أنت غير مسجل في منتدى الإحسان . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ، والعجز والكسل ،والبخل والجبن وضلع الدين وغلبة الرجال           

رسائل ووصايا في التزكية كلّ ما يختص بعلوم السلوك وآداب القوم وتزكية النفس والتصوف الإسلامي

إضافة رد
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع
قديم 04-02-2011
  #1
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,217
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
4 صيقل الإسلام


كليات رسائل النور
8
صيقل الإسلام

تأليف
بديع الزمان سعيد النّورسي

ترجمة
إحسان قاسم الصالحي

صيقل الإسلام - ص: 5
هذه المجموعة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه.
بعد ان اكرمنا المولى الكريم بعميم فضله وجميل توفيقه على اكمال ترجمة "كليات رسائل النور" ونشرها في سبعة مجلدات، آثرت ان اعرج على مؤلفات الاستاذ النورسي القــديمة التي الّفــها في عهد "سعيد القديم" اي قبل شروعه بتأليف رسائل النور سنة 1927 . وذلك لان لهذه الرسائل "القديمة" اهميتها التأريخية من جهة، وقيمتها الفكرية من جهة اخرى، مثلما نبّه اليها الاستاذ المؤلف نفسه في مواضع كثيرة من مكاتيبه التي ارسلها الى طلاب النور. حتى انه ادمج قسماً من هذه الرسائل ضمن موضوعات وفصول تاريخ حياته "سيرة ذاتية" بل اشار الى طلابه القيام بنشر قسم منها على صورة كتيبات مستقلة وذلك بعد إعادة النظر فيها وقراءتها بانعام في ضوء موازين رسائل النور وقواعدها واسسها، فاجرى تصحيحات دقيقة في الرسائل التي تمس الحياة الاجتماعية والسياسية مستخرجاً منها فقرات ومقراً اخرى ومضيفاً اليها جملاً وحاذفاً اخرى، علاوة على وضع هوامش في كثير من المواضع لتوضيح ما غمض واستجلاء ما استتر من المعاني. بمعنى انه نقّح هذه الرسائل تنقيحاً دقيقاً وشذبها تشذيباً كاملاً حتى جعلها جاهزة للنشر يستفيد منها العلماء وعامة الناس ايضاَ.
ونحن بدورنا جعلنا تلك النسخ المصححة المنقحة هي المعول عليها في اثناء ترجمة التركية منها الى العربية، او في تحقيق العربية منها .
فـلله الحمد والمنة اولاً وآخرًا.
وتضم هذه المجموعة الرسائل الآتية:


صيقل الإسلام - ص: 6
1- محاكمات عقلية في التفسير والبلاغة والعقيدة :وهي المسماة بـ "صيقل الاسلام" او"رجتة العلماء".2- قزل ايجاز :
حاشية الاستاذ النورسي على "السلم المنورق "المنظوم لشيخ الاسلام عبدالرحمن الاخضري (983هـ) في علم المنطق ،مع شرح الملا عبد المجيد .3 - تعليقات على برهان الكلنبوي :
وهي رسالة في علم المنطق ايضاً عبارة عن تعليقات وتقريرات الاستاذ النورسي على كتاب "البرهان" للعالم المحقق اسماعيل بن مصطفى الكلنبوى (1205هـ).
وهاتان الرسالتان - في علم المنطق - ألفهما الاستاذ النورسي باللغة العربية. ولم أجر فيهما غير التنسيق والتنظيم على أمل ان يهئ المولى القدير من يتناولهما بالشرح والتوضيح ليعمّ النفع. والرسائل الثلاث رسائل علمية تخاطب العلماء وربما الخواص منهم.
اما بقية الرسائل فالطابع الغالب عليها انها رسائل تسلط الاضواء على الاوضاع الاجتماعية والسياسية في فترة ما قبل الحرب العالمية الاولى، اي انها الفت والدولة العثمانية تعاني ما تعانى فى ايامها الاخيرة، وقد دبت فيها امراض شتى وعلل متنوعة، لذا فهي تداوى تلك الامراض وتقدم الحلول الوافية والعلاجات الشافية لها، وفي الوقت نفسه تضمد الجروح الغائرة التي اصيبت بها الامة الاسلامية جمعاء وتضع البلسم الشافي عليها باسلم وسيلة.
بمعنى ان هذه الرسائل ليست رسائل قديمة قد عفا عليها الزمن، بل تنطوي على دروس اجتماعية وموازين سياسية تنبض بالجدة وتتدفق طراوة ونداوة حيث انها حقائق ثابتة.
والرسائل هي:4- السانحات.
5- المناظرات.


صيقل الإسلام - ص: 7
6- المحكمة العسكرية العرفية:وهي دفاع الاستاذ النورسي امام المحكمــة العسكرية العرفيــة في عهد الاتحاديين، والمسماة بـ "شهادة مَدْرَسَتَيْ المصيبة" اذ عندما طالب الاستاذ اصلاح التعليم وتأسيس جامعة في شرقي الاناضول باسم مدرسة الزهراء القي في مستشفى المجاذيب،وبعده اقتيد الى المحكمة العسكرية بتهمة مطالبته بعودة الشريعة. حيث قال له رئيس المحكمة خورشيد باشا وهو يشير الى الجثث المعلقة على اعواد المشانق:
- وانت ايضاً تطالب بالشريعة!!
وهكذا يعدّ الاستاذ النورسي مستشفى المجاذيب مدرسة مصيبة اولى والسجن مدرسة مصيبة ثانية.7- الخطبة الشامية.
8- الخطوات الست.وقد قدمت عملي ترجمةً وتحقيقاً في مستهل كل رسالة من الرسائل الثمان لهذه المجموعة مع بيان اهمية الرسالة وسبب تاليفها.
ثم ان هذه المجموعة لا تضم مؤلفات سعيد القديم جميعها، بل هناك رسائل اخرى نشرت وقت تأليفها، الا ان المؤلف لم ينشرها في عهد سعيد الجديد. او لم يرَ داعياً الى نشرها، ربما لاندراج كثير من مفاهيمها ضمن رسائل اخرى وهي: "طلوعات، اشارات، نطق، رموز..." علماً ان قسماًً آخر من مؤلفات سعيد القديم قد نشر مستقلاً مثل: "اشارات الاعجاز في مظان الايجاز" و"المثنوي العربي النوري" وكذا "اللوامع" التي نشرت ملحقة بمجموعة "الكلمات".
وقد ارتأينا ان نستعير اسم إحدى رسائل هذه المجموعة وهو "صيقل الإسلام" عنواناً لكامل هذه المجموعة.
والله نسأل ان يوفقنا الى حسن القصد وصحة الفهم وصواب القول وسداد العمل.
وصلّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
احسان قاسم الصالحي


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 9
محاكمات

في التفسير والبلاغة والعقيدة
أو
صيقـل الاسلام
"رجتة العلماء"

وصفة طبية: لعصر مريض، وعنصر عليل، وعضو سقيم

تأليف
بديع الزمان سعيد النورسي
ترجمة وتحقيق
احسان قاسم الصالحي


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 11
تقديم
العالم الفاضل الاستاذ الدكتور
عبدالملك السعدى
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرشدين، وعلى آله واصحابه الهداة المهديين.
وبعد، فالامام النورسي أشهر من أن يُعرّف به؛ اذ قد تجسد في ذاته جميع ما اطلق عليه من الفاظ، فهو سعيد اسماً ومعنى، وبديع زمانه جهاداً وتضحية، ونور شعَّ في ظروف تركية اسلامياً هي بامس الحاجة الى انوار عقليته الجبارة وتوجيهاته السديدة.
فقد عرفتُ النورسي من خلال ثروته العلمية عالماً نابغاً، ومرشداً مبصّراً، وواعظاً مؤثراً، ومجاهداً مثابراً، وصابراً على المكاره جليداً، ومؤلفاً بارعاً .
كيف لا.. وهو الذي افنى حياته بين سجن وإبعاد، وايامه بين ضغط واضطهاد.
وهو الذي زين خزانات العلم بمؤلفاته ورسائله.
لقد ظهر النورسي في ظروف وكأنها تنتظره لإصلاح ما فسد بها واعلاء ما انخفض فيها.
وما هو وجهادهُ إلا لمحة من لمحات
(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) ونبأٌ من انباء خلود الرسالة المحمدية في ارض الله.
فقد ظهر في عصر رفع الكفر رأسه فيه، واشرأبت اعناق التضليل لتطل بنظراتها المسمومة على دولة لها عراقتها في الحضارة الاسلامية ولها دورها الفعال في تدعيم ركائز العقيدة في بلاد الاناضول.
فقد وقف وقفة الشجاع الصامد، والهزبر الجسور امام ائمة العلمانية ودعاتها فألقم بحججه وكتابته ومناظراته حجراً للأفواه النتنة المتمشدقة بالطعن بالاسلام ولغة القرآن واتهمتها بالرجعية والتخلف.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 12
فالامام سنّ في تركيا المسلمة سنة حسنة له اجرُها واجر مَن عمل بها الى يوم القيامة؛ اذ قابل الشر بالخير، وعالج الفكر بالفكر، فدعوته كانت وما زالت بعده تغرس العقيدة في نفس الشعب التركي وتحفّّز همته وتوقد جذوة الايمان في قلبه كلما اراد اهل الشر اطفاءها.
ولم تكن حركة هذا الامام مقصورة على الشعب التركي المسلم فحسب بل انتشرت الى العالم وذاع صيتُها وخرجت الى ارجاء العالم تحمل بين يديها الامل والبشرى للمؤمنين وايقنوا ان شعباً تخلد فيه حركة كحركة النورسي حريّ به ان تحقق اهدافه في مواصلة الدرب الذي وضعهم الامام عليه .
فقد حصل لهذا الرائد الكبير والمصلح الملهم اتباع يحملون ذلك المشعل الذي اوقده بايديهم داخل تركية وخارجها ليواصلوا المسيرة حتى يرفعوا راية الاسلام على ربوع بلاد الفاتح.
وقد قيّض الله لنشر مؤلفاته وترجمتها رجالاً مخلصين لربهم ولدينهم ولعقيدتهم، ومن بين هؤلاء الرجال الاخ الماجد الاستاذ احسان قاسم الصالحي اذ قد ترجم له العديد من مؤلفاته الى العربية وملأ بها اسواق العراق وخزانات العلماء، فجزاه الله خيراً عن المؤلف وعن المسلمين وبارك له في جهوده.
والاستاذ الصالحي هو الذي عرض عليّ ان اُشرّف ناظري في كتاب من كتب هذا الداعية الكبير، واكحّل اجفاني بما انطوى عليه من حِكمٍ جمة ومعرفة واسعة وعلم غزير.ذلك الكتاب هو "محاكمات عقلية".
وبعد ان تصفحتُ صفحاته وقلبت طرف الطَرْف في سطوره وجنباته واطلعت على كنوز ذخائره وخزانته: وجدته كتاباً قد احتوى على معلومات لها وزنها لدى اهل العلم والمعرفة ولها قيمتها عند اهل الفضل والعرفان. إلا اني وجدت الشيخ رحمه الله قد تأثر في اسلوبه ببلاغة بلغاء كالسكاكي والتفتازاني والجرجاني وغيرهم حيث كانت ظاهرة الغموض تضفو على اسلوبه. وعلامات التعقيد تظهر على عباراته مع انه قد اتجه اتجاهاً روحياً دقيقاً متحدياً كثيراً من اعداء العقيدة مقرناً تحدياته بالتوجيه والنصح والتحذير مما قد ينأى بعيداً بالقارئ عن عنوان الموضوع.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 13
لذا فان حكمي على الكتاب بانه: كتاب علمي رصين وليس كتاباً ثقافياً يسهل تناول ما فيه لكل من له خلفية اسلامية، بل يستفيد منه اهل التخصص بهذا الشأن وليس للعامة فيه نصيب.
ومع هذا فان المكتبة الاسلامية العربية بحاجة الى اخراجه من حيز العدم الى حيز الوجود ليتبوأ مكانته مع اخواته مصنفات المؤلف نفسها والمصنفات الاخرى التي املتها قرائح فطاحل هذه الأمة وافذاذها من رجال الفكر والتأليف.
فللأخوة القائمين بنشر تراث هذا الرجل العظيم مني كل اجلال وتقدير مع دعائي لهم بالتوفيق من العلي القدير.ولهذا الحبر من ابناء امة محمد صلى الله عليه وسلم الرحمة والرضوان من الرحمن الرحيم.واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه اجمعيند. عبد الملك عبد الرحمن السعديالعراق
- الرمادي - الجامع الكبير
تحريراً في 26/7/1410
23/3/1990م


عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-02-2011
  #2
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,217
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صقيل الإسلام


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 15
كلمة للقارئ الكريم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد:
لقد سمّى الاستاذ بديع الزمان سعيد النورسي مؤلَّفه هذا بـ"رجتة العلماء" أي الوصفة الطبية للعلماء. وذلك لما كان يشعر به ويلمسه من حاجة العلماء ولاسيما علماء عصره، الى تناول مثل هذه العلاجات التى يضمها الكتاب.
فكتب مؤلفه هذا باللغة التركية ثم ترجمها الى لغة العلم السائدة لدى اهل العلم وهي اللغة العربية. الاّ انه اجمل فيه ما فصّل هناك. حتى غدا النص العربي غامضاً مغلقاً - الا للعلماء - مما اضطر الى كتابة "تنبيه" في مستهل الترجمة العربية في طبعتها الاولى وكما مايأتي:
"وجب عليك ان لا تتعجل في مطالعتها وان تسأل اهل الذكر ان كنت لا تعلم، وعليك برفيقتها التركية فانها شرحت معمياتها وقربتها الى افواه افهام العوام".
وفي ختام التنبيه كرّر قوله:
"واسترفق رفيقة تركية القدِّ تفصّل ما اجمل، فعليك بالصحبة معها".
ونرى ايضاً ان الاستاذ النورسي عندما ضُمَّ الى عضوية دار الحكمة الاسلامية التابعة للمشيخة الاسلامية للدولة العثمانية، سجّل هذا الكتاب ضمن كتبه التركية في سجل الدار المذكورة.
بمعنى ان الكتاب قد ألّف اصلاً باللغة التركية ثم لخّصه المؤلف نفسه في عبارات مجملة جداً باللغة العربية.
اخلص من هذا ان السبب الذي دعاني الى ترجمة الكتاب وتحقيقه وعدم الاكتفاء بترجمة المؤلّف العربية هو الغموض الشديد في النص العربي الى حد استعصاء الفهم - الاّ للعلماء - بينما المؤلف التركي يستفيد منه العلماء وكثير من المهتمين والمثقفين.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 16
والسبب الآخر والاهم الذي دعاني الى القيام بالترجمة والتحقيق هو انني لما اكرمني المولى القدير بتحقيق آثار الاستاذ النورسي العربية "المثنوي العربي النوري" ثم "اشارات الاعجاز" و "الخطبة الشامية" رأيت انه من الواجب عليّ تقديم هذا الكتاب للقارئ الكريم باسلوب مفهوم حيث المؤلف عدّه مقدمةً لتفسيره الجليل "اشارات الاعجاز في مظان الايجاز". فـلله الحمد والمنة على توفيقه الكريم وله الفضل اولاً وآخراً.
والكتاب بحد ذاته يحوز اهمية بالغة للمهتمين بالفكر الاسلامي والعلوم الاسلامية اذ يبرز ما كان يدور في اذهان العلماء وكتب التفاسير المتداولة في ذلك العصر - اواخر الدولة العثمانية - فضلاً عن ان الموازين والقواعد التي وضعها المؤلف لتقويم المفاهيم الغريبة والدخيلة في كتب متداولة لدى العلماء، ماتزال تحتفظ تلك الوازين بجدتها وحيويتها وحقيقتها، ولعل هذا هوالسبب الذي ادّى الى تسمية الكتاب بـ "محاكمات عقلية اوصيقل الاسلام" املاً من المؤلف ان يشحذ به سيف الاسلام ويجليه من ادران وصدأ.
كان نهجي في الترجمة والتحقيق الآتي:
اولاً: ترجمة النص التركي المطبوع في دار سوزلر للنشر باستانبول سنة 1977م مع الاعتماد على نسخة من الطبعة الاولى "مطبوعة سنة 1327- 1911م بمطبعة "ابو الضياء باستانبول" وعلى هذه النسخة تصحيحات المؤلف نفسه. تفضّل بها عليّ الاخوة العاملون في دار سوزلر، جزاهم الله خيراً.
ثانياً: مقابلة الترجمة بعد الانتهاء منها بترجمة المؤلف الموجزة بطبعتها الاولى المنشورة تحت اسم "رجتة العلماء". وبطبعتها الثانية المنشورة ضمن كتاب "الصيقل الاسلامي" بمطبعة النور بانقرة سنة 1958م.
ثالثاً: اقتباس بعض عبارات المؤلف العربية من ترجمته.
رابعاً: ضبط الآيات الكريمة وبيان مواضعها من السور.
خامساً: تخريج الاحاديث الشريفة بمعاونة الاخ الكريم فلاح عبد الرحمن.
سادساً: كتابة هوامش لشرح بعض الاصطلاحات العلمية الواردة في الكتاب.
سابعاً: وضع تراجم مختصرة في الهوامش لعدد من الاعلام التي وردت


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 17
في الكتاب ولمؤلفاتهم ممن لم ينالوا حظاً من الشهرة عند القارئ مع اغفال المشاهير المعروفين عندهم.
وبعد ان تم العمل بفضل الله وددت ان لو قام احد العلماء الافاضل بمراجعة ما قمت به من تحقيق وترجمة. علّه يرشدني الى ما فيه الاصوب. فشاء الله ان يكون ذلك العالم هو الشيخ الجليل والعالم المبجّل والاستاذ القدير الدكتور عبد الملك السعدي فما ان عرضت عليه الفكرة حتى رحب بها وقبلها بتواضع جم. فقرأ الكتاب قراءة عالم مدقق ونبّهني على نقاط قد غفلت عنها ووضع هوامش ذيّلتها باسمه. ثم كلل جهدي بمقدمة قيّمة نافعة باذن الله فجزاه الله عنا خير جزاء.
والله نسال ان يوفقنا الى حسن القصد وصحة الفهم وصواب القول وسداد العمل وصلّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
احسان قاسم الصالحي


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 19
محاكمات

في التفسير والبلاغة والعقيدة
أو
صيقـل الاسلام
"رجتة العلماء"

وصفة طبية: لعصر مريض، وعنصر عليل، وعضو سقيم

تألبف
بديع الزمان سعيد النورسي

ترجمة وتحقيق
احسان قاسم الصالحي


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 21
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وبالله التوفيق
التحيات للحاكم الحكيم الرحمن الذي لم يزل.. الذي فضلنا بالاسلام، وهدانا الى الصراط المستقيم بشريعته الغراء، تلك التي صدّق العقل والنقل معاً حقائقها الثابتة، الراسخة في ارض الحقيقة اصولها، المنتشرة في سماء الكمالات فروعها، الحاملة بسعادة الدارين ثمارها.
والذي ارشدنا الى الحق المبين، بقرآنه المعجز البيان: الذي بيّن بقواعده - من كتاب العالم - قوانين الله العميقة الجارية بيد القدر، المسطّرة بقلم الحكمة على صفحة الوجود، فيحقق باحكامه العادلة رقي البشرية وسمو نظامها ودقة اتزانها، فاصبح حقاً مرشداً وهادياً الى سواء السبيل.
والصلاة الدائمة على سيد الكونين وفخر العالمين الذي: يشهد لرسالته ويدل على معجزاته ويدعو الى ما أتى به من خزينة الغيب من كنز عظيم: العالم بانواعه واجناسه، حتى لكأن كل نوع يرحّب بمقدمه بلسانه الخاص، كما يستنطق سلطان الازل أوتار الارض والسموات، فينشد كل وتر بلسان نغمات معجزاته، فيرنّ ذلك الصدى الجميل الى الأبد ما دامت هذه القبة الزرقاء.
فالسماء تبارك رسالته، بألسنة معراجها وملائكتها وقمرها.
والارض تفخر بمعجزاته، بألسنة حجرها وشجرها وحيوانها.
وجو الفضاء يبشر بنبوته،بجنّه، ويظللها ويحميها بسحائبه.
والماضي يبشر بالفجر الصادق لذلك السراج المنير، بتصديق الانبياء وتلويحات الكتب ورموز الكهان.
والحال الحاضرة - اعنى خير القرون، قرن السعادة النبوية - تشهد على ثبوت نبوته بلسان الحال، بالانقلاب العظيم الذي احدثته في طبائع العرب، وتحويلهم دفعةً من البداوة الصرفة الى المدنية المحضة.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 22
والمستقبل يشكر بلسان الحكمة ارشاداته ويستقبل موكبه الميمون باحداثه وبتحقيقاته.
والبشرية قاطبة بعلمائها ومحققيها تشهد انه مرسل من عنده تعالى، ولا سيما المستمعون الى محمد صلى الله عليه وسلم بلسانه الفصيح وبكلامه البليغ، والذي هو كالشمس يضئ نفسه كما يضئ غيره.
والله سبحانه وتعالى بلسان قرآنه الحكيم يعلن رسالته ويستقرئها.
جمله شيران جهان بستهء اين سلسله اند
روبه ازحيله جه سان بكسلد اين سلسله را1
اما بعد
فان هذا الفقير، الغريب، النورسي، الذي يستحق ان يُطلق عليه اسم بدعة الزمان الاّ انه اشتهر - دون رضاه - بـ(بديع الزمان). فهذا المسكين يستغيث ألماً من حرقة فؤاده على تدني الامة ويقول: آه.. آه... واأسفى..
لقد انخدعنا فتركنا جوهر الاسلام ولبابه، وحصرنا النظر في قشره وظاهره.
وأسأنا الفهم، فأسأنا الأدب معه، وعجزنا عن ان نوفيه حقّه حق الايفاء وما يستحقه من الاحترام، حتى رغِبَ عنّا، ونَفَر منّا، وتستر بسحائب الاوهام والخيالات. والحق معه، اذ: نزّلنا الاسرائيليات منزلة أصوله، وادخلنا الحكايات في عقائده، ومزجنا مجازاته بحقائقه. فبخسنا حقه، فجازانا بالاذلال والسفالة في الدنيا.. ولا خلاص لنا الاّ باللواذ برحمته.
أيها الاخوة المسلمون، هيا لنعتذر اليه، ونطلب رضاه فنمدّ اليه معاً متفقين يد الصداقة نبايعه ونعتصم بحبله المتين.
أعلن بلا حرج ولاتردد: ان الذي دفعني وشجعني الى مبارزة افكار العصور الخوالي، والتصدي للخيالات والاوهام التي تقوّت واحتشدت منذ مئات السنين.. انما هو اعتقادي ويقيني بأن:

_____________________
1 بيت شعر باللغة الفارسية ورد في "مكتوبات الامام الرباني"بالفارسية رقم 27 و 58 من الجزء الاول. وفي الترجمة العربية ص 36، 70 من ج1.
هل يقـطع الثــــعلب المحــتال ســلسلةً قيدتْ بها أُســـد الدنيا بأســـرهم (المترجم)



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 23
الحق سينمو، نمو البذرة النابتة، وإن تسترت تحت التراب. وان اهله سينتصرون وان كانوا قلة وضعفاء بظلم الاحوال.
واعتقادي: ان حقيقة الاسلام هي التي ستسود قارات العالم وتستولي عليها.
نعم! ان الاسلام هو الذي سيعتلي عرش الحقائق والمعارف، فلا يكشفها ولا يفتحها الاّ الاسلام... الأمارات تبدو هكذا..
ذلك لأن الذي حال دون استيلاء الشريعة الغراء استيلاءً تاماً في الماضي - في تلك الصحراء الموحشة والجهل المطبق الذي تربع على عرشه التعصب الذميم، وضرب فيه التقليد أطنابه، في بلاد الجهل المخيم بالسفساف والاستبداد المقيت - أقول ان الذي حال دون هيمنة الشريعة في الماضي هيمنة تامة هي أمور ثمانية، وقد محقت - وكذلك الآن تمحق - ثلاث حقائق.
هذه الموانع هي التي ادت الى كسوف شمس الاسلام.
اما الموانع التي في الاجانب فهي: التقليد والجهل وتعصبهم وسيطرة القسس عليهم.
أما الموانع التي عندنا فهي: الاستبداد المتنوع، وسوء الخلق، والأحوال المضطربة. واليأس الذي تنجم منه العطالة.
اما المانع الثامن، وهو أهم الموانع، والبلاء النازل فهو توهمنا - نحن والاجانب - بخيال باطل؛ وجود تناقض وتصادم بين بعض ظواهر الاسلام وبعض مسائل العلوم. فمرحى لجهود المعرفة الفياضة وانتشارها، وبخٍ بخٍ لعناء العلوم الغيورة، اللتين أمدّتا تحري الحقائق وشحنتا الانسانية، وغرستا ميل الانصاف في البشرية فجهزتا تلك الحقائق بالاعتدة لدفع الموانع، فقضت وستقضي عليها قضاءً تاماً.
نعم! ان اعظم سبب سلب منا الراحة في الدنيا، وحرم الاجانب من سعادة الآخرة، وحجب شمس الاسلام وكسفها هو: سوء الفهم وتوهم مناقضة الاسلام ومخالفته لحقائق العلوم.
فيا للعجب! كيف يكون العبد عدوّ سيده، والخادم خصم رئيسه، وكيف يعارض الابن والده!! فالاسلام سيد العلوم ومرشدها ورئيس العلوم الحقة ووالدها.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 24
ولكن، يا للأسف.. هذا الفهم الخطأ، هذا الفهم الباطل، قد أجرى حكمه الى الوقت الحاضر، فألقى بشبهاته في النفوس، وأوصد أبواب المدنية والمعرفة في وجه الأكراد وأمثالهم. فذعروا من توهم المنافاة بين ظواهر من الدين لمسائل من العلوم. فكروية الأرض - مثلاً - وهي اولى مرتبة من مراتب الجغرافية التي هي أول منزل من منازل العلوم، هذه المسألة البديهية توهموها منافية للمسائل الست التي سنذكرها، ولم يتحرجوا من المكابرة فيها والاصرار عليها.
فيامن يمعن النظر في كتابي هذا.
اعلم! ان ماأريد ان أسديه بهذا الكتاب من خدمة هو:
رد شبهات اعداء الدين الذين يبخسون الاسلام حقه، باظهار الطريق المستقيم الذي عليه الاسلام ودفع أوهام أهل الافراط والغلو المغرمين بظاهر الاسلام دون حقيقته، والذين يستحقون لقب "الصديق الاحمق" ببيان الجانب الآخر من ذلك الطريق السوي.. وامداد علماء الاسلام الاوفياء الصادقين العقلاء وهم المرشدون الحقيقيون الاصلاء الذين يسعون في اظهار هذا الصراط القويم، يحدوهم الامل الكامل في النصر، ويمهدون السبيل الى مستقبل عالم الاسلام الزاهر.

زبدة الكلام:
ان ما أقصده بهذا الكتاب: صقل ذلك السيف الألماسي وشحذه.
فان سألت:
- لِمَ هذا الاضطراب والقلق، وماجدوى سرد البراهين على ماصار كالعلوم المتعارفة؟ اذ المسائل التي تمخضت عن تلاحق الافكار1 وكشفيات التجارب صارت واضحة وضوح البديهة. فايراد البراهين عليها من قبيل الاعلام بالمعلوم؟!
أقول جواباً:
- ان معاصريّ - مع الأسف - وان كانوا أبناء القرن الثالث عشر الهجري الا انهم تذكار القرون الوسطى من حيث الفكر والرقي. وكأنهم فهرس، ونموذج، واخلاط ممتزجة لعصور خلت - من القرن الثالث الى الثالث عشر الهجري - حتى غدا كثير من بديهيات هذا الزمان مبهمة لديهم
_____________________
1 تلاحق الافكار أي تعاقبها وترتب بعضها على بعض. (المترجم)



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 25
المقدمة

هذا الكتاب مبني على ثلاث مقالات وثلاثة كتب:
المقالة الاولى: تبحث في عنصر الحقيقة أو في صقل الاسلام بمقدمات ومسائل.
المقالة الثانية: تكشف عن عنصر البلاغة.
المقالة الثالثة: تبين عنصر العقيدة والاجوبة اليابانية1.
أما الكتب: فهي تحقيق علمي ونوع تفسير لما أشار اليه القرآن من علم السماء
وعلم الارض وعلم البشر2.
_____________________
1 حضر القائد العام الياباني استانبول سنة 1907 م أي اواخر حكم السلطان عبد الحميد الثاني ووجّه جملة من الاسئلة الدينية الى المشيخة الاسلامية، فوجّه العلماء بدورهم تلك الاسئلة مع اسئلة اخرى الى الاستاذ النورسي، اورد قسماً من اجوبته التي تخص العقيدة في المقالة الثالثة من هذا الكتاب وخصّ (الشعاع الخامس) للاجوبة التي تخص اشراط الساعة والدجال . المترجم.
2 لم يتيسر للمؤلف تأليف هذه الكتب الثلاثة، اذ باشر بتأليف تفسيره »اشارات الاعجاز« في خضم معارك الحرب العالمية الاولى، ولم يتمه ايضاً حيث صرفه المولى القدير الى تأليف رسائل النور انقاذاً للايمان. المترجم.

عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-02-2011
  #3
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,217
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صقيل الإسلام


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 27
المقالة الاولى
عنصر الحقيقة
مقدمات ومسائل

ان من دساتير أهل العلم المحققين الاستناد الى مقدمات، بلوغاً الى
الهدف والقصد. لذا ننصب سلماً ذا اثنتي عشرة مرتبة:


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 29
المقدمة الاولى

من الاصول المقررة انه:
اذا تعارض العقل والنقل، يعدّ العقل أصلاً ويؤوّل النقل، ولكن ينبغي لذلك العقل ان يكون عقلاً حقاً.
ثم قد تحقق أيضاً:
ان مقاصد القرآن الاساسية وعناصره الأصلية المنبثة في كل جهاته أربعة: اثبات الصانع الواحد، والنبوة، والحشر الجسماني، والعدل.
أي: ان القرآن هو وحده الكفيل بالاجابة عن الاسئلة التي تسألها الحكمة (الفلسفة) من الكائنات: من أين؟ وبأمر مَن تأتون؟ مَن سلطانكم ودليلكم وخطيبكم؟ ما تصنعون؟ والى أين تصيرون؟ ولهذا فذِكرُ الكائنات في القرآن الكريم - مما سوى المقاصد - انما هو ذكر استطرادي لبيان طريق الاستدلال على الصانع الجليل بانتظام الصنعة. نعم! الانتظام يشاهد، بل يُظهر نفسه بكل وضوح. فالصنعة المنتظمة تشهد على وجود الصانع وعلى قصده وارادته شهادة صادقة قاطعة، اذ تتراءى في كل جهة من جهات الكون وتتلألأ من كل جانب.. وتعرض جمال الخلق الى أنظار الحكمة. حتى لكأن كل مصنوع لسان يسبّح بحكمة صانعه، كل نوع يشهد مشيراً باصبعه الى حكمة الصانع.
فمادام المقصد هو هذا، وما دمنا نتعلم من كتاب الكائنات الرموز والاشارات الدالة على الانتظام، وان النتيجة الحاصلة واحدة، فكيفما كان تشكّل الكائنات في ذاتها، فلا علينا، اذ لا تتعلق بنا.
ولكن كل فرد من أفراد الكائنات، الذي دخل ذلك المجلس القرآني الرفيع موظفٌ بأربع وظائف.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 30
الاولى: اعلان عظمة الخالق الجليل بانتظامه واتفاقه مع غيره.
الثانية: اظهاره ان الاسلام زبدة العلوم الحقيقية، حيث ان كلاً من الافراد موضوعٌ وخلاصة لعلمٍ من العلوم الحقيقية .
الثالثة: اثبات تطابق الاسلام مع القوانين والنواميس الالهية الجارية في العالم وانطباقه عليها لينمو الاسلام ويترعرع بامداد تلك النواميس الفطرية، حيث ان كل فرد من الكائنات نموذج لنوع.
نعم! ان الاسلام، الدين المبين، يتميز بهذه الخاصية عن سائر الاديان المترددة بين الهوى والهوسات، لفقدانها الجذور العريقة الممدة لها. فتارة تضئ واخرى تنطفئ، وتتغير بسرعة.
الرابعة: توجيه الافكار الى حقائق الاشياء والحث عليها والتنبيه اليها، من حيث ان كل فرد منها نموذج لحقيقة من الحقائق.
فمثلاً: ان القَسَم بالاجرام العلوية والسفلية في القرآن الكريم، انما هو لتنبيه الغافلين دوماً وحثهم على التفكير. فالقَسَم القرآني قرع العصا لمن غطّ في نوم الغفلة.
فالذي تحقق الآن هو الآتي:
ان القرآن الكريم الذي هو معجز، وفي أسمى بلاغة وأرفعها، يسلك بلا ريب أوضح طرق الاستدلال وأصوبها وأقصرها وأوفقها لأساليب اللغة العربية، اي انه يراعي حسيّات العوام لأجل افهامهم وارشادهم، اي يذكر الدليل وهو انتظام الكون بوجه يكون معروفاً لديهم وتأنس به عقولهم.. وبخلافه يكون الدليل أخفى من المدّعى مما ينافي طريق الارشاد ومنهج البلاغة ومذهب الاعجاز.
فمثلاً: لو قال القرآن: أيها الناس! انظروا الى الكرة الارضية الطائرة في انجذاب ونشوة والسائرة في جو الفضاء، وتأملوا في الشمس المستقرة مع حركتها والاجرام العلوية المرتبط بعضها ببعض بالجاذبة العامة، وتدبّروا في العناصر الكثيرة المرتبط بعضها ببعض بأواصر كيمياوية في شجرة الخلقة المنتشرة فروعها في الفضاء غير المحدود.. لتتصوروا عظمة الصانع!! او انظروا بمجهر عقولكم الى قطرة ماء، التي تستوعب عالماً من الحيوانات، بأن الله على كل شئ قدير.!!


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 31
فلو قال القرآن هذا، أما كان الدليل اخفى وأغمض من المدّعى واحوج الى التوضيح؟ أما كان ذلك تنويراً للحقيقة بشئ مظلم بالنسبة لهم! أو تكليفهم بأمر غير معقول هو مغالطة انفسهم تجاه بداهة حسّهم!
ان اعجاز القرآن اجلّ واطهر من ان يقع على ذيله الصافي اللامع غبار إخلال الافهام. ولقد لوّح القرآن الكريم الى المقصد الحقيقي في معاطف الآيات البينات وتلافيفها، كما جعل قسماً من ظواهر الآيات مناراً ومرشداً الى المقصد، كالكناية عليه.
ومن الأصول المقررة أيضاً:
ان الصدق والكذب، أو التصديق والتكذيب في الكنايات وأمثالها لايرجعان الى صورة المعنى، اي الى "المعاني الاولى" كما يعبر عنها فن البيان، بل يتوجهان الى المقصد والغرض، اي الى "المعاني الثانوية". فكما اذا قيل : "طويل النجاد" فالحكم صحيح والكلام صدق ان كان الشخص طويل القامة وان لم يكن له سيف. وكما تكون الكلمة الواحدة في كلام، قرينة المجاز1 للاستعارة، فان طائفة من الآيات الكريمة، كأنها كلمة واحدة لكلام الله، تكون قرائن لحقائق وجواهر سائر أخواتها، وترجمان وادلاء على ما في ضمائر جاراتها من أسرار.
حاصل الكلام:
من لم يضع هذه الحقيقة نصب العين، وعجز عن موازنة الايات، ولم يتمكن من الحكم بينها حكماً عدلاً، يكون كالبكتاشي الذي قال لتسويغ تركه الصلاة؛ ان القرآن يقول:
(لا تقربوا الصلاة).. أما ما بعده فلست حافظاً للآية! ألا يكون هذا موضع هزء في نظر الحقيقة؟!
_____________________
1 أي الاشارة التي تخص المجاز، أي التي تجعل الكلمة مجازاً حتماً وهي القيد الذي يحول الكلمة عن معناها الحقيقي. المترجم.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 32
المقدمة الثانية

قد يكون بديهياً ما هو نظري1 في الماضي. هكذا تحقق، ففي العالم ميل للاستكمال وبه يتبع العالمُ قانونَ التكامل. ولأن الانسان من ثمرات العالم واجزائه ففيه كذلك ميل الترقي المستمد من الميل للاستكمال. وميل الترقي هذا ينمو ويترعرع مستمداً من تلاحق الافكار الذي ينبسط بتكمل المبادئ واكتمال الوسائل، وتكمل المبادئ يلقي - من صلب الخلقة - بذور علوم الأكوان ملقحاً رحم الزمان التي تربي تلك البذور وتنبتها، فتستوي بالتجارب المتعاقبة التدريجية.
وبناءً على هذا، فان مسائل كثيرة في هذا الزمان قد أصبحت في عداد البديهيات والعلوم المعتادة، بينما كانت في السابق أموراً نظرية، شديدة الخفاء والغموض، ومحتاجة الى سرد البراهين، اذ نرى كثيراً من مسائل الجغرافية والفلك والكيمياء والهندسة العملية؛ يعرفها حتى صبيان هذا الزمان، بل يلعبون بها لعبهم بالملاعيب وذلك بتكمل المبادئ وبرقي الوسائط وبكشفيات تلاحق الافكار، علماً انها كانت نظرية وخفية على "ابن سينا" وامثاله من الفلاسفة. مع انه لو وزن "ابو الفلسفة" بمئات من فلاسفة هذا الزمان لرجحهم في الذكاء وقوة الفكر وكمال الحكمة وسعة القريحة. فالنقص اذاً ليس في "ابن سينا" فهو ابن الزمان، بل في أبيه الزمان.
أليس بديهياً انه لو لم تكتشف الدنيا الجديدة (أمريكا) - واشتهر به كولومبس - لاقتدر على اكتشافها والحاقها بهذه الدنيا القديمة أبسط الملاحين؟ اذ بدلاً من تبحر فكر المكتشف الأول واقتحامه المهالك تكفي الآن سفينة صغيرة وبوصلة.
ومع هذا يلزم اخذ الحقيقة الآتية بنظر الاعتبار وهي:
ان المسائل قسمان؛ قسم يؤثر فيه تلاحق الافكار، بل يتوقف عليه، كالتعاون في الماديات لرفع صخرة كبيرة.
_____________________
1 البديهي ما لا يحتاج الى نظر واستدلال ، والنظري هو ما يحتاج الى نظر واستدلال. المترجم.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 33
والقسم الثاني؛ لا تأثير للتعاون وتلاحق الافكار فيه من حيث الاساس. فالواحد والالف سواء. كالقفز في الخارج من مرتفع الى آخر، او المرور من موضع ضيق. فكل فرد والكل سواء، ولا يجدي التعاون.
فبناءً على هذا القياس:
فان قسماً من العلوم هو كرفع الصخر، بحاجة الى التعاون وتلاحق الافكار. واغلب هذا القسم هو من العلوم المادية.
أما القسم الثاني، وهو الشبيه بالمثال الثاني، فتكمّله دفعي، او شبيه الدفعي. وأغلب هذا القسم هو من المعنويات ومن العلوم الالهية.
ولكن على الرغم من ان تلاحق الأفكار لايغير ماهية هذا القسم الثاني ولا يكمله ولا يزيده، الاّ انه يفيض وضوحاً وظهوراً وقوة في مسالك براهينه.
ويجب ملاحظة مايأتي:
ان من توغل كثيراً في شئ، أدّى به في الغالب الى التغابي في غيره.
فبناء على هذا:
من توغل في الماديات تبلّد في المعنويات وظل سطحياً فيها.
فنظراً الى هذه النقطة:
لايكون حكم الحاذق في الماديات حجة في المعنويات بل غالباً لايستحق سماعه.
نعم، اذا ما راجع مريض مهندساً بدلاً من طبيب، ظناً منه ان الطب كالهندسة. وأخذ بوصفة المهندس، فقد أخذ لنفسه تقريراً بنقله الى مستشفى مقبرة الفناء، وعزّى أقرباءه.
وكذلك مراجعة احكام الماديين في المعنويات التي هي الحقائق المحضة والمجردات الصرفة واستشارة ارائهم وافكارهم، تعني الاعلان عن سكتة القلب الذي هو اللطيفة الربانية، وعن سكرات العقل الذي هو الجوهر النوراني.
نعم! ان الذين يبحثون عن كل شئ في الماديات عقولهم في عيونهم، والعين عاجزة عن رؤية المعنويات.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 34
المقدمة الثالثة

ان دخول طائفة من الاسرائيليات وقسم من الفلسفة اليونانية ضمن دائرة الاسلام وظهورها بزي الدين الجميل، شوشت الافكار. وذلك:
ان اولئك القوم، العرب النجباء، كانوا أمة أمية في الجاهلية. ولكن لمّا تجلّى الحق فيهم وتيقظ استعداد حسياتهم بمشاهدة الدين المبين، وجّهوا رغباتهم وميولهم كلها في معرفة الدين وحده. ولم يك نظرهم المتوجه الى الكون من نوع التفصيل الفلسفي بل نظر استطرادٍ للاستدلال ليس الاّ.
وما كان يلهم ذوقهم المرهف الطبيعي الاّ محيطهم الواسع الرفيع المنسجم مع فطرتهم، والقرآن الكريم هو وحده المربي لفِطَرهم الاصيلة النقية ومعلمها.. ولكن الامة العربية - بعد ذلك - أخذت تحتضن الاقوام الاخرى فدخلت معلومات سائر الملل وعلومها ايضاً حظيرة الاسلام، ثم وجدت الاسرائيليات المحرّفة منفذاً الى خزائن خيال العرب، فأسالت مجرىً الى تلك الخزائن، باسلام عدد من علماء اهل الكتاب كـ"وهب و كعب" فامتزجت الاسرائيليات بالافكار الصافية، فضلاً عن ذلك وجدت الاحترام والتقدير، لأن الذين اهتدوا من علماء اهل الكتاب قد تكاملوا بشرف الاسلام ونالوا به مكانة فائقة، لذا غدت معلوماتهم الملفقة كأنها مقبولة ومسلّم بها فلم تردّ، بل وجدت اذاناً صاغية لها من دون تنقيد، وذلك لعدم مصادمتها باصول الاسلام ولانها كانت تروى كحكايات لاأهمية لها.. ولكن يا للأسف. قبلت تلك الحكايات بعد فترة من الزمن كأنها حقائق وأصبحت سبباً لكثير من الشبهات والشكوك.
إذ ان هذه الاسرائيليات قد تكون مرجعاً لبعض ايماءات الكتاب والسنة، ومصدراً لبعض مفاهيمهما - بوجود علاقة - الاّ انها لا تكون معنى للآيات الكريمة والاحاديث الشريفة. بل لو صحت ربما تكون افراداً من معاني مايصدُق عليه مفهوم


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 35
الآية والحديث. ولكن المفتونين بالظاهر1 الذين لم يجدوا - بسوء اختيارهم - مصدراً غيره، ولم يتحرّوا عنه، فسّروا قسماً من الايات والاحاديث بتطبيق الاسرائيليات عليهما. والحال ان الذي يفسر القرآن ليس الاّ القرآن والحديث الصحيح، والاّ فلا يفسر القرآن بالانجيل والتوراة المنسوخة احكامهما والمحرفة قصصهما.
ان المعنى شئ ومايصدُق عليه المعنى شئ آخر. غير انه اقيم ما يمكن ان يكون مصداقاً لشئ مقام المعنى، فاختلط كثير من الامكانات والاحتمالات مع الوقائع.
ثم لما ترجمت الفلسفة اليونانية في عصر المأمون، لضمها الى الفكر الاسلامي، تلك الفلسفة الناشئة من منبع كثير من الاساطير والخرافات، حملت معها شيئاً من العفونات، وتداخلت في افكار العرب الصافية، فشوشت الافكار الى حدٍ ما، وفتحت طريقاً من التحقيق الى التقليد، كما انها صرفتهم عن الاستنباط بقرائحهم الفطرية من معدن ماء حياة الاسلام الى الافتقار بالتتلمذ على تلك الفلسفة المانعة للكمال.
نعم، فكما ان العلماء المحققين دوّنوا قواعد علوم العربية،عندما فسدت باختلاط الأعاجم، حفاظاً على سلامة مَلَكة الكلام المُضرى، كذلك حاول قسم من علماء الاسلام الناقدين فرز الفلسفة وتمييز الاسرائيليات لمّا دخلتا دائرة الاسلام.
ولكن يا للأسف لم يوفقوا كلياً، فلم يبق الأمر عند حده، اذ لما صرفت الهمة الى تفسير القرآن الكريم... طبّق عدد من الظاهريين منقوله على بعض الاسرائيليات، ووفقوا بين قسم من معقوله والفلسفة المذكورة، لما رأوا من شموله على المنقول والمعقول، وكذا الحديث النبوي، فبدلاً من ان يستخرج المقاصد من عين الكتاب والسنة استنبط طائفة مطابقةً وعلاقةً بين بعض نقلياتهما الصادقة وبعض الاسرائيليات المحرفة، وبين عقلياتهما الحقيقية وهذه الفلسفة الموهومة المموّهة، ظناً منهم ان هذه المطابقة والمشابهة تفسيرٌ لمعاني الكتاب والسنة وبيان لمقاصدهما!
_____________________
1 ترد في ثنايا الكتاب اصطلاحات مشابهة لهذا، فتارة: الظاهريون، واخرى : اهل الظاهر ، واخرى: المغرمون بالظاهر.. الخ. والمقصود: اولئك الذين يولون اهمية لظاهر الشئ دون حقيقته، ولا يمكنهم درك حقيقة الشئ، أو لا يعرفونها معرفة جيدة، او يتوقفون في ظاهر الشئ او النص دون تأويله وتوجيهه. المترجم.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 36
كلا.. ثم كلا! لأن مصداق الكتاب المبين اعجازهُ. والقرآن يفسّر بعضه بعضاً، ومعناه فيه، وصَدَفُه درّ مثله لا قشر. وحتى لو فُرض ان القصد من اظهار هذه المطابقة هو تزكية ذلك الشاهد الصادق، فهو عبث أيضاً، اذ القرآن المبين أسمى وأغنى من أن يفتقر الى تزكية العقل والنقل اللذين ألقيا اليه المقاليد، لأنه إن لم يزكهما فشهادتهما لا تسمع.
نعم! يجب البحث عن الثريا في السماء لا في الارض. فابحث عن معاني القرآن في أصدافه، لا في جيبك الحاوي على اخلاط، فانك لن تجد شيئاً، وحتى لو وجدت فالقرآن يرفضه، اذ لايحمل طغراء البلاغة.
ومن المقرر: ان المعنى هو ما صبّته الالفاظ في الصماخ نافذاً في الذهن، منتشراً منه الى الوجدان، مفتحاً منه أزاهير الافكار. والاّ فليس هو ماتسرب في خيالك من احتمالات لكثرة توغل امور اخرى، او ماسرقته وملأت جيبك من أباطيل الفلسفة واساطير الحكايات، ثم أخفيته في معاطف الايات والاحاديث ثم اظهرته ممسكاً به في يدك تبرزه وتنادي: " هذا هو المعنى، هلموا لأخذه!!" فيأتيك الجواب: ياهذا! ان المعنى الذي استخرجته مزيف، عليه علامة التقليد يردّه نقاّد الحقيقة، وسلطان الاعجاز يطرد من ضرب سكته، وحكيم البلاغة يسجن وهمك في خيالك بشكوى الاية عليك، لما تعرضت الى نظامها ونظام الحديث. وطالب الحقيقة لا يقبله منك حتماً اذ يقول لك: ان معنى الاية درّ وهذا مَدَر ومفهوم الحديث مهج وهذا همج.
مَثل للتنوير: من أمثال الأكراد الادبية: ان رجلاً اسمه (علو) كان يسرق العسل، فاشير عليه بأن ستظهر سرقتك وينكشف أمرك. فجمع الزنابير في كوارة، لأجل الخداع والتمويه، فكان يسرق العسل ويدّخره في الكوارة، واذا ماسأله أحد يقول: هذا العسل صنعته نحلي، مهندسة العسل. ثم يحدث الزنابير بلغة مشتركة بينهما "فز فز ز وه هه نكفين ز من" أ ي: عليكم الدوي والطنين ومنى العسل!
فيا أيها المؤوّل بالتشهي والهوى، لا تتسل بهذا التشبيه، فهذا ضرب للمثل. اذ المعنى الذي أوردته ليس عسلاً بل سمّاً، فان تلك الالفاظ - القرآنية والنبوية - ليست نحلاً بل كالملائكة توحي أرواح الحقائق الى القلب والوجدان لمن كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد.. ان الحديث النبوي معدن الحياة، وملهم الحقائق.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 37
نحصل مما سبق:
ان الافراط والتفريط كلاهما مضران، وربما التفريط اكثر ضرراً الاّ ان الافراط اكثر ذنباً، لانه يسبب التفريط.
نعم! لقد فتح باب السماح بالافراط، فاختلطت الاشياء المزيفة بتلك الحقائق الرفيعة. ولما شاهد اهل التفريط والنقد غير المنصفين هذه المزيفات بين تلك الحقائق التي لا تقدر بثمن، ذعروا واشمأزوا، وظنوها كلها مزيفة تافهة ملوثة، ظلماً واجحافاً.. كلا وحاش لله...
ترى لو وجدت نقود مزيفة في كنز، ادخلت اليه من الخارج، او لو شوهد تفاح فاسد سقط الى بستان من غيره، أمن الحق والانصاف عدّ الكنز كله مزيفاً، او البستان كله فاسداً، ومن ثم تركهما لانهما ملوثان معيوبان مشوبان؟!

