بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ترجمة الإمام ابن عجيبة
اسمه :
هو الإمام العلامة المفسر «أحمد بن محمد بن المهدى بن الحسين بن محمد» المعروف بابن عجيبة ، والمكنى بأبى عباس ، الحسنى نسبا ، التطوانى دارا ، الفاسى تعلما ، المالكي مذهبا ، الشاذلى طريقة ، أعجوبة زمانه ، وعديم النظير فى أمثاله ، مؤلف التآليف العديدة ، ومفيد العلوم المفيدة. العالم العلامة ، والصوفي الفهامة ، والعارف المحقق ، الشيخ الكامل الجليل ، الشريف البركة.
مولده
ولد الإمام ابن عجيبة فى قرية (أعجبيش) ، من قبيلة (أنجرة) ، التي تسكن الجبال المحيطة بمدينة تطوان «2» ، الواقعة فى أقصى شمال المغرب ، على مسافة عشرة كيلومترات ، من ساحل البحر الأبيض المتوسط. وكان مولده رحمه الله ، حسبما أورد فى فهرسته - سنة ستين أو إحدى وستين ومائة وألف هجرية «3» ولا خلاف بين المصادر الأخرى التي أوردت تاريخ ولادته ، وإن كانت قد اقتصرت على ذكر إحدى السنتين. ويرجع عدم جزم شيخنا بإحدى السنتين إلى أن مولده لم يؤرخ بالسنين ، بل أرخ بحادث حصار (المستضيء بن إسماعيل) لتطوان ، وكان ذلك بين سنتى ستين وإحدى وستين «4».
أسرته : ولد الشيخ من أبوين صالحين ، كلاهما من آل بيت النبوة ، يرجع نسبهما إلى الإمام الحسن بن على رضى الله عنه والسيدة فاطمة - رضى الله عنها - بنت سيد الكونين ، وصخرة العالمين ، حبيب الرحمن ، من قدمه فوق رؤوسنا شرف لنا ، ومن إذا انتسب إليه أحد نسبا فاز بالمنى.
والمستطلع لتاريخ آبائه يدرك صلاحهم وتقواهم ، ومدى ما كانوا عليه من خشية للّه وشرف هاشمى. فجد جده «عبد الله بن عجيبة» ولى مشهور ، وقبره مزار بقبيلة أنجرة ، كما أن جد والده «الحسين الحجوجى» صاحب كرامات عديدة ومآثر حميدة ، أما جده «المهدى» فكان كما يقول شيخنا : (رجلا صالحا صموتا خلويا - أي :
يحب الخلوة - مغفلا عن أمور الدنيا ، ولا نجده إلا وحده ، تاليا ، أو مصليا ، أو مشتغلا بما يعنيه) «5» وأبوه
نشأته العلمية :
نشأ الشيخ ابن عجيبة فى بيت صلاح وتقوى ، وأقبل على حفظ القرآن وهو فى سن مبكرة ، وقد تميز الشيخ بالقدرة على التركيز العلمي ، وتوقد القريحة ، ورحل إلى مدينة القصر الكبير ، وأقام فيها نحوا من عامين ، اجتهد خلالهما فى تحصيل العلم ، حتى قال عن نفسه : (أهملت نفسى ، ونسيت أمرها ، وكنت أقرأ سبعة مجالس ، بين الليل والنهار) «7».
ولم يقنع الطالب بما حصّل فى مدينة القصر الكبير ، بل زاده شغفا فى القدوم إلى تطوان ، وهى موئلا للعلم والحكمة ، ومهبط كثير من العلماء ، فقدمها ابن عجيبة وهو ابن العشرين ، وأقام فيها ، وأقبل على تحصيل العلم فى شتى الأبواب بكل جد ، وتنوعت مجالسه بين أئمة الفقه ، والتفسير ، والحديث ، واللغة ، والنحو ، والصرف ، والمنطق ، أقبل على هؤلاء وهؤلاء ، يستمع منهم ، ويقرأ عليهم ، ويأخذ عنهم ، وأقبلوا عليه يعطونه كل ما عندهم لما وجدوا فيه من حسن الإعداد والاستعداد ، فواصل الليل بالنهار.
وسرعان ما ظهرت ثمار هذا الجد والاجتهاد ، فلم يبلغ شيخنا تسعا وعشرين سنة ، حتى بزغ نجمه وعلا شأنه ، وجلس للتدريس فى مساجد تطوان ومدارسها ، ولكن ذلك لم يمنعه من مواصلة العلم فى مظانه ، فالظمآن إلى المعارف لا يرتوى مهما نهل ، ولعله كلما نهل استطاب العلم فازداد إليه ظمأ ، والعلم ليس له نهاية له وليس له حدود. يقول شيخنا بعد جلوسه للتدريس : (فكنت فى العلم الظاهر نتعلم ونعلّم فما تركت العلم قط بعد التصدر للتعليم ، نعلم من تحتنا ونأخذ عمن فوقنا) «8».
ولهذا شدّ الرحال إلى فاس ، وهو فى سن الأربعين ، فسمع من علمائها ، وأخذ عنهم ، وقد توفر له فيها أساطين العلم فى مختلف الفروع ، فأخذ علم الحديث عن محدث عصره (التاودى بن سودة) ، ودرس التفسير والفرائض واللغة ، ومكث كذلك سنتين ، عاد بعدهما إلى تطوان ليتابع تدريسه وتأليفه.
يتحدث رضى اللّه عنه عما حصّله من علوم ، فيقول : و(الذي حصّلناه من علوم الأذهان (العقلية) : علم المنطق ، والكلام على مذهب أهل السنة ، والمهم من علم الهيأة (الفلك) ، ومن علم الأديان : علوم القرآن ، خصوصا التفسير ..
وحصّلنا الفقه بأنواعه ، وأصول الفقه ، وأصول الدين ، وحصّلت أيضا علم الحديث ، وعلم السير ، وعلم المغازي ، والتاريخ ، والشمائل ، ومن علم اللسان : علم اللغة والتصريف ، والنحو ، والبيان ، بأنواعه ، أما التصوف فهو علمى ومحط رحلى ، فلى فيه القدم الفالج ، واليد الطولى) «9» وهكذا كان حظه من ثقافة عصره حظا وافرا ، فقد أحاط بسائر علوم وقته ، وانعكس ذلك على تفسيره ، فجاء بحره مرآة لثقافته الواسعة.
شيوخه :
تتلمذ شيخنا أبو العباس على كثير من علماء عصره ، وأثبت هنا تعريفا بأهم شيوخه ، الذين اتصل بهم أكثر من غيرهم ، واشتهر بالأخذ عنهم.
1 - الفقيه القاضي عبد الكريم بن قريش [ت - 1197 ه] «1» أول من تتلمذ عليه ابن عجيبة بتطوان ، ترجم له داود فى تاريخه قائلا : (الإمام العالم ، الفقيه المدرس ، الخطيب
2 - الفقيه الشيخ (أبو الحسن علي بن أحمد بن شطير الحسني) [ت - 1191 ه] «3» نعته داود نقلا عن أزهار البستان ، فقال : (الفقيه الإمام المحدث العالم النحرير ، كان رحمه اللّه فقيها نحويا محدثا ذا ورع تام) درّس البخاري والألفية ، ومختصر خليل ، وشمائل الترمذي ، بتطوان ، وكان كما يقول ابن عجيبة : (صابرا لإلقاء الدرس ، ذا عناية بالعلم ، متواضعا متقشفا ، يلبس الخشن من الثياب ، على طريقة السلف الصالح). أخذ عنه مفسرنا بتطوان ألفية ابن مالك ومختصر خليل ، وغير ذلك
3 - الفقيه العلامة (أبو عبد الله محمد بن الحسن الجنوي الحسني) [1135 - 1200 ه]»
أحد أعلام تطوان وزهادها .
4 - العلامة المحدث (أبو عبد الله محمد التاود بن الطالب بن سودة المري) [111 - 1209 ه] «1» الإمام الهمام ، شيخ الإسلام ، وعمدة الأنام ، وخاتمة المحققين الأعلام ، وهلال المغرب وقدوته وبركته. هكذا حلّاه صاحب شجرة النور .
5 - الحافظ أبو عبد الله الطيب بن عبد المجيد بن كيران (1172 - 1227 ه) «3» أحد أساتذة ابن عجيبة بفأس .
6 - العلامة أبو عبد الله محمد بن أحمد بن بنيس الفاسى (دارا ومنشأ) [1160 - 1213 ه]
7 - العامة الصالح أبو عبد الله محمد بن علي الورزازي «3» من شيوخ ابن عجيبة بتطوان ترجم له صاحب فهرس الفهارس قائلا : (الفقيه العلامة الحجة البركة العارف باللّه). أخذ عنه شيخنا تلخيص المفتاح فى البيان ، وجامع الجوامع فى الأصول ، وقد حصل منه ابن عجيبة على إجازة مطلقة «4» ولم تذكر المصادر تاريخ وفاته إلا أن إجازته لابن عجيبة مؤرخة فى سنة 1214 ه.
شيوخ ابن عجيبة في التصوف :
سلك ابن عجيبة الطريق الصوفي على يد رجلين :
الأول : الشيخ الدرقاوى «3» : وهو (أبو المعالي العرب بن أحمد الحسنى) الشهير (بالدرقاوى) نسبة إلى جده محمد بن يوسف الملقب بأبى درقة (لدرقة كبيرة كانت له يتوقى بها فى الحروب). وصفه الكوهن (بقدوة أهل الكمال ومرشد السالكين إلى أعلى المقامات والأحوال ، الإمام الهمام) ، وحلّاه العسكري (بالعارف الأكبر ، والقطب الأشهر) وقال عنه صاحب السلوة : (كان من العارفين باللّه ، الدالين بأقوالهم وأفعالهم وجميع أحوالهم على الله ، جامعا لمحاسن الشيم والأخلاق). وقال عنه الأزهرى : (و كان آية فى المعرفة باللّه) ولد رضى اللّه عنه عام «1550 ه» بقبيلة بنى زروال بشمال المغرب ، واشتغل بقراءة العلم بفأس ، ثم لقى الشيخ على الجمل وسلك على يديه.
أسس الطريقة الدرقاوية الشاذلية ، وتخرج على يديه عدد لا يحصى من الشيوخ ، أرباب التمكين والرسوخ ، قال الشيخ (ابن سودة المري) : ما توفى مولانا العربي ، حتى خلف نحوا من الأربعين ألف تلميذ ، كلهم متأهلون للدلالة على الله سبحانه). توفى رحمه الله فى صفر الخير من عام 1239.
الثاني : الشيخ البوزيدى «4» : هو «محمد بن الحبيب أحمد البوزيدي الحسنى» من قبيلة غمارة ، بشمال المغرب ، والتي ينتسب إليها أيضا. أبو الحسن الشاذلى ، التقى بالدرقاوى ، ولازمه مدة ست عشرة سنة ، ويعد البوزيدى أقرب أتباع الدرقاوى إليه. كان رضى اللّه عنه أميا لا يكتب ولا يقرأ ، ومع ذلك أعطاه اللّه ما لا يخطر بالبال من العلوم والأسرار ، وله كتاب «الآداب المرضية فى طريق الصوفية» ، يحكم بأن البوزيدى واحد الزمان ، وشيخ أهل العرفان» وله أيضا القصيدة التائية فى السلوك ، والتي شرحها تلميذه ابن عجيبة ، توفى رحمه الله فى (1229 ه) ومقامه فى (مستغانم) من بلاد وهران بالجزائر.
تخرج على يديه عدد كثير من فضلاء أهل الله ، يقول الكوهن : «ولو لم يكن من تلاميذه إلا سيدى ابن عجيبة الحسن لكفى. مع أنه تخرج من تلاميذه جملة فضلاء من أهل الله ، لا يحصرهم عدد ، كلهم على قدم المعرفة وفى غاية التمكى» ومن أقواله رضى الله عنه لاكرامة أعظم من الاستقامة ظاهرا وباطنا لأن الكرامات الحسية تكون عند استقامة الظاهر دون استقامة الباطن ، أما بعد استقامة الباطن والظاهر ، فلا يكون إلا الكرامات المعنوية ، وكل من ظن أن الولاية شىء زائد على الاستقامة فهو جاهل بالولاية) «1».
على مثل هذه التعاليم نشأ شيخنا أو العباس ، وبين الدرقاوى والبوزيدى عاش حياته الصوفية العملية ، حتى فتح له على أيديها ، ونال ما نالت الرجال ، وفى ذلك يقول : (و الله ما عرفنا قلوبنا ولا ذقنا حلاوة المعاني حتى صحبنا الرجال أهل المعاني