أنت غير مسجل في منتديات البوحسن . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           سبحانك اللهم وبحمد ك وتبارك اسمك وتعالي جدك، ولا إله غيرك           

رسائل ووصايا في التزكية كلّ ما يختص بعلوم السلوك وآداب القوم وتزكية النفس والتصوف الإسلامي

إضافة رد
قديم 02-01-2011
  #1
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي اللمعات

اللمعة الاولى




بسم الله الرحمن الرحيم

فَنَادى في الظُلـمات أنْ لا إلـه إلاّ أنتَ سُبـحانَكَ إنّي كُنْتُ مِنَ الظالـمين{

(الانبياء:87)

} إذْ نادى ربّه أنّي مَسّني الضُرُّ وأنتَ أرحـم الراحـمين{ (الانبياء:83)

} فإنْ تَولـّوا فَقُلْ حَسْبيَ الله لا إلـه إلاّ هو عَليه تَوكّلتُ وهوَ رَبُّ العَرش العَظيـم{ (التوبة:129)

} حَسْبُنا الله وَنِعْمَ الوَكيلُ{ (آل عمران:173)

لا حولَ ولاقوةَ إلاّ بِالله العَليِّ العَظيـم

يابَاقي أنتَ البَاقي ياباقي أنتَ الباقي

} للذينَ آمَنُوا هُدىً وشفاءً{ (فصلت:44)

هذا القسم الاول من الـمكتوب الـحادي والثلاثين يتضمن ست لـمعات تبين كل منها نوراً من انوار كثيرة للكلـمات الـمباركة الـمذكورة التي لقراءتها ثلاثاً وثلاثين مرة في كل وقت فضائل كثيرة ولاسيـما بين الـمغرب والعشاء.

اللـمعة الاولـى

ان مناجاة سيدنا يونس بن متى – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – هي من اعظم انواع الـمناجاة واروعها، ومن ابلغ الوسائل لإستـجابة الدعاء وقبولـه(1).

تتلـخص قصته الـمشهورة بأنه – عليه السلام – قد أُلقي به الـى البـحر، فالتقمه الـحوت، وغشيته امواج البـحر الـهائجة، واسدل الليل البهيـم ستاره الـمظلـم عليه. فداهمته الرهبة والـخوف من كل مكان وانقطعت امامه اسباب الرجاء وانسدت ابواب الامل.. واذا بـمناجاته الرقيقة وتضرعه الـخالص الزكي:

} لا إلـه إلاّ أنتَ سُبـحانَكَ إنّي كُنْتُ مِنَ الظالـمين{ (الانبياء:87) يصبـح لـه في تلك الـحالة واسطة نـجاة ووسيلة خلاص.

وسر هذه الـمناجاة العظيـم هو:

ان الاسباب الـمادية قد هوت كلياً في ذلك الوضع الـمرعب، وسقطت نهائياً فلـم تـحرك ساكناً ولـم تترك أثراً، وذلك لان الذي يستطيع ان ينقذه من تلك الـحالة، ليس الاّ ذلك الذي تنفذ قدرتُه في الـحوت، وتهيـمن على البـحر وتستولي على الليل وجو السماء؛ حيث أن كلا من الليل الـحالك والبـحر الـهائج والـحوت الـهائل قد اتفق على الانقضاض عليه، فلا ينـجيه سبب، ولا يـخلصه أحد، ولا يوصِلـه الى ساحل السلامة بأمان، الاّ من بيده مقاليد الليل وزمام البـحر والـحوت معاً، ومَن يسخّر كل شيء تـحت امره.. حتى لو كان الـخلق اجـمعين تـحت خدمته عليه السلام ورهن اشارته في ذلك الـموقف الرهيب، ما كانوا ينفعونه بشيء!.

أجل لا تأثير للاسباب قط.. فما أن رأى عليه السلام بعين اليقين ألاّ ملـجأ لـه من امره تعالى إلاّ اللواذ الى كنف مسبب الاسباب، انكشف لـه سرُّ الأحدية من خلال نور التوحيد الساطع، حتى سخرتْ لـه تلك الـمناجاةُ الـخالصة الليل والبـحر والـحوت معاً، بل تـحوّل لـه بنور التوحيد الـخالص بطنُ الـحوت الـمظلـمة الى ما يشبه جوف غواصة أمينة هادئة تسير تـحت البـحر، وأصبـح ذلك البـحر الـهائج بالامواج الـمتلاطمة ما يشبه الـمتنزه الآمن الـهادىء، وانقشعت الغيوم عن وجه السماء – بتلك الـمناجاة – وكشف القمر عن وجهه الـمنير كأنه مصباح وضىء يتدلى فوق رأسه..

وهكذا اغدت تلك الـمـخلوقات التي كانت تهدده وترعبه من كل صوب وتضيق عليه الـخناق، غدت الآن تسفر لـه عن وجه الصداقة، وتتقرب اليه بالود والـحنان، حتى خرج الى شاطىء السلامة وشاهد لطف الرب الرحيـم تـحت شجرة اليقطين.

فلننظر بنور تلك الـمناجاة الى انفسنا.. فنـحن في وضع مـخيف ومرعب أضعاف أضعاف ما كان فيه سيدنا يونس عليه السلام، حيث ان:

ليلنا الذي يـخيـم علينا، هو الـمستقبل.. فمستقبلنا اذا نظرنا اليه بنظر الغفلة يبدو مظلـماً مـخيفاً، بل هو أحلك ظلاماً واشد عتامة من الليل الذي كان فيه سيدنا يونس عليه السلام بـمائة مرة..

وبـحرنا، هو بـحر الكرة الارضية، فكل موجة من امواج هذا البـحر الـمتلاطم تـحـمل آلاف الـجنائز، فهو اذن بـحر مرعب رهيب بـمائة ضعف رهبة البـحر الذي ألقي فيه عليه السلام.

وحوتنا، هو ما نـحـملـه من نفس أمارة بالسوء، فهي حوت يريد ان يلتقم حياتنا الابدية ويـمـحقها. هذا الـحوت اشد ضراوة من الـحوت الذي ابتلع سيدنا يونس عليه السلام؛ اذ كان يـمكنه ان يقضي على حياة امدها مائة سنة، بينـما حوتنا نـحن يـحاول افناء مئات الـملايين من سني حياة خالدة هنيئة رغيدة.

فما دامت حقيقة وضعنا هذه، فما علينا اذاً إلاّ الاقتداء بسيدنا يونس عليه السلام والسير على هديه، معرضين عن الاسباب جـميعاً، مقبلين كلياً الى ربّنا الذي هو مسبب الاسباب متوجهين اليه بقلوبنا وجوارحنا، ملتـجئين اليه سبـحانه قائلين: } لا إلـه إلاّ أنتَ سُبـحانَكَ إنّي كُنْتُ مِنَ الظالـمين{ (الانبياء:87) مدركين بعين اليقين ان قد ائتـمر علينا – بسبب غفلتنا وضلالنا – مستقبلُنا الذي يرتقبنا، ودنيانا التي تضمنا، ونفوسُنا الامارة بالسوء التي بين جنبينا، موقنين كذلك انه لا يقدر ان يدفع عنا مـخاوف الـمستقبل واوهامه، ولايزيل عنا اهوال الدنيا ومصائبها، ولا يبعد عنا اضرار النفس الامارة بالسوء ودسائسها، الاّ من كان الـمستقبل تـحت أمره، والدنيا تـحت حكمه، وانفسنا تـحت ادارته.

تُرى من غيرُ خالق السموات والارضين يعرف خلـجات قلوبنا، ومَن غَيِرُه يعلـم خفايا صدورنا، ومَن غَيرُه قادر على انارة الـمستقبل لنا بـخلق الآخرة، ومن غيرُه يستطيع ان ينقذنا من بين الوف أمواج الدنيا الـمتلاطمة بالاحداث؟!. حاش للـه وكلا ان يكون لنا منـج غيره ومـخلـّصٍ سواه، فهو الذي لولا إرادته النافذة ولولا أمره الـمهيـمن لـما تـمكن شيء اينـما كان وكيفما كان ان يـمد يده ليغيث أحداً بشيء!.

فما دامت هذه حقيقة وضعنا فما علينا إلاّ ان نرفع اكفّ الضراعة اليه سبـحانه متوسلين، مستعطفين نظر رحـمته الربانية الينا، اقتداء بسر تلك الـمناجاة الرائعة التي سخّرت الـحوت لسيدنا يونس عليه السلام كأنه غواصة تسير تـحت البـحر، وحولت البـحر متنزها جـميلا، وألبست الليل جلباب النور الوضىء بالبدر الساطع. فنقول: } لا إلـه إلاّ أنتَ سُبـحانَكَ إنّي كُنْتُ مِنَ الظالـمين{ (الانبياء:87). فنلفت بها نظر الرحـمة الإلـهية الى مستقبلنا بقولنا: } لا إلـه إلاّ أنتَ{ . ونلفتها الى دنيانا بكلـمة: } سُبـحانَكَ{ ونرجوها ان تنظر الى انفسنا بنظر الرأفة والشفقة بـجـملة: } إنّي كُنْتُ مِنَ الظالـمين{ كي يعم مستقبلنا نور الايـمان وضياء بدر القرآن، وينقلب رعب ليلنا ودهشته الى أمن الانس وطمأنينة البهجة. ولتنتهي مهمة حياتنا ونـختتـم وظيفتها بالوصول الى شاطىء الامن والامان دخولا في رحاب حقيقة الاسلام، تلك الـحقيقة التي هي سفينة معنوية اعدّها القرآن العظيـم، فنبـحر بها عباب الـحياة، فوق أمواج السنين والقرون الـحاملة لـجنائز لايـحصرها العد، ويقذفها الى العدم تبدل الـموت والـحياة وتناوبهما الدائبين في دنيانا وارضنا، فننظر الى هذا الـمشهد الرهيب بـمنظار نور القرآن الباهر، واذا هو مناظر متبدلة، متـجددة، يـحول تـجددها الـمستـمر تلك الوحشة الرهيبة النابعة من هبوب العواصف وحدوث الزلازل للبـحر الى نظر تقطر منه العبرة، ويبعث على التأمل والتفكر في خلق الله، فتستضىء وتتألق ببهجة التـجدد ولطافة التـجديد. فلا تستطيع عندها نفوسنا الامارة على قهرنا، بل نكون نـحن الذين نقهرها بـما منـحنا القرآن الكريـم من ذلك السر اللطيف، بل نـمتطيها بتلك التربية الـمنبثقة من القرآن الكريـم. فتصبـح النفس الامارة طوع ارادتنا، وتغدو وسيلة نافعة ووساطة خير للفوز بـحياة خالدة.

الـخلاصة:

ان الانسان بـما يـحـمل من ماهية جامعة يتألـم من الـحـمى البسيطة كما يتألـم من زلزلة الارض وهزاتها ويتألـم من زلزال الكون العظيـم عند قيام الساعة، ويـخاف من جرثومة صغيرة كما يـخاف من الـمذنبات الظاهرة في الاجرام السماوية، ويـحب بيته ويأنس به كما يـحب الدنيا العظيـمة، ويهوى حديقته الصغيرة ويتعلق بها كما يشتاق الى الـجنة الـخالدة ويتوق اليها.

فما دام أمر الانسان هكذا، فلا معبود لـه ولا رب ولا مولى ولا منـجأ ولا ملـجأ إلا من بيده مقاليد السموات والارض وزمام الذرات والـمـجرات، وكل شيء تـحت حكمه، طوع أمره.. فلابد ان هذا الانسان بـحاجة ماسة دائماً الى التوجه الى بارئه الـجليل والتضرع اليه اقتداء بسيدنا يونس عليه السلام. فيقول:

} لا إلـه إلاّ أنتَ سُبـحانَكَ إنّي كُنْتُ مِنَ الظالـمين{ (الانبياء:87)

} سُبـحانَكَ لاَ عِلـم لَنَا إِلاّ ما عَلـمتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليـم الـحكيـم{ (البقرة:32)
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-01-2011
  #2
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: اللمعات

اللـمعة الثانية

بسم الله الرحـمن الرحيـم

} وأيوبَ إذْ نادى ربّه أنّي مَسّني الضُرُّ وأنتَ أرحـم الراحـمين{ (الانبياء:83)

هذه الـمناجاة اللطيفة التي نادى بها رائد الصابرين سيدنا أيوب عليه السلام مـجرّبة، وذات مفعول مؤثر، فينبغي أن نقتبس من نور هذه الآية الكريـمة ونقول في مناجاتنا: رب أني مسني الضر وانت أرحـم الراحـمين.

وقصة سيدنا أيوب عليه السلام الـمشهور، نلـخصها بـما يأتي:

أنه عليه السلام ظل صابراً ردحاً من الزمن يكابد ألـم الـمرض العضال، حتى سرت القروح والـجروح الى جسمه كلـه، ومع ذلك كان صابراً جلداً يرجو ثوابه العظيـم من العلي القدير. وحينـما أصابت الديدان الناشئة من جروحه قلبه ولسانه اللذين هما مـحل ذكر الله وموضع معرفته، تضرع الى ربه الكريـم بهذه الـمناجاة الرقيقة: } أنّي مَسّني الضُرُّ وأنتَ أرحـم الراحـمين{ خشية أن يصيب عبادته خلل، ولـم يتضرع اليه طلباً للراحة قط، فاستـجاب الله العلي القدير تلك الـمناجاة الـخالصة الزكية استـجابة خارقة بـما هو فوق الـمعتاد، وكشف عنه ضرّه واحسن اليه العافية التامة واسبغ عليه ألطاف رحـمته العميـمة.

في هذه اللـمعة خـمس نكات.

النكتة الاولى:

انه إزاء تلك الـجروح الظاهرة التي أصابت سيدنا أيوب عليه السلام، توجد فينا أمراض باطنية وعلل روحية وأسقام قلبية، فنـحن مصابون بكل هذا. فلو انقلبنا ظاهراً بباطن وباطناً بظاهر، لظهرنا مُثقلين بـجروح وقروح بليغة، ولبدت فينا أمراضٌ وعلل اكثر بكثير مـما عند سيدنا أيوب عليه السلام، ذلك لأن:

كل ما تكسبه ايدينا من إثم، وكل ما يلـج الى أذهاننا من شبهة، يشق جروحاً غائرة في قلوبنا، ويفجر قروحاً دامية في أرواحنا.. ثم إن جروح سيدنا أيوب عليه السلام كانت تهدد حياته الدنيا القصيرة بـخطر، أما جروحنا الـمعنوية نـحن فهي تهدد حياتنا الاخروية الـمديدة بـخطر.. فنـحن اذن مـحتاجون أشد الـحاجة الى تلك الـمناجاة الايوبية الكريـمة بأضعاف أضعاف حاجته عليه السلام اليها. وبـخاصة أن الديدان الـمتولدة من جروحه عليه السلام مثلـما أصابت قلبه ولسانه، فان الوساوس والشكوك – نعوذ بالله – الـمتولدة عندنا من جروحنا الناشئة من الآثام والذنوب تصيب باطن القلب الذي هو مستقر الايـمان فتزعزع الايـمان فيه، وتـمس اللسان الذي هو مترجـم الايـمان فتسلبه لذة الذكر ومتعته الروحية، ولاتزال تنفره من ذكر الله حتى تسكته كلياً.

نعم، الاثم يتوغل في القلب ويـمد جذوره في أعماقه، وما ينفك ينكت فيه نكتاً سوداء حتى يتـمكن من اخراج نور الايـمان منه، فيبقى مظلـماً مقفراً، فيغلظ ويقسو.

نعم، ان في كل إثم وخطيئة طريقاً مؤدياً الى الكفر، فإن لـم يـمـح ذلك الاثم فوراً بالاستغفار يتـحول الى دودة معنوية، بل الى حية معنوية تعض القلب وتؤذيه.

ولنوضح ذلك بـما يأتي:

مثلاً: إن الذي يرتكب سراً إثماً يـخـجلَ منه، وعندما يستـحي كثيراً من اطلاع الاخرين عليه، يثقل عليه وجود الـملائكة والروحانيات، ويرغب في انكارهم بأمارة تافهة.

ومثلاً: ان الذي يقترف كبيرة تفضي الى عذاب جهنـم. ان لـم يتـحصن تـجاهها بالاستغفار، فما أن يسمع نذير جهنـم وأهوالـها يرغب من أعماقه في عدم وجودها، فيتولد لديه جرأة لإنكار جهنـم من أمارة بسيطة أو شبهة تافهة.

ومثلاً: إن الذي لايقيـم الفرائض ولا يؤدي وظيفة العبودية حق الاداء وهو يتألـم من توبيـخ آمره البسيط لتقاعسه عن واجب بسيط، فان تكاسلـه عن أداء الفرائض أزاء الاوامر الـمكررة الصادرة من الله العظيـم، يورثه ضيقاً شديداً وظلـمة قاتـمة في روحه، ويسوقه هذا الضيق الى الرغبة في ان يتفوه ويقول ضمناً: ((ليته لـم يأمر بتلك العبادة!)) وتثير هذه الرغبة فيه الانكار، الذي يشم منه عداءً معنوباً تـجاه الوهيته سبـحانه، فاذا ما وردت شبهةٌ تافهة الى القلب حول وجوده سبـحانه، فانه يـميل اليها كأنها دليل قاطع. فينفتـح أمامه باب عظيـم للـهلاك والـخسران الـمبين، ولكن لايدرك هذا الشقي أنه قد جعل نفسه – بهذا الانكار – هدفاً لضيق معنوي ارهب وأفظع بـملايين الـمرات من ذلك الضيق الـجزئي الذي كان يشعر به من تكاسلـه في العبادة، كمن يفرّ من لسع البعوض الى عض الـحية!!

فليُفهم في ضوء هذه الامثلة الثلاثة سرّ الآية الكريـمة: } كلاّ بل رانَ على قلوبهم ما كانوا يَكسبون{ (الـمطففين:14)

النكتة الثانية:

مثلـما وضّح في ((الكلـمة السادسة والعشرين)) الـخاصة بالقدر: أن الانسان ليس لـه حق الشكوى من البلاء والـمرض بثلاثة وجوه:

u الوجه الاول:

ان الله سبـحانه يـجعل ما ألبسه الانسان من لباس الوجود دليلا على صنعته الـمبدعة، حيث خلقه على صورة نـموذج ((موديل)) يفصّل عليه لباس الوجود، يبدلـه ويقصه ويغيره مبيناً بهذا التصرف تـجليات مـختلفة لاسمائه الـحسنى. فمثلـما يستدعي اسم ((الشافي)) الـمرض، فان اسم ((الرزاق)) ايضاً يقتضي الـجوع. وهكذا فهو سبـحانه مالك الـملك يتصرف في ملكه كيف يشاء.

u الوجه الثاني:

أن الـحياة تتصفى بالـمصائب والبلايا، وتتزكى بالامراض والنوائب، وتـجد بها الكمال وتتقوى وتترقى وتسمو وتثمر وتنتـج وتتكامل وتبلغ هدفها الـمراد لـها، فتؤدي مهمتها الـحياتية. أما الـحياة الرتيبة التي تـمضى على نسق واحد وتـمر على فراش الراحة، فهي أقرب الى العدم الذي هو شر مـحض منه الى الوجود الذي هو خير مـحض. بل هي تفضي الى العدم.

u الوجه الثالث:

إن دار الدنيا هذه ما هي إلاّ ميدان اختبار وابتلاء، وهي دار عمل ومـحل عبادة، وليست مـحل تـمتع وتلذذ ولا مكان تسلـم الاجرة ونيل الثواب.

فما دامت الدنيا دار عمل ومـحل عبادة، فالامراض والـمصائب عدا الدينية منها وبشرط الصبر عليها تكون ملائمة جدا مع ذلك العمل، بل منسجـمة تـماماً مع تلك العبادة، حيث أنها تـمد العمل بقوة وتشد من أزر العبادة، فلا يـجوز التشكي منها، بل يـجب التـحلي بالشكر للـه بها، حيث أن تلك الامراض والنوائب تـحوّل كل ساعة من حياة الـمصاب عبادة ليوم كامل.

نعم، ان العبادة قسمان:

قسم ايـجابي وقسم سلبي..

فالقسم الاول معلوم لدى الـجـميع، أما القسم الاخر فان البلايا والضر والامراض تـجعل صاحبها يشعر بعجزه وضعفه، فيلتـجىء الى ربه الرحيـم، ويتوجه اليه ويلوذ به، فيؤدي بهذا عبادة خالصة. هذه العبادة خالصة زكية لا يدخل فيها الرياء قط. فإذا ما تـجـمل الـمصاب بالصبر وفكّر في ثواب ضره عند الله وجـميل أجره عنده، وشكر ربه عليها، تـحولت عندئذ كل ساعة من ساعات عمره كأنها يوم من العبادة، فيغدو عمره القصير جداً مديداً طويلاً، بل تتـحول – عند بعضهم – كل دقيقة من دقائق عمره بـمثابة يوم من العبادة.. ولقد كنت أقلق كثيراً على ما أصاب أحد اخوتي في الاخرة وهو ((الـحافظ احـمد الـمهاجر))(1) بـمرض خطير، فخطر الى القلب ما يأتي:

((بشّره، هنّئه، فان كل دقيقة من دقائق عمره تـمضي كأنها يوم من العبادة)) حقاً انه كان يشكر ربه الرحيـم من ثنايا الصبر الـجـميل.

النكتة الثالثة:

مثلـما بينّا في ((الكلـمات)) السابقة أنه: اذا ما فكر كل انسان فيـما مضى من حياته فسيرد الى قلبه ولسانه: واأسفاه، أو الـحـمد للـه، أي إما أنه يتأسف ويتـحسر، أو يـحـمد ربه ويشكره. فالذي يقطـّر الاسف والاسى انـما يكون بسبب الآلام الـمعنوية الناشئة من زوال اللذائذ السابقة وفراقها، ذلك لأن زوال اللذة ألـم، بل قد تورث لذةٌ زائلة طارئة آلاماً دائمة مستـمرة، فالتفكر فيها يعصر ذلك الالـم ويقطـّر منه الاسف والاسى، بينـما اللذة الـمعنوية والدائمة الناشئة من زوال الآلام الـمؤقتة التي قضاها الـمرء في حياته الفائتة، تـجعل لسانه ذاكراً بالـحـمد والثناء للـه تعالى.. هذه حالة فطرية يشعر بها كل انسان، فاذا ما فكر الـمصاب – علاوة على هذا – بـما أدّخر لـه ربه الكريـم من ثواب جـميل وجزاء حسن في الآخرة وتأمل في تـحول عمره القصير بالـمصائب الى عمر مديد فانه لايصبر على ما انتابه من ضُر وحده، بل يرقى ايضاً الى مرتبة الشكر للـه والرضا بقَدَره، فينطلق لسانه حامداً ربه وقائلاً: الـحـمد للـه على كل حال سوى الكفر والضلال.

ولقد سار مثلا عند الناس: ((ما اطول زمن النوائب!)). نعم، هو كذلك ولكن ليس بالـمعنى الذي في عرف الناس وظنهم من أنه طويل بـما فيه من ضيق وألـم، بل هو طويل مديد كالعمر الطويل بـما يثمر من نتائج حياتية عظيـمة.

النكتة الرابعة:

لقد بينّا في الـمقام الاول للكلـمة الـحادية والعشرين:

ان الانسان إن لـم يشتت ما وهبه الباري سبـحانه من قوة الصبر، ولـم يبعثرها في شعاب الاوهام والـمـخاوف، فان تلك القوة يـمكن ان تكون كافية للثبات حيال كل مصيبة وبلاء، ولكن هيـمنة الوهم وسيطرة الغفلة عليه والاغترار بالـحياة الفانية كأنها دائمة.. يؤدي الى الفتّ من قوة صبره وتفريقها الى آلام الـماضي ومـخاوف الـمستقبل، فلا يكفيه ما أودعه الله من الصبر على تـحـمل البلاء النازل به والثبات دونه، فيبدأ ببث الشكوى حتى كأنه يشكو الله للناس، مبدياً من قلة الصبر ونفاده ما يشبه الـجنون فضلاً عن أنه لا يـحق لـه أنه يـجزع هذا ابداً؛ ذلك لان كل يوم من أيام الـماضي – ان كان قد مضى بالبلاء – فقد ذهب عسره ومشقته وترك راحته، وقد زال تعبه وألـمه وترك لذته، وقد ذهب ضنكه وضيقه وثبت أجره، فلا يـجوز اذن الشكوى منه، بل ينبغي الشكر للـه تعالى عليه بشوق ولـهفة. ولا يـجوز كذلك الامتعاض من الـمصيبة والسخط عليها بل ينبغي ربط أواصر الـحب بها، لأن عمر الانسان الفاني الذي قد مضى يتـحول عمراً سعيداً باقياً مديداً بـما يعاني فيه من البلاء، فمن البلاهة والـجنون أن يبدد الانسان قسماً من صبره ويهدره بالاوهام والتفكر في البلايا التي مضت والآلام التي ولـّت. أما الايام الـمقبلة، فحيث أنها لـم تأت بعد ومـجهولة مبهمة، فمن الـحـماقة التفكر فيها من الآن والـجزع عمـّا يـمكن أن يصيب الانسان فيها من مرض وبلاء. فكما أنه حـماقة أن يأكل الانسان اليوم كثيراً من الـخبز ويشرب كثيراً من الـماء لـما يـمكن أن يصيبه من الـجوع والعطش في الغد أو بعد غد، كذلك التألـم والتضجر من الآن لـما يـمكن أن يبتلى به في الـمستقبل من امراض ومصائب هي الآن في حكم العدم، واظهار الـجزع نـحوها دون أن يكون هناك مبرر واضطرار، هو بلاهة وحـماقة الى حد تسلب العطف على صاحبها والاشفاق عليه. فوق أنه قد ظلـم نفسه بنفسه.

الـخلاصة:

ان الشكر مثلـما يزيد النعمة، فالشكوى تزيد الـمصيبة وتسلب الترحـم والاشفاق على صاحبها.

لقد ابتلى رجل صالـح من مدينة ((أرضروم)) بـمرض خطير وبيل، وذلك في السنة الاولى من الـحرب العالـمية الاولى، فذهبت الى عيادته وبثّ لي شكواه:

- ((لـم أذق طعم النوم منذ مائة يوم..)). تألـمت لشكواه الاليـمة هذه، ولكن تذكرت حينها مباشرة وقلت:

- أخي! ان الايام الـمائة الـماضية لكونها قد ولـّت ومضت فهي الآن بـمثابة مائة يوم مسرّة مفرحة لك، فلا تفكر فيها ولا تشكُ منها، بل انظر اليها من زاوية زوالـها وذهابها، واشكر ربك عليها. أما الايام الـمقبلة فلأنها لـم تأت بعد، فتوكل على رحـمة ربك الرحـمن الرحيـم واطمئن اليها. فلا تبك قبل أن تضرب، ولا تـخف من غير شىء، ولا تـمنـح العدم صبغة الوجود. اصرف تفكيرك في هذه الساعة بالذات، فان ما تـملكه من قوة الصبر تكفي للثبات لـهذه الساعة. ولاتكن مثل ذلك القائد الاحـمق الذي شتت قوته في الـمركز يـميناً وشمالاً في الوقت الذي التـحقت ميسرة العدو الى صفوف ميـمنة جيشه فأمدتها، وفي الوقت الذي لـم تكُ ميـمنة العدو متهيأة للـحرب بعد.. فما أن علـم العدو منه هذا حتى سدد قوة ضئيلة في الـمركز وقضى على جيشه.

فيا أخي ! لا تكن كهذا، بل حشّد كل قواك لـهذه الساعة فقط، وترقـَّب رحـمة الله الواسعة، وتأمل في ثواب الاخرة، وتدبّر في تـحويل الـمرض لعمرك الفاني القصير الى عمر مديد باق، فقدّم الشكر الوافر الـمسر الى العلي القدير بدلا من هذه الشكوى الـمريرة.

انشرح ذلك الشخص الـمبارك من هذا الكلام وانبسطت أساريره حتى شرع بالقول: الـحـمد للـه. لقد تضاءل ألـمي كثيراً.

النكتة الـخامسة:

وهي ثلاث مسائل:

الـمسألة الاولى:

إن الـمصيبة التي تعدّ مصيبة حقاً والتي هي مضرة فعلاً، هي التي تصيب الدين فلابد من الالتـجاء الى الله سبـحانه والانطراح بين يديه والتضرع اليه دون انقطاع. أما الـمصائب التي لاتـمس الدين فهي في حقيقة الامر ليست بـمصائب، لأن قسماً منها:

تنبيه رحـماني! يبعثه الله سبـحانه الى عبده ليوقظه من غفلته، بـمثل تنبيه الراعي لشياهه عندما تتـجاوز مرعاها، فيرميها بـحـجر، والشياه بدورها تشعر أن راعيها ينبهها بذلك الـحـجر ويـحذرها من أمر خطير مضر، فتعود الى مرعاها برضى واطمئنان. وهكذا النوائب الظاهرة فان الكثير منها تنبيه الـهي، وايقاظ رحـماني للانسان.

أما القسم الآخر من الـمصائب فهو كفارة للذنوب.

وقسم آخر أيضاً من الـمصائب هو منـحة إلـهية لتطمين القلب وافراغ السكينة فيه، وذلك بدفع الغفلة التي تصيب الانسان، واشعاره بعجزه وفقره الكامنين في جبلته.

أما الـمصيبة التي تنتاب الانسان عند الـمرض – فكما ذكرنا آنفا – فهي ليست بـمصيبة حقيقية، بل هي لطف رباني لانه تطهير للانسان من الذنوب وغسل لـه من أدران الـخطايا، كما ورد في الـحديث الصحيـح:

((ما من مسلـم يصيبه أذى الاّ حاتّ الله عنه خطاياه كما يـحاتّ ورق الشجر))(1) وهكذا فان سيدنا ايوب عليه السلام لـم يدعُ في مناجاته لاجل نفسه وتطميناً لراحته، وانـما طلب كشف الضر من ربه عندما أصبـح الـمرض مانعاً لذكر الله لسانا، وحائلاً للتفكر في ملكوت الله قلباً، فطلب الشفاء لأجل القيام بوظائف العبودية خالصة كاملة. فيـجب علينا نـحن ايضاً أن نقصد – بتلك الـمناجاة – أول ما نقصد: شفاء جروحنا الـمعنوية وشروخنا الروحية القادمة من ارتكاب الآثام واقتراف الذنوب ولنا الالتـجاء الى الله القدير عندما تـحول الامراضُ الـمادية قيامنا بالعبادة كاملة، فنتضرع اليه عندئذ بكل ذل وخضوع ونستغيثه دون أن يبدر منا أي اعتراض أو شكوى، اذ مادمنا راضين كل الرضا بربوبيته الشاملة فعلينا الرضا والتسليـم الـمطلق بـما يـمنـحه سبـحانه لنا بربوبيته.. أما الشكوى التي تومىء الى الاعتراض على قضائه وقدره، واظهار التأفف والتـحسر، فهي أشبه ما يكون بنقد للقدر الإلـهي العادل واتهام لرحـمته الواسعة.. فمن ينقد القدر يصرعه ومن يتهم الرحـمة يـحرم منها. اذ كما ان استعمال اليد الـمكسورة للثأر يزيدها كسراً، فان مقابلة الـمبتلي مصيبته بالشكوى والتضجر والاعتراض والقلق تضاعف البلاء.

الـمسألة الثانية:

كلـما استعظمت الـمصائب الـمادية عظُمت، وكلـما استصغرتَها صغرت. فمثلاً:

كلـما اهتـم الانسان بـما يتراءى لـه من وهم ليلاً يضخـم ذلك في نظره، بينـما اذا أهملـه يتلاشى. وكلـما تعرض الانسان لوكر الزنابير ازداد هجومها واذا أهملـها تفرقت.

فالـمصائب الـمادية كذلك كلـما تعاظمها الانسان واهتـم بها وقلق عليها تسربت من الـجسد نافذة في القلب ومستقرة فيه، وعندها تتنامى مصيبة معنوية في القلب وتكون ركيزة للـمادية منها فتستـمر الاخيرة وتطول. ولكن متى ما أزال الانسان القلق والوهم من جذوره بالرضا بقضاء الله، وبالتوكل على رحـمته تضمـحل الـمصيبة الـمادية تدريـجياً وتذهب، كالشجرة التي تـموت وتـجف أوراقها بانقطاع جذورها.

ولقد عبـّرتُ عن هذه الـحقيقة يوماً بـما يأتي:(1)

ومن الشكوى بلاءٌ.

أنت يا مسكينُ دعها وتوكلْ.

أنت ان تسلـم الى الوهاب نـجواك وجدتْ.

فاذا الكلُّ عطاء.

واذا الكلُّ صفاء.

فبغير الله: دنياك متاهات وخوف!

أفيشكو مَن على كاهلة يـحـمل كلّ الراسيات

حبةَ الرمل الضئيلة؟

انـما الشكوى بلاءٌ في بلاء.

وأثام في أثام وعناء!

أنت ان تَبْسَم وفي وجه البلاء.

عادت الأرزاء تذوي وتذوب.

تـحت شمس الـحق حباتِ بَرَد!

فاذا دنياك بَسمة،

بسمةٌ من ثغرها ينسابُ ينبوعُ اليقين.

بسمةٌ نشوى باشراق اليقين.

بسمةٌ حيرى باسرار اليقين.

نعم..! ان الانسان مثلـما يـخفف حدَّة خصمه باستقبالـه بالبشر والابتسامة، فتتضاءل سَورة العداوة وتنطفىء نار الـخصومة، بل قد تنقلب صداقةً ومصالـحة، كذلك الامر في استقبال البلاء بالتوكل على القدير يذهبُ أثره.

الـمسألة الثالثة:

أن لكل زمان حُكمه، وقد غيّر البلاء شكلـه في زمن الغفلة هذا، فلا يكون البلاء بلاء عند البعض دوماً، بل إحساناً إلـهياً ولطفاً منه سبـحانه. وارى الـمبتلين بالضر في هذا الوقت مـحظوظين سعداء بشرط ألا يـمس دينهم، فلا يولد الـمرض والبلاء عندي ما يـجعلـهما مضرين في نظري حتى أعاديهما، ولا يورثانني الاشفاق والتألـم على صاحبهما، ذلك ما أتاني شاب مريض الاّ وأراه أكثر ارتباطاً من أمثالـه بالدين، وأكثر تعلقاً منهم بالآخرة.. فأفهم من هذا أن الـمرض بـحق هؤلاء ليس بلاء، بل هو نعمة من نعمه سبـحانه التي لاتعد ولاتـحصى، حيث أن ذلك الـمرض يـمد صاحبه بـمنافع غزيرة من حيث حياته الاُخروية ويكون لـه ضرباً من العبادة، مع أنه يـمس حياته الدنيا الفانية الزائلة بشيء من الـمشقة.

نعم قد لا يستطيع هذا الشاب أن يـحافظ على ما كان عليه في مرضه من الالتزام بالاوامر الإلـهية فيـما اذا وجد العافية، بل قد ينـجرف الى السفاهة بطيش الشباب ونزواته وبالسفاهة الـمستشرية في هذا الزمان.

خاتـمة

ان الله سبـحانه قد ادرج في الانسان عجزاً لا حد لـه، وفقراً لانهاية لـه، اظهاراً لقدرته الـمطلقة وابرازاً لرحـمته الواسعة. وقد خلقه على صورة معينة بـحيث يتألـم بـما لا يـحصى من الـجهات، كما أنه يتلذذ بـما لا يعد من الـجهات، اظهاراً للنقوش الكثيرة لاسمائه الـحسنى. فابدعه سبـحانه على صورة ماكنة عجيبة تـحوي مئات الالات والدواليب، لكل منها آلامها ولذائذها ومهمتها وثوابها وجزاؤها، فكأن الاسماء الإلـهية الـمتـجلية في العالـم الذي هو انسان كبير تتـجلى اكثرها ايضاً في هذا الانسان الذي هو عالـم أصغر، وكما أن ما فيه من أمور نافعة – كالصحة والعافية واللذائذ وغيرها – تدفعه الى الشكر وتسوق تلك الـماكنة الى القيام بوظائفها من عدة جهات، حتى يغدو الانسان كأنه ماكنة شكر. كذلك الامر في الـمصائب والامراض والالام وسائر الـمؤثرات الـمهيـجة والـمـحركة، تسوق الدواليب الاخرى لتلك الـماكنة الى العمل والـحركة وتثيرها من مكمنها فتفجّر كنوز العجز والضعف والفقر الـمندرجة في الـماهية الانسانية. فلا تـمنـح الـمصائبُ الانسانَ الالتـجاء الى البارىء بلسان واحد، بل تـجعلـه يلتـجىء اليه ويستغيثه بلسان كل عضو من أعضائه. وكأن الانسان بتلك الـمؤثرات والعلل والعقبات والعوارض يغدو قلـماً يتضمن آلاف الاقلام، فيكتب مقدّرات حياته في صحيفة حياته أو في اللوح الـمثالي، وينسج لوحة رائعة للاسماء الإلـهية الـحسنى، ويصبـح بـمثابة قصيدة عصماء ولوحة اعلان.. فيؤدي وظيفة فطرته.
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-01-2011
  #3
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: اللمعات

اللـمعة الثالثة

لقد مازج هذه ((اللـمعة)) شيء من الاذواق والـمشاعر، فأرجو عدم تقييـمها بـموازين علـم الـمنطق؛ لأن ما تـجيش به الـمشاعر لايراعي كثيراً قواعد العقل ولايعير سمعا الى موازين الفكر.

بسم الله الرحـمن الرحيـم

} كلُّ شىءٍ هالكٌ إلاّ وَجْهَهُ لـه الـحكْمُ وإليه تُرْجَعون{ (القصص:88)

هذه الآية العظيـمة تفسرها جـملتان تعبّران عن حقيقتين مهمتين بـحيث اتـخذهما قسم من شيوخ الطريقة النقشبندية بـمثابة زبدة الاوراد لديهم، يؤدون بهما ختـمتهم الـخاصة. والـجـملتان هما:

ياباقي انت الباقي. ياباقي انت الباقي.

ولـما كانت هاتان الـجـملتان تنطويان على معان جليلة لتلك الآية الكريـمة، فسنذكر بضع نكات لبيان الـحقيقتين اللتين تعبّران عنهما:

u النكتة الاولى:

ان ترديد ((ياباقي انت الباقي)) للـمرة الاولى، يـجرّد القلب مـما سوى الله تعالى، فيـجرى ما يشبه عملية جراحية فيه، ويقطعه عما سواه سبـحانه. وتوضيـح هذا:

ان الانسان بـما اودع الله فيه من ماهية جامعة يرتبط مع اغلب الـموجودات بأواصر ووشائج شتى. ففي تلك الـماهية الـجامعة من الاستعداد غير الـمـحدود للـمـحبة ما يـجعلـه يكنّ حباً عميقاً تـجاه الـموجودات عامة، فيـحب الدنيا العظيـمة كما يـحب بيته، ويـحب الـجنة الـخالدة كما يـحب حديقته. بينـما الـموجودات – التي وجّه الانسانُ حبه منحوها – لا تدوم، بل لا تلبث أن تزول، لذا يذوق الانسان دائماً عذاب ألـم الفراق. فتصبـح تلك الـمـحبة التي لامنتهى لـها مبعث عذاب معنوي لامنتهى لـه، لتقصيره بـحقها. فالآلام التي يتـجرعها ناشئة من تقصيره هو، حيث لـم يودع فيه استعداد الـمـحبة إلا ليوجهه الى مَن لـه جـمال خالد مطلق. بينـما الانسان لـم يـحسن استعمال مـحبته فوجهها الى موجودات فانية زائلة، فيذوق وبال أمره بآلام الفراق.

فعندما يردد الانسان: ياباقي انت الباقي. يعني بها: البراءة الكاملة من هذا التقصير، وقطع العلاقات مع تلك الـمـحبوبات الفانية، والتـخلي عنها كلياً، قبل ان تتـخلى هي عنه. ثم تسديد النظر في الـمـحبوب الباقي وهو الله سبـحانه دون سواه.

أي يقول بها: ((لاباقي بقاء حقيقياً إلاّ أنت يا إلـهي. فما سواكَ فانٍ زائلٍ، والزائل غير جدير بالـمـحبة الباقية ولا العشق الدائم، ولا بأن يشد معه أواصر قلب خُلق اصلا للابد والـخلود)). وحيث ان الـموجودات فانية وستتركني ذاهبة الى شأنها، فسأتركها أنا قبل ان تتركني، بترديدي: ((ياباقي انت الباقي)) أي: أؤمن وأعتقد يقينا انه لا باقي إلاّ أنت يا إلـهي، وبقاء الـموجودات موكول بإبقائك اياها، فلا يوجه اليها الـمـحبة اذاً الاّ من خلال نور مـحبتك، وضمن مرضاتك، وإلاّ فانها غير جديرة بربط القلب معها.

فهذه الـحالة تـجعل القلب يتـخلى عن مـحبوبات كان يوليها مـحبة لاحدود لـها، حيث يبصر ختـم الفناء ويشاهد طابع الزوال على ما أضفي عليها من جـمال وبهاء. فتتقطع عندئذ تلك الوشائج التي كانت تربط القلب بالـموجودات. وبـخلاف هذا الامر أي ان لـم يتـخل القلب عن مـحبوباته فان جراحات وآلام وحسرات تتفجر من اعماقه بقدر تلك الـمـحبوبات الفانية.

أما الـجـملة الثانية:

((ياباقي انت الباقي)) فهي كالـمرهم الشافي والبلسم الناجع يـمرر على العملية الـجراحية التي أجرتها الـجـملة الاولى على القلب وروابطه، حيث انها تعني: ((كفى بك ياإلـهي باقياً. فبقاؤك بديل عن كلّ شيء.. وحيث انك موجود فكل شيء موجود اذاً)).

نعم! ان ما يبدو على الـموجودات من الـحسن والاحسان والكمال – والذي يبعث على مـحبتها – ما هو إلاّ اشارات لـحسن الباقي الـحقيقي واحسانه وكمالـه، وما هو إلاّ ظلال خافتة لذلك الـحسن والاحسان والكمال نفذت من وراء حـجب كثيرة وأستار عدة، بل هو ظلال لظلال تـجليات اسمائه الـحسنى جل جلالـه.

u النكتة الثانية:

في فطرة الانسان عشق شديد مـحو البقاء، حتى انه يتوهم نوعاً من البقاء في كل ما يـحبه، بل لا يـحب شيئاً إلاّ بعد توهمه البقاء فيه، ولكن حالـما يتفكر في زوالـه أو يشاهد فناءه يطلق عليه الزفرات والـحسرات من الاعماق.

نعم! ان جـميع الآهات والـحسرات الناشئة من انواع الفراق، انـما هي تعابير حزينة تنطلق من عشق البقاء. ولولا توهم البقاء لـما أحب الانسان شيئاً.

بل يصح القول:

ان سبباً من اسباب وجود عالـم البقاء والـجنة الـخالدة هو الرغبة الـملـحة للبقاء الـمغروزة في فطرة الانسان، والدعاء العام الشامل الذي يسألـه بشدة للـخلود.. فاستـجاب الباقي ذو الـجلال لتلك الرغبة الـملـحة ولذلك الدعاء العام الـمؤثر، فخلق سبـحانه عالـماً باقياً خالداً لـهذا الانسان الفاني الزائل، اذ هل يـمكن ألاّ يستـجيب الفاطرُ الكريـم والـخالق الرحيـم دعاء تسألـه البشرية قاطبة بلسان حالـها ومقالـها، ذلك الدعاء الكلي الدائمي الـحق والـخالص النابع من صميـم حاجتها الفطرية ومن اعماق رغبتها الـملـحة، مع انه يستـجيب دعاء معدة صغيرة، تسألـه بلسان حالـها، فيـخلق لـها أنواعا من الاطعمة اللذيذة ويشبع بها رغبتها الـجزئية للبقاء الـمؤقت؟ حاش لله وكلا.. الف الف مرة كلا. إنّ ردّ هذا الدعاء للـخلود مـحال قطعا، لأن عدم استـجابته جل وعلا ينافي حكمته الـخالدة وعدالته الكاملة ورحـمته الواسعة وقدرته الـمطلقة.

وما دام الانسان عاشقاً للبقاء، فلا بد أن جـميع كمالاته وأذواقه تابعة للبقاء ايضاً. ولـما كان البقاء صفة خاصة للباقي ذي الـجلال، وان اسماءه الـحسنى باقية، وان الـمرايا العاكسة لتـجليات تلك الأسماء تنصبغ بصبغتها وتأخذ حكمها، أي تنال نوعا من البقاء، فلابد أن ألزم شيء لـهذا الانسان وأجلّ وظيفة لـه هو شدّ الاواصر وربط العلاقات مع ذلك الباقي ذي الـجلال والاعتصام التام بأسمائه الـحسنى، لأن ما يُصرف في سبيل الباقي ينال نوعا من البقاء.

هذه الـحقيقة تعبّر عنها الـجـملة الثانية: ((ياباقي انت الباقي)) فتضمد جراحات الانسان الـمعنوية الغائرة، كما تطمئن رغبته الـملـحة للبقاء الـمودعة في فطرته.

u النكتة الثالثة:

يتفاوت في هذه الدنيا تأثير الزمان في فناء الاشياء وزوالـها تفاوتاً كبيراً. فمع ان الـموجودات مكتنفة بعضها ببعص كالدوائر الـمتداخلة، إلاّ ان حكمها من حيث الزوال والفناء مـختلف جداً.

فكما ان دوائر حركة عقارب الساعة العادة للثواني والدقائق والساعات تـختلف في السرعة، رغم تشابهها الظاهري، كذلك الامر في الانسان، حيث ان حكم الزمن متفاوت في دائرة جسمه، ودائرة نفسه، ودائرة قلبه، ودائرة روحه، فبينـما ترى حياة الـجسم وبقاءه ووجوده مـحصورة في اليوم الذي يعيش فيه او في ساعته، وينعدم امامه الـماضي والـمستقبل، اذا بك ترى دائرة حياة قلبه وميدان وجوده يتسع ويستع حتى يضم اياما عدة قبل حاضره واياما بعده، بل ان دائرة حياة الروح وميدانها اعظم واوسع بكثير حيث تسع سنين قبل يومها الـحاضر وسنين بعده.

وهكذا، بناءً على هذا الاستعداد، فان عمر الانسان الفاني يتضمن عمراً باقياً من حيث حياته القلبية والروحية اللتين تـحييان بالـمعرفة الالـهية والـمـحبة الربّانية والعبودية السبـحانية والـمرضيات الرحـمانية، بل ينتـج هذا العمر الباقي الـخالد في دار الـخلود والبقاء، فيكون هذا العمر الفاني بـمثابة عمر ابدي.

اجل! ان ثانية واحدة يقضيها الانسان في سبيل الله الباقي الـحق، وفي سبيل مـحبته، وفي سبيل معرفته وابتغاء مرضاته، تعد سنة كاملة. بل هي باقية دائمة لايعتريها الفناء. بينـما سنة من العمر ان لـم تكن مصروفة في سبيلـه سبـحانه فهي زائلة حتـما، وهي في حكم لـحظة خاطفة، فمهما تطول حياة الغافلين فهي بـمثابة لـحظات عابرة لاتـجاوز ثانية واحدة.

وهناك قول مشهور يدل على هذه الـحقيقة:

سِنة الفراق سَنةٌ وسَنةُ الوصال سِنة.

أي ان ثانية واحدة من الفراق طويلة جدا كأنها سَنة واحدة، بينـما سنة كاملة من الوصال تبدو قصيرة كالثانية الواحدة.

بيد اني أخالف هذا القول الـمشهور فأقول: ان ثانية واحدة يقضيها الانسان ضمن مرضاة الله سبـحانه وفي سبيل الباقي ذي الـجلال ولوجهه الكريـم. أي ثانية واحدة من هذا الوصال ليست كسنة وحدها، بل كنافذة مطلة على حياة دائمة باقية. أما الفراق النابع من نظر الغفلة والضلالة فلا يـجعل السنة الواحدة كالثانية، بل يـجعل الوف السنين كأنها ثانية واحدة.

وهناك مثل آخر اكثر شهرة من السابق يؤيد ما نقرره وهو:

أرض الفلاة مع الاعداء فنـجان سمّ الـخياط مع الاحباب ميدان

أما اذا اردنا ان نبين وجها صحيـحا للـمثل السابق فسيكون كالاتي:

ان وصال الـموجودات الفانية قصير جداً لأنه فان، فمهما طال فهو يـمضي في لـمـحة، ويغدو خيالا ذا حسرة، ورؤيا عابرة تورث الأسى. فالقلب الانساني التواق للبقاء لا يستـمتع من سنة من هذا الوصال الابـمقدار مافي الثانية الواحدة من لذة. بينـما الفراق طويل وميدانه واسع فسيـح، فثانية واحدة منه تستـجـمع الوانا من الفراق ما يستغرق سنة كاملة، بل سنين، فالقلب الـمشتاق الى الـخلود يتأذى من فراق يـمضي في ثانية واحدة، كأنه ينسحق تـحت آلام فراق سنين عدة، حيث يذكّره ذلك الفراق بـما لا يعد من انواع الفراق. وهكذا فماضي جـميع اشكال الـمـحبة الـمادية والـهابطة ومستقبلـها ملىء بألوان من الفراق.

وللـمناسبة نقول:

أيها الناس! أتريدون تـحويل عمركم القصير الفاني الى عمر باق طويل مديد، بل مثمر بالـمغانـم والـمنافع؟

فما دام الـجواب: ان نعم! وهو مقتضى الانسانية، فاصرفوا اذا عمركم في سبيل الباقي، لأن ايـما شيء يتوجه الى الباقي ينال تـجلياً من تـجليات الباقية.

ولـما كان كل انسان يطلب بإلـحاح عمراً طويلا وهو مشتاق الى البقاء، وثمة وسيلة أمامه لتـحويل هذا العمر الفاني الى عمر باق، بل يـمكن تبديلـه الى عمرٍ طويل معنى، فلابد أنه – ان لـم تسقط انسانيته – سيبـحث عن تلك الوسيلة وينقب عنها، ولابد أنه سيسعى حثيثا لتـحويل ذلك الـمـمكن الى فعل ملـموس، ولابد انه سيصبو الى ذلك الـهدف بأعمالـه وحركاته كافة.

فدونكم الوسيلة:

اعملوا لله، التقوا لوجه الله، اسعوا لأجل الله. ولتكن حركاتكم كلـها ضمن مرضاة الله (لله، لوجه الله، لاجل الله) وعندها ترون ان دقائق عمركم القصير قد اصبـحت بـحكم سنين عدة.

تشير الى هذه الـحقيقة ((ليلة القدر)) فمع انها ليلة واحدة إلاّ انها خير من الف شهر – بنص القرآن الكريـم – أي في حكم ثمانين ونيف من السنين.

وهناك اشارة أخرى الى الـحقيقة نفسها، وهي القاعدة الـمقررة لدى اهل الولاية والـحقيقة، تلك هي: ((بسط الزمان)) الذي يثبته ويظهره فعلا الـمعراج النبوي، فقد انبسطت فيه دقائق معدودة الى سنين عدة، فكانت لساعات الـمعراج من السعة والاحاطة والطول ما لألوف السنين، اذ دخل e بالـمعراج الى عالـم البقاء، فدقائق معدودة من عالـم البقاء تضم ألوفا من سنين هذه الدنيا.

ومـما يثبت حقيقة ((بسط الزمان)) هذا ما وقع من حوادث غزيرة للاولياء الصالـحين، فقد كان بعضهم يؤدي في دقيقة واحدة ما ينـجز من الاعمال في يوم كامل. وبعضهم انـجزوا في ساعة واحدة من الـمهمات ما ينـجز في سنة كاملة وبعضهم ختـموا القرآن في دقيقة.

وهكذا فهذه الروايات عنهم وامثالـها لاترقى اليها الشبهات لأن الرواة صادقون صالـحون يترفعون عن الكذب، فضلا عن أن الـحوادث متواترة وكثيرة جدا ويروونها رواية شهود. فلاشك فيها. فبسط الزمان حقيقة ثابتة(1). وهناك نوع منه يصدّقه كل الناس، وهو ما يراه الانسان من رؤيا في الـمنام، اذ قد يرى رؤيا لا تستغرق دقيقة واحد، بينـما يقضي فيها من الاحوال ويتكلـم من الكلام ويستـمتع من اللذائذ ويتألـم من العذاب ما يـحتاج الى يوم كامل في اليقظة وربـما الى ايام عدة.

حاصل الكلام:

مع ان الانسان فان الاّ أنه مـخلوق للبقاء. خَلَقه الباري الكريـم بـمثابة مرآة عاكسة لتـجلياته الباقية، وكلـّفه بالقيام بـمهمات تثمر ثمارا باقيةً، وصوّره على أحسن صورة حتى اصبـحت صورته مدار نقوش تـجليات اسمائه الـحسنى الباقية، لذا فسعادة هذا الانسان ووظيفته الاساس انـما هي: التوجه الى ذلك الباقي بكامل جهوده وجوارحه وبـجـميع استعداداته الفطرية، سائراً قُدماً في سبيل مرضاته، متـمسكا بأسمائه الـحسنى، مردداً بـجـميع لطائفه – من قلب وروح وعقل – ما يردده لسانه: ياباقي انت الباقي:

هو الباقي، هو الازلي الأبدي، هو السرمدي، هو الدائم، هو الـمطلوب، هو الـمـحبوب، هو الـمقصود، هو الـمعبود.

} سُبـحانَكَ لاَ عِلـم لَنَا إِلاّ ما عَلـمتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليـم الـحكيـم{ (البقرة:32)

} رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَو أَخطَأنَا{ (البقرة:286).
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-01-2011
  #4
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: اللمعات

اللـمعة الرابعة

}لقد ارتؤى ان يطلق على هذه الرسالة اسم ((منهاج السنة)) {

ان ((مسألة الامامة)) مع كونها مسألة فرعية الاّ أن كثرة الاهتـمام بها جعلتها تدخل ضمن مباحث الايـمان في كتب علـم الكلام واصول الدين وغدت من هذه الـجهة ذات علاقة بـخدمتنا الاساسية، خدمة القرآن والايـمان، وقد بـحثت بـحثا جزئيا.

بِسْمِ الله الرّحـمن الرّحيـم

} لقد جاءكُم رسولٌ من أنفُسكُم عَزيزٌ عَليهِ مَا عَنتـم حريصٌ عليكُم بالـمؤمنينَ رَؤُفٌ رحيـم ` فإن تَولـّوا فقُل حَسَبيَ الله لا الـه إلاّ هو عليه تَوكلتُ وهو رَبُّ العَرشِ العَظيـم { (التوبة:128-129)

} قُل لا أسئلُكُم عَليه أجراً إلاّ الـمودّةَ في القُربى{ (الشورى:23)

سنشير الى جـملة من الـحقائق العظيـمة التي تزخر بها هذه الآيات الـجليلة، وذلك ضمن مقامين اثنين.

الـمقام الاول

((عبارة عن أربع نكات))

u النكتة الاولى:

وهي تعبّر عن كمال رأفة الرسول الاكرم e وغاية رحـمته على أمته.

نعم، لقد وردت روايات صحيـحة تبين مدى رأفته الكاملة وشفقته التامة على أمته، بأنه e يدعو يوم الـحشر الأعظم بـ: ((أمّتي أمّتي)(1) في الوقت الذي يدعو كلُ أحد، بل حتى الأنبياء عليهم السلام بـ: ((نفسي نفسي)) من هول ذلك اليوم ورهبته. فكما تبين هذه الروايات عظيـم شفقته على أمته فقد سمعتْ والدتهُ منه عند ولادته انه يناجي: ((أمتي أمتي)) كما هو مصدَّق لدى اهل الكشف من الاولياء الصالـحين. وكذا ان سيرته العطرة كلـها، وما نشره في الآفاق من مكارم الاخلاق الـمكللة بالشفقة والرحـمة، تبين كمال رأفته وشفقته، كما انه أظهر عظيـم شفقته على أمته باظهار حاجته التي لاتـحد الى صلوات أمته عليه تلك الصلوات التي تبين مدى علاقته الرؤوفة بـجـميع سعادات امته.

ففي ضوء هذه الرأفة الشاملة وهذه الرحـمة الواسعة لـهذا الـمرشد الرؤوف الرحيـم e ؛ كم يكون الإعراضُ عن سنته السنية كفراناً عظيـماً بل موتاً للوجدان! قس ذلك بنفسك وقدّر.

u النكتة الثانية:

ان الرسول الاكرم e قد أبدى رأفة عظيـمة تـجاه أمور ومواد جزئية خاصة، ضمن مهمته النبوية العامة الشاملة. فيبدو ان صرف تلك الشفقة العظيـمة والرأفة الواسعة الى تلك الامور الـجزئية والـمواد الـخاصة لا يناسب – في ظاهر الأمر – عظَم وظيفة النبوة ولا يلائمها. ولكن الواقع والـحقيقة ان تلك الـمادة الـجزئية والأمر الـخاص يـمثل طرف سلسلة تتولى في الـمستقبل مهمة نبوية كلية؛ لذا اُعطي لـمـمثلـها تلك الاهمية البالغة.

مثال ذلك: ان اظهار الرسول e شفقة فائقة وأهمية بالغة للـحسن والـحسين رضي الله عنهما في صباهما، ليست هي شفقة فطرية ومـحبة نابعة من الاحساس بصلة القربى وحدها، بل نابعة ايضاً من انهما بدايةُ سلسلةٍ نورانيةٍ تتولى مهمة من مهمات النبوة العظيـمة، وأن كلاً منهما منشأ جـماعة عظيـمة من وارثي النبوة، ومـمثل عنها وقدوة لـها.

نعم! ان حـمل الرسول e الـحسن رضي الله عنه في حضنه وتقبيلـه رأسَه بكمال الشفقة والرحـمة هو لأجل الكثيرين من ورثة النبوة الشبيهين بالـمهدي الـحاملين للشريعة الغراء الـمتسلسلين من سلالة الـحسن الـمـنـحدرين من نسلـه النوراني الـمبارك أمثال الشيـخ الكيلاني(1). فلقد شاهد الرسول الكريـم e ببصيرة النبوة ما يضطلع به هؤلاء الاكارم في الـمستقبل من مهام مقدسة جليلة، فاستـحسن خدماتهم وقدّر اعمالـهم، فقبّل راس الـحسن رضي الله عنه علامة على التقدير والـحث. ثم ان الاهتـمام العظيـم الذي أولاه الرسول الكريـم e بالـحسين رضي الله عنه وعطفه الشديد مـحوه انـما هو للذين يتسلسلون من نسلـه النوراني من ائمة عظام وارثي النبوة الـحقيقيين الشبيهين بالـمهدي من امثال زين العابدين وجعفر الصادق.

نعم، فقد قبّلe عنق الـحسين رضي الله عنه، واظهر لـه بالغ شفقته وكمال اهتـمامه لاجل اولئك الذين سيرفعون شأن الإسلام ويؤدون وظيفة الرسالة من بعده.

نعم، ان نظر الرسول e الذي يشاهد بقلبه الانيس بالغيب ميدان الـحشر الـمـمتد في الأبدية وهو مازال في الدنيا، في خير القرون، والذي يرى الـجنة في السموات العلى وينظر الى الـملائكة هناك وهو في الارض.. والذي يرى الاحداث الـمستترة بـحـجب الـماضي الـمظلـمة منذ زمن سيدنا آدم عليه السلام، بل حظى برؤيته تعالى.. ان هذا النظر النوراني والبصيرة النافذة للـمستقبل، لاريب أنه قد رأى الاقطاب العظام وأئمة ورثة النبوة والـمهديين الـمتسلسلين وراء الـحسن والـحسين، فقبّل رأسيهما باسم اولئك جـميعاً.

نعم، ان في تقبيلـه e رأسَ الـحسن رضي الله عنه حصةً عظيـمة للشيـخ الكيلاني.

u النكتة الثالثة:

ان معنى قولـه تعالى } الاّ الـموّدَة في القُربى{ (الشورى:23) – على قول – هو: أن الرسول الاكرم e لدى قيامه بـمهمة الرسالة لا يسأل أجراً من أحد، الاّ مـحبةَ آل بيته فحسب.

واذا قيل:

إن أجراً من حيث قرابة النسل قد أُخذ بنظر الاعتبار حسب هذا الـمعنى بينـما الآية الكريـمة: } ان أكرمكُم عند الله اتقاكم{ (الـحـجرات:13) تدل على ان وظيفة الرسالة تستـمر من حيث التقرب الى الله بالتقوى لا من حيث قرابة النسل.

الـجواب: ان الرسول e قد شاهد بنظر النبوة الأنيس بالغيب: أن آل بيته سيكونون بـمثابة شجرة نورانية عظيـمة تـمتد اغصانُها وفروعها في العالـم الإسلامي، فالذين يرشدون مـختلف طبقات العالـم الإسلامي الى الـهدى والـخير، ويكونون نـماذج شاخصة للكمالات الانسانية جـمعاء، سيظهرون باكثريتهم الـمطلقة من آل البيت.

وقد كشف عن قبول دعاء امته بـحق آل البيت الوارد في التشهد وهو ((اللهم صلِّ على مـحـمد وعلى آل مـحـمد كما صليت على ابراهيـم وعلى آل ابراهيـم في العالـمين، انك حـميد مـجيد)). أي: كما ان معظم الـمرشدين الـهادين النورانيين من ملة ابراهيـم –عليه السلام – هم أنبياء من نسلـه وآلـه، كذلك رأى e ان اقطاب آل بيته يكونون كأنبياء بني اسرائيل في الامة الـمـحـمدية يؤدون وظيفة خدمة الإسلام العظيـمة في شتى طرقها ومسالكها. ولاجل هذا؛ اُمر e ان يقول: } قُل لااسئلكم عليه أجراً الاّ الـموّدَة في القُربى{ (الشورى:23) وطلب مودّة أمته لآل بيته. والذي يؤيد هذه الـحقيقة هو ما جاء في روايات أخرى انه e قال: ((يا ايها الناس اني قد تركت فيكم ما ان اخذتـم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي))(1). ذلك لان آل البيت هم منبع السنة الشريفة والـمـحافظون عليها والـمكلفون أولاً بالالتزام بها.

وهكذا وضحت حقيقة هذا الـحديث بناء على ما ذكر آنفاً، أي: بالاتباع التام للكتاب والسنة الشريفة. أي: ان الـمراد من آل البيت من حيث وظيفة الرسالة هو إتباع السنة النبوية، فالذي يدع السنة الشريفة لا يكون من آل البيت حقيقة كما لا يـمكن ان يكون موالياً حقيقياً لآل البيت.

ثم ان الـحكمة في ارادته e في جـمع الأمة حول آل البيت هي: ان الرسول الكريـم e قد علـم باذن إلـهي ان آل البيت سيكثر نسلـهم بـمرور الزمن بينـما الإسلام سيؤول الى الضعف. فيلزم والـحالة هذه وجود جـماعة مترابطة متساندة في منتهى القوة والكثرة لتكون مركزاً ومـحوراً لرقي العالـم الإسلامي الـمعنوي. وقد علـمe بهذابإذن إلـهي فرغّب في جـمع أمته حول آل بيته.

نعم ان افراد آل البيت وان لـم يكونوا سابقين ومتقدمين على غيرهم في الايـمان والاعتقاد الاّ انهم يسبقونهم كثيراً في التسليـم والالتزام والولاء للإسلام، لانهم يوالون الإسلام فطرة وطبعاً ونسلاً، فالـموالاة الطبعية لاتُترك ولو كانت في ضعف وعدم شهرة أو حتى على باطل، فكيف بـموالاة لـحقيقة ارتبطت بها سلسلة أجداده الذين ضحوا بأرواحهم رخيصة في سبيلـها فنالوا الشرف بها، فتلك الـحقيقة هي في منتهى القوة وذروة الشرف وعلى الـحق الـمبين، أفيستطيع من يشعر بداهة بـمدى اصالة هذه الـموالاة الفطرية ان يتركها؟

فأهل البيت بهذه الالتزام الشديد للإسلام وهو التزام فطري يرون الأمارة البسيطة بـجانب الإسلام برهاناً قوياً لانهم يوالون الإسلام فطرة بينـما غيرهم لا يلتزم الاّ بعد اقتناعه بالبرهان القوي.

u النكة الرابعة:

لـمناسبة النكتة الثالثة نشير اشارة قصيرة الى مسألة ضُخـمت الى درجة كبيرة بـحيث دخلت كتب العقائد وتسلسلت مع أسس الإيـمان، تلك هي مسألة النزاع بين أهل السنة والشيعة. والـمسألة هي:

ان أهل السنة والـجـماعة يقولون: ((ان سيدنا علياً رضي الله عنه هو رابع الـخلفاء الراشدين، وان ابا بكر الصديق رضي الله عنه هو أفضل منه وأحق بالـخلافة، فتسلـم الـخلافة اولاً)).

والشيعة يقولون: ((ان حق الـخلافة كان لعلي رضي الله عنه الاّ أنه ظُلـم، وعلي رضي الله عنه أفضل من الكل)).

وخلاصة ما يوردونه من أدلة لدعواهم هي انهم يقولون: ان ورود أحاديث شريفة كثيرة في فضائل سيدنا علي رضي الله عنه، وكونه مرجعاً للاكثرية الـمطلقة من الاولياء والطرق الصوفية، حتى لُقّب بسلطان الاولياء، مع ما يتصف به من صفات فائقة في العلـم والشجاعة والعبادة، فضلاً عن العلاقة القوية التي يظهرها الرسول e به وبآل البيت الذين يأتون من نسلـه.. كل ذلك يدلّ على أنه الافضل. فالـخلافة كانت من حقه ولكن اُغتصبت منه.

الـجواب: ان إقرار سيدنا علي نفسه مراراً وتكراراً، واتباعه الـخلفاء الثلاثة وتوليه وظيفة ((شيـخ القضاة)) وكونه من اهل الـحل والعقد طوال عشرين سنة وأكثر.. كل ذلك يـجرح دعوى الشيعة.

ثم ان الفتوحات الإسلامية وجهاد الاعداء زمن الـخلفاء الثلاثة، بـخلاف ما حدث زمن خلافة علي رضي الله عنه من حوادث وفتن، تـجرح ايضاً دعوى الشيعة من جهة الـخلافة.

أي ان دعوى أهل السنة والـجـماعة حق.

فان قيل:

ان الشيعة قسمان: أحدهما: شيعة الولاية. والآخر: شيعة الـخلافة.

فليكن هذا القسم الثاني غير مـحق باختلاط السياسة والاغراض في دعاواهم، ولكن لااغراض ولا اطماع سياسية في القسم الاول. فضلاً عن ذلك فقد التـحقت شيعة الولاية بشيعة الـخلافة. أي ان قسماً من الاولياء في الطرق الصوفية يرون ان سيدنا علياً رضي الله عنه هو الافضل، فيصدقّون دعوى شيعة الـخلافة الذين هم بـجانب السياسة.

الـجواب: انه ينبغي النظر الى سيدنا علي رضي الله عنه من زاويتين او من جهتين:

الـجهة الاولى: النظر اليه من زاوية فضائلـه الشخصية ومقامه الشخصي الرفيع.

الـجهة الثانية: هي من زاوية تـمثيلـه الشخص الـمعنوي لآل البيت. والشخص الـمعنوي لآل البيت يعكس نوعاً من ماهية الرسول الكريـم e .

فباعتبار الـجهة الاولى: ان جـميع اهل الـحقيقة وفي مقدمتهم سيدنا علي يقدمّون سيدنا ابا بكر وعمر رضي الله عنهما، فقد رأوا مقامهما اكثر رفعة في خدمة الإسلام والقرب الإلـهي.

ومن حيث الـجهة الثانية أي كون سيدنا علي رضي الله عنه مـمثلاً عن الشخص الـمعنوي لآل البيت(1). فالشخص الـمعنوي لآل البيت من حيث كونه مـمثلاً لـحقيقة مـحـمدية، لا يرقى اليه شيء بالـموازنة. وكثرة الاحاديث النبوية الواردة في الثناء على سيدنا علي رضي الله عنه وبيان فضائلـه هي لأجل هذه الـجهة الثانية، ومـما يؤيد هذه الـحقيقة رواية صحيـحة بهذا الـمعنى: (( ان نسل كل نبي منه، وانا نسلي من علي))(2).

اما سبب كثرة انتشار الاحاديث بـحق شخصية سيدنا علي رضي الله عنه والثناء عليه أكثر من سائر الـخلفاء الراشدين فهو: ان أهل السنة والـجـماعة وهم أهل الـحق، قد نشروا الروايات الواردة بـحق سيدنا علي رضي الله عنه تـجاه هجوم الأمويين والـخوارج عليه وتنقيصهم من شأنه ظلـماً. بينـما الـخلفاء الراشدون الآخرون لـم يكونوا عرضة الى هذه الدرجة من النقد والـجرح، لذا لـم يروا داعياً لنشر الاحاديث الذاكرة لفضائلـهم.

ثم انه e قد رأى بنظر النبوة ان سيدنا علياً رضي الله عنه سيتعرض الى حوادث أليـمة وفتن داخلية، فسلاّه، وأرشد الأمة باحاديث شريفة من امثال: ((من كنت مولاه فعلي مولاه))(1)، وذلك لينقذ سيدنا علياً من اليأس وينـجي الأمة من سوء الظن به.

ان الـمـحبة الـمفرطة التي يوليها شيعة الولاية لسيدنا علي رضي الله عنه وتفضيلـهم لـه من جهة الطريقة لا يـجعلـهم مسؤولين بـمثل مسؤولية شيعة الـخلافة، لأن اهل الولاية ينظرون نظر الـمـحبة الى مرشديهم حسب مسلكهم. ومن شأن الـمـحب؛ الغلو والافراط والرغبة في أن يرى مـحبوبه أعلى من مقامه. فهم يرون الأمر هكذا فعلاً.

فأهل الأحوال القلبية يـمكن ان يعذروا اثناء غليان الـمـحبة لديهم وغلبتها عليهم، ولكن بشرط الاّ يتعدى تفضيلـهم الناشىء من الـمـحبة الى ذم الـخلفاء الراشدين وعداوتهم، وألاّ يـخرج عن نطاق الاصول الإسلامية.

اما شيعة الـخلافة فنظراً لدخول الاغراض السياسية فيها، فلا يـمكنهم أن ينـجوا من العداء والاغراض الشخصية، فيفقدون حق الاعتذار لـهم، ويـحرمون منه. حتى انهم يظهرون انتقامهم من ((عمر)) في صورة حب ((علي)) وذلك لان القومية الايرانية قد جُرحت بيد سيدنا عمر رضي الله عنه. حتى اصبـحوا مصداق القول: لا لـحب علي بل لبغض عمر. وان خروج عمرو بن العاص على سيدنا علي رضي الله عنه في الـمعركة الفجيعة الـمؤلـمة، كل ذلك أورث الشيعة غيظاً شديداً وعداءً مفرطاً لإسم ((عمر)).

أما شيعة الولاية فليس لـهم حق انتقاد أهل السنة والـجـماعة. لان اهل السنة كما لا يُنقصون من شأن، سيدنا علي رضي الله عنه فهم يـحبونه حباً خالصاً جاداً، ولكنهم يـحترزون من الافراط في الـحب الوارد ضرره وخطره في الـحديث الشريف.

اما الثناء النبوي لشيعة علي رضي الله عنه كما ورد في احاديث نبوية فانـما يعود الى أهل السنة والـجـماعة لانهم هم الـمتبعون لسيدنا علي رضي الله عنه على وفق الاستقامة، لذا فهم شيعة سيدنا علي رضي الله عنه.

وقد جاء في حديث صحيـح صراحة؛ ان خطورة الغلو في مـحبة سيدنا علي رضي الله عنه كخطورة الغلو في مـحبة سيدنا عيسى عليه السلام على النصارى(1).

فان قالت شيعة الولاية: انه بعد قبول فضائل خارقة لسيدنا علي رضي الله عنه لا يـمكن قبول تفضيل سيدنا الصديق رضي الله عنه عليه.

الـجواب: اذا ما وضع في كفة الـميزان الفضائل الشخصية لسيدنا ابي بكر رضي الله عنه أو فضائل سيدنا عمر الفاروق رضي الله عنه، وما قام كل منهما من خدمات جليلة من حيث وراثة النبوة زمن خلافتهما، ووضع في الكفة الاخرى الـمزايا الـخارقة لسيدنا علي رضي الله عنه ومـجاهدات الـخلافة في زمانه وما اضطر اليه من معارك داخلية دامية أليـمة وما تعرض لـه بهذا من سوء الظن، فلا ريب ان كفة سيدنا الصديق رضي الله عنه او كفة سيدنا عمر الفاروق رضي الله عنه أو كفة سيدنا ذي النورين رضي الله عنه هي التي تكون راجـحة. وهذا الرجـحان هو الذي شاهده اهل السنة والـجـماعة، وبنوا تفضيلـهم عليه.

ثم ان رتبة النبوة اسمى وارفع بكثير من درجة الولاية بـحيث ان جلوة بوزن درهم من النبوة تفضل رطلاً من جلوة الولاية، كما اثبتناه في ((الكلـمة الثانية عشرة والكلـمة الرابعة والعشرين)) من الكلـمات، فمن زاوية النظر هذه؛ فإن حصة كل من الصديق والفاروق رضي الله عنهما من حيث وراثة النبوة وتأسيس احكام الرسالة قد زيدت من الـجانب الإلـهي، فالتوفيق الذي حالفهما في زمن خلافتهما قد صار دليلاً لدى اهل السنة والـجـماعة. وحيث ان فضائل سيدنا علي الشخصية لاتُسقط من حكم تلك الـحصة الزائدة الكثيرة الآتية من وراثة النبوة، فقد اصبـح سيدنا علي رضي الله عنه شيـخ القضاة للشيـخين الـمكرمين زمن خلافتهما، وكان في طاعتهما.

ان أهل الـحق، اهل السنة والـجـماعة الذين يـحبون سيدنا علياً رضي الله عنه ويوقّرونه، كيف لا يـحبون مَن كان سيدنا علي رضي الله عنه نفسه يـحبهما ويـجلـهما؟

لنوضح هذه الـحقيقة بـمثال: رجل ثري جداً وزع ميراثه واموالـه الطائلة على اولاده. فأعطى لاحدهم عشرين رطلاً من الفضة واربعة ارطال من الذهب، واعطى لآخر خـمسة ارطال من الفضة وخـمسة ارطال من الذهب، واعطى لآخر ثلاثة ارطال من الفضة وخـمسة ارطال من الذهب، فلاشك ان الاخيرين رغم انهما قد قبضا أقل من الأول كمية الاّ انهما قبضا أعلى منه نوعيةً.

وهكذا في ضوء هذا الـمثال، ان الزيادة القليلة في حصة الشيـخين من ذهب حقيقة الأقربية الإلـهية الـمتـجلية من وراثة النبوة وتأسيس احكام الرسالة ترجـح على الكثير من الفضائل الشخصية وجواهر الولاية والقرب الإلـهي لسيدنا علي رضي الله عنه. فينبغي في الـموازنة النظر من هذه الزاوية وأخذها بنظر الاعتبار، والاّ تتغير صورة الـحقيقة ان كانت الـموازنة تعقد مع الشجاعة والعلـم الشخصي وجانب الولاية.

ثم ان سيدنا علياً رضي الله عنه لا يباريه احد من جانب كونه الـمـمثل في ذاته الشخص الـمعنوي لآل البيت، والذي تـجلى في هذه الشخصية الـمعنوية من حيث الوراثة النبوية الـمطلقة. وذلك لأن السر العظيـم للرسول الاعظم e في هذا الـجانب.

أما شيعة الـخلافة فلا حق لـهم غير الـخـجل أمام أهل السنة والـجـماعة. لأن هؤلاء يُنقصون من شأن سيدنا علي رضي الله عنه في دعواهم الـحبَّ الـمفرط لـه بل يفضي مذهبهم الى وصمه بسوء الـخلق – حاشاه – حيث يقولون: ((ان سيدنا علياً رضي الله عنه قد ماشى سيدنا الصديق والفاروق رضي الله عنهما مع انهما غير مـحقين واتقى منهما تقاةً))، وباصطلاح الشيعة انه عمل بالتقية. بـمعنى انه كان يـخافهما وكان يرائيهما في اعمالـه! ان وصف مثل هذا البطل الإسلامي العظيـم الذي نال اسم: ((اسد الله)) واصبـح قائداً لدى الصديقين ووزيراً لـهما.. لقول ان وصفه بانه كان يرائي ويـخاف ويتصنع بالـحب لـمن لا يـحبهم حقاً، واتباعه لغير الـمـحقين اكثر من عشرين عاماً ومسايرتهما تـحت سطوة الـخوف، ليس من الـمـحبة في شيء. وسيدنا علي رضي الله عنه يتبرأ من مثل هذه الـمـحبة.

وهكذا فان مذهب أهل الـحق لا ينقص من شأن سيدنا علي رضي الله عنه بأية جهة كانت ولا يتهمه في اخلاقه قطعاً ولا يسند الى مثل هذا البطل الـمقدام الـخوف، ويقولون: ((لولـم يكن سيدنا علي رضي الله عنه يرى الـحق في الـخلفاء الراشدين لـما كان يعطيهم الولاء لدقيقة واحدة وما كان ينقاد لـحكمهم أصلاً)).

بـمعنى: انه رضي الله عنه قد عرف انهم على حق واقرّ بفضلـهم فبذل شجاعته الفائقة في سبيل مـحبة الـحق.

مـحصل مـما سبق:

انه لاخير في الافراط والتفريط في كل شيء. وان الاستقامة هي الـحد الوسط الذي اختاره اهل السنة والـجـماعة، ولكن مع الاسف كما تستر بعض أفكار الـخوارج والوهابية بستار اهل السنة والـجـماعة فان قسماً من الـمفتونين بالسياسة والـملـحدين ينتقدون سيدنا علياً رضي الله عنه ويقولون: ((انه لـم يوفق كاملاً في ادارة دفة الـخلافة لـجهلـه حاشاه – بالسياسة فلـم يقدر على ادارة الأمة في زمانه)). فازاء هذا الاتهام الباطل من هؤلاء اتـخذ الشيعة طور الغيظ والاستياء من اهل السنة. والـحال ان دساتير اهل السنة واسس مذهبهم لاتستلزم هذه الافكار بل تثبت عكسها. لذا لا يـمكن إدانة أهل السنة بافكار ترد من الـخوارج ومن الـملـحدين قطعاً، بل ان أهل السنة هم أكثر ولاءً وحباً من الشيعة لسيدنا علي رضي الله عنه. فهم في جـميع خطبهم ودعواتهم يذكرون سيدنا علياً بـما يستـحقه من الثناء وعلو الشأن ولاسيـما الاولياء والاصفياء الذين هم باكثريتهم الـمطلقة على مذهب أهل السنة والـجـماعة، فهم يتـخذونه مرشدهم وسيدهم. فما ينبغي للشيعة ان يـجابهوا اهل السنة بالعداء تاركين الـخوارج والـملـحدين الذين هم اعداء الشيعة وأهل السنة معاً. حتى يترك قسم من الشيعة السنة النبوية عناداً لأهل السنة!.

وعلى كل حال فقد أسهبنا في هذه الـمسألة حيث انها قد بـحثت كثيراً بين العلـماء.

فيا اهل الـحق الذين هم اهل السنة والـجـماعة!

ويا ايها الشيعة الذين اتـخذتـم مـحبة اهل البيت مسلكاً لكم!

ارفعوا فوراً هذا النزاع فيـما بينكم، هذا النزاع الذي لامعنى لـه ولا حقيقة فيه، وهو باطل ومضر في الوقت نفسه. وان لـم تزيلوا هذا النزاع فان الزندقة الـحاكمة الان حكماً قوياً تستغل أحدكما ضد الآخر وتستعملـه أداة لإفناء الآخر، ومن بعد افنائه تـحطـّم تلك الاداة ايضاً.

فيلزمكم نبذ الـمسائل الـجزئية التي تثير النزاع، لانكم اهل التوحيد بينكم مئات الروابط الـمقدسة الداعية الى الأخوة والاتـحاد.

الـمقام الثاني

سيـخصص لبيان الـحقيقة الثانية للآية الكريـمة *: } فإن تَولـّوا فقُل حَسَبيَ الله لا الـه إلاّ هو عليه تَوكلتُ وهو رَبُّ العَرشِ العَظيـم{ (التوبة: 129).
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-01-2011
  #5
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: اللمعات

اللمعة الـخامسة

ستكون هذه اللمعة رسالة تبين حقيقة جليلة للآية الكريـمة: } حَسبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ{ (آل عمران:173) ضمن خـمسة عشرة مرتبة، الا ان تأليفها قد تأجل في الوقت الـحاضر لكونها ذات علاقة بالتفكر والذكر اكثر من علاقتها بالعلم والحقيقة، لذا جاءت باللغة العربية(1).

اللمعة السادسة

في بيان ((لاحول ولاقوة الاّ بالله العلي العظيم)) التي تعبّر عن حقيقة جليلة تنبع من كثير من الآيات الكريـمة. توضحها هذه اللمعة في مراتب فكرية تقرب من عشرين مرتبة والتي كنت استشعر بها في نفسي واشاهدها في سيري الروحي اثناء الذكر والتفكر كما في اللمعة الـخامسة ولكن لكونها ذات علاقة بالذوق الروحي والـحال القلبي اكثر من تعلقها بالعلم والحقيقة ارتؤي وضعها في ختام اللمعات وليس في بدايتها(2).

اللـمعة السابعة

(تـخص سبعة انواع من اخبار الآيات التي في ختام سورة الفتـح بالغيب)

بسم الله الرحـمن الرحيـم

} لَقدْ صَدَق الله رَسُولـه الرُؤيا بالـحق لَتَدْخُلُنّ الـمسْجدَ الـحرامَ إن شَاء الله آمنينَ مـحلـّقين رؤسَكُم ومُقصّرين لاتـخافونَ فَعَلـم مَالـم تَعلـموا فَجَعلَ مِنْ دون ذلك فتـحاً قريباً ` هو الذي أرسلَ رسولـه بالـهدى ودين الـحق ليُظهره على الدين كلـه وكفى بالله شَهيداً ` مـحـمدٌ رَسولُ الله والذينَ مَعَه اشداءُ على الكُفّار رُحـماءُ بينَهم تَريهم رُكّعاً سُجّداً يَبتَغُونَ فَضْلاً منَ الله ورِضواناً سيـماهُم في وجُوهِهِم مِن أثَرِ السُّجُودِ ذلك مَثَلـهم في التَورية وَمَثلـهم في الانـجيلِ كزَرعٍ أخرَجَ شَطْئَهُ فآزَرَهُ فاستَغلَظَ فاستَوى عَلى سُوقِهِ يُعجبُ الزرّاعَ ليَغيظَ بهمُ الكُفّارَ وَعَدَ الله الذينَ آمنوا وَعملوا الصالـحات منهُم مَغفرةً وأجراً عظيـماً{ (الفتـح:27-29)

هذه الآيات الثلاث في سورة الفتـح لـها وجوه اعجازية كثيرة جداً.

فوجه من الوجوه الكلية العشرة لاعجاز القرآن هو الاخبار عن الغيب الذي يظهر في هذه الآيات الكريـمة بسبعة أو ثمانية وجوه:

u الوجه الاول:

قولـه تعالى: } لَقدْ صَدَق الله رَسُولـه الرُؤيا بالـحق لَتَدْخُلُنّ الـمسْجدَ الـحرامَ إن شَاء الله آمنينَ ...{ الـخ الآية، تـخبر اخباراً قاطعاً عن فتـح مكة قبل وقوعه. وقد فتـحت فعلاً بعد سنتين كما اخبرت هذه الآية.

u الوجه الثاني:

قولـه تعالى: } فَجَعلَ مِنْ دون ذلك فتـحاً قريباً{

تنبىء هذه الآية: ان صلـح الـحديبية وإن بدا ظاهراً انه ليس في صالـح الـمسلـمين وان لقريش ظهوراً على الـمسلـمين الى حدٍ ما، الاّ أنه سيكون بـمثابة فتـح معنوي مبين، ومفتاحاً لبقية الفتوحات. وان السيوف الـمادية وان دخلت أغمادها في الواقع الاّ أن القرآن الكريـم قد سلّ سيفه الالـماسي البارق وفتـح القلوب والعقول، اذ بسبب الصلـح اندمـجت القبائل فيـما بينها واختلطت فاستولت فضائل الإسلام على العناد فمزّقت انوارُ القرآن حـجبَ التعصب القومي الذميـم.

فمثلاً: ان داهية الـحرب خالد بن الوليد وداهية السياسة عمرو بن العاص اللذين يأبيان أن يُغلبا، غلبهما سيف القرآن الذي سطع في صلـح الـحديبية، حتى سارا معاً الى الـمدينة الـمنورة وسلـما الإسلام رقابهما، وانقادا اليه انقياد خضوع وطاعة حتى اصبـح خالد بن الوليد سيف الله الـمسلول تفتـح به الفتوحات الإسلامية.

سؤال مهم:

ان صحابة الرسول الكريـم e ، وهو حبيب رب العالـمين وسيد الكونين e ، قد غُلبوا امام الـمشركين في نهاية معركة اُحد وبداية معركة حنين. فما الـحكمة في هذا؟

الـجواب: لأنه حينذاك كان بين الـمشركين كثيرون من امثال خالد بن الوليد، مـمن سيكونون في الـمستقبل مثل كبار الصحابة في ذلك الزمان، فلأجل الاّ تُكسر عزّتُهم كلياً اقتضت حكمة الله ان تكافأهم مكافأة عاجلة لـحسناتهم الـمستقبلية، بـمعنى ان صحابةً في الـماضي غُلبوا امام صحابة في الـمستقبل، لئلا يدخل هؤلاء – أي صحابة الـمستقبل – في الإسلام خوفاً من بريق السيوف، بل شوقاً الى بارقة الـحقيقة، ولئلا تذوق شهامتهم الفطرية الـهوان كثيراً.

u الوجه الثالث:

ان الآية الكريـمة تـخبر بقيد } لاتـخافون{ بأنكم ستدخلون البيت الـحرام وتطوفون حول الكعبة بأمان تام، علـماً ان معظم قبائل الـجزيرة العربية ومن هم حوالي مكة الـمكرمة وغالبية قريش كلـهم اعداء للـمسلـمين، فهذا الإخبار يدل على انكم تدخلون في اقرب وقت الـمسجد وتطوفون دون أن يداخلكم الـخوف، وان الـجزيرة ستدين لكم بالطاعة، وقريش تكون في حظيرة الإسلام ويعم الامن والامان. فوقع كما اخبرت الآية.

u الوجه الرابع:

قولـه تعالى: } هو الذي أرسلَ رسولـه بالـهدى ودين الـحق ليُظهره على الدين كلـه{ .

هذه الآية تـخبر إخباراً قاطعاً: ان الدين الذي جاء به الرسول الكريـم e سيظهر على الاديان كلـها، علـماً ان النصرانية واليهودية والـمـجوسية التي يعتنقها مئات الـملايين من الناس كانت أدياناً رسمية لدول كبرى كالصين وايران وروما، والرسول الكريـم e لـم يظهر بعدُ ظهوراً تاماً على قبيلته نفسها، فالآية الكريـمة تـخبر عن ظهور دينه على الاديان كافة وعلى الدول كافة، بل تـخبر عن هذا الظهور بكل يقين وجزم اخباراً قاطعاً. ولقد صدّق الـمستقبل هذا الـخبر الغيبي بامتداد سيف الإسلام من بـحر الـمـحيط الشرقي الى بـحر الـمـحيط الغربي.



u الوجه الـخامس:

} مـحـمدٌ رَسولُ الله والذينَ مَعَه اشداءُ على الكُفّار رُحـماءُ بينَهم تَريهم رُكّعاً سُجّداً يَبتَغُونَ فَضْلاً منَ الله ورِضواناً سيـماهُم في وجُوهِهِم مِن أثَرِ السُّجُودِ { .

هذه الآية صريـحة في معناها من ان الصحابة الكرام هم افضل بني الانسان بعد الانبياء عليهم السلام لـما يتـحلون به من سجايا سامية ومزايا راقية، وفي الوقت نفسه تبين ما تتصف به طبقات الصحابة في الـمستقبل من صفات مـمتازة مـختلفة خاصة بهم، كما تبين بالـمعنى الاشارى – لدى اهل التـحقيق – الى ترتيب الـخلفاء الذين سيـخلفون مقام النبي e بعد وفاته، فضلاً عن اخبارها عن ابرز صفة خاصة بكل منهم مـما اشتهروا به.

وذلك: فان قولـه تعالى: } والذينَ مَعَه{ يدل على سيدنا الصديق رضي الله عنه الـمتصف بالـمعية الـمـخصوصة والصحبة الـخاصة، بل بوفاته اولاً دخل ضمن معيته ايضاً.

كما ان قولـه تعالى: } اشداءُ على الكُفّار{ يدل على سيدنا عمر رضي الله عنه الذي سيهز دول العالـم ويرعبهم بفتوحاته، وسيشتهر بعدالته على الظالـمين كالصاعقة.

وتـخبر الآية بلفظ } رحـماء بينهم{ عن سيدنا عثمان رضي الله عنه الذي لـم يرض باراقة الدماء بين الـمسلـمين حينـما كانت تتهيأ اعظم فتنة في التأريـخ، ففضّل بكمال رحـمته ورأفته ان يضحي بروحه ويسلـم نفسه للـموت، واستشهد مظلوماً وهو يتلو القرآن الكريـم.

كما ان قولـه تعالى: } تَريهم رُكّعاً سُجّداً يَبتَغُونَ فَضْلاً منَ الله ورِضواناً{ يشير الى اوضاع سيدنا علي رضي الله عنه الذي باشر مهام الـخلافة بكمال الاستـحقاق والاهلية وهو في كمال الزهد والعبادة والفقر والاقتصاد واختار الدوام على السجود والركوع كما هو مصدّق عند الناس. فضلاً عن اخبارها أنه لا يكون مسؤولاً عن حروبه التي دخلـها في تلك الفترة وفي الـمستقبل، والذي كان يبتغي فيها فضلاً من الله ورضواناً.

u الوجه السادس:

} ذلك مَثَلـهم في التَورية{ هذه الـجهة فيها اخبار غيبي بـجهتين:

الـجهة الاولى:

انها تـخبر عن اوصاف الصحابة الواردة في التوراة، وهي في حكم الغيب بالنسبة لرسول أمي e . اذ قد وضح في الـمكتوب التاسع عشر ان في التوراة وصفاً لصحابة الرسول الذي سيأتي في آخر الزمان ((معه الوف الاطهار)) في يـمينه او ((معه رايات القديسين)) بـمعنى ان اصحابه مطيعون وعبّاد صالـحون واولياء لله حتى يوصفون بالقديسين الاطهار.

فعلى الرغم مـما طرأ من تـحريفات كثيرة على التوراة بسبب ترجـماتها العديدة لألسنة متنوعة، فانها مازالت تصدّق بآيات كثيرة منها هذه الآية الكريـمة في ختام سورة الفتـح } مَثَلـهم في التَورية{ .

الـجهة الثانية من الاخبار الغيبي هي:

ان } مَثَلـهم في التَورية…{ تـخبر عن ان الصحابة الكرام والتابعين سيبلغون مرتبة من العبادة بـحيث أن ما في ارواحهم من نور سيشع على وجوهم وستظهر على جباههم علامة ولايتهم وصلاحهم بكثرة السجود لله.

نعم، فلقد صدّق الـمستقبل هذا بكل يقين ووضوح وجلاء فان زين العابدين رضي الله عنه الذي كان يصلي الف ركعة ليلاً ونهاراً وطاووساً اليـماني رضي الله عنه الذي صلى الفجر بوضوء العشاء طوال اربعين سنة، رغم التقلبات السياسية والاوضاع الـمضطربة، وكثيرين كثيرين امثالـهما قد بينّوا سراً من اسرار هذه الآية الكريـمة: } مَثَلـهم في التَورية{ .





u الوجه السابع:

} وَمَثلـهم في الانـجيلِ كزَرعٍ أخرَجَ شَطْئَهُ فآزَرَهُ فاستَغلَظَ فاستَوى عَلى سُوقِهِ يُعجبُ الزرّاعَ ليَغيظَ بهمُ الكُفّارَ{ .

هذه الفقرة ايضاً فيها اخبار غيبي بـجهتين:

اولاها:

ان اخبار مافي الانـجيل من اوصاف الصحابة الكرام اخبار هي في حكم الغيب بالنسبة لرسول امي e .

نعم! لقد وردت آيات في الانـجيل تصف الرسول الذي سيأتي في آخر الزمان مثل: ((ومعه قضيب من حديد وامته كذلك)) بـمعنى انه صاحب سيف ويأمر بالـجهاد واصحابه كذلك اصحاب السيوف ومأمورون بالـجهاد وليس كسيدنا عيسى عليه السلام الذي لـم يك صاحب سيف. فضلاً عن أن ذلك الـموصوف معه قضيب من حديد سيصبـح سيد العالـم، لأن آية في الانـجيل تقول: ((سأذهب كي يـجىء سيد العالـم)).

فنفهم من هاتين الفقرتين من الانـجيل: ان الصحابة الكرام وإن بدا عليهم في بادىء الامر ضعف وقلة الاّ انهم سينـمون نـمو البذرة النابتة وسيعلون كالنبات النامي الناشىء ويقوون حتى يغتاظ منهم الكفار، بل يرُضخون العالـم بسيوفهم فيثبتون ان سيدهم الرسول الكريـم هو سيد العالـم. وهذا الـمعنى الذي تفيده آية الانـجيل هي معنى الآية في ختام سورة الفتـح.

الوجه الثاني:

تفيد هذه الفقرة: ان الصحابة الكرام وان كانوا قد قبلوا بصلـح الـحديبية، لقلتهم وضعفهم آنذاك فانهم بعد فترة وجيزة يكسبون بسرعة قوة وهيبة بـحيث ان البشرية التي انبتتها يد القدرة الإلـهية في مزرعة الارض تكون سنابلـها قصيرة وناقصة ومـمـحوقة بسبب غفلتهم ازاء سنابلـهم العالية الشامـخة القوية الـمثمرة الـمباركة، حتى انهم يكونون من القوة والكثرة بـحيث يتركون دولاً كبرى تتلظى بنار غيظها وحسدها.

نعم ان الـمستقبل قد بين هذا الاخبار الغيبي باسطع صورة. وفي هذا الاخبار الغيبي ايـماء خفي ايضاً وهو:

انه لـما اثنى على الصحابة الكرام لـما يتـحلون به من خصال فاضلة مهمة كان الـمقام يلزم وعد ثواب عظيـم ومكافأة جليلة لـهم، الاّ انه يشير بكلـمة ((مغفرة)) الى انه ستقع اخطاء وهفوات مهمة من جراء فتن تـحدث بين الصحابة، اذ الـمغفرة تدل على وجود تقصير في شيء وحينذاك سيكون اعظم مطلوب لـهم وافضل احسان عليهم هو الـمغفرة. لان اعظم إثابة هو: العفو، وعدم العقاب.

فكما أن كلـمة (مغفرة) تدل على هذا الايـماء اللطيف كذلك فهي ذات علاقة مع مافي بداية السورة: } ليغفرَ لكَ الله مَا تَقدّم مِن ذَنبكَ ومَا تأخّر{ (الفتـح:2) فالـمغفرة هنا ليست مغفرة ذنوب حقيقية لأن في النبوة العصمة، فلا ثمة ذنب. وانـما هي بشرى الـمغفرة بـما يناسب مقام النبوة. وما في ختام السورة من تبشير الصحابة الكرام بالـمغفرة يضم لطافة اخرى الى ذلك الايـماء.

وهكذا فوجوه الاعجاز العشرة للآيات الكريـمة الثلاث في ختام سورة الفتـح، لـم نبـحث فيها الاّ عن وجه الاعجاز في إخبارها الغيبي بل لـم نبـحث الا في سبع وجوه من الوجوه الكثيرة جداً عن هذا النوع من الإخبار.

وقد اشير الى لـمعة اعجاز مهمة في اوضاع حروف هذه الآية الاخيرة في ختام ((الكلـمة السادسة والعشرين)) الـخاصة بالقدر والـجزء الاختياري، فهذه الآية موجهة بـجـملـها الى الصحابة الكرام كما تشمل بقيودها احوالـهم ايضاً، ومثلـما تفيد بالفاظها اوصاف الصحابة فهي تشير بـحروفها وتكرار اعدادها الى اصحاب بدر وأحد وحنين واصحاب الصفة وبيعة الرضوان وامثالـهم من طبقات الصحابة الكرام. كما تفيد اسراراً كثيرة بـحساب الـحروف الابـجدية والتوافق الذي يـمثل نوعاً من علـم الـجفر ومفتاحه.

} سُبـحانَكَ لاعِلـم لنا إلاّ ما عَلـمتَنا إنك أنتَ العَليـم الـحكيـم{ (البقرة:32 )





ان الاخبار الغيبي الذي تـخبر به آيات ختام سورة الفتـح بالـمعنى الاشاري، تـخبر به كذلك هذه الآية الآتية وتشير الى الـمعنى نفسه، لذا نتطرق اليها هنا.

تتـمة

} ولـهديناهُم صراطاً مُستَقيـماً ` ومَن يُطع الله والرسولَ فأولئكَ مَع الذينَ أنعَم الله عليهم مِنَ النَبيينَ والصِدّيقينَ والشُهداء والصالـحين وحَسُنَ أولئكَ رَفيقاً{ (النساء:68-69)

نشير الى نكتتين فقط من بين الوف نكات هذه الآية الكريـمة:

النكتة الاولى:

ان القرآن الكريـم مثلـما يبين الـحقائق بـمفاهيـمه وبـمعناه الصريـح يفيد كذلك معاني اشارية كثيرة باساليبه وهيئاته. فلكل آية طبقات كثيرة من الـمعاني؛ ولان القرآن الكريـم قد نزل من العلـم الـمـحيط، فيـمكن ان تكون جـميع معانيه مرادة، اذ معاني القرآن لاتنـحصر في واحد او اثنين من الـمعاني كما ينـحصر كلام الانسان الـحاصل بإرادته الشخصية وبفكره الـجزئي الـمـحدود.

فبناءً على هذا السر فقد بيّن الـمفسرون مالا يـحد من الـحقائق لآيات القرآن.

وهناك حقائق كثيرة جداً لـم يبينها الـمفسرون بعدُ. ولاسيـما حروف القرآن واشاراته ففيها علومٌ مهمة سوى معانيه الصريـحة..

النكتة الثانية:

تبين هذه الآية الكريـمة:

} مِنَ النَبيينَ والصدّيقينَ والشُهَداءِ والصالـحين وحَسُنَ أولئكَ رَفيقاً{ (النساء:69)

ان اهل الصراط الـمستقيـم والـمنعم عليهم بالنعم الإلـهية حقاً هم طائفة الأنبياء وقافلة الصديقين وجـماعة الشهداء واصناف الصالـحين وانواع التابعين. فكما تبين الآية هذه الـحقيقة فهي تفيد صراحة اكملَ مَن في تلك الاقسام الـخـمسة في عالـم الإسلام وتدل على أئمة تلك الاقسام الـخـمسة وعلى رؤسائهم الـمتقدمين بذكر صفاتهم الـمشهورة. ثم تعّين بـجهة بلـمعة اعجاز أئمة تلك الاقسام في الـمستقبل واوضاعهم بنوع من إخبار غيبي.

نعم! كما أن لفظ } مِنَ النَبيينَ{ ينظر صراحة الى الرسول الكريـم e فان فقرة } والصدّيقينَ{ تنظر الى ابي بكر الصديق، مشيرة الى أنه الشخص الثاني بعد الرسول الكريـم e ، واول من يـخلفه. وان اسم الصدّيق عنوانه الـخاص الذي لقّب به وهو الـمعروف لدى الأمة جـميعاً. وانه سيكون على رأس الصديقين.

كما تشير بكلـمة } والشُهَداءِ{ الى عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم اجـمعين وتفيد افادة غيبية ان هؤلاء الثلاثة سينالون الـخلافة بعد الصديق رضي الله عنه، وانهم سيستشهدون. مـما يزيد فضيلة الى فضائلـهم.

وكما تشير بكلـمة } والصالـحين{ الى اصحاب الصفة وبدر، وبيعة الرضوان وتشوّق بـجـملة } وحَسُنَ أولئكَ رَفيقاً{ وبـمعناه الصريـح على اتباعهم وتبين جـمال اتباع التابعين لـهم وحُسنه مشيرةً بالـمعنى الإشاري الى الـحسن رضي الله عنه انه خامس الـخلفاء الأربعة، مصدقة حكم الـحديث الشريف: ((الـخلافة بعدي في امتي ثلاثون سنة))(1). فمع قصر مدة خلافته فهي عظيـمة الشأن.

الـحاصل:

ان الآية الأخيرة من سورة الفتـح تنظر الى الـخلفاء الأربعة كما تنظر هذه الآية وتشير الى مستقبل اوضاعهم وتؤيدها بنوع من الاخبار الغيبي.

فالإخبار الغيبي الذي هو احد انواع اعجاز القرآن لـه لـمعات اعجازية كثيرة وكثيرة لاتعد ولاتـحصى، لذا فان حصر اهل الظاهر تلك الإخبارات الغيبية في اربعين او خـمسين آية فقط انـما هو ناشىء من نظر ظاهري سطحي بينـما في الـحقيقة هناك ما يربو على الألف منها بل قد تكون في آية واحدة فقط اربعة او خـمسة إخبار غيبية.

} ربـَّنا لا تُؤاخِذْنا إنْ نَسينَا أو أخطأنا{ (البقرة:286)

} سُبـحانَكَ لاعِلـم لنا إلاّ ما عَلـمتَنا إنك أنتَ العَليـم الـحكيـم{

(البقرة:32 )

اللـمعة الثامنة

ستنشر ضمن مـجـموعة اخرى باذن الله

__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-01-2011
  #6
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: اللمعات

اللـمعة التاسعة

لايسع كل واحد أن يرى نقائص وحدة الوجود الدقيقة ولا هو بـحاجة اليها، لذا لا حاجة لـه لقراءة هذه اللـمعة.

باسمه سبـحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ يُسَبـح بـحـمدِهِ{ (الاسراء:44)

السلام عليكم ورحـمة الله وبركاته

اخي العزيز الوفي الـمـخلص الـخالص!

ان سبب عدم ارسالي رسالة مستقلة الى اخينا ((عبدالـمـجيد))(1) هو ان رسائلي التي ابعثها اليكم تفي بالغرض، فان ((عبدالـمـجيد)) اخ قدير وطالب مـجد بعد ((خلوصي))(2)، وانا اذكره باسمه في دعائي كل صباح ومساء مع ((خلوصي)) واحياناً قبلـه. هذا وان ((صبري)) ثم ((حقي افندي)) يستفيدان من رسائلي، فلا ارى داعياً لأبعث إليهما رسائل مستقلة. فلقد أنعم الله عليك وجعلك اخاً كبيراً مباركاً لـهما، فراسل ((عبدالـمـجيد)) بدلاً مني، وطمئنه لئلا يقلق، فانا افكر فيه بعد ((خلوصي)).

سؤالكم الاول

وهو سؤال خاص يعود الى امضاء احد اجدادكم باسم ((السيد مـحـمد)) (أي من آل البيت).

اخي!

انني لا املك الاجابة عن هذا السؤال جواباً مبنياً على العلـم والتـحقيق والكشف، ولكن كنت اقول لاصحابي: ان ((خلوصي)) لا يشبه الاتراك الـحاليين، ولا الاكراد، فاني ارى فيه خاصية اخرى، وكانوا يصدّقونني. فكنا نقول: ان ظهور عراقة وأصالة في ((خلوصي)) دليل على نيلـه عطاء الـحق، بـمضمون القاعدة:

(( داد حق راقابليت شرط نيست ))(1)

واعلـم قطعاً ان للرسول الاكرم e نوعين من الآل:

الاول: آلـه النَسَبي.

والاخر: آلـه من حيث شخصه الـمعنوي النوراني، أي من حيث الرسالة.

فأنت داخل قطعاً في هذا الآل الثاني، فضلاً عن دخولك في الآل الأول حسب قناعتي بلا دليل. فان إمضاء جدّك باسم ((السيد)) ليس عبثاً ولا جزافاً.

خلاصة سؤالكم الثاني:

أخي العزيز!

ان مـحي الدين بن عربي(2) قد قال: (ان مـخلوقية الروح عبارة عن انكشافها). انك يا أخي بسؤالك هذا تضطرني الى ان اناقش وانا الضعيف العاجز خارقة الـحقيقة وداهية علـم الاسرار مـحي الدين بن عربي. ولكن لـما كنت سأخوض في البـحث معتـمداً على نصوص القرآن الكريـم فسوف استطيع ان احلق اعلى من ذلك الصقر وأسمى منه وإن كنت ذبابة!

أخي:

اعلـم ان مـحي الدين بن عربي لا يـخدع ولكن ينـخدع، فهو مهتد، ولكنه لا يكون هاديا لغيره في كل ما كتبه، فما رآه صدق وصواب ولكن ليس هو الـحقيقة.

ولقد وضحت ((الكلـمة التاسعة والعشرون)) في مبـحث الروح، الـحقيقة التي يدور عليها سؤالكم.

نعم! ان الروح من حيث الـماهية قانون أمري. ولكن اُلبست وجوداً خارجياً، فهي ناموس ذو حياة، وقانون ذو وجود خارجي.

فالشيـخ مـحي الدين قد نظر الى الروح من حيث ماهيتها فحسب، ويرى الاشياء خيالا حسب مشرب وحدة الوجود.

ولـما كان الشيـخ قد انتهج مسلكاً مستقلاً وكان صاحب مشرب مهم ولـه كشفيات ومشاهدات خارقة فانه يلـجأ باضطرار الى تأويلات ضعيفة وتكلـّف وتـمـحلّ ليطبق بعض الآيات الكريـمة حسب مشربه ومشهوداته، مـما يـخدش صراحة الآية الكريـمة ويـجرحها.

ولقد بينا في رسائل اخرى الـمنهج القرآني ومنهج أهل السنة السنية القويـم.

فالشيـخ ابن عربي لـه مقام خاص لذاته، وهو من الـمقبولين، إلا أنه بكشفياته التي لاضوابط لـها خرق الـحدود وتـجاوزها وخالف جـمهور الـمـحققين العلـماء في كثير من الـمسائل.

ولأجل هذا تكاد تقتصر طريقته الـخاصة به لفترة قصيرة جداً في ((صدر الدين القونوي))(1) ويندر أن يستفاد من آثاره استفادة ذات استقامة، مع كونه شيـخاً عظيـماً عالي القدر وقطباً خارقاً فريد زمانه. بل لا يبحث كثير من العلـماء الـمـحققين والاصفياء على قراءة آثاره القيـمة، بل قسم منهم يـمنعون قراءتها.

ان بيان الفرق الاساس بين مشرب الشيـخ مـحي الدين بن عربي واهل التـحقيق من العلـماء، وبيان منابعهما ومصادرهما يـحتاج الى دراسة عميقة وبـحث دقيق ونظر واسع رفيع.

نعم! ان الفرق دقيق جداً وعميق جداً الى درجة كبيرة، والـمصدر رفيع وسام الى حد كبير، بـحيث لـم يؤاخذ الشيـخ ابن عربي على خطئه، وانـما ظل مقبولا لدى العلـماء. اذ لو كان الفرق والـمصدر مشهودين واضحين علـماً وفكراً وكشفاً لكان سقوطاً مريعاً للشيـخ وخطأ جسيـما لـه.

ولكن لـما كان الفرق عميقا جداً، فاننا نـحاول أن نبين خطأ الشيـخ في تلك الـمسألة فحسب ونوضح ذلك الفرق وتلك الـمنابع في مثال باختصار شديد:

فمثلا: الشمس تشاهد في مرآة. فهذه الـمرآة هي مظروف الشمس، وموصوفها. بـمعنى ان الشمس توجد فيها من جهة، ومن جهة اخرى تزين الـمرآة حتى تكون صفتها اللامعة وصبغتها الساطعة.

فان كانت تلك الـمرآة، مرآة آلة تصوير فانها ستنقل صورة الشمس على ورقة حساسة بصورة ثابتة. ففي هذه الـحالة فالشمس الـمشهود في الـمرآة وماهيتها الـمرتسمة على الورقة وصفاتها، وتزيينها الـمرآة – حتى غدت كأنها صفتها – هي غير الشمس الـحقيقية. فهي ليست شمسا، بل هي دخول تـجلي الشمس في وجود آخر.

اما وجود الشمس الـمشهودة في الـمرآة فهو وان لـم يكن عين وجود الشمس الـموجودة في الـخارج الا انه قد ظن انه عين وجودها لارتباطه بها واشارته اليها.

فبناء على هذا الـمثال:

فان القول بأن: ((ليس في الـمرآة غير الشمس الـحقيقية)) يـمكن ان يكون صوابا باعتبار الـمرآة ظرفا وان الـمقصود من الشمس التي فيها وجودها الـخارجي. ولكن اذا قيل ان صورة الشمس الـمنبسطة على الـمرآة – التي اخذت حكم صفة الـمرآة – والصورة التي انتقلت الى الورقة الـحساسة انها الشمس، فهذا خطأ، أي ان عبارة ((ليس في الـمرآة غير الشمس)) تكون عبارة خطأ، ذلك لان هناك صورة الشمس التي تظهر على الـمرآة وهناك الصورة الـمرتسمة خلفها على الورق الـحساس، فكل منها لـها وجود خاص بها.

فمع أن ذينك الوجودين هما من تـجلي الشمس الا انهما ليسا الشمس نفسها.

وكذا فان ذهن الانسان وخيالـه شبيهان بـمثال الـمرآة هذا. وذلك:

ان الـمعلومات الـموجودة في مرآة فكر الانسان لـها وجهان ايضاً: فهي بوجه علـم، وبوجه آخر معلوم.

فاذا اعتبرنا الذهن ظرفاً لذلك الـمعلوم، اصبـح ذلك الـموجود الـمعلوم معلوما ذهنيا. فوجوده شيء آخر.

وان اعتبرنا الذهن موصوفا بذلك الشيء الذي حل فيه اصبـح صفة للذهن، وذلك الشيء يكون عندئذ علـما، ولـه وجود خارجي. وحتى لو كان لذلك الـمعلوم وجود وجوهر فسيكون وجوداً خارجياً عرضياً.

فبناء على هذين التـمثيلين:

الكون مرآة، وماهية كل موجود مرآة ايضا. هذه الـمرايا معرضة الى الإيـجاد الإلـهي بالقدرة الأزلية.

فكل موجود – من جهة – يصبـح مرآة لاسم من اسماء الله يبين نقشاً من نقوشه. فالذين هم على مشرب الشيـخ ابن عربي قد كشفوا العالـم من حيث الـمرآتية والظرفية والـموجود الـمثالي في الـمرآة – من زاوية النفي – ومن حيث منعكس صورة ذلك الشيء في الـمرآة هو عينه. وقالوا: لاموجود إلا هو، دون ان يفكروا بالـمراتب الاخرى، فأخطأوا حتى بلغ بهم الامر ان ينكروا القاعدة الاساسية الـمعروفة: (حقائق الاشياء ثابتة).

اما اهل الـحقيقة فانهم يرون بسر الوراثة النبوية وبصراحة القرآن الكريـم وآياته البينات:

ان النقوش التي توجد في مرايا الـموجودات بقدرة الله وارادته انـما هي من آثاره سبـحانه وتعالى. فكل موجود انـما هو منه تعالى وهو الذي يوجده، وليس كل موجود هو، حتى يقال: لا موجود إلا هو. اذ للاشياء وجود، وهو وجود ثابت الى حد ما، وان كان هذا الوجود وجوداً ضعيفاً كأنه وهمي وخيالي بالنسبة الى وجوده تعالى، إلا انه موجود بايـجاد القدير الأزلي وإرادته وقدرته.

ان للشمس الـمشهودة في الـمرآة وجودا مثالياً عدا وجودها الـخارجي الـحقيقي.

ولـها وجود خارجي عرضي آخر يلون الـمرآة بزينته اذ تنبسط عليها صورته.

ولـها وجود خارجي عرضي ايضاً، وهو وجود ثابت الى حد ما وهو الصورة الـمنتقشة على الورقة الـحساسة خلف الـمرآة.

فكما ان للشمس وجودات هكذا في الـمثال كذلك الامر في مرآة الكون ومرايا ماهية الاشياء. فان نقوش الـمصنوعات الظاهرة بتـجليات الاسماء الإلـهية الـحسنى الـحاصلة بالإرادة الإلـهية واختيارها وقدرتها، لـها وجود حادث غير وجود الواجب الوجود. وقد منـح بالقدرة الالـهية ثباتا لـهذا الوجود ولكن لو انقطع الارتباط فنيت الاشياء وانعدمت مباشرة. فكل شيء مـحتاج لبقائه في كل آن الى ابقاء خالقه لـه، فان حقائق الاشياء وان كانت ثابتة ولكن ثابتة باثباته سبـحانه لـها وتثبيته اياها.

وهكذا فان قول الشيـخ ابن عربي: ((ان الروح ليست مـخلوقة وانـما هي حقيقة آتية من عالـم الامر وصفة الارادة)) مـخالف لظاهر نصوص كثيرة، كما قد التبس عليه الامر في ضوء التـحقيقات الـمذكورة آنفاً وانـخدع اذ لـم يشاهد الـموجودات الضعيفة.

فلا يـمكن ان تكون مظاهر (الـخلاق والرزاق) من الاسماء الإلـهية الـحسنى مظاهر وهمية خيالية. فما دامت تلك الاسماء ذات حقيقة، فان مظاهرها ايضاً لـها حقائق خارجية.

سؤالكم الثالث:

تطلبون فيه درساً يكون مفتاحاً لعلـم ((الـجفر)).

الـجواب: اننا يا اخي لسنا في هذه الـخدمة القرآنية بارادتنا ولا بتدبيرنا للامور. بل ان اختياراً – وهو خير لنا – فوق اختيارنا وخارج ارادتنا يهيـمن على اعمالنا واختيارنا.

اعلـم ان علـم الـجفر يُشغل الانسان عن وظيفته الـحقيقية ويصرفه عنها، لـما فيه من ذوق وولع. حتى كانت تـحل لي أسرار تـخص القرآن بذلك الـمفتاح لـمرات عدة، ولكن ما ان اتوجه اليها بشوق وذوق توصد الابواب دوني. فوجدت في هذا الأمر حكمتين:

الاولى: احتـمال الوقوع في موضع ينافي الادب اللائق بالقاعدة الاساسية ((لا يعلـم الغيب الاّ الله)).

الثانية: ان العمل على ارشاد الامة الى حقائق الايـمان والقرآن بوساطة البراهين الدامغة، لـه من الفضائل والـمزايا يفوق مائة درجة على العمل بارشادهم بالعلوم الـخفية كعلـم الـجفر. حيث ان الـحـجـج القاطعة والدلائل الثابتة لا تدع مـجالا للإساءة في تلك الوظيفة السامية. بينـما علـم الـجفر وامثالـه من العلوم الـخفية غير الـمنضبطة بقواعد مـحكمة، قد يساء استعمالـه بولوج الـماكرين فيه. علـماً انه متى ما احتاج الامر اليه لـخدمة الـحقائق، فان الله سبـحانه يـحسن نبذة منه حسب الـحاجة.

واعلـم ان أيسر مفتاح من بين مفاتيـح علـم الـجفر، وانقاها، بل أجـملـها وأحسنها هو انواع التوافقات الناشئة من اسم ((البديع)) والتي اظهرت شعاعاً من نورها في توافق لفظ الـجلالة في القرآن الكريـم وزيـّنت الآثار التي نقوم بنشرها. علـماً انه وُضّح شيء منها في عدة مواضع من رسالة الكرامة الغوثية. نذكر منها:

ان التوافق اذا ما أظهر شيئاً في عدة جهات، فهو اشارة بدرجة الدلالة، علـماً أنه قد يكون توافق واحد احياناً مع بعض القرائن بـمثابة دليل ويـحل مـحلـه.

وعلى كل حال، يكفي هذا القدر من الاجابة عن سؤالك في الوقت الـحاضر. ومتى ما كانت الـحاجة جادة اليه ستُبلـّغون به.

سؤالكم الرابع:

أي سؤال امام الـجامع ((عمر أفندي)) وليس سؤالكم، وهو:

ان طبيباً شقياً يدّعي انه كان لعيسى عليه السلام والد، وزعم انه يستشهد لنفسه بآية كريـمة بتأويل جنوني(1).

ان ذلك العاجز قد سعى سابقاً لإحداث خط بـحروف مقطعة، بل سعى سعياً حثيثاً في الأمر. فعلـمت حينذاك أن ذلك الرجل قد استشعر من اطوار الزنادقة وتصرفاتهم انهم سيـحاولون رفع الـحروف الإسلامية وازالتها. وكأنه اراد ان يصدّ ذلك التيار الـجارف، ولكن دون جدوى.

وقد شعر الآن في هذه الـمسألة، وفي مسألة الثانية، بهجوم الزنادقة العنيف على الاسس الإسلامية. واظن انه يـحاول فتـح طريق للـمصالـحة والسلام، بـمثل هذه التأويلات السخيفة التي لا معنى لـها.

انه لا والد لعيسى عليه السلام، كما تبينه يقيناً الآية الكريـمة: } ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم{ (آل عمران:59) وامثالـها من النصوص القاطعة. لذا لا يؤبه بكلام من يـحاول تغيير هذه الـحقيقة الرصينة الراسخة، بل لا يقام لقولـه وزن ولايستـحق الاهتـمام به اصلاً، حيث يعدّ مـخالفة قانون في التناسل غير مـمكناً فيتشبث بتأويلات واهية.

لاشك انه لا قانونٍ دون شذوذ منه، ودون نوادر لـه، ودون افراد خارجة عنه، وليست هناك قاعدة كلية لـم تـخصص بافراد خارقة.

وانه لا يـمكن ألاّ يُشَّذ فرد – ايا كان – من قانون، ولا يـخرج منه، منذ زمن آدم عليه السلام.

فأولاً: ان هذا القانون، قانون التناسل قد خُرق باعتبار الـمبدأ، بـمبادىء مائتي الف نوع من انواع الـحيوانات وختـم بها. أي أن آباء تلك الـحيوانات الاولين، وهم بـمثابة أوادم لـها، قد خرقوا قانون التناسل. أي ان مائتي الف أب من اولئك الأباء لـم يأتوا الى الوجود من أب وأم. بل اُعطي لـهم وجودٌ خارج ذلك القانون.

ثم اننا نشاهد بابصارنا في كل ربيع، أن القسم الاعظم من مائة الف نوع من الكائنات الـحية ومـما لا تعد ولا تـحصى من افرادها، تـخلق خارج ذلك القانون، قانون التناسل، تـخلق على وجوه الاوراق وعلى الـمواد الـمتعفنة.

تُرى ان قانوناً يـخرق بشواذ، بهذه الكثرة الكاثرة، في مبدئه، بل في كل سنة. ثم يأتي احدهم ولا يتـمكن أن يسع عقلـه شذوذ فرد واحد لذلك القانون خلال الف وتسعمائة سنة، فيتشبث بتأويلات تافهة تـجاه النصوص القرآنية القاطعة.. اقول ترى كم يكون مرتكباً حـماقة وبلاهة! قس ذلك بنفسك. علـماً ان الاشياء التي يطلق عليها اولئك الشقاة اسم ((القوانين الطبيعية)) انـما هي قوانين عادة الله التي هي تـجلٍ كلي للامر الالـهي والارادة الالـهية، بـحيث يغيّر سبـحانه وتعالى عاداته تلك لبعض الـحكَم؛ مظهراً هيـمنة ارادته واختياره على كل شيء وعلى كل قانون. فيـخرق العادة في بعض الافراد الـخارقين، وقولـه تعالى: } ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم{ (آل عمران:59) يبيّن هذه الـحقيقة.

السؤال الثاني لعمر افندي فيـما يـخص ذلك الطبيب.

لقد تصرف ذلك الطبيب في تلك الـمسألة تصرف معتوه، وارتكب حـماقة بلـهاء بـحيث لا يستـحق إلقاء السمع لـه، ولا الاهتـمام به فضلاً عن الاجابة عن سؤالـه. اذ يريد هذا البائس ان يوجد الوسط بين الكفر والايـمان.

فأنا اقول جواباً عن استفسار عمر أفندي، وليس جواباً للكلام التافه لذلك الطبيب.

ان العلة في الاوامر والنواهي الشرعية هي الامر الإلـهي ونهيه. اما الـمصالـح والـحكم فهي مرجـحات يـمكن ان تكون اسباباً لـمتعلقات الامر الإلـهي ونهيه من زاوية اسمَ الله الـحكيـم..

فمثلاً: يقصر الـمسافر الصلاة. وهذا القصر لـه علة وحكمة، فالعلة هي السفر والـحكمة هي الـمشقة. فاذا وجد السفر تقصر الصلاة وان لـم تكن مشقة. ولكن لو وُجدت مائة مشقة في البيت فلا تقصر الصلاة دون سفرٍ. اذ وجوداً الـمشقة احياناً في عامة السفر كافية لتكون حكمةً لقصر الصلاة وكافية ايضاً لتـجعل علـّة للقصر.

فبناءً على هذه القاعدة الشرعية لا تتغير الاحكام الشرعية بـحسب الـحكم، بل بـحسب العلل الـحقيقية.

فان لـحـم الـخنزير – كما ذكره ذلك الطبيب – فيه ضرر، حسب قاعدة ((من أكل لـحـم الـخنزير يتصف بصفاته))(1) ففيه مالا يعلـمه ذلك الطبيب من اضرار وامراض. فذلك الـحيوان لا يشبه سائر الـحيوانات الاهلية النافعة التي لا ضرر لـها. بل اكل لـحـمه يورث اضراراً اكثر من نفعه.

علاوة على الشحـم القوي الـموجود في لـحـمه لـه اضرار طبيه كثيرة في غير بلاد الافرنـج الباردة. بل تـحقق ان لـه اضراراً كثيرة معنوية وحقيقية.

فمثل هذه الـحكَم، اصبـح حكمةً لتـحريـمه ولتعلق النهي الالـهي به، ولا يلزم ان تكون الـحكمة في كل فرد وفي كل وقت. ولا تتبدل العلة بتبدل تلك الـحكمة. وان لـم تتبدل العلة لا يتبدل الـحكم. فليُعلـم حسب هذه القاعدة مدى ما يتفوه به ذلك الطبيب البائس من كلام بعيد عن روح الشريعة.

لذا لايُعبأ بكلامه باسم الشريعة. فان للـخالق سبـحانه حيوانات لا يعقلون كثيرون في صور فلاسفة!.

























ذيل السؤال الوارد حول ابن عربي

سؤال:

ان ابن عربي يعد مسألة وحدة الوجود أرفع مرتبة ايـمانية، حتى ان قسماً من اولياء عظام من اهل العشق اتبعوه في مسلكه.

بيد انك تقول: ان هذا الـمسلك ليس هو من أرفع الـمراتب الإيـمانية، ولا هو بـمسلك حقيقي، وانـما هو مشرب اهل السكر والاستغراق واصحاب الشوق والعشق.

فان كان الامر هكذا كما تقول، فبين لنا باختصار: ما اعلى مرتبة من مراتب التوحيد التي بينتها وراثة النبوة وصراحة القرآن الكريـم؟.

الـجواب: ان عاجزاً مسكيناً مثلي، لا قيـمة لـه ولا أهمية، أنـّى لـه ان يقتـحـم غمار هذه الـمراتب السامية الرفيعة ويـجري فيها مـحاكمات عقلية بعقلـه القاصر، انـما هو امر فوق الـحد بـمائة مرة.. ولكني سأذكر فيها ذكرا مـختصرا جدا نكتتين فقط وردتا من فيض القرآن الكريـم الى القلب، فلعل فيهما فائدة ونفعاً.

النكتة الاولى:

ان هناك اسباباً عدة للانـجذاب نـحو مشرب وحدة الوجود. سأبين باختصار شديد سببين منها:

السبب الاول: انهم لـم يستطيعوا ان يستوعبوا في اذهانهم خلاقية الربوبية في اعظم مراتبها، وكذا لـم يستطيعوا ان يـمكـّنوا في قلوبهم تـمكينا تاما انه سبـحانه بأحديته مالك بالذات لزمام كل شيء في قبضة ربوبيته، وان كل شيء يـخلق بقدرته واختياره وارادته سبـحانه. فلأنهم لـم يستطيعوا ادراك ذلك فقد رأوا انفسهم مضطرين امام القول: كل شيء هو ((تعالى))، او: لا شيء موجود، او: ان الـموجود خيال، او: من التظاهر أو من الـجلوات.

السبب الثاني: ان صفة العشق لاتريد الفراق اصلا. وتفر منه بشدة، وترتعد فرائص العاشق من الافتراق، ويرهب من التنائي رهبته من جهنـم، وينفر من الزوال نفرة شديدة، ويـحب الوصال حبه لروحه ونفسه، ويرغب بشوق لاحد لـه – كشوقه للـجنة – للقرب الإلـهي، لذا يرى ان التشبث بتـجلى الأقربية الإلـهية في كل شيء، يـجعل الفراق والتنائي كأنهما معدومان، فيظن اللقاء والوصال دائمين بقولـه: لا موجود إلا هو.ولانهم يتصورون بسكر العشق وبـمقتضى شوق البقاء واللقاء والوصال، ان في وحدة الوجود مشرباً حالياً في منتهى الذوق، لذا يـجدون ملـجأهم في مسألة وحدة الوجود لأجل التـخلص من فراقات رهيبة.

أي ان منشأ السبب الاول:

هو عدم بلوغ العقل قسماً من حقائق الايـمان الواسعة للغاية والسامية جداً، وعدم استطاعته الاحاطة بها، مع عدم انكشاف العقل انكشافا تاماً من حيث الايـمان.

أما منشأ السبب الثاني:

فهو انكشاف القلب انكشافاً فوق الـمعتاد، بتأثير العشق وانبساطه انبساطاً خارقاً للعادة.

أما مرتبة التوحيد العظمى التي يراها بصراحة القرآن الاولياء العظام اعنى الاصفياء الذين هم اهل الصحو واهل وراثة النبوة، فانها مرتبة رفيعة عالية جداً، اذ تفيد الـمرتبة العظمى للربوبية والـخلاقية الإلـهية، وتبين ان جـميع الاسماء الـحسنى هي أسماء حقيقية، وهي تـحافظ على الاسس من دون اخلال بـموازنة أحكام الربوبية، لأن اهلـها يقولون:

ان الله سبـحانه باحديته الذاتية وتنزهه عن الـمكان قد أحاط – من دون وساطة – بكل شيء علـما وشخّصه بعلـمه ورجـحه وخصّصه بارادته واوجده وابقاه بقدرته. فانه سبـحانه يوجد جـميع الكون ويـخلقه ويدبر أموره كايـجاده لشيء واحد وارادته اياه، فكما انه يـخلق الزهرة بسهولة فانه يـخلق الربيع العظيـم بالسهولة نفسها. فلا يـمنع شيء شيئاً قط، فلا يـجزؤ في توجهه سبـحانه. فهو موجود بتصرفه وبقدرته وبعلـمه في كل مكان في كل آن. فلا انقسام ولا توزع في تصرفه سبـحانه.

ولقد وضحنا هذا الامر واثبتناه في الكلـمة السادسة عشرة، وفي الـمقصد الثاني من الـموقف الثاني من الكلـمة الثانية والثلاثين.

سأورد هنا مثالا ينطوي على نقص كثير (ولامشاحة في الامثال) وذلك لفهم شيء من الفرق بين الـمشربين:

لنفرض ان هناك طاووساً خارقاً لا مثيل لـه، وهو في غاية الكبر، ومنتهى الزينة وانه يتـمكن الطيران من الشرق الى الغرب في لـمـحة بصر، ولـه القدرة على بسط جناحيه الـمـمتدين من الشمال الى الـجنوب، وقبضهما في آن واحد، وعليه مئات ألوف النقوش البديعة حتى ان على كل ريش من جناحيه ابداعاً واتقاناً في منتهى الـجـمال والروعة.

ولنفرض الآن هناك شخصان يتفرجان على هذا الطاووس العجيب، ويريدان التـحليق بـجناحي العقل والقلب الى الـمراتب العالية الرفيعة لـهذا الطير وبلوغ زينته الـخارقة.

فطفق الأول يتأمل في وضع هذا الطاووس وهيكلـه ونقوش خوارق القدرة في كل ريشة منه، فيغمره العشق والشوق والـمـحبة تـجاه هذا الطير فيترك شيئاً من التفكير العميق الى جانب مستـمسكاً بالعشق، ولكنه يرى أن تلك النقوش الـمـحبوبة تتـحول وتتبدل يوما بعد يوم، وان تلك الـمـحبوبات التي يوليها الـحب والشغف تغيب وتزول كل يوم.

فكان ينبغي لـه ان يقول: ان هذه النقوش الـمتقنة انـما هي لنقاش مالك للـخلاقية الكلية مع احديته الذاتية، ولـه الربوبية الـمطلقة مع وحدانيته الـحقيقية. الا انه لـم يتـمكن من ان يستوعب هذا ويدركه، فبدأ يسلي نفسه ويقول بدلا من ذلك الاعتقاد:

((ان روح هذا الطاووس روح سامية عالية بـحيث ان صانعه فيه، أو قد أصبـح هو نفسه! وان تلك الروح العالية متـحدة مع جسد الطاووس، ولأن جسده مـمتزج مع صورته الظاهرة، فان كمال تلك الروح وعلو ذلك الـجسد هما اللذان يظهران هذه الـجلوات على هذه الصورة البديعة، حتى يظهر في كل دقيقة نقشاً جديداً وحسناً مـجدداً، فليس هذا ايـجاد باختيار حقيقي، بل هو جلوة وتظاهر)).

أما الشخص الاخر فيقول: ((ان هذه النقوش الـموزونة الـمنظمة الـمتقنة تقتضي يقينا ارادة واختياراً وقصداً ومشيئة، فلا يـمكن ان تكون جلوة بلا ارادة ولاتظاهرا بلا اختيار)).

نعم! ان ماهية الطاووس جـميلة ورائعة، ولكن ماهيته ليست فاعلة قطعاً وانـما منفعلة، ولا يـمكن ان تتـحد مع فاعلـه مطلقاً. وان روحه عالية سامية ولكن ليست موجدة ولا متصرفة، وانـما مظهر ومدار ليس الا. لأنه يشاهد في كل ريش منه اتقان قد تـم بـحكمة مطلقة بالبداهة، ونقش زينة نقشها بالقدرة الـمطلقة.

وهذا لا يـمكن ان يكون دون ارادة واختيار قطعاً.

فهذه الـمصنوعات البديعة التي تبين كمال الـحكمة في كمال القدرة، وكمال الربوبية والرحـمة في كمال الاختيار، لا يـمكن ان تكون هذه الـمصنوعات نتيـجة جلوة أو ماشابهها.

ان الكاتب الذي كتب سطور هذا السجل الـمذهب لا يـمكن أن يكون في السجل نفسه، ولا يـمكن ان يتـحد معه. وليس لذلك السجل الاّ تـماس بطرف قلـم ذلك الكاتب. لذا فان زينة جـمال ذلك الطاووس الـمثالي الذي هو يـمثل الكائنات، ليس إلا رسالة من قلـم خالق ذلك الطاووس.

فالآن تأمل في طاووس الكائنات واقرأ تلك الرسالة، وقل لكاتبها:

ماشاء الله..

تبارك الله..

سبـحان الله..

فالذي يظن الرسالة كاتبها أو يتـخيل الكاتب في الرسالة نفسها، أو يتوهم الرسالة خيالا لاشك انه قد ستر عقلـه بستار العشق ولـم يبصر الصورةالـحقيقية للـحقيقة.

ان أهم جهة من انواع العشق التي تسبب الانسلاك الى مشرب وحدة الوجود هي عشق الدنيا، اذ حينـما يتـحول عشق الدنيا الذي هو عشق مـجازي الى عشق حقيقي ينقلب الى وحدة الوجود.

ان شخصاً اذا أحب انساناً مـحبة مـجازية، ما ان يشاهد فناءه لا يستطيع ان يـمكـّن هذا الزوال في قلبه، تراه يـمنـح معشوقه عشقاً حقيقياً، فيتشبث بـحقيقة ليسلي بها نفسه، وذلك باضفاء البقاء على مـحبوبه بعشق حقيقي فيقول:

أنه مرآة جـمال الـمعبود والـمـحبوب الـحقيقي.

كذلك الامر فيـمن احب الدنيا العظيـمة وجعل الكون برمته معشوقه، فحينـما تتـحول هذه الـمـحبة الـمـجازية الى مـحبة حقيقة بسياط الزوال والفراق التي تنزل بالـمـحبوب، يلتـجىء ذلك العاشق الى وحدة الوجود انقاذاً لـمـحبوبه العظيـم من الزوال والفراق.

فان كان ذا ايـمان رفيع راسخ يكون لـه هذا الـمشرب مرتبة ذات قيـمة نورانية مقبولـة كما هي لدى ابن عربي وأمثالـه، وإلا فلربـما يسقط في ورطات وينغمس في الـماديات ويغرق في الاسباب.

أما وحدة الشهود فلا ضرر فيها، وهي مشرب عال لأهل الصحو.

اللهم أرنا الـحق حقاً وارزقنا اتباعه

} سُبـحانَكَ لاَ عِلـم لَنَا إِلاّ ما عَلـمتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليـم الـحكيـم{

(البقرة:32)
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-01-2011
  #7
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: اللمعات

اللـمعة العاشرة

رسالة

((لطمات الرأفة وصفعات الرحـمة))

بسم الله الرحـمن الرحيـم

} يومَ تـجدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْر مـحضَراً ومَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَو أَنَّ بَيْنَها وبَيْنَهُ أمَداً بَعيداً ويـحذِّرُكـُمُ الله نَفْسَه والله رَؤوفٌ بالعِبادِ{ (آل عمران:30)

هذه اللـمعة تفسّر سراً من أسرار هذه الآية الكريـمة، وذلك بذكر لطمات تأديب رحيـمة وصفعات عتاب رؤوفة تلقاها اخوتي الاحبة العاملون في خدمة القرآن الكريـم، وذلك من جراء أخطاء ونسيان وغفلة وقعوا فيها بـمقتضى جبلتهم البشرية.

وستبين سلسلة من كرامات يـجريها الله سبـحانه في خدمة قرآنه العظيـم.. مع بيان نوع من كرامة الشيـخ الكيلاني الذي يـمدّ هذه الـخدمة الـمقدسة بدعائه وهمته ويراقبها بإذن إلـهي.

نبين هذه الكرامات لعل العاملين في سبيل القرآن يزدادون ثباتاً واقداماً وجدية واخلاصاً.

نعم، ان كرامة العمل للقرآن الكريـم، هذه الـخدمة الـمقدسة، ثلاثة أنواع:

النوع الاول: تهيئة وسائل العمل والـخدمة، وسوق العاملين فيها الى الـخدمة.

النوع الثاني: رد الـموانع من حولـها، ودفع الاضرار عنها، وتأديب من يعيق سيرها، بانزال عقوبات بهم.. هناك حوادث كثيرة جداً حول هذين القسمين، ويطول الـحديث عنهما(1) لذا نؤجل الكلام فيهما الى وقت آخر خشية السأم. ونشرع في البـحث عن النوع الثالث الذي هو أخفها تناولا وابسطها فهماً.

النوع الثالث: هو أن العاملين الـمـخلصين في هذه الـخدمة القرآنية لـما يعتريهم الفتور والاهمال في العمل يأتيهم التـحذير والتنبيه فيتلقون لطمة ذات رأفة وعطف، وينتبهون من غفلتهم، ويسرعون بـجد للـخدمة مرة أخرى. ان حوادث هذا القسم تربو على الـمائة، إلا أننا نسوق هنا ما يقرب من عشرين حادثة جرت على اخواننا، عشرٌ ونيف منهم تلقوا لطمة حنان رؤوفة، بينـما تلقى حوالي سبعة منهم لطمة زجر عنيفة.

فالاول منهم هو هذا الـمسكين.. سعيد، فكلـما انشغلت بـما يعود خاصة نفسي بـما يفتر عملي للقرآن، أو انهمكت في اموري الـخاصة، وقلت: مالي وللآخرين! أتاني التـحذير وجاءتني اللطمة؛ لذا بت على يقين من أن هذه العقوبة لـم تنزل الاّ نتيـجة اهمالي وفتوري في خدمة القرآن؛ لأنني كنت أتلقى اللطمة بـخلاف الـمقصد الذي ساقني الى الغفلة.. ثم بدأنا مع الاخوة الـمـخلصين نتابع الـحوادث ونلاحظ التنبيهات الربانية والصفعات التي نزلت باخوتي الآخرين.. فأمعنا النظر فيها، وتقصّينا كلاً منها، فوجدنا أن اللطمة قد أتتهم مثلي حيثما أهملوا العمل للقرآن وتلقوها بضد ما كانوا يقصدونه، لذا حصلتْ لدينا القناعة التامة بأن تلك الـحوادث والعقوبات انـما هي كرامة من كرامات خدمة القرآن. فمثلا هذا السعيد الفقير الى الله تعالى.. فعندما كنت منشغلا بالقاء دروس في حقائق القرآن على طلابي في مدينة ((وان)) كانت حوادث ((الشيـخ سعيد))(2) تقلق بال الـمسؤولين في الدولة. وعلى الرغم من ارتيابهم من كل شخص، لـم يـمسوني بسوء، ولـم يـجدوا عليَّ حجة مادمت مستـمراً في خدمة القرآن. ولكن ما أن قلت في نفسي: مالي وللآخرين! وفكرت في نفسي فحسب، وانسحبت الى جبل ((أرك)) لأنزوي في مغاراته الـخربة، وأنـجو بنفسي في الآخرة، اذا بهم يأخذوني من تلك الـمغارة وينفوني من ولاية شرقية الى أخرى غربية، الى ((بوردور)).

كان الـمسؤولون في هذه الـمدينة يراقبون الـمنفيين مراقبة شديدة، وكان على الـمنفيين اثبات وجودهم بـحضورهم مساء كل يوم لدى الشرطة الا أنني وطلابي الـمـخلصين أُستثنينا من هذا الامر ما دمت قائماً بـخدمة القرآن، فلـم أذهب لاثبات الـحضور ولـم أعرف أحداً من الـمسؤولين هناك. حتى أن الوالي شكا من عملنا هذا لدى ((فوزي باشا))(1) عند قدومه الى الـمدينة، فأوصاه: ((احترموه! لا تتعرضوا لـه!)). ان الذي أنطقه بهذا الكلام هو كرامة العمل القرآني ليس الا، اذ حينـما استولت عليَّ الرغبة في انقاذ نفسي واصلاح آخرتي، وفترت عن العمل للقرآن – مؤقتاً – جاءتني العقوبة بـخلاف ما كنت أقصده وأتوقعه، أي نُفيتُ من ((بوردور)) الى منفي آخر.. الى ((اسبارطة)).

توليت هناك العمل للقرآن العظيـم كذلك.. ولكن بعد مرور عشرين يوماً على الـخدمة القرآنية كثرت عليَّ التنبيهات من بعض الـمتـخوفين، حيث قالوا: ربـما لا يـحبذ مسؤولو هذه البلدة عملك هذا! فهلاَّ أخذت الامر بالتأني والتريث؟!.. سيطر عليَّ الاهتـمام بـخاصة نفسي وبـمصيري فحسب، فأوصيت الاصدقاء بترك مقابلتي وانسحبت من ميدان العمل.. وجاء النفي مرة أخرى.. فنفيت الى منفى ثالث.. الى ((بارلا)).

وكنت فيها كلـما اصابني الفتور في العمل للقرآن واستولى عليَّ التفكير بـخاصة نفسي واصلاح آخرتي، كان أحد ثعابين أهل الدنيا يتسلط عليَّ، وأحد الـمنافقين يتعرض لي. وأنا على استعداد الآن أن أسرد على مسامعكم ثمانين حادثة من هذا النوع خلال ثماني سنوات قضيتُها في ((بارلا)) ولكن خشية الـملل أقتصر على ما ذكرت.

فيا اخوتي! لقد ذكرت لكم ما أصابتني من لطمات الرأفة وصفعات الشفقة والـحنان، فاذا سمـحتـم بأن أسرد ما تلقيتـموه أنتـم من لطمات رؤوفة أيضاً فسأذكرها، وأرجو ألا تستاءوا، وان كان فيكم من لا يرغب في ذكرها فلن أصرح باسمه.

الـمثال الثاني: هو أخي ((عبدالـمـجيد)) وهو من طلابي العاملين الـمـخلصين الـمضحين.. كان يـملك داراً أنيقة جـميلة في ((وان)) وحالته الـمعاشية على مايرام، فضلاً عن أنه كان يزاول مهنة التدريس.. فعندما استوجبت خدمة القرآن ذهابي الى مكان بعيد عن الـمدينة، على الـحدود، أردت استصحابه، الا أنه لـم يوافق وكأنه رأى أنه من الافضل عدم ذهابي أنا كذلك، حيث قد يشوب العمل للقرآن شيء من السياسة وقد يعـّرضه للنفي، وفضّل الـمكوث حيث هو ولـم يشترك معنا. ولكن جاءته اللطمة الرحـمانية بـما هو ضد مقصوده، وعلى غير توقع منه، اذ أُخرج من الـمدينة وأُبعد عن منزلـه الـجـميل وأُرغم على الذهاب الى ((أركاني))(1).

الثالث: وهو ((خلوصي)) وهو من البارزين في خدمة القرآن، فعندما سافر من قضاء ((أطريدر)) الى بلدته، تيسرت لـه اسباب التـمتع بـمباهج الدنيا وسعادتها، مـما دفعه الى شيء من الفتور عن خدمة القرآن الـخالصة لله. حيث التقى والديه اللذين كان قد فارقهما منذ مدة مديدة، وحل في مدينته وهو بكامل بزّته العسكرية ورتبته العالية، فبدت الدنيا لـه حلوة خضرة.

نعم! ان العاملين في خدمة القرآن إما أن يُعرضوا عن الدنيا أو الدنيا تعرض عنهم، كي ينهضوا بالعمل بـجد ونشاط واخلاص.. وهكذا فعلى الرغم من أن قلب ((خلوصي)) ثابت لا يتزعزع، وهو رابط الـجأش، فقد ساقه هذا الوضع الـجـميل الذي ابتسم لـه، الى الفتور.. فجاءته لطمة ذات رأفة، اذ تعرض لـه عدد من الـمنافقين طوال سنتين متواليتين، فسلبوه لذة الدنيا وأفقدوه طعمها، حتى جعلوه يـمتعض منها ويعزف عنها، والدنيا تـمتعض منه وتعزف عنه، وعندها التف حول راية العمل القرآني واستـمسك بها بـجد ونشاط.

الرابع: هو ((الـحافظ أحـمد الـمهاجر)) وسيقص عليكم ما وقع لـه بنفسه.

نعم! لقد أخطأتُ في اجتهادي في خدمة القرآن، حيث فكرت لانقاذ آخرتي وحدي، فما أن بدا فيّ هذا النوع من الرغبة فترت عن العمل للقرآن. فأتتني لطمة رؤوفة، رغم ما فيها من قوة وشدة، بل كانت في الـحقيقة صفعة شديدة وزجراً عنيفاً، أرجو الله تعالى أن تكون كفارة عما بدر مني من غفلة عن العمل لقرآنه العظيـم. والـحادثة كانت كالآتي:

كان الاستاذ لا يوافق على مـحدثات الامور(1) وحيث ان الـجامع الذي أؤدي فيه الصلاة جـماعة يقع بـجوار مسكن الاستاذ، والشهور الـمباركة – رجب شعبان رمضان – مقبلة علينا، فقد حدثتني نفسي بالآتي:

ان لـم أؤد الصلاة على الوجه البدعي، أُمنع من عملي، وان تركتُ الـجامع ولـم أصلِّ فيه اماماً للـجـماعة، يضيع مني ثواب عظيـم ولاسيـما في هذه الشهور الثلاثة فضلاً عن أن أهل الـمـحلة سيعتادون على ترك الـجـماعة.. فرغبت في نفسي أن لو يغادر الاستاذ – وهو أحب اليَّ من روحي – القرية ((بارلا)) يغادرها مؤقتاً الى قرية اخرى كي أؤدي الصلاة وفق الامور الـمـحدثة. ولكن فاتني شيء هو أن لو غادر الاستاذ هذا الـمكان فسوف يفتر العمل للقرآن ولو مؤقتاً. فجاءتني العقوبة في هذه الاثناء، وكانت لطمة قوية جداً مع ما فيها من حنان ورأفة. حتى انني لـم أفق من شدتها منذ ثلاثة شهور.

فأملي عظيـم في سعة رحـمته تعالى أن يـجعل كل دقيقة من دقائق تلك الـمصيبة بـمثابة عبادة يوم كامل – كما أخبرني به الاستاذ بـما ألـهمه الله – حيث أن ذلك الـخطأ لـم يكن قد بدر مني لدوافع شخصية، وانـما هو خطأ اجتهادي في التفكير، ولـم ينـجـم الا عن تفكيري بآخرتي وحدها.

الـخامس: هو ((السيد حقي)). وحيث أنه ليس حاضراً معنا، فسأنوب عنه كما نُبْتُ عن ((خلوصي)) فأقول:

كان السيد حقي يوفي حق مهمته في العمل للقرآن أيـما ايفاء. ولكن عندما عُين قائمقام سفيه للقضاء، فكـَّر السيد حقي أن يـخبىء ما لديه من رسائل خشية أن تصيبه واستاذه أذىً منه، فترك خدمة النور مؤقتاً، واذا بلطمة ذات رحـمة وحنان تواجهه، اذ فُتـحت عليه دعوى كادت تلـجئه الى دفعٍ ألف ليرة كي يبرأ منها، فبات تـحت وطأة التهديد طوال سنة كاملة. حتى أتانا عائداً الى وظيفته طالباً في خدمة القرآن، فأنقذه الله من تلك الورطة ورُفع عنه الـحكم، وبرئت ساحته.

ثم عندما فُتـح أمام الطلاب ميدان عمل جديد للقرآن وهو استنساخه بـخط جـميل وبنـمط جديد، أُعطي للسيد حقي حصته من الاستنساخ، فأجاد القيام بـما كلف، وكتب جزءاً كاملا من القرآن الكريـم أحسن كتابة، ولكن لأنه كان يرى نفسه في حالة مضطرة من حيث ضروريات العيش، فقد لـجأ الى القيام بوكالة الدعاوى أمام الـمـحاكم، من دون علـمنا، واذا به يتلقى لطمة أخرى فيها الرأفة والرحـمة لـه، اذ انثنت اصبعه التي كان يكتب بها القرآن الكريـم. وحيث اننا لـم نكن نعلـم تورطه في هذا العمل فقد كنا حائرين أمام ما نزل باصبعه من بأسٍ، وعجزه عن الاستـمرار في كتابة القرآن.

ثم علـمنا أن الـخدمة الـمقدسة هذه لاتقبل أن تدخل تلك الاصابع الطاهرة في أمور ملوثة(1)، فكأن الاصبع تقول بهذا الانثناء: لا يـجوز لك أن تغمسني بنور القرآن الكريـم ثم تغرقني في ظلـمة الدعاوى. فنبهته..

وعلى كل حال، فقد وضعت نفسي موضع ((خلوصي))، وتكلـمت بدلاً منه، فالسيد حقي أيضاً مثلـه تـماماً. فان لـم يرض بوكالتي عنه فليكتب بنفسه اللطمة التي تلقاها.

السادس: هو ((السيد بكر))(2) وسأتولى مهمة الكلام عنه لعدم حضورة معنا مثلـما تكلـمت بدلاً عن أخي عبدالـمـجيد، فهو مثلـه أيضاً، أتوكل عنه معتـمداً على اخلاصه ووفائه وصداقته الصميـمة وثباته في الـخدمة، واستناداً الى ما يرويه ((السيد سليـمان))(3) و ((الـحافظ توفيق الشامي))(4) وأمثالـهم من الأخوة الأحبة:

ان السيد بكر هو الذي تولـّى القيام بطبع ((الكلـمة العاشرة)) في استانبول، فاردنا طبع ((رسالة الـمعجزات القرآنية)) أيضاً هناك قبل احداث الـحروف اللاتينية الـحديثة، أرسلت رسالة كتبت لـه فيها: سنرسل لك ثمن طبع هذه الرسالة مع ثمن الرسالة السابقة. ولكنه عندما لاحظ ان الطبع يكلـّف اربعمائة ليرة، وهو يعلـم ما انا فيه من فقر، اراد هو ان يدفع الـمبلغ من خالص مالـه وخطر ببالـه أنني لاأرضى بهذا العمل، فخدعته نفسه فلـم يباشر بالطبع، فاصاب الـخدمة القرآنية من جراء تفكيره هذا ضرر بالغ.. وبعد مرور شهرين سُرِقَت منه تسعمائة ليرة، فكانت لطمة رؤوفة وشديدة تـجاه ما أصاب العمل من فتور. نسأل الله ان يـجعل تلك الاموال الضائعة بـمثابة صدقة عن نفسه.

السابع: هو ((الـحافظ توفيق)) الـملقب بالشامي، وسيورد بنفسه الـحادثة:

نعم! لقد قمت بأعمال ساقتني الى الفتور في خدمة القرآن. فأتتني لطمة من جرائها، وتيقنت بـما لا يقبل الشك ان هذه اللطمة ليست الا من تلك الـجهة، اذ كانت نتيـجة خطأ مني في التفكير وجهل مني في التقدير.

اللطمة الاولى: عندما وزع الاستاذ أجزاء القرآن الكريـم علينا، كان حظي منها كتابة ثلاثة أجزاء، حيث قد أنعم الله عليَّ قدرة على كتابة الـحروف العربية وتـجويدها كخط القرآن الكريـم. فالشوق الى كتابة كتاب الله العزيز ولـَّد فيّ فتوراً عن كتابة مسودات الرسائل وتبييضها، فضلا عن أنه قد أصابني منه شيء من الغرور، حيث كنت أعدّ فائقاً على أقراني في هذا العمل، بـما أجده في نفسي من كفاية في حسن الـخط العربي. حتى أنه عندما اراد الاستاذ ارشادي الى أمور تـخص الكتابة العربية، قلت بشيء من الغرور: هذا الامر يعود لي، أعرف هذا فلا أحتاج الى توصية! فتلقيت لطمة عطف ورأفة نتيـجة خطأي هذا، وهي انني عجزت عن بلوغ أقراني في الكتابة، فسبقوني في الـجودة.. فكنت احار من أمري هذا، لـماذا تـخلفت عنهم رغم تـميزي عليهم؟! ولكن الآن أدركت أن ذلك كان لطمة رحـمانية، ضربتني بها كرامة خدمة القرآن، حيث لا تقبل الغرور!

ثانيتها: كانت لديَّ حالتان تـخلان بصفاء العمل للقرآن، تلقيت على أثرهما لطمة شديدة. والـحالتان هما:

كنت أعد نفسي غريباً عن البلد، بل غريباً حقاً، فلأجل تبديد وحشة الغربة جالست أناساً مغرورين بالدنيا، فتعلـمت منهم الرياء والتـملق، علاوة على تعرضي لفقر الـحال – ولا أشكو – حيث لـم اراع دستور الاستاذ الـمهم في الاقتصاد والقناعة، رغم تنبيه الاستاذ لي على هذه الامور وتـحذيري، بل توبيـخي أحياناً. فلـم أستطع – مع الاسف – انقاذ نفسي من هذه الورطة.. نسأل الله العفو والـمغفرة.. فهاتان الـحالتان استغلتهما شياطين الـجن والانس فاصاب العمل للقرآن الفتور، وتلقيت لطمة قوية، الا انها كانت لطمة حنان ورأفة، فأيقنت بـما لا يدع مـجالا للشك أن هذه اللطمة انـما هي من ذلك الوضع وكانت على الوجه الآتي:

على الرغم من أنني كنت موضع خطاب الاستاذ وكاتب مسودات رسائلـه وتبييضها طوال ثماني سنوات. فلـم أنل مع الاسف من نورها ما كان يفيض على غيري في ثـمانية شهور. فكنت انا والاستاذ حائرين أمام هذا الوضع! ونتساءل: لـماذا؟ أي لـماذا لا يدخلٍ نور حقائق القرآن شغاف قلبي.. بـحثنا عن الاسباب كثيراً، حتى علـمنا الآن علـماً جازماً، ان تلك الـحقائق انـما هي نور وضياء، ولا يـجتـمع النور مع ظلـمات الرياء والتصنع والتزلف للآخرين.. لذا ابتعدت معاني حقائق هذه الانوار عني وغدت كأنها غريبة عني. أسألـه سبـحانه وتعالى أن يرزقني الاخلاص الكامل اللائق للعمل، وينقذني من الرياء والتذلل لأهل الدنيا. وارجوكم جـميعاً – وفي الـمقدمة ارجو الاستاذ – ان تـجهدوا في الدعاء لي.

العبد الـمقصر

الـحافظ توفيق الشامي

الثامن: هو ((سيراني)): هذا الأخ صنو ((خسرو))(1) من الـمشتاقين لرسائل النور، ومن طلابي الأذكياء الـمـجدّين.

استطلعت ذات يوم رأي طلاب ((اسبارطة)) حول التوافق الذي يعدّ مفتاحاً مهما لأسرار القرآن ولعلـم الـحروف. اشترك الـجـميع في الـمناقشة بـجد، عدا هذا الشخص، ولـم يكتف بعدم الـمشاركة في الـمناقشة بل اراد أن يصرفني عمّا أنا اعلـمه من حقائق علـماً يقيناً، اذ كان لـه اهتـمامات بأمور أخرى، ثم بعث اليّ رسالة جارحة جداً، اصابتني في الصميـم. فقلت: وا أسفاه ! لقد ضيعت هذا الطالب النابه، فعلى الرغم من مـحاولتي توضيـح الأمر لـه الاّ أن شيئاً آخر خالط الـموضوع؛ فأتته اللطمة الرؤوفة.. ودخل السجن زهاء سنة.

التاسع: هو ((الـحافظ زهدي الكبير)).

كان هذا الاخ يشرف على عمل طلاب النور في قصبة ((أغروس)) ولكن كأنه لـم يكتف بالـمنزلة الـمعنوية الرفيعة والشرف السامي الذي يتـمتع به طلاب النور، لاتباعهم السنة الشريفة واجتنابهم البدع، فرغب في العثور على هذه الـمنزلة لدى أهل الدنيا فتسلـم وظيفة القيام بتعليـم بدعة سيئة، مرتكباً خطأً جسيـماً منافياً لـمسلكنا الذي هو اتباع السنة الشريفة. فتلقى لطمة رهيبة جداً. اذ تعرض لـحادثة كادت تـمـحو شرفه وشرف أهلـه، وقد مست الـحادثة ((الـحافظ زهدي الصغير)) أيضاً مع الاسف بالرغم من انه لا يستـحق اللطمة. نسأل الله ان تكون تلك الـحادثة الـمؤلـمة بـمثابة عملية جراحية لتصرف قلبه عن الدنيا وتدفعه للاقبال على العمل القرآني الـخالص لوجه الله، لتنفعه يوم القيامة.

