أنت غير مسجل في منتديات البوحسن . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           الحَمْدُ لله الذِي أحْيَانا بَعْدَمَا أمَاتَنَا وإلَيْهِ النَشُور           

إضافة رد
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع
قديم 12-02-2011
  #1
عبد القادر الأسود
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبد القادر الأسود
 
تاريخ التسجيل: Feb 2010
المشاركات: 216
معدل تقييم المستوى: 15
عبد القادر الأسود is on a distinguished road
افتراضي تفسير سورة البقرة (1 ـ 7 )

تفسير سورة البقرة
سورة البقرة مدنية وهي مائتان وثمانون وسبع آيات
الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)
في القرآن الكريم تسع وعشرون سورة افتتحت بهذه الأحرف المقطعة ، منها ما افتتح بحرف ومنها ما افتتح باثنين أو ثلاثة أو أكثر ، وهذه الأحرف من الآيات المتشابهات التي استأثر الله بعلمها ، فنحن نؤمن بها ونَكل أمر تأويلها إلى الله . وهو مذهب السلف الصالح رضي الله عنهم . يقول سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه : (( في كل كتاب سر ، وسر القرآن أوائلُ السور )) . وقال سيدنا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه :
إنّ لكلِّ كتابٍ صفوةٌ ، وصفوةُ هذا الكتاب حروف التهجّي .
وقيل: إن في الحروفَ المقطَّعة من أوائل السور إعلامُ العرب بأن هذا القرآنَ منتظمٌ مِنْ جنس ما تَنْظِمون منه كلامَكم وأن الله سبحانه يتحداكم بأن تأتوا ولو بآية من مثله .
وقيل فيها أيضاً: إنها أسماءُ السورِ المفتتحةِ بها ، أو إنها بعضُ أسماءِ الله تعالى حُذِف بعضُها ، وبقي منها هذه الحروفُ دالَّةٌ عليها وهو رأيُ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما .
وقد اكتشف حديثاً أنّ مجموع عدد أحرف كل من السور التي استفتحت بهذه الحروف المتقطعة هو مضاعف مجموعها "أحرف الاستفتاح" بحسب الجُمَّل .
واختلف العلماء في إعرابها كذلك فمنهم من قال بأنه ليس لها محلَّ من الإِعراب ، ومنهم من قال هي مبنيّة تلزم حالة واحدة دائماً ، ومنهم من قال بل هي مُعْرَبَةٌ . وقال آخرون بأنها موقوفةٌ لا معربةٌ ولا مبنيةٌ . ويُحْتَمَلُ فيها الرفعُ والنصبُ ، فأما الرفعُ فهو على أحد وجهين: الأول أنها مبتدأ ، والثاني أنها خبر . وأمّا النصب فعلى أحَدِ وجهين أيضاً:إمَّا بإضمار فعلٍ تقديرُه: اقرَؤوا: ألم ، وإمَّا نصب بنزع الخافض وهو حرف قسم مضمر أي أنّ الله تعالى أقسم بها .
وقيل في معناها أنَّ الألف مفتاح اسمه ((الله)) واللام مفتاح اسمه اللطيف ، والميم مفتاح اسمه المجيد .
وقيل : بأنّ الألف آلاء الله واللام لطفه ، والميم ملكه .
وأمَّا "ذلك " فـ " ذا " اسم إشارة ، و"ل" للبُعد ، و"ك" للخطاب ، ويجوز في "ذلك" أن يكون مبتدأً ثانياً والكتابُ خبرُه، وجملةُ "ذلك الكتاب" خبرٌ للمبتدأ الأول " الم " ، ويجوز أن يكونَ "الم" مبتدأً و "ذلك" خبره و "الكتاب" صفةٌ لـ " ذلك " أو بدلٌ منه أو عطفُ بيان ، وأن يكونَ " الم " مبتدأً و"ذلك" مبتدأ ثان ، و "الكتاب" : إما صفةٌ له أو بدلٌ منه أو عطفُ بيان له .
و{الكتابُ} مصدرُ كَتَبَ ، أي المكتوبُ كما يقال للمخلوق خلق ، ومنه الكتيبةُ من الجُنْدِ ، سميت كذلك لاجتماعها ، لأنّ أصلَ الكَتْبِ ضَمُّ أديمٍ إلى أديمٍ أو جريدٍةٍ إلى جريدةٍ بالخِياطَةِ ، واستُعمل بعد ذلك في ضَمِّ الحروفِ بعضَها إلى بعضٍ بالخَطِّ .
و"الريب" في الأصل مصدر رابَه الأمرُ إذا حصل عنده فيه ريبة ، وحقيقةُ الرِيبةِ ، قلقُ النفسِ واضطرابُها ، ثم استُعمِل في معنى الشكِّ مطلقاً . وقيل إنَّ الرَيْبُ هو الشَكُّ معَ التُهْمة ، و"لا ريبَ فيه " لا شك في أنه من عند الله عزَّ وجلَّ وأنَّه الحقُّ والصدقُ.
و"لا" نافية"لا ريبَ" خبرٌ عن المبتدأ الثاني ، و"ريبَ" اسمُها،
وخبرُها يجوز متعلق الجارَّ والمجرورَ "فيه" المحذوف وتقديره : كائنٌ، ويكون الوقف على « ريب » حينئذ تاماً ، وقد يُحذف اسمها ويبقى خبرُها ، قالوا: لا عليك ، أي لا بأسَ عليك ، وهي واسمها في محلِّ رفع بالابتداء .
و"هدى" مصدرُ هَداهُ هُدًى وهِدايَةً وهَدِيّةً كذلك ، ومعناه
الدلالة الموصلة إلى البُغْيَةِ ، وضِدُّهُ الضَلالُ .ويجوز في: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} مبتدأٌ وخبرُه متعلَّقُ "فيه" المحذوف وتقديره موجود ، وهو متقدِّمٌ عليه ، والتقدير : لا ريبَ فيه ، فيه هدىً .
وقد تقدَّم معنى "الهدى" عند قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم و"هُدَى" مصدرٌ على وزن "فُعَل" ولم يَجىءْ من هذا الوزن في المصادر إلا : سُرىً وبُكىً وهُدًى ولُقَىً ((من لقيتُه )) و "للمتقين" جارٌّ ومجرورٌ متعلقٌ بـ "هُدَى" .
و " المتقون " جمعُ متّقٍ ، اسم فاعل من اتّقى وأصلُه أُوتَقى ـ بوزن افتعل ـ من وقى الشيء وقاية ، أي : صانه وحفظه مما يضره ويؤذيه .
والمعنى : ذلك الكتاب الكامل ، وهو القرآن الكريم ، ليس محلاً لأنْ يرتاب عاقلٌ أو منصف في أنّه منزّلٌ من عند الله ، وأنّه هدايةٌ وإرشادٌ للمتّقين الذين يجتنبون كلَّ مكروه من قول أو فعل
حتى يصونوا أنفسهم عما يضرُّها ويؤذيها .
وكانت الإشارة بصيغة البعيد "ذلك" لأنه سامي المنزلة أينما توجهتَ إليه ، فإن نظرت إليه ناحية تراكيبه فهو معجز للبلغاء ، وإن نظرتَ إليه من ناحية معانية فهو فوق مدارك الحكماءِ وإن نظرتَ إليه من ناحية قَصَصه وتاريخِه فهو أصدقُ محدِّث عن الماضين ، وأدقُّ محدّد لتاريخ السابقين ، فلا جرم أن كانت الإشارة في الآية باستعمال اسم الإشارة للبعيد لإظهار رفعةِ شأن هذا القرآن .
{الذين يُؤْمِنُونَ}: "الذين" نعتٌ للمتقين مجرور ، و"يؤمنون" صلةٌ وعائدٌ ، وهو فعلٌ مضارعٌ ، علامةُ رفعهِ الواو لأنه الأفعال الخمسةِ . والأفعال الخمسةُ كلُّ فعلٍ مضارعٍ اتصلَ به ألفُ اثنين أو واوُ جمع أو ياءُ مخاطبةٍ ، والفعل المضارعُ معربٌ أبداً .
وهو مضارعُ آمَنَ بمعنى صَدَّقَ ، وآمَنَ مأخوذٌ من أَمِنَ الثلاثي وإنما تعدَّى بالباء لأنه ضُمِّن معنى اعترف ، وقد يتعدَّى باللام كقوله تعالى : {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} .
وأصلُ "يُؤْمِنون" : يُؤَأْمِنُون بهمزتين ، الأولى : همزةُ أَفْعَل ، والثانيةُ : فاء الكلمةِ ، حُذِفَت الأولى لقاعدة تصريفية ، وهو أن همزة أفْعل تُحْذَف بعد حرفِ المضارعةِ واسمِ فاعله ومفعولِه نحو: أُكْرِمُ وتُكْرم ويُكْرم ونُكْرم وأنتَ مُكْرِم ومُكْرَم ، وإنما حُذِفَت لأنه في بعض المواضع تجتمع همزتان ، وذلك إذا كان حرفُ المضارَعةِ همزةً نحو : أنا أُكرم . الأصل : أُأَكْرِمُ بهمزتين ، الأولى : للمضارَعةِ ، والثانيةُ : هَمزَةُ أَفْعل ، فحُذِفَت الثانيةُ للثِّقَل ، ولأن حرفَ المضارَعَةِ أولى بالمحافظةِ عليه .
و"بالغيبِ" جار ومجرور متعلِّقان بيؤمنون، وهو مصدر واقعٌ موقعَ اسمِ فاعلِه .
و" يُقيمون" عطفٌ على "يُؤمنون" فهو صلةٌ وعائدٌ . وأصلُه يُؤَقْوِمُونَ حُذفت همزةُ أَفْعَل لوقوعها بعد حرفِ المضارَعة كما تقدَّم فصار يُقْوِمون ، فاستُثْقِلَتْ الكسرةُ على الواوِ فأبدلت ياءً وكذلك "مستقيم". ومعنى يُقيمون : يُدِيمون أو يُظهرون .
و"الصلاةَ" مفعول به ووزنُها : فَعَلَة ، ولامها واو لقولهم : صَلَوات ، وإنما تحرَّكت الواوُ وانفتحَ ما قبلها فقُلِبت ألفاً ، واشتقاقُها من الصَّلَوَيْنِ وهما : عِرقانِ في الوِرْكين مفترقانِ من الصَّلا وهو عِرْقٌ مستبطِنٌ في الظهر منه يتفرَّق الصَّلَوان عندَ عَجْب الذَّنب ، وذلك أن المصلِّي يحرِّك صَلَوَيْه . والصلاةُ لغةً : الدعاءُ . وفي الشرع : هذه العبادةُ المعروفة ، وقيل : هي مأخوذةٌ من اللزوم ، ومنه : "صَلِيَ بالنار" أي لَزِمَها .
وقيل: من صَلَيْتُ العودَ بالنار أي قوَّمْتُه بالصِّلاء وهو حَرُّ النار ،لأنَّ المُصَلِّي إنما يُقَوِّم نفسه .
و { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } جارٌّ ومجرور متعلِّق بـ " يُنْفِقون " و"ينفقون " معطوفٌ على الصلة قبله و"ما" المجرورةُ تحتمل ثلاثة أوجهٍ، أحدُها:أنْ تكونَ اسماً بمعنى الذي،ورزقناهم صلتُها،والعائدُ محذوفٌ ، تقديره : "رزقناهموه أو رزقناهم إياه"
والرزقُ لغةً: العطاءُ ، وهو مصدرٌ ، قال تعالى:{وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً} .
الرزق بالفتح مصدرٌ (( رَزَقَ رَزقاً)) وبالكسر اسم ، ويعني الشكر أيضاً في لغة أزد ومن ذلك قولُه تعالى:{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} .
ونَفَقَ الشيءُ: نَفِد ، وفيه معنى الخروج والذهاب ونحو ذلك إذا تأمَّلت كلّ ما فاؤه نون : نَفِد نَفَق نَفَر نَفَذ نَفَس نَفَش نَفَثَ نفح نفخ نَفَضَ نَفَل، وَنَفق الشيءُ بالبيع نَفَاقاً ونَفَقَت الدابَّةُ: ماتَتْ نُفوقاً: والنَفَقَةُ: اسمُ المُنْفَقِ .
و " مِنْ " ـ هنا ـ لابتداء الغاية ، وقيل : للتبعيض ، ولها معانٍ أُخر منها: بيانُ الجنس كما في قوله تعالى:{فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} وهي للتعليل في قوله جل وعلا:{ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق} وهي للبدلُ أيضا: { بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة} والمجاوزةُ: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} وانتهاء الغاية قريبٌ منه، والاستعلاءُ: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم} أي على والفصلُ: {يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح} وموافقةُ الباءِ وفي:{يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} {مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض} والزيادةُ باطِّراد، وذلك بشرطين: كون المجرورِ نكرةً والكلامِ غيرَ موجَبٍ، واشترط الكوفيون التنكيرَ فقط، ولم يَشْترط الخفشُ شيئاً .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)
بعد أن بين الله تبارك وتعالى في الآيات السابقة حال المؤمنين المتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة وينفقون في سبيل الله، وبشرهم بفلاحهم في الدنيا والآخرة، يوضح لنا في هاتين الآيتين الكريمتين أحوال طائفة ثانية من الناس، على النقيض في أوصافها ومآلها من الطائفة الأولى التي فازت برضوان الله .
والكُفْرُ ـ ضدّ الإيمان ـ من الكَفْرِ أي سَتْرُ الشيء وتغطيتُهُ ومنه سمي الليل كافراً، لأنه يغطي كل شيء بسواده {يسود} وكذلك الفلاح الذي يستر البذور في الأرض ويغطيها بالتراب، وسمي السحاب كافراً لسترِه ضوء الشمس.
ثم شاع الكفر في مجرد ستر النعمة، كأن المنعَمَ عليه قد غطى النعمة بجحوده لها، ويستعمله الشارع سبحانه في عدم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
وسمي من لم يؤمن بما يجب الإيمان به ـ بعد الدعوة إليه من إيمان بوجود الخالق وغير ذلك ـ كافراً، لأنه صار بجحوده لذلك الحق وعدم الإذعان إليه كالمغطي له.
والمراد بالذين كفروا في الآية التي معنا، طائفة معينة صمّت آذانها عن الحق ، عِناداً وحَسَداً، وليس عموم الكافرين، لأن منهم من دخل في الإسلام بعد نزول هذه الآية.
وسواءٌ: اسم مصدر بمعنى الاستواء والمراد به اسم الفاعل أي: " مُسْتَوٍ " ولذلك يوصف به، كما يوصف بالمصدر، كما في قوله ـ تعالى ـ :{قُلْ يا أهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} أي: مستوية .
والإنذار: إخبار معه تخويف في مدة تتسع للتَحفُّظ من المَخُوف، فإن لم تتسع له فهو إعلامٌ وإشعارٌ لا إنذار، وأكثر ما يستعمل في القرآن للتخويف من عذاب الله ـ تعالى ـ . والمعنى: إن الذين كفروا برسالتك يا محمد مُسْتَوٍ عندهم إنذارُك وعدمُه، فهم لا يؤمنون بالحق، ولا يستجيبون لداعي
الهدى، لسوء استعدادهم.
وجاءت جملة "إن الذين كفروا" مستأنَفَةً ولم تُعطف على ما قبلها لاختلاف الغرض الذي سيق له الكلام، إذ في الجمل السابقة حديث عن الكتاب وآثاره وعظمته والمؤمنين به العاملين بما فيه وفلاحهم، وهنا حديث عن الكافرين به وأحوالهم، وشتان ما بين الفريقين.
فإن قلت لم قُطعتْ قصّةُ الكفّار عن قصّة المؤمنين ولم تُعطفْ كنحو قوله:{إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ.وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ}وغيره من الآيات الكثيرة؟ قلتُ : لأن الأولى فيما نحن فيه مَسوقة لذكر الكتاب وأنّه هدى للمتقين، وسيقت الثانية لأن الكفار من صفتهم كيت وكيت؛ فبين الجملتين تباين في الغرض والأسلوب، وهما على حد لا مجال فيه للعاطف ".
وقوله{سَوَآءٌ} خبر إنّ {عَلَيْهِمْ} جار ومجرور متعلق به ، و{أَأَنذَرْتَهُمْ} مؤول بمصدر فاعل سواء. أي: إن الذين كفروا سواء عندهم إنذارُهم وعدمُ إنذارهم وإنما استوى لديهم الإنذار وعدمه؛ مع أنّ الإنذارَ إنما يواجهُهم به نبيٌّ قويٌّ أمينٌ مؤيَّدٌ من الله ـ تعالى ـ لأنّهم لما جَحَدوا نعمَ الله، وعَمُوا عن آياته، وحَسَدوا رسولَه على ما آتاه الله من فضله، صاروا بذلك في حضيضٍ جمُد معه شعورهم، وبَرَدَ فيه إحساسُهم، فلا تؤثِّر فيهم مُوجِعاتُ القول، ولا تنفَذُ إلى قلوبهم بالغاتُ الحجج.
وجملة {لاَ يُؤْمِنُونَ} مفسرة لمعنى الجملة التي قبلها ومؤكّدة لها، لأنّه حيث كان الإنذارُ وعدمُه سواءً، فلا يُتوقّع منهم الإيمان.
وفي هذه الجملة إخبارٌ بعدم إيمانهم البتّة، ذلك لأن حرف "لا " إذا دخل على الفعل المضارع ـ كما هو الحال هنا ـ أفاد أنّ الفعلَ لا يقع في المستقبل حتى تقوم قرينةٌ تقصُر النفيَ في المستقبل على وقتٍ محدّد.
ثم بيّن ـ سبحانه ـ بعد ذلك الموانعَ التي حالت بينهم وبين الاهتداء إلى الحق في الماضي والمستقبل فقال تعالى:
{خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ}.
والخَتْمُ مصدرُ ختمتُ الشيءَ خَتْماً فهو مختومٌ ومُخْتَّمٌ، شُدّد للمبالغة، ومعناه التغطية على الشيء والاستيثاق منه، وقد يكون محسوساً كما في ختم الكتاب والباب، وقد يكون معنوياً كالختم على القلوب . . . "
والقلوب: جمع قلب، وهو القوة العاقلة التي هي محل الفهم والعلم.والسمع: مصدرُ سمِع. ويُطلق على الآلة التي يقع بها السمع.
ولما كان الختم يمنع من أن يدخل في المختوم عليه شيء، استُعير لإحداث هيئةٍ في القلب والسمع تمنع من خلوص الحقّ إليهما.
الأبصار: جمع بصر، وهو في الأصل الإدراك بالعين،
ويُطلق على القوة التي يقع بها الإبصار، وعلى العين نفسها، وهو الأنسب لأن تجعل عليه غشاوة. ومفاد الآية أن تصير أبصارُهم بحيث لا تهتدي إلى النظر في حكمة المخلوقات وعجائب المصنوعات . باعتبارٍ وتدبُّرٍ وحتّى لكأنّما جُعلت عليها غِشاوة .
والغشاوة: ما يغطّى به الشيء، من غشّاه إذا غطّاه. يقال: غشيه غِشاوةً وغشايةً " أيضاً " مثلثة " بفتح الغين ونصبها ورفعها " ـ : أي : ستره وغطّاه.
فهذه الآية الكريمة تفيد عن طريق الاستعارة، أو التمثيل أنّ هناك حواجزَ حصينةً، وأقفالاً متينةً قد ضُربت على قلوبهم وعلى أسماعهم، وغِشاواتٍ مُطْبِقةٌ على أبصارهم حتى أصبحوا لا يخيفهم نذير ولا يُرغّبُهم بشير.
وعبر في جانب القلب والسمع بالختم، وفي جانب البصر بالغشاوة، لمعنًى سامٍ، وحكمةٍ رائعةٍ، ذلك أنّ آفةَ البصر معروفة، إذ غشاوةُ العين معروفةٌ لنا، فالتعبير في جانب العين بالغشاوة مما يحدّد لنا مدى عجزِهم عن إدراك آيات الله بتلك الجارحة، وأمّا القلب والسمع فإنهما لما كانا لا تدرك آفتهما إلا بصعوبة، فقد صوّر لنا موانعَهما عن الاستجابة للحق بصورة الخَتم.
وعبر في جانب القلب والسمع بجملة فعلية تفيد التجدّدَ والحدوث، وفي جانب البصر بجملة اسمية تفيد الثبات والاستقرار.
وجمع القلوب والأبصار وأفرد السمع، لأن القلوب تختلف باختلاف مقدار ما تفهمه مما يلقى إليها من إنذار أو تبشير، ومن حُجّةٍ أو دليل، فكان عن ذلك تعدّد القلوب بتعدد الناس على حسب استعدادهم، وكذلك شأنُ الناس فيما تنظره أبصارُهم من آيات الله في كونه، فإن أنظارَهم تختلف في عمق تدبُّرِها وضُحُولتِه، فكان من ذلك تعدّد المبصرين بتعدّد مقادير ما يستطيعون تدبُّره من آيات الله في الآفاق.
وأما المسموع فهو بالنسبة للناس جميعاً شيءٌ واحدٌ هي الحجّة يُناديهم بها المرسلون، والدليلُ يُوضحُه لهم النبيّون .
لذلك كان الناس جميعاً كأنهم على سمع واحد، فكان إفراد السمع إيذاناً من الله بأن حُجّتَه واحدةٌ ، ودليلَه واحدٌ لا يتعدّد.
ونرى القرآنَ هنا قدّم القلب في الذِكر على السمعِ، بينما في سورة الجاثية قدّم السمعَ في الذكر على القلب فقال: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ الله على عِلْمٍ وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ}ذلك لأنّه ـ سبحانه ـ في سورة الجاثية قد ذكر الخَتم معطوفاً على قوله " اتخذ إله هواه، ومن اتخذ إله هواه يكون أول ما يبدو منه للناس ويعرف هو إعراضُه عن النُصح، ولَيُّ رأسِه عن استماع الحُجَّةِ، فكان مظهرُ عدمِ السماعِ منه أوّلَ ما يبدو للناظرين، فلذلك قدّم السمعَ على القلبِ والله أعلم.
وأما آيتنا هذه وهي قوله ـ تعالى ـ {خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ} فقد جاءت إثر الآية المختومة بقوله {لاَ يُؤْمِنُونَ}.والإيمان تصديقٌ يقوم على الحُجّة والبراهين، وإدراكُ الحُجّة والبرهان إنما هو بالقلب، فكان التعليلُ المتّصلُ الواضح لنفي الإيمان، أنّ قلوبَهم مغلقةٌ لا تَنفَذُ إليها الحُجّةُ، أولا يتسرب إليها نور البرهان. لذلك قدّم القلبَ على السمع.
هذا وقوله ـ تعالى ـ {خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ .. إلخ} لا ينفى عنهم تَبِعَةَ الكفر، لأنّهم هم الذين باشروا من فاسِدِ الأعمال، وذميمِ الخصال ، ومتابعةِ الهوى، ما نسج على قلوبهم الأغلفة السميكة، وأصمّ آذانهم وأعمى أبصارهم، {وَمَا ظَلَمَهُمُ الله ولكن أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.
ثم بين ـ سبحانه ـ ما يستحقّونه من عذاب بسبب كفرهم وحبّهم للمعاصي فقال: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ}.
أي: ولهم بسبب سوء أعمالهم عذاب موجع مؤلم لأبدانهم وأجسامهم.
وأصلُ العذابِ: المنعُ، يقال: عَذَبَ الفرسُ، إذا امتنع عن العلف. وعذب الرجل إذا ترك المأكل والنوم، فهو عاذبٌ وعَذوبٌ. ثم أُطلق على الإيجاع الشديد لما فيه من المنع عن اقتراف الذنب.
والعظيمُ:الكبير، من عَظُمَ الشيءُ، وأصلُه كبُر عظمُه، ثم استُعير لكل كبيرٍ، محسوساً كان أو معقولاً.
ووُصِفَ العذابُ بالعظيمِ على معنى أنّ سائرَ ما يجانسه من العذاب يكون بالنسبة إليه حقيراً هنيئاً.
وقد ذكروا في هاتين الآيتين من ضروب الفصاحة أنواعاً.
الأول: الخطابُ العامُّ اللفظِ، الخاصُّ المعنى.
الثاني: الاستفهامُ الذي يُراد به تقريرَ المعنى في النفس. أي : يتقرّرُ أنّ الإنذارَ وعدمَه سواءٌ عندهم.
الثالث: المجازُ ويُسمّى الاستعارةُ، وهو في قوله ـ تعالى ـ {خَتَمَ اللهُ على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ} وحقيقةُ الختم وضعُ محسوسٍ يُحدث بينهما رَقْمٌ يكونُ علامةً للخاتَمِ ، والختمُ هنا معنويٌّ؛ فإن القلب لمّا لم يقبل الحقَّ مع ظهوره استُعير اسمُ المختوم عليه، فبيّن أنّه من مَجازُ الاستعارة.
الرابع: الحذفُ وهو في مواضعٍ منها{إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ..} أي: القوم الذين كفروا بالله وبك وبما جئت به، {لاَ يُؤْمِنُونَ} أي باللهِ وبما أخبرتَهم به عنه.
وإلى هنا يكون القرآن قد حدّثنا عن طائفتين من الناس: طائفةِ المتّقينَ وما لها من جميل الصفات، وجزيل الثواب، وطائفةِ الكافرين وما لها من ذميم النُعوت، وشديدِ العقاب.
__________________
أنا روحٌ تضمّ الكونَ حبّاً
وتُطلقه فيزدهر الوجودُ
عبد القادر الأسود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 05-19-2013
  #2
فراج يعقوب
عضو شرف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 1,269
معدل تقييم المستوى: 16
فراج يعقوب is on a distinguished road
افتراضي رد: تفسير سورة البقرة (1 ـ 7 )

جزاك الله خيرا وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم
__________________
اللهم صل على سيدنا محمد صاحب الكوثر صلاة لاتعد ولاتكيف ولاتحصر ننال بها الرضوان الأكبر وجواره يوم المحشر وعلى آله وسلم
فراج يعقوب غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
سورة البقرة عبدالقادر حمود المواضيع الاسلامية 1 09-27-2013 03:52 PM
تفسير الذكر الحكيم: (سورة الفاتحة) عبد القادر الأسود المواضيع الاسلامية 1 05-19-2013 06:13 PM
تفسير سورة القدر ...تفسيرابن عجيبة رضي الله عنه فراج يعقوب المواضيع الاسلامية 2 09-06-2012 12:29 AM
تفسير سورة القدر ...تفسير الجيلاني رضي الله عنه فراج يعقوب المواضيع الاسلامية 2 09-06-2012 12:28 AM
اية 63 سورة هود تفسير روح البيان عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 14 12-26-2011 10:43 AM


الساعة الآن 12:05 PM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir