أنت غير مسجل في منتديات البوحسن . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           زوَّدك الله التقوى، وغفر ذْنبك ويسَّر لك الخير حيث ما كنت           
العودة   منتديات البوحسن > التزكية > رسائل ووصايا في التزكية

رسائل ووصايا في التزكية كلّ ما يختص بعلوم السلوك وآداب القوم وتزكية النفس والتصوف الإسلامي

 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع
قديم 03-23-2011
  #1
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي المثنوي العربي النوري - حباب


المثنوي العربي النوري - ص: 173
الرسالة الخامسة
حباب
من عُمّان القُرآن الحكيم
خداى بركرم خود ملك خودرامى خَرد أز تو
براى تونكه دارد بهاء بى كران داده 1

_____________________
1 عمان: المقصود: البحر العظيم.
(1) [[ ان الله ذا الكرم الواسع يشتري ملكه منك، ويحافظ عليه لأجلك، وقد أعطى قيمة غالية..]]
طبعت هذه الرسالة لأول مرة بمطبعة "علي شكري" بانقرة سنة 1341هـ (1923م)



المثنوي العربي النوري - ص: 175
بسم الله الرحمن الرحيم
الحَمدُ لله ربّ العالَمينَ.
والصَلاةُ والسَّلامُ على سيّد المُرسلينَ. وعلى آلهِ وَصَحبهِ أجمَعين.
اعلم! ايها المؤمن المصلي الذاكر، اذا قلت: "اشهدُ أن لا إلهَ الاّ الله" او "محمدٌ رسولُ الله" او "الحمد لله".. مثلاً: حكمتَ بحكمٍ، ادّعيتَ دعوى، واعلنت اعتقاداً، يشهد لك في دعواك في آن تلفظك ملايين، وقبلك ملايين ملايين من المؤمنين المتكلمين بما تكلمت به؛ كأنهم يصدّقونك.. وكذا يؤيدك في دعواك، ويُثبت حكمَك ويزكّي شهداءك، كلُّ ماقام على صدق الاسلامية، وكلُّ ماأثبت حُكماً من أحكامها، وكلُّ ما استند عليه جزءٌ من اجزاء قصر الاسلام من الشواهد والبراهين ومسامير الدلائل.. وكذا اندمج في ملفوظك وتوضَّعَ عليه امرٌ عظيم، ويُمنٌ جسيمٌ من الفيوضات والبركات القدسية.. وكذا اتصل بملفوظك واحاطَ به معنىً جاذب، وروحٌ جالب من شرارات جَذَبات توجهات جمهور المؤمنين، ومن رشاشات رشحات رشفات قلوب الموحّدين الشاربين ماء الحياة من عيون تلك الكلمات المباركة..
اعلم! انه قد تقرر في الاصول: ان المثبت يرجَّح على النافي. وسرّه: ان النفي ينحصر في موضعه، والاثباتُ يتعدى. ولو نفى الفٌ، واثبته الفٌ كان كلٌ من المثبتين كألفٍ. بسرّ: انه اذا رأى واحدٌ الشمسَ من مشكاةٍ، وآخر من اخرى، وهكذا؛ فكلٌ يؤيد كُلاً، لاتحاد المرئي والمشهود مع تعدد المناظر.. واذا لم يره واحدٌ لعدم المشكاة، وآخر لضعف البصر، وآخر لعدم النظر، وهكذا.. فقوةُ كلٍ في نفسهِ فقط. والانتفاءُ عنده، لايدل على الانتفاء في نفس الامر، فلا يؤيد احدٌ احداً لاختلاف الاسباب مع تعدد المدَّعى؛ لان الانتفاء مقيّدٌ عند النافي بـ"عندي" مثلا.


المثنوي العربي النوري - ص: 176
فاذا تفهّمت هذا السر؛ فاعلم! ان اتفاق كلِّ اهل الضلالة والكفر على نفي مسألةٍ من المسائل الايمانية، فاتفاقهم لاتأثير فيه، بل كحُكم واحدٍ. مع انه حجةٌ قاصرة ينحصر على النافي فقط. واما اتفاقُ اهل الهدى على المسائل الايمانية فكلٌ يتأيد بكلٍ، كأن الكلَّ شواهد كلِّ واحدٍ..
اعلم! انه كما ان الاجزاء والاحجار في البناء المتساند، يستند كلُّ واحدٍ بقوة الكل، ويزول ضعفُ كل بتساند الكلِّ، كأن الكلَّ عَوَنَةُ كلِ واحدٍ ومساميره.. وايضاً كما ان الاغصان والاثمار في الشجرة تستند معرفةُ صفاتِ كل واحدٍ بالكلِ، فكلٌّ للكلِّ معرِّفٌ، كأن كلَّ واحدٍ لكلِ واحدٍ منفذٌ نظّار، ولمعرفته معيار.. كذلك ان تفاصيل لمعات الايمان والاسلام ومسائلهما يستند كلُّ جزئي بقوة الكل، فبازدياد التفاصيل والجزئيات يزداد وضوح فهم كل جزء وقوة معرفة كل جزئي، واذعان كل حكم، وايقان كل مسألة. ومع كل ذلك، فالنفسُ الشيطانة تعكس فتنتكس. فتزعم ضعفَ الجزء، سببَ ضعفَ الكل..
اعلم! ان كل جزء من كل الكون واحد قياسيّ لإمكانات سائر الاجزاء. وبالعكس، فاجزاء الكائنات مقاييس للامكانات بينها كلٌّ لكلٍ..
اعلم! ان اصغر جزءٍ؛ من اعظم كلٍ، يحتاج الى مايحتاج اليه كل الكل كمّاً، فالثمرةُ تحتاج الى كلِ ما يحتاج اليه كل الشجرة. فخالق الثمرة بل حجيرة من حجيراتها لابد ان يكون خالق الشجرة، بل خالق الارض، بل خالق شجرة الخلقة.
اعلم! ان المسألة التي طرفاها في غاية التباعد، كل طرف كنواة تسنبلت واشجرت وتفرعت، لابد ان لايتوضّع عليها الشكوك والاوهام؛ اذ التباس نواة بنواة ممكن مابقت النواةُ نواةً مستورة. واما اذا صارت شجرة واثمرت، ثم شككتَ في جنس النواة شهدت الثمراتُ عليها، ولو توهمتَها غيرها، كذّبتْكَ تلك الثمرات.
مثلاً: لايتيسر لك فرضُ النواة التي انقلبت شجرة التفاح نواةَ حنظلةٍ، الاّ بتوهمها اياها، او تبديل كل ما اثمرت من التفاحات حنظلات وهو محال.
النبوة نواةٌ، انبتت شجرةَ الاسلامية بازاهيرها وثمراتها، والقرآنُ شمسٌ اثمرت سياراتِ اركان الاسلامية الاحد عشر.. 1
_____________________
1 اي: الاركان الخمسة للاسلام والستة للايمان. أفتبقى شبهة في البذرة بعد مشاهدة ثمراتها اليانعة ؟ حاش وكلا (ت: 78).



المثنوي العربي النوري - ص: 177
اعلم! 1 انه كما ان مَن يرى قشر بيضة انقشعت عن طير همائي 2 تكمَّل وطار في السمآء، ثم يتحرى ما يسمع من كمالاتِ ذلك الطير الطائر في فضاء العالَم 3 في تلك القشرة اليابسة، لابد ان يغالط نفسه، او يكذّب. 4 وكذا لو نظر الى فلقتَي نواةٍ انكشفت عن شجرةٍ تكمّلت وأثمرت، ومددت اغصانها في جو السماء، ثم تحرّى ما قرع سمعه من عظمتها وثمراتها وازهارها في تلك القشرة المطروحة في التراب، لابد ان يتبلّه او ينكر..
كذلك ان مَن نظر الى صورة ما نقله التواريخ من مبادي ظهور نبيّنا عليه الصلاة والسلام نَظراً مادياً وسطحياً وصورياً، لايتيسر له دركهُ وتقديرُ قيمته ومعرفة شخصيته المعنوية؛ بل لابد ان ينظر الى ما نقله التواريخ والسِير بنظر قشر رقيقٍ، انشقَّ عن قَمري - كقمر - في جو الملكوت. ويرى مايرى من لوازم البشرية، والاحوال الصورية كقشر نواة انكشفت منها شجرة طوبى المحمدية، التي تُسقى بماء الفيض الإلهي، وتنمو بامداد الفضل الرباني على مرّ الدهور. فكلما مرّ على سمعه شئٌ من الاحوال الصورية والمبدئية، فلابد ان لاينحبسَ عليه ذهنهُ، بل ليرفع رأسه بسرعة وفي كل مرة منه الى ماترقى وتصاعد اليه الآن مما لايدرك منتهاه.
وكذا ان ممّا يشط النظر لاسيما نظر المتحري الشاك، انه لايفرق بين المصدرية والمظهرية، بين المنبعية والمعكسية، وبين المعنى الاسمي والحرفي، وبين الذاتي والتجلّي. فكونه عليه السلام عبداً محضاً، واعبدَ خلق الله لله؛ يستلزم ان يُنظر اليه بانه مَظهرٌومَعكَسٌ لتجلياته تعالى. وكل ما فيه من الكمالات من فيضه تعالى.
نعم! قد ذكرنا مراراً ان الذرة لاتسع مصدرية ولو رأس ذبابة، ولكن تسع مظهرية ولو نجوم سمــوات. ونظر الغفلة ينظر اولاً وبالذات الى الذاتي الاسمي والمصدرية، فيتوهم الصنعة الالهية طبيعة طاغوتية..
_____________________
1 هذه المسألة موضحة في الاساس السادس من الاشارة الرابعة لرسالة "المعجزات الاحمدية" - المكتوبات.
2 طير في غاية الجمال كالطاووس (ت: 78)
3 اي ان شهرته وكمالاته اطبقت الآفاق (ت : 78)
4 حيث لا يرى ما يسمعه في القشرة ( ت: 78)




المثنوي العربي النوري - ص: 178
اعلم! ان الدعاء انموذج لأسرار التوحيد والعبادة؛ اذ الداعي في نفسه خُفيةً، لابد ان يعتقد سماع المدعو لهواجسَ نفسه وقدرته على تحصيل مطلبه، فيستلزم هذا الاعتقاد، اعتقادَ أن المدعو عليمٌ بكلِ شئ، وقديرٌ على كل شئ.
اعلم! انه كما يمكن دخول هذه الشمس - سراج العالم - في عين الذباب بالتجلي فتتنور، ولايمكن دخول شرارة من كبريتٍ في عينها بالأصالة، بل لو دخلتْ لانطفت العين.. كذلك يمكن بل يجب مظهرية كل ذرة لتجليات اسماء شمس الأزل، ولايمكن بل يمتنع ان تكون ذرةٌ مصدراً وظرفاً لمؤثر حقيقي، ولو كان اصغر واقل من الذرة.
اعلم! يا "انا" المتمرد المغرور المتكبر، انظر الى درجة ضعفك وعجزك وفقرك ومسكنتك!.. اذ يبارِزك ويصارعك - فتخرّ صعقاً - الحُوَينُ الذي لايُرى الاّ بتكبيره مرات ودرجات..
اعلم! ومن صُغر الانسان انه يجول في خردلة حافظته، وتصير تلك الخردلة عليه كصحراءٍ عظيمة يسري دائماً ولايقطعها الى جانب. فقس درجة مَن يسري دائماً ولايتم دَورَ خردلةٍ 1، ومع ان الخردلة الحافظة تصير كصحراء عظيمة على عقل الانسان، كذلك يصير ذلك العقل كبحر يبتلع الدنيا.. فسبحان مَن جعل الخردلة لعقل الانسان كالدنيا، وجعل الدنيا له كخردلة!.
اعلم! ان من اشد ظلم البشر اعطاء ثمرات مساعي الجماعة لشخصٍ، وتوهم صدورها منه، فيتولد من هذا الظلم شركٌ خفيٌ؛ اذ توهّم صدور محصّل كسب الجماعة، وأثَر جُزئهم الاختياري من شخصٍ، لايمكن الاّ بتصور ذلك الشخص ذا قدرة خارقة ترقت الى درجة الايجاد، وما آلهة اليونانيين والوثنيين، الاّ تولدت من امثال هذه التصورات الظالمة الشيطانية..
اعلم! ان الانسان كدوائر متداخلة متحدة المركز. ففي دائرةٍ: لباسه جسمهُ، وفي اخرى: بلدهُ، وفي اخرى: وجه الارض، وفي اخرى: عالم الشهادة وهكذا.. ولكنه لافعلَ ولاتأثير له إلاّ في الدائرة الصغرى، وفيما سواها من الدوائر عاجزٌ مسكين،
_____________________
1 اي لا يتم دوراناً حجم خردلة!



المثنوي العربي النوري - ص: 179
منفعلٌ وقابل لأخذ الفيض فقط. لو تَفَعَّل 1 مافعل الا تغييرَ صورة الفيض بالقصور والنقصان اللذين هما من الوان العدم..
اعلم! ان في الذاكر لطائف مختلفة في الاستفاضة؛ بعضُها يتوقف على شعور العقل والقلب، واستفادة بعضٍ لاشعوري تحصل من حيث لايُشعر. فالذكر مع الغفلة ايضاً لايخلو من الافاضة..
اعلم! ان الله خلق الانسان في تركيب عجيب، ووحدةٍ في كثرة؛ بسيطٌ وهو مركب، فردٌ وهو جماعة، له اعضاء وحواس ولطائف، لكلٍ في ذاته المٌ ولذة مع تألمه وتلذذه من انفعالات الكل وتأثرات اخواته؛ بدليل سرعة التعاون والامداد بينها. فمن حكمة هذه الخلقة جعلُ الانسان مظهراً لأنواع اللذائذ ولأقسام النِعَم ولأصناف الكمال - لاسيما في الآخرة - إن سلكَ في سبيل العبودية.. وكذا جعله محلاً لأنواع الآلام ولأشكال العذاب ولأقسام النقم، ان ضلَّ في طريق الأنانية. فألمُ وَجَع السنِ غيرُ ألم وجع الأذن. ولذةُ العينِ غير لذة اللسان، واللمس والخيال والعقل والقلب وهكذا..
اعلم! ان كثرة فوائد عدم تعين الآجال؛ دليل نيِّر على تعيُّنها في علم الباري، ولو تعينت لَتوهِّمَ عدمُ تعيُّنها من جهة العلم بتوهم تفويض تَعيّنها على القانون الفطري، واذ لم تتعين فيما بين الحدين المعيّنين؛ لاحقّ للوَهم ان يدّعي عدمَ التعيّن..
اعلم! ان الذكرمن شأنه ان يكون من الشعائر، والشعائر ارفع من ان تنالها ايدي الرياء..
اعلم! ان تكرار كلمة التوحيد؛ لتجريد القلب من انواع العلاقات، وطبقات المعبودات الباطلة، ولأن في الذاكر أنواعاً من لطائف وطبقاتٍ من حواس؛ لكلٍّ توحيدٌ وتجريدٌ من الشرك المناسب له..
اعلم! ان الفاتحة المقروءة، مثلاً؛ لاتفاوتَ بين إهداء مثل ثوابها لواحدٍ، ولألوفٍ، او لملايين، كمثل الكلمة الملفوظة، سواءٌ في استماعها الفردُ والالوفُ، لسرٍ لطيف في
_____________________
1 اي: لو اظهر الفعل مع عجزه..



المثنوي العربي النوري - ص: 180
سرعة التناسل والاستنساخ في اللّطيف.. ولرمزٍ شريفٍ في التكثر مع الوحدة في النوراني، كمصباح قابله مرآة فردٍ، او ألوف من المرايا..
اعلم! ان الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام كاجابة دعوة المنعم الذي افاضَ فيضه، وبسطَ مائدة انعامه على مقام صاحب المعراج. واذا وصف المصلّي النبيَ بصفةٍ، لابد ان يتأمل في مناط تلك الصفة ليشتاق المصلي لتصليةٍ جديدة 1.
اعلم! ايها العالم الديني!. لاتحزن على عدم الرغبة في عملك وقلّة اجرتك؛ اذ المكافأة الدنيوية تنظر الى جهة الاحتياج، لا الى درجة القيمة الذاتية، اذ جهة المزية الذاتية ناظرة الى المكافأة الاخروية، لايجوز لك ان تشتري بها ثمناً قليلاً من متاع الغرور. 2
اعلم! ايها المحرّر والخطيب العمومي بلسان الجريدة! لك ان تتواضع وتهضم نفسك وتعلن قصورك تندماً. ولاحقّ لك ان تتمرد وبالتجاهر بما يضاد شعائر الاسلام. فاين جاز لك، ومَن وكّلَكَ، وبأيّ حقّ تتجاسر على اعلان القصور الديني 3، بل اشاعة الضلالة بحساب الملة وباسم الامة، وتظن الملة على قلبك الضال؟! 4.. فلا يجوز لأحدٍ - فضوليا - ان يهضم نفسَ غيره حتى نفسَ أخيه. فمن اين جاز لك ان تزيِّفَ عامة الملة الاسلامية باساءة الظن بهم بإعراضهم عن الشعائر الاسلامية.. ولاريب ان نشر ما لايقبله جمهور المؤمنين في الجرائد العمومية من المستحدثات دعوةٌ الى الضلالة، فناشرها داعٍ الى الضلالة، فلا يُجاب بالضرب على فمه فقط، بل يُعنّف بالأخذ على يده..
اعلم! ان الكفار لاسيما الاوربائيون ولاسيما شياطين في انكلترة واباليس الفرنك 5، اعداءٌ الدّاء، وخصماء معاندون ابداً للمسلمين واهل القرآن.. بسر: ان القرآن حَكَم على مُنكر القرآن والاسلام وعلى آبائهم واجدادهم بالاعدام الابدي،

_____________________
1 اي : بتكرار الصلوات عليه.
2 ادّخر مزاياك الخاصة للثواب الاخروي ولا تصرفها في متاع الدنيا التي لا تساوي شيئاً (ت: 80).
3 اي : اشاعة شبهات باطلة حول الدين (ت: 80).
4 فتحسب الامة جميعاً ضالين مثلك (ت : 80).
5 اي الافرنج الذي اطلق على الفرنسيين اولاً ثم شمل الاوربيين.وفي (ط1) امريقا.



المثنوي العربي النوري - ص: 181
فهم محكومون بالاعدام ابداً، والحبس في جهنم سرمداً بنصوص ذلك القرآن الحكيم. فيا اهل القرآن كيف توالون مَن لايمكن ان يوالوكم او يحبوكم ابداً؟.. فقولوا: (حَسْبُنَا الله ونِعمَ الوَكيل) 1 (نِعمَ المَولى ونِعمَ النَّصير) 2...
اعلم! ان الفرق بين مدنية الكافرين ومدنية المؤمنين، ان الاولى: وحشةٌ مستحالة ظاهرها مزيّن، باطنها مشوّه، صورتها مأنوسة، سيرتها موحشة.. ومدنية المؤمنين باطنها أعلى من ظاهرها، معناها أتمّ من صورتها، في جوفها أنسية وتحبب وتعاون. والسر: أن المؤمن بسر الايمان والتوحيد يرى اخوةً بين كل الكائنات، وانسية وتحببا بين اجزائها، لاسيما بين الآدميين ولاسيما بين المؤمنين. ويرى اخوةً في الاصل والمبدأ والماضي، وتلاقياً في المنتهى، والنتيجة في المستقبل. واما الكافر فبحكم الكفر له اجنبية 3 ومفارقة بل نوعُ عداوةٍ مع كل شئ لانفع له فيه، حتى مع اخيه؛ اذ لايرى الاخوة الاّ نقطة اتصال بين افتراق ازلي ممتد، وفراق ابدي سرمد؛ الاّ انه بنوع حميةٍ ملّية او غيرة جنسية تشتد تلك الاخوة في زمان قليل، مع ان ذلك الكافر لايحب في محبة اخيه، الاّ نفس نفسه. واما ما يُرى في مدنية الكفار من المحاسن الانسانية والمعالي الروحية، فمن ترشحات مدنية الاسلام، وانعكاسات ارشادات القرآن وصيحاته، ومن بقايا لمعات الاديان السماوية.
فان شئت فاذهب بخيالك الى مجلس "سيدا" 4 قدّس سره في قرية "نورشين".. وما اظهرت من المدنية الاسلامية بصحبته القدسية، تَرَ فيها ملوكاً في زي الفقراء وملائكة في زي الاناسي. ثم اذهب الى "باريس" وادخل في لجنة الاعاظم تَرَ فيها عقارب، تلبسوا بلباس الاناسي، وعفاريت تصوروا بصور الآدميين. وقد بينتُ الفروق بين مدنية القرآن والمدنية الحاضرة في [اللوامع] 5 و[السانحات] 6 فراجعهما لترى فيهما أمراً عظيماً، تغافل عنه الناس..

_____________________
1 آل عمران: 173
2 الانفال : 40
3 اي الاحساس بالغربة في هذا الكون.
4 لقب يطلق على الاخ الكبير ، والمقصود هنا وليّ مشهورمن الصالحين في جنوب شرقي تركيا.
5 اللوامع - مجلس في عالم المثال - ص 854 من المجلد الاول من "الكلمات".
6 في المجلد الثامن "صيقل الاسلام" .



المثنوي العربي النوري - ص: 182
اعلم! يامن يطلب الاجتهاد في مسائل الدين في هذا الزمان! ان باب الاجتهاد مفتوح، لكن لايجوز لكم الدخول فيه لستة امور:
فاولاً: لان عند هبوب العاصفات في الشتاء يُسَدّ المنافذ الضيقة، فكيف تُفتح الابواب؟ وعند احاطة سيل المنكرات والبدعيات وتهاجم المخرّبات لايُشق الجدار بفتح منافذ..
وثانياً: ان الضروريات الدينية التي لامجال للاجتهاد فيها، والتي هي في حكم الغذاء والقوت للمسلمين قد اُهملت وتزلزلت، فلابد صرفَ كل الهمّة لأقامتها وامتثالها واحيائها، ثم بعد اللتيا والتي 1 تُمَسّ الحاجة الى الاجتهاد في النظريات التي توسعت باجتهادات السلف، بحيث لايضيق عن حاجات كل الزمان..
وثالثاً: ان لكل زمان متاعاً مرغوباً، يشتهر في سوقه تُجلب اليه الرغبات وتُوجَّه وتنجذب الافكار اليه، كالسياسة وتأمين الحياة الدنيوية الآن.. وكاستنباط مرضيات خالق العالم من كلامه، وتأمين السعادة الأبدية في زمان السلف. فلأجل توجُّه الاذهان والقلوب والارواح في الجمهور الى معرفة مرضيات ربّ السموات والارض في ذلك الزمان، صار كل مَن له استعداد جيد يتدرّس قلبهُ وفطرتهُ من حيث لايشعر من كل مايجري في ذلك الزمان من الاحوال والوقوعات والمحاورات، كأن كلَّ شئ معلّمٌ يلقن فطرته استعداداً إحضارياً للاجتهاد، حتى يكاد زيت ذهنه يضئ ولو لم تمسسه نارُ كسب. فاذا توجه الى الاجتهاد صار له نورٌ على نور. واما الآن فلتشتت الافكار والقلوب، وانقسام العناية والهمة، وتحكّم السياسة والفلسفة في الاذهان، لايمكن لمن كان في ذكاء "سفيان بن عيينه" 2 مثلا ان يحصل الاجتهاد الا بعشرة امثال وقت ماحصل سفيان الاجتهاد فيه. اذ ان سفيان يبتدئ تحصيله الفطري من حيث التمييز. فيتهيأ استعدادهُ كالكبريت للنار. واما نظيره الآن - فبسر مامرّ آنفاً -
_____________________
1 اللتيا والتي: هي الداهية الكبيرة والصغيرة (مجمع الامثال للميداني).
2 ولد في الكوفة سنة 107هـ توفي سنة 198هـ بمكة المكرمة. كان اماماً عالماً ثبتاً، حجة زاهداً ورعاً مجمعاً على صحة حديثه وروايته، حج سبعين حجة، ادرك نيفاً وثمانين نفساً من التابعين. روى عن الزهرى والسبعي وابن المنكدر وابي الزناد وعاصم المقرني والاعمش وعبدالملك بن عمير وغير هؤلاء من اعيان العلماء. وروى عنه الامام الشافعي وشعبة ومحمد بن اسحاق وابن جريح وابن بكار وعمه مصعب والصنعاني ويحيى بن اكثم وخلق كثير رضي الله عنهم (باختصار عن وفيات الاعيان لابن خلكان 2/391 - 393)




المثنوي العربي النوري - ص: 183
يتباعد استعدادهُ بدرجة تبحّره في الفنون الحاضرة ويتقاسى عن قبول الاجتهاد بدرجة تغلغله في العلوم الارضية..
ورابعاً: ان ميل التوسيع والاجتهاد ان كان من الداخلين بحق في دائرة كمال الاسلام بمظهرية التقوى الكاملة وامتثال الضروريات، يكون ذلك الميل كمالاً وتكملاً. واما ان كان ممن يهمل الضروريات ويرجّح الحياة الدنيوية على الآخرة يصير ذلك الميل ميلَ تخريبٍ، ووسيلةً لحل ربقة التكليف عن عنقه..
وخامساً: ان المصلحة حِكمة مرجّحة، وليست بعلّة للحُكم. ونظرُ هذا الزمان يصيِّر المصلحة علّة للحكم. وكذا نظرُ هذا الزمان يتوجه أولاً وبالذات الى السعادة الدنيوية، مع ان نظر الشريعة متوجه أولاً وبالذات الى السعادة الاخروية، وثانياً وبالعرض الى الدنيا من حيث هي وسيلة الآخرة.. وكذا ان كثيراً من الامور التي ابتلي الناسُ بها، وعمّت البليةُ بها حتى صارت من "الضروريات"؛ فلتولدها من سوء الاختيار، ومن الميول الغير المشروعة "لاتبيح المحظورات" ولاتصير مداراً لاحكام الرّخصية. كما ان مَن سَكر بشرب حرامٍ لايُعذر في تصرفاته في حالة السُكر.. وهكذا فالاجتهادات بهذا النظر في هذا الزمان تصيرُ ارضية، لاسماويّة. فالتصرف في أحكام خالق السموات والارض وفي عباده بلا إذنه مردود.
مثلاً: يَستحسن بعض الغافلين الخطبة بالتركية لتفهيم السياسة الحاضرة لعامة المسلمين، فهذا الغافل المسكين لايعلم ان السياسة الحاضرة بكثرة الكذب والحيلة والشيطنة فيها صارت كأنها وسوسة الشياطين، فلا حقّ لهذه الوسوسة السياسية ان ترتقي الى مقام تبليغ الوحي. وكذا لايَفهم هذا الجاهل، ان اكثر الامة انما يحتاجون لإخطار الضروريات وتذكير المسلّمات والتشويق على امتثال الحقائق المتعارفة بين المؤمنين، من اركان الايمان والاسلام ومراتب الاخلاص والاحسان. فبكثرة التسامع يتساوى العوام والعلماء في التذكر والتخطر بسماع القرآن. اذ العجمي يفهم المآل اجمالاً وإن لم يعرف المعنى. وكذا لايعقل ذلك الغافل ان عربية الخطبة وَسْمٌ سماوي مسدّد ومُزيَّن في سماء وحدة الاسلام، وبالتغيير يصير وَشماً مشتِتاً مشيناً.. 1
_____________________
1 أما الامر السادس فمذكور ضمناً هنا، وهو موضح في الكلمة السابعة والعشرين (الاجتهاد).



المثنوي العربي النوري - ص: 184
اعلم! يامن احاط به الغفلة واظلمت عليه الطبيعة حتى صار "أعمى وأصم" يعبد الاسباب في ظلمات الطبيعة الموهومة!. اني اترجم لك لساناً واحداً من خمسة وخمسين ألسنة يتكلم بها كلُّ واحدٍ من مركبات الكائنات وذراتها شاهدات على وجوب وجوده تعالى ووحدته في الوهيته وربوبيته جل جلاله.. 1 وهو ان اضطرابات الارواح والعقول الناشئة من ضلالاتها الناشئة من استنكاراتها الناشئة من الاستبعاد والاستغراب والحيرة في اسناد الاشياء الى انفسها، والى الاسباب الامكانية تلجئ الارواحَ والعقول للفرار الى الواجب الوجود الواحد الأحد الذي بقدرته يحصل ايضاح كل مشكل، وبارادته يحصل فتح كل مغلق، وبذكره تطمئن القلوب.
فان شئت تحقيقه فانظر الى هذه الموازنة وهي: ان الموجودات إما فاعلها جانبُ الامكان والكثرة وإما جانبُ الوجوب والوحدة. فما يُتوهم بقصور النظر من الكلفة والاستبعاد، والاستغراب في اسناد كل شئ الى الواجب الوجود، تصير محققة عند الاسناد الى الكثرة، لقصور اي سبب كان، وضعفه عن تحمل اي مسبَّب كان، في جانب الكثرة دون الوحدة. فما يُتوهمُ هناك، متحقق هنا. ثم بعد هذا تتضاعف الكلفة والاستبعاد والاستغراب عدد اجزاء الكائنات مع انها في الاسناد الاول كانت واحدة موهومة وصارت هنا حقيقة متضاعفة عدد اجزاء الكائنات؛ اذ في الاسناد اليه تعالى نسبةُ كثيرٍ غير محدود الى واحدٍ مباين الماهية لها، وفي جانب الكثرة نسبةُ واحدٍ الى كثير غير محدود متماثلة الماهية؛ اذ النحلة مثلاً، لو لم تُسند الى الواجب الواحد، لزِمَ اشتراك السموات والارض في ايجادها لعلاقتها باركان العالم. مع ان صدور الكثير عن الواحد اسهلُ بمراتب من صدور الواحد عن الكثيرين المتشاكسين الصُم العمي الذين لايزيد اختلاطُهم الاّ اعميتَهم واصميتهم. ثم مع ذلك ان الكلفة لو كانت في الاسناد الاول مثل ذرة، تترقى في الاسناد الثاني الى امثال الجبال؛ اذ الواحد بالفعل الواحد يحصل وضعية ونتيجة للكثير، لايتيسر للكثير لو احيلت عليهم ان يحصلوا تلك الوضعية، او يصلوا الى تلك النتيجة الاّ بافعال كثيرة وتكلفات عظيمة؛ كالامير مع نفراته، والفوارة مع قطراتها، والمركز مع نقاط دائرته.
_____________________
1 قد ذكرت تلك الالسنة اجمالاً في "قطرة " وما هنا ايضاح لسانٍ واحدٍ فقط. المؤلف.


عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
 

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
المثنوي العربي النوري - شُعْلَةٌ عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 2 03-23-2011 08:21 PM
المثنوي العربي النوري - قطعة من شمة عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 4 03-23-2011 08:14 PM
المثنوي العربي النوري - شَمَّةٌ عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 1 03-23-2011 08:07 PM
المثنوي العربي النوري - ذرة عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 1 03-23-2011 08:04 PM
المثنوي العربي النوري - حبة عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 3 03-23-2011 07:55 PM


الساعة الآن 10:52 AM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir