نهم المتفكر عند نزول الآيات، والمتصبر عند تناول الرايات، عبد الله بن رواحة الأنصاري، استشهد بالبلقاء، زاهداً في البقاء، راغباً في اللقاء.


وقد قيل: إن التصوف الوطء على جمر الغضا، إلى منازل الأنس والرضا.


حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن، حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا الحسن بن سهل، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، قال: لما أراد بن رواحة الخروج إلى أرض مؤتة من الشام، أتاه المسلمون يودعونه فبكى، فقالوا له: مايبكيك. قال: أما والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة لكم، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية: " وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً " مريم. فقد علمت أني وارد النار ولا أدري كيف الصدر بعد الورود.


حدثنا فاروق بن عبد الكبير، حدثنا زياد بن الخليل، حدثنا إبراهيم، حدثنا محمد بن فليح، حدثنا موسى بن عقبة، عن بن شهاب الزهري، قال: زعموا أن بن رواحة بكى حين أراد الخروج إلى موته فبكى أهله حين رأوه يبكي. فقال: والله ما بكيت جزعاً من الموت ولا صبابة لكم، ولكني بكيت من قول الله عز وجل: " وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً " مريم. فأيقنت أني واردها و لم أدر أأنجو منها أم لا.


حدثنا حبيب بن الحسن، حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا أحمد بن محمد بن أيوب، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن محمد بن اسحاق، حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، قال: لما تجهز الناس وتهيئوا للخروج إلى مؤتة قال للمسلمين: صحبكم الله، ودفع عنكم، قال عبد الله بن رواحة:


لكنني أسأل الرحمن مغفرة ... وضربة ذات فرع تقذف الزبدا


أو طعنة بيدي حران مجهزة ... بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا


حتى يقولوا إذا مروا على جدثي ... أرشدك الله من غاز وقد رشداقال: ثم مضوا حتى نزلوا أرض الشام، فبلغهم أن هرقل قد نزل من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم وانضمت إليه المستعربة من لخم، وجذام، وبلقين، وبهرا وبلى، في مائة ألف، فأقاموا ليلتين ينظرون في أمرهم، وقالوا: نكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره بعدد عدونا، قال: فشجع عبد الله بن رواحه الناس، ثم قال: والله يا قوم إن الذي تكرهون للذي خرجتم له تطلبون الشهادة، وما نقاتل العدو بعدة، ولا قوة، ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور وأما شهادة، قال: فقال الناس: قد والله صدق بن رواحة فمضى الناس.


حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن، حدثنا أبو شعيب الحراني، حدثنا أبو جعفر النفيلي، حدثنا محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، حدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدثه عن زيد بن أرقم، قال: كنت يتيماً لعبد الله بن رواحة في حجره، فخرج في سفرته تلك مردفي على حقيبة راحلته، فو الله إنا لنسير ليلة إذا سمعته يتمثل بأبياته هذه:


إذا أدنيتني وحملت رحلي ... مسيرة أربع بعد الحساء


فشأنك فانعمي وخلاك ذم ... ولا أرجع إلى أهلي ورائي


وآب المسلمون وغادروني ... بأرض الشام مشتهي الثواء


وردك كل ذي نسب قريب ... إلى الرحمن منقطع الاخاء


هنالك لا أبالي طلع بعل ... ولا نخل أسالفها رواء


فلما سمعتهن بكيت، قال: فخفقني بالحرة وقال: ماعليلك يالكع أن يرزقني الله الشهادة وترجع بين شعبتي الرحل.


قال محمد بن إسحاق: وحدثني بن عباد بن عبد الله بن الزبير، حدثني الذي أرضعني، وكان فى تلك الغزاة، قال: لما قتل زيد وجعفر أخذ بن رواحة الراية ثم تقدم بها وهو على فرسه فجعل يستنزل نفسه ويردد بعض التردد، ثم قال:


أقسمت يا نفس لتنزلنه ... لتنزلنه أو لتكرهنة


إذا جلب الناس وشدوا الرنه ... مالي أراك تكرهين الجنة


لطالما قد كنت مطمئنة ... هل أنت إلا نطفة في شنة


وقال عبد الله بن رواحة أيضاً:


يا نفس إلا تقتلي تموتي ... هذا حمام الموت قد صليت


وما تمنيت فقد أعطيت ... إن تفعلى فعلهما هديت


يعني صاحبيه زيداً وجعفراً، ثم نزل فلما نزل أتاه بن عمي بعظم من لحم فقال: شد بهذا صلبك فإنك قد لاقيت من أيامك هذه ما قد لقيت. فاخذه من يده، ثم انتهش منه نهشة ثم سمع الحطمة في ناحية الناس، فقال: وأنت في الدنيا ثم ألقاه من يده ثم أخذ سيفه فتقحم فقاتل حتى قتل رضي الله تعالى عنه، قال: ولما أصيب القوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني: " أخذ زيد الراية فقاتل حتى قتل شهيداً، ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى قتل شهيداً " . ثم صمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تغيرت وجوه الأنصار وظنوا أنه قد كان في عبد الله بعض ما يكرهون، ثم قال: " ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيداً " . ثم قال: " لقد رفعوا لي في الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب فرأيت في سرير عبد الله أزوراراً عن سرير صاحبيه، فقلت: عم هذا. فقيل لي: مضيا ولردد عبد الله بن رواحة بعض التردد " .


حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزاق، عن بن عيينة، عن بن جدعان، عن سعيد بن المسيب، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " مثلوا لي في الجنة في خيمة من درة كل واحد منهم على سرير، فرأيت زيداً وابن رواحة في أعناقهما صدود، وأما جعفر فهو مستقيم ليس فيه صدود، قال: فسألت أو قال: قيل لي: إنهما حين غشيهما الموت كأنهما أعرضا أو كأنهما صدا بوجوههما، وأما جعفر فإنه لم يفعل " .


قال بن عيينة: فذلك حين يقول بن رواحة:


أقسمت يانفس لتنزلنه ... بطاعة منك أو لتكرهنه


فطالما قد كنت مطمئنة ... جعفر ما أطيب ريح الجنة