العاشرة: هو ((الـحافظ أحـمد)).

كان هذا الاخ يستنسخ الرسائل وينهل من انوارها طوال ثلاث سنوات، وهو دؤوب شغوف في عملـه، ثم تعرض للاختلاط بأهل الدنيا لعلـه يدفع أذاهم عنه، ويتـمكن من ابلاغ الكلام الطيب لـهم وليكسب شيئاً من الـمنزلة لديهم، فضلاً عن انه كان يرغب في أن يوسّع ما ضاق عليه من أمور الدنيا وهموم العيش ففتر شوقهُ. واستغل اهل الدنيا ضعفه بهذا الـجانب فأصابه فتور في عملـه القرآني جراء تلك الأوضاع، فأتته لطمتان معاً.

اولاها: ضُمّ الى عائلته خـمسة اشخاص آخرين بالرغم من ضيق معيشته، فأصبـح حقاً في رهق شديد من العيش.

ثانيتها: على الرغم من أنه كان مرهف الـحس ولا يتـحـمل شيئاً من الكلام من أحد، فقد اصبـح وسيلة لدساسين من حيث لا يعلـم، حتى فقد موقعه ومنزلته كلياً، وأصبـح كثيرٌ من الناس يهجرونه، ففقد صداقتهم بل عادوه.. وعلى كل حال؛ نسأل الله أن يغفر لـه، ونسألـه ان يوفقه للافاقة من غفلته ويعي الامور ويعود الى مهمته في خدمة القرآن.

الـحادي عشر: لـم يسجّل ربـما لا يرضى!.

الثاني عشر: هو ((الـمعلـم غالب))(1) لقد خدم هذا الاخ باخلاص وصدق في تبييض الرسائل، فقام بـخدمات جليلة كثيرة، ولـم يبد منه ضعفٌ أمام أية مشكلة من الـمشاكل مهما كانت.

كان يـحضر الدرس في أغلب الاوقات وينصت بكل أهتـمام وشوق، ويستنسخ الرسائل لنفسه أيضاً، حتى استكتب لنفسه جـميع ((الكلـمات والـمكتوبات)) لقاء أجرة قدرها ثلاثون ليرة. كان يقصد من وراء هذا الاستنساخ نشر الرسائل في مدينته، وارشاد اصدقائه، وبعد ذلك فتر عن العمل ولـم يقم بنشر الرسائل كما هو دأبه، وذلك بسبب ما ساوره من الـهواجس، فحجب نور هذه الرسائل عن الانظار فأصابته على حين غرة حادثة أليـمة جداً، تـجرّع من جرائها العذاب غصصاً مدة سنة كاملة، فوجد أمامه عدداً غفيراً من أعداء ظالـمين بدلاً من عداوة بضعة موظفين لقيامه بنشر الرسائل، ففقد أصدقاء أعزاء عليه.

الثالث عشر: هو ((الـحافظ خالد))(2) وسيذكر لكم الـحادثة بنفسه:

عندما كنت أعمل بشوق وحـماسة في كتابة مسودات رسائل النور، كانت هناك وظيفة شاغرة، وهي أمامة الـمسجد في مـحلتنا. ورغبة مني – رغبة شديدة – لألبس جبتي العلـمية القديـمة وعمامتها فترتُ مؤقتاً عن العمل وضعفتْ همتي وشوقي في خدمة القرآن فانسحبتُ من ساحة العمل القرآني جهلاً مني، فاذا بي أتلقى لطمة ذات رأفة بـخلاف ما كنت أقصده. اذ رغم الوعود الكثيرة التي قطعها الـمفتي على نفسه بتعييني، ورغم أني كنت قد توليت هذه الوظيفة لـما يقرب من تسعة اشهر سابقاً الا انني حُرمت من لبس الـجبة والعمامة، فأيقنت أن هذه اللطمة انـما هي من ذلك التقصير في العمل للقرآن. اذ كان الاستاذ يـخاطبني بالذات في الدرس فضلاً عن قيامي بكتابة الـمسودة، فانسحابي من العمل، ولاسيـما من كتابة الـمسودة، اوقعهم في حرج وضيق.. وعلى كل حال فالشكر لله وحده الذي جعلنا نفهم فداحة تقصيرنا ونعلـم مدى سمو هذه الـخدمة، ونثق باستاذ مرشد كالشيـخ الكيلاني ظهيراً لنا كالـملائكة الـحفظة.

اضعف العباد

الـحافظ خالد

الرابع عشر: لطمات حنان ثلاث صغيرة، أصابت ثلاثة أشخاص كل منهم يسمى ((مصطفى)).

أولـهم: ((مصطفى جاويش))(1) كان هذا الاخ يتولى خدمة الـجامع الصغير، وتزويد مدفأته بالنفط، بل حتى علبة الكبريت كان يوفرها للـجامع، فخدم طوال ثماني سنوات، ويدفع كل ما تـحتاجه هذه الامور من خالص مالـه – كما علـمنا بعدئذٍ – ولـم يكن يتـخلف عن الـجـماعة ابداً، ولاسيـما في ليالي الـجـمع الـمباركة الاّ اذا اضطر الى ذلك بعمل ضروري جداً. أخبره أحد الأيام بعض أهل الدنيا مستغلين صفاء قلبه: بلـّغ الـحافظ فلاناً – وهو من كتّاب رسائل النور – لينزع عمامته قبل ان يتأذى ويـجبر على نزعها، وبلـّغ الـجـماعة ان يتركوا الآذان سراً(2). ولـم يعلـم هذا الدنيوي الغافل ان تبليغ هذا الكلام ثقيل جداً على شخص مثل مصطفى جاويش من ذوي الأرواح العالية. ولكن لصفاء سريرته بلـَّغ صاحبه الـخبر، فرأيت تلك الليلة في الـمنام ان يدي مصطفى جاويش ملطختان وهو يسير خلف القائمقام ويدخلان معاً غرفتي..! قلت لـه في اليوم التالي لذلك اليوم: أخي مصطفى! مَن قابلت اليوم؟ رأيتك في الـمنام وانت ملطخ اليدين سائراً خلف القائمقام. قال: واأسفاه، لقد أبلغني الـمـختار كلاماً وانا بلـّغته الـحافظ الكاتب، ولـم أعلـم ما وراءه من كيد.

ثم حدث في اليوم نفسه ان جاء بكمية من النفط للـمسجد. وعلى غير الـمعتاد فقد ظل باب الـمسجد مفتوحاً فدخل عناق (صغير العنز) الى حرم الـمسجد فلوث قريباً من سجادتي، وجاء احدهم فاراد تنظيف الـمكان فلـم يـجد غير اناء النفط، وحسبه ماءً فرشّ ما في الاناء الى أطراف الـمسجد والعجيب انه لـم يشم رائحته. فكأن الـمسجد يقول بلسان حالـه لـ((مصطفى ضاويش)): ((لا حاجة لنا الى نفطك بعد الآن، لقد أرتكبت خطأً جسيـماً)) واشارة لـهذا الكلام الـمعنوي لـم يشعر ذلك الشخص برائحة النفط بل لـم يتـمكن مصطفى من الاشتراك في صلاة الـجـماعة في ذلك اليوم وليلة الـجـمعة الـمباركة بالرغم من مـحاولاته. ثم ندم ندماً خالصاً لله، واستغفر الله كثيراً، فرجع اليه صفاء قلبه وخلوص عبادته والـحـمد لله.

الشخصان الآخران الـمسمى كل منهما بـ ((مصطفى)).

أولـهما: مصطفى من قرية ((قولـه أونلي)) وهو من الطلاب الـمـجدّين، والآخر صديقه الوفي هو ((الـحافظ مصطفى)).

كنت قد بلـّغت طلابي بان لا يأتوا حالياً لزيارتي عقب العيد لئلا يفتر العمل للقرآن من جراء مراقبة أهل الدنيا ومضايقاتهم. واستثنيت من ذلك من كان يأتي فرداً فلا بأس به، واذا بي أفاجأ بثلاثة اشخاص معاً يأتون لزيارتي ليلاً، ويزمعون السفر قبل الفجر – اذا سمـحت احوال الـجو بالسفر – فلـم نتـخذ تدابير الـحذر، لا أنا ولا سليـمان ولا مصطفى جاويش، بل نسيناها حيث ألقى كلٌ منا اتـخاذها على عاتق الآخر. وعلى كل حال غادرونا قبل الفجر، فجاءتهم اللطمة بعاصفة شديدة لـم نكن قد رأينا مثلـها في هذا الشتاء. استـمرت ساعتين متواليتين فقلقنا عليهم كثيراً، وقلنا لن ينـجوا منها، وتألـمت عليهم ألـماً ما تألـمت على أحد مثلـهم. ثم اردت ان ابعث سليـمان – لعدم أخذه بالـحذر – ليتلقى اخبارهم ويبلـّغنا عن سلامة وصولـهم. ولكن مصطفى جاويش قال: اذا ذهب سليـمان فسيبقى هناك ايضاً، ولا يتـمكن من العودة، وسأتبعه أنا ايضاً، وسيتبعني عبدالله جاويش وهكذا.. ولـهذا وكـّلنا الامر الى العلي القدير قائلين جـميعاً: توكلنا على الله. وفوضنا الامر اليه.

* * *

سؤال:

انك تعد الـمصائب التي تصيب اخوانك الـخواص واصدقاءك تأديباً ربانياً ولطمة عتاب لفتورهم عن خدمة القرآن، بينـما الذين يعادون خدمة القرآن ويعادونكم يعيشون في بـحبوحة من العيش وفي سلام وأمان. فلـم يتعرض صديق القرآن للـّطمة ولا يتعرض عدوه لشيء؟

الـجواب: يقول الـمثل الـحكيـم: (الظلـم لا يدوم والكفر يدوم) فأخطاء العاملين في صفوف خدمة القرآن هي من قبيل الظلـم تـجاه الـخدمة، لذا يتعرضون بسرعة للعقاب ويـجازون بالتأديب الرباني، فان كانوا واعين يرجعون الى صوابهم.

أما العدو فان صدوده عن القرآن وعداءه لـخدمته انـما هو لأجل الضلالة، وان تـجاوزه على خدمة القرآن – سواء شعر به أم لـم يشعر – انـما هو من قبيل الكفر والزندقة، وحيث ان الكفر يدوم، فلا يتلقى معظمهم الصفعات بذات السرعة، اذ كما يعاقب من يرتكب أخطاء طفيفة في القضاء او الناحية، بينـما يساق مرتكبو الـجرائم الكبيرة الى مـحاكم الـجزاء الكبرى، كذلك الاخطاء الصغيرة والـهفوات التي يرتكبها أهلُ الايـمان وأصدقاء القرآن يتلقون على إثرها جزاءاً من العقاب بسرعة في الدنيا ليكفـّر عن سيئاتهم ويتطهروا منها، أما جرائم أهل الضلالة فهي كبيرة وجسيـمة الى حد لا تسع هذه الـحياة الدنيا القصيرة عقابهم، فيـمهـّلون الى عالـم البقاء والـخلود والى الـمـحكمة الكبرى لتقتص منهم العدالة الإلـهية القصاص العادل، لذا لا يلقون غالباً عقابهم في هذه الدنيا.

وفي الـحديث الشريف: ((الدنيا سجن الـمؤمن وجنة الكافر))(1) اشارة الى هذه الـحقيقة التي ذكرناها، أي أن الـمؤمن ينال نتيـجة تقصيراته قسماً من جزائه في الدنيا، فتكون بـحقه كأنها مكان جزاء وعقاب، فضلا عن أن الدنيا بالنسبة لـما أعده الله لـه من نعيـم الآخرة سجن وعذاب. أما الكفار فلأنهم مـخلـّدون في النار، ينالون قسماً من ثواب حسناتهم في الدنيا، وتـمهَل سيئاتهم العظيـمة الى الآخرة الـخالدة، فتكون الدنيا بالنسبة لـهم دار نعيـم لـما يلاقونه من عذاب الآخرة. والا فالـمؤمن يـجد من النعيـم الـمعنوي في هذه الدنيا ما لا ينالـه أسعد انسان. فهو أسعد بكثير من الكافر من زاوية نظر الـحقيقة وكأن ايـمان الـمؤمن بـمثابة جنة معنوية في روحه وكفر الكافر يستعر جحيـماً في ماهيته.
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-01-2011
  #8
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: اللمعات

اللـمعة الـحادية عشرة

(مرقاة السنة وترياق مرض البدعة)

الـمقام الاول لـهذه الآية عبارة عن ((منهاج السنة)) والـمقام الثاني هو ((مرقاة السنة))

بسم الله الرحـمن الرحيـم

} لَقدْ جَاءَكـُم رَسُولٌ من انفُسِكـُم عَزيزٌ عَليهِ ماعَنِتـم حَريصٌ عليكـُم بالـمؤمنينَ رؤوفٌ رَحيـم{ (التوبة:128)

} فإن تَولـّوا فَقُلْ حَسْبي الله لا الـه الاّ هو عَليهِ تَوكـّلْتُ وهوَ رَبُّ العَرشِ العَظيـم{ (التوبة:129)

} قُلْ إنْ كـُنتـم تـحبّون الله فاتّبعوني يـحببكـُم الله{ (آل عمران:31)

سنبين ((احدى عشرة)) نكتة دقيقة، بيانا مـجـملا، من بين مئات الـمسائل الدقيقة التي تتضمنها هاتان الآيتان العظيـمتان.

l النكتة الاولى:

قال الرسول e .

((من تـمسك بسنتي عند فساد امتي فلـه اجر مائة شهيد))(1).

اجل! ان اتباع السنة الـمطهرة لـهو حتـما ذو قيـمة عالية، ولا سيـما اتباعها عند استيلاء البدع وغلبتها، فان لـه قيـمة أعلى وأسمى، وبالاخص عند فساد الامة، اذ تُشعر مراعاة ابسط الآداب النبوية بتقوى عظيـمة وايـمان قوي راسخ؛ ذلك لأن الاتباع الـمباشر للسنة الـمطهرة يذكـّر بالرسول الاعظم e ، فهذا التذكر الناشيء من ذلك الاتباع ينقلب الى استـحضار الرقابة الإلـهية، بل تتـحول في الدقائق التي تراعى فيها السنة الشريفة أبسط الـمعاملات العرفية والتصرفات الفطرية – كآداب الاكل والشرب والنوم وغيرها – الى عمل شرعي وعبادة مثابة عليها؛ لأن الانسان يلاحظ بذلك العمل الـمعتاد اتباع الرسول e ، فيتصور أنه يقوم بأدب من آداب الشريعة، ويتذكر انه e صاحب الشريعة، ومن ثم يتوجه قلبه الى الشارع الـحقيقي وهو الله سبـحانه وتعالى، فيغنـم سكينة واطمئنانا ونوعا من العبادة.

وهكذا، في ضوء ما تقدم فان من يـجعل اتباع السنة السنية عادته، فقد حول عاداته الى عبادات، ويـمكنه ان يـجعل عمره كلـه مثمرا، ومثابا عليه.





l النكتة الثانية:

لقد قال الامام الرباني احـمد الفاروقي رحـمه الله(1):

((بينـما كنت اقطع الـمراتب في السير والسلوك الروحاني، رأيت ان أسطع ما في طبقات الاولياء، وارقاهم وألطفهم وآمنهم واسلـمهم هم اولئك الذين اتـخذوا اتباع السنة الشريفة اساسا للطريقة، حتى كان الاولياء العوام لتلك الطبقة يظهرون اكثر بهاءا واحتشاما من الاولياء الـخواص لسائر الطبقات)).

نعم ان الامام الرباني مـجدد الالف الثاني ينطق بالـحق، فالذي يتـمسك بالسنة الشريفة ويتـخذها اساساً لـه، لـهو أهل لـمقام الـمـحبوبية في ظل حبيب الله e .

l النكتة الثالثة:

عندما كان يسعى هذا السعيد الفقير الى الله، للـخروج من حالة (سعيد القديـم)(2) ارتـج عقلي وقلبي وتدحرجا ضمن الـحقائق ازاء اعصار معنوي رهيب، فقد شعرت كأنهما يتدحرجان هبوطا تارة من الثريا الى الثرى وتارة صعدا من الثرى الى الثريا، وذلك لانعدام الـمرشد، ولغرور النفس الامارة.

فشاهدت حينئذ ان مسائل السنة النبوية الشريفة بل حتى ابسط آدابها، كل منها في حكم مؤشر البوصلة الذي يبين اتـجاه الـحركة في السفن. وكل منها في حكم مفتاح يضيء ما لا يـحصر من الطرق الـمظلـمة الـمضرة.

وبينـما كنت ارى نفسي في تلك السياحة الروحية أرزح تـحت ضغط مضايقات كثيرة وتـحت اعباء أثقال هائلة، اذا بي أشعر بـخفة كلـمات تتبعت مسائل السنة الشريفة الـمتعلقة بتلك الـحالات، وكأنها كانت تـحـمل عني جـميع الاثقال وترفع عن كاهلي تلك الاعباء. فكنت أنـجو باستسلام تام بالسنة من هموم التردد والوساوس مثل: ((هل في هذا العمل مصلـحة؟ ترى هل هو حق؟)). وكنت ارى متى ما كففت يدي عن السنة تشتد موجات الـمضايقات وتكثر، والطرق الـمـجهولـه تتوعر وتغمض، والاحـمال تثقل.. وانا عاجز في غاية العجز ونظري قصير، والطريق مظلـمة. بينـما كنت اشعر متى ما اعتصمت بالسنة، وتـمسكت بها، تتنور الطريق من امامي، وتظهر كأنها طريق آمنه سالـمة والاثقال تـخف والعقبات تزول.

نعم، هكذا احسست في تلك الفترة فصدقت حكم الامام الرباني بالـمشاهدة.

l النكتة الرابعة:

غمرتني – في فترة ما – حالة روحية نبعت من التأمل في ((رابطة الـموت)) ومن الايـمان بقضية ((الـموت حق))، ومن طول التفكر بزوال العالـم وفنائه. فرأيت نفسي في عالـم عجيب، اذ نظرت فاذا انا جنازة واقفة على رأس ثلاث جنائز مهمة وعظيـمة:

الاولى: الـجنازة الـمعنوية لـمـجـموع الاحياء التي لـها ارتباط بـحياتي الشخصية، والتي ماتت ومضت ودفنت في قبر الـماضي.. وما أنا الا كشاهد قبرها موضوع على جثتها.

الثانية: جنازة عظيـمة تطوي مـجـموع انواع الاحياء الـمتعلقة بـحياة البشرية قاطبة، والتي ماتت ودفنت في قبر الـماضي الذي يسع الكرة الارضية، وما أنا الا نقطة تـمـحى عاجلا ونـملة صغيرة تـموت.. سريعا على وجه هذا العصر الذي هو شاهد قبر تلك الـجنازة.

الثالثة: الـجنازة الضخـمة التي تطوي هذا الكون عند قيام الساعة، وحيث ان موته عندئذ امر مـحقق لامناص منه، فقد اصبـح في نظري في حكم الواقع الآن. فاخذت الـحيرة جوانب نفسي، وبهت من هول سكرات تلك الـجنازة الـمهولة، وبدت وفاتي – التي هي الأخرى آتية لا مـحال – كأنها تـحدث الان، فادارت جـميع الـموجودات وجـميع الـمـحبوبات ظهرها لي ومضت، وتركتني وحيداً فريداً، مثلـما جاءت في الآية الكريـمة: } فإن تَولـّوا... { . واحسست كأن روحي تساق الى الـمستقبل الـمـمتد نـحو الأبد الذي اتـخذ صورة بـحر عظيـم لا ساحل لـه.. وكان لابد من القاء النفس في خضم ذلك البـحر العظيـم طوعاً او كرها.

وبينـما انا في هذا الذهول الروحي، والـحزن الشديد يعصر قلبي، اذا بـمدد يأتيني من القرآن الكريـم والايـمان. فمدتني الآية الكريـمة: } فإن تَولـّوا فَقُلْ حَسْبي الله لا الـه الاّ هو عَليهِ تَوكـّلْتُ وهوَ رَبُّ العَرشِ العَظيـم{ (التوبة:129) حتى غدت هذه الآية بـمثابة سفينة أمان في منتهى السلام والاطمئنان. فدخلت الروح آمنة مطمئنة في حـمى هذه الآية الكريـمة.. وفهمت في حينها ان هناك معنى غير الـمعنى الصريـح لـهذه الآية الكريـمة، وهو الـمعنى الاشاري. فلقد وجدت فيه سلوانا لروحي، حيث وهب لي الاطمئنان والسكينة.

نعم! ان الـمعنى الصريـح للآية الكريـمة يقول للرسول الكريـم e .

((اذا تولى اهل الضلالة عن سماع القرآن، واعرضوا عن شريعتك وسنتك، فلا تـحزن ولاتغتـم، وقل حسبي الله، فهو وحده كاف لي، وانا اتوكل عليه؛ اذ هو الكفيل بأن يقيض من يتبعني بدلا منكم، فعرشه العظيـم يـحيط بكل شيء، فلا العاصون يـمكنهم ان يهربوا منه، ولا الـمستعينون به يظلون بغير مدد وعون منه)).

فكما ان الـمعنى الصريـح لـهذه الآية الكريـمة يقول بهذا، فالـمعنى الاشاري للآية الكريـمة يقول:

((ايها الانسان، ويامن يتولى قيادة الانسان وارشاده؛ لئن ودعتك الـموجودات كلـها وانعدمت ومضت في طريق الفناء.. وان فارقتك الاحياء وجرت الى طريق الـموت.. وان تركك الناس وسكنوا الـمقابر.. وان اعرض اهل الغفلة والضلالة ولـم يصغوا اليك وتردوا في الظلـمات.. فلا تبال بهم، ولا تغتـم، وقل: حسبي الله، فهو الكافي، فاذا هو موجود فكل شيء موجود.. وعلى هذا، فان اولئك الراحلين لـم يذهبوا الى العدم، وانـما ينطلقون الى مـملكة اخرى لرب العرش العظيـم، وسيرسل بدلا منهم ما لا يعد ولا يـحصى من جنوده الـمـجندين.. وان اولئك الذين سكنوا الـمقابر لـم يفنوا ابدا، وانـما ينتقلون الى عالـم آخر، وسيبعث بدلا منهم موظفين آخرين يعمرون الدنيا، ويشغلون ما خلا من وظائفها.. وهو القادر على ان يرسل من يطيعه ويسلك الطريق الـمستقيـم بدلا مـمن وقعوا في الضلالة من الذاهبين..

فما دام الامر هكذا، فهو الكفيل، وهو الوكيل، وهو البديل عن كل شيء، ولن تعوّض جـميع الاشياء عنه، ولن تكون بديلا عن توجه واحد من توجهات لطفه ورحـمته لعباده..

وهكذا انقلبت صور الـجنازات الثلاث التي راعتني بهذا الـمعنى الاشاري الى شكل آخر من اشكال الانس والـجـمال وهو:

ان الكائنات تتهادى جيئة وذهابا في مسيرة كبرى، انهاء لـخدمات مستـمرة، واشغالا لواجبات مـجددة دائمة، عبر رحلة ذات حكمة، وجولة ذات عبرة، وسياحة ذات مهام، في ظل ادارة الـحكيـم الرحيـم العادل القدير ذي الـجلال، وضمن ربوبيته الـجليلة وحكمته البالغة ورحـمته الواسعة.

l النكتة الـخامسة:

قال تعالى: } قُلْ إنْ كـُنتـم تـحبّون الله فاتـّبعوني يـحببكـُم الله{ (آل عمران:31) تعلن هذه الآية العظيـمة اعلانا قاطعاً عن مدى اهمية اتباع السنة النبوية ومدى ضرورتها.

نعم! ان هذه الآية الكريـمة اقوى قياس واثبته من قسم القياس الاستثنائي، ضمن الـمقاييس الـمنطقية، اذ يرد فيه على وجه الـمثال: ((اذا طلعت الشمس فسيكون النهار)).

ويرد مثالا للنتيـجة الايـجابية: ((طلعت الشمس فالنهار اذاً موجود)). ويرد مثالا للنتيـجة. السلبية: ((لا نهار فالشمس اذاً لـم تطلع)). فهاتان النتيـجتان – الايـجابية والسلبية – ثابتتان وقاطعتان في الـمنطق.

وكذلك الامر في الآية الكريـمة، فتقول: ان كان لديكم مـحبة الله، فلابد من الاتباع لـ((حبيب الله)). وان لـم يكن هناك اتباع، فليس لديكم اذاً مـحبة الله. اذ لو كانت هناك مـحبة حقاً فانها تولد حتـماً اتباع السنة الشريفة لـ((حبيب الله)).

أجل! ان من يؤمن بالله يطعه. ولاريب ان اقصر طريق اليه واكثرها قبولا لديه، وأزيدها استقامة – ضمن طرق الطاعة الـمؤدية اليه – لـهي الطريق التي سلكها وبينها حبيب الله e .

نعم! ان الكريـم ذا الـجـمال الذي ملأ هذا الكون بنعمة وآلائه الى هذا الـمدى، بديهي – بل ضروري – ان يطلب الشكر من ذوي الـمشاعر تـجاه تلك النعم.

وان الـحكيـم ذا الـجلال الذي زيّن هذا الكون بـمعجزات صنعته الى هذا الـحد، سيـجعل بالبداهة من هو الـمـختار الـمـمتاز من ارباب الشعور مـخاطبا لـه، وترجـمانا لأوامره، ومبلغاً لعبادة، واماماً لـهم.

وان الـجـميل ذا الكمال الذي جعل هذا الكون مظهراً بـما لا يعد ولا يـحصى لتـجليات جـمالـه وكمالـه سيهب بالبداهة لـمن هو اجـمع نـموذج لبدائع صنعته، واكمل من يظهر ما يـحبه ويريد اظهاره من جـمال وكمال واسماء حسنى.. سيهب لـه اكمل حالة للعبودية جاعلا منه اسوة حسنة للآخرين ويـحثهم لاتباعه، ليظهر عندهم ما يـماثل تلك الـحالة اللطيفة الـجـميلة.

الـخلاصة:

ان مـحبة الله تستلزم اتباع السنة الـمطهرة وتنتـجه.

فطوبى لـمن كان حظه وافراً من ذلك الاتباع.

وويل لـمن لايقدر السنة الشريفة حق قدرها فيـخوض في البدع.

l النكتة السادسة:

قال الرسولe : ((كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار))(1)، أي: بعد ان كملتْ قواعد الشريعة الغراء ودساتير السنة الـمهطرة، واخذت تـمام كمالـها، بدلالة الآية الكريـمة: } اليومَ أكملتُ لكُم دينَكُم{ … (الـمائد:3) فان عدم استـحسان تلك الدساتير بـمـحدثات الامور، او ايـجاد البدع التي تشعر كأن تلك القواعد ناقصة – حاش لله – ضلال ليس لـه مستقر الا النار.

ان للسنة الـمطهرة مراتب:

قسم منها ((واجب)) لا يـمكن تركه، وهو مبين في الشريعة الغراء مفصلا، وهو من الـمـحكمات لي لا يـمكن باية جهة كانت ان تتبدل.

وقسم منها هو من قبيل ((النوافل))، وهذا بدوره قسمان:

قسم منه هو السنن التي تـخص العبادات، وهي مبينة ايضا في كتب الشريعة. وتغيير هذه السنن بدعة.

أما القسم الآخر فهو الذي يطلق عليه ((الآداب)) وهي الـمذكورة في كتب السير الشريفة، ومـخالفتها لاتسمى بدعة. الا انها من نوع مـخالفة الآداب النبوية، وعدم الاستفاضة من نورها، وعدم التأدب بالادب الـحقيقي، فهذا القسم هو: اتباع افعال الرسول e الـمعلومة بالتواتر في العرف والعادات والـمعاملات الفطرية، ككثير من السنن التي تبين قواعد ادب الـمـخاطبة وتظهر حالات الاكل والشرب والنوم أو التي تتعلق بالـمعاشرة. فمن يتـحر امثال هذه السنن التي تطلق عليها ((الآداب)) ويتبعها فانه يـحول عاداته الى عبادات، ويستفيض من نور ذلك الأدب النبوي، لأن مراعاة أبسط الآداب واصغرها تذكر بالرسول الاعظم e مـما يسكب النور في القلب.

ان اهم ما في السنة الـمطهرة هي تلك السنن التي هي من نوع علامات الاسلام والـمتعلقة بالشعائر اذ الشعائر هي عبادة من نوع الـحقوق العامة التي تـخص الـمـجتـمع.

فكما ان قيام فرد بها يؤدي الى استفادة الـمـجتـمع كلـه، فان تركها يـجعل الـجـماعة كلـها مسؤولة. فمثل هذه الشعائر يعلن عنها وهي أرفع من ان تنالـها ايدي الرياء واهم من الفرائض الشخصية ولو كانت من نوع النوافل.

l النكتة السابعة:

ان السنة النبوية الـمطهرة في حقيقة امرها لـهي أدب عظيـم، فليس فيها مسألة الا وينطوي على ادب ونور عظيـم. وصدق رسول الله e حين قال: ((أدبني ربي فأحسن تأديبي))(1).

نعم، فمن يـمعن النظر في السيرة النبوية ويـحط علـماً بالسنة الـمطهرة، يدرك يقيناً ان الله سبـحانه وتعالى قد جـمع اصول الاداب وقواعدها في حبيبه e . فالذي يهجر سنته الـمطهرة ويـجافيها فقد هجر منابع الادب واصولـه، فيـحرم نفسه من خير عظيـم، ويظل مـحروماً من لطف الرب الكريـم، ويقع في سوء ادب وبيل. ويكون مصداق القاعدة: بي ادب مـحروم باشد أز لطف رب.

سؤال:

كيف نتأدب مع علام الغيوب، البصير العليـم، الذي لا يـخفى عليه شيء، حيث ان هناك حالات تدعو الانسان الى الـخجل، ولا يـمكن اخفاؤها عنه سبـحانه، ولا التستر منه، بينـما ستر مثل هذه الـحالات الـمستكرهة احد انواع الأدب؟.

الـجواب:

اولا: كما ان الصانع ذا الـجلال يظهر صنعته اظهاراً جـميلاً في نظر مـخلوقاته، ويأخذ الامور الـمستكرهة تـحت أستار وحجب، ويزين نِعَمه ويـجـملـها حتى لتشتاقها الابصار. كذلك يطلب سبـحانه من مـخلوقاته وعباده ان يظهروا امام ذوي الشعور بأجـمل صورهم واكثرها حسناً؛ اذ ان ظهورهم للـمـخلوقات في حالات مزرية قبيـحة، واوضاع مستهجنة، يكون منافياً للأدب الـجـميل ونوعاً من العصيان تـجاه قدسية اسمائه أمثال: الـجـميل، الـمزين، اللطيف، الـحكيـم. وهكذا فالادب الذي في السنة النبوية الطاهرة انـما هو تأدب بالادب الـمـحض الذي هو ضمن الاسماء الـحسنى للصانع الـجليل.

ثانياً: ان الطبيب لـه ان ينظر الى أشد الاماكن حرمة لـمن يـحرم عليه، من زاوية نظر الطب والعلاج. بل يكشف لـه – في حالات الضرورة – تلك الاماكن ولا يعد ذلك خلافاً للأدب، وانـما يعتبر ذلك من مقتضيات الطب. الا ان ذلك الطبيب نفسه لا يـجوز لـه ان ينظر الى تلك الاماكن الـمـحرمة من حيث كونه رجلا او واعظاً او عالـماً، فلا يسمـح الادب قطعاً باظهارها لـه بتلك العناوين والصفات. بل يعد ذلك انعداماً للـحياء.

((ولله الـمثل الاعلى)) فان للصانع الـجليل اسماء حسنى كثيرة، ولكل اسم تـجليه، فمثلا:

كما يقتضي اسم ((الغفار)) وجود الذنوب، واسم ((الستار) وجود التقصيرات، فان اسم ((الـجـميل)) لا يرضى برؤية القبـح. وان الاسماء الـجـمالية والكمالية، امثال: اللطيف، الكريـم، الـحكيـم، الرحيـم، تقتضى ان تكون الـموجودات في احسن الصور، وفي افضل الاوضاع الـمـمكنة. فتلك الاسماء الـجـمالية والكمالية تقتضى اظهار جـمالـها؛ بالاوضاع الـجـميلة للـموجودات وتأدبها بالاداب الـحسنة، امام انظار الـملائكة والعالـم الروحاني والـجن والانس.

وهكذا فالاداب التي تتضمنها السنة الـمطهرة اشارة الى هذه الاداب السامية، ولفتة الى دساتيرها ونـماذجها.

l النكتة الثامنة:

تبين الآية الكريـمة: } لقد جَاءكُم رسُولٌ من أنفُسِكُم..{ (التوبة:128) كمال شفقة الرسول الكريـم e ومنتهى رأفته نـحو أمته. أما التي تعقبها } فإن تَولـّوا فَقُلْ حَسْبي الله.. { فهي تقول:

((ايها الناس! ايها الـمسلـمون! اعلـموا كم هو انعدام للوجدان وفقدان للعقل اعراضكم عن سنن هذا النبي الرؤوف الرحيـم، وعما بلغ من احكام، لـحد انكاركم شفقته البديهية، واتهام رأفته الـمشاهدة، وهو الذي أرشدكم برأفته الواسعة وبذل كل ما اوتي لاجل مصالـحكم، مداوياً جراحاتكم الـمعنوية ببلسم سننه الطاهرة والاحكام التي اتى بها.

وانت ايها الرسول الـحبيب الرؤوف الرحيـم، ان لـم يعرف هؤلاء شفقتك العظيـمة هذه، لبلاهتهم، ولـم يقدروا رأفتك الواسعة هذه، فأداروا لك ظهورهم، ولـم يعيروا لك سمعاً.. فلا تبال ولا تهتـم فان رب العرش العظيـم الذي لـه جنود السموات والارض والذي تهيـمن ربوبيته من على العرش الاعظم الـمـحيط بكل شيء، لـهو كاف لك.. وسيـجـمع حولك الـمطيعين حقاً، ويـجعلـهم يصغون اليك ويرضون باحكامك)).

نعم، انه ليست في الشريعة الـمـحـمدية والسنة الاحـمدية مسألة الا وفيها حِكَمٌ عديدة، فانا هذا الفقير الى الله ادعى بهذا، رغم كل عجزي وقصوري. وانا على استعداد لإثبات هذه الدعوى. فما كتبته لـحد الآن من اكثر من سبعين رسالة من رسائل النور انـما هو بـمثابة سبعين شاهدا صادقا على مدى الـحكمة والـحقيقة التي تنطوي عليها السنة الاحـمدية والشريعة الـمـحـمدية، فلو قدر وكتب هذا الـموضوع فلا يكفي سبعون رسالة ولا سبعة آلاف رسالة لا يفاء تلك الـحكم حقها.

ثم اني قد شاهدت شخصياً، وتذوقته بنفسي، بل لي الف تـجربة وتـجربة: ان دساتير الـمسائل الشرعية والسنة النبوية افضل دواء وانفعه للامراض الروحية والعقلية والقلبية، ولا سيـما الاجـتـماعية منها، فأن اعلن بـمشاهدتي واحساسي هذا، وقد اشعرت الأخرين بشيء منها في الرسائل بأنه: لا يـمكن ان تسد مسد تلك الـمسائل اية حلول فلسفية ولا أية مسألة حكيـمة. فالذين يرتابون من ادعائي هذا عليهم مراجعة اجزاء رسائل النور.

فليقدر اذاً مدى الربـح العظيـم في السعي لاتباع سنة هذه الذات الـمباركة والـجد في طلبها على قدر الاستطاعة، ومدى السعادة للـحياة الابدية ومدى النفع في الـحياة الدنيا.

l النكتة التاسعة:

قد لا يتيسر اتباع كل نوع من انواع السنة الشريفة اتباعاً فعلياً كاملاً الاّ لأخص الـخواص، ولكن يـمكن لكل واحد الاتباع عن طريق: النية والقصد والرغبة في الالتزام والقبول. ومن الـمعلوم انه ينبغي الالتزام بأقسام الفرض والواجب. اما السنن الـمستـحبة في العبادة فتركها واهمالـها وان لـم يكن فيه اثم الا انه ضياع لثواب عظيـم، وفي تغييرها خطأ كبير. اما السنن النبوية في العادات والـمعاملات فانها تصيّر العادة عبادة رغم ان تاركها لايلام، الا أن استفادته تقل وتتضاءل من نور الاداب الـحياتية لـحبيب الله e .

اما البدع فهي: احداث امور في الاحكام العبادية، وهي مردودة حيث انها تنافي الآية الكريـمة: } اليومَ أكملتُ لكُم دينَكُم...{ (الـمائدة:3) غير ان تلك الامور الـمستـحدثة ان كانت من قبيل الاوراد والاذكار والـمشارب – كالتي في الطرق الصوفية – فهي ليست ببدعة ما دامت اصولـها مستقاة من الكتاب والسنة. اذ ان تلك الاصول والاسس الـمقررة رغم انها باشكال مـختلفة وانـماط متباينة الا انها مشروطة بعدم مـخالفتها للسنة النبوية وبعدم تغييرها لـها. وعلى الرغم من ذلك فقد ادخل قسم من اهل العلـم بعضاً من هذه الامور ضمن البدع، الا انهم اطلقوا عليها ((البدعة الـحسنة)). ولكن الامام الرباني يقول: ((كنت ارى في سيري عبر السلوك الروحاني ان الكلـمات الـمروية عن الرسول الاعظم e منورة متألقة بشعاع السنة الـمطهرة، في حين كنت ارى الاوراد العظيـمة والـحالات الباهرة غير الـمروية عنه ليس عليها ذلك النور والتألق. فما كان يبلغ اسطع ما في هذا القسم – الاخير – الى اقل القليل لـما في السنة … ففهمت من هذا: ان شعاع السنة الـمطهرة لـهو الاكسير النافذ، فالسنة الـمطهرة كافية ووافية لـمن يبتغي النور، فلا داعي للبـحث عن نور في خارجها…)).

فهذا الـحكم الصادر من هذا الرائد البطل من ابطال الـحقيقة والشريعة ليظهر لنا: ان السنة السنية هي الـحجر الاساس لسعادة الدارين ومنبع الكمال والـخير. اللهم ارزقنا اتباع السنة السنية.

} ربـّنا آمَنـّا بـما أنزلْتَ واتبَعنا الرسُولَ فاكتُبنا مَع الشّاهدين {

(آل عمران:53)

l النكتة العاشرة:

قال تعالى: } قُلْ إنْ كـُنتـم تـحبّون الله فاتّبعوني يـحببكـُم الله{

(آل عمران:31).

في هذه الآية الكريـمة ايـجاز معجز، حيث ان معاني كثيرة قد اندرجت في هذه الـجـمل الثلاث: تقول الآية الكريـمة: ((ان كنتـم تؤمنون بالله، فانكم تـحبونه، فما دمتـم تـحبونه فستعملون وفق ما يـحبه، وما ذاك الاتشبهكم بـمن يـحبه.. وتشبهكم بـمـحبوبه ليس الا في اتباعه، فمتى ما اتبعتـموه يـحبكم الله، ومن الـمعلوم انكم تـحبون الله كي يـحبكم الله)).

وهكذا فهذه الـجـمل ماهي الا بعض الـمعاني الـمـختصرة الـمـجـملة للآية، لذا يصح القول: ان أسمى مقصد للانسان واعلاه هو ان يكون اهلا لـمـحبة الله.. فنص هذه الاية يبين لنا ان طريق ذلك الـمقصد الاسنى انـما هو في اتباع ((حبيب الله)) والاقتداء بسنته الـمطهرة. فاذا ما اثبتنا في هذا الـمقام ثلاث نقاط فستتبين الـحقيقة الـمذكورة بوضوح.



النقطة الاولى:

لقد جُبل هذا الانسان على مـحبة غير متناهية لـخالق الكون، وذلك لان الفطرة البشرية تكنّ حباً للـجـمال، ووداً للكمال، وافتتاناً بالاحسان، وتتزايد تلك الـمـحبة بـحسب درجات الـجـمال والكمال والاحسان حتى تصل الى اقصى درجات العشق ومنتهاه.

نعم ان في القلب الصغير لـهذا الانسان الصغير يستقر عشق بكبر الكون. اذ ان نقل مـحتويات ما في مكتبة كبيرة من كتب، وخزنها في القوة الـحافظة للقلب – وهي بـحجـم حبة عدس – يبين ان قلب الانسان يـمكنه ان يضم الكون ويستطيع ان يـحـمل حباً بقدر الكون.

فما دامت الفطرة البشرية تـملك استعداداً غير مـحدود للـمـحبة تـجاه الاحسان والـجـمال والكمال.. وان لـخالق الكون جـمالاً مقدساً غير متناه، ثبوته متـحقق بداهة بآثاره الظاهرة في الكائنات.. وان لـه كمالا قدسياً لا حدود لـه، ثبوته مـحقق ضرورة بنقوش صنعته الظاهرة في هذه الـموجودات.. وان لـه احسانا غير مـحدود ثابت الوجود يقينا، يـمكن لـمسه ومشاهدته ضمن انعامه والآئه الظاهرة في جـميع انواع الاحياء.. فلابد انه سبـحانه يطلب مـحبة لاحد لـها من الانسان الذي هو اجـمع ذوي الشعور صفة، واكثرهم حاجة، واعظمهم تفكراً، واشدهم شوقاً اليه.

نعم، كما ان كل انسان يـملك استعداداً غير مـحدود من الـمـحبة تـجاه ذلك الـخالق ذي الـجلال، كذلك الـخالق سبـحانه هو اهل ليكون مـحبوبا، لاجل جـمالـه وكمالـه واحسانه اكثر من أي احد كان، حتى ما في قلب الانسان الـمؤمن من انواع الـمـحبة ودرجاتها للذين يرتبط بهم بعلاقات معينة، ولاسيـما ما في قلبه من حب تـجاه حياته وبقائه، وتـجاه وجوده ودنياه، وتـجاه نفسه والـموجودات بأسرها، انـما هي ترشحات من تلك الاستعدادات للـمـحبة الإلـهية. بل حتى اشكال الاحساسات العميقة – عند الانسان – ما هي الا تـحولات لذلك الاستعداد، وما هي الارشحاته التي اتـخذت اشكالا مـختلفة.

ومن الـمعلوم ان الانسان مثلـما يتلذذ بسعادته الذاتية، فهو يتلذذ ايضاً بسعادة الذين يرتبط بهم بعلاقة ومـحبة ومثلـما يـحب من ينقذه من البلاء، فهو يـحب من ينـجي مـحبيه من الـمصائب ايضاً.

وهكذا، فاذا ما فكر الانسان وروحه مفعمة بالامتنان لله، في احسان واحد فقط مـما لا يعد ولا يـحصى من الاحسانات العظيـمة التي قد غمر بها الله سبـحانه وتعالى الانسان وشملـه بها، فانه سيفكر على النـحو الآتي:

ان خالقي الذي انقذني من ظلـمات العدم الابدية، ومنـحني منـحة الـخلق والوجود، ووهب لي دنيا جـميلة استـمتع بـجـمالـها هنا على هذه الارض، فان عنايته ايضاً ستـمتد اليّ حين يـحين اجلي، فينقذني كذلك من ظلـمات العدم الابدي والفناء السرمدي، وسيهب لي – من فضل احسانه – عالـماً ابدياً باهرا زاهرا في عالـم البقاء في الآخرة.. وسينعم عليّ سبـحانه بـحواس ومشاعر ظاهرة وباطنة لتستـمتع وتتلذذ في تنقلـها بين انواع ملذات ذلك العالـم الـجـميل الطاهر.

كما انه سبـحانه سيـجعل جـميع الاقارب، وجـميع الاحبة من بني جنسي الذين اكن لـهم حباً عميقاً وارتبط معهم بعلاقة وثيقة، سيـجعلـهم اهلا لـهذه الآلاء والاحسانات غير الـمـحدودة.. وهذا الاحسان – من جهة – يعود عليّ كذلك، اذ انني اتلذذ بسعادة اولئك، واسعد بها.. فما دام في كل فرد حب عميق وافتتان بالاحسان كما في الـمثل: ((الانسان عبد الاحسان)) فلابد ان الانسان امام هذا الاحسان الابدي غير الـمـحدود سيقول:

لو كان لي قلب بسعة الكون لاقتضى ان يـملأ حباً وعشقاً تـجاه ذلك الاحسان الإلـهي، وانا مشتاق لـملئه، ولكن رغم انني لست على مستوى تلك الـمـحبة فعلا، الا انني أهل لـها بالاستعداد والايـمان، وبالنية والقبول، وبالتقدير والاشتياق، وبالالتزام والارادة.

وهكذا ينبغي قياس ما يظهره الانسان من الـمـحبة تـجاه ((الـجـمال)) وتـجاه ((الكمال)) بـمقياس ما اشرنا مـجـملا من الـمـحبة تـجاه ((الاحسان)).

اما الكافر الـملـحد، فانه يـحـمل عداء لاحد لـه فهو يستـخف بالـموجودات من حولـه، ويستهين بها، ويـمتهنها، ويناصبها العداء والكراهية.

النقطة الثانية:

ان مـحبة الله تستلزم اتباع السنة الطاهرة لـمـحـمد e ، لان حب الله هو العمل بـمرضياته، وان مرضاته تتـجلى بافضل صورها في ذات مـحـمد e . والتشبه بذاته الـمباركة في الـحركات والافعال يأتي من جهتين:

احداهما: جهة حب الله سبـحانه واطاعة اوامره، والـحركة ضمن دائرة مرضاته، هذه الـجهة تقتضي ذلك الاتباع، حيث ان اكمل امام وامثل قدوة في هذا الامر هو مـحـمد e .

وثانيتهما: جهة ((ذاته الـمباركة)) e التي هي أسمى وسيلة للاحسان الإلـهي غير الـمـحدود للبشرية، فهي اذاً اهل لـمـحبة غير مـحدودة لاجل الله وفي سبيلـه.

والانسان يرغب فطرة في التشبه بالـمـحبوب ما امكن، لذا فالذين يسعون في سبيل حب ((حبيب الله)) عليهم ان يبذلوا جهدهم للتشبه به باتباع سنته الشريفة.

النقطة الثالثة:

كما ان لله سبـحانه وتعالى رحـمة غير متناهية، فلـه سبـحانه كذلك مـحبة غير متناهية. وكما انه يـحبب نفسه – بصورة غير مـحدودة – بـمـحاسن الكائنات جـميعاً وبـجـمالـها وزينتها الى مـخلوقاته، فانه كذلك يـحب مـخلوقاته، ولا سيـما اصحاب الشعور منهم الذين يقابلون تـحببه لـهم بالـحب والتعظيـم. لذا فان اسمى مقصد الانسان في مرضاة ربه، واجلّ سعيه هو ان يكون موضع نظر مـحبة الله الذي خلق الـجنة بلطائفها ومـحاسنها ولذائذها ونعمها بتـجل من تـجليات رحـمته.

وبـما ان احدا لا يـمكنه ان يكون اهلا لـمـحبته سبـحانه الا باتباع السنة الاحـمدية كما نص عليه كلامه العزيز، اذن فاتباع السنة الـمـحـمدية هو اعظم مقصد انساني واهم وظيفة بشرية.

l النكتة الـحادية عشرة:

وهي ثلاث مسائل:

T الـمسألة الاولى:

أن لسنة الرسول الاعظم e ثلاثة منابع، هي:

اقوالـه، وافعالـه، واحوالـه. وهذه الاقسام الثلاثة هي كذلك ثلاثة اقسام:

الفرائض، النوافل، عاداته e .

ففي قسم الفرائض والواجب، لا مناص من الاتباع، والـمؤمن مـجبر على هذا الاتباع بـحكم إيـمانه. والـجـميع بلا استثناء مكلفون بأداء الفرض والواجب، ويترتب على اهمالـه او تركه عذاب وعقاب.

وفي قسم النوافل، فأهل الإيـمان هم مكلفون به ايضاً حسب الامر الاستـحبابي، ولكن ليس في ترك النوافل عذاب ولاعقاب. غير ان القيام بها واتباعها فيه اجر عظيـم. وتغيير النوافل وتبديلـها بدعة وضلالة وخطأ كبير.

اما عاداته e وحركاته وسكناته السامية فمن الافضل والـمستـحسن جداً تقليدها واتباعها حكمة ومصلـحة سواء في الـحياة الشخصية او النوعية او الاجتـماعية، لان هناك في كل حركة من حركاته الاعتيادية منافع حياتية كثيرة جداً فضلا عن انها بالـمتابعة تصير تلك الآداب والعادات بـحكم العبادة.

نعم، مادام – عليه الصلاة والسلام – متصف بأسمى مراتب مـحاسن الاخلاق، باتفاق الاولياء والاعداء. وانه e هو الـمصطفى الـمـختار من بين بني البشر، وهو اشهر شخصية فيهم باتفاق الـجـميع.. وما دام هو اكمل انسان، بل اكمل قدوة ومرشد بدلالة آلاف الـمعجزات، وبشهادة العالـم الإسلامي الذي كونه، وبكمالاته الشخصية بتصديق حقائق ما بلغة من القرآن الـحكيـم.. وما دام ملايين من اهل الكمال قد سموا في مراتب الكمالات، وترقوا فيها بثمرات اتباعه فوصلوا الى سعادة الدارين... فلابد ان سنة هذا النبي الكريـم e وحركاته هي افضل نـموذج للاقتداء واكمل مرشد للاتباع والسلوك واحكم دستور، واعظم قانون، يتـخذه الـمسلـم اساساً في تنظيـم حياته.

فالسعيد الـمـحظوظ هو من لـه أوفر نصيب من هذا الاتباع للسنة الشريفة.

ومن لـم يتبع السنة فهو في خسران مبين ان كان متكاسلا عنها.. وفي جناية كبرى ان كان غير مكترث بها.. وفي ضلالة عظيـمة ان كان منتقداً لـها بـما يوميء التكذيب بها.

T الـمسألة الثانية:

لقد وصف الله سبـحانه وتعالى الرسول e في القرآن الـحكيـم بقولـه:

} وإنـّكَ لَعلَى خُلُقٍ عَظيـم { (القلـم:4).

ووصفه الصحب الكرام كما وصفته الصحابية الـجليلة الصديقة عائشة رضي الله عنها قائلة: ((كان خُلُقُهُ القرآن))(1). أي: ((ان مـحـمدا e هو الـمثال النـموذج لـما بينه القرآن الكريـم من مـحاسن الاخلاق، وهو افضل من تـمثلت فيه تلك الـمـحاسن، بل انه خلق فطرة على تلك الـمـحاسن)). ففي الوقت الذي ينبغي ان يكون كل من افعال هذا النبي العظيـم e واقوالـه واحوالـه، وكل من حركاته نـموذج اقتداء للبشرية، فما اتعس اولئك الـمؤمنين من امته الذين غفلوا عن سنته e مـمن لا يبالون بها او يريدون تغييرها فما اتعسهم وما اشقاهم!

T الـمسألـه الثالثة:

لـما كان الرسول e قد خلق في افضل وضع وأعدلـه وفي اكمل صورة واتـمها، فحركاته وسكناته قد سارت على وفق الاعتدال والاستقامة، وسيرته الشريفة تبين هذا بياناً قاطعاً بوضوح تام، بأنه قد مضى وفق الاعتدال والاستقامة في كل حركة من حركاته متـجنباً الافراط والتفريط.

نعم لـما كان الرسول e قد امتثل امتثالا كاملا قولـه تعالى } فاستقم كما اُمرت{ (هود:112) فالاستقامة تظهر في جـميع افعالـه واقوالـه واحوالـه ظهوراً لا لبس فيه.

فمثلا: ان قواه العقلية قد سارت دائماً ضمن الـحكمة التي هي مـحور الاستقامة والـحد الوسط، مبرأة عما يفسدها ويكبتها من افراط وتفريط أي الغباء والـخب.

وان قواه الغضبية قد سارت دائماً ضمن الشجاعة السامية التي هي مـحور الاستقامة والـحد الوسط، منزهة عما يفسدها من افراط وتفريط أي الـجبن والتهور.

وان قوته الشهوية قد اتـخذت مـحور الاستقامة دائماً وهي العفة واستقامت عليها باسمى درجات العصمة، فصفت من فساد تلك القوة من افراط وتفريط أي الـخـمود والفجور.

وهكذا فانه e قد اختار حد الاستقامة في جـميع سننه الشريفة الطاهرة وفي جـميع احوالـه الفطرية وفي جـميع احكامه الشرعية، وتـجنب كليا من الظلـم والظلـمات أي الافراط والتفريط، والاسراف والتبذير، حتى انه قد اتـخذ الاقتصاد لـه دليلا متـجنبا الاسراف نهائيا، في كلامه وفي اكلـه وفي شربه.

وقد ألفت في تفصيل هذه الـحقائق آلاف الـمـجلدات، الا اننا اكتفينا بهذه القطرة من البـحر، اذ ((العارف تكفيه الاشارة)).

اللهم صل على جامع مكارم الاخلاق ومظهر سر } وإنـّكَ لَعلَى خُلُقٍ عَظيـم { (القلـم:4) الذي قال: ((من تـمسك بسنتي عند فساد امتي فلـه اجر مائة شهيد)).

} وقَالُوا الـحـمدُ لله الذي هَدينا لـهذا وما كُنا لنهتَدي لولا أنْ هدينا الله لقد جَاءتْ رُسُل ربنا بالـحقَ { (الاعراف:43).

} سُبـحانَكَ لاَ عِلـم لَنَا إِلاّ ما عَلـمتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليـم الـحكيـم {

(البقرة:32)
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-01-2011
  #9
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: اللمعات

اللـمعة الثانية عشرة

تـخص نكتتين قرآنيتين لـمناسبة سؤالين جزئيين سألـهما الاخ رأفت

باسمه سبـحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ يُسَبـح بـحـمدِهِ{ (الاسراء:44)

السلام عليكم وعلى اخوانكم ورحـمة الله وبركاته

اخي الصادق العزيز السيد رأفت(1)!

ان اسئلتك في هذا الوقت العصيب الذي يـحيطني، تـجعلني في وضع مـحرج لأن سؤاليكم – في هذه الـمرة – وإن كانا جزئيين، إلاّ انني رأيتهما على جانب من الاهمية، لـما لـهما من علاقة مع نكتتين قرآنيتين، ولأن سؤالكم حول الكرة الارضية يتعرض للشبهات التي ترد من علـمي الـجغرافية والفلك حول طبقات الارض السبع والسبع الطباق. لذا نبين هنا بياناً علـمياً وكلياً ومـجـملاً نكتتين قرآنيتين بغض النظر عن جزئية السؤال، وانت بدورك تأخذ حصتك منه ازاء سؤاليك الـجزئيين.



النكتة الاولى:

وهي عبارة عن نقطتين:

T النقطة الاولى:

قال تعالى: } وكأيّن دابّة لا تـحـملُ رزقَها الله يرزُقها واياكم { (العنكبوت:60)

} ان الله هو الرزاق ذو القوة الـمتين{ (الذاريات:58)

بدلالة هاتين الآيتين الكريـمتين، الرزق بيد القدير الـجليل وحده، ويـخرج من خزينة رحـمته دون وساطة. فرزق كل ذي حياة بعهدة ربه، فيلزم الاّ يـموت أحد جوعاً. ولكن يبدو ان الذين يـموتون جوعاً، أو من فقدان الرزق كثيرون. ان حل هذا السر وكشف هذه الـحقيقة هو:

ان التعهد الرباني بالرزق وتكفـّلـه لـه بنفسه حقيقة ثابتة. فلا أحد يـموت من عدم الرزق، لان الرزق الذي يرسلـه الـحكيـم ذو الـجلال الى جسم الكائن الـحي يدّخر قسمٌ منه احتياطاً على هيئة شحوم ودهون داخلية. بل يدّخر قسم من الرزق الـمرسل في زوايا حجيرات الـجسم كي يصرف منه واجبات الـجسم عند عدم مـجيء الرزق من الـخارج.

فالذين يـموتون اذاً، انـما يـموتون قبل نفاذ هذا الرزق الاحتياطي الـمدخر، أي أن ذلك الـموت لا ينـجـم من عدم وجود الرزق، وانـما من مرضٍ ناشيءٍ من ترك عادة سيئة من سوء الاختيار.

نعم! ان الرزق الفطري الـمدخر بصورة شحوم في جسم الكائن الـحي، انـما يدوم ويستمر بـمعدل اربعين يوماً كاملاً. بل قد يستمر ضعف ذلك، إثر مرض أو استغراق روحاني. حتى كتبت الصحف – قبل تسع وثلاثين سنة(1) – أن رجلاً قد قضى لعناد سبعين يوماً في سجن لندن دون ان يذوق شيئاً وظل على صحة وعافية.

فما دام الرزق الفطري يدوم اربعين يوماً بل سبعين وثمانين يوماً، وان تـجلي اسم الرزاق ظاهر على مدّ البسيطة بـجلاء، وان الرزق يتدفق من حيث لا يـحتسب من الاثداء ويـخرج من الاكمام. فلابد ان ذلك الاسم يـمدّ الكائن ويسعفه ويـحول بينه وبين الـموت جوعاً قبل انتهاء الرزق الفطري، مالـم يتدخل البشر الـمتلبس بالشر بسوء عملـه.

ولـهذا فالذين يـموتون جوعاً قبل اربعين يوماً، لا يـموتون بسبب عدم الرزق قطعاً، بل من عادة ناشئة من سوء الاختيار ومن مرض ناشيء من ترك العادة، اذ: ((ترك العادات من الـمهلكات)) قاعدة مطردة.

فيصح القول اذاً: انه لا موت من الـجوع.

نعم! انه مشاهد امام الانظار: ان الرزق يتناسب تناسباً عكسياً مع الاقتدار والاختيار، فمثلاً. ان الطفل قبل ان يولد، وليس لـه من الاختيار والاقتدار شيء، ساكن في رحـم الام، يسيل اليه رزقه دون ان يـحتاج حتى الى حركة شفتيه. وحينـما يفتـح عينيه للدنيا، ولا يـملك اقتداراً ولا اختياراً، الاّ شيء من القابليات، وحسّ كامن فيه، فانه لا يـحتاج الاّ الى حركة إلصاق فمه بالثدي فحسب، واذا بـمنابع الثدي تتدفق برزق هو اكمل غذاء واسهلـه هضماً، وبألطف صورة واعجب فطرة. ثم كلـما نـما لديه الاقتدار والاختيار احتـجب عنه ذلك الرزق الـميسور الـجـميل شيئاً فشيئاً، حتى ينقطع النبع ويغور، فيرسل اليه رزقه من اماكن اخرى. ولكن لأن اقتداره واختياره ليسا على استعداد بعدُ لتتبع الرزق، فان الرزق الكريـم يـجعل شفقة والديه ورحـمتهما مـمدةً لاختياره ومسعفة لاقتداره. ثم لـما يتكامل الاقتدار والاختيار، فلا يعدو الرزق نـحوه، ولا يساق اليه، بل يسكن قائلاً: تعال اطلبني، فتش عني وخذني.

فالرزق اذاً متناسب تناسباً عكسياً مع الاقتدار والاختيار، بل ان حيوانات لا اقتدار لـها ولا اختيار تعيش افضل واحسن من غيرها كما اوضحنا ذلك في رسائل عدة.

T النقطة الثانية:

للامكان انواع واقسام هي: الامكان العقلي والامكان العرفي والامكان العادي. فان لـم تكن الـحادثة الواقعة ضمن الامكان العقلي، فانها تردّ وترفض. وان لـم تكن ضمن الامكان العرفي ايضاً فإنها تكون معجزة، ولا تكون كرامةً بيسر. وان لـم تكن لـها نظير عُرفاً وقاعدةً فلا تقبل إلاّ ببرهان قاطع بدرجة الشهود.

فبناءً على هذا، فان الاحوال الـخارقة للعادة الـمروية عن السيد احـمد البدوي (قدس سره)(1) الذي لـم يذق طعاماً طوال اربعين يوماً، انـما هي ضمن دائرة الامكان العرفي، وتكون كرامة لـه، بل ربـما هي عادة خارقة لـه.

نعم! ان روايات متواترة تنقل عن السيد احـمد البدوي )قدس سره) أنه اثناء استغراقه الروحاني كان يأكل كل اربعين يوماً مرة واحدة. فالـحادثة وقعت فعلاً، ولكن ليست دائماً، وانـما حدثت بعض الاحيان من قبيل الكرامة. وهناك احتمال ان حالته الاستغراقية كانت غير مـحتاجة الى طعام، لذا اصبـحت بالنسبة اليه في حكم العادة.

وقد رويت حوادث كثيرة موثوقةً من هذا النوع من الاعمال الـخارقة عن اولياء كثيرين من امثال السيد احـمد البدوي (قدس سره).

فان كان الرزق الـمدّخر يدوم اكثر من اربعين يوماً – كما اثبتنا في النقطة الاولى – وان الانقطاع عن الطعام طوال تلك الفترة من الامور الـمـمكنة عادةً، وانه قد رويت تلك الـحالات روايات موثوقة من اشخاص افذاذ، فلابد الاّ تُنكر قطعاً.

السؤال الثاني:

لـمناسبة هذا السؤال نبين مسألتين مهمتين.

لـما عجز اصحاب علوم الـجغرافيا والفلك بقوانينها القاصرة ودساتيرها الضيقة وموازينها الصغيرة ان يرقوا الى سـموات القرآن وان يكشفوا عن الطبقات السبع لـمعاني نـجوم آياته الـجليلة، بدأوا يـحاولون الاعتراض على الآية الكريـمة وانكارها بـحـماقة وبلاهة.

l الـمسألة الـمهمة الاولى:

تـخص كون الارض ذات سبع طبقات كالسموات.

هذه الـمسألة تبدو لفلاسفة العصر الـحديث غير ذات حقيقة، لا تقبلـها علومهم التي تـخص الارض والسموات. فيتـخذون من هذه الـمسألة ذريعة للاعتراض على بعض الـحقائق القرآنية، لذا نكتب بضع اشارات مـختصرة تـخص هذه الـمسألة.

الاولى:

اولاً: ان معنى الآية شيء، وأفراد ذلك الـمعنى وما يشتمل عليه تلك الـمعاني من الـجزئيات شيء لآخر. فان لـم يوجد فرد من افراد كثيرة لذلك الـمعنى الكلي فلا يُنكر ذلك الـمعنى الكلي. علـماً ان هناك سبعة افراد ظاهرةً مصدّقة للافراد الكثيرة للـمعنى الكلي للسموات السبع والارضين السبع.

ثانياً: ان صراحة الآية الكريـمة: } الله الذي خلق سبع سموات ومن الارض مثلـهن..{ (الطلاق:12) لاتذكر أن الارض سبع طبقات. بل ظاهرها تفيد: ان الله خلق الارض جاعلاً منها مسكناً لـمـخلوقاته كالسموات السبع، فلا تقول الآية: خلقت الارض سبع طبقات. أما الـمثلية (للسموات)) فهي تشبيه بها من حيث كونها مـخلوقة ومسكناً للـمـخلوقات.

الاشارة الثانية:

ان الارض مهما كانت صغيرة جداً بالنسبة للسموات، الاّ انها تعدلـها وتوازيها من حيث انها في حكم معرض للـمصنوعات الإلـهية التي لاتـحد و موضع اشهارها ومركزها. فهي بهذا تعدل السموات العظيـمة وتوازيها، اذ هي كالقلب والـمركز الـمعنوي للسموات، كما يعدل قلب الانسان الـجسد.

ولـهذا فقد فُهم من الآيات الكريـمة: ان الارض سبع طبقات.

اذ الارض سبعة أقاليـم منذ القديـم بـمقياس مصغر.

ثم هي سبع قارات وهي الـمعروفة باسم اوروبا وافريقيا واوقيانوسيا (استراليا) وآسيتين وامريكتين.

ثم هي سبع قطع معروفة في هذا الوجه وفي الوجه الآخر العالـم الـجديد. وهي الشرق والغرب والشمال والـجنوب مع البـحار.

ثم هي سبع طبقات متصلة متبابية ابتداءً من مركزها الى قشرتها الظاهرة، كما هو ثابت علـماً.

ثم هي ذات عناصر سبة مشهورة تعبـّر عنها بالطبقات السبع والـمتضمنة لسبعين عنصراً من العناصر الـجزئية البسيطة التي اصبـحت هي مدار الـحياة.

ثم الطبقات السبع والعوالـم السبعة الـمتكونة من العناصر الاربعة – الـماء والـهواء والنار والتراب – والـمواليد الثلاثة وهي الـمعادن والنباتات والـحيوانات.

ثم عوالـم طبقات الارض السبع، الثابتة بشهادة كثير من اهل الكشف واصحاب الشهود والتي هي مساكن الـجن والعفاريت ومقرات مـخلوقات مـختلفة اخرى ذوات شعور وحياة.

ثم انها سبع طبقات اشارةً الى وجود سبع كرات اخرى شبيهة بكرتنا الارضية، هي مساكن ذوي الـحياة ومقرات لـها، أي ان كرة الارض سبع طبقات اشارة الى وجود سبع كرات ارضية.

هكذا فُهم من الآيات هذه الـمعاني. فاذاً يتـحقق وجود سبع طبقات للارض في سبعة انواع من الطبقات وفي سبعة اشكال وانـماط منها.

أما الـمعنى الثامن وهو الأخير فليس داخلاً في الـمعاني السبعة الـمعدودة وانـما لـه اهمية من ناحية اخرى.

الاشارة الثالثة:

لـما كان الـخالق الـحكيـم لا يسرف في شيء، ولا يـخلق عبثاً، وان الـموجودات انـما وجدت لذوي الشعور، وتـجد كمالـها بذوي الشعور، بل تعمّر بذوي الشعور، لتنقذ من العبث. وان ذلك الـحكيـم الـمطلق والقدير الـجليل يعمّر عنصر الـهواء وعالـم الـماء وطبقات التراب بـما لا يـحد من ذوي الـحياة، كما هو مشاهد. وان الـهواء والـماء لا يـحولان دون جولان الـحيوانات كما لا تمنع الـمواد الكثيفة كالتراب والـحجر سير الكهرباء واشعة رونتكن.. فلابد ان ذلك الـحكيـم ذا الكمال والصانع الباقي لا يترك طبقات الارض السبع الكلية الـمتصلة ببعضها ولا كهوفها وميادينها الواسعة وعوالـمها خالية خاوية ابتداءً من مركزها الى قشرتها الظاهرة التي هي مسكننا.

فلاجرم انه قد عمّر تلك العوالـم وخلق لـها مـخلوقات ذوات شعور يناسبها ويلائمها واسكنهم فيها، ويلزم ان تكون هذه الـمـخلوقات من اجناس الـملائكة والروحانيات التي تكون اكثف الطبقات واصلبها بالنسبة اليها كالبـحر الى السمك والـهواء الى الطير. بل يقتضي ان تكون نسبة النار الـهائلة الـمرعبة في مركز الارض الى تلك الـمـخلوقات الشاعرة كنسبة حرارة الشمس الينا، وحيث ان الروحانيات الشاعرة مـخلوقات من نور، فالنار تكون كالنور لـهم.

الاشارة الرابعة:

لقد ذكر في ((الـمكتوب الشامن عشر)) مثال حول تصويرات خارجة عن نطاق العقل بيـّنها اهلُ الكشف فيـما يـخص عجائب طبقات الارض، وخلاصته:

ان كرة الارض بذرة في عالـم الشهادة، بينـما هي كشجرة ضخـمة تضارع عظمتها السموات في عالـم الـمثال والبرزخ، فمشاهدة اهل الكشف لطبقة الارض الـخاصة بالعفاريت في كرة الارض بـمسافة الف سنة ليست مشاهدتهم لـها في بذرة الارض التي تـخص عالـم الشهادة، بل هي تظاهر لطبقات الارض وفروعها الـمـمتدة في عالـم الـمثال.

فان كانت طبقة واحدة – لا اهمية لـها ظاهراً – من طبقات الارض قد حازت هذه الاهمية العظمى في عالـم آخر، ألا يصح ان يقال اذاً ان الارض هي سبع طبقات تقابل سبع سموات؟. فالآيات الكريـمة تشير بايـجاز معجز، الى تلك النقاط الـمذكورة وتنبه عليها، وذلك باظهارها هذه الارض الصغيرة جداً مكافئة لطبقات السموات السبع.

l الـمسألة الـمهمة الثانية:

قولـه تعالى:} تسبـح لـه السموات السبع والارض ومن فيهن{ (الاسراء:44) و } ثم استوى الى السّماء فسويهن سبعَ سموات وهو بكل شيءٍ عليـم { (البقرة:29)

هاتان الآيتان وامثالـهما من الآيات الكريـمة تبين أن السموات سبع. نرى من الانسب اختصار ما ذكرناه في تفسير ((اشارات الاعجاز)) الذي الف في جبهة القتال اثناء السنة الاولى من الـحرب العالـمية الاولى، اذ جاءت فيه هذه الـمسألة في غاية الإجـمال والاختصار الشديد بسبب ظروف الـحرب.

ان الـحكمة القديـمة قد تصورت السموات انها تسعُ سموات، فزادت على السموات السبع، العرش والكرسي الواردين في الشرع، فكان تصويراً عجيباً لـها. ولقد استولت على البشرية طوال عصور مديدة تلك التعابير الرنانة لفلاسفة الـحكمة القديـمة وحكمائها حتى ان مفسرين كثيرين اضطروا الى امالة ظواهر الآيات الى مذهبهم مـما ادىّ الى اسدال ستار على اعجاز القرآن، الى حد ما.

أما الـحكمة الـجديدة الـمسماة الفلسفة الـحديثة فتقول بـما يفيد انكار السموات ازاء ما كانت تدّعيه الفلسفة القديـمة من ان السموات غير قابلة للاختراق والالتئام. فقد فرّط هؤلاء كما أفرط اولئك. وعجز الاثنان عن بيان الـحقيقة بياناً شافياً.

أما حكمة القرآن الكريـم الـمقدسة فانها تدع ذلك الافراط والتفريط متـخذة الـحد الوسط، فهي تقول:

ان الصانع جل جلالة خلق سبع سموات طباقاً، أما النـجوم السيارة فهي تسبـح وتسبـح في السماء كالاسماك في البـحر. وقد جاء في الـحديث الشريف ((ان السماء موج مكفوف))(1) أي كبـحر استقرت امواجه. هذه الـحقيقة نثبتها بسبع قواعد وبسبعة وجوه من الـمعاني، وباختصار شديد:

القاعدة الاولى:

انه قد ثبت علـماً وفلسفة ((حكمة)) ان هذا الفضاء الوسيع مـملوء بـمادة تُسمى الاثير، وليس خالياً فارغاً لانهاية لـه.

القاعدة الثانية:

انه ثابت علـماً وعقلاً بل مشاهدةً؛ ان رابطة قوانين الاجرام العلوية – كالـجاذبية والدافعة – وناشرةَ القوى الـموجودة في الـمادة وناقلتَها – كالضياء والـحرارة والكهرباء – انـما هي مادة موجودة في ذلك الفضاء مالئة لـه.

القاعدة الثالثة:

انه ثابت بالتـجارب ان مادة الاثير – مع بقائها أثيراً – لـها انـماط مـختلفة من الاشكال ولـها صور متنوعة كسائر الـمواد، فكما يـحصل ثلاثة انواع من اشكال الـمواد:

الغازية والسائلة والصلبة من الـمادة نفسها كالبـخار والـماء والثلـج، كذلك لا مانع عقلاً من أن تكون سبعة انواع من الطبقات من مادة اثيرية، ولا اعتراض عليه.

القاعدة الرابعة:

انه لو اُنعم النظر في الاجرام العلوية يُرى في طبقاتها تـخالفٌ، فكما ان الطبقة التي تـحوي درب التبانة الـمشاهد كسحاب، لا تشبه طبقة النـجوم الثوابت البتة، حتى كأن نـجوم طبقة الثوابت ثمار ناضجة مكتملة كفواكه الصيف، بينـما نـجوم لا تـحد لدرب التبانة الـمشاهد كسحاب تنعقد مـجدداً وتتكامل. وطبقة الثوابت نفسها لا تشبه ايضاً الـمنظومة الشمسية بـحدس صادق. وهكذا يُدرك بالـحدس والـحس تـخالف الـمنظومات السبع والطبقات السبع.

القاعدة الـخامسة:

لقد ثبت حدساً وحسّاً واستقراءً وتـجربة أنه اذا وقع التشكل والتنظيـم في مادة تتولد منها مصنوعات اخرى فانها تأخذ اشكالاً مـختلفة وطبقات متباينة.

فمثلاً حينـما تبدأ التشكلات في معدن الالـماس يتولد منه الرماد والفحـم والألـماس. وحينـما تبدأ النار بالتشكل تتميز جـمراً ولـهباً ودخاناً. وعندما يـمزج مولد الـماء ومولد الـحـموضة يتشكل منهما الـماء والثلـج والبـخار.

يفهم من هذا أنه اذا وقع التشكل في مادةٍ ما تنقسم الى طبقات، لذا فالقدرة الفاطرة لـما شرعت بالتشكيل في مادة الاثير خلقت منها سبعة انواع من سموات على طبقات مـختلفة كما جاءت في قولـه تعالى:

} فسويهن سبعَ سموات..{ (البقرة:29).



القاعدة السادسة:

ان هذه الامارات الـمذكورة تدل بالضرورة على وجود السموات وعلى تعددها، فالسموات اذاً متعددة قطعاً، وحيث أن الـمـخبر الصادق قد قال بلسان القرآن: هي سبعة، فهي سبعة.

القاعدة السابعة:

ان التعابير: سبعة، وسبعين وسبعمائة وامثالـها تفيد الكثرة في اساليب اللغة العربية، أي يـمكن ان يضم تلك الطبقات السبع الكلية طبقات كثيرة جداً.

حاصل الكلام:

ان القدير ذا الـجلال خلق سبع سـموات طباقاً من مادة الاثير، وسوّاها ونظـّمها بنظام عجيب دقيق، وزرع فيها النـجوم. ولـما كان القرآن الكريـم خطاباً ازلياً للـجن والانس بطبقاتهم كافة، فكل طبقة من البشر تأخذ اذاً حصتها من كل آية من القرآن الكريـم، وكل آية ايضاً تُشبع أفهام كل طبقة من الناس، أي لكل آية معان متنوعة متعددة ضمناً واشارة.

نعم! ان سعة خطاب القرآن وشمول معانيه واشاراته ومراعاته درجات افهام الطبقات عامة ومداركهم من ادنى العوام الى اخص الـخواص تبين: ان كل آية لـها وجه متوجه الى كل طبقة من الناس.

ولأجل هذا فقد فَهمتْ سبعُ طبقات بشرية سبع طبقات مـختلفة من الـمعاني ضمن الـمعنى الكلي للآية الكريـمة: } سبعَ سموات.. { (البقرة:29) . كالآتي:

بفهم ذوو النظر القاصر والفكر الـمـحدود من الناس انها: طبقات الـهواء النسيـمية.

والذين اغتروا بعلـم الفلك يفهمونها: النـجوم الـمعروفة بالسيارات السبع ومداراتها لدى الناس.

ومن الناس من يفهمها: سبع كرات سماوية اخرى شبيهة بارضنا التي هي مقر ذوي الـحياة.

وتفهمها طائفة من البشر: سبع منظومات شمسية اولاها منظومتنا هذه وانقسام الـمنظومة الشمسية الى سبع طبقات.

وطائفة اخرى من البشر تفهمها: انقسام تشكلات الاثير الى سبع طبقات.

وطبقة اخرى واسع الادراك والفهم، تفهم: ان السموات الـمرئية كلـها، الـمرصعة بالنـجوم ليست الاّ سماء واحدة وهي السماء الدنيا، وهناك ست سموات اخرى فوقها لا تُرى.

وطبقة سامية من الناس وهم الطبقة السابعة ذوو ادراك عالٍ لا يرون انـحصار سبع سموات في عالـم الشهادة فقط، بل هي سبع سموات تسقّف وتـحيط بالعوالـم الاخروية والغيبية والدنيوية والـمثالية.

وهكذا ففي كلية هذه الآية الكريـمة معان اخرى كثيرة جزئية جداً شبيهة بهذه الطبقات السبع الـمذكورة من الـمعاني التي تراعي افهام سبع طبقات من الناس. فكلٌ يستفيض بقدر استعداده من فيض القرآن ويأخذ رزقه من الـمائدة السماوية العامرة.

فما دامت هذه الآية الكريـمة تـحوي معاني مصدّقة لـها الى هذا الـحد، فان انكار الفلاسفة الـحاليين الـمـحرومين من العقل وجحود علـماء الفلك الـمـخـمورين، السموات واتـخاذ هذا الانكار وسيلة تعرضٍ لأمثال هذه الآية الـجليلة، ان هو الاّ كرمي الصبيان الفاسدي الـمزاج النـجومَ العوالي بالـحجارة بغية اسقاط واحدة منهاّ ذلك:

لأن معنى واحداً لـهذه الآية من بين تلك الـمعاني الكثيرة إن كان صدقاً فان الـمعنى الكلي يكون صدقاً وصواباً، حتى لو ان فرداً واحداً من تلك الـمعاني، لا وجود لـه في الواقع إلاّ في ألسنة الناس، يصح أن يكون داخلاً ضمن ذلك الـمعنى الكلي، رعايةً لأفكار العامة. فكيف ونـحن نرى كثيراً جداً من افراده صدقاً وحقيقةً.

الا ترى هؤلاء الـمغمورين بسُكر الـجغرافية وعلـم الفلك الذين لا ينصفون، كيف يقعون في خطأ فيغمضون عيونهم عن الـمعنى الكلي الذي هو حق وحقيقة وصدق، فلا يرون مصدّقات الآية الكثيرة جداً، ويتوهمون معنى الآية منـحصراً في فرد خيالي عجيب. فرشقوا الآية الكريـمة بالـحجارة، فارتدت على رؤوسهم فسكرتها، ففقدوا صوابهم وايـمانهم.



مـحصل الكلام:

لـما عجز ارباب الافكار الـمادية الـملـحدة كالشياطين والـجن، من الصعود الى الطبقات السبع للقرآن الكريـم النازل على القراءات السبع والوجوه السبعة والـمعجزات السبع والـحقائق السبع والاركان السبعة، جهلوا ما في الآيات من معان. فيـخبرون احكاماً كاذبة خاطئة. فينزل على رؤوسهم شهابٌ رصدٌ من نـجوم تلك الآيات بالتـحقيقات العلـمية الـمذكورة فتـحرقهم.

نعم! انه لا يـمكن الرقي الى تلك السموات القرآنية بفلسفة فلاسفة يـحـملون افكاراً شيطانية خبيثة. وانـما يـمكن الصعود الى نـجوم تلك الآيات بـمعراج الـحكمة الـحقيقية ويـمكن الطيران اليها بـجناح الإيـمان والإسلام.

اللهم صل على شـمس سـماء الرسالة وقمر فلك النبوة وعلى آلـه وصحبه نـجوم الـهدى لـمن اهتدى.

} سُبـحانَكَ لاَ عِلـم لَنَا إِلاّ ما عَلـمتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليـم الـحكيـم {

(البقرة:32)

اللهم يارب السموات والارضين زيّن قلوب كاتب هذه الرسالة ورفقائه بنـجوم حقائق القرآن والإيـمان.. آمين
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-01-2011
  #10
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: اللمعات

اللـمعة الثالثة عشرة

حكمة الاستعاذة

تـخص حكمة ((اعوذ بالله من الشيطان الرجيـم))

بسم الله الرحـمن الرحيـم

} وقل ربِّ اعوذ بك من هـمزات الشياطين ` واعوذ بك ربِّ ان يـحضرون { (الـمؤمنون:97-98)

هذا البـحث يـخصّ حكمة الاستعاذة من الشيطان. ستكتب ثلاث عشر إشارة بشكل مـجـمل، حيث أن قسماً منه قد اُثبت ووُضّح في ((الكلـمة السادسة والعشرين)) وفي رسائل اخرى بصورة متفرقة.

الاشارة الاولى:

سؤال: ان الشياطين ليس لـهـم تدخل في شؤون الـخلق والايـجاد في الكون، وأن الله سبـحانه وتعالى – برحـمته وعنايته – ظهيرٌ لأهل الـحق، فضلاً عن أن جـمال الـحق وحُسنه يشوّق أهلـه ويؤيدهـم، بعكس الضلالة الـمستهجنة بقبـحها الـمنفّر، فما الـحكمة في أن حزب الشيطان هو الغالب في اكثر الاحوال، وما السر في إستعاذة اهل الـحق في كل حين بالله سبـحانه من شرّ الشيطان؟.

الـجواب: السرّ والـحكمة هـما كما يأتي:

ان الضلالة والشرّ بأكثريتها الـمطلقة شيءٌ عدمي وسلبي وغير أصيل، وهي إخلال وتـخريب. أما الـهداية والـخير فهي بأكثريتها الـمطلقة ذات وجود وشيء ايـجابي واصيل وهي اعمارٌ وبناء. ومن الـمعلوم أنه يتـمكن رجلٌ واحد في يوم واحد ان يهدم ما بناه عشرون رجلاً في عشرين يوماً، وأن حياة الانسان التي تبقى باستـمرار اعضائه الاساس ضمن شرائط الـحياة، مع أنها تـخصّ قدرة الـخالق جلّ وعلا، الاّ أنها تتعرض الى الـموت – الذي هو عدمٌ بالنسبة لـها – إذا ما قطع ظالـم عضواً من جسم ذلك الانسان. ولـهذا سار الـمثل: ((التـخريبُ أسهلٌ)) من التعمير.

فهذا هو السرّ في أن اهل الضلالة بقدرتهـم الضعيفة حقاً يغلبون احياناً أهل الـحق الأقوياء جداً.

ولكن لأهل الـحق قلعة منيعة ما ان يتـحصنوا بها ويلوذوا بها، فلا يـجرؤا ان يتقرب اليهـم اولئك الأعداء الـمـخيفون ولا يـمكنهـم أن يـمسوهـم بسوء، ولئن اصابهـم شيء منهـم – مؤقتاً – فالفوز والثواب الأبدي الذي ينتظرهـم في بشرى القرآن الكريـم: } والعاقبَةُ للـمتـّقينَ { (الأعراف:128) يُذهب أثر ذلك الضرّ والقرح.

وتلك القلعة الشامـخة، وذلك الـحصن الـمنيع هي الشريعة الإلـهية وسنّة النبي e .

الاشارة الثانية:

وهي الـمسألة التي تـخطر في أذهان الكثيرين:

إن خلق الشياطين وهـم الشر الـمحض وتسليطَهـم على اهل الإيـمان، وسوقهـم كثيراً من الناس الى الكفر ودخولـهـم النار بـمكايدهـم، هو قبـح ظاهر. وأمرٌ مُرعب. فياتُرى كيف ترضى رحـمةُ ذلك الرحيـم الـمطلق، ويسمح جـمال ذلك الـجـميل الـمطلق وهو الرحـمن ذو الـجـمال، بهذا القُبـح غير الـمتناهي والـمصيبة العظمى؟!.

الـجواب:

انه إزاء الشرور الـجزئية للشياطين، تكمن في وجودهـم كثير من الـمقاصد الـخيّرة الكلية وكمالات، ترقى بالانسان في سلـم الكمال.

نعم، كما ان هناك مراتب كثيرة بدءاً من البذرة الى الشجرة الباسقة، كذلك للاستعدادات الفطرية الكامنة في ماهية الانسان من الـمراتب والدرجات ما تفوق ذلك، بل قد تصل الى الـمراتب الـموجودة بين الذرة والشمس. ولكي تظهر هذه الاستعدادات وتنبسط لابد لـها من حركة، ولابد لـها من تفاعل وتعامل. فحركة لولب الرقيّ ونابض السموّ في ذلك التعامل هي بـ ((الـمـجاهدة)). ولا تـحصل هذه ((الـمـجاهدة)) الاّ بوجود الشياطين والاشياء الـمضرّة، اذ لولا تلك ((الـمـجاهدة)) لظلـّت مرتبة الانسان ثابتة كالـملائكة، وعندها ما كانت لتظهر تلك الاصناف السامية من الناس التي هي بـحكم الآلاف من النواع في الانواع الانساني. وحيث انه ليس من الـحكمة والعدالة بشيء ان يُترك الـخير الكثير جداً تـجنباً لـحصول شرّ جزئي، فان انزلاق كثير من الناس بـخطوات الشيطان، لا يـحـمل اهـمية كبيرة مادام التقويـم والاهـمية يأخذ ((النوعية)) بنظر الاعتبار ولا ينظر الى الكمية الاّ قليلاً، بل قد لا ينظر اليها.

مثال ذلك:

شخص لديه ألف وعشرٌ من البذور، زرعها في التراب، فجعلـها تتعرض للتفاعلات الكيـمياوية. فاذا أنبتت عشرٌ من تلك البذور وأينعت، فان الـمنافع الـحاصلة منها تفوق – بلا شك – خسارة الألف بذرة التي تعرضت للتلف والفساد.

وهكذا، فان الـمنافع والـمنزلة والاهـمية التي حازتها البشرية من عشرة أشخاص كاملين يتلألأون كالنـجوم في سمائها، والذين أخذوا بيد الانسانية الى مراقي الفلاح، وأضاءوا السُبُل أمامهـم واخرجوهـم الى النور بـمـجاهدتهـم للنفس والشيطان.. لاشك أنها تزيل ما يلـحق بها من أثر الضرر الناجـم من كثرة الداخلين في حـمأة الكفر من الضالين الذين يعدّون من جنس الـحشرات لتفاهتهـم. لـهذا فقد رضيت العدالةُ الإلـهية وحكمتُها وسمحت الرحـمة الربـّانية بوجود الشياطين وتسلـّطها.

فيا معشر أهل الإيـمان! ان درعكم الـمنيع لصد اولئك الاعداء، هو التقوى الـمصنوعة في دوحة القرآن الكريـم. وان خنادقكم الـحصينة هي سُنـّة نبيـّكم عليه افضل الصلاة والسلام. وأما سلاحكم فهو الاستعاذة والاستغفار والالتـجاء الى الـحرز الإلـهي.

الاشارة الثالثة:

سؤال:

أين يكمن السرّ والـحكمة في وعيد القرآن الـمرعب وتهديده لأهل الضلالة تـجاه عملٍ جزئي صَدَر منهـم، مـما لا يتناسب بظاهر العقل مع بلاغته التي تتـّسم بالعدالة والانسجام وأسلوبه الـمعجز الرزين. اذ كأنه يـحشّد الـجيوش الـهائلة تـجاه شخص عاجز لا حظّ في الـملك، فيُكسِبُه منزلة شريك متـجاوز حدِّة؟

الـجواب: ان سر ذلك وحكمته:

ان في وسع الشياطين ومَن تبعهـم أن يقوموا بتـخريب مدمّر بـحركة بسيطة تصدر منهـم، لأنهـم يسلكون طريق الضلالة، فيلـحقون بفعل جزئي يصدر منهـم خسائر جسيـمة بـحقوق الكثيرين، مَثبهـم في هذا كمثل رجلٍ ركب سفينة تـجارية عامرة للـملك ثم خرقها خرقاً بسيطاً، او ترك واجباً كان عليه أن يؤديه، فأهدر بفعلـه هذا جهدَ مَن في السفينة، وأفسد عليهـم جنَي ثمار عملـهـم فيها، وأبطل نتائج أعمال كل مَن لـه علاقة بها، لذا سيهدده الـملك السفينة تهديداتٍ عنيفة، باسم جـميع رعاياه في السفينة وجـميع الـمتضررين فيها، وسيعاقب أشد العقاب حتـماً، لا لـحركته الـجزئية أو تركه الواجب، وانـما للنتائج الـمترتبة على تلك الـحركة أو الترك البسيط، وليس لتـجاوزه حـمى الـملك، وانـما لتعدّيه على حقوق الرعية جـميعها.

وكذلك سفينة الارض، ففيها مع الـمؤمنين اهل الضلال من حزب الشيطان الذين يستـخفّون بنتائج الوظائف الـحكيـمة الـموجودات الرائعة بل يعادونها عبثاً وباطلاً، فيـحقرون بذلك جـميعها، مـما تشكـّل خطيئاتهـم ومعاصيهـم – الـجزئية في الظاهر – تـجاوزاً واضحاً وتعدّياً صارخاً على حقوق الـموجودات كافةً، لذا فان الله سبـحانه وهو ملك الأزل والابد يـحشّد التهديدات الـمروّعة ضد ذلك التدمير الصادر من أهل الضلالة. وهذا هو الانسجام التام في اسلوب القرآن الكريـم والتوافق الرائع، وهو الـحكمة البالغة الـخالصة الـمستترة في روع البلاغة التي هي مطابقة الكلام لـمقتضى الـحال، وهي بعيدة كل البعد ومنزّهو كل التنزيه عن الـمبالغة التي هي الاسراف في الكلام.

فيا هلاك ويا ضياع مَن لا يـحصّن نفسه بـحصن منيع من اولئك الاعداء الألداء الذين يقومون بتـخريب مروّع وتدمير هائل بـحركاتهـم الـجزئية.

فيا اهل الإيـمان! أمامكم الـحصن السماوي الـمنيع.. انه القرآن الكريـم.. أدخلوا فيه، وانقذوا انفسكم..

الاشارة الرابعة:

لقد اتفق العلـماء الـمحققون وأهل الكشف على أن العدم شرٌ محض.. والوجود خيرٌ محض.

نعم، ان الـخير والـمحاسن والكمالات – بأكثريتها الـمطلقة – تستند الى الوجود وتعود اليه، فأساسها ايـجابي ووجودي، أي ذو اصالة وفاعلية، وإن بَدَت ظاهراً سلبية وعدمية.

وان اساس وأصل الضلالة والشر والـمصائب والـمعاصي والبلايا وامثالـها من الـمكاره هو عدمٌ وسلبي. وما فيها من القبـح والسوء فناجـمان من عدميتها، وان بدت ظاهراً ايـجابية ووجوداً، لأن اساسها عدم ونفي أي بلا اساس وبلا فعل ايـجابي.

ثم ان وجود البناء يتقرر بوجود جـميع أجزائه كما هو ثابت بالـمشاهدة، بينـما عدمه ودماره يـمكن ان يـحصل بتهدّم احد اركانه وعدمه.

أي أنّ الوجود يـحتاج الى علـّةٍ موجودة، ولابد أن يستند الى سبب حقيقي، بينـما العدمُ يـمكن أن يستند الى امور عدمية ويكون الامر العدمي علـّةً لشيء معدوم.

فبناءً على هاتين القاعدتين:

فان شياطين الانس والاجن ليس لـهـم ولو بـمقدار ذرة واحدة نصيبٌ في الـخلق والايـجاد وما تكون لـهـم اية حصة في الـملك الإلـهي، مع أن لـهـم آثاراً مـخيفة وانواعاً من الكفر والضلالة واعمالاً شريرة ودماراً هائلاً، اذ لا يقومون بتلك الامور بقدراتهـم وقوتهـم الذاتية، بل ان اغلب اعمالـهـم ليس فيها فعلٌ وقدرة حقيقية، وانـما هي من نوع: ترك الفعل، وتعطيل العمل: وصد للـخير، فيعملون الشرّ بالصرف عن الـخير، فتـحصل الشرور.

لأن الشرور والـمهالك هي من نوع الـهدم والتـخريب فلا يلزم أن تكون علـّتُها ايـجاداً فاعلاً، ولا قدرةً موجودة، اذ يـمكن التـخريب الـهائل بأمر عدمي، وبافساد شرط. ولعدم وضوح هذا السرّ عند الـمـجوس فقد اعتقدوا بوجود خالق للـخير وأسموه ((يزدان)) وخالق للشر وأسموه ((أهريـمان)) بينـما لا يعدو هذا الالـه الـموهوم سوى الشيطان الذي يكون سبباً للشرور ووسيلة لـها، بالارادة الـجزئية وبالكسب، دون الايـجاد.

فيا اهل الإيـمان! ان امضى سلاحكم ضد هذه الـمهالك الـمفزعة للشياطين واهـم وسيلتكم للبناء والتعمير هو: الاستغفار والالتـجاء الى الله سبـحانه وتعالى بقولكم:

أعوذ بالله. واعلـموا ان قلعتكم هي سنة رسولكم عليه افضل الصلاة والسلام.

الاشارة الـخامسة:

انه على الرغم من توفر اسباب الـهداية والاستقامة ووسائل الارشاد امام اهل الإيـمان بـما بيّنه الله سبـحانه لـهـم في كتبه الـمقدسة كافة من مثوبة وهي نعيـم الـجنّة ومن عقاب أليـم وهو نار جهنـم، ومع ما كرّرة سبـحانه من توجيه وتنبيه وترغيب وتـحذير.. يُغلبُ اهل الإيـمان امام الدسائس الدنيئة والضعيفة التافهة الصادرة عن حزب الشيطان!!.

كان هذا يأخذ قسطاً كبيراً من تفكيري، إذ كيف لا يهتـم صاحب الإيـمان بذلك الوعيد الـمـخيف من ربّ العالـمين؟. وكيف لا يزول ايـمانه وهو يعصي ربَّه مُتـَّبعاً خطوات الشيطان ومكايده الضعيفة كما في قولـه تعالى: } إنَّ كَيدَ الشّيطان كانَ ضَعيفاً{ (النساء:76)؟ حتى ان بعضاً من أصدقائي الـمقرّبين بعد أن سمع منّي مائةً من دروس الـحقائق الإيـمانية وصدَّق بها تصديقاً قلبياً، ومع شدة علاقته وحسن ظنّه بي فقد انـجرف لثناءٍ تافهٍ ورخيص من رجلٍ فاسد ميّت القلب، فانـجذب اليه، مـما دفعه ليكون في الصف الـمعادي لي. فقلتُ في نفسي: يا سبـحان الله!! هل يـمكن للانسان أن يهوي الى هذا الدرَك؟. كم كان هذا الرجل ذا معدن رخيص؟ فأثمت من اغتياب هذا الـمسكين.

ثم انكشفت ولله الـحـمد حقائق الاشارات السابقة فأنارت كثيراً من الامور الغامضة.. فعلـمتُ بذلك النور: ان تكرار الترغيب والـحث في القرآن الكريـم ضروري جداً، ومناسب وملائم للـحال.. وان انـخداع اهل الإيـمان بـمكايد الشيطان لا ينـجـم عن عدم الإيـمان، ولا من ضعفه.. وانه لا يكفـَّر من ارتكب الكبائر. فالـمعتزلة وقسمٌ من الـخوارج قد أخطأوا حين كفّروا مُرتكب الكبائر او جعلوه في منزلةٍ بين الـمنزلتين.. وان صديقي الـمسكين، الذي ضحّى بتلك الدروس الإيـمانية لثناء شخصٍ تافه، لـم يسقط في الـهاوية كثيراً، ولـم ينـحط الى الـحضيض كلياً – كما تصّورت – فشكرتُ الله سبـحانه الذي أنقذني من تلك الورطة.

ذلك لأن الشيطان – كما قلنا سابقاً – بأمر سلبي جزئي منه يورد الانسان الـمهالك الـخطيرة .. وأن النفس التي بين جَنبيّ الانسان دائمة الانصات الى الشيطان.. وان قوته الشهوانية والغضبية هـما بـمثابة جهاز لاقط وجهاز توصيل لـمكايد الشيطان. ولذلك فقد خصص الله سبـحانه وتعالى اسمين من اسمائه الـحسنى (الغفور، الرحيـم) ليتـجليـّا بالتـجليّ الاعظم ويتوجها الى اهل الإيـمان، واوضح في القرآن الكريـم ان أعظم اِحسانٍ لـه للأنبياء عليهـم السلام هو: الـمغفرة.. فدعاهـم الى: الاستغفار. وانه سبـحانه بتكراره ((بسم الله الرحـمن الرحيـم)) وجعلـها بدءاً لكل سورة ولكل أمرٍ ولكل ذي بال، جعل رحـمته التي وسعت كل شيء هي الـملاذ والـملـجأ لأهل الإيـمان، وهي الامان والنـجاة لـهـم من الشيطان. وجعل الـحاجز الـمانع لـهـم من الشيطان ودسائسه هو في: ((اعوذ بالله من الشيطان الرجيـم)) وذلك بأمره: } فاستَعِذْ بالله{ (النـحل:98).

الاشارة السادسة:

ان اخطر دسائس الشيطان هو أنه يُلبس على بعض ذوي القلوب الصافية والـحس الـمرهف: تـخيـّلَ الكفر بتصديق الكفر، ويُظهر لـهـم تصوّرَ الضلالة تصديقاً للضلالة نفسها، ويـجلب الى خيالـهـم خواطر قبيـحة في حق الاشخاص والامور الـمنزّهة الـمقدسة، ويوهـمهـم بالشك في بعض يقينيات الإيـمان بـجعل الامكان الذاتي في صورة الامكان العقلي. وعندئذ يظنّ هذا الـمسكين الـمرهف الـحسّ أنه قد هوى في الكفر والضلالة، ويتوهـم أنه قد زال يقينه الإيـماني، فيقع في اليأس والقنوط. ويكون بيأسه هذا اضحوكة للشيطان الذي ينفث في يأسه القاتل، ويضرب دوماً على وتره الـحسّاس، وينفخ في التباساته ويثيرها، فاما أن يـخلّ بأعصابه وعقلـه، أو يدفعه الى هاوية الضلالة.

وقد بـحثنا في بعض الرسائل مدى تفاهة هذه الـهـمزات والوساوس، وكيف أنها لاسند لـها و لا اساس، أما هنا فسنـجـملـها بـما يأتي:

كما ان صورة الـحيّة في الـمرآة لا تلدغ، وانعكاس النار فيها لا يـحرق، وظل النـجس فيها لا ينـجس، كذلك ما ينعكس على مرآة الـخيال او الفكر من صورِ الكفر والشرك، وظلال الضلالة، وخيالات الكلـمات النابية والشتـم، لا تفسد العقيدة واليقين ولا تغير الإيـمان، ولا تثلـم أدب التوقير والاحترام. ذلك لانه من القواعد الـمقررة: ((تـخيل الشتـم ليس شتـماً، وتـخيل الكفر ليس كفراً، وتصوّرَ الضلالة ليس ضلالةً)).

أما مسألة الشك في الإيـمان، فان الاحتـمالات الناشئة من ((الامكان الذاتي)) لا ينافي اليقين ولا يـخلّ به. اذ من القواعد الـمقررة في علـم اصول الدين: ((أن الامكان الذاتي لا ينافي اليقين العلـمي)).

فمثلاً: نـحن على يقين من أن بـحيرة ((بارلا)) مـملوة بالـماء ومستقرةٌ في مكانها، الاّ انه يـمكن أن تـخسف في هذه اللـحظة. فهذا امكان ذاتي واحتـمال، وهو من الـمـمكنات. ولكن لأنه لـم ينشأ من أمارة، او دليل، فلا يكون ((امكاناً ذهنياً)) حتى يوجب الشك. لأن القاعدة الـمقررة في علـم اصول الدين أنه: ((لاعبرة للاحتـمال غير الناشىء عن دليل)) بـمعنى: لا يكون الاحتـمال الذاتي الذي لـم ينشأ عن أمارة امكاناً ذهنياً، فلا أهـمية لـه كي يوجب الشك. فبمثل هذه الامكانات والاحتـمالات الذاتية يظن الـمسكين الـمبتلى انه قد فقد يقينَه بالـحقائق الإيـمانية. فيـخطر ببالـه مثلاً خواطر كثيرة من الامكان الذاتي من جهة بشرية الرسول e ، ولاشك أنها لا تـخلّ بيقينه وجزمه الإيـماني، ولكن ظنه أن هذا يضرّ هو الذي يسبب لـه الضرر.

واحياناً اخرى تُلقي لـمةُ الشيطان – التي هي على القلب – كلاماً لا يليق بـجلال الله سبـحانه وتعالى. فيظن صاحبه أن قلبه هو الذي فَسَد فصدر عنه هذا الكلام، فيضطرب ويتألـم. والـحال أن اضطرابه وخوفه وعدم رضاه دليلٌ على أن تلك الكلـمات لـم تكن صادرةً من قلبه، وانـما هي من اللـمة الشيطانية، او أن الشيطان يـخيّلـها اليه ويذكـّره بها.

وكذلك فان من بين اللطائف الانسانية – وهي بضع لطائف لـم استطع تشخيصها – ما لا ترضخ للارادة والاختيار، ولا تدخل تـحت وطأة الـمسؤولية – فتتـحكم احياناً وتسيطر دون أن تنصت لنداء الـحق، وتلـج في أمور خاطئة، عندئذ يُلقي الشيطان في رَوع هذا الانسان الـمبتلى: ان فطرتَك فاسدة لا تنسجـم مع الإيـمان والـحق، ألا ترى أنها تلـج بلا ارادة في مثل هذه الامور الباطلة؟ اذن فقد حكم عليك قَدَرك بالتعاسة وقضى عليك بالشقاء!!. فيهلك ذلك الـمسكين في هذا اليأس الـمدمّر.

وهكذا فان حصن الـمؤمن الـحصين من الدسائس الشيطانية الـمتقدّمة هي الـمـُحكمات القرآنية والـحقائق الإيـمانية الـمرسومةُ حدودُها بدساتير العلـماء الـمحققين والاصفياء الصالـحين. أما الدسائس الاخيرة فانها تُردّ بالاستعاذة بالله سبـحانه وتعالى وباهـمالـها، لأن من طبيعة الوساوس أنها تكبر وتتضخـم كلـما زاد الاهتـمام بها. فالسُنّة الـمحـمدية للـمؤمن هي البلسم الشافي لـمثل هذه الـجراحات الروحية.



الاشارة السابعة:

سؤال:

ان أئمة الـمعتزلة عندما اعتبروا أن ايـجاد الشر شرٌ، لـم يردّوا الى الله سبـحانه خلقُ الكفر والضلالة، فكأنهـم بهذا ينزّهونه سبـحانه ويقدسونه/ فقالوا: ((ان البشَر هو خالقُ لأفعالـه)) فضلـّوا بذلك. وكذلك قالوا: يزول ايـمان من ارتكب الكبائر لأن صدقَ العقيدة في الله لا يتلاءم واِرتكاب مثل هذه الـخطايا والذنوب، حيث أن الانسان الذي يـحذر مـخالفة القوانين في الدنيا رهبةً من السجن الوقتي، ان ارتكب الكبائر دون أن يبالي لغضب الـخالق العظيـم، ولا لعذاب جهنـم الأبدي، لابد أن يكون ذلك دليل عدم أيـمانه.

جواب الشـّق الاول من السؤال: هو ما أوضحناه في ((رسالة القدر)) وهو

ان خلق الشرّ ليس شرّاً، وانـما كسبُ الشرّ شرٌ، لأن الـخلق والايـجاد يُنظر اليه من حيث النتائج العامة. فوجود شرٍ واحد، اِن كان مقدمةً لنتائج خيّرة كثيرة، فان ايـجاده يصبـح خيراً باعتبار نتائجه، أي يدخل في حكم الـخير.

فمثلاً: النار لـها فوائد ومنافع كثيرة جداً، فلا يـحق لأحد أن يقول: ان ايـجاد النار شرّ اذا ما أساء استعمالـها باختياره وجعلـها شّـراً ووبالاً على نفسه.

وكذلك خلقُ الشياطين وايـجادهـم فيه نتائج كثيرة ذات حكمة للانسان، كسموّه في سلـم الكمال والرقي. فلا يسيغ لـمن استسلـم للشيطان – باختياره وكسبه الـخاطىء – ان يقول: ان خلق الشيطان شرٌ. اذ قد عمل الشر لنفسه بكسبه الذاتي.

أما الكسب الذي هو مباشرةٌ جزئيةٌ للامر، فانه يصبـح شراً لأنه وسيلةٌ تُفضي الى شرّ خاصٍ معين، فيكون كسبُ الشرّ بذلك شّراً، بينـما لا يكون الايـجاد شراً، بل يكون خيراً، لأنه يرتبط بـجـميع النتائج الـمترتبة فلا يكون اذن خلق الشرّ شّـراً.

وهكذا ولعدم ادراك الـمعتزلة هذا السرّ ضلـّوا، اِذ قالوا: إن خلق الشر شرٌ وايـجاد القُبـح قبـح. فلـم يردّوا الشر الى الله سبـحانه وتعالى تقديساً وتنزيهاً لـه، وتأولوا الركن الإيـماني: ((وبالقدر خيره وشرّه من الله تعالى)).

أما الشق الثاني: وهو كيف يبقى مؤمناً من ارتكب الكبائر؟

فجوابه:

اولاً: لقد اوضحت الاشارات السابقة أخطاءهـم بصورة قاطعة فلا حاجة للاعادة.

ثانياً: إن النفس الانسانية تُفضـّل درهـماً من اللذة الـحاضرة الـمعجـّلة على رطل من اللذة الغائبة الـمؤجـّلة، وهي تتـحاشى صفعةً حاضرة اكثر من تـحاشيها سنة من عذاب في الـمستقبل. وعندما تهيـج أحاسيسُ الانسان لا ترضخ لـموازين العقل، بل الـهوى هو الذي يتـحكم، فيرجح عندئذ لذةً حاضرةً ضئيلة جداً على ثواب عظيـم في العقبى، ويتـجنب ضيقاً جزئياً حاضراً اكثر من تـجنبه عذاباً أليـماً مؤجلاً. ولـما كانت الدوافع النفسانية لا ترى الـمستقبل بل قد تنكره، وان كان هناك حثـّـاً لـها من النفس وعوناً، فان القلب والعقل اللذين هـما محل الإيـمان، يسكتان، فيُغلبان على أمرهـما. فلا يكون عندئذ ارتكاب الكبائر ناتـجاً من عدم الإيـمان، بل من غلبة الـهوى وسيطرة الوهـم والـحسّ الـمادي، وانهزام العقل والقلب وغَلَبة كل اولئك عليهـما.

ولقد فُهـم من الاشارات السابقة بأن طريق الفساد والـهوى سهلة جداً لأنها تـخريب وهدم، لذا يسوق شيطانُ الانس والـجن الانسانَ اليها بكل سهولـه ويسر.

وانه لـمحيّر جداً أن ترى قسماً من الناس الضعفاء يتبعون خطوات الشيطان لتفضيلـهـم لذّة زائلة – بـمقدار جناح بعوضة – في هذه الدنيا الفانية، على لذائذ ذلك النعيـم الـخالد. في حين يفوق نورٌ أبدي بـمقدار جناح بعوضة من ذلك العالـم السرمدي الـخالد جـميع اللذات والنِعّم التي اكتسبها الانسان طوال حياته، كما هو ثابت في الـحديث الشريف(1).

وهكذا من اجل هذه الـحكَم والاسرار، كرر القرآن الكريـم الترغيب والترهيب واعادهـما ليزجر الـمؤمن ويـجنبه الذنوب والآثام ويـحثه على الـخير والصلاح.

ولقد جال في ذهني يوماً سؤالٌ حول هذا التكرار في التوجيه والارشاد القرآني وهو: ألا تكون هذه التنبيهات الـمستـمرة مدعاة لـجرح شعور الـمؤمنين في ثباتهـم وأصالتهـم واظهارهـم في موقف لا يليق بكرامة الانسان؟. لأن تكرار الامر الواحد على الـموظف من آمره يـجعلـه في موقف يظن كأنه متّهـم في اخلاصه وولائه! بينـما القرآن الكريـم يكـّرر أوامره باصرار على الـمؤمنين الـمـخلصين.

وحينـما كان هذا السؤال يعصر ذهني كان معي جـمعٌ من الاصدقاء الـمـخلصين فكنت أذكـّرهـم وانبـّههـم باستـمرار كي لا تغرّهـم دسائس شياطين الانس، فلـم أرَ امتعاضاً أو اعتراضاً منهـم قط، ولـم يقل أحدٌ منهـم: إنك تتـّهـمنا في اخلاصنا. ولكني كنت اخاطب نفسي وأقول: أخشى انني قد أسخطتهـم بتوجيهاتي الـمتكرر لـهـم وكأني أتهـمتهـم في وفائهـم وثباتهـم! وبينـما أنا في هذه الـحالة انكشفت الـحقائق الـمثبتة والـموضحة في الاشارات السابقة، فعلـمت ان اسلوب القرآن الـحكيـم في تكرار التنبيه مطابق لـمقتضى الـحال، وضروري جداً، وليس فيه أية مبالغة ولا إسراف قط، ولا اتهام للـمـخاطبين ، حاش لله، بل هو حكمةٌ خالصة، وبلاغة محضة. وعلـمت كذلك لـم لـم يـمتعض ويتكدّر اولئك الاصدقاء الاعزاء من ترديدي النصح لـهـم؟

وخلاصة تلك الـحقيقة هي:

ان الفعل الـجزئي القليل الذي يصدر عن الشياطين يكون سبباً لـحصول شرور كثيرة، لأنه تـخريب وهدم، لذا كان لابد لاولئك الذين يسلكون طريق الـحق والـهداية أن يـجنـّبوا ويُنَبهوا كثيراً. ويأخذوا حذرهـم ويـمدّلـهـم يدُ العون دائماً لكثرة حاجتهـم اليها. لـهذا يقدّم الله سبـحانه وتعالى في ذلك التكرار عوناً وتأييداً بعدد ألف اسم من اسمائه الـحسنى، ويـمدّهـم بآلاف من ايادي الرحـمة والشفقة لاسنادهـم وامدادهـم، فلا يقدح به كرامةَ الـمؤمن بل يقيه ويـحفظه، ولا يهوّن شأن الانسان بل يظهر ضخامة شر الشيطان.

فيا اهل الـحق واهل الـهداية! دونكم سبيل النـجاة والـخلاص من مكايد شيطان الـجن والانس الـمذكورة فاسلكوها.. اجعلوا مستقركم طريق الـحق وهوطريق اهل السنّة والـجـماعة.. واخلوا القلعة الـحصينة لـمحكمات القرآن الـمعجز البيان.. واجعلوا رائدكم السنّة النبوية الشريفة تَسلـموا وتنـجوا باذن الله..

الاشارة الثامنة:

سؤال:

لقد اثبتّ في الاشارات السابقة أن طريق الضلالة تـجاوزٌ وتعدٍّ وتـخريب، وسلوكها سهل وميسور للكثيرين، بينـما أوردت في رسائل أخرى دلائل قطعية على أن طريق الكفر والضلالة فيها من الصعوبة والـمشكلات ما لا يـمكن ان يسلكها أحد، وطريق الإيـمان والـهداية فيها من السهولة والوضوح بـحيث ينبغي ان يسلكها الـجـميع؟!.

الـجواب: ان الكفر والضلالة قسمان:

الاول: هو نفيٌ للأحكام الإيـمانية نفياً عملياً وفرعياً، فهذا الطراز من الضلالة سهلٌ سلوكه وقبولـه لأنه ((عدمُ قبول)) الـحق، فهو تركٌ وعدمٌ ليس الاّ، وهذا القسم هو الذي ورد بيان سهولة قبولـه في الرسائل.

أما القسم الثاني: فهو حكمٌ اعتقادي وفكرى وليس بعملي ولا فرعي، ولا نفيٌ للإيـمان وحده بل سلوك لطريق مضادٍ للإيـمان، وقبول للباطل واثباتُ نقيض الـحق. فهذا هو خلاف الإيـمان وضده، لذا فهو ليس ((بعدم قبولٍ)) كي يكون سهلاً وانـما هو ((قبولٌ للعدم)). وحيث انه لا يتـم الاّ بعد الاثبات، أي اثبات العدم. و ((العدم لا يثبت)) قاعدة اساسية، فليس من السهل اذن اثباته وقبولـه.

وهكذا فان ما بُينَ في سائر الرسائل هو هذا القسم من طريق الكفر والضلالة التي هي عسيرة وذات اشكال بل مـمتنع سلوكها بـحيث لا يسلكها من لـه ادنى شعور.

وكذلك أُثبتت في الرسائل اثباتاً قاطعاً أن في هذه الطريق من الآلام الـمـخيفة والظلـمات الـخانقة ما لا يـمكن ان يطلبها مَن عنده ذرة من العقل والادراك.

T واذا قيل:

ان كانت هذه الطريق الـملتوية مظلـمةٌ ومؤلـمة وعويصة الى هذا الـحد فلـم يسلكها الكثيرون؟.

فالـجواب: انهـم ساقطون فيها، فلا يـمكنهـم الـخروج منها، ولا يرغبون في الـخروج مـما هـم فيه، فيتسلـّون بلذة حاضرة مؤقتة، لأن قوى الانسان النباتية والـحيوانية لا تفكر في العاقبة ولا تراها، وأنها تتغلب على لطائفه الانسانية.

سؤال:

واذا قبل: لـما كان في الكفر هذا الالـم الشديد وهذا الـخوف الداهـم، وان الكافر – باعتباره انساناً – حريصٌ على حياته ومشتاق الى ما لا يـحصى من الاشياء وهو يرى بكفره: أن موته عدمٌ وفراقٌ ابدي. ويرى دوماً بعينه ان الـموجودات وجـميع احبـّـائه سائرون الى العدم والفراق الأبدي. فكل شيء أمامه – بهذا الكفر – اذن الى زوال، فالذي يرى بالكفر هذا، كيف لا يتفطـّر قلبه ولا ينسحق تـحت ضغط هذا الألـم؟ بل كيف يسمح لـه كفره ان يتـمتع بالـحياة ويتذوقَها؟.

الـجواب: انه يـخادع نفسه بـمغالطة شيطانية عجيبة، ويعيض مع الظن بتلذذ ظاهري، وسنشير الى ماهيتها بـمثال متداول:

يـحكى انه قيل للنعامة ((ابل الطير)): لـماذا لا تطيرين؟ فانك تـملكين الـجناح، فقبضتْ وطوتْ جناحيها قائلةً: أنا لست بطائر بل إبل، فأدخلت رأسها في الرمل تاركةً جسدها الضخـم للصياد فاستهدفها. ثم قالوا لـها: فاحـملي لنا اذن هذا الـحـمل ان كنتِ ابلاً كما تدّعين، فعندها صفّت جناحيها ونشرتهـما قائلة: أنا طائر. وتفلت من تعب الـحـمل. فظلت فريدة وحيدة دون غذاء ولا حـماية من أحد وهدفاً للصيادين.

وهكذا الكافر، بعد أن تزحزح من كفره الـمطلق أمام النُذر السماوية القرآنية تردّى في كفر مشكوك. فاذا سئُل: كيف تستطيع العيش وامامك الـموت والزوال اللذين تدعى أنهـما انعدام أبدي؟ فهل يتـمكن من الـحياة ويتـمتع بها من كان يسير بـخطاه الى حبل الـمشنقةَ؟ يـجيب: لا، ليس الـموت عَدَماً، بل هناك احتـمال للبقاء بعدَه، ذلك بعدما أخذ حَظَه من شمول نور القرآن للعالـمين ورحـمته لـهـم فبدأ يتشكك في كفره الـمطلق، او انه يدسّ رأسه في رمل الغفلة كالنعامة، كي لا يراه الأجل ولا ينظر اليه القبر، ولا يرميه الزوال بسهـم!.

والـخلاصة: ان الكافر شأنه شأن النعامة فهو حينـما يرى الـموت والزوال عَدَماً يـحاول أن ينقذ نفسه من تلك الآلام بالتـمسك والتشبث بـما أخبر به القرآن الكريـم والكتب السماوية جـميعها اخباراً قاطعاً من ((الإيـمان بالآخرة)) والذي ولّد عنده احتـمالاً للـحياة بعد الـموت.

واذا ما قيل لـه: فما دام الـمصير الى عالـم البقاء، فلـم اذاً لا تؤدي الواجبات التي يفرضها عليك هذا الإيـمان كي تسعد في ذلك العالـم؟.

يـجيب من زاوية كفره الـمشكوك: ربـما ليس هناك عالـم آخر، فلـم اذن أرهق نفسي؟!. بـمعنى انه ينقذ نفسه من آلام الاعدام الأبدي في الـموت بـما وعَد القرآن بالـحياة الباقية، فعندما تواجهه مشقـّة التكاليف الدينية، يتراجع ويتشبث باحتـمالات كفره الـمشكوك ويتـخلص من تلك التكاليف.

أي ان الكافر – من هذه الزاوية – يظن أنه يتـمتع اكثر من الـمؤمن في حياته الدنيا، لأنه يفلت من عناء التكاليف الدينية باحتـمالات كفره، وفي الوقت نفسه لا يدخل تـحت قساوة الالام الابدية باحتـمالـه الأيـماني. ولكن هذا في واقع الـحال مغالطة شيطانية مؤقتة تافهة بلا فائدة.

ومن هنا يتضح كيف أن هناك جانباً من الرحـمة الشاملة للقرآن الكريـم حتى على الكفار، وذلك بتشكيكه اياهـم في كفرهـم الـمطلق. فنـجاهـم – الى حَدّ ما – من حياة كالـجحيـم وجعلـهـم يستطيعون العيش في الـحياة الدنيا بنوعٍ من الشك في كفرهـم الـمطلق، وإلا كانوا يقاسون آلاماً معنوية تذكّر بعذاب الـجحيـم وقد تدفعهـم الى الانتـحار.

فيا اهل الإيـمان! احتـموا بـحـماية القرآن الكريـم الذي انقذكم من العدم الـمطلق ومن جحيـم الدنيا والآخرة بكل يقين وثقة واطمئنان، وادخلوا بالتسليـم الكامل في الظلال الوارفة للسنّة الـمحـمدية بكل استسلام واعجاب.. وانقذوا انفسكم من شقاء الدنيا وعذاب الآخرة..

الاشارة التاسعة:

سؤال:

لـم غُلِبَ اهل الـهداية وهـم حزب الله في كثير من الاحيان امام اهل الضلالة الذين هـم حزب الشيطان؟ برغم أنهـم محاطون بعناية إلـهية ورحـمة ربـّانية، ويتقدم صفوفهـم الانبياء الكرام عليهـم السلام ويقود الـجـميع فخر الكائنات محـمد عليه الصلاة والسلام؟

وما بال قسم من اهل الـمدينة الـمنورة مَرَدوا على النفاق وأصروا على الضلالة ولـم يسلكوا الصراط السوي رغم انهـم كانوا يـجاورون الرسول الاعظم e الذي تسطع نبوّته ورسالتهُ كالشمس وهو يُذكـّرهـم بالقرآن الـمعجز الذي يؤثر في النفوس كالأكسير الاعظم ويرشدهـم بـحقائقه التي تشدّ الـجـميع بقوة اعظم من جاذبية الكون؟

الـجواب: للاجابة عن شقّي هذا السؤال الـمحيّر علينا أولاً أن نبين أساساً راسخاً متيناً وهو:

ان خالق الكون جلّ وعلا لـه من الاسماء الـحسنى اسماء جلالية وأسماءٌ جـمالية. وحيث أن كلاً منها يُظهر حُكمَه بتـجليات مـختلفة عن الاخرى، لذا فان الـخالق سبـحانه وتعالى قد مَزَجَ الأضداد ببعضها وجعل يقابل كلٌ منها الآخرَ، واعطى كلاً منها صفةَ التدافع والتـجاوز، فأوجد بذلك مبارزةً حكيـمة ذات منافع، بـما أوجد من الاختلافات والتغيّرات الناشئة من تـجاوز تلك الأضداد حدود بعضها البعض الآخر. فاقتضت حكمته سبـحانه أن يسير هذا الكون ضمن دستور السموّ والكمال وحسب قانون التغيّر والتـحول؛ لذا جعل الانسان وهو الثمرة الـجامعة لشجرة الـخليقة يَتبَعِ ذلك القانون، أي قانون التدافع والـمبارزة، اتباعاً شديد الغرابة حيث فَتـح أمامه بابَ ((الـمـجاهدة)) التي يدور عليها رقيّ جـميع الكمالات الانسانية وتكاملـها. فمن أجل هذا فقد اعطي سبـحانه وتعالى حزب الشيطان شيئاً من الاجهزة والوسائل ليتـمكن من مواجهة حزب الله ويقابلـه في ميدان الـمعركة. وهذا هو السبب، في تـمكـّن اهل الضلالة وهـم في اشد الضعف والوهن والعجز، من مقاومة أهل الـحق الأقوياء معنوياً الذين يتقدمهـم الانبياء عليهـم السلام والتغليب عليهـم تغلباً مؤقتاً.

أما سّر الـحكمة في هذه الـمقاومة الغريبة فهي: ان في الضلالة والكفر عَدَماً وتركاً، وهو سهلٌ لا يـحتاج الى دفعِ ولا الى تـحريك.. وفيها تـخريبٌ كذلك، وهو سهلٌ وهيّن ايضاً، اذ تكفيه حركة قليلة.. وفيها تـجاوزٌ وتعدٍ، فعمل قليل ويسير منه يؤدي الى ضرر بالكثيرين فيوهـم الآخرين أنهـم على شيء فيستـخفّون بهـم ويستعلون عليهـم بإرهابهـم وفرعونيتهـم.. ثم ان في الانسان حواس مادية وقوى نباتية وحيوانية لا ترى العاقبة ولا تفكر فيها وهي مفتونة بالتذوق الآني والتلذذ الـحاضر. فتلذذ هذه القوى، واشباع نهـمها وانطلاقها من عقالـها وتـحررها يـجعل اللطائف الانسانية كالعقل والقلب تعْدِل عن وظائفها الاساس التي هي الـمشاعر الانسانية السامية الساعية للعقبى.

أما طريق أهل الـهداية والـمسلك السامي للانبياء ((عليهـم السلام) وفي الـمقدمة حبيب ربّ العالـمين، الرسول الاكرم e فهي: وجودية وايـجابيةٌ وتعمير، كما أنها حركة واستقامة على الطريق والـحدود، وهي تفكر بالعقبى، وعبودية خالصة لله، كما أنها سحقٌ لفرعونية النفس الأمـّارة بالسوء وكبـح لـجـماحها؛ لذا أصبـح منافقو الـمدينة الـمنورة في ذلك الوقت أمام هذه الاسس الايـجابية الـمتينة وامثالـها كالـخفافيش أمام تلك الشمس الساطعة والسراج الـمنير فأغمضوا أعينهـم عنها، فارتـموا في احضان القوة الدافعة الشيطانية، وظلوا في الضلالة ولـم ينـجذبوا بـجاذبية القرآن العظمى وحقائقه الـخالدة.

T واذا قيل:

لـما كان الرسول الاكرم e حبيبً رب العالـمين ولا ينطق إلاّ بالـحقّ ولا يـملك إلاّ الـحقيقة، وقد أمدّه الله في غزواته بـملائكةٍ جنوداً مسوّمين، وارتوى جيش كامل من غرفة من ماء تفجّر من بين أصابعه، وشَبَعَ ألف من الناس بشاةٍ مطبوخة وحفناتٍ من قمح، وهزم الكفار بقبضة من تراب رماها على عيونهـم ودخلت تلك القبضة من التراب في عين كل كافر ان قائداً ربانياً يـملك امثال هذه الـمعجزات الباهرة وكثيراً غيرها، كيف يُغلب في نهاية اُحُد وبداية حُنَين؟.

الـجواب: ان الرسول e قد اُرسل الى البشرية كافة، قدوةً واماماً ورائداً، كي تتعلـم منه مناهج الـحياة الاجتـماعية والشخصية ودساتيرهَا، وتَتعود على الانقياد لقوانين الارادة الإلـهية الـحكيـمة وتنسجـم مع دساتيرها الربانية. فلو كان الرسول e مستنداً الى الـمعجزات وخوارق العادات في جـميع أفعالـه الشخصية منها والاجتـماعية لـما تسنّى لـه ان يكون إماماً مطلقاً ولا قدوةً كاملة حسنة للبشرية قاطبةً.

ولـهذا السبب لـم يُظهر e الـمعجزات الاّ تصديقاً لدعواه، بشكل متفرق، عند الـحاجة، لكسر عناد الـمنكرين. أما في سائر الأوقات فقد كان e مراعياً بكل دقة لقوانين عادة الله ولسننه الـجارية، ومطيعاً طاعة كاملة لنواميسه الـمؤسسّة على الـحكمة الربانية والـمشيئة الإلـهية، كطاعته ومراعاته للأوامر الإلـهية، لذا كان e يلبس الدرع في الـحروب، ويأمر الـجنود بالتتّرس بالـموانع ضد الاعداء، ويـجرَح ويتأذى ويتـحـمل الـمشقّات.. كل ذلك لكي يُبيّن مدى طاعته الكاملة ومراعاته للقوانين الإلـهية الـحكيـمة، وانقياده التام لشريعة الفطرة الكونية ونواميسها.

الاشارة العاشرة:

ان لأبليس دسيسة كبرى هي أنه يـجعل الذين اتبّعون يُنكرون وجودَه. سنذكر شيئاً حول هذه الـمسألة البديهية، وجود الشياطين. حيث يتردد في عصرنا هذا في قبولـها اولئك الذين تلوثت أفكارهـم بالفلسفة الـمادية، فنقول:

اولاً: مثلـما هو ثابت بالـمشاهدة ثبوتاً قطعياً وجود ارواحٍ خبيثة في اجساد بشرية في عالـم الانسان، تنـجز وظيفة الشيطان واعمالـه. كذلك ثابت ثبوتاً قطعياً وجود ارواحٍ خبيثة بلا اجساد في عالـم الـجن، فلو ان هؤلاء اُلبسوا أجساداً مادية لأصبـحوا تـماماً مثل اولئك البشر الاضرار. وكذلك لو تـمكن شياطين الانس – الذين هـم على صور بشرية – من نزع اجسادهـم لأصبـحوا أبالسة الـجن.

فبناء على هذه العلاقة الوطيدة ذهب أحد الـمذاهب الباطلة الفاسدة الى ((أن الارواح الـخبيثة الشريرة الـمتـجسدة بصورة اُناسي تتـحول الى شياطين بعد موتها))!.

ومن الـمعلوم انه اذا ما فسد الشيءُ الثمين يكون فسادهُ أشدَّ من فساد الشيءِ الرخيص، كما هو في فساد اللبن أوالـحليب حيث يـمكن ان يؤكلا، أما اذا فسد الدهنُ فلا يـمكن أكلـه، إذ قد يكون كالسمّ. وهكذا الانسان الذي هو اكرم الـمـخلوقات بل ذروتها وقمّتها، اذا فسد فانه يكون أفسد وأحط من الـحيوان الفاسد نفسه. فيكون كالـحشرات التي تأنس بالعفونة وتريـحها الروائح الكريهة، وكالـحيّات التي تلتذ بلدغ الآخرين. بل يتباهى بتلذذه بالأخلاق الدنيئة النابتة في مستنقع الضلالة، ويستـمرىء الاضرار والـجرائم الناجـمة في ظلـمات الظلـم. فيكون اذن قريناً للشيطان ومتقمصاً لـماهيته..

نعم، ان الدليل القاطع على وجود شياطين الـجنّ هو وجود شياطين الانس.

ثانياً: ان مئات الدلائل القطعية في ((الكلـمة التاسعة والعشرين)) لاثبات وجود الـملائكة والعالـم الروحاني، هي بدروها دلائل لاثبات وجود الشياطين ايضاً. نـحيل إليها.

ثالثاً: ان وجود الـملائكة الذين هـم بـحكم الـمـمثلين والـمشرفين على ما في أمور الـخير الـموجودة في الكون من قوانين كما أنه ثابت باتفاق الاديان، كذلك وجود الشياطين والارواح الـخبيثة الذين هـم مـمثلو الامور الشريرة والـمباشرون لـها وتدور حولـهـم قوانينها، فانه قطعي الثبوت حكمةً وحقيقة. بل قد يكون وجود سببٍ وستارٍ مستتر من كائن ذي شعور في مـمارسة الامور الشريرة اكثر ضرورةً، وذلك لعجز كل شخص أن يرى الـحسنَ الـحقيقي لـجـميع الامور، كما ذكرنا في مستهل ((الكلـمة الثانية والعشرين)). فلأجل الاّ تـحدّثه نفسُه باعتراضٍ على امور الـخالق سبـحانه بـما يُتوهـم من نقصٍ او شرّ ظاهريين، ويتهـم رحـمته او ينتقد حكمته او يشكو بغير حقٍ، جعل الـخالق الكريـم الـحكيـم العليـم وسائط واسباباً ظاهرية مادية ستاراً لأمور قَدَره، وحُجُباً لتتوجه اليها الاعتراضات والانتقادات والشكاوى، ولا تتوجه اليه سبـحانه وتعالى. فقد جعل الامراض والـمصائب مثلاً أسباباً وستاراً للأجل، لكي لا تتوجه الاعتراضات وتصل الى مَلَك الـموت ((عزرائيل عليه السلام)). وجعل مَلَكَ الـموت نفسه حجاباً لقبض الارواح، لئلا تتوجه الشكاوى والانتقادات الناتـجة من الأمور التى يُتوهـم أنها بغير رحـمة إليه سبـحانه وتعالى.. وهكذا وبقطعية اكثر اقتضت الـحكمة الرّبانية وجود الشياطين لتتوجه اليهـم الاعتراضات الناشئة من الشرور والأضرار والفساد.

رابعاً: كما ان الانسان عالـم صغير، كذلك العالـم انسانٌ كبير، فهذا الانسان يـمثّل خلاصة الانسان الكبير وفهرسه، فالنـماذج الـمصغّرة في الانسان لابد أن أصولـها الكبيرة الـمعظمة موجودةٌ في الانسان الأكبر بالضرورة.

فمثلاً: ان وجود القوة الـحافظة في الانسان دليل قطعي على وجود اللوح الـمحفوظ في العالـم. وكذلك يشعر كلٌ منا ويـحسّ أن في قرارة نفسه وفي زاوية من زوايا قلبه آلة وعضواً للوسوسة وهي اللـمة الشيطانية التي هي لسانُ شيطانٍ يتكلـم بتلقينات القوة الواهـمة، هذه القوة قد تـحولت بفسادها الى شيطان مصغر، لأنها لا تتـحرك الاّ ضدَ اختيار الانسان واِرادته وخلاف رغباته الـحقيقية. ان هذا الذي يشعر به كلُ انسان حساً وحَدْساً في نفسه دليلٌ قطعي على وجود الشياطين الكبيرة في العالـم الكبير. ثم ان هذه اللـمة الشيطانية وتلك القوة الواهـمة تُشعران بوجود نفسٍ شريرةٍ خارجية تنفث في الاُولى وتستنطق الثانية وتستـخدمها كالاذن واللسان.

الاشارة الـحادية عشرة:

يعبّر القرآن الكريـم باسلوب معجز عن غضب الكائنات وتغيّظ عناصر الكون جـميعها وتـهيـّـج الـموجودات كافة من شر اهل الضلالة، عندما يصف اشتراك السماء والارض بالـهجوم على قوم ((نوح عليه السلام)) في الطوفان، وعصفَ الرياح بقوم ((عاد)) والصيـحة على ((ثمود))، وهيـجان الـماء على قوم فرعون، ونقمة الارض على قارون.. عند رفضهـم الإيـمان حتى أن جهنـم } تكادُ تـميـّزُ من الغيظ{ (الـملك:8). وهكذا يبين القرآن الكريـم غَضَبَ الـموجودات وحدّتها على اهل الضلالة والعصيان ويزجرهـم بهذا الاسلوب الاعجازي الفريد.

سؤال:

لـم تـجلب هذه الأعمال التافهة الصادرة عن أشخاص لاوزن لـهـم باقترافهـم ذنوباً شخصية، سَخَطَ الكون وغضبه؟

الـجواب: لقد أثبتنا في الاشارات السابقة وفي رسائل متفرقة أخرى:

أن الكفر والضلالة تـجاوزٌ شنيع وتعدّ رهيب، وجريـمة تتعلق بـجـميع الـموجودات. ذلك لأن اهل الكفر والضلالة يرفضون الغاية السامية لـخلق الكائنات التي نتيـجتها العظمى عبودية الانسان وتوجّهه بالإيـمان والطاعة والانقياد للربوبية الإلـهية. فانكارهـم هذه النتيـجة العظمى للكون – التي هي العلـّة الغائية وسبب بقاء الـموجودات – نوعٌ من تعدٍ على حقوق جـميع الـمـخلوقات.

وحيث ان الـموجودات قاطبة تتـجلى فيها الاسماء الإلـهية الـحسنى وكأن كلُ جزء منها مرآة تعكس تـجليات أنوار تلك الاسماء الـمقدسة، فيكتسب ذلك الـجزء اهـميةً بها ويرتفع منزلةً، فان انكار الكافر لتلك الاسماء الـحسنى ولتلك الـمنزلة الرفيعة للـموجودات واهـميتها مو اِهانةٌ عظيـمة وتـحقير شديد فوق كونه تشويهاً ومسخاً وتـحريفاً ازاء تلك الاسماء.

وكذلك فان كل مـخلوق في هذا الكون قد أوكل اليه وظيفة، وكل جزء أُنيط به أمر، أي أن لكل شيءٍ في الوجود مهامّ معينة، فهو اذن بـمثابة مأمورٍ وموظف ربّاني. فالكافر بكفره يسلبه تلك الوظيفة الـمهـمة ويـجعلـه جامداً لا معنى لـه، وفانياً لا غاية لـه، فيهينه بذلك ويـحقّره. وهكذا يظهر تعدّي الكفر ويتبين تـجاوزه على حقوق الـموجودات جـميعها.

ولـما كانت الضلالة بأنواعها الـمـختلفة – كلٌ حسب درجتها – تنكر الـحكمة الرّبانية في خلق الكائنات، وترفض الـمقاصد الإلـهية في بقاء العالـم، فان الـموجودات بدورها تتهيـج، والـمـخلوقات تثور، والكائنات تغضب على الكفر وأهلـه.

فيا ايها الانسان العاجز الـمسكين!. ويا مَن جسمُه صغير وذنبه جسيـم وظلـمه عظيـم!. ان كنت راغباً في النـجاة من غضبة العالـم ونفور الـمـخلوقات وثورة الـموجودات فدونك سَبيل النـجاة: الدخول في دائرة القرآن الـحكيـم الـمقدسة.. واتـّباع الـمبلـّغ الامين e في سنـّته الـمطهـّرة. ادخل.. واتبع.

الاشارة الثانية عشرة:

جواب عن اربعة اسئلة:

السؤال الاول:

أين وجه العدالة في عذاب مقيـم في جهنـم لذنوبٍ محدودوة في حياة محدودة؟

الـجواب: لقد فُهـم بشكل واضح من الاشارات السابقة ولاسيـما الاشارة الـحادية عشرة، أن جريـمة الكفر والضلالة ليست محدودة، وانـما هي جناية لا نهاية لـها واعتداء على حقوقٍ لا حدّلـها.

السؤال الثاني:

ما سرّ الـحكمة فيـما جاء في الشرع: إن جهنـم جزاء عملٍ أما الـجنّة فهي فضلً إلـهي؟..

الـجواب: لقد تبين في الاشارات السابقة: أن الانسان يكون سبباً لتدمير هائل وشرور كثيرة بارادة جزئية بلا ايـجاد، وبكسبٍ جزئي، وبتشكيلـه أمراً عدمياً او اعتبارياً واعطاء الثبوت لـه. ولأن نفسَه وهواه يـميلان الى الأضرار والشرور دائماً، لذا يتـحـمل هو مسؤولية السيئات الناتـجة من ذلك الكسب الـجزئي اليسير. ذلك لأن نفسَه هي التي أرادت، وكسبَه الذاتي هو الـمسبـّب، ولأن ذلك الشرّ عدميٌ اصبـح العبدُ فاعلاً لـه، والله سبـحانه خَلَقَه فصار الانسان مستـحقاً لتـحـمل مسؤولية تلك الـجريـمة غير الـمحدودة بعذاب غير محدود.

أما الـحسنات فما دامت وجودية أصيلة، لا يكون الكسب الانساني والارادة الـجزئية علـّة موجدة لـها، فالانسان ليس فاعلاً حقيقياً لـها. لأن نفس الانسان الأمـّارة بالسوء لا تـميل الى الـحسنات، بل الرحـمة الإلـهية هي التي تريدها، وقدرتُه سبـحانه هي التي تـخلقها. الا أن الانسان يـمكن أن يكون مالكاً لتلك الـحسنات بالإيـمان وبالرغبة وبالنيّة. وأما بعَد تـملكها فان تلك الـحسنات هي بذاتها شكرٌ للنعم الإلـهية غير الـمحدودة التي أسبغها الله سبـحانه وتعالى على الانسان، وفي مقدمتها نعمة الوجود ونعمة الإيـمان. أي أن تلك الـحسنات شكرٌ للنعم السابقة، لذا فالـجنـّة التي وعَدَها الله لعباده تُوهَب بفضل رحـماني خالص، فهي وان كانت ظاهراً مكافأة للـمؤمن الاّ أنها في حقيقيتها تفضـّلٌ منه سبـحانه وتعالى.

إذن فالنفس الانسانية لكونها الـمسببة للسيئات فهي التي تستـحق الـجزاء. أما في الـحسنات فلـما كان السبب من الله سبـحانه وكذلك العلـّة منه وامتلكها الانسان بالإيـمان وحدَه فلا يـمكنه أن يطالب بثوابها، بل يرجو الفضل منه سبـحانه.

السؤال الثالث:

لـما كانت السيئات تتعدد بالتـجاوز والانتشار كما تبيـّن فيـما سبق، كان الـمفروض ان تُكتب كلُ سيئةٍ بألفٍ، أما الـحسنات فلأنها ايـجابية ووجودية فلا تتعدد مادياً، حيث أنها لا تـحـصل بايـجاد العبد ولا برغبة النفس، فكان يـجب ألاّ تُكتب، او تُكتَب حسنة واحدة. فلـم تُكتب السيئةُ بـمثلـها والـحسنةُ بعشرِ امثالـها او أحياناً بألف؟.

الـجواب: ان الله جلّ وعلا يبيـّن لنا – بهذه الصورة – كمالَ رحـمته وسعتَها وجـمالَ كونه رحيـماً بعباده.

السؤال الرابع:

ان الانتصارات التي يـحرزها اهل الضلالة والقوة والصلابة التي يظهرونها، وتغلـّبهـم على اهل الـهداية تُظهر لنا أنهـم يستندون الى حقيقة ويركنون الى قوة، فاما أن هناك ضعفاً ووهناً في أهل الـهداية، أو أن في هؤلاء الضالـّين حقيقة وأصالة!.

الـجواب: كلا ثم كلا.. فليس في أهل الـهداية ضعف ولا في أهل الضلالة حقيقة، ولكن مع الاسف يُبتلى جـمعٌ من قصيري النظر – من السذج الذين لا يـملكون موازين – بالتردد والانهزام، فيصيب عقيدتَهـم الـخللُ بقولـهـم: لو أنّ اهل الـحق على صدق وصواب لكان ينبغي الاّ يُغلَبوا ولا يُذَلـّوا الى هذا الـحد. اذ الـحقيقة قوية وان القاعدة الاساسية هي: ((الـحق يعلو ولا يُعلى عليه))(1) ولو لـم يكن اهل الباطل – الذين يصدّون ويغلبون اهل الـحق – على قوة حقيقة وقاعدة رصينة ونقطة استناد متين، لـما كانوا يَغلبوا اهل الـحق ويتفوقون عليهـم الى هذه الدرجة.

وجواب ذلك: لقد اثبتنا في الاشارات السابقة اثباتاً قاطعاً: ان انهزام اهل الـحق أمام أهل الباطل لا يتأتى من أنهـم ليسوا على حقيقة ولا من أنهـم ضعفاء، وان انتصار أهل الضالة وتغلـّبهـم ليس ناشئاً من قوتهـم ولا من وجود مستندٍ لـهـم. فمضمون تلك الاشارات السابقة بأجـمعها هو جواب هذا السؤال، ولكننا نكتفي هنا بالاشارة الى دسائسهـم وشيء من اسلـحتهـم الـمستعملة.

لقد شاهدتُ مراراً بنفسي ان عشرةً في الـمائة من أهل الفساد يَغلِبون تسعين في الـمائة من أهل الصلاح. فكنت أحار في هذا الامر، ثم بامعان النظر فيه، فهـمت يقيناً ان ذلك التغلب والسيطرة لـم يك ناتـجاً من قوة ذاتية ولا من قدرة اصيلة يـمتلكها أهل الباطل، وانـما من طريقتهـم الفاسدة، وسفالتهـم ودناءتهـم، وعملـهـم التـخريبي، واغتنامهـم اختلاف أهل الـحق والقاء الـخلافات والـحزازات فيـما بينهـم، واستغلال نقاط الضعف عندهـم والنفث فيها، واثارة الغرائز الـحيوانية والنفسانية والاغراض الشخصية عندهـم، واستـخدامهـم الاستعدادات الـمضرّة التي هي كالـمعادن الفاسدة الكامنة في سبيكة فطرة الانسان، والتربيت على فرعونية النفس باسم الشهرة والرتبة والنفوذ.. وخوف الناس من تـخريباتهـم الظالـمة الـمدمّرة… وامثال هذه الدسائس الشيطانية يتغلبون بها على أهل الـحق تغلباً مؤقتاً. ولكن هذا الانتصار الوقتي لـهـم لا قيـمة لـه ولا أهـمية أمام بشرى الله تعالى: } والعاقِبَةُ للـمتَقين{ (الأعراف: 128) والسر الكامن في (الـحقُ يعلو ولا يُعلى عليه). اذ يصبـح سَبباً لدخولـهـم النار وفوز أهل الـحق بالـجنـّة.

ان ظهور الضعيف الـهزيل في الضلالة بـمظهر القوة واكتساب التافهين فيها شهرة وصيتاً، يسلكها كل أناني مُراءٍ مولَع بالشُهرة فيقوم بارهاب الآخرين والاعتداء عليهـم واضرارهـم، للـحصول على منزلةٍ وكسبِ شهرة، فيقف في صف الـمعادين لأهل الـحق ليسترعي انتباه الناس ويـجلب انظارهـم، وليذكروه باسنادهـم اعمال التـخريب اليه تلك التي لـم تنشأ من قوة وقدرة ذاتية لـه بل من تركه الـخير وتعطيلـه لـه. حتى سار مثلاً أن احد الـمغرمين بالشهرة قد لـوّث الـمسجد الطاهر حتى يذكره الناس، وقد ذكروه فعلاً.. ولكن باللعنة، الاّ أن حبّه الشديد للشهرة زيـّن لـه هذا الذكر اللعين فرآه حسناً.

فيا أيها الانسان الـمسكين الـمـخلوق لعالـم الـخلود والـمبتلى بهذه الدنيا الفانية! أمعن النظر في الآية الكريـمة وانصت اليها: } فَما بَكتْ عَليهـم السـَّمَاء والأرض { (الدخان: 29) وانظر ماذا تفيد.. انها تعلن صراحة ان السموات والارض التي لـها علاقة بالانسان لاتبكي على جنازة أهل الضلالة عند موتهـم.. أي انها راضية لفراقهـم مرتاحةٌ بـموتهـم.

وانها تشير ضمناً ان السموات والارض تبكي على جنازة أهل الـهداية عند موتهـم، فلا تتـحـمل فراقهـم، إذ إن الكائنات جـميعاً مرتبطة مع أهل الإيـمان، وذات علاقة بهـم، وانها راضيةٌ عنهـم، ولأنهـم يعرفون بالإيـمان رب العالـمين فيـحـملون حبـّاً للـموجودات ويقدرون قيـمتها، وليسوا كاولئك الضالين الذين يضمرون العَداء للـموجودات ويـحقـّرونها.

فيا ايها الانسان! تأمل في عاقبتك، وفكـّر في مصيرك، فأنت لا محالة صائر الى الـموت، فان كنت مـمن جعل هواه تبعاً للشيطان، فان جـميع الذين حولك من الـجيران حتى الأقارب سيُسّرون بنـجاحهـم من شرورك، وان كنت مستعيذاً بالله من الشيطان الرجيـم ومتـّبعاً لأوامر القرآن الكريـم وسنـّة حبيب رب العالـمين e فستـحزن عليك السموات والارض، وتبكي معنىً لفراقك الـموجوداتُ جـميعها فيشيعونك بهذا الـمأتـم العلوي والنعي الشامل الى باب القبر معبـّرين بذلك عما اُعدّ لك من حسن الاستقبال حسب درجتك في عالـم البقاء.

الاشارة الثالثة عشرة:

تتضمن ثلاث نقاط:

النقطة الاولى:

ان اعظم كيدٍ للشيطان هو خداعه لضيـّقي الصدر، وقاصدي الفكر من الناس، من جهة عظمة الـحقائق الإيـمانية بقولـه: كيف يـمكن تصديق ما يقال: أن واحداً أحداً هو الذي يدبـّر ضمن ربوبيته شؤون جـميع الذرات والنـجوم والسيارات وسائر الـموجودات ويدير أمورها بأحوالـها كافة؟ فكيف تُصدّق وتَقرُّ في القلب هذه الـمسألة العجيبة العظيـمة؟ وكيف يقنع بها الفكر؟.. مثيراً بذلك حسـّاً إنكارياً من نقظة عجز الانسان وضعفه.

الـجواب: ((الله اكبر)) هو الـجواب الـحقيقي الـمـُلـجـم لـهذه الدسيسة الشيطانية وهو الـمـُسكت لـها.

نعم، ان كثرة تكرار ((الله اكبر)) واعادتها في جـميع الشعائر الإسلامية، مـُزيلةٌ لـهذا الكيد الشيطاني، لأن الانسان بقوته العاجزة وقدرته الضعيفة وفكره الـمحدود يرى تلك الـحقائق الإيـمانية غير الـمحدودة ويصدّقُها بنور ((الله اكبر)) ويـحـمل تلك الـحقائق بقوة ((الله اكبر)) وتستقر عنده ضمن دائرة ((الله اكبر)) فيـخاطب قلبه الـمبتلى بالوسوسة قائلاً: ان تدبير شؤون هذه الكائنات وادارتها بهذا النظام الرائع الذي يراه كل ذي بصر لاتُفسّر الاّ بطريقتين:

الاولى: وهي الـمـمكنة، ولكنها معجزةٌ خارقة. لأن أثراً كهذا الأثر الـمـُعجز لاشك أنه ناتـج من عملٍ خارق وبطريقةٍ معجزة ايضاً. وهذه الطريقة هي ان الـموجودات قاطبة لـم تـخلق الاّ بربوبية الأحد الصـَّمد وبأرادته وقدرته، وهي شاهدة على وجوده سبـحانه بعدد ذراتها.

الثانية: وهي طريق الكفر والشرك، الـمـمتنعة والصعبة من جـميع النواحي، وغير الـمعقولة الى درجة الاستـحالة؛ لأنه يلزم أن يكون لكل موجود في الكون، بل في كل ذرّة فيه، ألوهيةٌ مطلقة وعلـم محيط واسعٌ، وقدرةٌ شاملة غير متناهية كي تظهر الى الوجود نقوشُ الصنعة البديعة الـمتكاملة بهذا النظام والاتقان الرائعين الـمشاهدين، وبهذا التقدير والتـميـّز الدقيقين.. وتلك هي ما بيـّنا امتناعها واستـحالتها واثبتناها بدلائل قاطعة كما في ((الـمكتوب العشرين)) و ((الكلـمة الثانية والعشرين)) وفي رسائل اخرى كثيرة.

والـخلاصة:

لو لـم تكن ربوبية ذات عظمة وكبرياء لائقة لتدبير الشؤون لَوجبَ حينئذٍ سلوك طريق مـمتنع وغير معقول من جـميع الـجهات. فحتى الشيطان نفسه لن يكلـّف أحداً الدخول في هذا الـمـجال الـمـمتنع بترك تلك العظمة والكبرياء اللائقة الـمستـحقة الضرورية.

النقطة الثانية:

ان دسيسة مهـمة للشيطان هي: دفع الانسان الى عدم الاعتراف بتقصيره. كي يسدّ عليه طريق الاستغفار والاستعاذة، مثيراً فيه أنانية النفس لتدافع كالـمحامي عن ذاتها، وتنزّهها عن كل نقص.

نعم، إن نفساً تصغي الى الشيطان لا ترغب في أن تنظر الى تقصيرها وعيوبها، حتى اذا رأتها فانها تؤوّلـها بتأويلات عديدة. فتنظر الى ذاتها واعمالـها بعين الرضا، كما قال الشاعر: ((وعينُ الرضا عن كل عيبٍ كليلةٌ))(1) فلا ترى عيباً، لذا لا تعترف بتقصيرها، ومن ثم فلا تستغفر الله ولا تستعيذ به فتكون اضحوكة للشيطان. وكيف يوثق بهذه النفس الامارة بالسوء ويعتـمد عليها، وقد ذكرها القرآن الكريـم بلسان نبيّ عظيـم، يوسف عليه السلام: } وَمَا أُبَرِّيءُ نَفسي إنَ النفسَ لأمارِةٌ بالسوءِ إلاّ ما رحـم رَبـّي { (يوسف:53) فَمن يَتـّهم نفسه يرى عيوبها وتقصيرها، ومَن اعترفَ بتقصير نفسه يستغفر ربـَّه، ومن يستغفر ربَهُ يستَعذْ به من الشيطان الرجيـم وعندها ينـجو من شروره.. وانه لتقصير اكبر ألاّ يرى الانسانُ تقصيره، وانه لنقصٌ اعظم كذلك الاّ يعترف بنقصه. ومن يرى عيبه وتقصيره فقد اِنتفى عنه العيب، حتى اذا ما اعترف يصبـح مستـحقاً للعفو.

النقطة الثالثة:

ان ما يُفسد الـحياة الاجتـماعية للانسان هي الدسيسة الشيطانية الآتية:

انه يـحجب بسيئةٍ واحدة للـمؤمن جـميع حسناته. فالذين يلقون السمع الى هذا الكيد الشيطاني من غير الـمنصفين يعادون الـمؤمن. بينـما الله سبـحانه وتعالى عندما يزن اعمال الـمكلـّفين بـميزانه الأكبر وبعدالته الـمطلقة يوم الـحشر فانه يـحكم من حيث رجحان الـحسنات او السيئات. وقد يـمحو بـحسنة واحدة ويُذهب ذنوباً كثيرة حيث ان ارتكاب السيئات والآثام سهل ويسير ووسائها كثيرة.. فينبغي اذاً التعامل في هذه الدنيا والقياس بـمثل ميزان العدل الإلـهي، فان كانت حسناتُ شخصٍ اكثر من سيئاته كميةً او نوعيةً فانه يستـحق الـمحبة والاحترام. وربـما يُنظر الى كثير من سيئاته بعين العفو والـمغفرة والتـجاوز لـحسنة واحدة ذات نوعية خاصة.

غير ان الانسان ينسى، بتلقين من الشيطان، وبـما يكمن من الظلـم في جبلـّته، مئاتٍ من حسنات أخيه الـمؤمن لأجل سيئة واحدة بدرت منه فيبدأ بـمعاداته، ويدخل في الآثام. فكما ان وضع جناح بعوضة أمام العين مباشرة يـحجب رؤية جبل شاهق، فالـحقد كذلك يـجعل السيئة – التي هي بـحجـم جناح بعوضة – تـحجب رؤية حسناتٍ كالـجبل الشامـخ، فينسى الانسانُ حينذاك ذكر الـحسنات ويبدأ بعداء اخيه الـمؤمن، ويصبـح عضواً فاسداً وآلة تدمير في حياة الـمؤمنين الاجتـماعية.

وهناك دسيسة اخرى مشابهة لـهذه ومـماثلة لـها في افساد سلامة تفكير الـمؤمن والاخلال باستقامتها وبصحة النظرة الى الـحقائق الإيـمانية وهي انه يـحاول ابطال حكم مئات الدلائل الثبوتية – حول حقيقة إيـمانية – بشبهة تدل على نفيها. علـماً ان القاعدة هي: ان دليلاً واحداً ثبوتياً يرجـّح على كثير من النفي، وان حكماً لشاهدٍ ثبوتي واحد لدعوى، يؤخذ به ويُرجـّح على مائة من الـمنكرين النافين.

ولنوضح هذه الـحقيقة في ضوء هذا الـمثال:

بناية عظيـمة لـها مئات من الابواب الـمقفلة، يـمكن الدخول فيها بفتـح باب واحد منها، وعندها تفتـح بقية الأبواب، ولا يـمنع بقاء قسم من الابواب مقفلة من الدخول في البناية. فالـحقائق الإيـمانية هي كتلك البناية العظيـمة، وكل دليل ثبوتي هو مفتاح يفتـح باباً معيناً، فلا يـمكن انكار تلك الـحقيقة الإيـمانية او العدول عنها بـمـجرد بقاء باب واحد مسدود من بين تلك الـمئات من الابواب الـمفتوحة. ولكن الشيطان يقنع جـماعة من الناس – بناءً على اسباب كالـجهل او الغفلة – بقولـه لـهـم: لا يـمكن الدخول الى هذه البناية مشيراً الى أحد تلك الأبواب الـمسدودة ليُسقط من الاعتبار جـميع الادلة الثبوتية، فيغريهـم بقولـه: ان هذا القصر لا يـمكن الدخول فيه ابداً، فانت تـحسبه قصراً وهو ليس بقصر، وليس فيه شيء!.

فيا أيها الانسان الـمسكين!. الـمبتلى بدسائس الشيطان وكيده!. ان كنت ترجو سلامة حياتك الدينية وحياتك الشخصية وحياتك الاجتـماعية وتطلب صحة الفكر واستقامة الرؤية وسلامة القلب، فَزِنْ أعمالك وخواطرك بـموازين القرآن الـمحكمة والسنـّة الـمحـمدية الشريفة، واجعل رائدك القرآن الكريـم ومرشدك السنـّة النبوية الشريفة. وتَضَرّع الى الله العلي القدير بقولك: ((أعوذ بالله من الشيطان الرجيـم)).

فتلك ثلاث عشرة اشارة، وهي ثلاثة عشر مفتاحاً لتفتـح بها القلعة الـمتينة والـحصن الـحصين لآخر سورة من القرآن الـمعجز البيان في الـمصحف الشريف. وهي كنزُ الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيـم وشرحٌ مفصل لـها.. فافتـحها بهذه الـمفاتيـح.. وادخل فيها تـجد السلامة والاطمئنان والامان.

اَعُوذُ بالله منَ الشـَّيطانِ الرَّجيـم

بسم الله الرَّحـمنِ الرَّحيـم

} قل اعوذ برب الناس ` ملك الناس ` اِلـه الناس ` من شر الوسواس الـخناس ` الذي يوسوس في صدور الناس ` من الـجنِة والناس{ (الناس)

} سُبـحانَكَ لاعِلـم لنا إلاّ ما عَلـمتَنا إنك أنتَ العَليـم الـحكيـم{

(البقرة:32 )

} وقل رب أعوذ بك من هـمزات الشياطين ` واعوذ بك رب ان يـحضرون{ (الـمؤمنون:97-98)
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الألعاب التراثية القديمة.. من ذاكرة الريف السوري عبدالقادر حمود ركن وادي الفرات 0 06-05-2010 11:15 AM
برنامج DirectX 11 for Windows XP and VISTA لزيادة توافق الألعاب والبرامج الجديدة احمد قسم الحاسوب 3 08-04-2009 01:01 PM


الساعة الآن 11:57 PM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir