1.في شرح حديث نبوي شريف :
الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد و على آله وصحبه ، وبعد
1.في سند الحديث :
حدثنا عبد الله ، حدثنا أبي ، حدثنا وكيع ، حدثنا المسعودي ، عن عمرو بن مرة ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله رضي الله عنه ، عن النبي
قال : " مالي و للدنيا إنما مثلي و مثل الدنيا كمثل راكب قال في ظل شجرة في يوم صائف ثم راح و تركها".
الحديث تحت رقم 36 للإمام أحمد ابن حنبل ، الحديث في المسند أيضا ، وصححه الأباني ( 5669) في صحيح الجامع.
2.سيرة الإمام أحمد ابن حنبل :
اسمه ومولده :
ــ هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني ، أصله من البصرة ، ولد عام ( 164 ) هـ ، في بغداد وتوفي والده وهو صغير ، فنشأ يتيماً ، وتولَّت رعايته أمه .
وقفة : اليتيم قد يكون ناجـحـاً في حياته :
ــ نشأ الإمام أحمد ــ رحمه الله في طلب العلم ، وبدأ في طلب الحديث وعمرهُ خمس عشرة سنة ، ورحل للعلم وعمرهُ عشرون سنة ، والـتقى بعدد من العلماء منهم : الشافعي في مكة ، ويحيى القطَّان ،ويزيد بن هارون في البصرة .
ورحل من العراق إلى اليمن مع يحيى بن مُعين ، فلمَّاوصلا إلى مكة وجدا عبد الرزاق الصنعاني أحد العلماء في اليمن ، فقال يحيى بن معينيا إمام يا أحمد : نحنُ الآن وجدنا الإمام ، ليس هناك ضرورة في أن نذهب إلى اليمن ،فقال الإمام أحمد : أنا نويت أن أُسافر إلى اليمن ، ثم رجع عبد الرزاق إلى اليمن ولَحِقـا به إلى اليمن ، وبَقِيَ الإمام أحمد في اليمن عشرة أشهر ، ثم رجع مشياًعلى الأقدام إلى العراق .
فلمَّا رجعرأوا عليه آثار التعب والسفر فقالوا له : ما الذي أصابك ؟ فقال الإمام أحمد : يهون هذا فيما استفدنا من عبد الرزاق .
* مِنْ عُلوا الهمَّـة عند الإمامأحمد وهو صغير ، يقول : ربما أردتُ الذهاب مبكراً في طلب الحديث قبل صلاة الفجر ،فتأخذ أمي بثوبي وتقول : حتى يؤذِّن المؤذِّن .
ثـناءالعلمـاء على الإمـام أحمـد :
* قال عبد الرزاق شيخ الإمام أحمد : ما رأيت أحداً أفْـقَـه ولا أوْرع من أحمد.
* قالوا : إذا رأيتَ الرجل يحبُالإمام أحمد فاعلم أنَّـه صاحب سنة .
* قال الشافعي وهو من شيوخ الإمام أحمد : خرجتُ من بغداد فما خلَّفتُ بها رجلاً أفضل ولا أعلم ولا أفْـقَـه من أحمد بنحنبل.
* قال يحيى بن معين : أراد الناس أن يكونوا مثـل أحمد بن حنبل ! لا والله، ما نقوى على ما يقوى عليه أحمد ، ولا على طريقة أحمد .
* كان الإمام أحمديحفظ ( ألف ألف ) حديث ، يعني ( مليون ) حديث . أي مجموع الروايات والأسانيد والطرق للأحاديث .
* مِنْ حِفْـظِ الإمام أحمد للحديث كان يقول لابنـه : اقرأ عليَّالحديث وأُخبركُ بالسند ، أو اقرأ عليَّ الإسناد لأخبرك بالحديث .
عِفَّـة الإمـام أحمـد :
* لمَّا رحل لطلب العلم لم يكن لديه مال، فـكان يحمل البضائع على الجمال وعلى الحمير فيأخذ من هذا درهم ومن هذا درهم ،فيعيش بهذه الدراهم ، وفي الصباح يطلب العلم حتى يستغني عن سؤال الناس .
كانالإمـام أحمد يكره الشُهرة والثناء :
* دخل عليه عمُّـهُ وكان الإمام أحمد حزين ، فقال عمُّـهُ : ماذا بك ؟ فقال الإمام أحمد : طُوبى لِمَنْ أخْمَدالله ذكره ، يعني من لم يكن مشهوراً ، ولا يعلم به إلاَّ اللـه .
* وقال أيضاً : أريدُ أنْ أكونَ في شِعْبِ مكـة حتى لا أُعْـرَفْ .
* وكان إذا أرادأنْ يمشي يكره أن يتبعه أحدٌ من الناس .
العمل بالعلم :
* قال الإمام أحمد ما كتبتُ حديثـاًإلاَّ وقد عملتُ بـه , حتى أنَّ النبي ــ
ــ احْـتَـجَـمَ وأعطى الحجَّامَ أجره ، فاحْـتَـجَـمَ الإمام أحمد وأعطى الحجَّام أجره .
أخلاق الإمـام أحمـد وآدابه :
* كان يحضر مجلس الإمام أحمد خمسةآلاف طالب ، ( 5000 ) كانوا يكـتبون العلم ، والبقية ينظرون إلى أدبه وأخلاقه وسَمْتِـهِ .
* قال يحيى بن معين : ما رأيتُ مثـل أحمد ، صحبناه خمسين سنة فما افـتخر علينا بشيء ممَّا كان فيه من الخير .
* كان الإمام أحمد مائلاً إلى الفقـراء ، وكان فيه حِلْمْ ، ولم يكن بالعجول ، وكان كثير التواضع ، وكانت تعلوه السكينة والوقار .
* قال رجل للإمام أحمد : جزاك الله عن الإسلام خيراً ، فقال الإمام أحمد : بل جزى الله الإسلام عني خيراً ، مَنْ أنا ؟ وما أنا ؟
* كانالإمام أحمد شديد الحياء ، وأكرم الناس ، وأحسنهم عِشْرةً وأدباً ، لمْ يُسمع عنه إلاَّ المُذاكرة للحديث ، وذِكْر الصالحين ، وكان عليه وقارٌ وسكينة ، ولفْـظٌحَسَنْ .
عبادة الإمـام أحمـد بن حنبل :
* كان يُصلِّي في اليوم والليلة ( 300 ) ركعـة ، فلمَّا سُجِنَ وضُرِبْ أصْـبَحَ لا يستطيع أنْ يُصلِّي إلاَّ ( 150 ) ركعة فـقـط .
* كان يَـخْـتِمُ القرآن كُلَّ أُسبوع .
* قال أحدُهُمْ : كُنْتُ أعرفُ أحمد ابن حنبل وهو غُـلام كان يُحيي الليل بالصلاة .
* كان مِنْ عِبادته وزُهده وخوفه ،إذا ذَكَـرَ الموت خَـنَـقَـتْـهُ العَبْرة .
* كان يقول : الخوف يمنعني الطعام والشراب ، وإذا ذكرتُ الموت هانَ عليَّ كُلُّ أمْـرِ الدنيا .
* كان يصوم الإثـنين والخميس والأيام البيض ، فلمَّا رَجَعَ مِنْ السجن مُجْهَداً أَدْمَنَ الصيام حتى مات .
* حَجَّ على قَدَميـه مرتين .
* في مَرَضِ الموت بَالَ دَمَـاً كثيراً ، فقال الطبيب المُشْرف عليه : هذا رجُـلٌ قد فَـتَّتَ الخوف قلبـه .
أخبـار منوعـة في سيـرته :
* قابل الإمام أحمد بن حنبل أحدْ أبناء الإمام الشافعي فقال الإمام أحمد لابن الشافعي : أبُوكَ مِنَ السِّـتة الذينَ أدْعُـوا لهم في السَّحَـرْ .
* قيل للإمام أحمد :
كَمْ يكْفي الرجل حتى يُـفْـتِي ؟ مئـة ألف حديث ؟
قال الإمام أحمد : لا .
قال السائل : مائـتين ألف حديث ؟
قال الإمام أحمد : لا .
قال السائل : ثـلاثمائـة ألف حديث ؟
قال الإمام أحمد : لا .
قال السائل : أربعمائـة ألف حديث ؟
قالالإمام أحمد : لا .
قال السائل : خمسمائـة ألف حديث ؟
قال الإمام أحمد : أَرْجُـوا .
حياته الزوجية :
تزوَّجَ وعُمْـرهُ أربعون سنة ،يقول عن زوجـتـه : مكـثـنا عِشرينَ سنة ما اختلفنا في كلمةٍ واحدة .
الفتنة التي تعرَّضَ لها الإمـام أحمـد :
لمَّا دعا المأمون الناس إلى القول بخلق القرآن ، أجابه أكثر العلماء والقضاة مُكْرهين ، واستمر الإمام أحمد ونفرٌقليل على حمل راية السنة ، والدفاع عن معتقد أهل السنة والجماعة .
قال أبو جعفرالأنباري : لمَّا حُمِلَ الإمام أحمد بن حنبل إلى المأمون أُخْبِرتُ فعبرتُ الفُرات، فإذا هو جالس في الخان ، فسلمتُ عليه ، فقال : يا أبا جعفر تعنَّيْت ؟ فقلتُ : ليس هذا عناء .
وقلتُ له : يا هذا أنت اليوم رأس الناس، والناس يقتدون بكم، فو الله لئن أجبتَ ليُجيبُنَّ بإجابتك خلقٌ كثير من خلقِ الله تعالى ، وإنْ أنتَ لم تُجِبْ ليمتنِعُنَّ خلقٌ مِنَ الناس كثير ، ومع هذا فإنَّ الرجل إنْ لم يقتلك فإنَّك تموت ، ولابدَّ مِنْ الموت ، فاتَّـقِ الله ولاتُجيبهم إلى شيء .
فجعل أحمد يبكي ويقول : ما شاء الله ، ما شاء الله. ثم سار أحمد إلى المأمون فبلغه توعدالخليفة له بالقتل إنْ لم يُجبه إلى القول بخلقِ القرآن ، فـتوجه الإمام أحمدبالدعاء إلى الله تعالى أنْ لا يجمع بـيـنه وبين الخليفة ، فبينما هو في الطريق قبل وصوله إلى الخليفة إذ جاءه الخبر بموت المأمون ، فَرُدَّ الإمام أحمد إلى بغداد وحُبِس ، ثم تولَّى الخلافة المعتصم ، فامتحن الإمام أحمد .
وكان مِنْ خبر المحنـة أنَّ المعتصم لمَّا قصد إحضار الإمام أحمد ازدحم الناس على بابه كيوم العيد ، وبُسِطَ بمجلسه بساطاً ، ونُصِبَ كرسيـاً جلس عليه ، ثم قال : أحضروا أحمد بن حنبل ، فأحضروه ،فلمَّا وقف بين يديه سَلَّمَ عليه ، فقال له : يا أحمد تكلم ولا تَـخَـفْ ،فقال الإمام أحمد : والله لقد دخلتُ عليك وما في قلبي مثـقال حـبَّـةٍ من الفزع ، فقال له المعتصم : ما تقول في القرآن ؟
فقال : كلامالله قديم غير مخلوق ، قال الله تعالى : { وَإنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ } [ التوبة : 6 ]
فقال له : عندك حجة غير هذا ؟ فقال : نعم ، قول الله تعالى : { الرَّحْمَنْ * عَلَّمَ القُرْآنْ }. [ الرحمن : 1 ، 2 ] ، ولم يقـل : الرحمن خلق القرآن ، وقوله تعالى : { يس * والقُـرْآنِ الْحَكِيم } [ يس : 1 ، 2 ] ، ولم يقـل : يس والقرآن المخلوق .
فقال المعتصم : احبسوه ،فحُبِسَ وتفرَّقَ الناس .
فلمَّا كان مِنَ الغد جلس المعتصم مجلسه على كرسيه وقال : هاتوا أحمد بن حنبل ، فاجتمع الناس، وسُمعت لهم ضجة في بغداد ، فلمَّا جيء به وقف بين يديه والسيوف قدجُردت ، والرماح قد ركزت ، والأتراس قد نُصبت ، والسياط قد طرحت ، فسأله المعتصمعم ما يقول في القرآن ؟
قال : أقول : غير مخلوق .
وأحضر المعتصم له الفقهاء والقضاةفناظروه بحضرته في مدة ثلاثة أيام ، وهو يناظرهم ويظهر عليهم بالحُجج القاطعة ،ويقول : أنا رجـل عَلِمتُ علماً ولم أعلم فيه بهذا ، أعطوني شيئاً من كتاب الله وسنة رسوله ــ
ــ حتى أقول به .
وكلما ناظروه وألزموه القول بخلق القرآن يقول لهم : كيف أقول ما لم يُقـل ؟ فقال المعتصم : قهرنا أحمد .
وكان من المتعصبين عليه محمد بن عبد الملك الزيات وزير المعتصم ، وأحمد بن دُوَاد القاضي ، وبشرالمريسي ، وكانوا معتزلة قالوا بخلق القرآن ، فقال ابن دُوَاد وبشر للخليفة : اقـتله حتى نستريح منه ، هذا كافر مُضِـل .
فقال : إني عاهدتُ الله ألا أقـتله بسيف ولا آمر بقـتله بسيف ، فقالا له : اضربه بالسياط ، فقال المعتصم له : وقرابتي من رسول الله ــ صلَّى الله عليه وسلم ــ لأضربنَّك بالسياط أو تقول كما أقول ،فلم يُرهبه ذلك ، فقال المعتصم: أحضروا الجلادين ، فقال المعتصم لواحد منهم : بكم سوطٍ تـقـتله ؟
قال : بعشرة ، قال : خذه إليك ،فأُخْرِجَ الإمام أحمد من أثوابه ، وشُدَّ في يديه حبلان جديدان ، ولمَّا جيءبالسياط فنظر إليها المعتصم قال : ائـتوني بغيرها ، ثم قال للجلادين : تقدموا ،فلمَّا ضُرِبَ سوطاً..
قال : بسم الله ، فلمَّا ضُرِبَ الثاني قال : لا حول ولا قوةً إلاَّ بالله ، فلمَّا ضُرِبَ الثالث قال : القرآن كلام الله غير مخلوق ، فلمَّا ضُرِبَ الرابع قال : { قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إلاَّ مَا كَتَبَاللهُ لَنَا } [ التوبة : 51 ] .
وجعل الرجل يتقدَّم إلى الإمام أحمدفيضربه سوطين ، فيحرضه المعتصم على التشديد في الضرب ، ثم يـتنحَّى ، ثم يتقدَّم الآخر فيضربه سوطين ، فلمَّا ضُرِبَ تسعة عشر سوطاً قام إليه المعتصم فقال له : ياأحمد علام تقتـل نفسك ؟ إني والله عليك لشفيق .
قال أحمد : فجعل عجيف ينخسني بقائمة سيفه وقال : تريد أنْ تغلب هؤلاء كلهم ؟ وجعل بعضهم يقول : ويلك ! الخليفة على رأسك قائم ، وقال بعضهم : يا أمير المؤمنين دمه في عنقي اقـتله ،وجعلوا يقولون : يا أمير المؤمنين : إنه صائم وأنت في الشمس قائم ، فقال لي : ويحك يا أحمد ما تقول ؟فأقول : أعطوني شيئاً من كتاب الله وسنةرسوله ــ صلَّى الله عليه وسلم ــ حتى أقول به.
ثم رجع الخليفة فجلس ثم قال للجلاد : تقدمَّ ، وحَرَّضه على إيجاعه بالضرب .
قال الإمام أحمد : فذهب عقلي ،فأفقت بعد ذلك ، فإذا الأقياد قد أُطلِقت عنِّي ، فأتوني بسويق فقالوا لي : اشرب وتـقيأ ، فقلت : لستُ أُفطر ، ثم جيء بي إلى دار إسحاق بن إبراهيم ، فحضرتُ صلاةالظهر ، فـتقدَّم ابن سماعة فصلى ، فلمَّا انفـتل من الصلاة قال لي : صليتَ والدمُ يسيل في ثوبك ، فقلت له : قد صلَّى عمر ــ رضي الله عنه ــ وجرحه يسيل دمـاً .
ولمَّا ولِّيَالواثق بعد المعتصم ، لم يتعرض للإمام أحمد بن حنبل في شيء إلاَّ أنَّـه بعث عليه يقول : لا تساكنِّي بأرضٍ ، وقيل : أمره أنْ لا يخرج من بيتـه ، فصار الإمام أحمد يختفي في الأماكن ، ثم صار إلى منزله فاختـفى فيه عدة أشهر إلى أنْ مات الواثق .
وبعد ذلك تولَّى الخلافة المتوكل بعد الواثق ، فقد خالف ما كان عليه المأمون والمعتصم والواثق من الاعتقاد ، وطعن عليهم فيما كانوا يقولونه من خلق القرآن ، ونهى عن الجدال والمناظرة في الأداء ،وعاقب عليه ، وأمر بإظهار الرواية للحديث ،فأظهر الله به السُـنَّـة ، وأمات به البدعة ، وكشف عن الخلق تلك الغُمَّـة ، وأناربه تلك الظُلمة ، وأطلق من كان اعـتُـقِـلَ بسبب القول بخلق القرآن ، ورفع المحنـةعن الناس .
* قال أحد الجلادين بعد أن تاب : لقد ضربت الإمام أحمد ( 80 ) جلدة ، لو ضربـتُها في فيل لسقـط .
فَرَحِمَ اللهُ هذا الإمام الجليل أحمد بن حنبل ، الذي ابتُـليَ بالضرَّاء فصبر ، وبالسرَّاءفشكر ، ووقف هذا الموقف الإيماني كأنـه جبلٌ شامخ ، تـتكسَّرُ عليه المِحَنْ ،وضَرَبَ لنا مثـلاً في الثبات علـى الحـق …
3. المعنى الإجمالي للحديث النبوي الشريف :
أ.ضرب لنا الحبيب
في هذا الحديث النبوي الشريف مثلا حلوله بالدنيا كمثل سفر راكب أراد أن يقيل من تعب السفر ثم تركها . وهو مثل يدلنا على ذلك الزهد القلبي في متاع الدنيا و شهواتها ، وطلب القصود العالية ، ومنها السفر إلى المولى جل جلاله.
ب. قوله تعالى : " لقد خلقنا الإنسان في كبد " سورة البلد ، وقد شبه الحبيب
الكبد هنا باليوم الصائف ، و فيه دلالة على وقع الحر على النفس ، وطلبها عند المشقة و النصب ، نوعا من الراحة .ثم في هذه الراحة يسترجع العبد قواه ليستأنف المسير و الرحلة. وهي الهجرة القلبية عن كل متاع الدنيا.
ج.في الحديث النبوي الشريف تنبيه إلى قيمة الوقت ، يوم صائف، وكأن رحلة العبد إلى مولاه مجرد يوم أو نصف في أيام الله تعالى ، إن لم يستثمره في الخير كان شرا و وبالا عليه يوم يلقاه سبجانه و تعالى.
د. ومن معاني الحديث النبوي الشريف ، فضيلة التقلل و الزهد في متاع الدنيا ، و إن شئت قلت فضيلة عمران الدنيا بالأعمال الصالحة ، وتذكر المصير الأخوي بعمارتها و العمل فيها و نصرة الله ، فيكون الراكب المسافر المهاجر منقطع بقلبه عن الدنيا فان في ربه متقلل و في نفس الوقت حامل لرسالة ربه و خاذم للحبيب
بخذمة سنته
، فالراكب إما يكون فردا أو جماعة أو عالم أو متعلم ، فالكل في سير و عمل و جهاد ومجاهدة.
4.الفهم المنهاجي للحديث النبوي الشريف :
أقصد بالفهم المنهاجي للحديث النبوي ، الجمع بين فضيلتي الرحمة و الحكمة في دراسة الحديث النبوي الشريف ، فتكون أنوار كلمات الحبيب
تروي ظمأ الروح ، فتسري في القلب أنوار حكمته
، و أستمد منها طريقا واضحا ينير لي الطريق ، و في نفس الوقت ، تغذي عقلي بالحكمة التي تجعلني لا أفرط في حقي و واجباتي تجاه أمتي ؟.
بمعنى انني أجعل من توجيهاته
منهاج العمل و دستور السير و طريق العمل ، و الحديث النبوي الشريف ينبهنا إلى الزيال النفسي الذي يجب على المؤمن المريد أن يتسم به ، زيال المعرفة بحقيقة و كنه الأشياء ، أننا في رحلة تنتهي بالموت و عليه كلما مات ذكر الدنيا في القلب ، كانت حياة الروح بالذكر و التقرب.
يقول الشيخ عبد السلام ياسين في المنهاج النبوي عن التقلل و الزهد : (لشعبة السبعون : الزهد والتقلل
في الأفق الفسيح المنير، أفق العدل الاجتماعي والكفاية والقوة، أفق التحرر الغذائي والاقتصادي والسلاحي بالنسبة للأمة ككل، تكتب كلمتا الزهد والتقلل كتابة غير ما نألف. يكون الزهد في الدنيا في نفس المؤمن والمؤمنة خلقا. حرية نفسية، وتعاليا عاطفيا عن اللصوق بالمادة وتأليهها. ويلزم لنحقق الزهد خلقا وتعاليا نفسيا وسنة نبوية أن تكون الأموال ووسائل التوسع في العيش متوفرة لنا. لأن الإنسان لا يزهد فيما ليس عنده وفي متناول يده، ولا يعد زاهدا إن كان العجز عن الكسب والتملك لكسل فردي أو كساد أو انهيار اقتصادي هو مانعه من التملك والتوسع.
الزهد فضيلة فردية إيمانية، لكنها تتضارب مع فضيلة أعلى منها وهي الجهاد بالمال في سبيل الله.
فالزاهد، إن فهمنا الزهد انزواء وهروبا وفقرا مرادا مقصودا لذاته، مؤمن ضعيف، عاجز عن نفع ذوي الحقوق عليه من عائل وجار وأمة. وجند الله المنتظرون بحاجة ماسة أثناء الزحف وخلاله وقبله وبعده للاستقلال المالي. فالمال عصب الجهاد في كل عصر ومصر. وجماعة من المتزهدين الدارويش لن تغني شيئا ولا في تحريك أذن واقع منيخ بكلكه على المسلمين، جالب عليهم بخيله ورجله، بعتوه العسكري وهمينته الاقتصادية، بأنظمته التابعة للجاهلية، الجاثمة على صدورنا.
تجتمع فضيلتا الإنفاق في سبيل الله والزهد في الدنيا في شخص المؤمن، في أشخاص المؤمنين، الدائبين على الكسب، وحفظ المال، واستثماره، ليدفعوه في وجوهه الشرعية خاصة الجهاد بنفس سخية. يد تكسب بتعب وحساب وحرص، ويد تنفق في سبيل الله بغير حساب. إن انفردت يد الانفاق بالعمل فمن أين تنفق؟ وإن انكمشت يد الزهادة في خمول الكسل وذل التسول فأين المؤمن القوي؟
الزهد فضيلة فردية يقابلها فضيلة جماعية اجتماعية هي التقلل.
بين كفة الاستهلاك بالنسبة للمستكبرين وما في الكفة الأخرى، كفة المستضعفين الشائلة، من جوع وبؤس، لا بد للمسلمين من توازن.
التقشف كلمة جافة جافية، ثم لا تؤدي خلقيا إيمانا. وهي من قاموس الحكام عندما يريدون أن يعطوا لبؤس الشعوب اسما، ولسياستهم المالية رسما.
توازن الاقتصاد والسلوك الاقتصادي الإسلاميين في زهد جماعي هو التقلل. وهو أن نسد الضروريات والحاجيات لكل أفراد الأمة أولا بأول، ثم لا نعطي الكماليات في إنتاجنا واستهلاكنا إلا كما يعطي متنفس للمضطر من مريض يحتاج لترفيه وعلاج، ومتعلم يلتمس تخصصا، وعجزة يحتاجون لعناية خاصة، وطفولة ينبغي أن تحب الإسلام وهي في مهد عنايته.
اقتصاد تقلل، إنتاج واستهلاك ملائمان.
وإلا فإن المبذرين إخوان الشياطين. وما اقتصاد الغرب والشرق الجاهليين إلا اقتصاد شيطاني لأنه قائم على نية التبذير، منجز بتكنولوجية تبذير، وبنظام ونمط صناعي التبذير روحهما.
مع فارق أن تبذير الرأسمالية واقتصادها السوقي معلن معترف به، أهلك واستهلك المواد الأولية المدخرة في الأرض، وأفسد الهواء والماء، وسمم جو الكرة الأرضية ورحابها، بينما تبذير الاقتصاد الشيوعي، تبذير البروقراطية التي لا تبالي ما أتلفت من مال ورجال. لا تحتاج أن تحسب كما يحسب الآخرون مردودية العمل ومردودية عوامل الإنتاج، وإنتاجية العمليات الاقتصادية. التبذير البروقراطي يحتشم ويتخفى وراء العقلانية المعلنة في الطروس، طروس الإديولوجية لا ملفات الإنجاز.
كل أولئك إخوان الشياطين. لأنهم مبذرون، إلى جانب حيثيات أخرى أهمها ظلم الإنسان، والاعتداء على كرامته، وصده عن سبيل الله. ونحن المسلمين نتحمل تبعات ذلك كله، ونرزح تحت تبذيرهم الذي لا يترك لنا فتاتا، وظلمهم وصدهم حتى لا نجد متنفسا.
والتفت يا جند الله حولك تجد الشيطان اتخذ له إخوانا كثيراً بين ظهرانينا. مبذرو أموال المسلمين، سفهاؤنا الذين سكتنا حين ابتزوا أموالنا، غلمتنا الذين باعوا أرضنا وخيراتنا لأمريكا ولأعداء الإسلام وليهود صهيون، هم صنيعة الجاهلية الشيطانية بيننا.
فلكيلا نرتد غدا بعد التحرير إن شاء الله إلى ما نحن عليه اليوم، يجب أن توضع أمانة أموالنا في أيد لا تخون، وأن تسند إدارتها لرجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. هم وحدهم أهل أن يستصغروا الدنيا كلها بجانب الآخرة، وأن يستهينوا بالمصاعب في طريق إحياء اقتصاد الأمة التماسا للجزاء الأوفى عند الله. هم وحدهم يستطيعون أن يجهزوا الأمة بجهاز اقتصادي يكفل لها الحياة العزيزة القوية.
وانظر يا جند الله كيف احتلت مراتع الاستهلاك والمتاع طبقتا المترفين المستكبرين بديار الجاهلية شرقا وغربا. هناك طبقة الماركسين اللينيين في قصورهم ونفوذهم واستحواذهم على شعوب دربوها على خدمتهم كما تدرب الحيوانات. وهناك في الغرب الغربي المترفون المعلنون، يلعبون القمار ويقمرون سفهاءنا المبذرين قمرا منكرا في الكازنوهات، فساد، تبذير. والله لا يحب المفسدين ولا إخوان الشياطين.
إن اجتمع المال والسلطن في يد رجل لا يزهد في الدنيا لأنه لا يؤمن بالآخرة، فإن آمن فباللسان فذلك خرابه وخراب الأمة. وإن وسد أمر تدبير معاش الأمة لفئة لا تحمل هم الأمة لأنها لا تعرف هم لقاء الله فهو خراب الأمة.
زهد وتقلل. لا يأتي هذا إن كانت ترعى ذئاب عاوية، وثعالب متلونة، في أموال الأمة، تحملها على التقشف لتختلي هي بالافتراس، وانتجاع اللذات، والفتك في مواخير أوروبا هناك وهنا. حذار يا جند الله أن يتسلل بعد التحرير إلى سدة الحكم والتوجيه ذئاب وثعالب، وإن كانت تلبس قبل توفر فرص النهب والفتك مسرح الزهد والمسكنة.
والمؤمن كغيره معرض لمغريات السلطان والمال، وهما متلازمان أبدا.
يقول الحبيب المصطفى
من حديث رواه البزار بسند حسن: ما ذئبان ضاريان في حظيرة، يأكلان ويفسدان، بأضر فيها من حب الشرف وحب المال في دين المرء المسلم!.
من كان حب المال والشرف- ومنه السلطان يحجبان عن همته حب الله ورسوله، وطاعة الله ورسوله، فلا يصلح أن يؤتمن على أموال المسلمين ونفوذهم. لهذا أمرنا في الكتاب ألا نؤتي السفهاء أموالنا، وأمرنا في السنة ألا نعطي السلطان لمن يطلبه. ) كتاب المنهاج النبوي.
نسأل الله تعالى أن يرحمنا آمين