بَابٌ في ذِكر اِسْمِه أَحمد وشرّفَ وكرم
أحمد: اسم من أسمائه عليه أفضل الصّلاة والسّلام، وردت به الآياتُ القرآنية، والأحاديثُ النبوية، وإجماع الأمة المحمّدية.
أما الآيات، فقد قال الله العظيم في كتابه العزيز: {وَمَبَشّراً بِرَسُولٍ يَأتي مِن بَعْدِيَ اسْمُهُ أَحْمَدُ} (الصّف:6)
وأجمعتِ الأُمَّةُ المحمديّة على أنّ المرادَ بهذه البُشرى هو سيِّدُ الخلق، وحبيبُ الحَقّ، رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما الأحاديثُ، فقد قدّمنا قبلُ في اسم محمد ــــ صلى الله عليه وسلم ــــ قال: «لي خمسةِ أسماء...» فذكر منها محمّداً ثم أحمد.
ورُوِي عن كعب ــــ رضي الله عنه ــــ أنّ الحواريّينَ قالوا لعيسى عليه السّلام: يا رُوحَ الله هل بعدنا مِن أمّة؟ قال: نعم، أمّةُ محمّد، حكماء، أبرارٌ، أتقياء، كأنهم من الفِقه أنبياء، يرضون من الله باليسير من الرزق، ويرضى الله عنهم باليَسير من العمَل، ثم قال: يأتي مِن بعدي رسولٌ اسمُه أحمد.
وقد ورد أنّ اسمه في السّماء أحمد، وفي الأَرض محمد، وفي البحار الماحي، وفي القيامة الحاشِر، وفي الجنّة النّاسخ، وفي النّار العاقب ــــ صلى الله عليه وسلم ــــ.
وأحمد مشتق من الحَمد، وهو أَفْعَل، مبالغة من الحمد. وقد قدّمنا أن محمداً «مُفَعّل» مبالغة من الحمد فهو صلى الله عليه وسلم، أجلُّ من حَمِد وأعظم من حُمِد، فهو أحمدُ المحمودين، وأحمد الحامدين؛ ولذا أعطاه ربُّه لواءَ الحمدِ يومَ القيامة، حتّى يُتِمَّ له كمالَ الحمد، ويشتهر في عَرصَات يومِ القيامة بصفةِ الحمد ــــ ولذا يبعثه الله يوم القيامة مَقاماً محموداً، كما وعده ربه سبحانه بقوله: {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمَوداً} (الإسراء: 79) ، يَحْمَدُه فيه الأَوّلون والآخرون، وسمَّى الله أمّتَه الحَامِدين لله على كل حال.
ومنه سبحانه أن يتسمّى بهذا الاسمِ الكريمِ أحدٌ من خلق الله. بل شقّه له من اسمهِ تَعظيماً لِقَدْرِه، وزيادةً في عُلوّ مَنْصِبه، وفي هذا الاسم الكريم غرائبُ وعجائبُ كما تقدّم بعضها في اسمه محمد ــــ صلى الله عليه وسلم ــــ؛ ممّا يدلُّ على اعتناء الرُّبوبيّة بجاهه، وكمال وجاهته عند ربّه، ولذا سمّاه بأحمد في أهلِ سَمائه، وعند أهل حضرته. وسِرُّه، ــــ والله أعلمُ بغيبه ــــ، أنّ ملائكة الله سبحانه هم عُمّار السموات كلِّها، فَما فيها موضعُ شيرٍ إلاّ وفيه ملك لله ساجد أو راكع، ليس لهم أكل إلاّ ذكره، وليس لهم شراب إلاّ حُبّه، وليسَ لهم مخالفةٌ ولا عصيان، بل طاعة وانقيادٌ للملك الرحمن؛ جمع الله فيهم أذكار أوليائه، وتسبيحَهُم ودعاءَهُم، وعبادتهم قبولاً وفعلاً، وجَمعهم عليه فلا يَرَوْنَ إلاّ هو، ولا يَفْتُرون عن ذِكره، كَيْفَ وقد صَيّرهم مولاهم له أهلاً.
ولمّا أراد الله سبحانه أَنْ يُظْهِر لعرائسِ مملكته، ولخاصّة أَوليائه من قُدسيَّةِ نُور سِرّهِ الأَوّل، وإنسانِ عينهم الكامل المكّمل، وهو النبيُّ المصطفى الطاهر الأَمجد، سمّاه في أَهل السّموات باسمه (أحمد)؛ إظهاراً لمنزلته عند ربه، وعُلوِّ رفعته عند خالقه، فكأنّه يقول لأهل حضرته: لئن ظفرتم بالغُنم في تنزيهي وتقديسي وذكري، فلقد زاد على حمدكم حبيبي أحمدُ الّذي بالغ في حَمدي وشُكري، وفوّض أمره لأَمري فهو أفضلُ مَنْ خَلقْتُ ومَنَنْتُ عَليه بجميعِ مَحامِدي، وأَعظم من رَزقْتُه وصَيرَّتُه إكسيرَ مَحامِدي؛ فالواجبُ عليكم يا ملائكتي التسليمُ لعين نظرتي، وإظهار فضائل مَنْ أَوْدَعْتُ عندَه أَسرار شريعتي؛ فإنْ كنتم قد بالَغْتُم في طاعتي وسارَعْتُم إلى كريم خِدمتي، فخدمةُ هذا النبيّ الكريم صاحبِ الخُلُق العظيم، لم ينلها موجودٌ من أَهل الصّدق والكرامة، ولا اتَّصف بها أحدٌ من أهل الوَفاء والسّلامة إلى يوم القيامة." اهـ
"(21أ) فلو تقربت خواصُّ العباد، من الملائكة والأنبياء والزهّاد، بسجدةٍ أو ركعةٍ أو تلاوةٍ أو صلاةٍ، لكانت سجدةُ النبيّ الكريم، أو ركعة صاحب الخلق العظيم، أو تلاوة الرّسول العليم، تزيدُ على سجدة جميع العالمين أو ركعة المخلوق أجمعين من أهل السموات والأرضين؛ لِتَمامِ فضلِه عند أَحكم الحاكمين، وعُلّو قدره عند أرحم الراحمين.
وإنّما بشّر عيسى ــــ عليه أفضلُ الصلاة والسلام ــــ الخلائقَ به ــــ عليه السلام ــــ وسمّاه باسمِ أَحمد الّذي اشتهر به اسمُه عند أَهل السّموات وخصّه به ربّه عند سائر المخلوقات، إشارةً ــــ والله أعلمُ ــــ إلى أنّ عيسى عليه الصلاة والسلام، لمّا سأَله الحواريُّون ــــ كما تقدّم ــــ وقالوا له: يا روح الله هل بعدنا من أُمّة؟.
فأجاب بقوله: نعم أمّة محمّد، حكماء أبرار علماء أَتقياء ــــ كما ذكرنا ــــ.
فالّذين بعثَ الله فيهم مَن اسمه أحمدُ في أهل السّماء، فلا أفضلَ منهم عند ربِّ العرش، لفضلِ نبيّهم، ولا أقربَ منهم عند الله لقُرب حبيبهم؛ وما ذاك إلاّ أنّهم قد مَيّزوا بين الخالق والمخلوق، واعترفوا بأَنَّ الله سبحانه إلٰهٌ واحد لا شبيهَ له ولا نظير، وأنه رازق غير مرزوق؛ فكأنّه يقول لهم: يا معشَر الحواريّين إيّاكم أن تَعْتَقِدُوا في نبيَ من أنبياءِ الله أو رسولٍ من رسل الله كما اعتقدت النّصارى في عيسى، إنما أنا عبدُ الله ورسولُه، وكلمتُه وابنُ أَمَته؛ خَلْقٌ مِن خَلْقِه خَلقني سُبحانه من غير أبٍ بِقُدرته، وخلقَ أمّي وجَعلها صِدِّيقةً، تأكلُ الطّعام، وتمشي في الأَسواقِ، وصيَّرني بِقُدرته؛ لا نتحرّكُ إلاّ بإذنه.
يا معشرَ الحواريّين هذا اعتقادُ أمّةِ محمّد في سائر أَنبياء اللَّهِ أجمعين، وكذا يعتقدون في نبيّهم، مع علمهم أنه أجلُّ الحامدين، وأحمد المحمودين.
فأمَّة محمّد علماء؛ علموا ما يجب لله سبحانه، وما يَستحيل عليه، وما يجوزُ في فِعله، وعلموا ما يجبُ لنبيّه من العبوديّة، وما يستحيل عليه من الاتّصاف بصفةِ الرُّبوبيّة.
أمّةُ محمّد فقهاءُ عُلَمَاء بما يجبُ للأنبياء من كمال (21ب) العصمة وأَنَّهُم لا يعصُون؛ أبرارٌ تحققّوا أنّ أنبياء الله ورسلَه يفعلون ما يُؤمَرون، وبهذا أنطق الله تعالى الأَولياءَ من هذه الأُمّة الوارثين للأنبياء، الآخذينَ عن الأصفياء بلسان الحكمة وبيانِ ما يجب من الاعتقاد في سائر الأمّة، حتّى قال صاحب البُردة كلاماً جارياً على وفق العُقول والسُّنّة: ." اهـ
دَعْ ما ادَّعَتْهُ النّصارى في نبيّهم=واحكمْ بما شئت مَدْحاً فيهِ واحتكمِ
وانسُبْ إلى ذاتِهِ ما شئتَ من شَرفٍ=وانسُبْ إلى قَدْرِه ما شئتَ من عِظَمِ
فإنّ فضلَ رسول الله ليسَ لهُ=حَدُّ فيُعرِبَ عنهُ ناطقٌ بِفَمِ
(يتبع إن شاء الله تعالى ... )