أمّا وجه الخسران فقد يبعد أن يتصوّره الإنسان، على ما هو عليه، إلاّ بعد مقارنته بحالته الحاضرة، أعني حياتَه العنصريّة مع حياته الرّوحانيّة قبل تعلّق الرّوح بالبدن عندما كانت الرّوح تسرح بين أفراد الملأِ الأعلى، و تسبح في محيط أنوارٍ يبعُدُ كلَّ البُعد عن ملابسة الأغيار.
كانت الرّوح في كرامة عظيمة، و حالة جسيمة، تتلقّى نِداها من الله من غير واسطة. و تجيب جوابا خاليا من كلّ شبه. و لم تفقُد حظّها من تلك الكرامة، و لو بعد هبوطها و تعلّقِها بأوّل جسمٍ للإنسان. فإنّه توّجها بتاج العلم، و كلّلها بإكليل الفهم، و علّمها ما لم تكن تعلم. كفاها أنّه أسجد لها الملائكة و عموم الأرواح كالذرّ في ظهر آدم. غير أنّ الرّابطة بالجسم أكسبتها صبغة غير التي كانت عليها. فلم يشعر الإنسان إلاّ و هو نوع من أنواع الحيوان، يعمل بحكم الطّبيعة داخل الجنس العام. و شتّان ما بين المرتبتين، و بَعُدّ ما بين الحالتين؛ أعني حال الإنسان الأوّل و حال الإنسان الثّاني، على ما يقتضيه النّور الشّاسِع بين الرّتبتين، حتى كأنّه لم يكن هو، و ليس بمستبعد إن قُلنا إنّ الإنسان الأوّل هو غير الإنسان الثّاني، مهما كان يُطلَق لفظ الإنسان على معنيين؛ أحدُهما هو هذا الإنسان الذي نعتبره أحد أنواع الحيوان المشهود بالحسّ المُدرك باللّمس، المخصّص بالفصل من الجنس.
و الثّاني له لوازم و خصائص تجعله في الحيّز المقابل للأوّل، المسمّى بالإنسان المحسوس، و الثّاني بالإنسان المنقول، أو نقول الأوّل يُسمّى بالإنسان الحيواني، و الثّاني بالإنسان الرّبّاني، و ليس الشّان أن يكون الإنسان حيوانيا، و لكنّ الشّأنَ أن يكون ربّانيًّا. قال تعالى: " وَ لَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَ بِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ". و متى يكون الإنسان ربّانيّا؟ يكون إذا سافر من ظاهره إلى باطنه، و ارتقى على كاهل نفسه، لينظرما حجب عنه من شرفه و عُلوّه، و هناك يجد سِعة و ملكا كبيرا، حتّى إذا عرف ما فُطِرَت عليه نفس الإنسان، و ما كان عليه في عالم الإحسان، يقول قدْ أوتيتُ مُلكا لم يُؤتهُ أحد من العالمين. و تلك هي السّعادةُ الأبديّة. و إلى ذلك يُشير الإمام عليّ بقوله: " خُلِقْتُمْ لِلأبدِ ". و هذا الإنسان المبهمُ الكنه، المعرفُ شأنه برفع المَنزِلَة هو المخلوق في أحسن تقويم، و الثّاني هو المرجوع به إلى أسفل سافلين. الأوّل هو المُشار إليه بقوله تعالى: " وَ لَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ". و الثّاني هو المعني بقوله: " ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ". و عليه فالإنسان الأوّل هُو مخلوقٌ غير مصوًر. و إليه اللإشارة في حديث: "خَلَقَ اللهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ" فإنّه لم يقُل تعالى صوّر الله آدم على صورته، لأنّ الخلق كان قبل وقوع الصّورة، و المخلوق على صورته لم تكن له صورة، و إذن لا صورة في الواقع، لا للإنسان الأوّل، ولا للمخلوقِ على صورته. و بهذا الأُنموذج تُدرِكُ كون الإنسان ضاع له من معرفة نفسه بقدر ما ضاع له من معرفة ربّه. نال ذلك بسبب نسيانه لِما كان عليه " نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ".
و بالجملة فإنّ خسران الإنسان تسبّبَ عن ظنّهِ كونُهُ هو بالجسم إنسانٌ، و في استطاعته الآن أن يتدارك ما فاته من عزّه، و ليس ذلك إلا أن يكون بالرّوح إنسانا.
و أمّا مجيئُه ظرفا للإنسان فهو لإفادة الإحاطة بعُموم أفراده إلاّ المُستثنى المُشارُ إليهم بقوله: " إلاَّ الّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَ تَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ " و قليل ما هم أعني من تتوفّر فيهم تلك الخِلال الكريمة، و النُّعوت العظيمة التي تضمن لهم السّعادة الغير المشوبة بِأدنى شقاوة، لا في العاجل و لا في الآجل، بِما أنَّ الإنسان قد يُؤمن و لا يعملُ الصَّالحات، و قد يعمل الصّالحات و لا يتواصى بالحقّ، و قد يتواصى بالحقّ و لا يتواصى بالصّبر عليه.
أمّا الخلاص النّهائي لا يتحقّقُ و لا يُتصوّر بمعناه اللاّزم إلاّ باسْتِجْمَاع تلك الخِصال الأربعة، و هي الإيمان و الأعمال الصّالحة و التّواصي بالحقّ و التّواصي بالصّبر عليه.
أمّا إذا فات الإنسان ـ و العياذ بالله ـ حظّه من الإيمان في هاته الحياة الدُّنيا فقد خسر خسرانا مبينا، يجعله يقول يوم يرى سعادة السّعداء بالنّظر لشقاوة الأشقياء: يا ليتني كنت ترابا.
أمّا إذا نال حظّه من الإيمان في هاته الدّنيا القدرُ الذي يفصله عن محيط الكفران بالله و رسوله، فقد يتقدّم بذلك شوطا غير قصير في سبيل سعادته، و نيل بغيته، و لكن لا تثبت أقدامه في ذلك الدّور إلاّ بالأعمال الصّالحة، و الأعمال الصّالحة هي جنسٌ يدخل تحته أفراد كلّ فعل محمود، و يخرج معه كلّ فعل مذموم. و هذا الدور يعتبر أرفع درجة في نيل السّعادة. غير أنّه لا تستقرّ أقدام صاحبه استقرارا تامّا إلآّ مع التّواصي بالحقّ، و من لم يتواصى بالحقّ قلّ أن يصبر في طريق الحقّ، بناء على أنّ رأس الأعمال الصاّلحة هو الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر. و من لم ينهَ و يأمر يُخشى عليه يوما من الأيّام يُصبح فيه لا يُنْتهى ولا يُؤتمر.
و لمّا كانت هاته الخصال ـ أعني قول الحقّ، و ملازمة الحقّ، و التّواصي بالحقّ ـ في الغالب تجلُب لصاحبها من الأذى ما قد تكرهه نفسه، قرنها تعالى بالتّواصي بالصّبر. فمن لم يتدرّع بالصّبر قلّ أنْ يثبُت في مقام الدّعوة إلى الله عزّ و جلّ، و يشعرُنا بهذا وصيّة لُقمان لإبنه فيما أخبر القرآن الكريم به، حيث قال: " وَ أمُرْ بِالمَعْرُوفِ وَ أنْهَ عَنِ المُنْكَرِ وَ اصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ "، يعني من خصال ذوي العزم.
و خلاصة القول أنَهُ يدخُل في التّواصي بالحقّ، الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر كما تقدّم؛ و يدخل في التّواصي بالصّبر حملُ الأذى و كفّ الأذى. و هاته الأخلاق الكريمة توجد في الأنبياء عليهم الصّلاة و السّلام بالسّجيّة، و في غيرهم من بقيّة المرشدين رضي الله عنهم بضربٍ من التّكلّف، غير أنّ الكُلفة تهون بقدر الوراثة النّبويّة " العُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ "، فهذا هو متروك الأنبياء عليهم الصّلاة و السّلام، و ذلك هو حظّ العلماء منهم. فليتأمّل المُتّصِفُ بالعالميّة حظَّه من ذلك الإرث و مقدار توجّهه و إخلاصه و نُصحه لله و لرسوله و للمؤمنين، فإن وجد في اخلاقه ما يُثبِتُ له نصيبا من ذلك الإرث فقد وجد فليلزم، و إلاّ فهو مقطوع السّبب، فينبغي له أن يلتجئ لمن يربط سببه، و يحقّقُ له وصلته، قبل أن تختم أنفاسه و هو على ما هو عليه، فيحشر على ما مات عليه، على أنّه ليس بعد هذه الدّار إلاّ الجنّةُ أو النّار، أعاذنا الله و المسلمين من سوء القرار.
و إذن فأوجبُ ما يجب على اللإنسان أن يتسارع في خلاص نفسه بما تبرأُ به ذمّته عند الله عزّ و جلّ. و لا تبرأُ ذمّة المؤمن على الوجه الأكمل إلاّ إذا أحبّ لأِخيه ما يحبّه لنفسه. و هذا هو الباعث الوحيد و المساعد الأكيد للمرشد على بدل النّصيحة في ذات الله؛ لأنّه يُحبّ لنفسه النّجاة المقرونة بالفوز الأبديّ. و إذا متى يصفو له الوقت أو يطمئنّ فؤاده و هو يرى أبناء جنسه و أهل ملّته على ما هم عليه، في حال أنّه يحبّ لهم ما يحبُّ لنفسه؛ عملا بما في الحديث الشّريف لا يكون المؤمن مؤمنا حتّى يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه.
و بالجملة، فإنّ جهاد هذا النّوع من بني الإنسان مُتواصلٌ، و هو شيْ يبعثُ عليه الإيمان الكامل كما قدّمناه. جعلني الله و إيّاكم مِنَ الذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَ تَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَ تَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ.
ــــــــــــــــــــــ
عن موقع التصوف الاسلامي