في خلال الظلمات عفاريت وعقارب وليوثاً وذئاب كاشرة اسنانها للافتراس..
ثم في خلفي، فما رأيت مدداً ولا مغيثاً ولا معيناً.
فبينما انا مدهوش مأيوس نادم من تجربتي، ! إذ نبهتني الهداية الربانية، فرأيت وقد طلع على الانام قمر الاسلام واشرقت شمس القرآن، فرأيت جسر الحياة طريقاً تمر بين جنان النعم السبحانية وتنتهي الى جنة الرحمة الرحمانية..
ويميني الماضي بساتين مزهرة بالصلحاء، منورة مثمرة بالانبياء والاولياء تجري من تحتهم انهار الدهور وهم في البقاء خالدون.
ويساري فراديس تزهر فيها الآمال والأماني برحمة الحنان المنان..
وفوقنا سحائب الرحمة تفيض علينا ماء الحياة، وفي خلالها تبتسم الشمس بأنوار الهداية والسعادة الابدية.
وأما ما في أمامي من الكائنات، فاخواني واحبابي وانعام مؤنسات، صوّرتها ظلمةُ الضلالة وحوشاً موحشات، فقرأت علينا هذه الواقعة:
(الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات الى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور الى الظلمات). 1
يا نور النور بحق اسمك النور اخرجنا من الظلمات الى النور.. آمين..
اعلم! ايها السعيد المجنون المحزون !ان مثلك كمثل صبي أبله قعد على ساحل البحر يبكي دائما لزوال الحبابات المتشمسة. كلما زال واحد بكى عليه ظناً منه انطفاء الشُميسة المتبسمة في الحباب بزوال الحباب وتحوله، وقد يبكي لتكدر مافي الحباب وتشوهه باختلاط مواد كثيفة به، ولا يرفع رأسه حتى يتفطن لتنزّه الذات - التي هذه التماثيل جلوات انوارها المتجددة على وجه البحر وخدود الامواج وعيون
_____________________
1 البقرة : 257



المثنوي العربي النوري - ص: 292
القطرات - عن الزوال بزوال مرايا تجلياته، بل ليس في ما ترى زوال مؤلم ولا فراق أليم.
أما الجمال بمحاسنه وجلواته فثابت بكمال حشمته في تجدد شؤونه وتعدد مراياه.
وأما المرايا والمظاهر فتظهر لوظيفتها وهي راقصة، فاذا تمت الوظيفة استترت وهي ضاحكة.
كذلك أنت، قاعد على ساحل بحر الدنيا تتألم باكياً على افول ذوي الكمال والجمال والحسن، وعلى زوال ثمرات النعم عند انقضاء أوانها، تزعم بالغفلة ان الجمال ملكُ ذى الجمال والثمرات مال الشجرة، وتغتصبهما منهما عاصفات التصادفات فتلقيهما في ظلمات العدمات. أفلا تعقل ان من نوّر ماتحبه بنور الحسن هو الذي نوّر كل ازاهير بستان الكائنات وشوّق عليها قلوب البلابل العاشقين.
الى كم تبكي ايها المسكين على زوال ما في يدك من الثمرة! فانظر الى تواتر نِعَم فالق الحب والنوى في ابقاء شجرة تلك الثمرة.. ثم الى دائرة انعاماته في اقطار الارض من امثال تلك الشجرة ان عقمت.. ثم الى دائرة تجدد احساناته في تجدد الفصول والسنين ان صارت سنتك شهباء.. ثم الى دائرة ادامة احسانه حتى في عالم المثال والبرزخ بأمثال ما شاهدت في عالم الشهادة.. ثم الى دائرة انعاماته الواسعة الابدية في عالم الآخرة باشباه ما استأنست به في حديقة الارض، ثم.. و.. ثم.. وهكذا! فلا تنظر الى النعمة بالغفلة عن الإنعام حتى تحتاج الى التشفي بالبكاء، بل انظر من النعمة الى الانعام ودوامه، ومن الإنعام الى المنعم ووسعة فيضه وكمال رحمته، فاضحك شاكراً له، وبفضله فافرح.
وحتى متى تدمع عينُك ويجزع قلبُك على فراق جمال زال! فانظر الى كثرة ووسعة الدوائر المتداخلة المحيطة بما تحبه تنسيك ألم فراقه بإذاقة لذة تجدد أمثاله وترادف اشكاله. وتلك الدوائر المتفاوتة صغراً وكبراً الى اصغر من خاتمك واكبر من منطقة البروج، وزوالاً وبقاءً الى آنٍ ودقيقة والى دهر وأبدٍ؛ مظاهر ومرايا ومعاكس ومجاري لجلوات ظلال انوار جمال ذي الجلال والاكرام الازلي الابدي السرمدي القيوم الباقي المقدس عن الحدوث والزوال المنزّه عن التغير والتبدل. فلا تظنن ان مافي المرآة ملك للمرآة، كي لا تبكي على مافي المرآة بموتها وانكسارها، فارفع رأسك عن


المثنوي العربي النوري - ص: 293
الدنيا بخفضه الى منظار قلبك لترى شمس الجمال، فتعلم ان كل مارأيت واحببت انما هو من آياته نِعَمٌ.. ومن آيات جماله انْ زيّن السماء بمصابيحها والارض بازاهيرها.. ومن آيات حُسنه ان خلق الانسان في احسن تقويم.. وان كتب العالم في ابدع ترقيم.. ومن ايات بهائه ان اشرق ارواح الانبياء ونوّر اسرارالاولياء وزيّن قلوب العارفين بانوار جماله المجرد. جلّ جلاله.
اعلم! يا انا! اراك انك لا ترى تناسباً بينك - وانت عجز مطلق وفقر مطلق، قد تضايقت عليك الحدود والقيود حتى صرت كذرة غابت في رمال الجزئيات وكنملة تراكمت عليها جبال الحادثات، وكنحلة تفاقمت عليها العاصفات - وبين من لا نهاية لقدرته وغنائه، ولا حد ولا قيد لتجليات اسمائه وصفاته، وجميع الخلق في قبضة قدرته، والسموات مطويات بيمينه، لا تتحرك ذرة في الكون الاّ باذنه، لاشريك له في ملكه والوهيته، ولا منازع له في جبروته وربوبيته، ولا اله الاّ هو.
نعم! لو كانت وظيفتك في الدنيا الاشتراك مع فاطرك في ربوبيته سبحانه، لكانت المناسبة لازمة في المعاملة معه، لكن هيهات! اين يد البعوضة من نسج قميصات مطرزات قُدّت على مقدار قامات هذه العوالم، بل وظيفتك في فطرتك وغاية كمالك في استعداد ماهيّتك انما هي: العبودية التي على المحوية تنبتت، ومنها ابتدأت والى المحبوبية انتهت، واياها اثمرت. والعبودية ضد الربوبية والمالكية. فعدم المناسَبة هي المناسِبة. فبدرجة علمك ببعدك عن الربوبية والمالكية تصير عبداً محبوباً مرحوماً.
وان العبودية مرآة الربوبية بالضدية ككتابة الحروف النورية على صحيفة الظلمة، فكلما تقربت الى العدم تراءت منها اعالى مراتب جلوات الوجود للواجب الوجود جل جلاله ولا اله الاّ هو..
اعلم! 1 يا من يتوهم المبالغة في بعض ماورد في فضائل الاعمال!
مثلاً: قد يروى: من فعل هذا مثلاً كان له مثل ثواب الثقلين.. حتى قال بعض : ان المراد الترغيب فقط، وبعض: مطلق الكثرة. وقد انكشف لي في ما مضى؛ ان القضية في تلك المتشابهات مطلقة وقتية يكفي في صدقها وجود الحكم في بعض
_____________________
1 الغصن الثالث من الكلمة الرابعة والعشرين يوضح هذه المسألة.




المثنوي العربي النوري - ص: 294
الافراد، في بعض الاوقات، فليست تلك القضايا كلية؛ اذ لصحتها شرائط غير مذكورة معروفة. فان كانت كلية فهي قضية ممكنة، وكذا ليست دائمة لتقيدها بالاخلاص وبالقبول.
وقد انكشف لي الآن، ان الثواب فضل الله وفيضه، ونظر العبد لا يحيط بما يعطي من لا نهاية لتجليات فيضه لعبده الذي لا نهاية لاحتياجه في دار بقاء لا نهاية لدوامها.
فما من فيض اذا نظرت اليه من جانب الله، الاّ وفيه جهة من عدم التناهي لو وزن بجميع ما احاط به علم العبد لزاد عليه. مثلاً روي: من قرأ هذا اعطي له مثل ثواب موسى وهرون عليهما السلام.
المراد ان ما ترونه وتتصورونه بنظركم المتناهي في هذا العالم المتناهي من ثوابهما لايزيد على ثواب قراءة آية في نفس الأمر وبالنظر الى الله بشرط القبول والاخلاص.
وكذا ان التشبيه في الكمية دون الكيفية، فللقطرة المتشمسة ان تقول للبحر لا يزيد وجهك على عيني في أخذ فيض الشمس من ضيائها وألوانه.
نعم! ان الثواب ينظر الى عالم الاطلاق، وذرة من ذلك العالم تسع عالما من هذا العالم، كما تسع ذرة من زجاج عالم السماء بنجومها.
وكذا قد يتيسر لأحد فتح خزينة من رحمة بكلمة طيبة في حالةٍ قدسية، فيقيس الناس على نفسه فيعبر عن القضية الشخصية بالمطلقة الموهمة كليةً والعلم عند علام الغيوب ومقلب القلوب جل جلاله.



عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
المثنوي العربي النوري - شُعْلَةٌ عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 2 03-23-2011 08:21 PM
المثنوي العربي النوري - قطعة من شمة عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 4 03-23-2011 08:14 PM
المثنوي العربي النوري - شَمَّةٌ عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 1 03-23-2011 08:07 PM
المثنوي العربي النوري - ذرة عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 1 03-23-2011 08:04 PM
المثنوي العربي النوري - حبة عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 3 03-23-2011 07:55 PM


الساعة الآن 09:45 PM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir