لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ
قولُ ـ جلَّ وعَلا: {لأقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ} يخاطب فرعونُ السحرةَ مهدّداً متوعِّداً بأنهم سيقتلهم شرَّ قتلة ليكونوا عبرة وللآخرين وتخويفاً لهم وذلك بأن يَقطعَ من كُلِّ جانبٍ من أجسادِهم عُضْواً مُغايِراً للآخَرِ: يَدٌ مِنْ جانِبٍ ورِجلٌ مِنَ الجانب الآخر مبالغةً في عقوبتهم والتنكيلِ بهم، على ما فعلوه منْ تآمرِهم مَعَ مُوسى وهارون علي خِزْلانِه، ثمَّ السجودُ لإلاهِهما بدلاً من السجود له، وإعلانهم الإيمانَ بِربِّ موسى وهارون، والكفر به أمامَ الناسِ، تحريضاً لهم على أن يقتدوا بهم وأن يحذوا حَذْوهم، ولذلك فهو سيفعلُ ذلك بالسَحَرةِ أمامَ الناسِ وعلى مرأى من أعينهم رَدْعاً لهم وتخويفاً. قال السُدّيُ: فَقَتَلَهُمْ وَقَطَّعَهُمْ كَمَا قَالَ.
قولُه: {ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} يقولُ الله تعالى حاكياً لنا وعيدَ فِرعونَ، بأنَّهُ لَنْ يَكْتَفيَ بِقَطعِ أَيديهم وأَرْجلِهم مِنْ خِلافٍ أمامَ أعيُنِ الناس، بَلْ سَيُصَلِّبَنَّهم أيضاً إلى جُذوعِ الأَشْجارِ أوْ ما شابَهَ، ويَتْرُكَهُم
كذلك حتى يموتون، تخويفاً للناسِ وإرعاباً وزجراً.
قالَ ابْنُ عبّاسٍ ـ رضيَ اللهُ عنهما: وكان فرعونُ أَوَّلَ مَنْ صَلَبَ، وأَوَّلَ مَنْ قَطَعَ الأَيْدي والأَرْجُلَ مِنْ خِلافٍ. والتَصليبُ مأخوذٌ مِنَ الصَلْبِ، وهو الشَدُّ على خَشَبَةٍ أوْ غيرِها. وشاعَ في تَعليقِ الشَخْصِ بِنَحْوِ حَبْلٍ في عُنُقِهِ لِيَموتَ، وهو المُتعارَفُ عليه.
وجاءَ في بعضِ الكُتِبِ أنَّ الصَلْبَ الذي عَنَاهُ الجَبَّارُ (فرعونُ) هو شَدُّ الشخصِ مِنْ تحتِ الإبْطَيْنِ وتعليقِهِ حتى يَهْلِكَ، وهو كَقَطْعِ الأَيْدي والأَرْجُلِ، وأَوَّلُ مَنْ سَنَّهُ فِرْعونُ، بحسبِ ما أَخرجَهُ ابْنُ المُنْذِرِ وغيرُهُ عنِ ابْنِ عبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عنهما.
وقد شَرَعَ اللهُ تعالى هذه العقوبةَ لِقُطَّاعِ الطَّريقِ، لِعِظَمِ جُرْمِهم، ولهذا سماه ـ سبحانَهُ ـ محارَبَةً للهِ ولِرَسُولِهِ فقال في سورة المائدة: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} الآية: 33.
قولُهُ تعالى: {مِنْ خلافٍ} الجارُّ في مِوْضِعِ الحالِ، أيْ مختلفةً، والقولُ بأنَّ "من" تَعليليَّةٌ متعلِّقةٌ بالفعل، أيْ لأجلِ خِلافِكم، بعيدٌ وليس بشيءٍ.
وقيل كذلك بأنَّ "مِنْ" ابتدائيةٌ لِبيانِ مَوْضِعِ القَطْعِ بالنِسبةِ إلى العُضوِ الثاني، وقدْ تقدَّمَ بيانُ نظيرِها عندَ قوله تعالى: {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ} سورة المائدة، الآية: 33. فالمعنى: أَنَّهُ يَقْطَعُ مِنْ كلِّ ساحرٍ يَداً ورِجْلاً مُتخالِفَتَيْ الجِهَةِ غيرَ مُتقابِلَتَيْها، أيْ: إنْ قَطَعَ منه يَدَه اليُمنى قَطَعَ رِجْلَهُ اليُسرى والعَكْسِ، ولم يَقْطَعِ القوائمَ الأَرْبَعَ لأنَّ المقصودَ بقاءُ الشَخْصِ مُتَمَكِّناً مِنَ المَشْيِ مُتَوَكِّئاً على عُودٍ تحتَ اليَدِ مِنْ جِهَةِ الرِجْلِ المَقطوعةِ.
وقولُهُ: {ثُمَّ لأُصَلّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} ثُمَّ: على ارتقاءٌ في الوَعيدِ بالصَلْبِ، وعلى هذا يكون توعدهم بنوعين من العذاب، والوعيد موجه إلى جماعتهم فعلم أنه جعلهم فريقين: فريق يعذب بالقطع من خلاف، وفريق يعذب بالصلب والقتل، فعلى هذا ليس المعنى على أنه يصلبهم بعد أن يقطعهم، إذ لا فائدة في تقييد القطع بكونه من خلاف حينئذ، ويحتمل أنْ يُرادَ بالصَلْبِ: الصلبُ دونَ قَتْلٍ، فيكون أراد صلبهم بعد القطع ليجعلهم نكالا ينذر بهم الناس، كيلا يقدم أحد على عصيان أمره من بعد، فتكون "ثُمَّ" دالَّةً على الترتيب والمهلة، ولعلَّ المِهلةَ قُصِدَ مِنْها مُدَّةٌ كي يندملَ مَوْضِعُ القَطْعِ، وهذا هو المناسب لظاهرِ قولِهِ "أَجْمَعِينَ" المُفيدُ أَنَّ الصَلْبَ يَنالهم كُلَّهم.