خاتمة:
أقصد من هذه المقدمة: ان الافكار العامة تريد تفسيراً للقرآن الكريم.
نعم! ان لكل زمان حكمه، والزمان كذلك مفسّر. أما الاحوال والاحداث فهي كشافة. وان الذي يستطيع ان يكون استاذاً على الافكار العامة هو الافكار العلمية العامة ايضاً.
فبناءً على هذا واستناداً اليه أريد تشكيل مجلس شورى علمي، منتخب من العلماء المحققين، كل منهم متخصص في علم. ليقوموا بتأليف تفسير للقرآن الكريم بالشورى بينهم، تحت رياسة الزمان الذي هو مفسّر عظيم، ويجمعوا المحاسن المتفرقة في التفاسير، ويهذّبوها ويذهّبوها.
وهذا الامر مشروط بان تكون الشورى مهيمنة في كل شئ. والافكار العامة مراقبة. وحجية الاجماع حجة عليه.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 38
المقدمة الرابعة

الشهرة تملّك الانسان ما لا يملك؛ اذ من سجايا البشر؛ اسناد الشئ الغريب او الثمين الى من اشتهر بجنسه، لإظهاره اصيلاً. أي: لأجل ان يروّج كلامه ويزينه أو لئلا يكذََّب، او لاغراض اخرى، يحيل نتائج افكار أمة او محاسن اطوارها الى شخص ما - ظلماً وعدواناً - ويشاهد صدورها عنه! بينما ذلك الشخص نفسه من شأنه ردّ تلك الهدية المهداة له ظلماً وتعسفاً؛ اذ لو عرض على شهير في صنعة جميلة او خصلة راقية امرٌ، وقيل له - بغير حق -: ان هذا من صنع يدك - مثلاً- فانه يردّه حتماً ويتبرأ منه ويشمئز، قائلاً حاشَ لله، ذلك لان نظره النافذ في ماوراء الحسن الظاهر يبصر اخلال ذلك الامر بجمال تلك الصنعة الناشئ من تناسقها وانتظامها.
فبناءً على هذه السجية، واستناداً الى القاعدة المشهورة: "اذا ثبت الشئ ثبت بلوازمه" يضطر الناس الى اسناد قوة عظيمة وعظمة فائقة وذكاء خارق.. وامثالها من لوازم خوارق العادات الى ذلك الشخص الشهير، ليوائم مافي خيالهم، وليمكّن له ان يكون مرجعاً ومصدراً لجميع ما ينسب اليه من أمور خارقة. فيتجسم ذلك الشخص في اذهانهم اعجوبة من اعاجيب الخلق.
فان شئت فانظر الى صورة "رستم بن زال" المعنوية، الذي نما في خيال العجم، ترى العجب العجاب. فانه لما اشتهر بالشجاعة اغتصب مفاخر الايرانيين وأغار عليها بقوة الشهرة، وبحكم الاستبداد الذي لم يتخلص منه الايرانيون قط. وهكذا ضخمت تلك الشخصية واستعظمت في الخيالات.
ولما كان الكذب يردفه كذب ويسوق اليه، استلزمت هذه الشجاعة الخارقة للعادة، عمراً خارقاً، وقامة خارقة، وما يكتنفهما من لوازمهما!.. حتى تجسم ذلك الخيال في الذهن وهو يصرخ: "انا نوع منحصر في شخص". لامن ابناء البشر بل ككائن خرافي يدور في حكايات الناس ويتقدم الخرافات فاتحاً الطريق الى امثاله.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 39
يا من يريد رؤية الحقيقة مجرّدة! انعم النظر في هذه المقدمة؛ لان باب الخرافات ينفتح من هذا الموضع، وباب التحقيق (العلمي) ينسد به، زد على ذلك ففي هذه الارض القاحلة الجرداء يضيع على الانسان أخذ العبرة من القصة، ويفوته البناء على اسس المتقدمين كما يمليه الترقي، ولايتجرأ على التصرف في ميراث الاسلاف ولا الزيادة عليه.
فان شئت قل للخواجة نصر الدين الشهير بـ(جحا الرومي): أهذه الاقوال الغريبة كلها لك؟ فسيكون جوابه: "هذه الاقوال تملأ المجلدات، وتحتاج الى عمر مديد. واقوالي كلها ليست من نوادر الكلم، فأنا عالم من العلماء تسعني زكاة ما نسبوا اليّ من اقوال. اما الباقي فارفضه واردّه لانها تقلب ظرافتي الى التصنع".
فيا هذا! من هذا العرق تنبت الخرافات والموضوعات، ومنه تتفرع، وهو الذي يزيل قوة الصدق.
خاتمة:
ان احساناً يزيد على الاحسان الالهي ليس باحسان.
ان حبة من حقيقة تفضل بيدراً من الخيالات.
الاطمئنان والقناعة بالاحسان الالهي في التوصيف فرض.
يجب الاّ يخل بنظام المجتمع مَن كان داخلاً فيه.
أصل الشئ تبيّنه ثمرته. شرف الشئ في ذاته لا في نسله.
اذا اختلطت في بضاعة، بضاعةٌ اخرى، فانها تنقص من قيمة الاولى وان كانت الثانية قيّمة ونفيسة، بل تسبب حجزها.
والان، بناءً على هذه النقاط، أقول:
ان اسناد قسم من الاحاديث الموضوعة الى "ابن عباس" رضي الله عنه وامثاله من الصحابة الكرام، لأجل الترغيب او الترهيب، اثارةً للعوام وحضاً لهم، انما هو جهل عظيم.
نعم! ان الحق مستغن عن هذا، والحقيقة غنية عنه. فنورهما كافيان لإنارة القلوب. تسعنا الاحاديث الصحيحة المفسّرة الحقيقية للقرآن الكريم ونثق بها ونطمئن الى التواريخ الصحيحة الموزونة بميزان المنطق.


عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-02-2011
  #4
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,217
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صقيل الإسلام


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 40
المقدمة الخامسة

اذا وقع المجاز من يد العلم الى يد الجهل ينقلب الى حقيقة، ويفتح الباب للخرافات1 اذ المجازات والتشبيهات اذا ما اقتطفتهما يسار الجهل المظلم من يمين العلم المنور، او استمرتا وطال عمرهما، انقلبتا الى "حقيقة" مستفرغة من الطراوة والنداوة، فتصير سراباً خادعاً بعدما كانت شراباً زلالاً، وتصبح عجوزاً شمطاء بعدما كانت فاتنة حسناء.
نعم! ان شعلة الحقيقة انما تتلمع من المجاز بشفافيته. ولكن بتحوله الى حقيقة يصبح كثيفاً قاتماً يحجب الحقيقة الاصلية. فهذا التحول قانون فطري، فان اردت شاهداً عليه راجع اسرار تجدد اللغات وتغيراتها، والاشتراك والترادف في الامور. انصت اليها جيداً تسمع حتماً:
ان كثيراً من الكلمات او الحكايات او الخيالات او المعاني التي كان السلف يتذوقونها، لم توافق الرغبات الشابة لى الخلف، لانها غدت عجوزاً لا زينة لها. لذا اصبحت سبباً لدفعهم الى ميل التجدد والرغبة في الايجاد، والجرأة على التغيير. هذه القاعدة جارية في اللغات مثلما هي جارية في الخيالات والمعاني والحكايات. ولهذا لاينبغي الحكم على اي شئ بظاهره؛ اذ من شأن المحقق:
سبر غور الموضوع.. والتجرد من المؤثرات الزمانية.. والغوص في اعماق الماضي.. ووزن الامور بموازين المنطق.. ووجدان منبع كل شئ ومصدره.
ومما اطلعني على هذه الحقيقة ودلّني عليها هو حدوث خسوف القمر زمن صباي، اذ سألت والدتي عنه، فاجابت : لقد ابتلع الثعبان القمر. فقلت: فَلِمَ يشاهد القمر؟ قالت: ان ثعابين السماء شبه شفافة.
فانظر كيف تحول التشبيه الى حقيقة! فحجبت حقيقة الحال، اذ شبّه أهل الفلك تقاطع مائل القمر بمنطقة البروج في الرأس والذنب، بثعبانين او تنينين؛ حيث ان
_____________________
1 فصلت هذه المسألة في اللمعة الرابعة عشرة من مجموعة اللمعات. المترجم.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 41
القمر او الشمس اذا اتى احدهما الى الراس والاخر الى الذنب وتوسطتهما الارض، يخسف القمر.
يا من لايسأم من كلامي المختلط هذا! انعم النظر ايضاً في هذه المقدمة وانظر اليها بدقة متناهية، فكثيرجداً من الخرافات، والخلافات، انما تنشأ من هذا الاصل. فينبغي الاسترشاد بالمنطق والبلاغة.
خاتمة:
يجب ان يكون للمعنى الحقيقي ختم خاص وعلامة واضحة متميزة. والمشخّص لتلك العلامة هو الحُسن المجرد الناشئ من موازنة مقاصد الشريعة.
أما جواز المجاز فيجب ان يكون على وفق شروط البلاغة وقواعدها، والاّ فرؤية المجاز حقيقة والحقيقة مجازاً، او اراءتهما هكذا، امدادٌ لسيطرة الجهل ليس الاّ.
ان ميل التفريط من شأنه حمل كل شئ على الظاهر.. حتى لينتهي الامر تدريجياً الى نشوء مذهب الظاهرية مع الاسف. وان حب الافراط من شأنه النظر الى كل شئ بنظر المجاز، حتى لينتهي الامر تدريجياً الى نشوء مذهب الباطنية الباطل. فكما ان الاول مضر فالثاني اكثر ضرراً منه بدرجات.
والذي يبين الحد الاوسط ويحد من الافراط والتفريط انما هو فلسفة الشريعة مع البلاغة، والحكمة مع المنطق.
نعم! أقول: الحكمة (الفلسفة) لانها خير كثير مع تضمنها الشر، الاّ انه شرٌ جزئي. ومن الاصول المسلمة انه يلزم اختيار أهون الشرين، اذ ترك ما فيه خير كثير لاجل شر جزئي فيه، يعني القيام بشر كثير.
نعم! ان الحكمة القديمة (الفلسفة القديمة) خيرها قليل، خرافاتها كثيرة، حتى نهى السلف - الى حد ما - عنها، حيث الاذهان كانت غير مستعدة، والافكار مقيدة بالتقليد، والجهل مستول على العوام. بينما الفلسفة الحاضرة فخيرها كثير - من جهة المادة - بالنسبة للقديمة، وكذبها وباطلها قليل. والافكار حرة في الوقت الحاضر، والمعرفة مسيطرة على الجميع. وفي الحقيقة، لا بد ان يكون لكل زمان حكمه.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 42
المقدمة السادسة

فمثلاً: ان كل مايرد في التفسير لا يلزم ان يكون منه، اذ العلم يمدّ بعضه بعضاً.
فما ينبغي التحكم (في الرأي). اذ من المسلّمات: ان الماهر في مهنة الهندسة، ربما يكون عامياً وطفيلياً في مهنة اخرى كالطب، ودخيلاً فيها.
ومن القواعد الاصولية: انه لا يعدّ من الفقهاء مَن لم يكن فقيهاً، وان كان مجتهداً في أصول الفقه، لانه عامي بالنسبة اليهم.
وكذلك من الحقائق التاريخية: ان الشخص الواحد لايستطيع ان يتخصص في علوم كثيرة؛ الاّ من كان فذاً، فيستطيع ان يتخصص في اربعة او خمسة من العلوم، ويكون صاحب ملكة فيها.
فمن ادّعى الكل فاته الكل. لان لكل علم صورة حقيقية، وبالتخصص تتمثل صورته الحقيقية. اذ المتخصص في علم ان لم يجعل سائر معلوماته متممة وممدةً له، تمثلت من معلوماته الهزيلة صورة عجيبة.
لطيفة افتراضية للتوضيح: لو افترض مجئ مصوّر الى هذه الارض من عالم اخر لم يكن قد شاهد صورة كاملة للانسان ولا غير انسان من الاحياء. وربما رأى عضواً من اعضاء كل منها. فاذا أراد هذا المصور تصوير انسان، مما شاهد منه من يد ورجل وعين واذن ونصف الوجه وأنف وعمامة وامثالها. أو اراد تصوير حيوان مما صادف نظره من ذيل حصان وعنق جمل ورأس أسد. فالمشاهدون يتهمون المصور في عمله لان عدم وجود تناسق وانسجام وامتزاج بين الاعضاء يحول دون وجود كائن حي كهذا وسيقولون: ان شروط الحياة لا تسمح لمثل هذه الاعاجيب.
فهذه القاعدة نفسها تجري في العلوم.. والعلاج هو: اتخاذ المرء احد العلوم اساساً وأصلاً، وجعل سائر معلوماته حوضاً تخزن فيه.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 43
ومن العادات المستمرة: ان علوماً كثيرة تتزاحم في كتاب واحد، فبسبب تعانقها وتجاوبها بامداد بعضها بعضاً وانتاج بعضها بعضاً، يحصل تشابك الى حد كبير، بحيث لا تكون نسبة مسائل العلم الذي الّف الكتاب فيه الاّ زكاة محتواه. فالغفلة عن هذا السرّ تؤدي بالظاهري او الغوغائي المغالط الى ان يقول محتجاً به: "الشريعة هي هذه، وهذا هو التفسير!" اذا ما يرى مسألة ذكرت استطراداً في تفسير او كتاب فقه. وان كان صديقاً يقول: "مَن لم يقبل بهذا فليس بمسلم!!" وان كان عدواً يقول محتجاً به: "الشريعة أو التفسير خطأ" حاشَ لله.
ايها المفرطون والمفرّطون! ان التفسير والشريعة شئ وما الّف فيهما من كتب شئ اخر، فالكتاب يسع الكثير. ففي حانوت الكتاب اشياء تافهة غير الجواهر النادرة.
فان استطعت ان تفهم هذا، تنجو من التردد. فانتبه! فكما لا تشترى لوازم البيت المتنوعة من صناع واحد فقط، بل يجب مراجعة المختص في صنعة كل حاجة من الحاجات؛ كذلك لابد من توفيق الاعمال والحركات مع ذلك القانون الشامخ بالكمالات (قانون الفطرة). ألا يشاهد ان من انكسرت ساعته، اذا راجع خياطاً لخياطتها فلا يقابَل الاّ بالهزء والاستخفاف؟
اشارة: إن اساس هذه المقدمة هو: ان الامتثال والطاعة لقانون التكامل والرقي للصانع الجليل - الجاري في الكون على وفق تقسيم الاعمال - فرض وواجب، الاّ ان الطاعة لاشارته ورضاه سبحانه الكامنين في ذلك القانون لم يوف حقها. علماً ان يد عناية الحكمة الالهية - التي تقتضي قاعدة تقسيم الاعمال - قد أودعت في ماهية البشر استعدادات وميولاً، لاداء العلوم والصناعات التي هي في حكم فرض الكفاية لشريعة الخلقة (السنن الكونية) .
فمع وجود هذا الامر المعنوي لادائهما، اضعنا بسوء تصرفنا الشوق - الممد للميل، المنبعث من ذلك الاستعداد - واطفأنا جذوته بهذا الحرص الكاذب، وبهذه الرغبة في التفوق التي هي رأس الرياء! فلا شك ان جزاء العاصي جهنم. فعُذّبنا بجهنم الجهل. لاننا لم نتمثل اوامر الشريعة الفطرية التي هي قانون الخلقة.. وما ينجينا من هذا العذاب الاّ العمل على وفق قانون (تقسيم الاعمال). فقد دخل اسلافنا جنان العلوم بالعمل على وفق تقسيم الاعمال.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 44
خاتمة:
كما لا يكفي مجرد دخول غير المسلم المسجدَ لاعتناقه الاسلام، كذلك دخول مسألة من مسائل الفلسفة او الجغرافية اوالتاريخ وامثالها، في كتب التفسير او الفقه، لا يجعل تلك المسألة من التفسير او الشريعة قطعاً.
ثم ان حكم مفسّر او فقيه - بشرط التخصص - يعدّ حجة في التفسير فقط او في الفقه فحسب. والاّ فهو ليس بحجة في الامور التي دخلت خلسة في كتب التفسير او الفقه. لانه يمكن ان يكون دخيلاً في تلك الامور. ولا عتاب على الناقل. ومن كان حجة في علم وناقلاً في علوم اخرى، فاتخاذ قوله فيها حجة او التمسك بقوله فيها من قبيل الدعوى ما هو الاّ إعراض عن القانون الالهي المستند الى تقسيم المحاسن وتوزيع المساعي. ثم انه مسلّم منطقياً: ان الحكم يقتضي تصور "الموضوع" و "المحمول"_ بوجه ما فقط، اما سائر التفاصيل والشروح ليس من ذلك العلم، وانما من مسائل علم آخر.
ومن المقرر انه: لا يدل العام على الخاص بايٍ من الدلالات الثلاث الخاصة1. فمثلاً: ان اعظم مجافاة للمنطق النظرُ الى تأويل الاية الكريمة
(بين الصدفين) (الكهف: 96) في تفسير البيضاوي، نظرة جازمة انه: بين جبال أرمينيا واذربيجان. اذ هو اساساً ناقل. فضلاً عن ان تعيينه ليس مدلول القرآن، فلا يعدّ من التفسير. لان ذلك التأويل تشريحٌ مستند الى علم آخر لقيد واحد من قيود الاية الكريمة.
وكذلك ظلم واجحاف بحق ذلك المفسر الجليل وبرسوخ قدمه في العلم في تفسيره المذكور اتخاذ امثال هذه النقاط الضعيفة فيه ذريعة لبث الشبهات حوله. فحقائق التفسير الاصلية والشريعة واضحة جلية، وهي تتلألأ كالنجوم. فما الذي يدفع عاجزاً مثلي على الجرأة غير ما في تلك الحقائق من وضوح وقوة. فادّعي واقول:
_____________________
1 وهي دلالة المطابقة والتضمن والالتزام، لأن اللفظ الدال بالوضع يدل على تمام ما وضع له بالمطابقة، وعلى جزئه بالتضمن ، وعلى ما يلزمه في الذهن بالالتزام؛ كالانسان، فانه يدل على تمام الحيوان الناطق بالمطابقة، وعلى جزئه بالتضمن، وعلى قابل العلم بالالتزام (التعريفات) - المترجم



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 45
اذا دقق النظر في كل حقيقة من الحقائق الاساسية في التفسير والفقه، يشاهد: انها نابعة من الحقيقة، موزونة بميزان الحكمة، وتمضى الى الحق وهي حقٌ. فالشبهات الواردة - مهما كانت - ناشئة من اذهان مهذار ثم اختلطت بتلك الحقائق. فمن كانت لديه شبهة حول حقائق التفسير الاصلية، فهذا ميدان التحدي، فليبرز الى الميدان.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 46
المقدمة السابعة

المبالغة تشوش الامور وتبلبلها، لان من سجايا البشر: مزج الخيال بالحقيقة، بميل الى الاستزادة في الكلام فيما إلتذ به، والرغبة في اطلاق الكلام جزافاً فيما يصف، والانجذاب الى المبالغة فيما يحكى. وبهذه السجية السيئة يكون الاحسان كالافساد، ومن حيث لا يعلم يتولد النقصان من حيث يزيد، وينجم الفساد من حيث يصلح، وينشأ الذم من حيث يمدح، ويتولد القبح من حيث يُحسن.. وذلك لإخلاله - من حيث لا يشعر - بالحسن الناشئ من الانسجام والموازنة (في المقاصد).
فكما ان الاستزادة من دواء شاف قلبٌ له الى داء، كذلك المبالغون في الترغيب والترهيب، المستغني عنهما الحق، كجعل الغيبة كالقتل او اظهار التبول وقوفاً بدرجة الزنا او التصدق بدرهم مكافئ لحجّة... وامثالها من الكلمات غير الموزونة التي يطلقها المبالغون انما يستخفون بالزنا والقتل ويهوّنون شأن الحج.
فبناءً على هذا: لا بد ان يكون الواعظ حكيماً، وذا دراية بالمحاكمات العقلية.
نعم! ان الوعاظ الذين لا يملكون موازين، ويطلقون كلامهم جزافاً، قد سببوا حجب كثير من حقائق الدين النيّرة. فمثلاً: الزيادة التي زيدت في معجزة انشقاق القمر الباهرة بالمبالغة في الكلام، وهي ان القمر قد نزل من السماء ودخل تحت أبط الرسول صلى الله عليه وسلم ثم رجع الى السماء. هذه الزيادة، جعلت تلك المعجزة الباهرة كالشمس، مخفيةً كنجم السهى، وجعلت ذلك البرهان للنبوة الذي هو كالقمر، مخسوفاً، وفتحت ابواب حجج تافهة للمنكرين.
حاصل الكلام:
يجب على كل محبّ للدين وعاشق للحقيقة: الاطمئنان بقيمة كل شئ وعدم اطلاق الكلام جزافاً وعدم التجاوز. اذ المبالغة افتراء على القدرة الالهية. وهي فقدان


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 47
الثقة بالكمال والحسن في العالم واستخفاف بهما واللذين ألجآ الامام الغزالي الى القول: "ليس في الامكان أبدع مما كان".
أيها السيد المخاطب! قد يؤدي التمثيل أيضاً ما يؤديه البرهان من عمل. فكما ان لكل من الالماس والذهب والفضة والرصاص والحديد قيمتها الخاصة، وخاصيتها الخاصة بها، وهذه الخواص تختلف، والقيم تتفاوت. كذلك مقاصد الدين تتفاوت من حيث القيمة والادلة. فان كان وضع أحدها الخيال، فموضع الآخر الوجدان والآخر في سر الاسرار. ان من أعطى جوهرة أو ليرة ذهبية في موضع فلس او عشر بارات، يحجر عليه لسفهه، ويمنع من التصرف في أمواله. واذا انعكست القضية فلا يسمع الاّ كلمات الاستهزاء والاستخفاف، اذ بدلاً من ان يكون تاجراً صار محتالاً يسخر منه. كذلك الامر في من لا يميز الحقائق الدينية ولايعطي لكل منها ما يستحقه من حق واعتبار، ولا يعرف سكة الشريعة وعلامتها في كل حكم. كل حكم شبيه بجزء ترس يدور على محوره لمعمل عظيم. فالذين لا يميزون يعرقلون تلك الحركة. مثلهم في هذا كمثل جاهل شاهد ترساً صغيراً لطيفاً في ماكنة جسيمة، وحاول الاصلاح وتغيير ذلك الوضع المتناسق. ولكن لعدم رؤيته الانسجام الحاصل بين حركة الترس الصغير والماكنة الكبيرة وجهله بعلم المكائن، فضلاً عن غرور النفس الذي يغريه ويخدعه بنظره السطحي؛ تراه يخلّ بنظام المعمل من حيث لا يشعر ويكون وبالاً على نفسه.
زبدة الكلام:
ان الشارع سبحانه وتعالى قد وضع سكته وختمه المعتمد على كل حكم من احكام الشرع. ولابد من قراءة تلك السكة والختم. فذلك الحكم مستغن عن كل شئ سوى قيمته وسكته. فهو في غنىً عن تزيين وتصرف الذين يلهثون وراء المبالغين والمغالين والمنمقين للّفظ. وليعلم هؤلاء الذين يطلقون الكلام جزافاً، كم يكونون ممقوتين في نظر الحقيقة في نصحهم الآخرين. فمثلاً: لم يكتف احدهم بالزجر الشرعي لتنفير الناس عن المسكرات فقال كلاماً امام جمع غفير من الناس اخجل من كتابته، وقد شطبته بعد كتابته.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 48
فيا هذا! انك بكلامك هذا تعادي الشريعة! وحتى ان كنت صديقاً فلا تكون الاّ صديقاً أحمق، واضرّ على الدين من عدوه.
خاتمة:
ايها الظالمون الذين يحاولون جرح الاسلام ونقده من بعيد، من الخارج. زنوا الامور بالمحاكمة العقلية. ولاتنخدعوا ولاتكتفوا بالنظر السطحي. فهؤلاء الذين أصبحوا سبباً لاعذاركم الواهية - في نقد الاسلام - يسمّون بلسان الشريعة "علماء السوء". فانظروا الى ما وراء الحجاب الذي ولّده عدم موازنتهم الامور، وتعلقهم الشديد بالظاهر، سترون: ان كل حقيقة من حقائق الاسلام برهان نيّر كالنجم الساطع، يتلألأ عليه نقش الازل والابد.
نعم، ان الذي نزل من الكلام الازلي يمضي الى الابد والخلود. ولكن - يا للاسف - يلقي احدهم ذنوبه على الاخرين ليبرئ نفسه، وما ذلك الاّ من حبه لها وانحيازه اليها ومن عجزه وانانيته وغروره. وهكذا يسند كلامه الذي يحتمل الخطأ او فعله القابل للخطأ الى شخص معروف، او الى كتاب موثوق، بل حتى احياناً الى الدين، وغالباً الى الحديث الشريف، وفي نهاية المطاف الى القدر الالهي. وما يريد بهذا الا تبرئة نفسه.
حاشلله ثم حاشَ لله. فلا يرد الظلامُ من النور. وحتى لو ستر النجوم المشاهدة في مرآته لا يستطيع ستر نجوم السماء. بل هو العاجز عن الرؤية والابصار.
أيها السيد المعترض! انه ظلم فاضح جعل الشبهات الناشئة من سوء فهم الاسلام والاحوال المضطربة الناشئة من مخالفة الشريعة، ذريعة لتلويث الاسلام. وما هذا الاّ كالعدو الذي يتذرع لأي سبب كان للانتقام والثأر. او مثل الطفل الذي يروم البكاء لأتفه سبب. اذ ان كل صفة من صفات المسلم لا يلزم ان تكون ناشئة من الاسلام.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 49
المقدمة الثامنة
تمهيد:
لا تمل من هذه المقدمة الطويلة الآتية، لأن ختامها في منتهى الاهمية، فضلاً عن انها تزيل اليأس المبيد لكل كمال. وتبعث الحياة في الامل، الذي هو جوهر كل سعادة وخميرتها.. وتبشر بان المستقبل سيكون لنا والماضي لغيرنا.. رضينا بالقسمة وها هو ذا موضوعها:
عقد موازنة بين ابناء الماضي والمستقبل، فالمدارس العليا لا تقرأ فيها الألفباء، ومهما عظمت ماهية العلم فان صورة تدريسها غير ماهيتها 1.
نعم! ان الماضي مدرسة الاحاسيس والمشاعر المادية، بينما المستقبل هو مدرسة الافكار. فهما ليسا على طراز واحد.
واقصد من ابناء الماضي اولاً : القرون الاولى والوسطى لما قبل القرن العاشر لغير المسلمين. اما الامة الاسلامية فهي خير امة في القرون الثلاث الاولى، وامة فاضلة عامة الى القرن الخامس، وما بعده حتى القرن الثاني عشر اعبّر عنه بالماضي. اما المستقبل فاعدّه مابعد القرن الثاني عشر.
وبعد هذا فمن المعلوم ان الغالب على تدبير شؤون الانسان. إما العقل او البصر، وبتعبير اخر: إما الافكار او الاحاسيس المادية. او: إما الحق او القوة. أو: إما الحكمة أو الحكومة. أو: إما الميول القلبية أو التمايلات العقلية. او: اما الهوى او الهدى.
وعلى هذا نشاهد ان: اخلاق ابناء الماضي الحاملة شيئاً من الصفاء، واحاسيسهم الخالصة الى درجة، قد استخدمت افكارهم غير المنورة وسيطرت عليها، فبرزت الشخصيات وسادت الاختلافات. بينما افكار ابناء المستقبل المنورة - الى حد - قد تغلبت على احاسيسهم المظلمة بالهوى والشهوة وسخرتها لأمرها، فتحققت: ان السيادة تكون للحقوق العامة. فتجلت الانسانية الى حد ما. وهذا يبشر بان الاسلام
_____________________
1 لعل المقصود ان طريقة تقديم العلم تختلف بأختلاف الازمان، فما يتعلمه المبتدئون غير ما يتعلمه الواصلون الى المراحل العليا، وما عرفه ابناء الماضي غير ما ينبغي ان يعرفه ابناء الحاضر والمستقبل. المترجم.



عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-02-2011
  #5
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,217
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صقيل الإسلام


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 50
الذي هو الانسانية الكبرى سيسطع كالشمس في رابعة النهار في سماء المستقبل وعلى جنان آسيا.
ولما كانت الاحاسيس المادية والميول والرغبات والقوة التي انشأت الاغراض النفسانية والخصومات وميل التفوق على الاخرين مسيطرة على اودية الماضي كان الاقناع الخطابي كافياً لارشاد اهل ذلك الزمان، لأن تصوير المدّعى وتزيينه وتهويله وتأنيسه الى الخيال يداعب الاحاسيس ويؤثر في الميول والرغبات، فكان هذا يسد مسدّ البرهان. بيد ان قياس انفسنا عليهم يعني التحرك الى الخلف، واقحاماً لنا في زوايا ذلك الزمان. اذ لكل زمان حكمه. نحن نطلب الدليل. ولا ننخدع بتصوير المدعى وتزيينه.
ولما كان مصدر تبخر حقائق الحكمة في صحراء الوقت الحاضر والباعث بالسحاب الممطر الى جبال المستقبل، هو الافكار والعقل والحق والحكمة والتي ولّدت حديثاً ميل التحري عن الحقيقة، وعشق الحق، وترجيح المنفعة العامة على الخاصة، وظهور رغبات انسانية؛ لذا لا يثبت المدّعى بغير البراهين القاطعة. فنحن ابناء الحال الحاضرة والمرشحين للمستقبل لايشبع اذهاننا تصوير المدّعى وتزيينه بل نطلب البرهان.
فلنذكر قليلاً من حسنات وسيئات الماضي والمستقبل اللذين هما في حكم سلطانين.
ففي ديار الماضي كان السائد في الاغلب هو: القوة، والهوى، والطبائع، والميول، والاحاسيس، لذا فان احدى سيئاته انه كان هناك في كل امر من اموره - ولو بصورة عامة - تحكّم واستبداد وظهور محبة شخص على حساب خصومة آخر.. وغلبة خصومة مسلك الآخرين على محبة مسلكه.. ومداخلة الالتزام والتعصب.. والانحياز المانع عن كشف الحقيقة.

حاصل الكلام:
لما كانت الميول متفاوتة فان تدخل الشعور بالانحياز في كل شئ، ونشوء التبلبل بالاختلافات جعل الحقيقة تهرب وتختفي.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 51
ثم ان من سيئات استبداد الاحاسيس: تأسس المسالك والمذاهب غالباً على التعصب.. وتضليل الاخرين، او على السفسطة.. بينما هذه الثلاثة مذمومة في نظر الشرع، منافية للاخوة الاسلامية، مفرقة للانتساب الجنسي (الانساني) مخالفة للتعاون الفطري لدرجة ان احد هؤلاء يضطر في النهاية الى تبديل مذهبه ومسلكه دفعةً، مصدقاً اجماع الناس وتواترهم تاركاً التعصب والسفسطة. بينما اذا ما عمل ابتداءً بالحق بدلاً من التعصب، وبالبرهان بدلاً من السفسطة، وبالتوفيق والتطبيق بدلاً من تضليل الاخرين، وطبّق الشورى، فلا يمكن ان يبدّل مذهبه ومسلكه الحق ولو بجزء منهما حتى لو اتفقت الدنيا عليه.
ولما كان المهيمن هو الحق والبرهان والعقل والشورى في خير القرون وعصور السلف الصالح، لم يك للشكوك والشبهات موضع. كذلك نرى انه بفضل انتشار العلوم في الوقت الحاضر وهيمنتها بصورة عامة وفي المستقبل هيمنة تامة ان شاء الله سيكون المهيمن هو الحق بدلاً من القوة، والبرهان بدلاً من التعصب والسفسطة، والحمية بدلاً من الاحاسيس المادية، والعقل بدلاً من الطبع، والهدى بدلاً من الهوى كما كان الحال في القرون الاولى والثانية والثالثة وحتى الى القرن الخامس عامة. اما بعد القرن الخامس الى الان فقد غلبت القوةُ الحقَ.
ومن محاسن سلطان الافكار ان تخلصت شمس الاسلام مما كان يحجبها من غيوم الاوهام والخيالات. بل اخذت كل حقيقة منها بنشر نورها، حتى المتعفنين في مستنقع الالحاد أخذوا يستفيدون من ذلك النور.
ومن محاسن مشاورة الافكار تأسس المعتقدات والمسالك على البراهين القاطعة، وربط الحقائق بالحق الثابت الممدّ للكمالات كلها. مما يؤدي الى عدم تمويه الافكار وخداعها بإلباس الباطل لباس الحق!
ايها الاخوة المسلمون!
ان الوضع الحاضر يبشرنا بلسان الحال ان مضمون:
(جاء الحق وزهق الباطل) (الاسراء: 81) قد أشرأب بعنقه ويشير بيده الى المستقبل منادياً بأعلى صوته:
ان الحاكم على الدهر وعلى طبائع البشر الى يوم القيامة هو "حقيقة الاسلام" التي هي تجلّي العدالة الازلية في عالم الكون، والتي هي الانسانية الكبرى. وما


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 52
محاسن المدنية التي هي الانسانية الصغرى الاّ مقدمتها! ألا يشاهد انه قد خفف تلاحق الافكار وتنوّرها عن كاهل حقائق الاسلام طبقات تراب الاوهام والخيالات.. وهذا يبين ان ستنكشف تماماً تلك الحقائق التي هي نجوم سماء الهداية وستتلألأ وتسطع على رغم انوف الاعداء.
واذا شئت فاذهب الى المستقبل وادخل فيه وشاهد: كيف يهذر وينهزم في ميدان الحقائق - التي تحكمها وترعاها الحكمة - من يتحرى التوحيد في التثليث فيما لو بارز المتمسكين بالعقيدة الحقة، المتقلدين سيف البرهان، تلك العقيدة التي يرضاها التوحيد الخالص، والاعتقاد الكامل، والعقل السليم.
أقسم بالقرآن العظيم ذي الاسلوب الحكيم،انه ما ألقى النصارى وامثالهم في وديان الضلالة نافخاً فيهم الهوى الاّ عزل العقل وطرد البرهان وتقليد الرهبان..
وماجعل الاسلام يتجلى دوماً، وتنكشف حقائقه وتنبسط بنسبة انبساط افكار البشر الاّ تأسّسه على الحقيقة وتقلده البرهان ومشاورته العقل واعتلاؤه عرش الحقيقة ومطابقته دساتير الحكمة المتسلسلة من الازل الى الابد ومحاكاته لها.
الا يشاهد كيف يحيل القرآن الكريم في فواتح اكثر الايات وخواتمها البشر الى مراجعة الوجدان واستشارة العقل بقوله تعالى
(افلا ينظرون) و(فانظروا) و (أفلا يتدبرون) و(أفلا تتذكرون) و(تتفكروا) و (ما يشعرون) و(يعقلون) و(لا يعقلون) و(يعلمون) و(فاعتبروا يا اولي الابصار).
وأنا أقول ايضاً: فاعتبروا يا اولي الالباب.

خاتمة:
فيا اولي الالباب! انفذوا من الظاهر الى الحقيقة فهي تنتظركم. واذا ما شاهدتموها فلا تؤذوها. هكذا ينبغي، وهذا هو الالزم.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 53
المقدمة التاسعة

لقد تحققت لدى العقول السليمة:
ان الخير هو الاصل في العالم، اما الشر فهو تبعي. فالخير كلي والشر جزئي. اذ:
يشاهد انه قد تكوّن ـ وما زال يتكون ـ علمٌ خاص لكل نوع من انواع العالم؛ والعلم عبارة عن قواعد كلية. فاذا كانت الكلية قاعدة، فهي اذاً كشّافة عن حسن الانتظام في ذلك النوع. اي ان كل علم من العلوم شاهد صادق على حسن الانتظام.
نعم! الكلية دليل على الانتظام، لان مالا انتظام فيه لا كلية لحكمه، بل يكون هزيلاً لكثرة استثناءاته. والذي يزكّي هذا الشهود الاستقراء التام 1 بنظر الحكمة. الاّ انه احياناً لا يُرى الانتظام، لسعة دائرته عن أفق النظر، فلا يمكن الاحاطة به ولا تصوره، وعندئذٍ يصعب ان يبين النظامُ نفسه.
وبناءً على ما سبق:
فقد ثبت بشهادة العلوم جميعها، وبتصديق الاستقراء التام الناشئ من نظر الحكمة: ان الحسن والخير والحق والكمال، هو المقصود بالذات والغالب المطلق في خلق العالم. اما الشر والقبح والباطل، فهي امور تبعية ومغلوبة ومغمورة، وحتى لو كانت لها الصولة فهي صولة موقتة.
وقد ثبت ايضاً:
ان أكرم الخلق بنو آدم؛ تشهد له استعداداته ومهاراته.
وان اشرف بني آدم هم المسلمون الصادقون، وهم اهل الحق والحقيقة، تشهد لهم حقائق الاسلام، كما ستصدقهم وقائع المستقبل.
_____________________
1 الاستقراء التام: الحكم على الكلي بما يوجد في جزئياته جميعها او في بعض اجزائه (التعريفات). المترجم



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 54
وثبت ايضاً:
ان اكمل الكل هو محمد صلى الله عليه وسلم، تشهد له معجزاته واخلاقه السامية، كما يصدّقه علماء البشر المحققون، بل يسلّم له اعداؤه، وعليهم ان يسلّموا.
فاذ هذه الثلاثة هكذا، أيقتدر نوع البشر بشقاوته على جرح شهادة تلك العلوم، ونقض الاستقراء التام، والتمرد على مشيئة ربه؟.. كلا.. لا يقتدر ولن يقتدر.
أقسم باسم الرحمن الرحيم العادل الحكيم: ان البشرية لن تستطيع ان تهضم بسهولة وسلامة، الشر والقبح والباطل، ولن تسمح لها الحكمة الالهية. لان من يتعدى على حقوق الكائنات العامة لايعفى عنه، ولايسمح بعدم انزال العقاب عليه.
نعم! ان تغلب الشر طوال الوف السنين، لا يؤدي الاّ الى مغلوبية مطلقة لالف سنة في الاقل، محصورة في الدنيا. اما في الاخرة فسيحكم الخير على الشر بالاعدام الأبدي! والاّ لو لم يكن الامر هكذا، فان سائر الانواع والاجناس المنظمة المكملة المنقادة للاوامر الالهية المنتظمة، لايقبلون بين ظهرانيهم هذا الانسان الشقي الكنود، بل يسقطون حق وجوده بينهم. وينفونه الى مأوى العدم والظلمات، ويطردونه من وظيفة الخلق الفطرية. لان غلبة الشر على الخير تستلزم عبثية القابليات والميول المودعة في استعدادات البشر ليسود العالم وينال السعادة الابدية في الاخرة! والحال ان العبث مناقض للاستقراء التام، كما انه مناف لحكمة الصانع الحكيم، ومخالف لحكم النبي الصادق الامين صلى الله عليه وسلم.
وسيصفّي المستقبل قسماً من هذه الدعاوي، اما تصفيتها النهائية فستشاهد في الاخرة، ذلك لان المستقبل هو ميدان تغلب الحسن والحق النوعي والعمومي - بغض النظر عن الاشخاص - فان متنا، فامتنا باقية.. لانرضى بالظهور والنصر لاربعين سنة بل نريد ألفاً من السنين في الاقل.
أما ميدان تغلب الحسن والحق والخير والكمال الشخصي والعام، والجزئي والكلي، ومحكمته الكبرى التي تجازى فيها البشر - كسائر اخوانه من الكائنات المنقادة - ويكافأ بما يوافق وينسجم مع استعداداته، فهو: الدار الاخرة، اذ يتجلى فيها الحق والعدالة المحضة.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 55
نعم! ان هذه الدنيا الضيقة لاتسع ولاتلائم نمو وتزاهر ما أودع في جوهر البشر من استعدادت غير محدودة وميول ورغبات مخلوقة للابد. لذا يبعث الى عالم آخر كي تُربّى وتكمل تلك الميول والاستعدادات.
ان جوهر الانسان جليل، وماهيته رفيعة، وجنايته كذلك عظيمة وطاعته وانقياده مهمة، فهو لايشبه سائر الكائنات، لذا لا يمكن ان لاينتظم مع الكائنات ولاينقاد للأوامر.
نعم! ان المرشح للأبد عظيم، لن يُترك سدى، ولايكون عبثاً، ولايحكم عليه بالفناء المطلق، ولايهرب الى العدم الصرف.. بل جهنم فاغرة فاها، والجنة قد فتحت ذراعيها اللطيفتين لاحتضانه.
خاتمة:
ان مستقبل الاسلام وآسيا، باهر وفي غاية السطوع واللمعان، كمايتراءى من بعيد. لأن هناك أربعاً او خمساً من القوى، تتفق - بما لا يمكن مقاومتها - على سيادة الاسلام المهيمن اولاً وآخراً على آسيا:
القوة الاولى:
قوة الاسلام الحقيقية المدعمة بالمعرفة والمدنية.
القوة الثانية:
الحاجة المجهّزة بتوافر الوسائل وتكمّل المبادئ والاسباب.
القوة الثالثة:
المنافسة والغبطة والغيظ المضمر، هي أمور تهيئ الصحوة العامة الناشئة من رؤية آسيا في منتهى السفالة وغيرها في منتهي الرفاه.
القوة الرابعة:
استعداد الفطرة المجهّز: بتوحيد الكلمة، الذي هو دستور الموحّدين.. وبدماثة الخلق والاعتدال، الذي هو خاصة الوضع الحاضر.. وبتنوير الاذهان، الذي هو ضياء


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 56
الزمان.. وبتلاحق الأفكار، الذي هو قانون المدنية.. وبسلامة الفطرة، التي هي لازمة البداوة.. وبالخفة والاقدام، وهما ثمرة الضرورة.
القوة الخامسة:
الرغبة في التحضر والتمدن والنزوع الى التجدد والتقدم المادي - الذي يتوقف عليه اعلاء كلمة الله في هذا الوقت - التي يأمر بها الاسلام، ويدفع اليها الزمان، ويلجئ اليها الفقر الشديد، والأمل الباعث للحياة بموت اليأس القاتل لكل رغبة.والذي يدعم هذه القوى ويمدّها: تغلّب مساوي المدنية على محاسنها، تلك المساوي التي بثت الفوضى في الاجانب وارهقت الحضارات وشيّبتها.. ثم عدم كفاية السعي للسفاهة (اي عدم سدّه لمتطلباته)، ولهذا سببان:الاول: فسح المجال للسفاهة، وتلبية شهوات النفس، بعدم جعل الدين والفضيلة دستوراً للمدنية. الثاني: التباين الاجتماعي الرهيب في الحياة المعشية، الناشئ من فقدان التراحم الناجم من حب الشهوات ومجافاة الدين.
نعم! ان هذا الالحاد ومجافاة الدين قد سبب فوضىً في المدنية الاوروبية، وقلبها رأساً على عقب، بحيث ولّد كثيراً من المنظمات الفوضوية وهيئات الافساد والإضلال. فلو لم يُلجأ الى حقيقة الشريعة الغراء، ولم يُتحصن بذلك الحبل المتين ولم يوضع سدٌّ تجاه هذه المنظمات الفوضوية كسد ذي القرنين، فستدمّر تلك المنظمات عالم مدنيتهم وتقضي عليها، كما يهددونها حالياً.
ترى لو صارت الزكاة التي هي مسألة واحدة من الف من مسائل حقيقة الاسلام، دستور المدنية وأساس التعاون فيها، ألا تكون دواءً ناجعاً وترياقاً شافياً للتباين الفظيع في الحياة المعاشية، الذي هو جحر الحيات والسم الزعاف والبلاء المدمّر؟
بلى! سيكون الدواء الناجع الساري المفعول أبداً.
واذا قيل:
"لِمَ لا يكون السبب الذي ادّى الى تغلب أوروبا الى الان سبباً لاستمراره"؟


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 57
فالجواب:
طالع مقدمة هذا الكتاب، ثم أدم النظر في هذا:
كان سبب رقيها هو: التأني في اخذ كل شئ او تركه.. والصلابة في الامر، التي هي من شأن برودة بلادهم.. ونمو الفكر والمعرفة والتوجه الى الصناعة لكثرة السكان وضيق المكان والمساكن.. والتعاون والتتبع الحاصلين من وجود الوسائط المساعدة كالبحر والمعادن وامثالها.. أما الان فقد تطورت وسائل النقل الى درجة كبيرة بحيث اصبح العالم كالمدينة الواحدة، وغدا أهله في مداولتهم الامور كانهم في مجلس واحد، بحكم التقدم في وسائل المخابرات والمطبوعات. نحصل من هذا: اننا سنلحق بهم، بل نسبقهم، إن حالفنا التوفيق الالهي لان حملهم ثقيل وحملنا خفيف.
ان ما يفتح حظ آسيا وسَعد الاسلام هو الشورى والحرية، المشروطتان بتربية الشريعة الغراء_.تنبيه:ان الامور التيتسمى بمحاسن المدنية ما هي الاّ مسائل شرعية حوّلَتْ الى شكل آخر.
_____________________
1 يا اخوة النور! ان حزب القرآن الذين خاطبهم الاستاذ الحبيب في ذلك الوقت هم الآن طلاب النور. فانتبهوا! ان مافي هذه الصفحات يخاطبنا نحن بالذات، فاجعلوا وسائل العلم والمدنية في خدمة الاسلام، واعلنوا حضارة الاسلام للعالم اجمع (مصطفى صنغور) .



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 58
المقدمة العاشرة

لا يؤاخذ المتكلم فيما يتكلم من كلام، بكل ما يرد الى ذهن السامع؛ لأن المفاهيم والمعاني - سوى ما سيق له الكلام - هي في عهدة المتكلم بالارادة، فان لم يردها لايعاتب، الاّ انه ضامن حتماً بالغرض والقصد.
وقد تقرر في علم البيان: ان الصدق والكذب يعقبان قصد المتكلم وغرضه، فالتبعة والمؤاخذة في المقصود وفيما سيق له الكلام، على المتكلم. أما الذنب والخلل في مستتبعات الكلام - اي في تلويحاته وتلميحاته - وفي وسائله واسلوب عرضه - اي في صور المعاني وطرز الافادة والمعاني الاولى - فليس على المتكلم، بل على العرف والعادة والقبول العام، اذ يُحترم العرف والقبول العام لأجل التفهيم. ثم اذا كان الكلام حكاية، فالخلل والخطأ يعودان الى المحكي عنه.
نعم! لا يؤاخذ المتكلم في الصور والمستتبعات، اذ تناولهما ليس لجني الثمرات وانما للتسلق منهما الى أغصان مقاصد أعلى. فان شئت فتأمل في الكنايات، فمثلاً: عندما يقال: طويل النجاد كثير الرماد. فالكلام صادق ان كان الشخص طويل القامة سخي الطبع ولو لم يكن له سيف ولا رماد.
وان شئت فأدم النظر في المثال والأمثال الافتراضية ترى: ان تلك الامثال لها بالشهرة في مداولة الافكار والعقول قيمة وقوة، حتى انها تستعد للقيام بمهمة السفارة بينها. بل ان أصدق مؤلف واعلم حكيم كصاحب المثنوي (جلال الدين الرومي)1 وسعدي الشيرازي2 يستخدمان ذلك المثل الافتراضي، ولم يريا مشاحة وبأساً في استعماله.
_____________________
1 جلال الدين الرومي: (604-672هـ) (1207-1273م) عالم بفقه الحنفية والخلاف وانواع العلوم، ثم متصوف (ترك الدنيا والتصنيف) صاحب (المثنوي) المشهور بالفارسية المستغني عن التعريف، وصاحب الطريقة المولوية. ولد في بلخ (بفارس) استقر في (قونية) سنة 623 هـ عرف بالبراعة في الفقه وغيره من العلوم الاسلامية، فتولى التدريس بقونية في اربع مدارس بعد وفاة ابيه سنة 628 هـ (الاعلام 7/30 كشف الظنون 1587)
2 سعدى الشيرازى: (589هـ 691) (1189 - 1292م) من شعراء الصوفية الكبار، ومن ارقهم تعبيراً ولد في مدينة (شيراز)، قدم بغداد استكمالاً لدراساته في علوم الدين في المدرسة النظامية كان من مريدي الشيخ عبد القادر الكيلاني، قضى ثلاثين سنة من عمره في الاسفار ونظم الشعر، وكتابه كلستان مشهور.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 59
فاذا تنوّر لك هذا السر، فاقتبس منه واذهب الى زوايا القصص والحكايات، وقس فان ما يجري في الجزء قد يجري في الكل ايضاً.
تنبيه:
سترد قاعدة في "المقالة الثالثة" حول المشكلات القرآنية ومتشابهاته، ولكن لاقتضاء المقام نذكر هنا نبذة منها:
ان المقصود الاهم من الكتاب الحكيم هو ارشاد الجمهور الذين يمثلون اكثرية الناس، لأن خواص الناس يمكنهم ان يستفيدوا من مسلك العوام، بينما العوام لايستطيعون فهم ما يخاطب به الخواص حق الفهم، علماً ان معظم الجمهور هم عوام الناس والعوام لايقتدرون على مشاهدة الحقائق المحضة وادراك المجردات الصرفة متجردين عن مألوفاتهم ومتخيلاتهم. فالذي يضمن رؤيتهم ويحقق ادراكهم: إلباس المجردات واكساءها زي مألوفاتهم، تأنيساً لأذهانهم، كي يروا المجردات ويعرفوها بمشاهدتها خلف صور خيالية.
ولما كان الامر هكذا، تلبس الحقيقة المحضة مألوفاتهم. ولكن يجب الاّ يقصر النظر في الصورة ولاينحصر فيها. وبناءً على هذا: فان ما في أساليب اللغة العربية من مراعاة الأفهام ومماشاة الاذهان، قد جرت في القرآن الحكيم المعجز البيان، والتي تعبر عنها بـ " التنزلات الالهية الى عقول البشر". فمثلاً:
قوله تعالى
(ثم استوى على العرش) (الاعراف: 7) و (يد الله فوق ايديهم) (الفتح: 10) و (جاء ربك) (الفجر: 22) وامثالها من الايات الكريمة.
وأيضاً
(تغرب في عين حمئة) (الكهف: 86) و(والشمس تجري لمستقر لها) (يس: 38) ونظائرهما من الايات... كلها روافد لهذا الاسلوب.. (ذلك الكتاب لا ريب فيه).
خاتمة:
ان اغلاق الكلام المعقد وإشكاله ينشأ: إما من ركّة اللفظ وضعف الاسلوب، فهذا لا يدنو من القرآن المبين.. أو من دقة المعنى، وعمقه، وجودته، وعدم مألوفيته،

عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-02-2011
  #6
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,217
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صقيل الإسلام


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 60
وندرته، حتى لكأن المعنى يتدلل على الفهم ويبهم تجاهه، ليثير الشوق، طالباً للاهتمام والمكانة، فمشكلات القرآن من هذا القبيل.
تنبيه:
ان لكل آية ظهراً وبطناً، ولكل منها حد ومطّلع، ولكل منهما شجون وغصون. كما ورد حديث شريف بهذا المعنى (1) والشاهد الصادق عليه: العلوم الاسلامية.فلكل مرتبة من هذه المراتب درجتها وقيمتها ومقامها، لا تتزاحم هذه المراتب، وانما تشتبك فينشأ الاشتباه، ولا بد من التمييز، اذ كما لو مزجت دائرة الاسباب بدائرة الاعتقاد تتولد البطالة والكسل تحت اسم التوكل، او ينتج مذهب الاعتزال باسم مراعاة الاسباب، فان المراتب والدوائر هذه ان لم تفرز تنتج مثل هذه النتائج
_____________________
(1) (انزل القرآن على سبعة احرف) رواه احمد والترمذي عن أبي رضي الله عنه واحمد عن حذيفة، وهو عند الطبراني من حديث ابن مسعود بزياة.. وفي رواية اخرى عنده: لكل حرف منها ظهر وبطن ولكل حرف حدّ ولكل حدّ مطلع. (باختصار عن كشف الخفاء للعجلوني 1/209).
ولكل حدّ مطّلع، اي: لكل حدّ مصعد يصعد اليه من معرفة علمه. وفي المثل » الحديث ذو شجونٌ« أي فنون واغراض، وقيل: أي يدخل بعضه في بعض، أي: ذو شعب وامتساك بعضه ببعض.. واصل الشجنة بالكسر والضم شعبة من غصن من غصون الشجرة.
(لسان العرب باختصار)
.

صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 61
المقدمة الحادية عشرة

قد يتضمن الكلام الواحد احكاماً عدة، فربما يحوي الصدف الواحد كثيراً من الدرر. والمقرر لدى ارباب العقول:
ان القضية الواحدة تتضمن قضايا عدة؛ كل يثمر ثمراً مبايناً للآخر، كما نبع ونشأ من أصل مختلف.. فالعاجز عن التمييز يجانب الحق ويغترب عنه.
مثال ذلك:
ورد في الحديث الشريف: (بعثتُ انا والساعة كهاتين) 1. اي: لانبي بعدي الى قيام الساعة.. فالمقصود - أياً كان - من الحديث فهو حق.
فهذا الحديث الشريف يتضمن ثلاث قضايا:
اولاها: ان هذا الكلام هو كلام النبي صلى الله عليه وسلم.. هذه القضية هي نتيجة التواتر ان كان. "اي : ان كان الحديث متواتراً".
ثانيتها: ان المعنى المراد من هذا الكلام حق وصدق.. هذه القضية هي نتيجة للبرهان المستند الى معجزاته صلى الله عليه وسلم "اذ لايصدر عنه غير الصدق". فينبغى الاتفاق في هاتين القضيتين، لانه من ينكر الاولى فهو كاذب مكابر. اما الذي ينكر الثانية فهو ضال قد هوى في الظلمات.
القضية الثالثة: ان المراد من هذا الكلام هو هذا "أي الذي اسوقه".. فها هو الدر الموجود في هذا الصدف. هذه القضية هي نتيجة الاجتهاد، لا التشهي؛ اذ من المعلوم ان المجتهد ليس مكلفاً بتقليد غيره من المجتهدين.
هذه القضية الثالثة هي منبع الاختلافات. واصدق شاهد على ذلك هو مانراه من الاقوال المتضاربة "في مسألة واحدة".
_____________________
1 حديث صحيح اخرجه البخاري 6505 من حديث ابي هريرة رضي الله عنه. وهو حديث متواتر. انظر النظم المتناثر في الحديث المتواتر ص 143 برقم 187.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 62
فالذي ينكر هذه القضية لا يكون مكابراً ولا ضالاً، ولا ينساق الى الكفر، ان كان انكاره نابعاً من الاجتهاد؛ اذ العام لا ينتفي بانتفاء الخاص، وكم من قطعي المتن ظني الدلالة.. فلا بد من الدخول الى البيوت من ابوابها، فان لكلٍ باباً، ولكل قفل مفتاحاً.
خاتمة:
هذه القضايا الثلاث تجري في الآية جريانها في الحديث الشريف حيث انها قضايا عامة. الا ان الاولى منها فيها فرق دقيق.
وهكذا يتضمن الكلام احكاماً كثيرة، الا انها احكام خاصة، كل منها يختلف عن الاخر في الاصل مثلما يثمر ثمرة مباينة للآخر.
تنبيه:
قد يجد من يريد ان يغالط في مثل هذه المقامات ذرائع تافهة وحججاً واهية ناجمة من حب النفس:
كالتزام الطرف المخالف..
والتعصب الذميم..
وحب الظهور..
والشعور بالانحياز الى جهة..
وتسويغ الاوهام والخيالات باسنادها الى اصل..
ورؤية الامور الواهية قوية، لموافقتها رغباته الشخصية.
واظهار كماله بتنقيص الآخرين والتهوين من شأنهم..
وابراز كونه صادقاً بتكذيب الآخرين..
وبيان استقامته باضلالهم..
وغيرها من الامور السافلة المنحطة!
والى الله المشتكى.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 63
المقدمة الثانية عشرة

من لم يجد اللب ينهمك في القشر(1).. ومن لم يعرف الحقيقة يزلّ الى الخيالات. ومن لم ير الصراط المستقيم يقع في الافراط والتفريط.. ومن لا يملك ميزاناً ولاموازنة له يخدع وينخدع كثيراً.
ان سبباً خادعاً للظاهريين هو: إلتباس علاقة القصة بالعبرة المرادة منها، واقتران المقدمة بالمقصود في الذهن، والاقتران الحاصل في الوجود الخارجي.
لاحظ هذه النقطة فانك تحتاج اليها فيما بعد.
ثم ان احد الاسباب المولدة للفوضى والموقعة في الاختلافات والموجدة للخرافات والمنتجة للمبالغات - بل أهم سبب لها - هو عدم القناعة والاطمئنان بما خُلق في العالم من حسن وعظمة وسمو. والذي يعني الاستخفاف بالنظام بذوق فاسد. حاشَ لله.ان حسن الانتظام والعظمة والعلو المودعة في حقائق العالم، التي كل منها أبهر معجزة من معجزاتالقدرة الالهية في نظر العقل والحكمة، قد أبدعتها يد الحكمة الالهية ابداعاً في غاية الروعة بحيث لو قورن بها مايمرّ في خيال عشاق الخيال والمبالغين من حسن وكمال خارقين، لبقيت تلك الخيالات الخارقة، اعتيادية جداً. ولبدت تلك السنن الالهية خارقة حقاً، في غاية الحسن ومنتهى الكمال والعظمة. الاّ ان الألفة - التي هي أخت الجهل المركب وأم النظر السطحي - هي التي عصبت عيون المبالغين.
ولا يفتح تلك العيون المعصوبة الاّ أمر القرآن الكريم بالتدبر والتأمل في الآفاق والأنفس المألوفتين.
نعم! ان نجوم القرآن الثاقبة هي التي تفتح الابصار وترفع ظلام الجهل وظلمات النظرة العابرة. اذ تمزق الآيات البينات بيدها البيضاء حجاب الالفة والنظر السطحي
(1) يقول الشيخ الكيلاني: " كل عمل لا إخلاص فيه فهو قشر" الفتح الرباني- المجلس24


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 64
وأستار التشبث بالظاهر المحسوس، فتوجّه العقول وترشدها الى حقائق الآفاق والأنفس.
ثم ان مما يولد الرغبة في المبالغة، حاجة الانسان الفطرية الى اخراج ميله من طور القوة الى طور الفعل. 1 اذ من ميوله: رؤية العجائب المحيّرة واراءتها والرغبة في التجدد والايجاد. وبناءً على هذا:
لما عجز الانسان بنظره السطحي ان يتذوق ما في جفان الكائنات وصحونها من غذاء روحي مغطى بغطاء الالفة، سئم من لعق الجفان ولَحْس الغطاء. ولم يفده سوى عدم القناعة، والتلهف الى خوارق العادات والرغبة في الخيالات، مما ولّد لديه الرغبة في المبالغة للتجدد أو الترويج.. تلك المبالغة شبيهة بكرة الثلج المتدحرجة من أعلى قمة الجبل، كلما تدحرجت كبرت، فالكلام المتدحرج أيضاً من ذروة الخيال الى اللسان ومنه الى لسان ولسان، تُشتت حقيقته الذاتية، الاّ أنه يجمع حوله خيالات من كل لسان بميل المبالغة، فيكبر ويكبر حتى لايسعه القلب بل الصماخ بل حتى الخيال، ثم يجئ النظر بالحق فيجرّده من توابعه، ويرجعه عارياً مجرداً الى أصله، فيظهر سر
(جاء الحق وزهق الباطل).
حكاية جرت في هذه الايام تكون مثالاً على هذا:
ان أساس مسلكي منذ أيام صباي - ولا فخر - ازالة الشبهات التي تلوث حقائق الاسلام سواءً بالافراط ام بالتفريط، وصقل تلك الحقائق الالماسية. والشاهد على هذا تاريخ حياتي في كثير من حوادثه.
ففي هذه الايام ذكرت مسألة بديهية كـ"كروية الارض"، وطابقت عليها مايوافقها ويتعلق بها من مسائل دينية، دفعاً لاعتراضات الاعداء وازالة لشبهات المحبين للدين. كما سيأتي مفصلاً في "المسائل".
ثم ظهرالمغرمون بالظاهر المعتادون على الخيالات المهولة، وكأن عقولهم لا تقبل هذه المسألة، الاّ ان السبب الاساس غير هذا بلا شك، فتصرفوا تصرفات جنونية، كمن يريد ان يجعل النهار ليلاً باغماض العين، او يطفئ الشمس بالنفخ! وفي ظنهم كأن الذي يحكم بكروية الارض يخالف كثيراً من مسائل الدين. فتذرعوا بهذا
_____________________
1 طور القوة اي الكامن المستتر في الشئ. اما طور الفعل فهو الوضع المشاهد الظاهر. المترجم.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 65
وافتروا فرية كبيرة، ولم يبق الامر في هذا الحد بل تجاوز الى تضخيم الفرية حيث وجدوا لها جواً ملائماً في الاذهان المرتابة، بل ضخموها الى حد كبير كووا بها كبد اهل الدين. وأيّسوا اهل الحمية في رقي الاسلام.
ولكن كان هذا درساً عظيماً لي، اذ ايقظني الى: ان الصديق الجاهل يمكنه ان يضرّ الدين بمثل مايضرّ به العدو، ولهذا فلقد كنت منذ بداية الكتاب اتوجّه الى حيث يكون العدو، أقطع بالسيف الالماسي الذي في اليد بخسَهم حق الاسلام.. أما الان فلاجل تربية امثال هؤلاء الاصدقاء، اضطر الى ان لا أمس - بذلك السيف - الا قليلاً من خيالاتهم المفرطة التي يتلهف لها العوام.
وعلى الرغم من ان اموراً شخصية كهذه لا تستوجب مثل هذه المباحث، فان الأمر لم يعد امراً شخصياً، بل اصبحت مسألة عامة تتعلق بحياة المدارس الدينية.
ألا فليعلم اولئك الظاهريون! انهم عبثاً يحاولون.. فلقد تركونا حتى الآن في غيابة الجهل بهذرهم وسفسطتهم هذه التي يغرم بها العوام ويريدون ان يدعونا جاهلين، ليستغلوا جهلنا.
هيهات! لا.. ولن يكون هذا.. ستُبعث الحياة في المدارس الدينية! والسلام.
ثم انه مما يشوش افكار الظاهريين، ويخلّ بخيالاتهم، اعتقادهم ان دلائل صدق الانبياء عليهم السلام، محصورة ضمن خوارق العادات. واعتبارهم ان جميع احوال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم وحركاته - او معظمها - لا بد ان تكون خارقة. وهذا ما لايسمح به الواقع، لذا لايستقيم ولايصلح لهم ما يتخيلون. اذ ان اعتقاداً كهذا غفلة عظيمة عن سر الحكمة الالهية في الوجود، وعن تسليم الانبياء عليهم السلام مقاليد الانقياد الى قوانين الله الجارية في العالم.
نعم! ان كل حال من احواله صلى الله عليه وسلم وكل حركة من حركاته دليل على صدقه، وتشهد على تمسكه بالحق، مع انه يتبع السنن الالهية وينقاد اليها (سينبّه الى هذا في المقالة الثالثة).
ثم ان اظهار الخوارق ما هو الاّ لتصديق النبوة، والتصديق يحصل على اكمل وجه بمعجزاته الظاهرة، فاذا زادت عن الحاجة، فاما ان تكون عبثاً.. او منافية لسر


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 66
التكليف - الذي هو امتحان في الامور النظرية دون البديهيات او ما يقرب منها حيث يتساوى الادنى مع الاعلى - او تكون مخالفة للتسليم والانقياد لجريان الحكمة. بينما الانبياء عليهم السلام مكلّفون بالعبودية والتسليم اكثر من اي احد.
فياطالب الحق، الناظر الى كلماتي المشتتة!
ان الميول المزروعة في ماهيتك ستنمو وتفتح الازاهير بشمس الحقيقة التي تجري وهي ساكنة في المقدمات الاثنتي عشرة المذكورة.

خاتمة:
من يدّعي انه سيد - من اهل البيت - وهو ليس منهم، ومن ينكر انتسابه اليهم وهو سيد، كلاهما مذنب. فالدخول في السادة والخروج منهم كما انه حرام،كذلك النقصان والزيادة في القرآن الكريم والحديث الشريف ممنوع، بل الزيادة اضر لإفسادها النظام وفتحها أبواباً لمرور الاوهام؛ لان الجهل ربما يكون عذراً للنقصان، بينما الزيادة لاتكون الاّ بالعلم، والعالم لايعذر، فكما ان هذا هكذا، فالوصل والفصل في الدين لا يجوز ايضاً، بل ان ادخال زيف الحكايات وخبث الاسرائيليات واباطيل التشبيهات في ألماس العقيدة وجوهر الشريعة ودرر الاحكام انما هو حطّ لقيمتها وتنفير لطالبيها من متحري الحقيقة، ودفعهم للندامة.
خاتمة الخاتمة: ان ترك المستعد لما هو أهل للقيام به، وتشبثه بما ليس اهلاً له، عصيان كبير وخرق فاضح لطاعة الشريعة الكونية (شريعة الخلقة). اذ من شأن هذه الشريعة: انتشار استعداد الانسان ونفوذ قابليته في الصنعة واحترام مقاييس الصنعة ومحبتها وامتثال نواميسها والتمثل بها. وخلاصة الكلام: ان شأن هذه الشريعة؛ الفناء في الصنعة.
واذ وظيفة الخلقة هذه، فان الانسان بمخالفته هذه الشريعة؛ يغير الصورة اللائقة بالصنعة ويخل بنواميسها. ويشوّه صورة الصنعة غير الطبيعية - التي تشبث القيام بها - بميله الكامن للصنعة الاخرى لعدم الامتزاج بين الميل والصنعة، فيختلط الحابل بالنابل.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 67
وبناءً على هذا: فان كثيراً جداً من الناس يمضي بميل السيادة والآمرية والتفوق على الاخرين، فيجعل العلم المشوّق المرشد الناصح اللطيف، وسيلة قسر واكراه لاستبداده وتفوقه، فبدلاً من ان يخدم العلم يستخدمه. وعلى هذا فقد دخلت الوظائف بيد من ليسوا لها أهلاً، ولاسيما الوظائف في المدارس الدينية، فآلت الى الاندراس نتيجة هذا الامر.والعلاج الوحيد لهذا: تنظيم المدرسين الذين هم في حكم العاملين في دائرة واحدة، في دوائر كثيرة كما هو الحال في الجامعة، كلٌ في مجال اختصاصه، ليذهب كل واحدٍ بسوق انسانيته، وبتوجهه نحو حقه، ينفّذ قاعدة تقسيم الاعمال بميله الفطري امتثالاً للأمر المعنوي للحكمة الازلية.تنبيه:ان السبب المهم الذي ادّى الى تدني علوم المدارس الدينية، وصرفها عن مجراها الطبيعي هو:ان العلوم الآلية _ لما ارجت في عداد العلوم المقصودة، أصاب الاهمال العلوم العالية، اذ سيطر على الاذهان حلّ العبارة العربية التي لباسها (لفظها) في حكم معناها، وظل العلم الذي هوأصل القصد تبعياً. زد على ذلك، ان الكتب التي أصبحت في سلسلة التحصيل العلمي رسمية، وعباراتها متداولة الى حد ما. هذه الكتب حصرت الاوقات والافكار في نفسها ولم تفسح المجال للخروج منها.
***
يا أخا الوجدان!
كأني بك قد اشتقت الى رؤية ماهية الكتب الثلاثة التي ستترتب على هذه المقدمات. صبراً! سأذكر لك موضوعاً يمثل مجمل ما فيه، او بتعبير اخر يمثل صورتها المصغرة أو خريطتها المختصرة. ولكني سأبادر بتقديم تسع مسائل مما في تلك الكتب، على أمل أن أفصل الموضوع تفصيلاً عقب المقالة الثالثة ان شاء الله ووفّق الرب الكريم. فها هو ذا الموضوع!
_____________________
1 العلوم الآلية: كالنحو والصرف والمنطق وامثالها من العلوم التي تكون وسيلة لفهم العلوم العالية التي هي كالتفسير والحديث والفقه وامثالها من العلوم. المترجم



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 68
سأعرج الى علوم السماوات بسير روحاني، بالوسائل التي يريها القرآن الكريم وبقوة الفلسفة الصائبة. لننظر من هناك ونشاهد:
ان الكرة الارضية عبارة عن كرة ضخمة تديرها يد القدرة للصانع الحكيم، ونرى بعين الحكمة انه يقذفها كحجرالمقلاع، الى ان يشتتها، ليبدّلها الى افضل منها. ثم نتدلى ونتدرج من جو السماء حتى ننزل الى مهدنا، الارض التي بسطها وهيأها الخالق الرحمن لراحتنا.. ثم ننظر بإنعام الى الانسان، كيف انه يرمي بمهده بعد تجاوزه مرحلة الطفولة، فانه يرسل الى قصور السعادة الابدية كذلك بتخريب الارض.
وبعد ان نديم التأمل في هذا، ندخل ميدان الماضي بالسير الروحاني الذي لايقيده زمان ولامكان ونتحاور مع ابناء جنسنا، أبناء الماضي بأمواج البرقيات التاريخية، ونتعلم العبر والاحداث التي وقعت في تلك الزوايا الآفلة، ونصنع منها قطاراً للأفكار. ثم نرجع عائدين ونزور ابناء جنسنا ونتوجه الى مشرق المستقبل لنرى - ونري الآخرين - فجر سعادته الصادق الذي يتراءى من بعيد. ثم نركب قطار "الرقي والتقدم" وسفينة "السعي" المسماة بالتوفيق، حاملين في أيدينا مصباح البرهان وندخل معه "الزمان" الذي يبدو مظلم البداية، الاّ ان وراءه سطوعاً، لكي نصافح أبناء المستقبل ونهنئهم بسعادتهم التى يرفلون فيها.
وهكذا ففي هذه الصورة الفوطوغرافية المصغرة تندرج صورة جميلة، ستظهر لك محرراً.
والآن.. في هذه الارض تنبت اشجار الكتب المذكورة وتسقى بجداول المقالات الثلاث.
ايها الاخ!
قبل ان آخذ بيدك واوصلك الى خزينة الحقائق، ابادر الى سرد بضع مسائل وعدتك اياها، لأدفع بها غشاوة الخيالات عن بصر بصيرتك، تلك الخيالات التي صارت كالغول تضع ايديها على عينك فتغمضها، وتدفع صدرك وتخوفك.. وان أرتك شيئاً: فالنور نارٌ والدرّ مَدَرٌ. فاحذرها.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 69
واعلم! ان أعظم منشأ يولد شبهاتك، مسائل تتعلق:
بكروية الأرض.. ثم الثور والحوت.. وجبل قاف.. وسد ذي القرنين.. واوتادية الجبال.. ووجود جهنم تحت الارض.. والآيات الكريمة:
(دحيها) و(سطحت) و(الشمس تجري لمستقر لها) و(ينزّل من السماء من جبال فيها من برد) (النور: 43) وامثالها من المسائل. سأبين لك حقيقتها كي تسد عيون الاعداء وتفتح ابصار الاصدقاء.
وها أنذا أستهل بـ :
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-02-2011
  #7
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,217
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صقيل الإسلام


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 70
المسألة الاولى

من المعلوم لذهنكم المنصف:
ان علماء الاسلام متفقون على كروية الارض، ولو اتفاقاً سكوتياً. فان كان لديك ريب فاذهب الى "المقاصد" و"المواقف" تقف على المقصد وتطلع عليه، وترى ان"سعداً" 1 "وسيداً" 2 قد تناولا الكرة الارضية، تناول الكرة الاعتيادية، ينظرون بمتعة الى كل جانب منها. وان استعصى لك ذلك الباب على الفتح، فادخل التفسير الواسع للامام الرازي الموسوم بـ"مفاتيح الغيب" واجلس في حلقة تدريس ذلك الامام الداهية وانصت الى درسه، فان لم تطمئن بهذا ولم تتمكن من ان تستوعب كروية الارض فاتبع "ابراهيم حقي" 3 واذهب الى حجة الاسلام الامام الغزالي واستفته قائلاً: هل في كروية الارض مشاحة؟ فسيقول لك حتماً: "المشاحة ان لم تقبل بها" اذ قد بعث فتواه منذ عصره انه: من أنكر امراً ثابتاً بالبرهان القطعي ككروية الارض بحجة الحفاظ على الدين، فقد جنى على الدين جناية عظمى؛ اذ هذا ليس وفاءً للاسلام بل خيانة له.
_____________________
1 سعد التفتازاني: (712-793 هـ) (1312 -1390م) هو مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازاني، من ائمة العربية والبيان والمنطق، ولد بتفتازان (من بلاد خراسان) واقام بسرخس، وابعده تيمورلنك الى سمرقند، فتوفي فيها، ودفن في سرخس من كتبه (تهذيب المنطق) و(مقاصد الطالبين) في علم الكلام و(شرح الشمسية) في المنطق.(الاعلام7/219).
2 الشريف الجرجاني: (ت 838هـ/1434م) هو محمد بن علي بن محمد بن علي نورالدين ابن الشريف الجرجاني، فاضل من اهل شيراز. نقل الى العربية رسالة في (المنطق) كتبها ابوه بالفارسية، وله:(الرشاد في شرح الارشاد) شرح رسالة التفتازاني، (ارشاد الهادي) في النحو، وصنّف (الغرة) في المنطق. وله شرح للـ(المواقف) في علم الكلام للعلامة عضدالدين الأيجي المتوفي سنة 756هـ (الاعلام 6/288).
3 ابراهيم حقي: (1703 - 1780م) ولد في احدى قرى ارضروم شرقي الاناضول تلقى العلوم على علماء ارضروم حتى بلغ الى أن نظم الشعر في ثلاث لغات. انتسب الى الشيخ فقير الله في (تيللو) من اقضية (سعرد) سنة 1728 ثم تولى التدريس والوعظ والارشاد. ألف عدة كتب منها (لب الكتاب) في مشاهير الشعراء والمفكرين في سبع مجلدات واشهر كتابه (معرفتنامه)



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 71
وان كنت أمياً لا تجيد قراءة الفتوى، فاستمع الى معاصرنا وأخينا في الفكر، السيد حسين الجسر 1 انه يعنّف منكر الكروية ويقول بقوة الحق ودون تردد:
"من كان ينكر كروية الاوض مستنداً الى الدين في سبيل حمايته، فهو صديق احمق، أضرّ على الدين من العدو الألد".
فان لم يفق فكرك الباحث عن الحقيقة من رقدته، بهذا الصوت القوي ولم تستطيع عينك الانفتاح، فخذ بيد ابن همام 2 وفخر الاسلام 3 وامثالهم واذهب الى الامام الشافعي، واستفته في مسألة في الفقه: تؤدى الفرائض الخمس في وقت واحد وهناك قوم لا وقت عشاء لهم احياناً، كيف يصلون العشاء؟ وهناك قوم لا تغرب عليهم الشمس أياماً او لا تطلع لياليَ، كيف يصومون؟ واستفسره: كيف ينطبق تعريف الشرط الشرعي وهو: ما يقارن كل ما سواه من الاركان، على شرطية استقبال القبلة في الصلاة؟ علماً ان المقارنة هي في القيام وحده وفي نصف القعود؟ فاطمئن انه - أي الامام الشافعي - يجيبك عن المسألة الاولى بكروية الدائرة المارة من الشرق والغرب، وعن المسألة الثانية والثالثة بتقوس الدائرة الممتدة من الجنوب الى الشمال. أي يفتيك بما اعطاك البرهان العقلي.ويقول عن مسألة القبلة: "ما القبلة الاّ عمود نوراني قد نظم السماوات الى العرش وثقب طبقات كرة الارض الى الفرش".
فلوكشف الغطاء لصافح شعاعُ عينك القبلةَ نفسها في كل حركة من حركات صلواتك.
_____________________
1 حسين الجسر (1261 - 1327هـ) (1845 - 1909م) عالم بالفقه والادب، من بيت علم في طرابلس الشام. له نظم كثير. دخل الازهر سنة 1279 هـ واستمر الى سنة 1284هـ، وعاد الى طرابلس فكان رجلها في عصره، علماً ووجاهة، وتوفي فيها. من كتبه (الرسالة الحميدية في حقيقة الديانة الاسلامية) و(الحصون الحميدية) في العقائد الاسلامية. (الاعلام 2/258).
2 ابن همام: (790ـ 861 هـ)(1388 ـ 1457م)
محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد ابن مسعود، امام من علماء الحنفية، عارف باصول الديانات والتفسير والفرائض والفقه والحساب. توفي في القاهرة. من كتبه (فتح القدير) في شرح الهداية في ثماني مجلدات في فقه الحنفية و(التحرير) في اصول الفقه.
3 فخر الاسلام البزدوي: (400 - 482هـ) (1010- 1089م)
هو على بن محمد بن الحسين فخر الاسلام البزدوي فقيه اصولى من اكابر الحنفية، من سكان سمرقند نسبته الى بزده قلعة بقرب (نسف). له تصانيف منها: (كنز الوصول) في اصول الفقه، يعرف باصول البزدوى، و(تفسير القرآن) كبير جداً، و(غذاء الفقهاء) في الفقه.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 72
أيها الاخ!
لا قيمة لأوهامك العجيبة كي تدخل في القلب، لانك لم تجد لها موضعاً سوى عالم الخيال، فضلاً عن انك لا تصدّقه، بل لا تتمكن حتى من اقناع نفسك بها.. بيد انك زغت.. فان كان قلبك المفتوح للخيالات والمقفل تجاه الحقيقة، لايسع الكرة الارضية التي هي اصغر بكثير مما تتخيلها، فوسّع أفق نظرك ليتوسع ذهنك، ثم شاهد سكان الارض كمجلس واحد واسألهم فان صاحب البيت ادرى بما فيه. فانهم يجيبونك بالمشاهدة والتواتر بلسان واحد:
"ياهذا ان كرتنا الارضية التي هي مهدنا، وقطارنا في فضاء العالم، ليست مجنونة فتشذ عن القاعدة الجارية والقانون الالهي في الاجرام العلوية." ويبرزون لك الخرائط دلائل مجسمة مفروشة أمامك.
ان شريعة الفطرة الالهية المسماة بنظام خلق العالم، فرضت على الارض التي تسير سير المريد المولوي العاشق 1 ان لاتشذ عن صف النجوم المقتدية بالشمس. اذ قالت الارض مع قرينتها السماء
(أتينا طائعين) (فصلت:11)، والطاعة في الجماعة أفضل وأحسن.
نحصل مما سبق:
ان الله سبحانه وتعالى خلق الارض كما يشاء واقتضتها حكمته، ولم يخلقها كما تشتهي خيالاتكم يا أهل الخيال، ولم يجعل عقولكم مهندسة الكائنات.
تنبيه:
من الامور المشيرة الى ضعف العقيدة أو الى الميل الى مذهب السوفسطائي او الى طلب الاسلام حديثاً ولماّ يتملكه.. هو الكلمة الحمقاء: "هذه الحقيقة منافية للدين"! لأن الذي يجد احتمالاً لمنافاة ما هو ثابت بالبرهان القاطع مع الدين الذي هو الحق والحقيقة، ويخاف من هذه المنافاة لايخلو من:
اما انه قد اختفى في دماغه سوفسطائي، يشوش له الامور. او استتر في قلبه موسوس يثير الشغب والفوضى. أو اصبح طالباً للدين مجدداً يريد ان يتملكه بالتنقيد.
_____________________
1 تشبيه لطيف بالمريد المنتسب الى المولوية، الطريقة الصوفية المعروفة في تركيا، الذي يدور حول نفسه وفي حلقة الذكر بنشوة الذكر وجذبة التفكر انسجاماً مع حركة الموجودات. المترجم.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 73
المسألة الثانية

لا يخفى ان "مسألة الثور والحوت" المشهورة 1 دخيلة في الاسلام وطفيلية عليه، أسلمت مع راويها. فان شئت راجع "المقدمة الثالثة" لترى من أي باب دخلت.
أما نسبتها الى ابن عباس رضي الله عنهما، فانظر الى مرآة " المقدمة الرابعة" ترى سرّ الحاقها به. وبعد هذا فان كون "الارض على الثوروالحوت" يروى فيه حديث:
اولاً: لانسلّم انه حديث، لان عليه علامة الاسرائيليات.
ثانياً: ولو سلّمنا انه حديث، فانه آحادي، يفيد الظن لضعف الاتصال. فلا يدخل في العقيدة، اذ اليقين شرط فيها.
ثالثاً: حتى لو كان متواتراً وقطعي المتن، فليس بقطعي الدلالة. فراجع المقدمة الحادية عشرة، وتأمل في المقدمة الخامسة لترى كيف استهوت الظاهريين الخيالات حتى حرفوا هذا الحديث عن محامله الصحيحة ووجوهه الصائبة.
فالوجوه الصحيحة له ثلاث:
الوجه الاول:
فكما ان حَمَلة العرش المسماة بـ: الثور، النسر، الانسان، وغيرهم ملائكة،كذلك هذا الثور والحوت ملكان اثنان حاملان للارض. والاّ فان تحميل العرش العظيم على الملائكة، بينما الارض على ثور عاجز - كالارض - مناف لنظام العالم! ويرد في لسانالشريعة: ان لكل نوع ملكاً موكلاً خاصاً به يلائمه، وقد سمي ذلك الملك باسم ذلك النوع، بناءً على هذه العلاقة، وربما يتمثل بصورته في عالم الملائكة. وقد روي حديث بهذا المعنى: ان الشمس تغرب في كل مساء تحت العرش وتسجد عنده ثم تستأذن وتعود 2.
_____________________
1 فصلت «اللمعة الرابعة عشرة« هذه المسألة. المترجم.
2 عن ابي ذر رضي الله عنه قال: دخلت المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس. فلما غابت الشمس قال: "يا ابا ذر! هل تدري اين تذهب هذه؟" قال: قلت: الله ورسوله اعلم. قال: فانها تذهب فتستأذن في السجود، فيؤذن لها، وكأنها قد قيل لها: ارجعي من حيث جئتِ فتطلع من مغربها.. اخرجه مسلم 1/139.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 74
نعم ان الملك الموكّل على الشمس اسمه الشمس ومثاله الشمس، وهو الذي يذهب ويؤوب.
ولدى الفلاسفة الالهيين: ان لكل نوع ماهية مجرّدة حية ناطقة تمد الافراد. ويعبّر عنهم الشرع: مَلَك الجبال ومَلَك البحار وملك الامطار، الاّ انه لا تأثير لهم تأثيراً حقيقياً اذ لا مؤثر في الكون الا الله. اما الحكمة في وضع الاسباب الظاهرية فهي في اظهار العزة والعظمة لكي لايرى النظر المتوجه الى دائرة الاسباب مباشرةَ يد القدرة لامور خسيسة ظاهرة من دون حجاب. أما في الملكوتية وفي حقيقة الامر وهي دائرة العقيدة، فان مباشرةَ يد القدرة بدون حجاب لكل شئ، يلائم العزة؛ اذ كل شئ في هذه الجهة سام وعال... ذلك تقدير العزيز العليم.
الوجه الثاني:
ان الثور هو المثير للحرث وأهم واسطة لزراعة الارض وعمارتها. أما الحوت (السمك) فهو مصدر عيش اهل السواحل، بل كثير من الناس.
فاذا سأل احد: ِبمَ تقوم الدولة؟ فالجواب: على السيف والقلم. او اذا سأل: ِبمَ تقوم المدنية؟ فالجواب: على المعرفة والصناعة والتجارة. او اذا سأل: بِمَ تدوم البشرية وتبقى؟ فالجواب: بالعلم والعمل.
كذلك اجاب سيد الكونين وفخر العالمين صلى الله عليه وسلم - والله اعلم - بناء على ماسبق ذلك السائل الذي لم يستعد ذهنه لدرك الحقائق - بدلالة المقدمة الثانية - وسأل عن شئ خارج نطاق وظيفته: الارض على أي شئ؟ فاجابه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم بما يلزمه أصلاً: الارض على الثور. اي ان عمارة الارض لنوع البشر ومنبع الحياة لأهل القرى منهم، على الزراعة، والزراعة محمولة على كاهل الثور. وان معظم معيشة القسم الآخر من البشر، ومعظم مصادر تجارة اهل المدنية، في جوف السمك وعلى الحوت. حتى يصدق عليهم المثل السائر: كل الصيد في جوف الفرا! 1
_____________________
1 من أمثال العرب، ضربه النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً لأبي سفيان حين قال له: أنت يا ابا سفيان! كما قيل: وكل الصيد في جوف الفرا.
والمثل يضرب في الواحد الذي يقوم مقام الكثير لعظمه (المستقصى من أمثال العرب للزمخشري 2/224).
وفي النهاية لإبن الاثير 3/422 الفرأ مهموز مقصور: حمار الوحش، وجمعه فراء. قال له ذلك بتأليفه على الاسلام، يعني : أنت في الصيد كحمار الوحش، كل الصيد دونه. المترجم.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 75
فهذا جواب لطيف حقّ حتى لو كان مزاحاً فانه صلى الله عليه وسلم لا يقول الاّ حقاً. ولو سلّم ان السائل سأل عن كيفية الخلقة. فقد [تلّقى السامع بغير المترقب] 1 كما هو القاعدة في علم البيان، اذ تلقى الاجابة عن الضروري والمطلوب باسلوب حكيم. ولم يجاوبه على وفق شهية السائل المريض الكاذبة. والآية الكريمة: (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس) (البقرة: 189) براعة الاستهلال لهذه الحقيقة.
الوجه الثالث:
ان الثور والحوت برجان مقدّران في مدار الارض السنوي. فتلك البروج وان كانت افتراضية موهومة، الاّ ان السنن الالهية الجارية في العالم والتي تنظم وتربط الاجرام السماوية والمسماة لفظاً واصطلاحاً بالجاذبية العامة، قد تمركزت في تلك البروج، لذا فالتعبير الفلكي: "الارض على البروج" جائز.
هذا الوجه هو في نظر علم الفلك الحديث، لأن القديم قد افترض البروج في السماء، بينما الحديث افترضها في مدار الارض، لذا يحوز هذا التأويل أهمية في نظر الفلك الحديث.
ثم انه قد روي ان السؤال تعدد، فمرة أجاب: "على الحوت" واخرى - بعد شهر - أجاب: "على الثور". بمعنى ان خيوط القانون المذكور واشعتها المنتشرة في كل جهة من جهات الفضاء الواسع غير المحدود، قد تجمعت وتمركزت في برج الحوت، لذا انطلقت الكرة الارضية من برج الدلو ومسكت بالقانون المتدلي من برج الحوت، وتعلقت ثمرةً يانعة على غصن من شجرة الخلقة... أو انها - اي الارض - كالطير جثمت على برج الثور وبنت عشها فيه.
وبعد ما عرفت هذا دقق النظر منصفاً:
انه حسب مضمون "المقدمة الخامسة" ترى كيف تؤول تلك المسألة العجيبة المشهورة التي تدور بين أهل الخيال المولعين باختراع الغرائب بغير اسناد العبثية الى الحكمة الازلية، وبغير احالة الاسراف الى الصنعة الربانية، وبغير اخلال النظام البديع الذي هو برهان الصانع الجليل؟
ألا تباً وسحقاً وبُعداً للجهل!!
_____________________
1 هذه العبارة وامثالها من الجمل والفقرات المحصورة بين قوسين مركنين [...] جاءت في النص التركي باللغة العربية. المترجم.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 76
المسألة الثالثة
جبل قاف
اعلم ان العلم بوجود شئ غير العلم بنوعيته وماهيته. فلا بد من التمييز بين هاتين النقطتين. فكم من يقين الاصل تصرّف فيه الوهم حتى أخرجه من الامكان الى الامتناع. فشاور فيه "المقدمة السابعة" تجبك بلسان فصيح: نعم. وكم من قطعي المتن تزاحمت الظنون في دلالته، بل تحيرت الافهام بالاجابة عن السؤال: ما المراد؟. فشقق صدف "المقدمة الحادية عشرة" تجد هذه الجوهرة.
تنبيه: ولما كان هذا الامر هكذا.. فلا يشير من قطعي المتن الى "قاف" الاّ
(ق والقرآن المجيد). بينما يجوز ان يكون (ق) كـ صلى الله عليه وسلم، فليس هو في شرق الدنيا بل في غرب الفم. فيسقط الدليل من اليقين بهذا الاحتمال.
ثم ان دليلاً اخر بعدم وجود قطعي الدلالة غير هذا، قول احد مجتهدي الشريعة وهو القرافي 1: لا أصل له.
اما نسبة كيفيته المشهورة الى ابن عباس رضي الله عنه، فانظر في مرآة "المقدمة الرابعة" ليتمثل لك وجه نسبتها. علماً ان كل ماقاله ابن عباس كما لا يلزم ان يكون حديثاً. كذلك لا يلزم قبولَه لكل ما نقله، لان ابن عباس قد التفت قليلاً ايام شبابه الى الاسرائيليات عن طريق الحكايات اظهاراً لبعض الحقائق.
واذا قلت: ان لعلماء الصوفية تصويرات كثيرة حول "قاف".
أقول جواباً: ان عالم المثال المشهور هو ميدان جولانهم، فكما نتجرد من ملابسنا، فهم يتجردون من اجسادهم ويشاهدون ذلك المعرض الحاوي للعجائب والغرائب بالسير الروحاني، فـ"قاف" متمثل في ذلك العالم كما يعرّفونه. اذ كما
_____________________
1 القرافي (ت 684هـ - 1285م) هو (شهاب الدين) احمد بن ادريس عبد الرحمن القرافي من علماء المالكية، وهو مصري المولد والمنشأ والوفاة له مصنفات جليلة في الفقه والاصول منها (انوار البروق في انواء الفروق) اربعة اجزاء، (الذخيرة) في فقه المالكية ستة مجلدات (الاعلام 1/94 - 95).



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 77
تتمثل السموات والنجوم في مرآة صغيرة، يتمثل اصغر الاشياء من عالم الشهادة كالبذرة، شجرةً ضخمة في عالم المثال بتأثير من تجسم المعاني. ولايخلط احكام هذين العالمين قط. والمطلع على لبّ كلام محي الدين بن عربي 1 يصدّق هذا.
اما ما اشتهر بين العوام ومَن هم مثلهم ان "قاف" جبل محيط بالارض، متعدد، مابين كل اثنين منه مسافة خمسمائة سنة، ذروته تمس السماء. الى آخر خيالاتهم، فاقتبس من "المقدمة الثالثة" لتقويم هذه الخيالات، ثم ادخل في هذه الظلمات لعلك تجد زلال بلاغتها.
وان أردت ان تعرف عقيدتي في هذه المسألة، فاعلم انني اجزم بوجود "قاف" ولكن احيل كيفيته الى ثبوت حديث صحيح متواتر. فان ثبت الحديث في بيان كيفيته اؤمن به على ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو صدق وصحيح وحق، لا على ماتخيله الناس، لانه قد يكون المفهوم غيرالمراد. واما ما فهمناه من هذه المسألة فنعطيكه:
اولاً: ان جبل "قاف" هو سلسلة هيمالايا التي هي أم اعظم جبال "جامولار" التي هي سلسلة احاطت بمعظم الشرق، والتي كانت حاجزة بين البدويين والمدنيين سابقاً، ويقال: انه قد تشعب من عرق هذه السلسلة اكثر جبال الدنيا، ومن هذا الاصل نشأ الفكر المشهور باحاطة "قاف" للدنيا.
ثانياً: ان عالم المثال برزخ بين عالمي الشهادة وعالم الغيب فهو يشبه الاول صورة والاخر معنى، هذا المفهوم يحل ذلك المعمّى واللغز.
فمن شاء ان يطلع قليلاً على هذا العالم - عالم المثال - فله ان ينظر اليه بنافذة الكشف الصادق، او بمنفذ الرؤيا الصادقة، او بمنظار المواد الشفافة اوعلى الاقل بشاشة الخيال الخلفية. فهناك دلائل كثيرة جداً على وجود هذا العالم، عالم المثال، وتجسم المعاني فيه.
_____________________
1 محي الدين بن عربي: 560 - 638 هـ /1165 - 1240 م : هو محمد بن علي بن محمد ابن عربي، ابو بكر الحاتمي الطائي الأندلسي، المعروف بمحي الدين بن عربي، الملقب بالشيخ الأكبر: فيلسوف، من أئمة المتكلمين في كل علم. ولد في مرسيه (بالاندلس) وانتقل الى اشبيلية. وقام برحلة فزار الشام وبلاد الروم والعراق والحجاز. وانكر عليه اهل الديار المصرية »شطحات« صدرت عنه، فعمل بعضهم على إراقة دمه. وحبس، فسعى في خلاصه علي بن فتح البجائي فنجا. واستقر في دمشق، فتوفي فيها له نحو اربعمائة كتاب ورسالة، منها (الفتوحات المكية) في التصوف وعلم النفس و(فصوص الحكم). الاعلام 6/281 فوات الوفيات 2/241 ميزان الاعتدال 3/108 جامع كرامات الاولياء 1/118 شذرات الذهب 5/190.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 78
وبناء على هذا يمكن ان يكون "قاف" الموجود في هذه الكرة الارضية بذرة "قاف" ذي عجائب موجود في عالم المثال.
ثالثاً: ان مُلك الله واسع لا ينحصر في هذه الكرة الفقيرة.وفضاء الله اوسع ودنيا الله اعظم من ان يضيق بـ"قاف" ذي عجائب. وليس خارجاً من الامكان العقلي. انه يناطح براسه كتف السماء - التي هي موج مكفوف 1 - رغم بعده خمسمائة سنة من ايام الله عن كرتنا الارضية، اذ يجوز ان يكون "قاف" شفافاً وغير مرئي كالسماء.
رابعاً: لِمَ لا يجوز ان يكون "قاف" سلسلة عظيمة تجلت في دائرة الافق، مثلما ان اسم الافق يكون مصدراً لـ"قاف" لانه اينما نظر المرء تتراءى له دائرة من سلاسل جبلية كالدوائر المتداخلة، وهكذا بالتدريج والتعاقب يَثْبت النظرُ ويبقى، مسلّماً أمره الى الخيال، حتى يتخيل الخيال دائرة من سلاسل جبلية محيطة بالارض تمس اطراف السماء. فتشاهد متصلة بها بدلالة الكروية حتى لو كان البعد خمسمائة سنة.
_____________________
1 جزء من حديث اخرجه الامام احمد في مسنده 2/370 والترمذي برقم 3298 وفي تحفة الاحوذي برقم 3352 وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه. وعزاه صاحب التحفة لاحمد وابن حاتم والبزار. وفي مجمع الزوائد 132/8 : جزء من حديث رواه الطبراني في الاوسط، وفيه ابو جعفر الرازي، وثّقه ابو حاتم وغيره وضعّفه النسائي وغيره ، وبقية رجاله ثقات. وانظر فيه كذلك 7/121 وتفسير ابن كثير سورة الحديد.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 79
المسألة الرابعة
سد ذى القرنين

كما علمت ان العلم بوجود شئ غير العلم بماهيته وكيفيته.
وان القضية الواحدة تتضمن احكاماً كثيرة، منها ضرورية، ومنها نظرية مختلف فيها.
وان المقلد المعاند اذا سأل احداً عما رآه في كتاب، وان كان محرفاً على وجه الامتحان والتجربة واجابه حتى عن معلومه الغائب عنه. فالجواب صحيح من جهتين:
اما انه صحيح مباشرة، يطابق الواقع. او بمايطابق معلوم السائل المعاند بالذات، او بالتأويل. فكلا الوجهين صحيح.
فالجواب الواحد اذاً يرضي الواقع، لانه حق، ويقنع السائل لانه يقدر على تطبيقه على معلومه، وان لم يكن مراداً. وفي الوقت نفسه لايجرح شأن المقام، لأن فيه - اي في الجواب - عقدة الحياة التي تستمد منها مقاصد الكلام بواعث حياتها.
وهكذا جواب القرآن.
سنميز بعد الآن الضروري من غير الضروري؛ ومن الاحكام الضرورية المفهومة في الجواب القرآني والتي لاتقبل الانكار: "ذو القرنين" 1 وهو شخص مؤيد من عند الله، بنى سداً بين جبلين بارشاده وتدبيره، دفعاً لفساد الظالمين والبدويين.. ويأجوج ومأجوج قبيلتان مفسدتان وان السد سيدمّر حالما يأتي امر الله.. الخ.
وعلى هذا القياس؛ فما دلّ عليه القرآن من احكام، هو من ضروريات القرآن، أي انها قطعي الدلالة، ولا يمكن انكار حرف منها، ولكن تفصيلات تلك المواضيع وكيفياتها ووجوهها وحدود ماهياتها ليست قطعية الدلالة في القرآن بل ثبت انه لايدل عليها حسب قاعدة: "لايدل العام على الخاص بأيٍ من الدلالات الثلاث"
_____________________
1 فصلت اللمعة السادسة عشرة ص164 - 166 من اللمعات هذه المسألة. المترجم.


عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-02-2011
  #8
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,217
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صقيل الإسلام


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 80
وحسب دستور علم المنطق: "يكفي للحكم تصور وجهٍ ما بين الموضوع والمحمول" ولكن يمكن ان يقبلها القرآن. اي ان تلك التفصيلات هي من الاحكام النظرية محوّلة الى دلائل اخرى، فهي مظنة الاجتهاد، وفيها مجال للتأويل. والدليل على نظريتها (ظنيتها): اختلاف العلماء.
ولكن ياللأسف، فانه بتخيل لزوم مطابقة الجواب لتمام السؤال، ومن دون اهتمام بخلل السؤال، أخذوا الاحكام الضرورية والنظرية للجواب باجمعها من مصدر السائل ومنبت السؤال واصبحوا مفسرين له، لابل مؤّولين لما يجوز ان يدل عليه الجواب، لا بل اظهروا افراد المعنى معنىً له، لا بل أوّلوا مايجوز ان يصدُق عليه مع شئ من الامكان مدلولاً مفهوماً له. فتلقاه الظاهريون بالقبول، والعلماء بالاصغاء دون تنقيد لعدم اهميته كالحكايات كما وضح في "المقدمة الثالثة" ولكن لو قبل بتلك التفصيلات كما ورد في التوراة والانجيل المحرّفين فانها تخالف عصمة الانبياء التي يعتقد بها أهل السنة والجماعة، الشاهد على هذا قصة لوط وداود عليهما السلام.
ولكن لما كان في الكيفية مجال للاجتهاد والتأويل، فأنا اقول وبالله التوفيق:
الاعتقاد الجازم بما اراد الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم واجب مطلقاً. لانه من ضروريات الدين. اما المراد ما هو؟ فاختلف في تعيينه.
فذو القرنين - لا أقول اسكندر لأن الاسم لايسمح بذلك - قال بعض المفسرين في حقه انه: مَلَك، وقيل ملِك، وقيل: نبي، وقيل: ولي.. الى آخر ماقيل. 1
وعلى كل فهو مؤيد من عند الله ومرشد لبناء سد الصين.
اما السد فقال بعضهم انه: سد الصين، وقيل: غيره تحول جبلاً، وقيل: سد مخفي لا يطلع عليه، سترته انقلابات احوال العالم.. وقيل.. وقيل..
وعلى كل فهو ردم عظيم وجدار جسيم بني لدفع شر المفسدين.
أما يأجوج ومأجوج، فقيل: قبيلتان من ولد "يافث" وقيل: "المغول والمانجور" وقيل: اقوام شرقية شمالية، وقيل: طائفة من جماعة عظيمة من بني آدم يشيعون الفتنة والفوضى في الدنيا والمدنية.وقيل: مخلوقات لله تعالى آدميون او غيرهم
_____________________
1 فصلت »اللمعة السادسة عشرة« هذه المسألة. المترجم.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 81
في ظهر الأرض او في بطنها، يسببون فساد العالم عند قيام الساعة. اما جهة الاتفاق والامر القاطع: فهما طائفتان من مخلوقات الله كانتا اهل غارة وفساد على الحضارة والمدنية كأجل القضاء عليها.
اما خراب السد؛ فقيل: عند القيامة، وقيل: قريب منها، وقيل: يخرب بحيث يعدّ أمارتها وان كان بعيداً، وقيل: وقع الخراب ولكن لم يدكّ. وقيل وقيل...
وعلى كلٍ؛ فانهدامه علامة على كهولة الارض وشيب البشر.
فان وازنت بين ما ذكر آنفاً وقارنته يمكنك ان تجوّز ان السدّ المذكور في القرآن هو سدّ الصين، الطويل بفراسخ، ومن عجائب الدنيا السبعة المشهورة قد بني بارشاد مؤيدٍ من عند الله لصدّ شرور اهل البداوة عن اهل المدنية في ذلك الزمان.
نعم! فمن اولئك الهمج قبيلة "الهون" الذين دمّروا اوروبا. و"المغول" الذين خربوا آسيا.
ثم ان خراب السد من علامات الساعة، ولاسيما دكه غير خرابه. واذا ما قال النبي صلى الله عليه وسلم انه من اشراط الساعة: "انا والساعة كهاتين"كيف يستغرب كون خراب السد من علامات القيامة بعد خير القرون؟ ثم ان انهدام السد بالنسبة لعمر الارض هو انقباض وجه الارض لشيبها، بل كنسبة وقت الاصفرار الى تمام النهار، حتى لو كانت القيامة بعيدة بألوف من السنين.
كذلك فان الفوضى والاضطراب الذي يولّده يأجوج وماجوج هو في حكم حمىً تصيب البشرية لهرمها.
وبعد هذا ينفتح لك باب لتأويل آخر من فاتحة "المقدمة الثانية عشرة" وهو: ان القرآن يقص القصص لأخذ العبر منها، وينتقي منها النقاط التي هي كالعقد الحياتية التي تناسب مقصداً من مقاصد القرآن ويربطها به.. فهما - أي القصة والعبرة - تتعانقان في الذهن والاسلوب وان لم تتراء ناراهما او نوراهما معاً ولم يحصلا في الخارج سوية. ولما كانت القصة للعبرة فلا يلزمك تفصيلاتها ولا عليك كيف كانت. خذ حظك منها وامض الى شأنك.. واستظهر من "المقدمة العاشرة" ترى ان المجاز يفتح باباً للمجاز فـ
(تغرب في عين حمئة) (الكهف: 86) تنعي على الظاهريين وتطردهم.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 82
واعلم! ان مفتاح حجة الله المتجلية في اساليب العرب هو؛ البلاغة التي هي أصل الاعجاز والمؤسسة على الاستعارة والمجاز، لا ما يلتقط من خرزٍ - بالحدس الكاذب - من المشهورات وتختبئ في أصداف الآيات دون رضاها. فاستنشق خاتمة "المقدمة العاشرة" فانها مسك وذقها ففيها عسل.
ويجوز ان يكون السد وهو مجهول الكيفية في موضع آخر مجهول مستور عنا كسائر علامات الساعة. ويبقى الى القيامة، مجهولاً ببعض انقلاباته، وسينهدم في القيامة.
اشارة: معلوم ان المسكن يدوم أزيد من ساكنيه، وعمر القلعة اطول من عمرالمتحصنين بها. فالسكنى والتحصن علّة وجودها لا علة بقائها ودوامها. وحتى ان كانا كذلك فلا يقتضيان استمرارها ولاعدم خلوها. فليس من ضروريات دوام الشئ دوام الغرض المترتب عليه.. فكم من بناء يبنى للسكنى او للتحصن وهو خاوٍ وخالٍ.
ومن عدم فهم هذا السر فتح الطريق للأوهام.
تنبيه:
ان القصد من هذا التفصيل : فتح طريقٍ لتمييز وفرز: التفسير عن التأويل.. والقطعي عن الظني.. والوجود عن الكيفية.. والحكم عن التفصيلات الجانبية.. والمعنى عن افراد المعنى.. والوقوع عن الامكان.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 83
المسألة الخامسة

ان ما اشتهر من "ان جهنم تحت الارض"، فنحن معاشر اهل السنة والجماعة لا نعين موضعها على القطع واليقين، ولكن "التحتية" هي الظاهرة. 1
وبناءً على هذا اقول وبالله التوفيق:
اولاً: ان كرتنا الارضية ثمرة من ثمرات شجرة العالم العظيمة، عظمة شجرة طوبى، كما اثمرت سائر نجومها. فما تحت الثمرة يشمل تحت جميع اغصان تلك الشجرة. وبناء على هذا فـ "جهنم" تحت الارض بين تلك الاغصان، فمُلك الله تعالى واسع، وشجرة الخليقة منتشرة، اينما كانت جهنم فلها موضع بينها ولا تقتضي مسافة التحتية طولاً ولا اتصالاً بالارض.
وفي نظر الحكمة الجديدة: ان النار مستولية على اكثر ما في الكون، وهذا يشفّ عن: ان اصل هذه النار واساسها جهنم، ترافق الانسان الى الخلود وفي طريقه الى الابد، وستمزق يوماً ما الستار، وتبرز الى الميدان قائلة: تهيأوا!
وأود ان الفت نظركم الى هذه النقطة:
ثانياً: ان تحت الكرة واسفلها هو مركزها وجوفها، فعلى هذا فان الارض حبلى ببذرة شجرة زقوم جهنم، ستلدها يوماً ما. بل الارض الطائرة في الفضاء ستبيض شيئاً كهذا،حتى ان لم تكن جهنم بتمامها في تلك البيضة فان رأسها او اي عضو منها مطوية فيها بحيث تتحد مع الدركات وسائر الاعضاء منها يوم القيامة وتبرز على اهل العصيان جهنم مهولاً عجيباً.
فيا هذا! الحساب والهندسة يمكنهما ان يأخذاك الى موضع جهنم وان لم تذهب أنت اليها. وذلك:
ان درجة الحرارة تتزايد درجة واحدة تقريباً في الارض بكل ثلاثة وثلاثين متراً في باطن الارض، بمعنى ان درجة الحرارة تكون في المركز ما يقرب من مئتي الف درجة
_____________________
1 هذه المسألة فصّلها السؤال الثالث من المكتوب الاول ص9 - 12 . المترجم.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 84
- في الاغلب - فنسبة هذه النار المركزية الى درجة حرارتنا البالغة الف درجة هي مئتا مرة. وهذه تثبت نفس ماورد في الحديث المشهور 1 - ما معناه - من ان نار جهنم أشد من نارنا بمئتي مرة.
ثم ان قسماً من جهنم "زمهرير"، والزمهرير يحرق ببرودته. اذ قد ثبت في العلم الطبيعي؛ ان الحرارة تصل الى درجة تجعل الماء ثلجاً، وتحرق بالبرودة، حيث تمص الحرارة مصاً. اي ان النار التي تشمل جميع المراتب، قسم منها "زمهرير".
تنبيه:
ان العالم الاخروي الابدي لايقاس بمقياس هذه الدنيا الفانية، ولا بسعتها، فاستعد سيتجلى لك شئٌ من الاخرة في ختام "المقالة الثالثة".
اشارة: من السعادة الاخروية، من تلك الجنة الوارفة الظلال، تنفتح امام نظر العقل ثمانية ابواب ونافذتان وذلك:
بشهادة الانتظام في جميع العلوم.. وبارشاد الاستقراء التام للحكمة.. وبرمز جوهر الانسانية.. وبايماء عدم تناهي ميول البشر.. وبتلميح القيامة النوعية المكررة في كثير من الانواع، كالليل والنهار.. وبدلالة عدم العبثية.. وبتلويح الحكمة الازلية.. وبارشاد الرحمة الالهية المطلقة.. وبلسان النبي الصادق الفصيح.. وبهداية القرآن المعجز البيان.
_____________________
1 عن ابي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشتكت النار الى ربها، فقالت: "يارب! أكل بعضي بعضاً، فجعل لها نفسين. نفسٌ في الشتاء ونفس في الصيف. فشدّة ما تجدون من البرد من زمهريرها، وشدة ما تجدون من الحر من سمومها" رواه البخاري - كتاب الايمان، ابن ماجه 4319 والترمذي 2592 .
وعن ابي هريرة رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هذه النار جزء من مائة جزء من جهنم". رواه احمد 24 / 164 (الفتح الرباني) واورده الهيثمي في المجمع 1 / 387 وقال: رواه احمد ورجاله رجال الصحيح.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 85
المسألة السادسة

ان الخاصية المميزة للتنزيل، الاعجاز، والاعجاز يتولد من ذروة البلاغة، والبلاغة مؤسسة على مزايا وخصائص، لاسيما الاستعارة والمجاز. فمن لم ينظر بمنظارهما لا يفوز بمزاياها.. فكم في التنزيل من "تنزلات الهية الى عقول البشر" تسيّل ينابيع العلوم في اساليب العرب تأنيساً للأذهان. والتي تعبّر عن مراعاة الافهام واحترام الحسيات ومماشاة الاذهان.
ولما كان الامر هكذا.. فلا بد لاهل التفسير الاّ يبخسوا حق القرآن بتأويله بما لم تشهد به البلاغة.
ولقد تحقق اجلى من أية حقيقة كانت، ان معاني القرآن الكريم حق، كما ان صور افادته للمعاني، بليغة ورفيعة. فمن لا يُرجع الجزئيات الى ذلك المعدن ولا يلحقها بذلك النبع يكن من المبخسين حقه. وسنبين مثالاً يلفت النظر.
(والجبال أوتاداً) (النبأ: 7) يلوّح بمجاز بديع - الله أعلم بمراده - اذ يجوز ان يكون المجاز المشار اليه يومئ الى تصوّر كهذا:
اولاً: ان الكرة الارضية الشبيهة بالسفينة والغواصة العائمة في بحر الفضاء الواسع قد حافظت على توازنها، وارسيت اثناء اشتباكها بالهواء في جوف المحيط الهوائي، بجبالها الشبيهة بالاعمدة والاوتاد بمعنى ان الجبال في حكم الاعمدة والسارية لتلك السفينة.
ثانياً: ان الاهتزازات الناجمة من انقلابات الارض الداخلية تهدأ وتسكن بالجبال؛ اذ هي كالمسامات للارض، فمتى ماحصل فوران وغضب في الجوف تتنفس الارض بمنافذ جبالها. فتسكن غضبها وتهدأ حدّتها. اي ان استقرار الارض وهدوءها بجبالها.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 86
ثالثاً: ان عمود عمارة الارض، الانسان وحياة الانسان متوقفة على محافظة منابعها من ماء وتراب وهواء، مع ضمان الاستفادة منها. والجبال هي التي تحقق ذلك. بتضمنها لمخازن الماء وتصفيتها الهواء وتلطيفها الحرارة والبرودة وهي سبب في تنقية الهواء ومنبع تراكم الغازات المضرة الداخلة فيه. وفي الوقت نفسه تترحم على التراب فتحفظه من التوحل والتعفن وتقيه من استيلاء البحر.
رابعاً: ان وجه المشابهة والمناسبة من حيث البلاغة هو:
لو فرضنا شخصاً ركب منطاد الخيال، فصعد الى السماء بعيداً عن الارض. فاذا نظر الى سلسلة الجبال من هناك وتخيل الطبقة الترابية خيام البدو المفروشة على الاوتاد، والجبال المنفردة خيمة منصوبة على عماد.. أتراه قد خالف طبيعة الخيال؟ ولو تصورت وصوّرت لبدويّ تلك السلاسل الجبلية - مع المستقلة بذاتها - يام قبائل الاعراب ضربت في صحراء الارض مع تخللها خياماً مفردة، لم تبعد عن اساليب العرب الخيالية.. او لو تصورت انك قد تجردت من هذا العالم المشيد، وبدأت تتامل في الارض التي هي مهد البشرية بمنظارالحكمة وفي السماء التي هي السقف المرفوع وتخيلت بعد ذلك ان السماء المحددة بدائرة الافق المماسة معها، كالفسطاط المضروب على الارض، المرتبط باوتاد الجبال. فانك لا تتهم في خيالك هذا .
سيرد مثال اومثالان لهذا الامر في ختام المسألة الثامنة.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 87
المسألة السابعة

ان (دحيها) و(سطحت) و(فرشناها) و(تغرب في عين حمئة) وما شابهها من الآيات المذكورة في القرآن الكريم، يتشبث بها اهل الظاهر ارباكاً للاذهان، ونحن لسنا بحاجة الى الدفاع، لان المفسرين العظام قد كشفوا سرائر ما في ضمائر هذه الآيات، ما فيه الكفاية، فلم تبق لنا حاجة. وقد اعطوا درساً للعبرة، وسطروا السطر الاساس لنحذو حذوهم.
ولكن بكوا قبلي فهيّجوا لي البكاء وهيهات ذو رحم يرق لبكائي
ان اعلام المعلوم، لاسيما ان كان مشاهداً عبث، كما هو معلوم. اي لابد من وجود نقطة غرابة تخرجه من العبثية.
فلو قيل: انظروا الى الارض كيف جعلناها مسطحة ومهداً مع كرويتها، وقد نجت من تسلط البحار..
او اذا قيل: انظروا كيف تجري الشمس لتنظيم معيشتكم مع استقرارها.
أو مثل: انظروا كيف تغرب الشمس في عين حمئة وهي بعيدة عنا الوف السنين..
عند ذلك تخرج معاني الآيات من الكناية الى الصراحة.
نعم! ان نقاط الغرابة هذه هي نكات بلاغية.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 88
المسألة الثامنة

ان مما ورط الظاهربين، بل السبب الاول الذي دفعهم الى القلق والتردد، هو:
التباس الامكانات بالوقوعات 1، والخلط بينهما. فيقولون مثلاً: اذا كان الشئ هكذا، فهو ممكن في القدرة الالهية، وهو ادلّ على عظمته تعالى في عقولنا، فهو اذاً واقع!... هيهات! ايها المسكين! اين عقولكم من ان تكون مهندسة الكون؟ فانتم عاجزون عن ان تحيطوا بالحسن الكلي بعقلكم الجزئي هذا! لوكان انف بطول ذراع من ذهب ربما يستحسنه من حصر فيه النظر!!
ثم ان الذي حيّرهم، هو توهمهم منافاة الامكان الذاتي لليقين العلمي، فيتقربون الى مذهب "اللاأدرية" 2 بترددهم وتشككهم في العلوم العادية اليقينية. بل لايخجلون، اذ يلزم مسلكهم هذا ان يتشكك الانسان في امور بديهية كوجود بحيرة "وان" وجبل "سبحان" لان هذا ممكن في مسلكهم، اي ان تنقلب بحيرة "وان" الى دبس، وينقلب جبل "سبحان" الى عسل مغطى بالسكر!! او انهما يذهبان الى بحرالعدم - كقسم من اصدقائنا الذين لم يرضوا بكروية الارض فسافروا فزلت اقدامهم - بمعنى: يلزم عدم التصديق بالحال السابقة للبحيرة والجبل!!
ايها المحرومون من المنطق! اين انتم؟ تأملوا! فقد تقرر في علم المنطق: ان الوهميات التي في المحسوسات، من البديهيات 3 فان انكرتم هذه البداهة، فليس لي
_____________________
1 الوقوعات: حصول الشئ ووجوده بعد ان كان معدوماً ، ولا يلزم من امكان وجود الشئ وجوده فعلاً، فشمس ثانية يمكن وجودها ولكنها غيرموجودة.
2 هو فرقة من السوفسطائيين يقولون: ان حقائق الاشياء لا تدري هل انها موجودة او معدومة، ونحن لا ندري هل ندري او لا ندري.
3 يعني بهذا ان من البديهي ان لا يحصل الوهم في المحسوسات لان ما يُدرك بها يسمى علماً لا وهماً، وهذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة أما السوفسطائيون فانهم يجوّزون الوهم في المحسوسات ويقولون: إن حبة العنب اذا وضعت في ماءٍ داخل قارورة زجاجية فانها تُرى كبيرة اكبر منها اذا كانت خارجها، فهذا وهمٌ حصل بالمبصرات. فيجابون بان الحبة لم تتغير انما عرض عليها الماء داخل القارورة فاصبحت تُرى هكذا، وإلاّ فهي لم تتغير. د. عبدالملك



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 89
الاّ ان اقدم لكم التعازي بدل النصائح ، بموت العلوم العادية بينما السفسطة قد بعثت لديكم.
البلاء الرابع: الذي شوّش اهل الظاهر هو: التباس الامكان الوهمي بالامكان العقلي 1. علماً ان الامكان الوهمي متولد من عرق التقليد، لا من اساس. وهو الذي يولد السفسطة، وحيث لادليل له، يفتح في البديهيات طريقاً الى الشك والاحتمال والظن، هذا الامكان الوهمي غالباً ما ينتج من عدم المحاكمة العقلية، ومن ضعف عصبى قلبي، ومن مرض عصبي عقلي، ومن عدم تصور الموضوع والمحمول. بينما الامكان العقلي هو تردد في امر لا يظفر بدليل قطعي على وجوده وعدمه ما لم يكن واجباً ولا ممتنعاً. فان كان الامكان ناشئاً عن دليل فهو مقبول والاّ فلا اعتبار له.
ومن احكام الامكان الوهمي هذا: ان قسماً من المتشككين يقولون ربما لا يكون الامر على ما اظهره البرهان، لان العقل لايستطيع ان يدرك كل شئ. وعقلنا يعطي لنا هذا الاحتمال. نعم... لا.. بل الذي يعطيكم هذا الاحتمال هو شككم ووهمكم. لان العقل من شأنه المضي على برهان.
صحيح ان العقل لا يتمكن ان يدرك ويوازن كل شئ ، ولكن مثل هذه الماديات ولاسيما ما لا يفلت من البصر مهما كان صغيراً فانه يزنه ويدركه. ولو لم نتمكن من دركه نكون في تلك المسألة غير مكلفين، كالاطفال..
تنبيه: ان مخاطبي الفكري الذي اخاطبه بالظاهري وذي النظر السطحي والذي افضحه واعنفه واوبّخه هو في غالب الاحوال عدو الدين ممن يبخس حقه ولا يرى جمال الاسلام وينظر اليه من بعيد بنظر سطحي عابر.. ولكن احياناً هو من اهل الافراط والغلو ممن يفسد الدين من حيث يريد الاصلاح، وهم اصدقاء الدين الجاهلون.
البلاء الخامس: هو تحري الحقيقة في كل موضع من كل مجاز مما اخذ بيد اهل التفريط والافراط الى الظلمات.. نعم لابد من وجود حبة من حقيقة لينمو وينشأ منها المجاز ويتسنبل. أو ان الحقيقة هي الفتيلة التي تعطي الضوء. أما المجاز فهو

_____________________
1 الفرق بينهما هو ان الإمكان الوهمي قد يوجد وقد لا يوجد، بينما الإمكان العقلي لا يتخلف. د.عبدالملك.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 90
زجاجها الذي يزيد ضياءه. نعم، المحبة في القلب... والعقل في الدماغ وطلبهما في اليد والرجل عبث.
البلاء السادس: هو قصر النظر على الظاهر، مما طمس على النظر، وستر البلاغة فلا يتجاوزون الى المجاز، مادامت الحقيقة ممكنة في العقل. وحتى لو صاروا الى المجاز يمسكون عن معناه. وبناء على هذا فان تفسير او ترجمة الايات والاحاديث لايبينان حسن بلاغتهما. وكأن لديهم ان قرينة المجاز امتناع الحقيقة عقلاً.. بينما القرينة المانعة كما يمكن ان تكون عقلاً يمكن ان تكون حساً وعادةً ومقاماً وباشياء اخرى.
فان شئت فادخل من الباب الواحد والعشرين بعد المئتين من "دلائل الاعجاز" تلك الجنة الفردوس، تر ان ذلك الداهية عبدالقاهر الجرجاني قد اخذ الى جانبه امثال هؤلا المتعسفين يوبخهم ويعنفهم.
البلاء السابع: هو حصرهم العَرَضَ 1 كالحركة على الذاتي 2، والأينية 3 مما نكر المعرّف ولزم انكار الوصف الجاري على غير مَن هو له. وبهذا حادت شمس الحقيقة عن جريانها. اما نظر هؤلاء الى اساليب العرب، كيف يقولون: صادفتنا الجبال، ثم فارقتنا.. تراءت لنا وبعُدَت عنا.. والبحر ايضاً ابتلع الشمس ... الخ. وكم يقلبون الخيال لاسرار بيانية كما في المفتاح للسكاكي، وهذا لطافة بيانية مؤسسة على مغالطة وهمية، بسرّ الدوران 4.
وسأبين هنا مثالين مهمين لينسج على منوالهما:
(وينزل من السماء من جبال فيها من بََرَد) (النور: 43) (والشمس تجري لمستقر لها) (يس: 38).
هاتان الآيتان الكريمتان جديرتان بالملاحظة والتدبر. لان الجمود على الظاهر جحود بحق البلاغة، اذ الاستعارة البديعة في الآية الاولى تتوقد بحيث تذيب الجمود المتجمد، وتشق كالبرق ستار سحب الظاهر. اما البلاغة في الآية الثانية فهي مستقرة وقوية ولامعة بحيث تقف الشمس لمشاهدتها.
_____________________
1 العرض: هو الذي لا يبقى زمانين او ما له تحيّز تابع لمحل، كالحركة والسكون والحمرة والصفرة في وجه الانسان مثلاً.
2 الذاتي: يراد به هنا ما له تحيّز مستقل بنفسه، أي يأخذ قدراً من الفراغ بنفسه.
3 الاينية: يراد بها المكان والمحل، لانه يسأل عنه بـ "أين".
4 لعله الدوران عند علماء الاصول، وهو : يوقف المعلول على علته وجوداً وعدماً، أي كلما وجدت العلة وجد المعلول وكلما انعدمت انعدم والله اعلم. د. عبد الملك.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 91
فالآية الاولى نظيرتها: (قوارير من فضة) (الانسان: 16) التي تضمنت استعارة بديعة مثلها، وذلك: كما ان اواني الجنة ليست زجاجاً فهي ليست فضة كذلك، بل مباينة الزجاج للفضة قرينة الاستعارة البديعة. اي ان الزجاج بشفافيته والفضة ببياضها ولمعانها كأنهما نموذجان لتصوير اقداح الجنة، ارسلهما الرحمن الى هذا العالم ليهيجا الرغبة لدى المشتاقين الى الجنة ممن يبذلون انفسهم واموالهم في طلبها. ومثل هذا تماماً، تتقطر استعارة بديعة من الآية الكريمة: (من جبال فيها من برد)
ان موضع هذه الاستعارة مبني على تصور التسابق والمحاكاة بين الارض والسماء بحكم الخيال وهي كالاتي:
كما ان الارض تتزين بجبالها المتزملة بحلل الثلج والبرد او تتعمم بها، وتتبرج ببساتينها، فالسماء كذلك تقابلها وتحاكيها فتتجمل متبرقعةً بالسحاب المتقطع جبالاً واطواداً واودية وتتلون بالوان مختلفة مصورة لبساتين الارض.
فلا خطأ اذاً في التشبيه إن قيل ان تلك السحب المتقطعة شبيهة بالجبال او بالسفن او بقافلة الابل او بالبساتين والوديان، اذ يخيل - في نظر البلاغة - ان قطعات السحاب سيارة وسبّاحة في الجو كأن الرعد راعيها وحاديها، كلما هزّ عصا برقه على رؤوسهم في البحر المحيط الهوائي اهتزت تلك القطعات وارتجت وتراءت جبالاً كالعهن المنفوش. وكأن السماء تدعو ذرات بخار الماء بالرعد لتسلم السلاح والجندية ثم بأمر الاستراحة يذهب كلٌ الى مكانه ويختفي.
وكثيراً ما لبس السحاب زي الجبال ويتشكل بهيكله ويتلون ببياض البرد والثلج ويتكيف بالرطوبة والبرودة. ولهذا فبين الجبال والسحب مجاورة وصداقة، فاستحق - في نظر البلاغة - ان يتبادلا ويستعيرا لوازمهما، فيعبّر عن السحاب بالجبل مع تناسي التشبيه.
وفي مواضع من القران تظهر هذه الاخوة والتبادل اذ قد يظهر هذا في زي ذاك وذاك في زي ذلك وفي بريقه.. ومن منازل التنزيل مصافحة الجبال والسحب مثلما هناك معانقة ومصافحة مشهودة على صحيفة كتاب العالم. اذ نرى السحاب موضوعاً على جبل وكأن الجبل مرسى لسفن السحاب.

عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-02-2011
  #9
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,217
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صقيل الإسلام

صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 92
الآية الثانية: (والشمس تجرى لمستقر لها)
نعم! ان كلمة تجري تشير الى اسلوب بياني كما ان كلمة (لمستقر) تلوح الى حقيقة. بمعنى انه يجوز ان يكون الاسلوب البياني المشار اليه بـ (تجري) هو الاتي:
ان الشمس كسفينة مدرعة مصنوعة من ذوب الذهب تجري وتسبح في بحر السماء الاثيري - المعبّر عنه بموج مكفوف - وهي وان ارسيت في مستقرها الاّ ان ذلك الذهب الذائب يجري في ذلك البحر العظيم، بحر السماء. ولكن ذلك الجريان انما هو بالنظر الحسي الذي يراعى لاجل التفهيم، فهو جريان تبعي وعرضي. الاّ ان للشمس جريانين حقيقيين؛ ولابد ان يكون لها جريان، لان المقصد - من الآية - بيان الانتظام، وحسب اساليب العرب وفي نظر النظام ان كان الجريان ذاتياً او تبعياً فالامر سواء.
ثانياً: ان الشمس في مستقرها وعلى محورها متحركة، لذا فان اجزاءها التي هي من ذوب الذهب تجري ايضاً، هذه الحركة الحقيقية هي حبة من تلك الحركة المجازية المذكورة بل هي محركها.
ثالثاً: انه من مقتضى الحكمة ان جريان الشمس وجنودها التي هي سياراتها في فضاء العالم في جريان مشاهد، لان القدرة الالهية قد جعلت كل شئ حياً ومتحركاً ولم تجعل شيئاً محكوماً عليه بالسكون المطلق، ولم تسمح الرحمة الالهية ان يتقيد اي شئ كان بالعطالة المطلقة التي هي اخت الموت وابنة عم العدم. لذا فالشمس ايضاً طليقة بشرط اطاعتها للقانون الالهي، فلها الحرية في الجريان، ولكن بشرط الاّ تتدخل في حرية غيرها. ان الشمس سلطان الفضاء وهي المتمثلة للأمر الالهي، والمنفذة للمشيئة الالهية في كل حركاتها.
نعم ان جريان الشمس كما يكون على سبيل الحقيقة يمكن ان يكون على سبيل المجاز ايضاً، وكما ان جريان الشمس حقيقي وذاتي يمكن ان يكون عرضياً وحسياً ايضاً. والمنار على المجاز كلمة (تجري) والملوح للعقدة الحياتية لفظ (لمستقر لها).


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 93
نحصل مما سبق: ان المقصد الالهي في هذه الاية الكريمة: ابراز النظام والانتظام فالنظام ساطع كالشمس، وبناء على قاعدة: "كُلِ العسل ولاتسل" فان الحركة المنتجة للنظام سواء كانت من الشمس او من دوران الارض، ايما كانت، فلسنا مضطرين الى تحرّي السبب الاصلي لانه لا يخلّ بالقصد الاساس في ذكر الآية. شبيه ذلك: الالف مثلاً في قال، تحصل بها الخفة، فأياً كان اصل الالف، فالخفة حاصلة والالف الف، حتى لوكان اصلها قافاً بدل الواو..
اشارة: فمع هذه التصويرات فان الجمود البارد والتعصب على الظاهر ينافي حرارة البلاغة ولطافتها كما انه يجرح ويخالف استحسان العقل الشاهد على الحكمة الالهية التي هي اساس نظام العالم الشاهد على الصانع. وذلك:
اذا استقبلت مثلاً جبل (سبحان) من بعد فراسخ، وأردت ان يتبدل وضعه بالنسبة لجهاتك الاربع، او تشاهده في كل جهة من جهاتك. فبدلاً من ان تتخطى خطوات يسيرة نحوه، تكلف جبلاً ضخماً ذلك الجرم العظيم ان يأتي اليك من جهاتك الاربع وقطعه دائرة عظيمة تحار في تصورها. فهذا المثال العجيب للاسراف والعبثية واختيار الطريق الاطول وترك الاقصر، اعدّه جناية على نظام العالم.
والان انظر بنظر الحقيقة المنصفة الى هذا التعصب البارد، كيف يعارض حقيقة باهرة ثابتة بشهادة الاستقراء التام. تلك الحقيقة هي:
لا اسراف ولا عبث في الخلقة، والحكمة الازلية لاتترك الطريق القصير المستقيم، ولا تختار الطريق الطويل المتعسف، لذا فلِمَ لا يجوز ان يكون الاستقراء التام قرينة المجاز؟ وما المانع الذي يتصور؟.
تنبيه:
ان شئت فادخل المقدمات. واجعل المقدمة الاولى هي الصغرى والمقدمة الثالثة هي الكبرى لتنتج لك: ان الذي يشوش اذهان الظاهريين، انجذابهم الى الفلسفة اليونانية، حتى نظروا اليها نظر المسلّمات في فهم الآيات.. ومما يضحك الثكلى: ان بعضاً فهموا من كلام مَن هو اجل من ان لا يميز جوهر الحقيقة عن زخارف الفلسفة، قوله بالكردية (عناصر جهارَن زِ وانن ملك) اي: ان الملائكة اجسام نورانية مخلوقة من عناصر، لا كما يزعمه الفلاسفة من انهم مجرّدون عن المادة. ففهموا من هذا الكلام ومن هذا التصريح ان العناصر اربعة وهي من الاسلام!!


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 94
فيا للعجب! ان كونها اربعة، وكونها بسيطة هي من اصطلاحات الفلاسفة، ومن اسس العلوم الطبيعية الملوثة، ولا علاقة لها أصلاً باصول الاسلام. بل هي قضية يحكم عليها بظاهر المشاهدة.
نعم! ان كل ما يمس الدين لا يلزم ان يكون من الدين، فان قبول كل مادة تمتزج مع الاسلام انها من عناصرالاسلام، يعني الجهل بخواص عنصر الاسلام نفسه، لان العناصر الاربعة الاساسية للاسلام، وهي الكتاب والسنة والاجماع والقياس، لاتولد مثل هذه المواد ولاتركبها.
حاصل الكلام: ان تلك العناصر.. هي عناصر، وهي بسيطة، وهي اربعة، وهي من مستنقع الفلسفة، وليست من معدن الشريعة الخالص، ولكن لدخول اخطاء الفلسفة في لسان سلفنا، وجدوا محملاً صحيحاً لها. لان السلف عندما قالوا اربعة فهي ظاهراً اربعة، او هي حقيقة اربعة، وهي التي تولد الاجسام العضوية: مولد الماء والحموضة والآزوت والكربون. وان كنت حراً في تفكيرك فانظر الى شر هذه الفلسفة، كيف ألقت الأذهان الى السفالة والأسر. فمرحى للفلسفة الجديدة المتحررة التي قضت على تلك الفلسفة اليونانية المستبدة قضاءً مبرماً.
تحقق اذاً مما سبق: ان مفتاح دلائل اعجاز الايات وكشاف اسرار البلاغة، هو في معدن البلاغة العربية، وليس في مصنع الفلسفة اليونانية.
ايها الأخ! لما كان الاهتمام واللهفة في كشف الاسرار أبلغنا هذا المقام. وجعلناك تصحبنا ونقلق فكرك، ونشعر بما تعانيه من اتعاب فالآن نطوّف بك في ميادين عنصر البلاغة ومفتاح الاعجاز في المقالة الثانية.
واياك ان ينفرك اغلاق اسلوبها، وظاهر مسائلها المهلهل. لان دقة معانيها هي التي اغلقتها. وجمال معانيها بذاتها هو الذي جعلها مستغنية عن الزينة الظاهرية.
نعم! ان صداق المستغنية المتغنجة، انعام النظر، ومنازلها سويداء القلب. فما خلعتُ عليها من ملابس يخالف طراز هذا العصر، ذلك لانني قد ترعرعت في الجبال، وهي مدرسة شرقي الاناضول فلم اتعلم الخياطة الحديثة!
ثم ان اسلوب بيان الشخص يمثل شخصيته. وانا كما ترون وتسمعون: معمىً، مشكل الحل.
تـم… تم…



عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-02-2011
  #10
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,217
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صيقل الإسلام


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 95
المقالة الثانية
عنصر البلاغة

هذه المقالة تبّين بضع مسائل تتعلق بروح البلاغة

صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 97
بسم الله الرحمن الرحيم
الطيبات لله والصلوات على نبيه

المسألة الأولى
يخبرنا التأريخ بأسف بالغ انه: لما انجذب الاعاجم بجاذبة سلطنة العرب فَسَد بالاختلاط مَلَكة الكلام المُضَري، التي هي اساس بلاغة القرآن؛ اذ لما تعاطى الاعاجم والدخلاء صنعة البلاغة العربية حوّلوا الذوق البلاغي من مجراه الطبيعي للفكر، وهو نظم المعاني، الى صنعة اللفظ وذلك:
ان المجرى الطبيعي لأنهار الأفكار والمشاعر والاحاسيس انما هو نظم المعاني.. ونظم المعاني: هو الذي يشيد بقوانين المنطق.. واسلوب المنطق: متوجه الى الحقائق المتسلسلة.. والفكر الواصل الى الحقائق: هو الذي ينفذ في دقائق الماهيات ونسَبها.. ودقائق الماهيات ونسبها هي الروابط للنظام الأكمل في العالم.. والنظام الاكمل: هو المندمج فيه الحسن المجرد الذي هو منبع كل حسن.. والحسن المجرد هو روضة ازاهير البلاغة التي تسمى لطائف ومزايا.. وتلك الجنة المزهرة ودقائق الماهيات ونسبها: هي التي تجول فيها بلابل عاشقة للازاهير المسماة بالشعراء والبلغاء وعشاق الفطرة.. ونغمات تلك البلابل يمدّها صدىً روحاني هو نظم المعاني.
ولكن لما حاول الدخلاء والاعاجم الدخول في صفوف الادباء، فلت الأمر. لأن مزاج الأمة مثلما انه منشأ احاسيسها ومشاعرها، فان لسانها القومي يعبّر عن تلك المشاعر ويعكس تلك الاحاسيس. وحيث ان أمزجه الامة مختلفة، فاستعداد البلاغة في ألسنتها متفاوت ايضاً، ولا سيما اللغة العربية الفصحى المبنية على قواعد النحو.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 98
وبناء على هذا فان نظم اللفظ الذي هو ارض قاحلة جرداء لاتصلح لأن تكون مسيلاً لجريان الافكار ومنبتاً لأزاهير البلاغة، اعترض مجرى البلاغة الطبيعي وهو نظم المعنى فشوش البلاغة.
وحيث ان المبتدئين ومن لامهارة لهم احوج من غيرهم الى ترتيب اللفظ وتحسينه وتحصيل المعاني اللغوية - بسوء اختيارهم أو بسَوق الحاجة - فقد صرفوا جلّ اهتمامهم الى اللفظ ورغبوا فيما هو أسهل مجرى وأظهر للنظر العابر وآنس للعوام وأولى بأن ينجذبوا اليه وينفعلوا به ويجتمعوا حوله. لذا انجذبوا الى تنميق الالفاظ صارفين اذهانهم عن تنسيق المعاني والتغلغل فيها، تلك المعاني التي كلما قطعت بها مفازة تراءت صحارى شاسعة باهرة منها.. وهكذا سار الأمر بهم حتى افترقت اذهانهم فداروا حيث دار اللفظ بعد تصور المعاني. بل حتى غلب اللفظ المعنى وسخّره لنفسه،فاتسعت المسافة بين طبيعة البلاغة، وهي كون اللفظ خادماً للمعنى، وصنعة العاشقين للفظ.
فان شئت فادخل في "مقامات الحريري" فانه مع جلالة قدره في الأدب، فقد استهواه حب اللفظ وبذلك أخلّ بأدبه الرفيع، فاصبح قدوة للمغرمين باللفظ، حتى خصص الجرجاني - ذلك العملاق - ثلث كتابيه دلائل الاعجاز واسرار البلاغة، دواءً لعلاج هذا الداء.
نعم! ان حب اللفظ داء، ولكن لايعرف انه داء!
تنبيه:
كما ان حب اللفظ مرض، كذلك حب التصوير (الفني)، وحب الاسلوب، وحب التشبيه، وحب الخيال، وحب القافية مرض مثله. بل ستكون هذه الامراض بالافراط امراضاً مزمنة في المستقبل، كما تبدو البوادر من الآن. حتى يضحى بالمعنى في سبيل ذلك الحب، بل بدأ كثير من الادباء باساءة الادب والاخلاق لأجل نادرة ظريفة، أو لإتمام قافية رنانة.
نعم! اللفظ يُزيّن ولكن اذا اقتضته طبيعة المعنى وحاجته.. وصورة المعنى تُعظّم وتعطى لها مهابة ولكن اذا أذِن بها المعنى... والاسلوب يُنوّر ويلمّع ولكن اذا


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 99
ساعده استعداد المقصود.. والتشبيه يلطّف ويجمّل ولكن اذا تأسست على علاقة المقصود وارتضى به المطلوب.. والخيال يُنشط ويسيّح ولكن اذا لم يؤلم الحقيقة، ولم يثقل عليها، وان يكون مثالاً للحقيقة متسنبلاً عليها.

المسألة الثانية
ان حياة الكلام ونموه: بتجسّم المعاني وبنفخ الروح في الجمادات وذلك بإلقاء الحوار فيما بينها بالسحر البياني الحاصل بقوة الخيال؛ المبنية على المغالطة الوهمية، المؤسسة على الدوران - اي ظن احد الشيئين علّة للآخر في الوجود والعدم كما هو الاعتقاد العرفي - فالسحر البياني اذا تجلى في الكلام بَعَثَ الحياة في الجمادات كالساحر، ويوقع بينها محاورة قد تنجرّ الى المحبة او المخاصمة، فيجسّم المعاني ويحييها ويدرج فيها الحرارة الغريزية.
فاذا شئت فادخل في البيت الصاخب:
يناجيني الإخلافُ من تحت مُطْلِهِ فتختصم الآمالُ واليأس في صدري 1
أي: إن خلف الوعد يحاورني من تحت ستار المماطلة في الحق، ويقول: لاتنخدع. فتتخاصم الآمال واليأس ويهدّان منزل صدري المتزلزل.
فترى كيف مثّل الشاعر الساحر المحاربة والمخاصمة بتجسيمه الأمل واليأس وبعثه الحياة فيهما وجعلهما في صراع مع مثير الفتن، اخلاف الوعد. حتى جعل البيت كأنه مشهد سينمائي يتراءى أمام عقلك. نعم ان هذا السحر البياني نوع من التنويم.
او استمع الى شكوى الارض وعشقها الى المطر في هذا البيت:
تشكّى الارضُ غَيْبته اليه وترشُف ماءَه رشفَ الرضاب
يضع امام خيالك حالة قيس وليلى، فالارض قيس ومعشوقها السحاب ليلى!
تنبيه:
ان الذي جمّل هذا الشعر هو مشابهة ما فيه من الخيال الى حدٍ ما بالحقيقة. اذ الارض تُحدث صوتاً وأزيزاً اذا تأخر عنها المطر فتمص ماءه مصاً. والذي يشاهد
_____________________
1 لإبن المعتز (دلائل الاعجاز 61) وفي ديوان ابن المعتز: تُجاذبني الاطراف بالوصل والقلى..ص226



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 100
عنها هذه الحالة ينتقل خياله الى تأخر المطر وشدة حاجة الارض اليه، وبسر الدوران المعلوم وبتصرف الوهم يُفرغ الخيالُ نفسَه في صورة عشق وحوارٍ بينهما.
أشارة: لابد في كل خيال من نواة من حقيقة، مثل هذه النوية.

المسألة الثالثة
ان حلل الكلام أو جماله وصورته: باسلوبه، أي بقالب الكلام.
اذ الاسلوب يتنور ويتشرب ويتشكل باتخاذه تلاحق قطعات الاستعارة التمثيلية، المتركبة من الصور، الحاصلة بخصوصيات من تمايلات الخيال، المتولدة بسبب تلقيح الصنعة (البيانية) أو المباشرة أو التوغل او دقة الملاحظة. فالاسلوب بهذا قالب الكلام كما هو معدن جماله ومصنع حلله الفاخرة. فكأن المتكلم ينادي بارادته - التي تنبه العقل - فيوقظ المعاني الراقدة في زوايا القلب المظلمة، فتخرج حفاةً عراةً وتدخل الخيال الذي هو محل الصور. فتلبس - المعاني - ما تجده من صور في خزينة الخيال تلك، فتخرج بعلامة مهما قلت، حتى قد تلفّ على رأسها منديلاً أو تخرج لابسة نعلاً، أو تخرج بازرار أو بكلمة تدل على أنها تربّت هناك.
فاذا انعمت النظر في اسلوب الكلام - الكلام الطبيعي الفطري - ترى المتكلم في مرآة الاسلوب، حتى كأن نَفْسَه في أنفاسه ونبراته، وماهيته في نفثاته، وصنعته ومزاجه ممتزجان في كلامه، فلو تخيلت الامر هكذا لما عوتبت في مذهب الخياليين.
فان كان في خيالك مرض من الشك في هذا، فزرْ مستشفى قصيدة "بردة المديح". وانظر كيف كتب الحكيم البوصيري وصفته الطبية باستفراغ الدمع وحمية الندم:
واستفرِِغ الدمعَ من عينٍ قد امتلأتْ من المحارم والزَمْ حِميةَ النَدَم
وان اشتهيت شرب زلال المعنى من زجاج الحقيقة - أي الاسلوب - وترى امتزاجهما فاذهب الى الخمّار واسأله: ما الكلام البليغ؟ فسيقول لك بدافع من صنعته: الكلام البليغ ما طبخته مراجل العلم وبقي في دنان الحكمة وصفّته مصفاة الفهم، فدار به الساقون الظرفاء، فشربته الافكار، وتمشّى فيه الاسرار، فاهتزت به الاحاسيس.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 101
وان لم يَرُق لك كلام هؤلاء السكارى، فاستمع الى مهندس الماء، هدهد سليمان عليه السلام، في النبأ الذي أتى به من سبأ، كيف وصف الذي علّم القرآن وأبدع السموات والارض، اذ يقول الهدهد: اني رأيت قوماً لايسجدون لله: (الذي يخرج الخبء في السموات والارض) (النمل: 25) فانظر كيف اختار من بين الاوصاف الكمالية ما يشير الى هندسة الهدهد.
اشارة: مرادي بالاسلوب: قالب الكلام وصورته، وآخرون يقولون غير هذا. وفائدته البلاغية: التحام تفاريق القصة وقطعها المشتتة، لتهتزّ القصة كلها بتحريك جزء منها حسب القاعدة (اذا ثبت الشئ ثبت بلوازمه). اذ لو وضع المتكلم بيد السامع طرفاً من الاسلوب فالمخاطب يمكن ان يرى تمامه بنفسه ولو مع شئ من الظلمة. فانظر اينما كان لفظ "بارز" فانه كالنافذة تريك ميدان الحرب.
نعم هناك كثير من امثال هذه الكلمات لو قيل انهامشاهد سينما الخيال فلاحرج.
تنبيه:
ان مراتب الاسلوب متفاوتة جداً؛ بعضها ارق من النسيم اذا سرى في السحر. وبعضها اخفى من دسائس دهاة الحرب في هذا الزمان، لايشمّه الاّ ذوو الدهاء، كاستشمام الزمخشرى من الاية الكريمة
(من يحيى العظام وهي رميم) (يس: 78) اسلوب من يبرز الى الميدان!
نعم ! ان العاصي لله انما يبارز خالقه ويحاربه معنىً.

المسألة الرابعة
ان قوة الكلام وقدرته: ان تتجاوب قيوده، وتتعاون كيفياته، ويمد كلٌ بقدره مشيراً الى الغرض الاصلي ويضع اصبعه على المقصد. فيكون مثالاً ومصداقاً لدستور:
عباراتنا شتى وحسنك واحدٌ وكلٌ الى ذاك الجمال يشير
وكأن القيود مسيل ووديان، والمقاصد حوض في وسطها يستمد منها.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 102
حاصل الكلام: يلزم التجاوب والتعاون والاستمداد، لئلا تتشوش صورة الغرض المرتسمة على شبكة الذهن والملتقطة بنظر العقل.
اشارة: ينشأ التناسب ويتولد الحسن ويلمع الجمال بنشوء الانتظام من هذه النقطة.
فتأمل في كلام رب العزة
(ولئن مسَّتهم نفحة من عذاب ربّك..) (الانبياء: 46) المسوقة للتهويل، وتخويف الانسان، وتعريفه بعجزه وضعفه. فبناءً على القاعدة البيانية: "ينعكس الضد من الضد" ترى الاية الكريمة تبين تأثير القليل من العذاب بقصد التهويل والتخويف، فكل طرف من الكلام يمدّ المقصد، وهو التقليل عن جهته وذلك بـ:
التشكيك والتخفيف في لفظ "إنْ".
والمسّ وحده دون الاصابة في "مسّت".
والتقليل والتحقير في مادة "نفحةٌ" وصيغتها وتنكيرها.
والتبعيض في "مِن"
والتهوين في "عذاب" بدلاً من نكال.
وايماء الرحمة في "ربك".
كل ذلك يهول العذاب ويعظمه باراءة القليل، اذ ان كان قليله هكذا فكيف بعظيمه.. نسأل الله العافية!
تنبيه:
هذا نموذج نسوقه لك. ان قدرت فقس عليه. فان جميع الآيات القرآنية يتلألأ عليها هذا الانتظام والتناسب والحسن. ولكن قد تتداخل المقاصد وتتسلسل، وتصبح توابع، كل منها مقارنة مع الاخرى دون اختلاط. فلابد من الحذر والانتباه. لأن النظرة العابرة كثيراً ما تزل في هذه المواضع.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 103
المسألة الخامسة
ان اصل الكلام وصورة تركيبه يفيد المقصد نفسه، كما ان غناه وثروته وسعته هو في بيان لوازم الغرض وتوابعه وهزّه بتلميحات مستتبعاته وباشارات الاساليب؛ اذ التلميح او الاشارة اساس مهم يهزّ عطف الخيالات الساكنة ويستنطق جوانبها الساكتة، فيهيّج الاستحسان في اقصى زوايا القلب.
نعم! ان التلميح او الاشارة انماهو لمشاهدة اطراف الطريق ومطالعتها، وليس للقصد والطلب والتصرف. بمعنى ان المتكلم لايكون مسؤولاً فيه.
فان احببت فادخل في هذه الابيات لترى ما يستحق المشاهدة:
فانظر الى شعرات لحية الشيخ الذي اعتلى فرسه واراد ان يعرض فتوته تجاه حسناء، تجد فيها مفاتيح بلاغة كثيرة..
فدونك الابواب افتحها:
قالتْ كبرتَ وشِبتَ قلتُ لها هذا غبار وقايع الدهر 1
وايضاً:
ولا يروّعك ايماض القتير بــه فان ذاك ابتسام الرأي والأدب 2
اي لايخوفك ابيضاض شعرات فان نور العقل والادب قد سالا من الدماغ الى اللحية.
وايضاً:
وعينُك قد نامتْ بليلِ شبيبةٍ فلم تنتبه الاّ بصبح مشيب
وايضاً:
وكأنما لَطََم الـصـــباح جـبينه فاقتصّ منه وخاض في احشائه 3
يصف الشاعر فرسه فيريد: ان غرّته انما هي أثر من لطمة الصباح على جبينه، وتحجيله انما هو من خوض قوائمه الاربع في احشاء الصباح.
_____________________
1 قول ابن المعتز (اسرار البلاغة 322)
2 وفـي رواية الـديوان: فلا يؤرقك ايمـاض القتير... والقتير: الشـيب. والبيت للطائي الكبير يمدح الحسن بن سهل.
3 قاله ابن نباتة السعدي في وصف فرس اهداه اياه سيف الدولة. انظر الديوان 1/273 واسـرار البلاغة 325.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 104
وايضاً:
كأن قلبي وشاحُها اذا خطرتْ وقَلْبَها قُلْبُها في الصمت والخرس
اي يتحرك قلب الشاعر كوشاح في خصر المعشوق، بينما قلبها في سكون وصمت كسوارها. فلئن اشتاق قلبي الى ذلك الزند القوي والخصر النحيف فان قلبها مستغن عني، فالشاعر جمع في البيت الواحد الحسن والعشق والاستغناء والاشتياق.
وايضاً:
والقى بصـحراء الغبيط بعـاعــه نزول اليماني ذي العياب المحمّل 1
اي ان السيل القادم من المطر، القى بضاعته كالتاجر اليماني في صحراء الغبيط، فاخذت الازاهير تتلون بتلك الاخلاط التجارية الممزوجة بالاصباغ والالوان وتلبس الحلل الزاهية حتى تحمر رؤوسها، مثلما لونزل تاجر في قرية مساءً واشترى منه اهلها بضاعته المتلونة المتنوعة، يخرج في الصباح كلٌ من بيته في زينة وجمال وحتى راعي القوم يعصب رأسه بعصابة حمراء.
وايضاً:
غار الوفاء وفاض الغدر وانفرجتْ مسافة الخلف بين القول والعمل 2
فان شئت التفت الى ما قبل هذه المقالة، تجد امثلة كثيرة حول هذه المسألة منها: "ان مفتاح دلائل اعجاز الايات وكشاف اسرار بلاغتها،البلاغة العربية لا الفلسفة اليونانية" او راجع الاشارة التي هي في خاتمة المسألة الاولى من المقالة الاولى، فان فيها : "ان شريعة الخليقة او الشريعة الفطرية قد فرضت على الارض المجذوبة السائحة الا تشذ عن صف النجوم المقتدية بالشمس".
نعم ان الارض مع قرينتها قالتا:
(أتينا طائعين) (فصلت: 11) والطاعة في الجماعة افضل.
فتأمل الآن في هذه الامثلة، فان كل مثال يُريك من امامه ومن خلفه مقامات، بحيث تبرز مقامات اخرى خلفها.
_____________________
1 صحراء الغبيط: الحزن ، وهي ارض بني يربوع. بعاعه : ثقله، وما معه من متاع. والمعنى : ارسل السحاب ماءه وثقله كهذا التاجر اليماني حين القى متاعه في الارض ونشر ثيابه ، فكان بعضها احمر وبعضها اصفر وبعضها اخضر، كذلك ما اخرج المطر من النبات والزهر فالوانه مختلفة كأختلاف الوان الثياب اليمانية (شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات لابن الانباري. تحقيق : عبد السلام هارون - دار المعارف ص 108)
2 في ديوان الطغرائي: غاض الوفاء... الخ (الغيث المسجم في شرح لامية العجم 2/343 شرح صلاح الصفدي - دار الكتب العلمية بيروت 1975.



عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
(( الإنسان )) في الإسلام .. الوفا لله المواضيع الاسلامية 0 07-17-2013 06:44 AM
الإسلام دين المحبة عبدالقادر حمود مقالات مختارة 2 11-27-2012 01:06 AM
صور من صدر الإسلام معين السِــيرْ وتـراجم أعــلام الإســـلام 2 07-19-2009 01:41 PM
أخلاق الإسلام نوح القسم العام 2 07-16-2009 02:40 PM
من أدب الإسلام هيثم السليمان المواضيع الاسلامية 12 04-17-2009 03:33 PM


الساعة الآن 09:50 PM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir