بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله رب العالمين وافضل الصلاة واتم التسليم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه ومن والاه
لا صفاء مع الحرام
النفس والهوى والشهوات أسباب نكوص الإنسان إلى الدرك الأسفل من النار، إلى الدرك الأسفل من الحيوانية والبهيمية، فمن لم يتذوق طعم الطهر والعفاف والاستقامة لا يصلح لقطع الطريق نحو كمال الانسانية الممكن ونحو أعلى مراتب الجنة
وللنفس حواس إذا مرغتها بالحرام فقدت قدرتها على متابعة المسير نحو نعيم الدنيا والآخرة، وهنا لا صغيرة ولا كبيرة، ولا عصيان ولا فجور، فما دام المرء يعصي رب الأرباب ويصر على عصيانه فهذا من قبيل سوء الأدب والجرأة على الله، فهل هناك صغيرة من سوء الأدب؟ والأمر بيّن واضح عند السالكين إلى ربهم، المعصية الواحدة تفتح أبواب الشرور على النفس، وتجهض كل الجهود في الطاعة والتقرب، وكلما كان الإنسان من أهل الله لم تعد لديه صغيرة، هل سمعتم أن من دأب المحب مع محبوبه أن يخطئ ثم يقول إنما هو خطأ صغير؟
السلوك إلى الله يبدأ بتزكية النفس “قد أفلح من زكاها” وتطويع الهوى “لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به” وكبت الشهوات وإروائها بالطيب والحلال “من رغب عن سنتي فليس مني” فإن سلك المرء هذا الطريق زكت نفسه وتحققت روحه وأحس بالطهر يملأ عليه احساسه وادراكه ووعيه، وكلما سلك أكثر ارتقى أكثر، واستخف بالعصيان أكثر، وأحب مولاه وطاعته أكثر
قال مولانا جلال الدين الرومي: “كان لأحد الفقراء مريد، وكان يسعى له، وفي يوم من الأيام أتى له بطعام من حصيلة السعي فأكل الفقير الطعام وفي الليل احتلم فسأل المريد: من أين أتيت بهذا الطعام؟ أجاب المريد: من فتاة حسناء، رد الفقير: والله لم أحتلم منذ عشرين سنة.. وكان هذا بتأثير لقمتها” (الرومي 181
وفي المأثور روي عن سيدنا أبي بكر أنه أكل يوماً طعاماً فأحس بشيء فلما سأل عن مصدر الطعام علم أن فيه شبهة فمد أصبعه إلى حلقه حتى تقيأ
هذه القابلية التي نراها عجيبة هي نتاج تربية النفس وتزكيتها، وهي نتاج حرص كبير وشديد على الحلال، فأين نحن من هؤلاء؟ لقد اختلط الحرام بأرزاقنا فمن لم يأكل منه أصابه ذر منه، والآن كيف يشعر المرء بعدم استعذاب الحرام؟ وكيف يعيش الخشوع في عبادته، والتقرب في أفعاله وأحواله؟ تعطلت حواس النفس ولم تبق إلا حواس الجسد ولم تؤد حواس الجسد يوماً إلا إلى الهلاك والدمار
قال مولانا الرومي: “وهكذا ينبغي ان يحترز الفقير ولا يأكل لقمة أي انسان، ولأن الفقير لطيف فإن الأشياء تؤثر فيه وتظهر عليه، مثلما يظهر القليل من السواد في الثوب النظيف الأبيض، أما الثوب الأسود الذي اسود من الوسخ لسنوات عديدة، وافتقد كل بياضه فلو انصب عليه ألف نوع من الوسخ والدهن لما ظهر عليه أمام الناس” (الرومي 182
ذكر الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم رجلاً يتمسك بأستار الكعبة شعثاً أغبر وهو يقول: يا رب، يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام فأنى يستجاب له؟ أو كما قال عليه الصلاة والسلام: الحرام يميت القلب ويطعن الروح في مقتل، لا خشوع مع الحرام، لا صفاء مع الحرام، الحرام غبش يملأ زجاج الروح والقلب، الرؤية مع الغبش صعبة أو قل منعدمة، كيف يسلك السالك إلى الله والغبش يحول دونه ودون أن يتحسس الطريق؟
يرى النباتيون ان عدم تناول الغذاء الحيواني يحمي النفس من صفات ما يأكل كالنزق والطيش، والوداعة إلى حدود الجبن، وفقد الإحساس والشعور، وهذا قد لمسوه بالتجربة والملاحظة، فهل دعوى الفقير الذي ذكره مولانا وقد احتلم من مال أتى من حسناء كثيرة على من جاهد وكابد في سلوكه إلى الله؟ ولذلك رأينا ونرى أن الفقراء ويسميهم مولانا بالدراويش يبعدون عن تناول أموال الظلمة والطغاة من الحكام والأسياد، ولا يمكن لمال يأتي من هذه الحظائر إلا أن ينجس البياض والصفاء في دواخلهم، قال مولانا: “الفكر الفاسدة تظهر بتأثير تلك اللقمة الغريبة” (الرومي 182
الآن يمكن أن نفهم من أين أتت الأفكار الشيطانية المتداولة اليوم