فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ} يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى لِلنَّاسِ أَنَّهُ خَالِقُ أَفْعَالِ العِبَادِ، وَأَنَّهُ المَحْمُودُ عَلَى جَمِيعِ مَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ . وَيَقُولُ تَعَالَى لِلْمُسْلِمِينَ: إِنَّكُم لَمْ تَقْتُلُوا الكُفَّارَ يَوْمَ بَدْرٍ بِحَوْلِكُمْ وَقُوَّتِكُمْ، بَلِ اللهُ هُوَ الذِي أَظْفَرَكُمْ بِهِمْ، وَأَظْهَرَكُمْ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ الذِي قَتَلَهُمْ بِأَيْدِيكُمْ.
قولُهُ: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} جاءَتْ "لكنَّ" هنا أَحْسَنَ مجيْءٍ لِوُقوعِها بين نَفْيٍ وإثباتٍ، وقولُه: "وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ" نَفَى عَنْهُ الرَّميَ وأَثْبَتَهُ لَهُ، وذلك باعتبارين: أيْ: ما رَمَيْتَ على الحقيقةِ إذْ رَمَيْتَ في ظاهِرِ الحالِ، أوْ ما رَمَيْتَ الرُّعْبَ في قلوبهم إذْ رَمَيْت الحَصَيَاتِ والتُراب. فقد كَانَ الرَّسُولُ ـ صلى الله عليه وسلم، قَدْ أخَذَ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ، قَبْلَ بَدْءِ المَعْرَكَةِ، فَرَمَى بِهَا فِي وُجُوهِ المُشْرِكِينَ، فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلاَّ أَصَابَهُ شَيءٌ مِنْهَا فِي عَيْنَيْهِ أَوْ فِي حَلْقِهِ أَوْ فِي مُنْخَرِهِ. فَكَانَتْ مِمَّا سَاعَدَ عَلَى إِلْقَاءِ الذُّعْرِ فِي نُفُوسِ قُرَيشٍ وَخِذْلاَنِهِمْ. فقد أَخْرَجَ ابْنُ إسْحقَ، وابْنُ أَبي حاتمٍ عَنْ عُروةَ بْنِ الزُبيرِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، في قولِهِ تعالى: "ولكنَّ اللهَ رَمى" أَيْ: لم يَكُنْ ذلك بِرِمْيَتِك لولا الذي جَعَلَ اللهُ تعالى مِنْ نَصْرِكَ، وما أَلْقى في صُدورِ عَدُوِّكَ مِنْها حتى هَزَمْتَهم: "ولِيَبْلي المؤمنين منْهٍ بَلاءً حَسَناً" أَيْ: يُعَرِّفَ المؤمنينِ مِنْ نعمتِهِ عَليهم في إِظهارِهم على عَدُوِّهم مع كَثْرَةِ عَدُوِّهم وقِلَّةِ عَدَدِهم، لِيَعْرِفوا بِذلِكَ حَقَّهُ ويَشْكُروا بِذلِكَ نِعمِتِه. وَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ فِي ذَلِكَ قَوْلَهُ: "وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رمَيْتَ ولكن الله رمى"، فَالرَّمْيَةُ لَمْ تَكُنْ لِتَبْلُغَ قُرَيْشاً لَوْلاَ إِرَادَةُ اللهِ.
قولُهُ: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا} قَدْ فَعَلَ اللهُ ذَلِكَ لأنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَخْتَبِرَ المُؤْمِنِينَ القَلِيلِي العَدَدِ بِإِظْهَارِهِمْ عَلى عَدُوِّهِمْ، الذِي يَفُوقُهُمْ عَدَداً وَعُدَّةً، اخْتِبَاراً حَسَناً، لِيُنْعِمَ عَلَيْهِمْ بِالنَّصْرِ وَالأَجْرِ. وَلِيَعْرِفُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْهِمْ وَلِيَشْكُرُوهَا.
ويقال بُلِيَ فلانٌ وابْتُلِيَ إذا امْتُحِنَ والبلوَى اسْمٌ مِنْ بَلاهُ اللهُ يَبْلُوهُ، وفي حديثِ حُذيفةَ بنِ اليماني ـ رضي اللهُ عنه، أَنَّهُ أُقِيمَتِ الصلاةُ فَتَدافَعوها فَتَقدَّمَ حذيفةُ فلَمَّا سَلَّم مِنْ صَلاتِهِ قال: لتَبْتَلُنَّ لَها إماماً أَو لَتُصَلُّنَّ وُحْداناً، فقولُهُ لَتَبْتَلُنَّ لها إماماً أيْ: لَتَخْتارُنَّ، وأَصْلُهُ مِنَ الابْتِلاءِ أي: الاخْتِبار، مِنْ بَلاهُ يَبْلوهُ، وابْتَلاهُ أَيْ: جَرَّبَهُ.
قولُهُ: {إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وَاللهُ تَعَالَى سَمِيعٌ لاسْتِغَاثَةِ الرَّسُولِ، عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ النَّصْرَ.
رُوِيَ أَنَّ أَصْحابَ رسولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسَلَّمَ، لمَّا صَدَروا عَنْ بَدْرٍ، ذَكَرَ كلُّ واحدٍ منهم ما فَعَلَ في القتالِ فقالَ: قَتَلْتُ كَذا وأَسَرْتُ كَذا. فَنَزَلَتِ الآيةُ إعْلاماً بأنَّ اللهَ هُوَ المُميتُ والمُقدِّرُ لجميعِ الأَشياءِ، وأَنَّ العبْدَ إنَّما يُشارِكُ بِكَسْبِهِ وقَصْدِهِ وحسْب. وقد اختلفت الرواياتُ في أسباب نزولها، فأخرج ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وعبد بْنُ حميد، وابْنُ جريرٍ الطبريُّ، وابْنُ المنذرِ، وابنُ أَبي حاتمٍ، وأبو الشيخ، عنْ مجاهد ـ رضيَ اللهُ عنه، في قوله تعالى: "فلم تقتلوهم" قال: لأصحابِ محمَّدٍ ـ صلى الله عليه وسلم، حين قالَ هذا قتلتُ وهذا قتلتُ: "وما رَميتَ إذْ رميتَ ولكنَّ اللهَ رمى" قال: محمد ـ صلى الله عليه وسلم، حين حَصَب الكُفَّارَ.
وأَخرجَ عبدُ الرزّاقِ، وابْنُ جريرٍ، وابْنُ المنذرِ، عنْ قَتادةَ ـ رَضيَ اللهُ عنهُ، في قولِهِ تَعالى: "وما رميت إذ رميت" قال: رَماهم يومَ بَدْرٍ بالحَصْباءِ.
وأَخْرَجَ عبدُ الرَزَّاقِ، وعبد بنُ حميد، وابنُ جرير، وابنُ المُنْذِرِ، وابنُ أبي حاتم، عنْ عِكرِمَة ـ رَضِيَ الله عنه، قال: ما وَقَعَ شيءٌ مِنَ الحَصْباءِ إلاَّ في عَينِ رَجُلٍ.
وأَخرجَ عبد بْنً حميد، وابْنُ جرير، وابْنُ أبي حاتم، عنْ سعيد بنِ المُسيّب، رَضِيَ اللهُ عنه، قالَ: لما كانَ يَومُ أُحُدٍ أَخَذَ أُبيّ بْنُ خَلَفٍ يُرْكِضُ فَرَسَهُ حتى دَنا مِنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ، واعْتَرَضَ رِجالٌ مِنَ المُسْلِمين لأُبيّ بْنِ خَلَفٍ لَيَقْتُلوهُ، فقالَ لهم رَسولُ اللهِ ـ صلّى اللهُ عليْه وسَلَّمَ، اسْتَأْخِروا فاسْتَأْخَروا، فأَخَذَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، حَرْبَتَهُ في يَدِهِ، فرَمَى بها أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ وكَسَرَ ضِلْعاً مِنْ أَضْلاعِهِ، فرَجَعَ أُبيّ بْنُ خَلَفٍ إلى أَصْحابِهِ ثَقيلاً، فاحْتَمَلُوهُ حينَ وَلُّوا قافِلين، فطَفِقُوا يَقُولون: لا بأسَ، فقال أبي حينَ قالوا لَهُ ذلكَ: واللهِ لَوْ كانَتْ بالناسِ لَقَتَلَتْهُم، أَلَمْ يَقُلْ إني أَقْتُلُكَ إنْ شاءَ اللهُ؟ فانْطَلَقَ بِهِ أَصْحابُهُ يُنْعِشونَهُ حَتى ماتَ بِبَعْضِ الطَريقِ فَدَفَنوه، قالَ ابْنُ المُسَيّب ـ رَضيَ اللهُ عَنْهُ: وفي ذلك أَنْزَلَ اللهُ تعالى: {وما رَميتَ إذْ رَميْتَ". وأَخرجَ ابْنُ جريرٍ، وابنُ المُنذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ عَنْ سَعيدِ بْنِ المسيبِ، والزُهري ـ رضيَ اللهُ عنهُما، قالا: أُنْزِلَتْ في رِمْيةِ رسولَ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم، يَومَ أُحُدٍ أبيَّ بْنَ خَلَفٍ بالحَرْبَةِ وهو في لأْمَتِهِ، فخَدَشَهُ في تَرْقُوَتِهِ فجَعَلَ يَتَدَأْدَأُ عَنْ فَرَسِهِ مِراراً حتى كانتْ وَفاتُهُ بها بعد أيّامٍ، قاسى فيها العذابَ الأَليمَ مَوْصولاً بِعذابِ البرزَخِ المُتَّصِلِ بِعَذابِ الآخِرَةِ.
وأخرج ابنُ جريرٍ، وابنُ أَبي حاتمٍ، عن عبدِ الرحمنِ بْنِ جُبيرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنه، أنَّ رسولَ اللهِ ـ يومَ ابْنِ أَبي الحَقيقِ ـ دعا بقوس: فأُتِيَ بقوسٍ طويلةٍ فقالَ: جيئوني بقوسٍ غيرَها. فجاؤوهُ بقوس كَيْداء، فرَمَى رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، الحِصْنَ، فأقبَلَ السَهْمُ يَهْوِي حتى قَتَلَ ابْنَ أَبي الحَقيقِ في فِراشِهِ، فأنزلَ اللهُ "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى".
والرأيُ أنَّ هذا الاختلافَ في أسباب النزول ليس مهمّاً إنّما المهمُّ هو التكيرُ بأنَّ الفاعل الوحيد في هذا الكون أجمع هو الله الواحدُ في أفعالهِ كما هو واحد في صفاته وذاته، جلَّ وعلا، إنما اقتضت حكمته أَنْ يُعَلِّقَ المُسبَّباتِ على أسباب، وقد كان لنا في هذا الموضوعِ بحثٌ قبل ذلك وأشرنا إليه غير مرة في مواضعَ مما مضى من هذا السفر والحمدُ لله رب العالمين.
قوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} الأَظْهرُ أَنَّ الفاءَ فَصيحَةً ناشئةً عَنْ جملة {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ} سورة الأنفال، الآية: 12. تُفْصِحُ عَنْ مُقَدَّرٍ قَبْلَها، شَرْطٍ أو غيرِهِ والأكْثَرُ أَنْ يَكونَ شَرطاً فَتَكونُ رابطةً لجوابه، والتقدير هنا إذا علمتم أن الله أوحى إلى الملائكة بضرب أعناقِ المشركين وقطعِ أَيديهم فلم تَقتلوهُم أنْتم ولكنَّ اللهَ قتلهم، أو: إنِ افْتَخَرْتم بِقَتْلِهم فَلَمْ تَقتلوهم، وقالَ الشيخُ أبو حيّان الأندلسيُّ: ليستْ جواباً بَلْ لِرَبْطِ الكلامِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ.
ويجوزُ أَنْ تكون الفاءُ عاطفةً على جملة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} الآية: 15. أيْ يتفرع على النهي عن أن تولوا المشركين الأدبار تنبيهكم إلى أن الله هو الذي دفع المشركين عنكم وأنتم أقل منهم عدداً وعُدَّةً, والتَفريعُ بالفاءِ تَفريعُ العِلَّةِ على المعلول.
وقوله: {وما رَمَيْتَ} هذه الجملة عطفٌ على قولِهِ: "فلم تقتلوهم" لأنَّ المضارع المنفي ب "لم" في قوَّةِ الماضي المَنفْي ب "ما"، فإنِّكَ إذا قُلْتَ: "لم يَقُم" كان مَعناهُ: "ما قام". ولم يَقُلْ هُنا: فَلَمْ تَقْتُلوهم إذْ قَتَلْتُموهُم، كما قال: "إذ رَمَيْت" مبالغةً في الجملةِ الثانية.
قولُهُ: {وَلِيُبْلِيَ المؤمنين} مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ، أَيْ: ولِيُبْلِيَ فَعَلَ ذلك. أَوْ يَكونُ مَعطوفاً على عِلَّةٍ محذوفَةٍ أَيْ: ولكنَّ اللهَ رَمَى لِيَمْحَقَ الكُفَّارَ ولِيُبْلِيَ المؤمنينَ. والبَلاءُ في الخيرِ والشَرِّ. قالَ زُهُيرُ بْنُ أَبي سلمى:
جَزَى اللهُ بالخَيراتِ ما فَعَلا بكم ........ وأبلاهما خيرَ البلاء الذي يبلو
أَي صَنَع بهما خيرَ الصَّنِيع الذي يَبْلُو به عباده، فجمع بين اللغتين، لأنَّه أَرادَ: فأنَعَمَ اللهُ عَلَيهِما خيرَ النِعَمِ التي يَخْتَبرُ بها عبادَهُ. والعربُ تُسمّي الخير "بَلاءً" والشر "بَلاءً". غَيرَ أَنَّ الأَكْثَرَ في الشِرِّ أَنْ يُقال: "بَلَوْتُهُ أَبْلُوهُ بَلاءً"، وفي الخير: "أَبْلَيْتُهُ أَبْليهِ إِبْلاءً وبلاء". وهذا بيتٌ مِنْ قصيدةٍ لزهير في ديوانِهِ وهي مِنْ جَيِّدِ شِعرِهِ وخالِصِهِ.
والهاءُ في "منه" الظاهرُ أَنَّها تَعودُ على اللهِ تعالى، وقيل: تعودُ على "الظَفَرِ" بالمُشركين. وقيلَ: تعودُ على "الرَمْيِ". لكنَّ الأوَّلَ أظهر.
قرأَ العامَّةُ: {ولكنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ} و {ولكنَّ اللهَ قَتَلَهم} بتَشْديدِ نون "لكن" ونَصْبِ الجَلالَةِ. وقرأَ الأَخَوان (حمزةُ والكسائيُّ) وابْنُ عامرٍ "ولكنْ اللهُ قَتَلَهم" و "ولكن اللهُ رمى". بتخفيف "لكن" ورفعِ لفظِ الجَلالَةِ. وقد تقدَّم توجيهُ القراءتين مُشْبعاً في قوله: {ولكن الشياطين} سورةُ البقرة، الآية: 104.