أنت غير مسجل في منتديات البوحسن . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           سبحانك اللهم وبحمد ك وتبارك اسمك وتعالي جدك، ولا إله غيرك           

رسائل ووصايا في التزكية كلّ ما يختص بعلوم السلوك وآداب القوم وتزكية النفس والتصوف الإسلامي

 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع
قديم 02-01-2011
  #11
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: اللمعات

اللـمعة الرابعة عشرة

عبارة عن مقامين

الـمقام الاول

جواب عن سؤالين

باسـمه سبـحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ يُسَبـح بـحـمدِهِ{ (الاسراء:44)

السلام عليكم ورحـمة الله وبركاته،

اخي العزيز الصادق الوفي السيد رأفت!

ان ما سألتـموه من سؤال حول ((الثور والـحوت)) قد ورد جوابه في بعض الرسائل. وقد بينت في ((الغضن الثالث من الكلـمة الرابعة والعشرين)) اثنتا عشرة قاعدة مهمة ضمن اثني عشر أصلا حول هذا النوع من الاسئلة، تلك القواعد تـمثل اسساً مهمة لدفع الشبهات والاوهام الواردة على الاحاديث الشريفة، فكل قاعدة منها مـحكَ جيد لبيان التأويلات الـمـختلفة حول الاحاديث النبوية.

اخي! انني لا انشغل الا بالسوانـح القلبية، فهناك حالات طارئة في الوقت الـحاضر تـحول – مع الاسف – دون اشتغالي بالـمسائل العلـمية؛ لذلك لا استطيع الاجابة عن سؤالكم بـجواب شاف، وإن وفق الله وفتـح علينا سوانـح قلبية اضطر الى الانشغال بها. وربـما يـجاب عن أسئلة لتوافقها مع السوانـح، فلا تتضايقوا، اذ لا استطيع الاجابة عن كلّ من اسئلتكم اجابة وافية. فلأجب هذه الـمرة عن سؤالكم.

تذكرون يا اخي في سؤالكم:

ان علـماء الدين يقولون: الارض تقوم على الـحوت والثور، علـماً ان الـجغرافية تراها كوكباً معلقاً يدور في السـماء كأي كوكب آخر، فلا ثور ولا حوت!.

الـجواب: هناك رواية صحيـحة تُسند الى ابن عباس رضي الله عنهما، تقول: سُئل الرسول e : على أي شيء تقوم الارض؟. أجاب: على الثور والـحوت. وفي رواية اخرى، قال مرة: على الثور ومرة: على الـحوت. ولكن عدداً من الـمـحدثين طبقوا هذه الرواية على حكايات خرافية وقديـمة وردت عن الاسرائيليات، ولا سيـما من علـماء بني اسرائيل الذين اسلـموا فهؤلاء غيروا معنى الـحديث وحولوه الى معنى عجيب غريب جدا، حيث طبقوا الـحديث على ما شاهدوه من حكايات حول الثور والـحوت في الكتب السابقة.

ونـحن هنا نشير باختصار شديد الى ((ثلاثة اسس)) و ((ثلاثة وجوه)) لدى الاجابة عن سؤالكم:

الاساس الاول:

لقد حـمل قسـم من علـماء بني اسرائيل بعد إسلامهم معلوماتهم السابقة معهم الى الاسلام، فاصبـحت ملك الإسلام أي ضمن الـمعارف الإسلامية. علـماً أن معلوماتهم السابقة تـحوي اخطاء. فتلك الاخطاء بلاشك تعود اليهم لا الى الإسلام.

الاساس الثاني:

ان التشبيهات والتـمثيلات كلـما انتقلت من الـخواص الى العوام، أي كلـما سرت من يد العلـم الى يد الـجهل عُدّت حقائق ملـموسة بـمرور الزمن، أي كأنها حقائق واقعة وليست تشبيهات.

فمثلا: حينـما كنت صبياً خسف القمر، فسألت والدتي: ما هذا الذي حدث للقمر؟. قالت: ابتلعه الـحية!. قلت: ولكنه يتبين! قالت: ان الـحيات في السـماء شفافة كالزجاج تشف عما في بطنها. كنت اتذكر هذه الـحادثة كثيراً واسائل نفسي: كيف تدور خرافة بعيدة عن الـحقيقة الى هذه الدرجة على لسان والدتي الـحصيفة الـجادة في كلامها؟.

ولكن حينـما طالعت علـم الفلك رأيت ان الذين يقولون كما تقول والدتي، قد تلقوا التشبيه حقيقة واقعية؛ لان الفلكيين شبهوا القوسين الناشئين من تداخل دائرة الشمس، وهي منطقة البروج ومدار درجاتها، مع دائرة القمر وهي ميل القمر ومدار منازلـه، شبهوهما تشبيهاً لطيفاً بـحيتين ضخـمتين، وسـموهما تنينين، واطلقوا على احدى نقطتي تقاطع تلك الدائرتين ((الرأس)) والاخرى ((الذنب)). فحينـما يبلغ القمر الرأس والشمس الذنب تـحصل حيلولة الارض – كما يصطلـح عليها الفلكيون – أي: تقع الارض بينهما تـماماً، وعندها يـخسف القمر. أي كأن القمر يدخل في فم التنين، حسب التشبيه السابق.

وهكذا عندما سرى هذا التشبيه العلـمي الراقي بـمرور الزمن الى كلام العوام غدا التشبيه تنيناً عظيـماً مـجسـماً يبتلع القمر!.

وكذلك الـملَكان العظيـمان الـمسـميان بالثور والـحوت، قد اطلق عليهما هذان الاسـمان في تشبيه لطيف سام، وفي اشارة ذات مغزى. ولكن لـما انتقل التشبيه اللطيف، من لسان النبوة البليغ السامي الى لسان العوام، بـمرور الزمن، انقلب التشبيه الى حقيقة واقعة، فاتـخذ الـملكان صورة ثور ضخـم وحوت هائل.

الاساس الثالث:

كما ان القرآن الكريـم متشابهات، يرشد الـمسائل الدقيقة العميقة للعوام بالتشبيه والتـمثيل، كذلك للـحديث الشريف متشابهات يعبـّر عن الـحقائق الواسعة بتشبيهات مأنوسة لدى العوام. مثال ذلك ما ذكرناه في رسائل اخرى.

أنه عندما سـمع دوي في مـجلس الرسول e قال: هذا حجر يتدحرج منذ سبعين سنة في جهنـم فالآن حين وصل الى قعرها.

وبعد مضي دقائق جاء أحدهم وقال: ان الـمنافق الفلاني الـمعلوم الذي يبلغ سبعون سنة من العمر قد مات.

فأعلن عن الـحقيقة الواقعة للتشبيه البليغ الذي ذكره الرسول e .

أما عن سؤالك يا أخي فسنذكر لـه ثلاثة وجوه:

الوجه الاول:

ان الله سبـحانه قد عين اربعاً من الـملائكة العظام في العرش والسـموات للاشراف على سلطنة ربوبيته. اسـم واحد منهم ((النسر)) واسـم آخر ((الثور))(1).

أما الارض التي هي شقيقة صغيرة للسـموات ورفيقة أمينة للسيارات فقد عُين لـها ملكان مشرفان يـحـملانها، يطلق على احدهما: ((الثور)) وعلى الآخر ((الـحوت)). والـحكمة في تسـميتهما بهذين الاسـمين هي ان الارض قسـمان: البر والبـحر أي اليابسة والـماء، فالذي يعمر البـحر او الـماء هو الـحوت او السـمك، أما الذي يعمر البر والتراب فهو الثور، حيث أن مدار حياة الانسان هو الزراعة الـمـحـمولة على كاهل الثور.

فالـملكان الـموكلان بالارض اذن هما قائدان لـها ومشرفان عليها، لذا لـهما تعلق وارتباط ومناسبة – من جهة – مع طائفة الـحوت ونوع الثور. ولربـما – والعلـم عند الله – يتـمثلان في عالـم الـملكوت وفي عالـم الـمثال على صورة الـحوت والثور(2).

فاشارة الى هذه الـمناسبة والعلاقة، وايـماءاً الى ذينك النوعين من مـخلوقات الارض، قال الذي اوتي جوامع الكلـم e : ((الارض على ثور والـحوت)) فأفاد بـجـملة واحدة وجيزة بليغة عن حقيقة عظيـمة عميقة قد لا يعبر عنها في صحيفة كاملة.

الوجه الثاني:

لو قيل: بـم تقوم هذه الدولة؟ فالـجواب: على السيف والقلـم: أي تستند الى قوة سيف الـجيش وشجاعته واقدامه وعلى دراية قلـم الـموظفين وعدالتهم.

وحيث أن الارض مسكن الأحياء، وسيد الاحياء الانسان، والقسـم الاعظم من الناس يقطنون السواحل ومعيشتهم على السـمك، والباقون تدور معيشتهم على الزراعة التي هي على عاتق الثور ومـحور تـجارتهم على السـمك. فمثلـما يـمكن القول:

أن الدولة تقوم على السيف والقلـم يـمكن كذلك القول: ان الارض تقوم على الثور والـحوت؛ لأنه متى ما احجـم الثور عن العمل ولـم يلق السـمك ملايين البيوض دفعة واحدة، فلا عيش للانسان وتنهار الـحياة، ويدمر الـخالق الـحكيـم سبـحانه الارض.

وهكذا اجاب الرسول الكريـم e عن السؤال بـحكمة سامية وببلاغة معجزة وبكلـمتين اثنتين مبيناً حقيقة واسعة تتعلق بـمدى ارتباط حياة الانسان بالـحيوان فقال:

((الارض على الثور والـحوت)).

الوجه الثالث:

ان الشمس في نظر علـماء الفلك القديـم تدور والارض ثابتة، وعبروا عن كل ثلاثين درجة من درجات الشمس بـ ((البرج)) فلو مدت خطوط افتراضية بين نـجوم تلك البروج لـحصل ما يشبه صورة الاسد احياناً، او صورة الـميزان، او صورة الثور، او صورة الـحوت، لذا بينوا تلك البروج بتلك الاسـماء.

أما علـم الفلك الـحاضر فيرى أن الشمس لا تدور حول الارض، بل الارض تدور حولـها. أي يعطل العمل في تلك البروج، فلابد ان لتلك البروج العاطلة عن العمل والدوائر الـهائلة دوائر بـمقياس أصغر في مدار الارض السنوي، أي اصبـحت البروج السـماوية تتـمثل في مدار الارض السنوي، وعندئذ تدخل الارض كل شهر في ظل احد البروج وتكون ضمن انعكاسة، فكأن مدار الارض السنوى مرآة تتـمثل فيها صورة البروج السـماوية.

وهكذا بناء على هذا الوجه – من الـمسألة – فقد قال الرسول الاعظم e كما ذكرنا سابقاً ((على الثور)) مرة و ((على الـحوت)) مرة اخرى.

نعم انه حري بلسان ذلك النبي الكريـم الـمعجز ان يقول مرة: ((على الثور)) مشيراً به الى حقيقة عميقة لا تدرك الا بعد قرون عديدة. حيث أن الارض في تلك الفترة – أي فترة السؤال – كانت في الصورة الـمثالية لبرج الثور، بينـما عندما سئلe السؤال نفسه بعد شهر قال: ((على الـحوت)) لأن الارض كانت في ظل برج الـحوت.

وهكذا اشار e بقولـه: ((على الثور والـحوت)) الى هذه الـحقيقة العظيـمة التي ستظهر في الـمستقبل وتتوضح.. وأشار به الى حركة الارض وسياحتها.. ورمز به الى أن البروج السـماوية الـحقيقية والعاملة هي التي في مدار الارض السنوي، والارض هي القائمة بالوظيفة والسياحة في تلك البروج، بينـما التي بالنسبة للشمس عاطلة دون اجرام سيارة فيها. والله اعلـم بالصواب.

واما ما جاء من حكايات خارجة عن طور العقل في بعض الكتب الإسلامية حول الثور والـحوت. فاما انها من الاسرائيليات، أو هي تشبيهات وتـمثيلات، أو أنها تأويلات بعض الرواة، حسبها الذين لا يتـحرون الدقة أنها من الـحديث نفسه واسندوها الى كلام الرسول e .

} رَبـَّناَ لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نـَّسِينَا أَوْ أَخطَأنَا { (البقرة:286)

} سُبـحانَكَ لاعِلـم لنا إلاّ ما عَلـمتَنا إنك أنتَ العَليـم الـحكيـم{

(البقرة:32 )

السؤال الثاني: يـخص اهل العباء(1)

أخي!

سنذكر حكمة واحدة فقط من الـحكم الكثيرة التي ينطوي عليها سؤالكم حول ((أهل العباء)) الذي ظل بلا جواب، وهي: ان اسراراً وحكماً كثيرة في إلقاء الرسول e عباءه (ملاءته) الـمبارك الذي كان يلبسه على علي وفاطمة والـحسن والـحسين رضي الله عنهم اجـمعين، ثم دعاؤه لـهم(2) في هذا الوضع وبهذه الآية الكريـمة: } ليُذهِبَ عَنكُم الرجسَ أهلَ البيتِ ويُطَهـِّركُم تطهيراً{ (الاحزاب:33). ولكننا لانخوض في اسراره، ولانذكر الاّ حكمة من حكمه التي تتعلق بـمهمة الرسالة وهي:

ان الرسول الكريـم e قد رأى بنظر النبوة الانيس بالغيب، النافذ الى الـمستقبل، أنه بعد نـحو ثلاثين أو أربعين سنة ستقع فتن عظيـمة في صفوف الصحابة والتابعين، وستراق الدماء الزكية. فشاهد ان ابرز من فيها هم الاشخاص الثلاثة الذين سترهم تـحتعباءته. فلأجل الاعلان عن تبرئة علي في نظر الأمة.. وتسلية الـحسين وعزائه.. وتهنئة الـحسن واظهار شرفه ومكانته وعظيـم نفعه للأمة برفعه فتنة كبيرة بالصلـح.. وطهارة نسل فاطمة وشرافتهم واهليتهم بلقب أهل البيت، ذلك العنوان الشريف الرفيع.. لأجل كل ذلك ستر e اولئك الاربعة مع نفسه تـحت ذلك العباء واهباً لـهم ذلك العنوان الـمشرف: آل العباء الـخـمسة.

نعم! ان سيدنا علياً رضي الله عنه كان خليفة للـمسلـمين بـحقٍ، ولكن لأن الدماء الزكية التي اريقت جليلة فان براءته منها وتبرئته في نظر الامة لـها اهميتها من حيث وظيفة الرسالة. لذا يبريء الرسول الكريـم e ساحته بتلك الصورة، فيدعو الى السكوت بـحقه كلَّ من ينتقده ويـخطئه ويضلله من الـخوارج والـموالين للامويين الـمتـجاوزين عليه.

نعم ان الـخوارج واتباع الامويين الـمغالين يتفريطهم في حق سيدنا علي رضي الله عنه وتضليلـهم لـه وإفراط الشيعة وغلوهم وبدعهم وتبرّيهم من الشيـخين مع وقوع الفاجعة الاليـمة على الـحسين رضي الله عنه، قد اضرّ اهل الإسلام ايـمـّا ضرر. فالرسول الكريـم e ينـجي بهذا الدعاء والعباء علياً والـحسين من الـمسؤولية والتهم، وينقذ امته من سوء الظن في حقهما كما يهنيء – من حيث مهمة الرسالة – الـحسن الذي أحسن الى الامة بالصلـح الذي قام به، ويعلن ان النسل الـمبارك الذي يتسلسل من فاطمة سينالون شرفاً رفيعاً، وان فاطمة ستكون كريـمة من حيث ذريتها كما قالت ام مريـم في قولـه تعالى:

} واني اعيذها بكَ وذُريتها من الشيطان الرجيـم { (آل عمران:36)

اللهم صلّ على سيدنا مـحـمد وعلى آلـه الطيبين الطاهرين الابرار وعلى اصحابه الـمـجاهدين الـمكرمين الاخيار. آمين….

الـمقام الثاني

يضم هذا الـمقام ستةً من اُلوف اسرار

((بِسـم الله الرَّحـمنِ الرَّحيـم))

تنبيه:

لقد ظهر عن بُعد لعقلي الـخامد نورٌ ساطع أشرق من أُفق رحـمة الله في البسـملة. فاردتُ تسجيلـه في صورة ملاحظات ومذكـّرِات خاصة بيّ، وقمت بـمـحاولة اقتناص ذلك النور الباهر باحاطته بسور من أسراره البالغة نـحو ثلاثين سراً، كي يسهل حصره ويتيسر تدوينه، إلاّ أنني مع الاسف لـم اوفـَّق تـماماً الآن في مسعاي، فانـحسرت الأسرار الى ستة فقط.

والـخطاب في هذا الـمقام موجّه الى نفسي بالذات. فحينـما اقول: ((أيها الانسان!)) أعني به نفسي.

فهذا الدرس مع كونه خاصاً بي الاّ انني اعرضه للانظار الصائبة لأخوتي الـمدققين ليكون ((الـمقام الثاني من اللـمعة الرابعة عشرة)) وعلـه يكون موضع فائدة لـمن ارتبط بي برباط روحي، والذي نفسُه اكثر يقظة مني وانتباهاً.

هذا الدرس متوجّه الى القلب اكثر منه الى العقل ومتطلـّع الى الذوق الروحي اكثر منه الى الدليل الـمنطقي.

بِسـم الله الرَّحـمنِ الرَّحيـم

} قَالتْ: يا ايُّها الـمـَلؤا اِني اُلقِيَ اِليَّ كِتابٌ كَريـم ` اِنـّه مِنْ سُلـَيـمنَ واِنه بِسـم الله الرَّحـمن الرَّحيـم { (النـمل:29-30)

سنذكر في هذا الـمقام بضعةً من الأسرار:

السر الأول:

اثناء تأملي في البسـملة رأيت نوراً من أنوار ((بِسـم الله الرَّحـمنِ الرَّحيـم))

على الصورة الآتية:

ان هناك ثلاث علامات نيـّرة ساطعة للربوبية على سيـماء الكائنات، وعلى قسـمات وجه الأرض، وعلى ملامـح وجه الانسان. هذه العلامات الزاهرة والأيات الساطعة متداخل بعضُها في البعض الآخر، حتى ان كلاً منها يبين نـموذجَ الآخر ومثالـه.

فالعلامة الاولى:

هي علامة الاُلوهية، تلك الآية الكبرى، الساطعة من التعاون والتساند والتعانق والتـجاوب الـجاري في اجزاء الكون كلـه؛ بـحيث يتوجه (بِسـم الله)) اليها ويدل عليها.

العلامة الثانية:

هي علامة الرحـمانية، تلك الآية العظمى، الزاهرة من التشابه والتناسب والانتظام والانسجام واللطف والرحـمة الساري في تربية النباتات والـحيوانات؛ بـحيث يتوجّه (بِسـم الله الرَّحـمنِ) اليها ويدل عليها.

ثم العلامة الثالثة:

وهي علامة الرحيـمية، تلك العلامة السامية، الظاهرة من لطائف الرأفة الإلـهية ودقائق شفقتها وأشعة رحـمتها الـمنطبعة على سيـماء الـماهية الـجامعة للانسان، بـحيث يتوجـّه اسـم ((الرحيـم)) الذي في ((بِسـم الله الرَّحـمنِ الرَّحيـم)) اليها ويدل عليها.

أي أن ((بِسـم الله الرَّحـمنِ الرَّحيـم)) عنوان قدسي لثلاث آيات من آيات الأحدية، حتى أنه يشكـّل سطراً نورانياً في كتاب الوجود، ويـخط خطاً ساطعاً في صحيفة العالـم، ويـمثل حبلاً متيناً بين الـخالق والـمـخلوق. أي أن ((بِسـم الله الرَّحـمنِ الرَّحيـم)) نزولاً من العرش الأعظم يرتبط طرفه ونهايته بالانسان الذي هو ثمرة الكائنات ونسخة العالـم الـمصغرة، فيربط الفرش بالعرش الأعظم، ويكون سبيلاً مـمهداً لعروج الانسان الى عرش كمالاته.

السر الثاني:

ان القرآن الكريـم يبين دوماً تـجلي ((الأحدية)) ضمن تـجلي ((الواحدية)) ليـحول دون غرق العقول وتشتتها في تلك ((الواحدية)) الظاهرة في مـخلوقات كثيرة لا يـحصرها العـّد.

ولنوضح ذلك بـمثال.

الشمس تـحيط بضيائها بـما لا يـحدّ من الاشياء. فلأجل ملاحظة ذات الشمس في مـجـموع ضيائها يلزم ان يكون هناك تصورٌ واسع جداً ونظر شامل. لذا تُظهرُ الشمس ذاتها بوساطة انعكاس ضوئها في كل شيء شفاف، أي يُظهِر كلُ لـماعٍ حسبَ قابليته جلوةَ الشمس الذاتية مع خواصِها كالضياء والـحرارة، وذلك لَئلا تُنسى ذاتُ الشمس. ومثلـما يُظهِر كلُ لـماع الشمسَ بـجـميع صفاتها حسب قابليته، تـحيط ايضاً كل صفةٍ من صفات الشمس كالـحرارة والضياء والوانه السبعة بكل ما يقابلـها من اشياء.

ولا مشاحة في الامثال (ولله الـمثل الأعلى) فكما ان لله سبـحانه الأحد الصمد تـجلٍ في كل شيء بـجـميع اسـمائه الـحسنى، ولا سيـما في الأحياء، وبـخاصة في مرآة ماهية الانسان. كذلك كل اسـم من اسـمائه الـحسنى الـمتعلقة بالـموجودات يـحيط بالـموجودات جـميعاً من حيث الوحدة والواحدية.

فيضع سبـحانه وتعالى طابعَ الأحدية في الواحدية نصبَ عين الانسان وامام نظره كيلا تغرق العقولُ وتغيب في سعة الواحدية ولئلا تنسى القلوبُ وتذهل عن الذات الإلـهية الـمقدسة.

فـ ((بِسـم الله الرَّحـمنِ الرَّحيـم)) يدل على ثلاثٍ من العقد الـمهمة لذلك الطابع الـمـميز ويبينها.

السر الثالث:

انه بديهي، بل مشاهَد ان الرحـمة الإلـهية هي التي أبهجت الكائنات التي لا يـحدها حدود..

وان الرحـمة نفسها هي التي أنارت هذه الـموجودات الـمغشية بالظلـمات..

وأن الرحـمة أيضاً هي التي ربـَّت في أحضانها هذه الـمـخلوقات الـمتقلبة في حاجات لا حد لـها..

وان الرحـمة أيضاً هي التي وجـّهت الكائنات من كل صَوب وحَدب وساقتها نـحو الانسان وسخـَّرتْها لـه، بل جعلتها تتطلع الى معاونته وتسعى لإمداده، كما تتوجه أجزاء الشجرة الى ثمرتها..

وان الرحـمة ايضاً هي التي عمـَّرت هذا الفضاء الواسع وزيـَّنت هذا العالـم الـخالي..

وان الرحـمة نفسها هي التي جعلت هذا الانسان الفاني مرشحاً للـخلود والبقاء، وأهـَّلته لتلقـّي خطاب رب العالـمين ومَنـحتْه فضل ولايته سبـحانه.

فيا أيها الانسان!

ما دامت الرحـمة مـحبوبة، ولـها من القوة والـجاذبية والإمداد الى هذا الـحد، فاستعصم بتلك الـحقيقة بقولك ((بِسـم الله الرَّحـمنِ الرَّحيـم)) وانقذ نفسك من هول الوحشة الـمطلقة، وخلـّصها من آلام حاجات لا نهاية لـها، وتقـّرب الى ذي العرش الـمـجيد، وكن مـخاطباً أميناً وخليلاً صادقاً لـه، بأنوار تلك الرحـمة ورأفتها.

نعم! ان حشدَ الكائنات وجـمعَها حول الانسان ضمن حكمةٍ مقدّرة، وجعلَ كلٍ منها يـمد يد العون اليه لدفع حاجاته الـمتزايدة، نابع بلاشك من احدى حالتين اثنتين: فإما أن كل نوع من أنواع الكائنات يعرف الانسان ويعلـم به فيطيعه ويسعى لـخدمته، أي أن هذا الانسان الغارق في عجز مطلق يـملك سلطان مطلق!! (وهذا بعيد كل البعد عن منطق العقل فضلاً عما فيه من مـحالات لا تـحد).. أو أن هذا التعاون والامداد انـما يتـم بعلـم مـحيط لقادر مطلق مـحتـجب وراء الكائنات.. أي أن أنواع والامداد انـما يتـم بعلـم مـحيط لقادر مطلق مـحتـجب وراء الكائنات.. أي أن أنواع الكائنات لا تعرف هذا الانسان لتـمد لـه يدَ العون، وانـما هي دلائل على مَن يعرف هذا الانسان ويرحـمه، ويعلـم بـحالـه.. وهو الـخالق الرحيـم.

فيا أيها الانسان!

عُدْ الى رشدك! أوَ يـمكن ألاّ يعلـم بك وألاّ يراك هذا الرب الرحيـم، وهو الذي دفع الـمـخلوقات لـمعاونتك ملبية جـميع حاجاتك؟

فما دام سبـحانه يَعلـم بك ويُعلـمك بعلـمه هذا باسباغ رحـمته عليك، فما عليك الا بذل الـجهد لـمعرفته، والسعي لاظهار معرفتك لـه بتوقير أوامره.

واعلـم يقيناً انه ليست الا حقيقة الرحـمة الإلـهية – التي تسع الـحكمة والعناية والعلـم والقدرة – قد سخـَّرتْ لك هذه الكائنات، وجَعَلَتها طوع ارادتك، وأنت الـمـخلوق الضعيف الصغير العاجز الفقير الفاني.

فرحـمةٌ عظيـمة الى هذا الـحد، واسعةٌ الى هذا القدر.. لاشك أنها تطلب منك شكراً كلياً خالصاً، وتعظيـماً لا يشوبه شيء.

فاعلـم انه لا يترجـم لك ذلك الشكر الكلي والتعظيـم الـخالص الاّ ((بِسـم الله الرَّحـمنِ الرَّحيـم)). فقلـه واتـخذه وسيلة لبلوغك تلك الرحـمة الواسعة، واجعلـه شفيعاً لَك لدى الرحـمن الرّحيـم.

حقاً! ان وجود الرحـمة وظهورها أظهر من الشمس في كبد السـماء؛ اذ كما يـحصل نسجُ نقشٍ جـميل في الـمركز من تناسق لـحـمته وسُداه ومن انتظام اوضاع خيوطٍ تـمتد من كل جهة نـحو الـمركز.. فان خيوط شعاع النور النابع من تـجلي ألف اسـم واسـم من الاسـماء الـحسنى، والـمـمتدة الى هذا الكون الشاسع تنسج على سيـمائه نسيـجاً في غاية الروعة والـجـمال ضمن اطار الرحـمة السابغة، حتى يظهِر للعقول – أوضح من الشمس للعيون – ختـماً واضحاً للرحيـمية، ونقشاً رائعاً للشفقة والرأفة، وشعاراً بديعاً للعناية.

نعم، ان الذي ينظـّم الشمس والقمر والعناصر والـمعادن والنباتات والـحيوانات، وينسقها جـميعاً بأشعة ألف اسـم واسـم، كأنها لـحـمةُ نقشٍ وسُداه، وخيوطه النورانية، ويسخـّرها جـميعاً في خدمة الـحياة.. والذي يُظهر رأفته وشفقته على الـخلق اجـمعين بـما اودع في الوالدات – من نبات وحيوان – تلك الشفقة الـحلوة اللذيذة تـجاه صغارها.. والذي أظهر أسطع تـجليات رحـمته، وأجـمل نقوش ربوبيته سبـحانه، يتسخيره الأحياء لـحياة الانسان، مبيناً به منزلة الانسان لديه وأهميته عنده.. هو الرحـمن ذو الـجـمال الذي جعل رحـمته الواسعة هذه شفيعة مقبولة مأنوسة لدى غناه الـمطلق، يتشفـّع بها ذوو الـحياة والانسان الـمفتقر فقراً مطلقاً الى تلك الرحـمة.

فيا أيها الانسان!

ان كنت انساناً حقاً، فقل: ((بِسـم الله الرَّحـمنِ الرَّحيـم)) لتظفر بذلك الشفيع.

انه بديهي، بل مشاهَد ان الرحـمة هي التي تربي طوائف النباتات والـحيوانات التي تربو على أربعمائة ألف طائفة، رغم تباينها وتنوعها.. وهي التي تدير أمورها جـميعاً بلا التباس ولا نسيان ولا اختلاط، وفي أنسب وقت وأكمل نظام وأتـم حكمة وأوفق عناية، حتى وضَعَتْ بهذه الادارة والتربية طابعَ الاحدية وختـمها على سيـماء الارض.

نعم، ان وجود تلك الرحـمة ثابت وقطعي كوجود الـموجودات الـمبثوثة على الارض، كما أن دلائل تـحققها بعدد تلك الـموجودات.

ومثلـما نشاهد على وجه الارض آية الاحدية وسـمتها وختـم الرحـمة وطابعها، فان على سيـماء الـماهية الـمعنوية الانسانية أيضاً طابع الرحـمة.. هذا الطابع والـختـم ليس بأقل وضوحاً من ذلك الذي على وجه الارض، ولا من ذلك الذي على وجه الكائنات.. بل ان سـمة هذه الرحـمة لـها من الـجامعية والشمول حتى كأنها بؤرة لامـّة لأنوار تـجليات الاسـماء الـحسنى.

فيا أيها الانسان!

ان الذي وهب لك هذه السيـماء الـمعنوية، ووضع عليها الرحـمة وخَـتـمها بـختـم الاحدية، أمن الـمـمكن أن يتركك سدىً، ولا يكترث بك ولا يهتـم ولا يراقب أعمالك وحركاتك؟ أوَ من الـمـمكن أن يـجعل حركة جـميع الكائنات الـمتوجهة اليك عبثاً لا طائل من ورائها؟ أو يـجعل شجرة الـخلقة العظيـمة شجرة تافهة، وثمرتها ثمرة فاسدة؟ أم هل يـمكن أن يضع رحـمته الظاهرة ظهور الشمس - والتي لا تـحتـمل شكاً ولا ريباً – ويضع حكمته الواضحة وضوح النور، موضعَ الانكار والـجحود؟ كلا.. ثم كلا.. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

فيا أيها الانسان!

اعلـم ان لبلوغ عرش تلك الرحـمة معراجاً.. ذلك الـمعراج هو: ((بِسـم الله الرَّحـمنِ الرَّحيـم)).

فان شئت أن تعرف مدى أهمية هذا الـمعراج ومدى عظمته ومكانته فانظر الى مستهل سور القرآن الكريـم البالغة مائة واربع عشرة سورة، وانظر بدايات كل كتاب قيـم، ولاحظ بدء كل أمر ذي بال. حتى يُعدّ حجة قاطعة على عظمة البسـملة وعلو قدرها ما قالـه الامام الشافعي رضي الله عنه وأمثالـه من الـمـجتهدين العظام: ان البسـملة رغم أنها آية واحدة فانها نزلت في القرآن مائة وأربع عشرة مرة.

السر الرابع:

ان تـجلي الواحدية في مـخلوقاتٍ لا حدّ لـها، لا يـحيط به كلُ مَن يقول: } اياك نعبد{ . حيث يتشتت الفكر ويتيه في تلك الكثرة، اذ يلزم لـملاحظة ذات الله الأحد من خلال مـجـموعِ الـمـخلوقات لدى خطاب } اياك نعبدُ واياك نستعين{ وجود قلبٍ واسعٍ يسع الارض كلـها.

فبناءً على هذا السر الدقيق فإن الله سبـحانه يبيـّن بـجلاء طابعَ الأحدية في كل جزءٍ

مثلـما يُظهره في كل نوعٍ، وذلك لتُشَد الانظارُ الى ذات الله الأحد، وليتـمكن كلُ شخص – مهما بلغتْ مرتبته – من التوجـّه الـمباشر في خطابه } اياك نعبد واياك نستعين{ الى ذات الله الأقدس سبـحانه من دون تكلـّف أو صعوبة.

فتبياناً لـهذا السر العظيـم فان القرآن الكريـم عندما يبـحث في آيات الله في اجواء الآفاق وفي اوسع الدوائر اذ به يذكُر أصغَر دائرةٍ من دوائر الـمـخلوقات وأدق جزئيةٍ من جزئياتها، اظهاراً لطابع الأحدية بوضوح في كل شيء.

مثال ذلك:

عندما يبين القرآن الكريـم آيات خلق السـماوات والأرض يعقبها بآيات خلق الانسان وبيان دقائق النعمة في صوته وبدائع الـحكمة في ملامـحه، كي لا يتشتت الفكرُ في آفاق شاسعة، ولا يغرق القلبُ في كثرة غير متناهية، ولتبلغ الروحُ معبودها الـحق دون وساطة.

فالآية الكريـمة الآتية تبين الـحقيقة السابقة بياناً معجزاً:

} ومِنْ آياتِه خَلْقُ السـمواتِ والأرضِ واختلافُ ألـْسِنَتِكُم وألوانِكُم { (الروم:22).

وكذا فان آيات الوحدانية واختامَها مع انها قد وُضعت في الـمـخلوقات بكثرة غير متناهية، ابتداءً من أوسع الاختام واكثرها كلية الى اصغرها جزئية، في دوائر متداخلة وفي مراتب متنوعة وانواع شتى، الاّ أن وضوح هذه الاختام للوحدانية – مهما بلغ من الظهور – فهو وضوحٌ ضمن كثرةٍ من الـمـخلوقات لا يُوفي حقَّ الوفاء حقيقة الـخطاب في } اياك نعبد{ . لذا يلزم وجود طابع الأحدية في ثنايا ختـم الوحدانية، كي يفتـح الطريق امام القلب للوصول الى ذات الله الأقدس من دون ان يذكـّره بالكثرة.

ثم، لأجل لفت الانظار الى طابع الأحدية، وجلب القلوب نـحوها، فقد وضُع فوق تلك السـمة للأحدية نقشٌ بديعٌ في منتهى الـجاذبية، ونورٌ باهر في منتهى السطوع، وحلاوةٌ لذيذة في منتهى الذوق، وجـمالٌ مـحبوب في منتهى الـحسن، وحقيقة رصينة في منتهى القوة، تلك هي سـمة الرحـمة وختـم الرحيـمية.

نعم! ان قوة تلك الرحـمة هي التي تـجلب انظار ذوي الشعور نـحوها فُتوصلـها الى طابع الأحدية وتـجعلـها تلاحظ ذات الاحد الأقدس حتى تـجعل الانسان يـحظى بالـخطاب الـحقيقي في } اياك نعبد واياك نستعين{ .

وهكذا فـ ((بسـم الله الرَّحـمن الرَّحيـم)) من حيث انه فهرس لفاتـحة الكتاب الـمبين وخلاصة مـجـملة لـه، قد اصبـح عنواناً لـهذا السر العظيـم الـمذكور، وترجـماناً لـه، فالذي يتـمكن من أن ينال هذا العنوان يستطيع ان يـجول في طبقات الرحـمة، والذي يستنطق هذا الترجـمان يتعرف على اسرار الرحـمة ويتعلـمها ويشاهد أنوار الرحيـمية والرأفة.

السر الـخامس:

لقد ورد في حديث شريف ((ان الله خلق آدمَ على صورة الرحـمن))(1) أو كما قال e .

فسـَّرَ قسـم من اهل الطرق الصوفية هذا الـحديث الشريف تفسيراً عجيباً لا يليق بالعقائد الإيـمانية، ولا ينسجـم معها. بل بلغ ببعض من أهل العشق ان نظروا الى السيـماء الـمعنوي للانسان نظرتهم الى صورة الرحـمن! ولـما كان في اغلب اهل العشق حالة استغراقية ذاهلة والتباس في الامور، فلربـما يُعذَرون في تلقـّياتهم الـمـخالفة للـحقيقة. الاّ أن اهل الصحو، واهل الوعي والرشاد يرفضون رفضاً باتاً تلك الـمعاني الـمنافية لاسس عقائد الإيـمان، ولا يقبلونها قطعاً. ولو رضي بها أحدٌ فقد سقط في خطأ وجانَبَ الصواب.

نعم، ان الذي يدبر امور الكون ويهيـمن على شؤونه بسهولة ويسر كادارة قصر أو بيت.. والذي يـحرك النـجوم واجرام السـماء كالذرات بـمنتهى الـحكمة والسهولة.. والذي تنقاد اليه الذرات وتأتـمر بأمره وتـخضع لـحكمة..

نعم، ان الذي يفعل هذا كلـه هو الله القدوس سبـحانه.. فكما انه منزّه ومقدّس عن الشرك؛ فلا شريكَ لـه، ولا نظيرَ، ولا ضدّ ولا ندّ، فليس لـه قطعاً مثيلٌ ولا مثالٌ ولا شبيهٌ ولا صورةٌ ايضاً، وذلك بنص الآية الكريـمة: } ليس كَمِثْلـه شيءٌ وهو السـميعُ البَصيرُ { (الشورى:11) الاّ أن شؤونه الـحكيـمة وصفاته الـجليلة واسـماءه الـحسنى ينظر اليها بـمنظار التـمثيل والـمثَل حسب مضمون الآية الكريـمة: } ولـه الـمثَلُ الأعلى في السـموات والأرض وهو العزيزُ الـحكيـم{ (الروم:27), أي ان الـمثَل والتـمثيل واردٌ في النظر الى شؤونه الـحكيـمة سبـحانه.

ولـهذا الـحديث الشريف مقاصد جليلة كثيرة، منها: ان الانسان مـخلوق على صورة تُظهر تـجلي اسـم الله ((الرحـمن)) اظهاراً تاماً.

نعم، لقد بينا في الأسرار السابقة انه مثلـما يتـجلى اسـم ((الرحـمن)) من شعاعات مظاهر ألف اسـم واسـم من الأسـماء الـحسنى على وجه الكون، ومثلـما يُعْرَض اسـم ((الرحـمن)) بتـجليات لاتـحد للربوبية الـمطلقة على سيـماء الأرض، كذلك يُظهِر سبـحانه التـجلي الأتـم لذلك الأسـم ((الرحـمن)) في الصورة الـجامعة للأنسان، يُظهِر بـمقياس مصغر بـمثلِ ما يُظهره في سيـماء الأرض وسيـماء الكون بـمقياس اوسع واكبر.

وفي الـحديث الشريف اشارة كذلك الى ان في الانسان والاحياء من الـمظاهر الدالة على ((الرحـمن الرحيـم)) ما هو بـمثابة مرايا عاكسة لتـجلياته سبـحانه، فدلالة الانسان عليه سبـحانه ظاهرة قاطعة جلية، تشبه في قطعيتها وجلائها دلالة الـمرآة الساطعة بصورة الشمس وانعكاسها على الشمس نفسها. فكما يـمكن ان يقال لتلك الـمرآة: انها الشمس، اشارةً الى مدى سطوعها ووضوح دلالتها عليها، كذلك يصح أن يقال – وقد قيل في الـحديث – ان في الانسان صورة ((الرحـمن))، اشارة الى وضوح دلالته على اسـم ((الرحـمن)) وكمال مناسبته معه ووثوق علاقته به. هذا وان الـمعتدلين من اهل وحدة الوجود قد قالوا: ((لا موجود الاّ هو)) بناء على هذا السر من وضوح الدلالة، وعنواناً على كمال الـمناسبة.

اللهمَ يارحـمن يارَحِيـم بـحق ((بِسـم الله الرَّحـمن الرَّحيـم)) إرحـمنا كما يليق برحيـميتك، وفهـّمنا أسرار ((بِسـم الله الرَّحـمن الرَّحيـم)) كما يليق برحـمانيتك آمين.

السر السادس:

أيها الانسان الـمتقلب في خضم عجز لانهاية لـه وفقر لاحد لـه، اذا أردت أن تفهم كيف أن الرحـمة أعظم وسيلة وأرجى شفيع، فاعلـم:

أن الرحـمة أقوى وسيلة للوصول الى سلطان عظيـم ذي جلال، تنقاد لـه النـجوم والذرات معاً جنوداً مطيعين طاعة تامة في انتظام تام.. ذلك السلطان ذو الـجلال والاكرم رب العالـمين الـمستغني عن الـخلق أجـمعين، الكبير الـمتعالي عن الـموجودات، فلا حاجة لـه أصلاً الى الـموجودات، بل كل شيء قد تواضع لعظمته واستسلـم لقدرته وذل لعزته وخضع لـهيبة جلالـه.. فالرحـمة أيها الانسان ترفعك الى ديوان حضور ذلك الغني الـمطلق، وتـجعلك خليلاً لذلك السلطان السرمدي الاعظم، بل تعرج بك الى مقام خطابة الـجليل، وتـجعلك عبداً مكرماً مـحبوباً عنده.

ولكن، كما انك لا تصل الى الشمس لبُعدك عنها، بل لا يـمكنك التقرب اليها بـحال، فان ضوءها يُسِلـم اليك تـجليها وصورتها بواسطة مرآة.. (ولله الـمثلُ الأعلى) فنـحن على الرغم من بُعدّنا الـمطلق عن الله سبـحانه وتعالى، فان نور رحـمته يقربه الينا.

فيا ايها الانسان! ان من يظفر بهذه الرحـمة فقد ظفر بكنز عظيـم لا يفنى، كنزٍ ملؤه النور..

أما طريق الوصول الى ذلك الكنز العظيـم فاعلـم: ان اسطع مثالٍ للرحـمة، وأفضل مَن يـمثلـها، وأبلغَ لسانٍ ناطقٍ بها، وأكرم داعٍ اليها، هو الذي سـمي في القرآن الكريـم } رحـمة للعالـمين{ وهو رسولنا الـحبيب e . فالطريق الامثل لبلوغ تلك الـخزينة الابدية هو اتباع سنته الـمطهرة.

ولكن كيف الوصول الى الرسول الـحبيب e ، وما الوسيلة اليه؟

فاعلـم ان الوسيلة هي الصلاة عليه.

نعم! الصلاة عليه تعني الرحـمة، فالصلاة عليه دعاء بالرحـمة لتلك الرحـمة الـمـجسـمة الـحية، وهي وسيلة الوصول الى مَن هو رحـمة للعالـمين.

فيا أيها الانسان! اجعل الصلاة عليه وسيلة الوصول اليه، ثم استـمسك به ليبلغك رحـمة الرحـمن الرحيـم. فان الامة جـميعها بدعائها وصلواتها على الرسول الكريـم e انـما تثبت بوضوح مدى قيـمة هذه الرحـمة ومدى أهمية هذه الـهدية الإلـهية، ومدى سعتها وعظمتها.

الـخلاصة:

ان حاجب خزينة الرحـمة الإلـهية وأكرم داع اليها هو الرسول الكريـم e كما أن أسـمى مفتاح لتلك الـخزينة هو ((بسـم الله الرحـمن الرحيـم)) واسلس ما يفتـحها هو الصلوات على الرسول الـحبيب e .

اللهم بـحق اسرار بسـم الله الرحـمن الرحيـم صلِّ على مَن أرسلته رحـمة للعالـمين كما يليق برحـمتك وبـحرمته وعلى آلـه وأصحابه أجـمعين، وارحـمنا رحـمة تغنينا عن رحـمة من سواك من خلقك.. آمين.

} سُبـحانَكَ لاعِلـم لنا إلاّ ما عَلـمتَنا إنك أنتَ العَليـم الـحكيـم{

(البقرة:32 )
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
 

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الألعاب التراثية القديمة.. من ذاكرة الريف السوري عبدالقادر حمود ركن وادي الفرات 0 06-05-2010 11:15 AM
برنامج DirectX 11 for Windows XP and VISTA لزيادة توافق الألعاب والبرامج الجديدة احمد قسم الحاسوب 3 08-04-2009 01:01 PM


الساعة الآن 10:27 PM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir