أنت غير مسجل في منتديات البوحسن . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           لا إله إلا الله وحده لا شريك له،له الملك وله الحمد،يُحيي ويُميت،وهو حي لا يموت،بيده الخير وهو على كل شئ قدير           

رسائل ووصايا في التزكية كلّ ما يختص بعلوم السلوك وآداب القوم وتزكية النفس والتصوف الإسلامي

إضافة رد
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع
قديم 02-01-2011
  #21
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: اللمعات

اللمعة الـخامسة والعشرون

وهي خـمسة وعشرون دواء

هي عيادة للمريض، وبلسم للمرضىـ ومرهم تسلية لهم، ووصفة معنوية، وقد كتبت بـمثابة القول الـمأثور: ((ذهب البأس وحـمداً لله على السلامة)).

تبنيـه واعتذار

تـم تأليف هذه الوصفة الـمعنوية بسرعة تفوق جـميع ما كتبناه(1) ولضيق الوقت كان تصحيحها وتدقيقها – بـخلاف الـجميع – بنظرة خاطفة في غاية السرعة كتأليفها، فظلت مشوشة كالـمسودة الاولى، ولـم نَرَ حاجة للقيام بتدقيقات جديدة، حيث ان الـخواطر التي ترد القلب فطرياً ينبغي عدم افسادها بزخرف القول والتفنن والتدقيق، فالرجاء من القراء وبـخاصة الـمرضى منهم الاّ يضجروا من العبارات غير الـمأنوسة والـجمل الصعبة وان يدعوا لي بظهر الغيب.

سعيد النورسي

بِسمِ اللهِ الرَّحـمنِ الرَّحيمِ

} الذينَ اذا أصابَتهُم مُصيبَةٌ قالوا إنا للهِ وإنا إليهِ راجعون{ (البقرة:156)

} والذين هُوَ يُطعِمُني ويَسقينِ ` واذا مَرِضتُ فهوَ يَشْفين { (الشعراء:79-80)

((في هذه اللمعة نبين خـمسة وعشرين دواءً بياناً مـجملاً تلك الادوية التي يـمكن ان تكون تسلية حقيقية ومرهماً نافعاً لاهل البلاء والـمصائب وللمرضى العليلين الذين هـم عُشر اقسام البشرية)).

الدواء الاول

ايها الـمريض العاجز! لا تقلق، اصبر! فان مرضك ليس علـّة لك بل هو نوع من الدواء؛ ذلك لان العمر رأس مال يتلاشى، فان لـم يُستثمر فيسضيع كل شيء، وبـخاصة اذا انقضى بالراحة والغفلة وهو يـحث الـخطى الى نهايته، فالـمرض يكسب رأس مالك الـمذكور أرباحاً طائلة، ولا يسمح بـمضيـّه سريعاً، فهو يُبطىء خطوات العمر، ويـمسكه، ويطوّله، حتى يؤتي ثـماره، ثـم يغدو الى شأنه. وقد ذهب طول العمر بالامراض مثلاً، فقيل: ((ألا ما أطول زمن النوائب وما اقصر زمن الـهناء!)).

الدواء الثاني

ايها الـمريض النافد الصبر! تـحمـّل بالصبر! بل تـجمـّل بالشكر، فان مرضك هذا يـمكنه ان يـجعل من دقائق عمرك في حكم ساعات من العبادة، ذلك لان العبادة قسمان:

الاولى: العبادة الايـجابية الـمتجسـّدة في اقامة الصلاة والدعاء وامثالـها.

الثانية: العبادة السلبية التي يتضرع فيها الـمصاب ملتجأ الى خالقه الرحيم مستجيراً به متوسلاً اليه، منطلقاً من احاسيسه التي تُشعره بعجزه وضعفه امام تلك الامراض والـمصائب. فينال بذلك التضرع عبادةً معنوية خالصة متجردة من كل انواع الرياء.

نعم، هناك روايات صحيحة على ان العمر الـممزوج بالـمرض والسقم يعدّ للـمؤمن عبادة(1) على شرط عدم الشكوى من الله سبحانه. بل هو ثابت بعدة روايات صحيحة وكشفيات صادقة كون دقيقة واحدة من مرض قسم من الشاكرين الصابرين هي بـحكم ساعة عبادة كاملة لـهم، وكون دقيقة منه لقسم من الكاملين هي بـمثابة يوم عبادة كاملة لـهم. فلا تشكُ – يا اخي – من مرض يـجعل من دقيقة عصيبة عليك الف دقيقة ويـمدك بعمر طويل مديد! بل كن شاكراً له.

الدواء الثالث

ايها الـمريض الذي لا يطيق! ان الانسان لـم يأت الى هذه الدنيا للتمتع والتلذذ. والشاهد على ذلك: رحيل كل آت، وتشيـّب الشباب، وتدحرج الـجميع في دوّامة الزوال والفراق. وبينا ترى الانسان اكمل الاحياء واسماها واغناها اجهزة بل هو السيد عليها جميعاً، اذا به بالتفكر في لذات الـماضي وبلايا الـمستقبل، يقضي حياته في كدر ومشقة هاوياً بنفسه الى دركات ادنى من الـحيوان.

فالانسان اذاً لـم يأت الى هذه الدنيا لقضاء عيش ناعم جـميل مغمور بنسمات الراحة والصفاء، بل جاء الى هنا ليغنم سعادة حياةٍ ابدية دائمة بـما يُسـّر له من سبل التـجارة برأس ماله العظيم الذي هو العمر. فاذا انعدم الـمرضُ، وقع الانسان في الغفلة نتيجة الصحة والعافية، وبدت الدنيا في عينيه حلوة خضرة لذيذة، فيصيبه عندئذ مرضُ نسيان الآخرة، فيرغب عن ذكر الـموت والقبر، ويهدر رأس مال عمره الثمين هباءً منثورا.. في حين ان الـمرض سرعان ما يوقظه مفتحاً عينيه، قائلاً له: ((انت لست خالداً ولست سائباً، بل انت مسخـّر لوظيفة، دع عنك الغرور، اذكر خالقك.. واعلم بانك ماض الى القبر، وهيىء نفسك وجهـّزها هكذا)).

فالـمرض اذاً يقوم بدور مرشد ناصح امين موقظ، فلا داعي بعدُ الى الشكوى منه، بل يـجب التفيـّؤ في ظلال الشكر – من هذه الناحية – واذا ما اشتدت وطأته كثيراً فعليك بطلب الصبر منه تعالى.

الدواء الرابع

ايها الـمريض الشاكي! اعلم انه ليس لك حق في الشكوى، بل عليك الشكر، عليك الصبر؛ لان وجودك واعضاءك واجهزتك ليست بـملكك انت، فانت لـم تصنعها بنفسك، وانت لـم تبتعها من اية شركة او مصنع ابتياعاً، فهي اذن ملكٌ لآخر. ومالك تلك الاشياء يتصرف في ملكه كيف يشاء، كما ورد ذلك في مثال في ((الكلمة السادسة والعشرين الـخاصة بالقَدَر)) وهو:

أن صانعاً ثرياً ماهراً بكلـّف رجلاً فقيراً لقاء اجرة معينة ليقوم له لـمدة ساعة بدور ((الـموديل)) الـنموذج. فلاجل اظهار صنعته الـجميلة وثروته القيمة يُلبسه القميص الـمزركش الذي حاكه، والـحلة القشيبة الـمرصعة التي نسجها في غاية الـجمال والصنعة، وينجز عليه اعمالاً ويظهر اوضاعاً واشكالاً شتى لبيان خوارق صنعته وبدائع مهارته، فيقصّ ويبدل، ويطوّل، ويقصر، وهكذا..

فيا تُرى أيـحق لذلك الفقير الاجير ان يقول لذلك الصانع الـماهر: ((انك تتعبني وترهقني وتضيـّق عليّ بطلبك مني الانـحناء مرة والاعتدال اخرى.. وانك تشوّه الـجمال الـمتألق على هذا القميص الذي يـجمـّل هندامي ويزيـّن قامتي بقصـّك وتقصيرك له.. إنك تظلمني ولا تنصفني؟)).

وكذلك الـحال بالنسبة للصانع الـجليل سبحانه وتعالى – ولله الـمثل الاعلى – الذي البسك ايها الـمريض قميص الـجسد، واودع فيه الـحواس النورانية الـمرصعة كالعين والاذن والعقل، فلأجل اظهار نقوش اسـمائه الـحسنى، يبدّلك ضمن حالات متنوعة ويضعك في اوضاع مـختلفة. فكما انك تتعرف على اسـمه ((الرزاق)) بتجرعك مرارة الـجوع، تتعرف على اسـمه ((الشافي)) بـمرضك.

ونظراً لظهور قسم من احكام اسـمائه الـحسنى بالآلام وانكشافه بالـمصائب، ففيها لـمعات الـحكمة وشعاعات الرحـمة وأنوار الـجمال. فاذا ما رُفع الـحجاب فستجد فيما وراء مرضك الذي تستوحش منه وتنفر، معاني عميقة جـميلة مـحببة ترتاح اليها، تلك التي كانت تنزوي خلف حـجاب الـمرض.

الدواء الـخامس

ايها الـمبتلى بالـمرض! لقد توافرت لديّ القناعة التامة خلال تـجربتي في هذا الزمان، بان الـمرض نوع من الاحسان الإلـهي والـهدية الرحـمانية لقسم من الناس(1). فقد التقاني بعضُ الشباب في هذه السنوات الثـماني او التسع، لـمعاناتهم الـمرض، ابتغاء دعاء لـهم، رغم اني لست اهلاً لذلك. فلاحظت أن مَن كان منهم يعاني مرضاً هو اكثر تفكراً في الآخرة وتذكراً لـها، وليس ثملاً بغفلة الشباب، بل كان يقي نفسه – الى حدّ ما – تـحت اوجاع الـمرض وأوصابه ويـحافظ عليها من الشهوات الـحيوانية. وكنت اذكـّرهم بأني ارى أن أمراضهم هذه، ضمن قابليتهم على الـحمـّل انـما هي احسان إلـهي وهبة منه سبحانه. وكنت اقول: ((يااخي ! انا لست ضد مرضك هذا ولاعليه، فلا اشعر بشفقة عليك ورأفة لاجل مرضك، كي اقوم بالدعاء لك، فـحاول التجمل بالصبر والثبات امام هذا الـمرض، حتى تتحقق لك الافاقة والصحوة؛ إذ بعد أن ينهي الـمرض مهامه سيشفيك الـخالق الرحيم ان شاء)). وكنت اقول ايضاً: (( ان قسماً من امثالك يزعزعون حياتهم الابدية بل يهدمونها مقابل متاع ظاهري لساعة من حياة دنيوية، وذلك لـمضيـّهم سادرين في الغفلة الناشئة من بلاء الصحة، هاجرين الصلاة ناسين الـموت وغافلين عن الله عز وجل. اما انت فترى بعين الـمرض القبرَ الذي هو منزلك الذي لا مناص من الذهاب اليه، وترى كذلك ما وراءه من الـمنازل الاخروية الاخرى، ومن ثـم تتحرك وتتصرف على وفق ذلك. فمرضك اذاً انـما هو بـمثابة صحةٍ لك، والصحة التي يتمتع بها قسم من امثالك انـما هي بـمثابة مرضٍ لـهم)).

الدواء السادس

ايها الـمريض الشاكي من الالـم! أسألك أن تعيد في نفسك ما مضى من عمرك وان تتذكر الايام الهانئة اللذيذة السابقة من ذلك العمر والاوقات العصيبة والاليمة التي فيه.

فلا جرم انك ستنطق لساناً أو قلباً: إما بـ((أوه)) او ((آه)). أي اما ستتنفس الصعداء وتقول: ((الـحمد لله والشكر له)) او ستتنهد عميقاً قائلاً: ((واحسرتاه!. واسفاه!)). فانظر كيف ان الآلام والنوائب التي عانيت منها سابقاً عندما خَطَرتْ بذهنك غمرتك بلذة معنوية، حتى هاج قلبك بـ((الـحمد لله والشكر له))؛ ذلك لان زوال الالـم يولـّد لذة وشعوراً بالفرح. ولان تلك الآلام والـمصائب قد غَرست بزوالـها لذةً كامنة في الروح سالت بتخطرها على البال وخروجها من مكمنها حلاوةً وسروراً وتقطرت حـمداً وشكراً. اما حالات اللذة والصفاء التي قضيتها والتي تنفث عليها الآن دخان الالـم بقولك: ((واأسفاه، واحسرتاه)) فانها بزوالـها غَرست في روحك ألـماً مضمراً دائمياً، وها هو ذا الالـم تتجدّد غصـّاتُه الآن بأقل تفكرٍ في غياب تلك اللذات، فتنهمر دموع الاسف والـحسرة. فما دامت اللذة غير الـمشروعة ليوم واحد تذيق الانسان – احياناً – ألـماً معنوياً طوال سنة كاملة، وان الالـم الناتـج من يوم مرض موقت يوفر لذة معنوية لثواب ايام عدة فضلاً عن اللذة الـمعنوية النابعة من الـخلاص منه، فتذكر جيداً نتيجة الـمرض الـموقت الذي تعانيه وفكـّر في الثواب الـمرجو الـمنتشر في ثناياه، وتشبث بالشكر وترفـّع عن الشكوى وقل: ((ياهذا.. كل حالٍ يزول..)).

الدواء السادس (1)

ايها الاخ الـمضطرب من الـمرض بتذكر اذواق الدنيا ولذائذها! لوكانت هذه الدنيا دائمة فعلاً، ولو انزاح الـموت عن طريقنا فعلاً، ولو انقطعت اعاصير الفراق والزوال عن الهبوب بعد الآن، ولو تفرغ الـمستقبل العاصف بالنوائب عن مواسم الشتاء الـمعنوية، لانـخرطتُ في صفك ولرثيتك باكياً لـحالك. ولكن مادامت الدنيا ستخرجنا منها قائلة: ((هيا اخرجوا..!)) صامـّة اذانها عن صراخنا واستنجادنا. فعلينا نـحن قبل ان تطردنا هي نابذة لنا، ان نهجر عشقها والاخلاد اليها من الآن، بايقاظات الامراض والسعي لاجل التـخلي عن الدنيا قلباً ووجداناً قبل ان تتخلى هي عنـّا.

نعم، ان الـمرض بتذكيره ايانا هذا الـمعنى اللطيف والعميق، يهمس في سرائر قلوبنا قائلاً:

((بنيتك ليست من الصلب والـحديد بل من مواد متباينة مركبة فيك، ملائمة كل التلاؤم للتحلل والتفسخ والتفرق حالاً، دع عنك الغرور وادرك عجزك وتعرّف على مالكك، وافهم ما وظيفتك وتعلـّم ما الـحكمة والغاية من مـجيئك الى الدنيا؟)).

ثم ما دامت ان اذواق الدنيا ولذاتها لاتدوم، وبـخاصة اذا كانت غير مشروعة، بل تبعث في النفس الالـم وتكسبه ذنباً وجريرة، فلا تبك على فقدك ذلك الذوق بـحجة الـمرض، بل تفكـّر في معنى العبادة الـمعنوية التي يتضمنها مرضك والثواب الاخروي الذي يـخفيه لك، واسع لتنال ذلك الذوق الـخالص الزكي.

الدواء السابع

ايها الـمريض الفاقد لنعمة الصحة! ان مرضك لا يذهب بلذة النعمة الإلـهية في الصحة بل على العكس، انه يذيقك أيـّاها ويطيـّبها ويزيدها لذة، ذلك ان شيئاً ما اذا دام واستمر على حاله يفقد طعمه وتأثيره. حتى اتفق أهل الـحق على القول: ((انـما الاشياء تُعرف بأضدادها..)) فمثلاً: لولا الظلمة لـما عُرف النور ولظل دون لذة، ولولا البرودة لـما عُرفت الـحرارة ولبقيت دون استساغة، ولولا الـجوع لـما اعطى الاكل لذته وطعمه، ولولا حرارة الـمعدة لـما وَهَبنا احتساء الـماء ذوقاً، ولولا العلـّة لكانت العافية بلا ذوق، ولولا الـمرض لباتت الصحة عديـمة اللذة.

ان الفاطر الـحكيم لـمـّا اراد اشعار الانسان واحساسه مـختلف احسانه واذاقته انواع نَعمه سوقاً منه الى الشكر الدائم، جهـّزه بأجهزة في غاية الكثرة لتُقبل على تذوق تلك اَلآلاف الـمؤلفة من انواع النعم الـمختلفة، لذا فلابد من انه سيُنزل الامراضَ والاسقام والعلل ايضاً مثلما يُلطف ويرزق بالصحة والعافية.

واسألك: ((لو لـم يكن هذا الـمرض الذي اصاب رأسك او يدك او معدتك.. هل كان يـمقدورك ان تتحسس اللذة الكامنة في الصحة التي كانت باسطة ظلالـها على رأسك او يدك او معدتك؟ وهل كنت تتمكن ان تتذوق وتشكر النعمة الإلـهية التي جسّدتها تلك النـعمة؟ بل كان الغالب عليك النسيان بدلاً من الشكر، او لكنت تصرف تلك الصحة بطغيان الغفلة الى سفاهة دون شعور!)).

الدواء الثامن

ايها الـمريض الذاكر لآخرته! ان مرضك كمفعول الصابون، يطهـّر ادرانك، ويـمسح عنك ذنوبك، وينقيك من خطاياك. فقد ثبت أن الامراض كفـّارات للذنوب والـمعاصي، وورد في الـحديث الصحيح:

((ما من مسلم يصيبه اذىً الاّ حاتّ الله خطاياه كما تـحاتّ ورق الشـجر))(1) والذنوب هي امراض دائمة في الـحياة الابدية. وهي في هذه الـحياة الدنيا امراضٌ معنوية في القلب والوجدان والروح. فاذا كنت صابراً لا تشكو نـجوت بنفسك اذاً بـهذا الـمرض العابر من امراض دائمة كثيرة جداً. واذا كنت لاهياً عن ذنوبك، ناسياً آخرتك غافلاً عن ربك، فاني أؤكد معاناتك من داءٍ خطير، هو أخطر وأفتك واكبر بـمليون مرة من هذه الامراض الـمؤقتة، ففـّر منه واصرخ.. ! لان قلبك وروحك ونفسك كلها مرتبطة بـموجودات الدنيا قاطبة، وان تلك الاواصر تنقطع دوماً بسيوف الفراق والزوال فاتـحة فيك جروحاً عميقة، وبـخاصة انك تتخيل الـموت اعداماً ابدياً لعدم معرفتك بالآخرة. فكأن لك كياناً مريضاً ذا جروح وشروخ بـحجم الدنيا، مـما يـحتم عليك قبل كل شيء ان تبحث عن العلاج التام والشفاء الـحقيقي لكيانك الـمعنوي الكبير الذي تفسـّخه العلل غير الـمحدودة والكلوم غير الـمعدودة، فما اظنك تـجدها الاّ في علاج الإيـمان وبلسمه الشافي، واعلم ان اقصر طريق لبلوغ ذلك العلاج هو الاطلال من نافذتي ((العجز والفقر)) اللتين تتفتحان بتمزيق الـمرض الـمادي لـحجاب الغفلة واللتين جُبلَ الانسان عليهما، وبالتالي تبلغ معرفة قدرة القادر ذي الـجلال ورحمته الواسعة.

نعم ان الذي لا يعرف الله يـحمل فوق رأسه هموماً وبلايا بسعة الدنيا وما فيها، ولكن الذي عرف ربه تـمتلىء دنياه نوراً وسروراً معنوياً، وهو يشعر بذلك بـما لديه من قوة الإيـمان – كل حسب درجته – نعم ان ألـم الامراض الـمادية الـجزئية يذوب وينسحق تـحت وابل السرور الـمعنوي والشفاء اللذيذ القادمين من الإيـمان.

الدواء التاسع

ايها الـمريض الـمؤمن بـخالقه! ان سبب التألـم من الامراض والـخوف والفزع منها ينبع من كون الـمرض احياناً وسيلة للموت والـهلاك، ولكون الـموت – بنظر الغفلة – مرعباً مـخيفاً ظاهراً، فان الامراض التي يـمكن ان تكون وسائل له، تبعث على القلق والاضطراب. فاعلم:

اولاً: آمن قطعاً:

ان الاجل مقدّر لا يتغيـّر. فقد حدث ان مات اولئك الباكون عند الـمحتضرين في مرضهم. مع انهم كانوا يتمتعون بصحة وعافية، وشفي اولئك الـمرضى الذين كانت حالتهم خطرة وعاشوا بعد ذلك احياءً يرزقون.

ثانيا:

ان الـموت ليس مـخيفاً في ذاته، كما يبدو لنا في صورته الظاهرية، وقد اثبتنا في رسائل كثيرة اثباتاً قاطعاً – دون ان يترك شكاً ولا شبهة – بـموحيات نور القرآن الكريـم.

أن الـموت للـمؤمن اعفاء وانهاء من كلفة وظيفة الـحياة ومشقتها.. وهو تسريح من العبودية التي هي تعليم وتدريب في ميدان ابتلاء الدنيا.. وهو باب وصال لالتقاء تسعة وتسعين من الاحبة والـخلاّن الراحلين الى العالـم الآخر.. وهو وسيلة للدخول في رحاب الوطن الـحقيقي والـمقام الابدي للسعادة الـخالدة.. وهو دعوة للانتقال من زنزانه الدنيا الى بساتين الـجنة وحدائقها.. وهو الفرصة الواجبة لتسلم الاجرة ازاء الـخدمة الـمؤداة، تلك الاجرة التي تغدق سخية من خزينة فضل الـخالق الرحيم.

فما دامت هذه هي ماهية الـموت – من زاوية الـحقيقة – فلا ينبغي ان يُنظر اليه كأنه شيء مـخيف، بل يـجب اعتباره تباشير الرحـمة والسعادة. حتى أن قسماً من ((اهل الله)) لـم يكن خوفهم من الـموت بسبب وحشة الـموت ودهشته، وانـما بسبب رغبتهم في كسب الـمزيد من الـخير والـحسنات بادامة وظيفة الـحياة.

نعم ان الـموت لاهل الإيـمان باب الرحـمة. وهو لاهل الضلالة بئر مظلمة ظلاماً ابدياً.

الدواء العاشر

ايها الـمريض القلق دون داع للقلق! انت قلقٌ من وطأة الـمرض وشدته، فقلقك هذا يزيد ثقل الـمرض عليك. فاذا كنت تريد ان تـخفف الـمرض عنك، فاسع جاهداً للابتعاد عن القلق. أي: تفكـّر في فوائد الـمرض، وفي ثوابه، وفي حثه الـخطى الى الشفاء. فاجتث جذور القلق من نفسك لتجتث الـمرض من جذوره.

نعم، ان القلق (او الوسوسة) يضاعف مرضك ويـجعله مرضين. لان القلق يبث في القلب – تـحت وطأة الـمرض الـمادي – مرضاً معنوياً، فيدوم الـمرض الـمادي مستنداً اليه، فاذا ما أذهبتَ عنك القلق والـهواجس بتسليم الامر لله والرضا بقضائه، وباستحضار حكمة الـمرض، فان مرشك الـمادي سيفقد فرعاً مهماً من جذوره فيُخفف، وقسمٌ منه يزول، واذا ما رافقت الـمرض الـمادي اوهام وهواجس فقد يكبر عشر معشار تلك الاوهام بوساطة القلق الى معشار، ولكن بانقطاع القلق يزول تسعٌ من عشرة من مفعول ذلك الـمرض، وكما ان القلق يزيد الـمرض، كذلك يـجعل الـمريض كأنه يتهم الـحكمة الإلـهية وينتقد الرحـمة الإلـهية ويشكو من خالقه الرحيم، لذا يؤدَّب الـمريض بلطمات التأديب – بـخلاف ما يقصده هو – مـما يزيد مرضه. اذ كما ان الشكر يزيد النعم فالشكوى كذلك تزيد الـمرض والـمصيبة. هذا وان القلق في حد ذاته مرض، وعلاجه انـما هو في معرفة حكمة الـمرض. واذا ما عرفت حكمته وفائدته، فامسح قلقك بذلك الـمرهم وانـج بنفسك وقل بدلاً من ((واآسفاه)): ((الـحمد لله على كل حال)).

الدواء الـحادي عشر

ايها الاخ الـمريض النافذ صبره! مع ان الـمرض يعطيك ألـماً حاضراً فهو يـمنحك في الوقت نفسه لذة معنوية مستدرة من زوال مرضك السابق، مع لذةٍ روحية نابعة من الثواب الـحاصل من جراء ذلك الـمرض. فالزمان القابل بعد اليوم، بل بعد هذه الساعة لا يـحمل مرضاً. ولاشك أن لا ألمٍ من غير شيء، وما لـم يكن هناك ألـمٌ فلا توجـّع ولا شكوى. ولكن لانك تتوهم توهماً خطأً فان الـجوع ينتابك، اذ مع زوال فترة الـمرض الـمادي قد ذاب ألـم تلك الفترة ايضاً وثبت ثواب الـمرض وبقيت لذة زواله.. فمن البلاهة بل من الـجنون ان تتذكر بعد الآن الـمرض السابق وتتألـم منه، فتفقد صبرك وتنفده، في حين بلزمك الانشراح بذهابه والارتياح بثوابه. اما الايام القابلة فانها لـم تأت بعد. أليس من البلاهة إشغال النفس من الآن بالتفكير في يوم لـم يولد بعد، وفي مرض لـم ينزل بعد وفي الـم لـم يقع بعد؟. فهذا النوع من التوهم – نتيجة التفكر الـمرير وتكليف النفس ألـماً مبرحاً - يدفع الى فقدان الصبر ويُصبغ ثلاثة انواعٍ من العدم بثلاث مراتب من الوجود. أليس هذا جنوناً؟. فما دامت أزمنة الـمرض التي سبقت هذه الساعة تبعث على النشوة والـحبور، وما دام الزمان القابل بعد هذه الساعة معدوماً، فالـمرض معدوم والالـم معدوم.

فلا تبذّر يا اخي ما وهب لك الـحق سبحانه وتعالى من قوة الصبر يـميناً وشمالاً. بل احشدها جـميعاً مقابل الالـم الذي يعتريك في هذه الساعة وقل: ((ياصبور)) وتـحمل صابراً محتسباً!…

الدواء الثاني عشر

ايها الـمريض الـمحروم من العبادة واورادها بسبب الـمرض! ويا ايها الآسف على ذلك الـحرمان! اعلم انه ثابت في الـحديث الشريف(1) ما معناه: ان الـمؤمن التقي يأتيه ثواب ما كان يؤديه من العبادة حتى في اثناء مرضه، فالـمرض لا يـمنع ثوابه. فان الـمريض الـمؤدي للفرائض – على قدر استطاعته – سينيب الـمرض عن سائر السنن ويـحل مـحلـّها اثناء شدة الـمرض إنابة خالصة، لـما يتجمل ذلك الـمريض بالصبر والتوكل والقيام بالفرائض، وكذا يشعر الـمرضُ الانسان بعجزه وضعفه، فيتضرع الـمريض بذلك العجز وذلك الضعف بالدعاء حالاً وقولاً. وما اودع الله سبحانه وتعالى في الانسان عجزاً غير مـحدود وضعفاً غير متناه الا ليلتجىء دائماً الى الـحضرة الإلـهية بالدعاء سائلا راجياً، حيث ان الـحكمة من خلق الانسان والسبب الاساس لأهميته هو الدعاء الـخالص بـمضمون الآية الكريـمة:

} قُل مَا يَعبَؤا بِكُم رَبـّي لَولا دُعاؤكُم { (الفرقان:77) ولكون الـمرض سبباً للدعاء الـخالص، فلا تصح الشكوى منه، بل يـجب الشكر لله؛ اذ لا ينبغي ان تُجَفـّف ينابيع الدعاء التي فجـّرها الـمرض عند كسب العافية.

الدواء الثالث عشر

ايها الـمسكين الشاكي من الـمرض! ان الـمرض يغدو كنزاً عظيماً لبعض الناس، وهدية إلـهية ثـمينة لـهم. وباستطاعة كل مريض ان يتصور مرضه من هذا النوع، حيث ان الـحكمة الإلـهية اقتضت ان يكون الاجلُ مـجهولاً وقته، انقاذاً للانسان من اليأس الـمطلق ومن الغفلة الـمطلقة، وابقاءاً له بين الـخوف والرجاء، حفظاً لدنياه وآخرته من السقوط في هاوية الـخسران.. أي أن الاجل متوقع مـجيئه كل حين، فإن تـمكـّن من الانسان وهو سادر غفلته يكـّبده خسائر فادحة في حياته الاخروية الابدية. فالـمرض يبدد تلك الغفلة ويشتتها، وبالتالي يذكـّر بالآخرة ويستحضر الـموت في الذهن فيتأهب له. بل يـحدث ان يربـّحه ربـحاً عظيماً، فيفوز خلال عشرين يوماً ما قد يستعصي استحصاله خلال عشرين سنة كاملة. فعلى سبيل الـمثال:

كان هناك فَتَيان – يرحـمهما الله – احدهما يدعى ((صبري)) من قرية ((إيلاما)) والآخر ((مصطفى وزير زادة)) من ((اسلام كوي)) ورغم كونهما اُميين من بين طلابي، فقد كنتُ الـحظُ باعجاب موقعَهما في الصف الاول في الوفاء والصدق وفي خدمة الإيـمان، فلـم ادرك حكمة ذلك في حينها، ولكن بعد وفاتهما علمت انهما كانا يعانيان من داءين عضالين، وبارشاد من ذلك الـمرض اصبحا على تقوى عظيمة يسعيان في خدمة راقية، وفي وضع نافع لآخرتهما، على خلاف سائر الشباب الغافلين الساهين حتى عن فرائضهم. فنسأل الله أن تكون سنتا الـمرض والـمعاناة اللتان قضياهما في الـحياة الدنيا قد تـحولتا الى ملايين السنين من سعادة الـحياة الابدية.

والآن فقط أفهم أنّ دعائي لـهما بالشفاء قد اصبح دعاء عليهما من زاوية الدنيا، ولكن ارجو الله ان يكون دعائي مستجاباً لصحتهما الاخروية.

وهكذا استطاع هذان الشخصان – حسب اعتقادي – الـحصول على ربح يساوي الكسب الذي يـحققه الانسان بالسعي والتقوى لعشر سنين في الاقل(1)، فلو كانا متباهيين بصحتهما كبعض الشباب وسائقين لنفسيهما الى شراك الغفلة والسفاهة حتى يأتيهما الـموت الـمترصد، وهـما يتخبطان في اوحال الـخطايا وظلماتها، لكان قبراهما الان حـجور العقارب والافاعي بدلاً من كونهما الآن دفائن النور وكنوز البهجة.

فما دامت الامراض تـحمل في مضامينها هذه الـمنافع الكبيرة فلا يـجوز الشكوى منها، بل يـجب الاعتماد على الرحـمة الإلـهية بالتوكل والصبر بل بالـحمد والشكر.

الدواء الرابع عشر

ايها الـمريض الـمسدل على عينيه! اذا ادركت ان هناك نوراً، واي نور! وعيناً معنوية تـحت ذلك الـحجاب الـمسدل على أعين أهل الإيـمان، فستقول: ((شكراً والف شكر لربي الرحـيم)). وتوضيحاً لـهذا الـمرهم سأورد الـحادثة الآتية:

لقد اصيبت عمة ((سليمان)) وهو من ((بارلا)) الذي ظل يـخدمني دون أن يـملـّني يوماً او يضيق مني بشيء طوال ثـماني سنوات خدمة مقرونة بكمال الوفاء والاحترام… اصيبت هذه الـمسكينة بالعمى فانطفأ نور عينها، ولفرط حسن ظن تلك الـمرأة الصالـحة بي اكثر مـما استحق بكثير تشبثت بي وانا اغادر الـمسجد قائلة: ((بالله عليك ادع الله لي من اجل عيني))، وانا بدوري جعلت صلاح تلك الـمرأة الـمباركة الـمؤمنة قريباً وشفيعاً لدعائي فدعوت الله بتضرع وتوسل قائلاً: ((اللهم ياربنا بـحرمة صلاحها اكشف عن بصرها)). وفي اليوم التالي جاء طبيب من ولاية ((بوردور)) القريبة، وهو مـختص بالعيون، فعالـجها، فردّ الله عليها بصرها، وبعد اربعين يوماً عادت عينها الى حالتها الاولى، فتألـمت لذلك كثيراً ودعوت دعاءً كثيراً، وارجو ان يكون دعائي مستجاباً على حساب آخرتها والاّ فان دعائي ذلك سيصبح - خطأ- دعاءً عليها، حيث قد بقيت لتستوفي اجلـها اربعين يوماً فقط، اذ بعد اربعين يوماً مضت الى رحـمة الله.

وهكذا، فان حرمان هذه الـمرأة الـمرجوة لـها الرحـمة من نعمة النظر ببصر الشيخوخة العطوف والاستمتاع بـجمال الـحدائق الـحزينة لـ((بارلا)) واسدال الـحجاب بينها وبين الـمروج اللطيفة خلال اربعين يوماً، قد عوض عنها الآن في قبرها، إطلالـها على الـجنة ومشاهدة ألفاف حدائقها الـخضراء لاربعة آلاف يوم و يوم.. ذلك لان أيـمانها كان راسخاً عميقاً وصلاحها كان مشعاً عظيماً.

نعم ان الـمؤمن اذا ما اُسدل على عينيه حجاب ودخل القبر هكذا، فانه يستطيع ان يشاهد عالم النور – حسب درجته – بنظر اوسع من نظر اهل القبور. اذ كما اننا نرى بعيوننا اكثر الاشياء في هذه الدنيا، والـمؤمنون العميان لا يستطيعون رؤيتها، ففي القبر ايضاً سيرى اولئك العميان – بتلك الدرجة – ان كانوا اصحاب ايـمان – اكثر مـما يراه اهل القبور، وسيشاهدون بساتين الـجنة ونعيمها كأنهم مزوّدون بـمراصد – كل حسب درجته – تلتقط مناظر الـجنة الرائعة وتعرضها كالشاشة السينمائية امام اعين اولئك الـمكفوفين الذين حرموا من نور ابصارهم في الدنيا.

فبامكانك ايها الاخ الـحصول على هذه العين النورانية التي تكشف عن الـجنة فيما فوق السموات العلى وانت بعدُ تـحت الثرى، وذلك بالصبر والشكر على ذلك الـحجاب الـمسدل على عينيك، واعلم ان الـحكيم الـمختص بالعين والقادر على رفع ذلك الـحجاب عن عينينك لترى بتلك العين النورانية، انـما هو القرآن الـحكيم.

الدواء الـخامس عشر

ايها الـمريض الـمتأوه بالانين! لاتتأوه ابداً ولا تئن ناظراً الى صورة الـمرض القبيحة الـمذمومة، بل انظر الى معناه وفـحواه وانبسط قائلاً: الـحمد لله.

فلو لـم يكن معنى الـمرض شيئاً جـميلاً لـما كان الـخالق الرحيم يبتلي احبّ احبائه من عباده بالامراض والاسقام، فقد جاء في الـحديث الشريف: ((أشدّ الناس بلاءً الانبياء ثـم الاولياء، ثـم الامثل فالامثل))(1) او كما قال. ويقف في مقدمة الـمبتلين النبي الصابر ايوب عليه السلام، ثـم الانبياء الباقون عليهم السلام، ثـم الاولياء ثـم الصالـحون. وقد تلقوا جـميعاً تلك الامراض التي قاسوها عبادة خالصة وهدية رحـمانية، فأدوا الشكر من خلال الصبر، وكانوا يرونها نوعاً من العمليات الـجراحية تـمنح لـهم من لدن الرحـمن الرحيم.

فانت ايها الـمريض الـمتأوه الـمتألـم! إن كنت تروم الالتحاق بهذه القافلة النورانية، فأد الشكر في ثنايا الصبر، والاّ فان شكواك ستجعلهم يـحجمون عن ضمـّك الى قافلتهم، وستهوي بنفسك في هوة الغافلين! وستسلك درباً تـخيم عليه الظلمات.

نعم، هناك امراض اذا اعقبتها الـمنية، يكلل صاحبها شهادة معنوية تـحرزه مقام الولاية لله، وهي تلك الامراض التي تتمخض عن الولادة(2) وغصص البطن، والغرق والـحرق والطاعون، فهذه الامراض اذا مات بها صاحبها فانه سيرتفع الى درجة الشهيد الـمعنوي، فهناك امراض كثيرة ذات بركة تكسب صاحبها درجة الولاية بالـموت الذي تنتهي به، ولـما كان الـمرض يـخفف من شدة حب الدنيا وغلوائها ومن عشقها والعلاقة الشديدة بـها فهو يـخفف كذلك الفراق الاليم والـمرّلاهل الدنيا وهـم يغادرونها بالـموت بل قد يحببه اليهم.

الدواء السادس عشر

ايها الـمريض الشاكي من الضجر! ان الـمرض يلقـّن صاحبه اهم عرى الـحياة الاجتماعية والانسانية واجمل اواصرها وهما الاحترام والـمحبة، لانه ينقذ الانسان من الاستغناء عن الآخرين، ذلك الاستغناء الذي يسوق الى الوحشة ويـجرد الانسان من الرحـمة، لانه يتبيتّن من الآية الكريـمة } إنَ الانسانَ ليطغى ` أن رآهُ استغنى { (العلق:6-7) ان النفس الامارة الواقعة في شباك الاستغناء – الناجـم عن الصحة والعافية – لن تشعر بالاحترام اللائق تـجاه العلاقات الاخوية، ولن تـحس بالرحـمة والرأفة بالـمبتلين يالـمصائب والامراض الـجديرين بالرحـمة والعطف، ولكن متى ما انتاب الانسان الـمرض وادرك مدى عجزه، ومدى فقره، تـحت ضغوط الـمرض وآلامه واثقاله فانه يشعر بالاحترام باشقائه الـمؤمنين اللائقين بالاحترام الذين يقومون برعايته، او الذين يأتون لعيادته، ويشعر كذلك بالرأفة الانسانية وهي خصلة إسلامية تـجاه اهل الـمصائب والبلايا – قياساً على نفسه – فتفيض من قلبه الرحـمة والرأفة بكل معناهما تـجاههم، وتضطرم عنده الشفقة حارة ازاءهم، واذا استطاع قدّم لـهم يد العون، وان يقدر عليه شرع بالدعاء لـهم، او بزيارتهم والاستفسار عن راحتهم واحوالـهم مؤدياً بذلك سنةً مشروعة كاسباً ثوابها العظيم.

الدواء السابع عشر

ايها الـمريض الشاكي من العجز عن القيام باعمال البر! كن شاكراً! فاني ابشرك: بان الذي يفتح ابواب اخلص الـخيرات، انـما هو الـمرض نفسه، فالـمرض فضلاً عن انه يورث ثواباً مستمراً للـمريض وللذين يرعونه لله، فهو يـمثل اهم وسيلة لقبول الدعاء.

نعم، ان رعاية الـمرضى تـجلب لاهل الإيـمان ثواباً عظيماً، وان زيارتهم والسؤال عن صحتهم وراحتهم بشرط عدم تنغيصهم لـهي من السنة الشريفة(1)، وهي كفارة للذنوب في الوقت نفسه. وقد ورد حديث بهذا الـمعنى: اطلبوا دعاء الـمريض فدعاؤه مستجاب(2)، وبـخاصة اذا كان الـمريض من الاقربين، وبـخاصة اذا كان والداً او والده، فان خدمتهما هي عبادة مهمة وهي مثوبة كبرى ايضاً. وان تطمين افئدة الـمرضى وبث السلوان في قلوبهم، يعتبر بـحكم صَدَقة مهمة. فما أسعد اولئك الابناء الذين يقومون برعاية آبائهم او أمهاتهم عند مرضهم ويدخلون البهجة في قلوبهم الرقيقة الـمرهفة فيفوزون بدعاء الوالدين لـهم.

نعم، ان الـحقيقة التي تستحق احتراماً اكثر ومكانة اسمى في الـحياة الاجتماعية هي شفقة الوالدين، وتعويض الابناء الطيبين لتلك الشفقة، بتوجيه الاحترام اللائق والعاطفة البارّة الزكية اليهما حينما يعانون من مرض. وهي لوحة وفية تظهر الوضع الـجيد للابناء وسـمو الانسانية بـحيث تثير اعجاب كل الـمخلوقات حتى الـملائكة، فيحيـّونها مهللين مكبرين وهاتفين: ((ماشاء الله، بارك الله)).

نعم ان العواطف والرأفة والرحـمة الـمحلقة حوالي الـمريض لتذيب ألـم الـمريض وتـحوله الى لذاتٍ حلوة مفرحة.

ان قبول دعاء الـمريض والاستجابة له مسالة مهمة جديرة بالاهتمام. فمنذ حوالي اربعين سنة كنت ادعو للشفاء من مرض في ظهري، ثم ادركتُ ان الـمرض انـما يُمنح لاجل الدعاء، وكما ان الدعاء لا يرفع دعاء، أي ان الدعاء لعدم تـمكنه من إزالة نفسه فان نتيجته اُخروية(1). والدعاء بذاته نوع من العبادة، اذ يلتجىء الـمريض الى الـملاذ الإلـهي عند ادراكه لعجزه.

ولـهذا فان عدم القبول الظاهري لدعوتي بالشفاء من مرضي طوال ثلاثين سنة لـم يصرفني ابداً من ان افكر في يوم من الايام بتركه والتخلي عنه، ذلك لان الـمرض أوان الدعاء ووقته، والشفاء ليس نتيجة الدعاء بل اذا وهب الله سبحانه – وهو الـحكيم الرحيم – الشفاء فانه يهبه من فضله وكرمه، وان عدم قبول الدعاء بالشكل الذي نريده لا يقودنا الى القول بأن الدعاء لـم يُستَجب، فالـخالق الـحكيم يعلم افضل منا ونـحن نـجهل، وانه سبحانه يسوق الينا ما هو خير لنا وانفع، وانه يدّخر لنا الادعية الـخاصة بدنيانا احياناً لتنفعنا في أُخرانا، وهكذا يقبل الدعاء. ومهما يكن فان الدعاء الذي اكتسب الاخلاص والنابع من سرّ الـمرض والآتي من الضعف والعجز والتذلل والاحتياج، قريبٌ جداً من القبول. والـمرض اساس لـمثل هذا الدعاء الـخالص ومداره. فالـمريض والذين يقومون برعايته من الـمؤمنين ينبغي ان يستفيدوا من هذا الدعاء.

الدواء الثامن عشر

ايها الـمريض التارك للشكر والـمستسلم للشكوى!

ان الشكوى تكون نابعة من وجود حق يعود اليك، وانت لـم يذهب حَقـّكَ سدىً حتى تشكو، بل عليك حقوقٌ كثيرة لـم تؤدّ بعدُ شكرها، انك لـم تؤدّ حق الله عليك، وفوق ذلك تقوم بالشكوى بالباطل وكأنك على حق، فليس لك ان تشكو ناظراً الى مَن هو اعلى منك مرتبة من الاصحاء، بل عليك النظر – من زاوية الصحة – الى اولئك العاجزين من الـمرضى الذين هم ادنى منك درجة.

فانت مكلف اذاً بالشكر الـجزيل. فاذا كانت يدُك مكسورةً فتأمل الايدي الـمبتورة ـ واذا كنت ذا عين واحدة فتأمل الفاقدين لكلتا العينين.. حتى تشكر الله سبحانه.

نعم، فليس لأحد في زاوية النعمة حق بـمدّ البصر الى من هو فوقه، لتتأجج نار الشكوى الـمحرقة عنده، الاّ انه عند الـمصيبة يتحتم على الـمرء من زاوية الـمصيبة النظر الى من هو اشد منه مصيبة واعظم مرضاً ليشكر بعد ذلك قانعاً بـما هو فيه. وقد وضح هذا السرّ في بعض الرسائل بـمثال مقتضاه كالآتي:

((شخص يأخذ بيد مسكين ليُصعدهُ الى قمة منارة، ويهدي اليه في كل درجة من درجات المنارة هدية. واخيراً يـختم تلك الـهدايا بأعظم هدية يهبها له عند قمة الـمنارة. واذ كان الـمفروض على هذا الـمسكين ان يقدم الشكر والامتنان ازاء الهدايا الـمتنوعة، تراه يتناسى كل تلك الـهدايا التي اخذها عند تلك الدرجات، او يعدّها غير ذات بال، فلا يشكر، رافعاً ببصره الى مَن هو اعلى منه شاكياً قائلاً: لو كانت هذه الـمنارة اعلى مـما هي عليه، لأبلغ اعلى درجة من هذه الدرجات! لِـمَ لـم تصبح مثل ذلك الـجبل الشاهق ارتفاعاً او الـمنارة الـمجاورة؟…)).

وهكذا اذا قام هذا الرجل بهذه الشكوى، فما اعظم ما يرتكبه من كفران بالنعمة وما اعظم ما يقترف من تـجاوز على الـحق!

وكذا حال الانسان الذي اتي الى الوجود من العدم ولـم يصبح حجراً ولاشجراً ولا حيواناً، بل كان انساناً مسلماً وقد تـمتع كثيراً بالصحة والعافية، ونال درجة من النعمة سامية… مع هذا يأتي هذا الانسان ويُظهر الشكوى من عدم تـمتعه بالصحة والعافية نتيجة بعض العوارض، او لاضاعته النِعَم بسوء اختياره، او من سوء الاستعمال، او لعجزه عن الوصول اليها، ثم يقول: ((ياويلتا ماذا جنيت حتى حلّ بي ما حلّ))، ناطقاً بـما يشيء بانتقاد للربوبية الإلـهية. فهذه الـحالة هي مرض معنوي ومصيبة اكبر من الـمرض الـمادي والـمصيبة التي هو فيها، فهو يزيد مرضه بالشكوى كمن يتصارع ويده مرضوضة. لكن العاقل يتمثل قوله تعالى: } الذينَ اذا أصابَتهُم مُصيبَةٌ قالوا إنا للهِ وإنا إليهِ راجعون{ (البقرة:156) فيسلـّم الامر لله صابراً حتى ينتهي ذلك الـمرض من اداء وظيفته ويـمضي الى شأنه.

الدواء التاسع عشر

ان التعبير الصمداني باطلاق ((الاسـماء الـحسنى)) على جـميع اسـماء الله الـجميل ذي الـجلال يدل على ان تلك الاسـماء جـميلة كلـّها. وحيث ان الـحياة هي اجـمل مرآة صمدانية وألطفها واجـمعها في الـموجودات، وان مرآة الـجميل جـميلة ايضاً، وان الـمرآة التي تعكس مـحاسن الـجميل تصبح جـميلة ايضاً، وان كل شيء يصيب تلك الـمرآة من ذلك الـجميل هو جـميل كذلك، فكل ما يصيب الـحياة جـميل ايضاً من زاوية الـحقيقة؛ ذلك لانه يُظهر النقوش الـجميلة لتلك ((الاسـماء الـحسنى)) الـجميلة.

فلو مضت الـحياة بالصحة والعافية على نسق واحد، لاصبحت مرآة ناقصة، بل قد تُشعر – في جهة ما – بالعدم والعبث فتذيق العذاب والضيق، وتهبط قيمة الـحياة، وتنقلب لذة العمر وهناؤه الى ألـم وغصـّة، فيلقي الانسان بنفسه إما الى اوحال السفاهة او الى اوكار اللهو والعربدة ليقضي وقته سريعاً، مَثَله كمثل الـمسجون الذي يعادي عمره الثمين ويقتله بسرعة، بغية انهاء مدة السجن. ولكن الـحياة التي تـمضي بالتـحولات والـحركة وتقضي اطواراً شتى فانها تُشعر ان لـها قيمة ووزناً وتنتج – هذه الـحياة – للعمر اهمية وتُكسبه لذة، حتى ان الانسان لا يرغب في ان يـمضي عمره، رغم ما يعانيه من اصناف الـمشاق والـمصائب ولا يتأوه ولا يتحسر قائلاً: ((أنـّى للشمس ان تغيب وأنـّى لليل أن ينجلي)).

نعم، ان شئت فاسأل شخصاً ثرياً عاطلاً، كل شيء عنده على مايرام. اسأله: كيف حالك؟ فستسمع منه حتماً عبارات أليمة وحسرة مثل: آه من هذا الوقت.. انه لا يـمرّ.. ألا تأتي لنبحث عن لـهو نقضي به الوقت.. هلم لنلعب النرد قليلاً..!. او تسمع شكاوى ناجـمة عن طول الامل مثل: ان أمري الفلاني ناقص.. ليتني افعل كذا وكذا.. اما اذا سألت فقيراً غارقاً في الـمصائب او عاملاً كادحاً: كيف حالك؟ فان كان رشيداً فسيقول لك: اني بـخير والـحمد لله وألف شكر لربي، فاني في سعي دائم.. ياحبذا لو لـم تغرب الشمس بسرعة لا قضي ما في يدي من عمل. فالوقت تـمر حثيثاً والعمر يـمضي دون توقف، ورغم اني منهمك في الواقع، الا أن هذا سيمضي ايضاً، فكل شيء يـحث خطاه على هذا الـمنوال..!. فهو بهذه الاقوال انـما يعبـّر عن قيمة العمر واهميته ضمن اسفه على العمر الذي يهرب منه، آسفاً على ذلك.. فهو يدرك اذاً ان لذة العمر وقيمة الـحياة بالكدّ والـمشقة، اما الراحة والدعة والصحة والعافية فهي تـجعل العمر مراً وتثقله بـحيث يتمنى الـمرء الـخلاص منه بسرعة.

ايها الاخ الـمريض! اعلم ان اصل الـمصائب والشرور بل حتى الذنوب انـما هو العدم كما اثبت ذلك اثباتاً قاطعاً ومفصلاً في سائر الرسائل، والعدم هو شرّ محض وظلمة تامة. فالتوقف والراحة والسكون على نسق واحد ووتيرة واحدة حالات قريبة جداً من العدم والعبث، ودنوّها هذا هو الذي يُشعر بالظلمة بالـموجودة في العدم ويورث ضجراً وضيقاً. اما الـحركة والتـحول فهما وجودان ويُشعران بالوجود، والوجود هو خيرٌ خالص ونور.

فـما دامت الـحقيقة هكذا، فان الـمرض فيك انـما هو ضيف مُرسلٌ اليك ليؤدي وظائفه الكثيرة فهو يقوم بتصفية حياتك القيمة وتقويتها ويرتقي بها ويوجه سائر الاجهزة الانسانية الاخرى في جسدك الى معاونة ذلك العضو العليل ويبرز نقوش اسـماء الصانع الـحكيم، وسينتهي من وظيفته قريباً، ان شاء الله ويـمضي الى شأنه مـخاطباً العافية: تعالى الآن لتمكثي مكاني دائماً، وتراقبي اداء وظيفتك من جديد، فهذا مكانك تسلـّميه واسكنيه هنيئاً.

الدواء العشرون

ايها الـمريض الباحث عن دوائه! اعلم ان الـمرض قسمان: قسم حقيقي وقسم آخر وهمي.

اما القسم الـحقيقي: فقد جعل الشافي الـحكيم الـجليل جلّ وعلا لكل داءٍ دواءً، وخزَنَه في صيدليته الكبرى التي هي الكرة الارضية، فتلك الادوية تستدعي الادواء، وقد خلق سبحانه لكل داء دواء، فاستعمال العلاج وتناوله لغرض التداوي مشروع اصلاً. ولكن يـجب العلم بأن الشفاء وتأثير الدواء لا يكونان الا من الـحق تبارك وتعالى، فمثلما انه سبحانه يهب الدواء فهو ايضاً يهب الشفاء. وعلى الـمسلم الالتزام بارشاد الاطباء الـحاذقين الـمسلمين وتوصياتهم. وهذا الامتثال علاج مهم؛ لان اكثر الامراض تتولد من سوء الاستعمال، وعدم الـحمية، واهمال الارشاد، والاسراف، والذنوب، والذنوب، والسفاهة، وعدم الـحذر. فالطبيب الـمتدين لاشك انه ينصح ضمن الدائرة الـمشروعة ويقدم وصاياه، ويـحذر من سوء الاستعمال والاسراف ويبث في نفس الـمريض التسلية والامل، والـمريض بدوره اعتماداً على تلك الوصايا والسلوان يـخفّ مرضه ويغمره الفرح بدلاَ من الضيق والضجر.

اما القسم الوهمي من الـمرض: فان علاجه الـمؤثر الناجع هو: ((الاهمال)) اذ يكبر الوهم بالاهتمام وينتفش، وان لـم يُعبأ به يصغر وينزوي ويتلاشى. فكما اذا تعرض الانسان لوكر الزنابير فانها تتجمع وتهجم عليه، وان لـم يهتم تتفرق عنه وتتشتت.

وكما ان الذي يلاحق باهتمام خيالاً في الظلمات من حبلٍ متدلٍ، سيكبر امامه ذلك الـخيال حتى قد يوصله الى الفرار كالـمعتوه، واذا لـم يهتم فسينكشف لـه ان ذلك انـما هو حبل وليس بثعبان.. ويبدأ بالسخرية من اضطراب ذهنه وتوهمه. فهذا الـمرض الوهمي كذلك اذا دام كثيراً فسينقلب الى مرض حقيقي، فالوهم عند مرهف الـحس، عصبي الـمزاج مرض وبيل جداً، حيث يستهوله ويـجعل له الـحبة قبة، فتنهار قواه الـمعنوية، وبـخاصة اذا صادف أنصاف الاطباء ذوي القلوب الغلاظ الـخالية من الرحـمة، او الاطباء غير الـمنصفين، الذين يثيرون اوهامه ويـحركونها اكثر من ذي قبل حتى تذهب امواله وتنضب ان كان غنياً، او يفقد عقله او يـخسر صحته تـماماً.

الدواء الـحادي والعشرون

ايها الاخ الـمريض! حقاً ان في مرضك الـماً مادياً، الا أن لذة معنوية مهمة تـحيط بك، تـمحو كل آثار ذلك الالـم الـمادي؛ لان ألـمك الـمادي لايفوق تلك الرأفة او الشفقة اللذيذة التي نسيتها منذ الصغر، والتي تتفجر الآن من جديد في اكباد والديك واقاربك نـحوك، ان كان لك والدان واقارب. حيث ستستعيد تلك العواطف والنظرات الابوية الـحنونة الـحلوة التي كانت تتوجه اليك في الطفولة، وينكشف الـحجاب عن احبائك من حواليك ليرعوك من جديد وينطلقوا اليك بـمحبتهم ورأفتهم بـجاذبية الـمرض التي أثارت تلك العواطف الداخلية، فما أرخص تلك الآلام الـمادية التي تعاني منها امام ما يؤديه لك من خدمات جليلة مـمزوجة بالرحـمة والرأفة بـحكم مرضك اولئك الذين سعيتَ انت – بكل فـخر – لـخدمتهم ونيل رضاهم، فاصبحت بذلك سيداً وآمراً عليهم وفزت ايضاً بـمرضك في كسب الـمزيد من الاحبة الـمعاونين والاخلاء الـمشفقين. فتضمهم اليك للرقة والرأفة الانسانية التي جُبل عليهما الانسان.

ثم انك قد اخذت بـمرضك هذا اجازة من الوظائف الشاقة الـمهلكة، فأنت الآن في غنى عنها وفي راحة منها… فلا ينبغي ان يسوقك ألـمك الـجزئي الى الشكوى بل الى الشكر تـجاه هذه اللذات الـمعنوية.

الدواء الثاني والعشرون

ايها الاخ الـمريض بداء عضال كالشلل! انني ابشّرك اولاً بأن الشلل يعدّ من الامراض الـمباركة للـمؤمن.. لقد كنت اسمع هذا منذ مدة من الاولياء الصالـحين فكنت اجهل سرّه، ويـخطر الآن احد اسراره على قلبي هكذا:

ان اهل الولاية قد تعقبـّوا بارادتهم اساسيَن مهميـّن للوصول الى الـحق تبارك وتعالى نـجاةً من اخطار معنوية عظيمة ترد من الدنيا وصماناً للسعادة الابدية. والاساسان:

اولـهما: رابطة الـموت، أي أنهم سعوا لاجل سعادتهم في الـحياة الابدية بالتفكر في فناء الدنيا وبأنهم ضيوف يُستخدمون لوظائف موقتة.

وثانيهما: اماتة النفس الامارة بالسوء بالـمجاهدات والرياضة الروحية لاجل الـخلاص من مهالك تلك النفس، والاحاسيس التي لاترى العقبى.

فيا اخي الذي فقد من كيانه نصف صحته، لقد اُودع فيك دون اختيار منك اساسان قصيران سهلان، يـمهـّدان لك السبيل الى سعادت الابدية، ويذكـّرانك دائماً بزوال الدنيا وفناء الانسان. فلا تتمكن الدنيا بعدئذ من حبس انفاسك وخنقك، ولاتـجرؤ الغفلة على غشيان عيونك. فالنفس الامارة لاتتمكن بالشهوات الرذيلة ان تـخدع مَن هو نصف انسان، فينجو من بلائها وشرها بسرعة. والـمؤمن بسر الإيـمان والاستسلام والتوكل يستفيد من داء عضال كالشلل بأقصر وقت استفادة الـمجاهدين من اهل الولاية بالرياضة في الـمعتكفات، فيتضاءل عندئذ ذلك الداء ويزهد.

الدواء الثالث والعشرون

ايها الـمريض الوحيد الغريب العاجز! ان كانت غربتك وعدم وجود من يعيلك فضلاً عن مرضك سبباً في لفت القاوب القاسية نـحوك وامتلائها بالرقة عليك، فكيف بنظر رحـمة خالقك الرحيم ذي الـتجليات الذي يقدم نفسه اليك في بدء سور القرآن بصفته الـجليلة ((الرحـمن الرحيم)) والذي يـجعل جـميع الامهات – بلمعةٍ من لـمعات شفقته ورأفته الـخارقة – يقمن بتربية اولادهن.. والذي يـملأ وجه الدنيا ويصبغه في كل ربيع بتجلٍ من رحـمته ويـملأه بانواع نعمه وفضله.. وبتجلٍ من رحـمته كذلك تتجسم الـجنة الزاخرة بكل مـحاسنها. فانتسابك اليه بالإيـمان والالتجاء اليه بلسان العجز الـمنبعث من مرضك، ورجاؤك منه وتضرعك اليه يـجعل من مرضك في وحدتك وغربتك هدفاً ووسيلة تـجلب اليك نظر الرحـمة منه سبحانه تلك النظرة التي تساوي كل شيء.

فما دام هو موجوداً ينظر اليك فكل شيء موجود لك. والغريب حقاً والوحيد اصلاً هو ذلك الذي لاينتسب اليه بالإيـمان والتسليم، او لايرغب في ذلك الانتساب.

الدواء الرابع والعشرون

ايها الـممرضون الـمعتنون بالاطفال الـمرضى الابرياء وبالشيوخ الذين هم بـحكم الاطفال عجزاً وضعفاً‍ ان بين ايديكم تـجارة اخروية مهمة، فاغتنموا تلك التجارة وليكن شوقكم اليها عظيماً وسعيكم حثيثاً. ان امراض الاطفال الابرياء هي حقنات تربية ربانية لاجسادهم الرقيقة للاعتياد عليها وترويضهم بها لـمقاومة مشتقات الـحياة في الـمستقبل، وهي تـحمل حكماً وفوائدَ تعود عليهم في حياتهم الدنيوية وفي حياتهم الروحية، فتصفي حياة الصغار تصفية معنوية مثلما تصفى حياة الكبار بكفارة الذنوب. فهذه الـحقن اسس للرقي الـمعنوي ومداره في مستقبل اولئك الصغار او في آخرتهم.

والثواب الـحاصل من مثل هذه الامراض يُدرج في صحيفة اعمال الوالدين او في صحيفة حسنات الوالدة التي تفضلُ صحة ولدها – بسر الشفقة – على نفسها، كما هو ثابت لدى اهل الـحقيقة.

اما رعاية الشيوخ والاعتناء بهم، فضلاً عن كونه مداراً لثواب عظيم وبـخاصة الوالدين والظفر بدعائهم واسعاد قلوبهم والقيام بـخدمتهم بوفاء واخلاص، يقود صاحبه الى سعادة الدنيا والآخرة، كما هو ثابت بروايات صحيحة وفي حوادث تأريـخية كثيرة. فالولد السعيد البار بوالديه العاجزين سيرى الطاعة نفسها من ابنائه، بينما الولد العاق الـمؤذي لأبويه مع ارتداده الى العذاب الاخروي سيجد كذلك في الدنيا مهالك كثيرة.

نعم انه ليست رعاية الشيوخ والعجائز والابرياء من الاقربين وحدهم، بل حتى اذا صادف الـمؤمن شيخاً مريضاً ذا حاجة جديراً بالاحترام فعليه القيام بـخدمته بهمة واخلاص، مادامت هنالك اخوة ايـمانية حقيقية وهذا مـما يقتضيه الإسلام.

الدواء الـخامس والعشرون

ايها الاخوان الـمرضى‍ اذا كنتم تشعرون بـحاجة الى علاج قدسي نافع جداً، والى دواءٍ لكل داء يـحوي لذة حقيقية، فـمدّوا ايـمانكم بالقوة واصقلوه، أي تناولوا بالتوبة والاستغفار والصلاة والعبادة العلاج القدسي الـمتمثل في الإيـمان.

نعم، ان الغافلين بسبب حبـّهم للدنيا والتعلق بها بشدة كأنهم قد اصبحوا يـملكون كياناً معنوياً عليلاً بـحجم الدنيا كلها، فيتقدم الإيـمان ويقدّم لـهذا الكيان العليل الـمكلوم بضربات الزوال والفراق، مرهم شفائه منقذاً إياه من تلك الـجروح والشروخ، وقد أبتنا في رسائل عدة بأن الإيـمان يهب شفاءً حقيقياً، وتـجنباً للاطالة أوجز قولي بـما يأتي:

ان علاج الإيـمان يتبين تأثيره بأداء الفرائض ومراعاة تنفيذها ما استطاع الانسان اليها سبيلاً، وان الغفلة والسفاهة وهوى النفس واللهو غير الـمشروع يبطل مفعول ذلك العلاج وتأثيره.

فما دام الـمرض يزيل الغشاوة، ويقطع دابر الاشتهاء، ويتمنع ولوج اللذات غير الـمشروعة، فاستفيدوا منه واستعملوا علاج الإيـمان الـحقيقي وانواره القدسية بالتوبة والاستغفار والدعاء والرجاء.. منـحكم الـحق تبارك وتعالى الشفاء ويـجعل من امراضكم مكفرات للذنوب.. آمين.. آمين.. آمين.

} وقَالُوا الـحـمدُ لله الذي هَدينا لـهذا وما كُنا لنهتَدي لولا أنْ هدينا الله لقد جَاءتْ رُسُل ربنا بالـحقَ { (الاعراف:43)

} سُبـحانَكَ لاَ عِلـم لَنَا إِلاّ ما عَلـمتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليـم الـحكيـم{ (البقرة:32)

اللهم صلّ على سيدنا مـحمد، طب القلوب ودوائها،

وعافية الابدان وشفائها،

ونور الابصار وضيائها،

وعلى آله وصحبه وسلم.

ذيل اللمعة الـخامسة والعشرين

وهو ((الـمكتوب السابع عشر)) ادرج ضمن الـمكتوبات
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-01-2011
  #22
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: اللمعات

اللمعة السادسة والعشرون

((رسالة الشيوخ))

((هذه اللمعة عبارة عن ستة وعشرين نور رجاء وضياء تسلٍ))(1).

تنبيه

ان السبب الذي دعاني الى تسجيل ما كنت اعانيه من آلام معنوية في مستهل كل رجاء بأسلوب مؤثر جداً الى حد يثير فيكم الألـم ايضاً، انـما هو لبيان مدى قوة مفعول العلاج الوارد من القرآن الـحكيم وشدة تأثيره الـخارق.

بيد ان هذه ((اللمعة)) التي تـخصّ الشيوخ لـم تـحافظ على حسن البيان، وجـمال الافادة لعدة اسباب:

اولـها: لأنها تـخص احداث حياتي الشخصية ووقائعها، فالذهاب عبر الـخيال الى تلك الازمنة، ومعايشة احداثها، ومن ثـم تناولـها بالكتابة بتلك الـحالة، سبـّب عدم الـمحافظة على الانتظام في البيان والتعبير.

ثانيها: اعترى البيان شيء من الاضطراب، لأن الكتابة كانت بعد صلاة الفجر، حيث كنت اشعر حينها بتعب وانهاك شديدين، فضلاً عن الاضطرار الى الاسراع في الكتابة.

ثالثها: لـم يكن لدينا متسع من الوقت للقيام بالتصحيح الكامل؛ فالكاتب الذي كان معي مرهق بشؤون ((رسائل النور)) وكثيراً ما كان يعتذر عن الـحضور مـما أفقد الـمضمون التناسق الـمطلوب.

رابعها: لـم نستطع الاّ الاكتفاء بالتصحيحات والتعديلات العابرة دون التوغل في اعماق الـمعاني؛ لـما كنا نـحسّ به من تعب ونصب عقب التأليف، فلا جرم ان رافق الـموضوع شيء من التقصير في التعبير والأداء.

لذا نهيب بالشيوخ الكرام أن ينظروا بعين الصفح والسماح الى قصوري في الاداء، وان يـجعلوني ضمن دعواتهم عندما يرفعون اكـّفهم متضرعين الى الله الرحـيم الذي لا يردّ دعوات الشيوخ الطيبين…





بِسْمِ اللهِ الـرَّحـمنِ الـرَّحيْمِ

} كهيعص ` ذِكـْرُ رَحأْمَتِ رَبـِّكَ عَبـْدَهُ زكريـّا ` إذْ نادى رَبـَّهُ نِداءً خَفِيـّاً ` قال ربّ إني وهَنَ العـَظمُ مِنـّي واشَتـَعَلَ الرَّأسُ شَيباً ولَمْ أكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيـّاً{ (مريـم:1-4)

(هذه اللمعة عبارة عن ستة وعشرين رجاء)

الرجاء الاول

يا من بلغتم سنّ الكمال، ايها الاخوة الشيوخ الاعزاء، ويا ايتها الاخوات العجائز الـمحترمات! انني مثلكم شيخ كبير، سأكتب لكم بعض مامرّ عليّ من احوال، وما وجدته بين حين وآخر من ابواب الامل، وبوارق الرجاء في عهد الشيخوخة، لعلكم تشاركونني في انوار السلوة الـمشعة من تلكم الرجايا والآمال. ان ما رأيته من الضياء، وما فتحه الله عليّ من ابواب النور والرجاء، انـّما شاهدته حسب استعدادي الناقص وقابلياتي الـمشوشة، وستجعل استعداداتكم الـخالصة الصافية – بإذن الله – ذلك الضياء اسطع وأبهر مـما رأيته، وذلكم الرجاء اقوى وامتن مـما وجدته.

ولاريب انّ منبع ماسنذكره من الاضواء ومصدر ما سنورده من الرجايا ما هو الاّ ((الإيـمان)).

الرجاء الثاني

حينما شارفت على الشيخوخة، وفي احد ايام الـخريف، وفي وقت العصر، نظرت الى الدنيا من فوق ذروة جبل، فشعرت فجأة حالة في غاية الرقة والـحزن مع ظلام يكتنفها، تدب في اعماقي.. رأيت نفسي: انني بلغت من العمر عتياً، والنهار قد غدا شيخاً، والسنة قد اكتهلت، والدنيا قد هرمت.. فهزّني هذا الهرم الذي يغشى كل شيء حولي هزّاً عنيفاً. فلقد دنا أوان فراق الدنيا، واوشك أوان فراق الاحباب ان يحلّ.. وبينما اتـململ يائساً حزيناً اذا بالرحـمة الإلـهية تنكشف امامي انكشافاً حوّل ذلك الـحزن الـمؤلـم الى فرحة قلبية مشرقة، وبدّل ذلك الفراق الـمؤلـم للاحباب الى عزاء يضىء جنبات النفس كلها.

نعم يا امثالي من الشيوخ! ان الله سبحانه وتعالى الذي يقدّم ذاته الـجليلة الينا، ويعرّفها لنا في اكثر من مائة موضع في القرآن الكريـم، بصفة ((الرحـمن الرحيم)).. والذي يرسل رحـمته بـما يسبغ على وجه الارض دوماً من النعم، مدداً وعوناً لـمن استرحـمه من ذوي الـحياة، والذي يبعث بهداياه من عالـم الغيب فيغمر الربيع كل سنة بنعم لاتعد ولاتـحصى، يبعثها الينا نـحن الـمحتاجين الى الرزق، مظهراً بها بـجلاء تـجليات رحـمته العميقة، وفق مراتب الضعف ودرجات العجز الكامنة فينا. فرحـمة خالقنا الرحيم هذه اعظمُ رجاءً، واكبر أملاً في عهد شيخوختنا هذه، بل هي اسطع نوراً لنا.

ان ادراك تلك الرحمة والظفر بها، انـّما يكون بالانتساب الى ذلك ((الرحـمن)) بالإيـمان، وبالطاعة له سبحانه باداء الفرائض والواجبات.

الرجاء الثالث

حينما أفقت على صبح الـمشيب، من نوم ليل الشباب، نظرت الى نفسي متأملاً فيها، فوجدتها كأنها تنحدر سعياً من علٍ الى سواء القبر، مثلما وصفها نيازي الـمصري(1):

بناء العمر يذوي حجراً إثر حجر غافلاً يغط الروح وبناؤه قد اندثر

فجسمي الذي هو مأوى روحي، بدأ يتداعى ويتساقط حجراً إثر حجر على مرّ الايام.. وآمالي التي كانت تشدّني بقوة الى الدنيا، بدأت اوثاقها تنفصم وتنقطع. فدب فيّ شعور بدنو وقت مفارقة من لايـحصى من الاحبة والاصدقاء، فاخذت ابـحث عن ضماد لـهذا الـجرح الـمعنوي الغائر، الغائر، الذي لا يرجى له دواء ناجع كما يبدو!. لـم استطع أن اعثر له على علاج، فقلت ايضاً كما قال نيازي الـمصري:

حكمة الاله تقضـي فناء الـجسد والقلــب تواق الـى الابـــــد

لـهف نفـســي من بلاء وكـمــد حار لـقمان في أيـجاد الضمد

وبينما كنت في هذه الـحالة اذا بنور الرسول الكريـم e الذي هو رحـمة الله على العالـمين، ومثالها الذي يعبـّر عنها، والداعي إليها، والناطق بها، واذا بشفاعته، وبـما أتاه من هداية الـهداية الى البشرية، يصبح يلسماً شافياً، ودواءاً ناجعاً لذلك الداء الوخيم الذي ظننته بلا دواء، ويبدل ذلك اليأس القاتـم الذي احاطني الى نور الرجاء الساط.

اجل، ايها الشيوخ وايتها العجائز الـموقرون، ويامن تشعرون كلكم بالشيخوية مثلي!. اننا راحلون ولامناص من ذلك.. ولن يُسمح لنا بالـمكوث هنا بـمخادعة النفس واغماض العين، فنحن مساقون الى الـمصير الـمحتوم. ولكن عالـم البرزخ، ليس هو كما يتراءى لنا بظلمات الاوهام الناشئة من الغفلة، وبـما قد يصوره اهل الضلالة، فليس هو بعالـم الفراق، ولا بعالـم مظلم بل هو مـجمع الأحباب، وعالـم اللقاء مع الاحبة والاخلاّء، وفي طليعتهم حبيب رب العالـمين وشفيعنا عنده يوم القيامة عليه افضل الصلاة والسلام.

نعم، ان مَن هو سلطان ثلاثـمائة وخـمسين مليوناً من الناس في كل عصر، عبر ألف وثلاثـمائة وخـمسين سنة وهو مربـّى ارواحهم، ومرشد عقولـهم، ومـحبوب قلوبهم، والذي يُرفع الى صحيفة حسناته يومياً امثال ما قدمت أمته من حسنات، اذ ((السبب كالفاعل)) والذي هو مدار الـمقاصد الربانية، ومـحور الغايات الإلـهية السامية في الكون، والذي هو السبب لرقي قيمة الـموجودات وسـمـّوها، ذلك الرسول الاكرم e ، فكما أنه قال في الدقائق الاولى التي تشرّف العالـم به ((امتي.. امتي..)) كما ورد في الروايات الصحيحة والكشفيات الصادقة، فانه e يقول في الـمحشر ايضاً: ((امتي.. امتي..)) ويسعى بشفاعته الى امداد امته واغاثتها باعظم رحـمة واسـماها واقدسها واعلاها، في الوقت الذي يقول كلّ فرد من الـجموع العظيمة: ((نفسي.. نفسي)). فنـحن اذن ذاهبون الى العالـم الذي ارتـحل اليه هذا النبي الكريـم، راحلون الى العالـم الذي استنار بنور ذلك السراج الـمنير وبـمن حوله من نـجوم الاصفياء والاولياء الذين لايـحصرهم العد.

نعم، ان اتباع السنة الشريفة لـهذا النبي الكريـم e هو الذي يقود الى الانضواء تـحت لواء شفاعته والاقتباس من انواره، والنـجاة من ظلمات البرزخ.

الرجاء الرابع

حينما وطأت قدماي عتبة الشيخوخة، كانت صحتي الـجسدية التي ترخي عنان الغفلة وتـمدّها قد اعتلـّت ايضاً فاتفقت الشيخوخة والـمرض معاً على شن الـجوم عليّ، ومازالا يكيلان على راسي الضربات تلو الضربات حتى أذهبا نوم الغفلة عنـّي. ولـم يكن لي ثـمة ما يربطني بالدنيا من مال وبنين وما شابههما، فوجدت ان عصارة عمري الذي اضعته بغفلة الشباب، انـما هي آثام وذنوب، فاستغثتُ صائحاً مثلـما صاح نيازي الـمصري:

ذهب العُمر هباءً، لـم أفز فيه بشيء

ولقد جئت اسير الدرب، لكنْ

رحل الرّكبُ بعيداً

وبقيتْ

ذلك النائي الغريب

وبكيتْ

همتُ وحدي تائهاً اطوي الطريق

وبعينيّ ينابيع الدموع

وبصدري حرقة الشوق

حار عقلي..!

كنت حينها في غربة مضنية، فشعرت بحزن يائس، واسف نادم، وحسرة ملتاعة على ما فات من العمر. صرخت من اعماقي اطلب امداد العون، وضياء الرجاء.. واذا بالقرآن الـحكيم الـمعجز البيان يـمدّني، ويسعفني، ويفتح امامي باب رجاء عظيم، ويـمنحني نوراً ساطعاً من الامل والرجاء يستطيع ان يزيل اضعاف اضعاف يأسي، ويـمكنه ان يبدد تلك الظلمات القاتـمة من حولي.

نعم، ايها الشيوخ وايتها العجائز الـمحترمون، يامَن بدأت اوثاق صلتهم بالانفصام عن الدنيا مثلي! ان الصانع ذا الـجلال الذي خلق هذه الدنيا كأكمل مدينة وأنظمها، حتى كأنها قصر منيف، هل يـمكن لـهذا الـخالق الكريـم الاّ يتكلم مع احبائه واكرم ضيوفه في هذه الـمدينة او في هذا القصر؟ وهل يـمكن الاّ يقابلهم؟!!

فما دام قد خلق هذا القصر الشامخ بعلم، ونظمه بارادة، وزيـّنه باختيار، فلابد انه يتكلم؛ اذ كما ان الباني يعلم، فالعالـم يتكلم. وما دام قد جعل هذا القصر دار ضيافة جـميلة بهيجة، وهذه الـمدينة متجراً رائعاً، فلابد ان يكون له كتب وصحف يبين فيها مايريده منا، ويوضح علاقاته معنا.

ولاشك ان اكمل كتاب من تلك الكتب الـمقدسة التي انزلـها، انـما هو القرآن الـحكيم الـعجز، الذي ثبت اعجازه بأربعين وجهاً من وجوه الاعـجاز، والذي يتلى في كل دقيقة بألسنة مائة مليون شخص في الاقل، والذي ينشر النور ويـهدي السبيل. والذي في كل حرف من حروفه عشر حسنات، وعشر مثوبات في الاقل، واحياناً عشرة آلاف حسنة، بل ثلاثين ألف حسنة، كما في ليلة القدر. وهكذا يـمنح من ثـمار الـجنة ونور البرزخ ما شاء الله ان يـمنح. فهل في الكون اجـمع كتاب يناظره في هذا الـمقام، وهل يـمكن ان يدّعي ذلك احد قط؟

فـما دام هذا القرآن الكريـم الذي بين ايدينا هو كلام رب العالـمين، وهو أمره الـمبلـّغ الينا، وهو منبع رحـمته التي وسعت كل شيء، وهو صادر من خالق السـموات والارض ذي الـجلال، من جهة ربوبيته الـمطلقة، ومن جهة عظمة ألوهيته، ومن جانب رحـمته الـمحيطة الواسعة، فاستمسك به واعتصم، ففيه دواء لكل داء، ونور لكل ظلام، ورجاء لكل يأس.. وما مفتاح هذه الـخزينة الابدية الاّ الإيـمان والتسليم، والاستماع اليه، والانقياد له، والاستمتاع بتلاوته.

الرجاء الـخامس

في بداية شيخوختي ومستهلها، ورغبة منـّي في الانزواء والاعتزال عن الناس، بـحثَت روحي عن راحة في الوحدة والعزلة على تل ((يوشع)) الـمطل على البسفور. فلما كنت – ذات يوم – اسرح بنظري الى الافق من على ذلك التل الـمرتفعـ رأيت بنذير الشيخوخة لوحة من لوحات الزوال والفراق تتقطر حزناً ورقة، حيث جُلتُ بنظري من قمة شـجرة عمري، من الغصن الـخامس والاربعين منها، الى ان انتهيت الى اعماق الطبقات السفلى لـحياتي، فرأيت ان في كل غصن من تلك الاغصان الكائنة هناك ضمن كل سنة، جنائز لاتـحصر من جنائز احبائي واصدقائي وكل مَن له علاقة معي. فتأثرت بالغ التأثر من فراق الاحباب وافتراقهم، وترنـمت بأنين ((فضولي البغدادي))(1) عند مفارقته الاحباب قائلاً:

كلــما حــنَّ الوصـال عَذبٌ دمعي مادام الشهيق

لقد بـحثتُ من خلال تلك الـحسرات الغائرة عن باب رجاء، وعن نافذة نور، أسلـّى بها نفسي. فاذا بنور الإيـمان بالاخرة يغيثني ويـمدّني بنور باهر. انه منحني نوراً لاينطفىء ابداً، ورجاءً لا يـخيب مطلقاً.

اجل يا اخواني الشيوخ ويا اخواتي العجائز! مادامت الآخرة موجودة، ومادامت هي باقية خالدة، ومادامت هي اجـمل من الدنيا، ومادام الذي خلقنا حكيماً ورحيماً؛ فما علينا اذاً إلاّ عدم الشكوى من الشيخوخة، وعدم التضجر منها؛ ذلك لان الشيخوخة الـمشرّبة بالإيـمان والعبادة، والـموصلة الى سنّ الكمال، ماهي الاّ علامة انتهاء واجبات الـحياة ووظائفها، واشارة ارتـحال الى عالـم الرحـمة للخلود الى الراحة. فلابدّ اذن من الرضا بها اشدّ الرضا.

نعم ان اخبار مائة واربعة وعشرين ألفاً من الـمصطفين الاخيار وهم الانبياء والـمرسلون(2) عليهم الصلاة والسلام – كما نص عليه الـحديث – اخباراً بالاجـماع والتواتر مستندين الى الشهود عند بعضهم والى حق اليقين عند آخرين، عن وجود الدار الآخرة، واعلانهم بالاجـماع ان الناس سيساقون اليها، وان الـخالق سبحانه وتعالى سيأتي بالدار الآخرة بلا ريب، مثلما وعد بذلك وعداً قاطعاً.

وان تصديق مائة واربعة وعشرين مليوناً من الاولياء كشفاً وشهوداً ما اخبر به هؤلاء الانبياء عليهم السلام، وشهادتهم على وجود الآخرة بعلم اليقين، دليل قاطع وايّ دليل على وجود الآخرة.

وكذا، فان تـجليات جـميع الاسـماء الـحسنى لـخالق الكون الـمتجلـّية في ارجاء العالـم كله، تقتضي بالبداهة وجود عالـم آخر خالد، وتدل دلالة واضحة على وجود الآخرة.

وكذا القدرة الإلـهية وحكمتها الـمطلقة، التي لا اسراف فيها ولا عبث، والتي تـحيي جنائز الاشـجار الـميتة وهياكلها الـمنتصبة، تـحييها وهي لاتعد ولاتـحصى على سطع الارض في كل ربيع، وفي كل سنة، بأمر ((كن فيكون)) وتـجعلها علامة على ((البعث بعد الـموت)) فتحشر ثلاثـمائة ألف نوع من طوائف النباتات وأمـم الـحيوانات وتنشرها، مظهرةً بذلك مئات الالوف من نـماذج الـحشر والنشور ودلائل وجود الآخرة.

وكذا الرحـمة الواسعة التي تديـم حياة جـميع ذوي الارواح الـمحتاجة الى الرزق، وتعيـّشها بكنال الرأفة عيشة خارقة للغاية. والعناية الدائمة التي تظهر انواع الزينة والـمحاسن بـما لا يُعد ولايـحصى، في فترة قصيرة جداً في كل ربيع. لاشك انهما تستلزمان وجود الآخرة بداهة.

وكذا عشق البقاء، والشوق الى الابدية وآمال السرمدية الـمغروزة غرزاً لا انفصام لـها في فطرة هذا الانسان الذي هو اكمل ثـمرة لـهذا الكون، واحب مـخلوق الى خالق الكون، وهو اوئق صلة مع موجودات الكون كله، لاشك انه يشير بالبداهة الى وجود عالـم باقٍ بعد هذا العالـم الفاني، والى وجود عالـم الآخرة ودار السعادة الابدية.

فـجميع هذه الدلائل تثبت بقطعية تامة – الى حدّ يستلزم القبول – وجود الآخرة بـمثل بداهة وجود الدنيا(1).

فما دام أهم درس يلقننا القرآن أيـّاه هو ((الإيـمان بالآخرة)) وهذا الدرس رصين ومتين الى هذه الدرجة، وفي ذلك الإيـمان نور باهر ورجاء شديد وسلوان عظيم مالو اجتمعت مائة الف شيخوخة في شخص واحد لكفاها ذلك النور، وذلك الرجاء وذلك السوان النابع من هذا الإيـمان؛ لذا علينا نـحن الشيوخ ان نفرح بشيخوختنا ونبتهج قائلين: ((الـحمد لله على كمال الإيـمان)).

الرجاء السادس

حينما كنت في منفاي ذلك الاسر الاليم بقيت وحدي منفرداً منعزلاً عن الناس على قمة جبل ((جام)) الـمطلة على مراعي ((بارلا)).. كنت ابـحث عن نور في تلك العزلة. وذات ليلة، في تلك الغرفة الصغيرة غير الـمسقفة، الـمنصوبة على شجرة صنوبر عالية على قمة ذلك الـمرتفع، اذا بشيخوختي تشعرني بألوان وانواع من الغربة الـمتداخلة – كما جاء ذلك في الـمكتوب السادس بوضوح – ففي سكون تلك الليلة حيث لا اثر ولا صوت سوى ذلك الصدى الـحزين لـحفيف الاشجار وهمهمتها.. احسست بأن ذلك الصدى الاليم قد اصاب صميم مشاعري، ومس اعماق شيخوختي وغربتي، فهمّست الشيخوخةُ في اذني منذرةً:

ان النهار قد تبدل الى هذا القبر الـحالك، ولبست الدنيا كفنها الاسود، فسوف يتبدل نهار عمرك الى ليل، وسف ينقلب نهار الدنيا الى ليل البرزخ، وسوف يتحول نهار صيف الـحياة الى ليل شتاء الـموت.

فأجابتها نفسي على مضض:

نعم، كما انني غريبة هنا عن بلدتي ونائية عن موطني، فان مفارقتي لاحبائي الكثيرين خلالا عمري الذي ناهز الـخمسين ولا املك سوى تذراف الدموع وراءهم هي غربة تفوق غربتي عن موطني.. واني لأشعر في هذه الليلة غربة اكثر حزناً واشد ألـماً من غربتي على هذا الـجبل الذي توشح بالغربة والـحزن، فشيخوختي تنذرني بدنوي من موعد فراق نهائي عن الدنيا وما فيها، ففي هذه الغربة الـمكتنفة بالـحزن، ومن خلال هذا الـحزن الذي يـمازجه الـحزن، بدأتُ ابحث عن نور، وعن قبس امل، وعن باب رجاء، وسرعان ما جاء ((الإيـمان بالله)) لـنجدتي ولشد ازري، ومنحني أنساً عظيماً بـحيث لو تضاعفت آلامي ووحشتي اضعافاً مشاعفة لكان ذلك الانس كافياً لإزالتها.

نعم، ايها الشيوخ، ويا ايتها العجائز!.. فـما دام لنا خالق رحيم، فلا غربة لنا اذاً ابداً.. ومادام سبحانه موجوداً فكل شيء لنا موجود اذاً، ومادام هو موجوداً وملائكته موجودة. فهذه الدنيا إذن ليست خالية لا أنيس فيها ولاحسيس، وهذه الـجبال الـخاوية، وتلك السحارى الـمقفرة كلها عامرة ومأهولة بعبادة الله الـمكرمين، بالـملائكة الكرام. نعم، ان نور الإيـمان بالله سبحانه، والنظرة الى الكون لاجله، يـجعل الاشجار بل حتى الاحجار كأنها اصدقاء مؤنسون فضلاً عن ذوي الشعور من عباده، حيث يـمكن لتلك الـموجودات ان تتكلم معنا – بلسان الـحال – بـما يسلينا ويروّح عنا.

نعم، ان الدلائل على وجوده سبحانه بعدد موجودات هذا الكون، وبعدد حروف كتاب العالـم الكبير هذا، وهناك دلائل وشواهد على رحـمته بعدد اجهزة ذوي الارواح وما خصهم من نِعَمه ومطعوماته التي هي مـحور الشفقة والرحـمة والعناية، فجميعها تدل على باب خالقنا الرحيم والكريـم، وصانعنا الانيس، وحامينا الودود، ولاشك ان العجز والضعف هما ارجى شفيعين عند ذلك الباب السامي. وان عهد الشيب أوانهما، ووقت ظهورهما، فعلينا إذن ان نوّد الشيخوخة، وان نـحبها، لا ان نعرض عنها؛ اذ هي شفيع مرتـجى امام ذلك الباب الرفيع.

الرجاء السابع

حينما تبدلت نشوة ((سعيد القديـم)) وابتساماته الى نـحيب ((سعيد الـجديد)) وبكائه، وذلك في بداية الـمشيب، دعاني ارباب الدنيا في ((انقرة)) اليها، ظناً منهم انني ((سعيد القديـم)) فاستجبت للدعوة.

ففي ذات يوم من الايام الاخيرة للخريف، صعدت الى قمـّة قلعة انقرة، التي اصابها الكبر والبلى اكثر مني، فتمثـلـّت تلك القلعة امامي كأنها حوادث تأريـخية متحجرة، واعتراني حزن شديد واسى عميق من شيب السنة في موسم الـخريف، ومن شيبي انا، ومن هرم القلعة، ومن هرم البشرية ومن شيخوخة الدولة العثمانية العلية، ومن وفاة سلطنة الـخلافة، ومن شيخوخة الدنيا، فاضطرتني تلك الـحالة الى النظر من ذروة تلك القلعة الـمرتفعة الى اودية الـماضي وشواهق الـمستقبل، أنقب عن نور، وابـحث عن رجاء وعزاء ينير ما كنت أحسّ به من اكثف الظلمات التي غشيت روحي هناك وهي غارقة في ليل هذا الهرم الـمتداخل الـمحيط(1).

فـحينما نظرت الى اليـمين الذي هو الـماضي باحثاً عن نور ورجاء، بدت لي تلك الـجهة من بعيد على هيئة مقبرة كبرى لأبي واجدادي والنوع الانساني، فأوحشتني بدلاً من ان تسلـّيني.

ثم نظرت الى يسار الذي هو الـمستقبل مفتشاً عن الدواء، فتراءى لي على صورة مقبرة كبرى مظلمة لي ولأمثالي وللجيل القابل، فأدهشني عوضا من ان يؤنسني.

ثـم نظرت الى زمني الـحاضر بعد ان امتلأ قلبي بالوحشة من اليمين واليسار، فبدا ذلك اليوم لنظري الـحسير ونظرتي التأريـخية على شكل نعش لـجنازة جسمي الـمضطرب كالـمذبوح بين الـموت والـحياة.

فلما يئست من هذه الـجهة ايضاً، رفعت رأسي ونظرت الى قمة شـجرة عمري، فرأيت ان على تلك الشجرة ثـمرة واحدة فقط، وهي تنظر اليّ، تلك هي جنازتي، فطأطأت رأسي ناظراً الى جذور شجرة عمري، فرأيت ان التراب الذي هناك ما هو الاّ رميم عظامي، وتراب مبدأ خلقتي قد اختلطا معاً وامتزجا، وهما يُداسان تـحت الاقدام، فأضافا الى دائي داء من دون ان يـمنحاني دواءً.

ثـم حوّاتُ نظري على مضض الى ما ورائي، فرأيت ان هذه الدنيا الفانية الزائلة تتدحرج في اودية العبث وتنحدر في ظلمات العدم، فسكبتْ هذه النظرة السمَّ على جروحي بدلاً من ان تواسيها بالـمرهم والعلاج الشافي.

ولـما لـم أجد في تلك الـجهة خيراً ولا أملاً، ولـّيت وجهي شطر الامام ورنوت بنظري بعيداً، فرأيت ان القبر واقف لي بالـمرصاد على قارعة الطريق، فاغراً فاه، يـحدق بي، وخلفه الصراط الـممتد الى حيث الابد، وتتراءى القوافل البشرية السائرة على ذلك الصراط من بعيد. وليس لي من نقطة استناد امام هذه الـمصائب الـمدهشة التي تأتيني من الـجهات الست، ولا املك سلاحاً يدفع عني غير جزء ضئيل من الارادة الـجزئية. فليس لي اذن امام كل اولئك الاعداء الذين لا حصر لـهم، والاشياء الـمضرة غير الـمحصورة، سوى السلاح الانساني الوحيد وهو الـجزء الاختياري. ولكن لـما كان هذا السلاح ناقصاً وقاصراً وعاجزاً، ولا قوة له على ايـجاد شيء، وليس في طوقه الاً الكسب فحسب، حيث لا يستطيع ان يـمضي الى الزمان الـماضي ويذبّ عني الاحزان ويسكتها، ولايـمكنه ان ينطلق الى الـمستقبل حتى يـمنع عنّي الاهوال والـمخاوف الواردة منه، أيقنت الاّ جدوى منه فيما يـحيط بي من آلام وآمال الـماضي والـمستقبل.

وفيما كنت مضطرباً وسط الـجهات الست تتولى عليّ منها صنوف الوحشة والدهشة واليأس والظلمة، اذ بأنوار الإيـمان الـمتألقة في وجه القرآن الـمعجز البيان، تـمدني وتضيء تلك الـجهات الست وتنورها بانوار باهرة ساطعة ما لو تضاعف ما انتابني من صنوف الوحشة وانواع الظلمات مائة مرة، لكانت تلك الانوار كافية ووافية لإحاطتها.

فبدّلت – تلك الانوار – السلسلة الطويلة من الوحشة الى سلوان ورجاء، وحولـّت كل الـمخاوف الى انس القلب، وامل الروح الواحدة تلو الاخرى.

نعم، ان الإيـمان قد مزق تلك الصورة الرهيبة للماضي وهي كالـمقبرة الكبرى، وحوّلـها الى مـجلس منوّر أنوس والى ملتقى الاحباب، وأظهر ذلك بعين اليقين وحق اليقين…

ثـم ان الإيـمان قد أظهر بعلم اليقين ان الـمستقبل الذي يتراءى لنا بنظر الغفلة، كقبر واسع كبير ما هو الاّ مـجلس ضيافة رحـمانية اعدّت في قصور السعادة الـخالدة.

ثـم ان الإيـمان قد حطـّم صورة التابوت والنعش للزمن الـحاضر التي تبدو هكذا بنظر الغفلة، واشهدني ان اليوم الـحاضر انـما هو متجر اخروي، ودار ضيافة رائعة للرحـمن.

ثم ان الإيـمان قد بصـّرني بعلم اليقين ان ما يبدو بنظر الغفلة من الثمرة الوحيدة التي هي فوق شـجرة العمر على شكل نعش وجنازة. انها ليست كذلك، وانـما هي انطلاق لروحي – التي هي اهل للـحياة الابدية ومرشحة للسعادة الابدية – من وكرها القديـم الى حيث آفاق النـجوم للسياحة والارتياد.

ثـم ان الإيـمان قد بيـّن باسراره؛ ان عظامي ورميمها وتراب بداية خلقتي، ليسا عظاماً حقيرة فانية تداس تـحت الاقدام، وانـما ذلك التراب باب للرحـمة، وستار لسرادق الـجنة.

ثم ان الإيـمان أراني بفضل اسرار القرآن الكريـم ان احوال الدنيا واوضاعها الـمنهارة في ظلمات العدم بنظر الغفلة، لا تتدحرج هكذا في غياهب العدم – كما ظنّ في بادىء الامر – بل انها نوع من رسائل ربانية ومكاتيب صمدانية، وصحائف نقوش للاسـماء السبحانية قد اتـّمت مهامها، وأفادت معانيها، واخلفت عنها نتائجها في الوجود، فأعلمني الإيـمان بذلك ماهية الدنيا علم اليقين.

ثم ان الإيـمان قد اوضح لي بنور القرآن ان ذلك القبر الذي احدق بي ناظراً ومنتظراً ليس هو بفوهة بئر، وانـما هو باب لعالـم النور. وان ذلك الطريق الـمؤدي الى الابد ليس طريقاً مـمتداً ومنتهياً بالظلمات والعدم، بل انه سبيل سوي الى عالـم النور، وعالـم الوجود وعالـم السعادة الـخالدة.. وهكذا اصبحت هذه الاحوال دواء لدائي، ومرهماً له، حيث قد بدت واضحة جلية فأقنعتني قناعة تامة.

ثـم، ان الإيـمان يـمنح ذلك الـجزء الضئيل من – الـجزء الاختياري – الذي يـملك كسباً جزئياً للغاية، وثيقة يستند بها الى قدرة مطلقة، وينتسب بها الى رحـمة واسعة، ضد تلك الكثرة الكاثرة من الاعداء والظلمات الـمحيطة، بل ان الإيـمان نفسه يكون وثيقة بيد الـجزء الاختياري. ثـم ان هذا الـجزء الاختياري الذي هو السلاح الانساني، وان كان في حد ذاته ناقصاً عاجزاً قاصراً، الاّ أنه اذا استعمل باسم الـحق سبحانه، وبذل في سبيله، ولاجله، يـمكن ان ينال به – بـمقتضى الإيـمان – جنة ابدية بسعة خـمسمائة سنة. مَثَلُ الـمؤمن في ذلك مثل الـجندي اذا استعمل قوته الـجزئية باسم الدولة فانه يسهل له ان يؤدي اعمالاً تفوق قوته الشخصية بألوف الـمرات.

وكما ان الإيـمان يـمنح الـجزء الاختياري وثيقة، فانه يسلب زمامه من قبضة الـجسم الذي لايستطيع النفوذ في الـماضي ولا في الـمستقبل، ويسلمه الى القلب والروح، ولعدم انـحصار دائرة حياة الروح والقلب في الزمن الـحاضر كما هو في الـجسد، ولدخول سنوات عدة من الماضي وسنوات مثلها من الـمستقبل في دائرة تلك الـحياة، فان ذلك الـجزء الاختياري ينطلق من الـجزئية مكتسباً الكلية. فكما انه يدخل بقوة الإيـمان في اعمق اودية الـماضي مبدداً ظلمات الاحزان، كذلك يصعد مـحلقاً بنور الإيـمان الى ابعد شواهق الـمستقبل مزيلاً اهواله ومـخاوفه.

فيا ايها الاخوان الشيوخ، ويا ايتها الاخوات العجائز، ويا من تتألـمون مثلي من تعب الـمشيب! ما دمنا والـحمد لله من اهل الإيـمان، والإيمان فيه خزائن حلوة نيرة لذيذة مـحبوبة الى هذا الـحد، وان شيبنا يدفعنا الى هذه الـخزائن دفعاً اكثر، فليس لنا التشكي من الشيخوخة اذاً، بل يـجب علينا ان نقدم ألف شكر وشكر الى الله عزّ وجلّ، وان نـحمده تعالى على شيبنا الـمنوّر بالإيـمان.

الرجاء الثامن

حينما خالط بعض شعرات رأسي البياض الذي هو علامة الشيخوخة، وكانت اهوال الـحرب العالـمية الاولى وما خلفه الاسر لدى الروس من آثار عميقة في حياتي عمـّقت فيّ نوم غفلة الشباب. وتلا ذلك استقبال رائع عند عودتي من الاسر الى استانبول، سواء من قبل الـخليفة او شيخ الإسلام، او القائد العام، او من قبل طلبة العلوم الشرعية، وما قوبلت به من تكريـم وحفاوة اكثر مـما استحق بكثير.. كل ذلك ولـّد عندي حالة روحية فضلاً عن سكرة الشباب وغفلته، وعمـّقتْ فيّ ذلك النوم اكثر، حتى تصورت معها ان الدنيا دائمة باقية، ورأيت نفسي في حالة عجيبة من الالتصاق بالدنيا كأنني لا أموت.

ففي هذا الوقت، ذهبت الى جامع بايزيد في استانبول، وذلك في شهر رمضان الـمبارك لأستمع للقرآن الكريـم من الـحفاظ الـمخلصين، فاستمعت من لسان اولئك الـحفاظ ما اعلنه القرآن الـمعجز بقوة وشدة، خطابه السماوي الرفيع في موت الانسان وزواله، ووفاة ذوي الـحياة وموتهم، وذلك بنص الآية الكريـمة:

} كُلُّ نَفس ذائِقةُ الموْت { (آل عمران:185).

نفذ هذا الاعلان الداوي صماخ أذني مـخترقاً ومـمزقاً طبقات النوم والغفلة والسكرة الكثيفة الغليظة حتى استقر في اعماق اعماق قلبي.

خرجت من الـجامع، رايت نفسي لبضعة ايام، كأن اعصاراً هائلاً يضطرم في رأسي بـما بقي من آثار ذلك النوم الـمستقر فيّ منذ امد طويل، ورأيتني كالسفينة التائهة بين أمواج البـحر الـمضطربة البوصلة. كانت نفسي تتأجج بنار ذات دخان كثيف.. وكلما كنت انظر الى الـمرآة، كانت تلك الشعرات البيضاء تـخاطبني قائلة: انتبه!!!.

نعم ان الامور توضحت عندي بظهور تلك الشعرات البيضاء وتذكيرها إياي، حيث شاهدت ان الشباب الذي كنت أغتر به كثيراً، بل كنت مفتوناً باذواقه يقول لي: الوداع! وان الـحياة الدنيا التي كنت ارتبط بـحبها بدأت بالانطفاء رويداً رويداً، وبدت لي الدنيا التي كنت اتشبث بها، بل كنت مشتاقاً اليها وعاشقاً لـها، رأيتها تقول لي: الوداع!! الوداع!! مشعرة اياي، بانني سأرحل من دار الضيافة هذه، وسأغادرها عما قريب. ورأيتها – أي الدنيا – هي الاخرى تقول: الوداع، وتتهيأ للرحيل. وانفتح الى القلب من كلية هذه الآية الكريـمة } كُلُّ نَفس ذائِقةُ الموْت { (آل عمران:185) ومن شـموليتها، ذلك الـمعنى الذي يتضمنها وهو:

ان البشرية قاطبة انـما هي كالنفس الواحدة، فلابد انها ستموت كي تبعث من جديد، وان الكرة الارضية كذلك نفسٌ فلابد انها سوف تـموت ويصيبها البوار كي تتخذ هيأة البقاء وصورة الـخلود، وان الدنيا هي الاخرى نفسٌ وسوف تـموت وتنقضي كي تتشكل بصورة (آخرة).

فكرت فيما أنا فيه؛ فرأيت:

أن الشباب الذي هو مدار الاذواق واللذائذ، ذاهب نـحو الزوال، تارك مكانه للشيخوخة التي هي منشأ الاحزان. وان الـحياة الساطعة الباهرة لفي ارتـحال، ويتهيأ الـموت الـمظلم الـمخيف – ظاهراً – لـيحل مـحلها.

ورأيت الدنيا التي هي مـحبوبة وحلوة ومعشوقة الغفاة وتُظن انها دائمة، رأيتها تـجري مسرعة الى الفناء. ولكي انغمس في الغفلة واخادع نفسي ولـّيت نظري شطر اذواق الـمنزلة الاجتماعية ومقامها الرفي الذي حظيت به في استانبول والذي خُدعت به نفسي وهو فوق حدى وطوقي من حفاوة واكرام وسلوان واقبال واعجاب.. فرأيت أن جـميعها لا تصاحبني الاّ الى حد باب القبر القريب مني، وعنده تنطفىء.

ورأيت أن رياءً ثقيلاً، وأثرة باردة وغفلة مؤقتة، تكمن تـحت الستار الـمزركش للسمعة والصيت، التي هي الـمثل الاعلى لارباب الشهرة وعشاقها، ففهمت ان هذه الامور التي خدعتني حتى الآن لن تـمنحني أي سلوان، ولا يـمكن ان اتلمس فيها أي قبس من نور.

ولكي استيقظ من غفلتي مرة اخرى وانتبه منها نهائياً، بدأت بالاستماع كذلك لأولئك الـحفاظ الكرام في ((جامع بايزيد)) لأتلقى الدرس السماوي للقرآن الكريـم.. وعندها سمعت بشارات ذلك الارشاد السماوي من خلال الاوامر الربانية الـمقدسة في قوله تعالى:

} وبـَشـِّر الذين آمنوا… { (البقرة:25).

وبالفيض الذي اخذته من القرآن الكريـم تـحريت عن السلوة والرجاء والنور في تلك الامور التي ادهشتني وحيـّرتني في يأس ووحشة، دون البحث عنها في غيرها من الامور. فألف شكر وشكر للـخالق الكريم على ما وفقني لان أجد الدواء في الداء نفسه، وأن أرى النور في الظلمة نفسها، وان اشعر بالسلوان في الالـم والرعب ذاتهما.

فنظرت اول ما نظرت الى ذلك الوجه الذي يُرعب الـجميع ويُتوهم أنه مخيف جداً.. وهو وجه ((الـموت)) فوجدت بنور القرآن الكريم، ان الوجه الـحقيقي للـموت بالنسبة للمؤمن صبوح منور، على الرغم من ان حجابة مظلم والستر الذي يخفيه يكتنفه السواد القبيح الـمرعب. وقد اثبتنا واوضحنا هذه الـحقيقة بصورة قاطعة في كثير من الرسائل وبـخاصة في ((الكلمة الثامنة)) و ((الـمكتوب العشرين)) من ان الـموت: ليس اعداماً نهائياً، ولا هو فراقاً ابدياً، وانـما مقدمة وتـمهيد للحياة الابدية وبداية لـها. وهو إنهاء لأعباء مهمة الـحياة ووظائفها ورخصة منها وراحة واعفاء، وهو تبديل مكان بـمكان، وهو وصال ولقاء مع قافلة الاحباب الذين ارتـحلوا الى عالـم البرزخ.. وهكذا، بـمثل هذه الـحقائق شاهدت وجه الـموت الـمليح الصبوح. فلا غرو لـم انظر اليه خائفاً وجلاً، وانـما نظرت اليه بشيء من الاشتياق – من جهة – وعرفت في حينها سراً من اسرار ((رابطة الـموت)) التي يزاولـها اهل الطرق الصوفية.

ثم تأملت في ((عهد الشباب)) فرأيت أنه يُحزن الـجميع بزواله، ويـجعل الكل يشتاقون اليه وينبهرون به، وهو الذي يـمر بالغفلة والآثام، وقد مرّ شبابي هكذا! فرأيت أن ثـمة وجهاً دميماً جداً بل مسكراً ومـحيراً تـحت الـحلة القشيبة الفضفاضة الـملقاة عليه، فلو لـم اكن مدركاً كنهه لكان يبكيني ويـحزنني طوال حياتي الدنيا، حتى لو عمرت مائة سنة حيال بضع سنين تـمضي بشنوة وابتسامة، كما قال الشاعر الباكي على شبابه بـحسرة مريرة:

ألا ليت الشبابَ يعود يوماً فأُخبره بـما فعلَ الـمشيبُ

نعم ان الذين لـم يتبينوا سر الشباب وماهيته من الشيوخ يقضون شيخوختهم بالـحسرة والنـحيب على عهد شبابهم كهذا الشاعر. والـحال ان فتوة الشباب ونضارته اذا ما حلت في الـمؤمن الـمطمئن الـحصيف ذي القلب الساكن الوقور، واذا ما صُرفت طاقة الشباب وقوته الى العبادة والاعمال الصالـحة والتـجارة الاخروية، فانها تصبح اعظم قوة للخير وتغدو افضل وسيلة للتجارة، واجمل وساطة للحسنات بل ألذها.

نعم، ان عهد الشباب نفيس حقاً وثـمين جداً، وهو نعمة إلـهية عظمى، ونشوة لذيذة لـمن عرف واجبه الإسلامي ولـمن لـم يسىء استعماله. ولكن الشباب ان لـم تصحبه الاستقامة، ولـم ترافقه العفة والتقوى، فدونه الـمهالك الوبيلة، اذ يصدّع طيشه ونزواته سعادة صاحبه الابدية، وحياته الاخروية، وربـما يـحطم حياته الدنيا ايضاً. فيجرعه الآلام غصصاً طوال فترة الهرم والشيخوخة لـما أخذه في بضع سنين من اذواق ولذائذ.

ولـما كان عهد الشباب لا يـخلو من الضرر عند اغلب الناس، فعلينا اذن نـحن الشيوخ ان نشكر الله شكراً كثيراً على ما نـجّانا من مهالك الشباب واضراره. هذا وان لذات الشباب زائلة لا مـحالة، كما تزول جـميع الاشياء. فلئن صُرف عهد الشباب للعبادة، وبذل للخير والصلاح لكان دونه ثـماره الباقية الدائمة، وعنده وسيلة الفوز بشباب دائم وخالد في حياة ابدية.

ثـم نظرت الى ((الدنيا)) التي عشقها اكثر الناس، وابتلوا بها. فرأيت بنور القرآن الكريم ان هناك ثلاث دنىً كلية قد تداخل بعضها في البعض الآخر:

الاولى: هي الدنيا الـمتوجهة الى الاسـماء الإلـهية الـحسنى، فهي مرآة لـها.

الثانية: هي الدنيا الـمتوجهة نـحو الآخرة، فهي مزرعتها.

الثالثة: هي الدنيا الـمتوجهة الى ارباب الدنيا واهل الضلالة، فهي لعبة اهل الغفلة ولهوهم.

ورأيت كذلك ان لكل احد في هذه الدنيا دنيا عظيمة خاصة به، فهناك اذن دنىً متداخلة بعدد البشر. غير ان دنيا كل شخص قائمة على حياته الشخصية، فمتى ما ينهار جسم شخص فإن دنياه تتهدم وقيامته تقوم. وحيث ان الغافلين لايدركون انهدام دنياهم الـخاصة بهذه السرعة الـخاطفة؛ فهم يفتنون بها، ويظنونها كالدنيا العامة الـمستقرة من حولـهم.

فتأملت قائلاً: لاشك أن لي ايضاً دنيا خاصة – كدنيا غيري – تتهدم بسرعة – فما فائدة هذه الدنيا الـخاصة اذن في عمري القصير جداً؟!.. فرأيت بنور القرآن الكريم ان هذه الدنيا – بالنسبة لي ولغيري – ما هي الاّ متجر مؤقت، ودار ضيافة تـملأ كل يوم وتـخلى، وهي سوق مقامة على الطريق لتجارة الغادين والرائحين، وهي كتاب مفتوح يتجدد للبارىء الـمصور، فيمحو فيه ما يشاء ويثبته بـحكمة. وكل ربيع فيها رسالة مرصعة مذهـّبة، وكل صيف فيها قصيدة منظومة رائعة، وهي مرايا تتجدد مظهرة تـجليات الاسـماء الـحسنى للصانع الـجليل، وهي مزرعة لغراس الآخرة وحديقتها، وهي مزهرة الرحـمة الإلـهية، وهي مصنع موقت لتجهيز اللوحات الربانية الـخالدة التي ستظهر في عالـم البقاء والـخلود. فشكرتُ الله الـخالق الكريم اجزل شكر على خلقه الدنيا بهذه الصورة. بيد ان الانسان الذي مُنح حباً مقبلاً الى وجهي الدنيا الـحقيقيين الـمليحين الـمتوجهين الى الاسـماء الـحسنى والى الآخرة، اخطأ الـمرمى وجانب الصواب عندما استعمل تلك الـمحبة في غير مـحلها، فصرفها الى الوجه الفاني القبيح ذي الغفلة والضرر حتى حق عليه الـحديث الشريف ((حب الدنيا رأس كل خطيئة))(1).

فيا ايها الشيوخ ويا ايها العجائز!.

انني رأيت هذه الـحقيقة بنور القرآن الـحكيم، وبتذكير من شيخوختى، وبـما منحه الإيـمان لبصيرتي من نور، وقد اثبتـُّها في رسائل كثيرة مع براهين دامغة.. رايت أن هذه الـحقيقة هي السلوان الـحقيقي لي، وهي الرجاء القوي والضياء الساطع.. فرضيت بشيخوختي وهرمي وسررت من رحيل الشباب.

فلا تـحزنوا اذن، ولا تبكوا يا اخوتي الشيوخ على شيخوختكم بل احـمدوا الله واشكروه. وما دمتم تـملكون الإيـمان، والـحقيقة تنطق هكذا، فليبك اولئك الغافلون، وليحزن الضالون ولينتحبوا..

الرجاء التاسع

كنت اسيراً اثناء الـحرب العالـمية الاولى في مدينة قصية، في شمال شرقي روسيا تدعى ((قوصترما)). كان هناك جامع صغير للتتار على حافة نهر ((فولغا)) الـمشهور.. كنت ضجراً من بين زملائي الضباط الاسرى، فآثرت العزلة، الاّ أنه لـم يكن يسمح لي بالتجوال في الـخارج دون اذن ورخصة، ثم سـمح لي بأن أظل في ذلك الـجامع بضمانة اهل حيّ التتار وكفالتهم، فكنت انام فيه وحيداً، وقد اقترب الربيع، وكانت الليالي طويلة جداً في تلك البقعة النائية..

كان الارق يصيبني كثيراً في تلك الليالي الـحالكة السواد، الـمتسربلة باحزان الغربة القاتـمة، حيث لا يُسمع الاّ الـخرير الـحزين لنهر ((فولغا))، والاصوات الرقيقة لقطرات الامطار، ولوعة الفراق في صفير الرياح.. كل ذلك ايقظني – مؤقتاً – من نوم الغفلة العميق..

ورغم انني لـم اكن اعدّ نفسي شيخاً بعدُ، ولكن من يرى الـحرب شيخ، حيث ايامها يشيب من هولـها الولدان، وكأن سراً من اسرار الآية الكريـمة: } يَوماً يَجعلُ الوِلدانَ شيباً { (الـمزمل:17) قد سرى فيها. ومع انني كنت قريباً من الاربعين الاّ انني وجدتُ نفسي كأنني في الثمانين من عمري..

في تلك الليالي الـمظلمة الطويلة الـحزينة، وفي ذلك الـجو الغامر بأسى الغربة، ومن واقعي الـمؤلـم الاليم، جثم على صدري يأس ثقيل نـحو حياتي وموطني، فكلما التفتُّ الى عجزي وانفرادي انقطع رجائي واملي. ولكن جائني الـمدد من القرآن الكريم..

فردد لساني: } حسبنا الله ونعم الوكيل { (آل عمران:173)

وقال قلبي باكياً:

انا غريب.. انا وحيد.. انا ضعيف.. انا عاجز.. انشد الامان.. اطلب العفو.. اخطب العون.. في بابك يا إلـهي.

اما روحي التي تذكرت احبابي القدامى في بلدي، وتـخيلت موتي في هذه الغربة، فقد تـمثلت بأبيات نيازي الـمصري، وهي التي تبحث عن صديق:

مررت بأحزان الدنيا، واطلقت جناحي

للحرمان

طائراً في شوق، صائحاً في كل لـحظة:

صديق!.. صديق..!

على أي حال.. فقد اصبح ((عجزي)) و ((ضعفي)) في تلك الليالي الـمحزنة الطويلة والـحالكة بالفرقة والرقة والغربة وسيلتين للتقرب الى عتبة الرحـمة الإلـهية، وشفيعين لدى الـحضرة الإلـهية، حتى انني لا ازال مندهشاً كيف استطعت الفرار بعد ايام قليلة. واقطع بصورة غير متوقعة مسافة لا يـمكن قطعها مشياً على الاقدام الاّ في عام كامل، ولـم اكن ملمـّاً باللغة الروسية. فلقد تـخلصت من الاسر بصورة عجيبة مـحيـّرة، بفضل العناية الإلـهية التي ادركتني بناء على عجزي وضعفي، ووصلت استانبول ماراً بـ((وارشو)) و ((فينا)). وهكذا نـجوت من ذلك الاسر بسهولة تدعو الى الدهشة، حيث اكملت سياحة الفرار الطويل بسهولة ويسر كبيرين، بـحيث لـم يكن لينجزها اشجع الاشخاص وأذكاهم وامكرهم ومـمن يلمـّون باللغة الروسية.

ولكن حالتي في تلك الليلة التي قضيتها في الـجامع على ضفاف ((فولغا)) قد ألـهمتني هذا القرار:

((سأقضي بقية عمري في الكهوف والـمغارات معتزلاً الناس.. كفاني تدخلاً في امورهم. ولـما كانت نهاية الـمطاف دخول القبر منفرداً وحيداً، فعليّ ان اختار الانفراد والعزلة من الآن، لأعوّد نفسي عليها!.)).

نعم، هكذا قررت.. ولكن – وياللأسف – فان احبابي الكثيرين الـمخلصين في استانبول، والـحياة الاجتماعية البهيجة البرّاقة فيها، ولاسيما ما لا طائل فيه من اقبال الناس والشهرة والصيت.. كل ذلك أنساني قراري ذلك لفترة قصيرة. فكأن ليلة الغربة تلك هي السواد الـمنوّر البصير لعين حياتي، وكأن النهار البهيج لـحياة استانبول هي البياض غير البصير لعين حياتي. فلـم تتمكن تلك العين من رؤية البعيد، بل غطت ثانية في نوم عميق، حتى فتحها الشيخ الكيلاني بكتابه ((فتوح الغيب)) بعد سنتين.

وهكذا ايها الشيوخ، ويا ايتها العجائز!.. اعلموا ان ما في الشيخوخة من العجز والضعف ليسا الاّ وسيلتين لدرّ الرحـمة الإلـهية وجلب العناية الربانية.. فانني شاهد على هذه الـحقيقة في كثير من حوادث حياتي، وان تـجلي الرحمة على سطح الارض يظهرها كذلك بشكل واضح ابلج؛ لان اعجز الـحيوانات واضعفها هي صغارها، والـحال ان ألطف حالات الرحمـة وألذها واجملها تتجلى في تلك الصغار، فعجزُ الفرخ الساكن في عشـّه على شجرة باسقة، يستخدم والدته – بتجلي الرحـمة – كأنها جندية تنتظر الاوامر. فتحوم حول الزروع الـخضر لتجلب الرزق الوفير لفرخها الصغير، ولكن ما ان ينسى الفرخ الصغير عجزه – بنموّ جناحيه وتكامله – حتى تقول له والدته: عليك ان تبحث عن رزقك بنفسك. فلا تعود تستجيب لندائه بعد ذلك.

فكما يـجري سرّ الرحـمة هذا على هذه الصورة بـحق الصغار، يـجري كذلك من زاوية الضعف والعجز، بـحق الشيوخ الذين اصبحوا في حكم الصغار.

ولقد اعطتني تـجاربي الـخاصة القناعة التامة ان رزق الصغار مثلما يأتي بناء على عجزهم، وترسله الرحـمـة الإلـهية لـهم بشكل خارق، فتفجـّر ينابيع الاثداء وتسيلـّها لـهم سيلاً، فان رزق الشيوخ الـمؤمنين الذين اكتسبوا العصمة يُرسل اليهم من قبل الرحـمة على صورة بركة، وأن عمود البركة لأي بيت وسندها انـما هو اولئك الشيوخ الذين يأهلونه، وان الذي يـحفظ ذلك البيت من البلايا والـمصائب انـما هم اولئك الشيوخ الركع الذين يعمرونه. يثبت هذه الـحقيقة اثباتاً كاملاً جزء من حديث شريف: لولا الشيوخ الركع لصبّ عليكم البلاء صبـّاً(1).

وهكذا فما دام الضعف والعجز اللذان في الشيخوخة يصبحان مـحورين لـجلب الرحـمة الإلـهية الواسعة، وان القرآن الكريم يدعو الاولاد الى الاحترام والرأفة بالوالدين في خـمس مراتب، وبأسلوب غاية في الاعجاز، في قوله تعالى:

} إمـّا يَبلـُغَنّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أحدُهُما أو كلاهما فلا تَقُل لـهما أفّ ولاتَنهَرهُما وقُل لُهما قولاً كريـماً ` واخفِضْ لُهما جَناحَ الذُلّ من الرحـمة وقُل ربّ ارحَمهُما كما ربـَّياني صغيرا { (الاسراء:23-24).

وما دام الإسلام يأمر بتوقير الشيوخ والرحـمة بهم، والفطرة الانسانية تقضي الاحترام والرحـمة تـجاه الشيوخ.. فلا بد لنا – نـحن الشيوخ – ألا! نستبدل شيخوختنا هذه بـمائة عهد من عهود الصبا؛ ذلك لان لنا فيها اذواقاً معنوية دائمة جديرة، بدلاً من الذوق الـمادي الناشيء من نزوة الشباب، حيث نأخذ اذواقاً روحية نابعة من الرحـمة الصادرة من العناية الإلـهية ومن الاحترام النابع من فطرة الانسانية.

نعم، انى اُطمئنكم بأنه لو اُعطيتُ عشر سنوات من عهد شباب ((سعيد القديـم)) فلن استبدلـها بسنة واحدة من شيب ((سعيد الـجديد)). فانا راضٍ عن شيخوختي، فارضوا عنها انتهم كذلك..

الرجاء العاشر

بعدما رجعت من الأسر، سيطرت الغفلة عليّ مرة اخرى طوال سنتين من حياتي في استانبول، حيث الأجواء السياسية وتياراتها صرفت نظري عن التأمل في نفسي، وحدثت تشتتاً في ذهني وفكري.

فحينما كنت جالساً ذات يوم في مقبرة ابي ايوب الانصاري رضي الله عنه وعلى مرتفع مطلّ على وادٍ سحيق، مستغرقاً في تأمل الافاق الـمحيطة باستانبول، اذا بي أرى كأن دنياي التخاصة اوشكت على الوفاة، حتى شعرت – خيالاً – كأن الروح تنسل منها انسلالاً من بعض نواحيّ. فقلت: تُرى هل الكتابات الـموجودة على شواهد هذه القبور هي التي دعتني الى هذا الـخيال؟

أشحتُ نظري عن الـخارج وانعمت النظر في الـمقبرة دون الآفاق البعيدة فألقى في روعي:

((ان هذه الـمقبرة الـمحيطة بك تضم مائة استانبول! حيث ان استانبول قد أفرغت فيها مائة مرة، فلن تُستثنى انت وحدك من حكم الـحاكم القدير الذي افرغ جـميع اهالي استانبول هنا، فانت راحل مثلهم لا مـحالة..!)).

غادرت الـمقبرة وانا احـمل هذا الـخيال الـمخيف، ودخلت الغرفة الصغيرة في مـحفل جامع ابي ايوب الانصاري رضي الله عنه والتي كنت ادخلها مراراً في السابق فاستغرقت في التفكير في نفسي: إنـما انا ضيف! وضيف من ثلاثة اوجه؛ اذ كما انني ضيف في هذه الغرفة الصغيرة، فانا ضيفٌ كذلك في استانبول، بل انا ضيف في الدنيا وراحل عنها كذلك، وعلى الـمسافر ان يفكر في سبيله ودربه.

نعم، كما انني سوف اخرج من هذه الغرفة واغادرها، فسوف اترك استانبول ذات يوم واغادرها، وسوف اخرج من الدنيا كذلك.

وهكذا جثمت على قلبي وفكري وانا في هذه الـحالة، حالة أليمة مـحزنة مكدّرة. فلا غرو انني لا أترك احباباً قليلين وحدهم، بل سأفارق ايضاً آلاف الاحبة في استانبول، بل سأغادر استانبول الـحبيبة نفسها وسأفترق عن مئات آلالاف من الاحبة كما افترق عن الدنيا الـجميلة التي ابتلينا بها.

ذهبتُ الى الـمكان الـمرتفع نفسه في الـمقبرة مرة اخرى، فبدا لي اهالي استانبول، جنائز يـمشون قائمين مثلما يظهر الذين ماتوا شخوصاً متحركة في الافلام السينمائية، فقد كنت اتردد اليها احياناً للعبرة! فقال لي خيالي: مادام قسم من الراقدين في هذه الـمقبرة يـمكن ان يظهروا متحركين كالشخوص السينمائية، ففكـّر في هؤلاء الناس كذلك انهم سيدخلون هذه الـمقبرة حتماً، واعتبرهم داخلين فيها من الآن.

وبينما كنت اتقلب في تلك الـحالة الـمحزنة الـمؤلـمة اذا بنور من القرآن الـحكيم وبارشاد من الشيخ الكيلاني (قدس سرّه) يقلب تلك الـحالة الـمحزنة ويـحولـها الى حالة مفرحة مبهجة، ذات نشوة ولذة، حيث ذكـّرني النور القادم من القرآن الكريـم ونبهني الى ما يأتي:

كان لك صديق أو صديقين من الضباط الاسرى عند اسرك في ((قوسترما)) في شمال شرقي روسيا، وكنتَ تعلم حتماً أنهما سيرجعان الى استانبول. ولو خَيـّرك احدهما قائلاً: أتذهب الى استانبول أم تريد ان تبقى هنا؟. فلا جرم انك كنت تـختار الذهاب الى استانبول لو كان لك مسكة من عقل، بفرح وسرور حيث ان تسعمائة وتسعة وتسعين من الف حبيب وحبيب لك هـم الآن في استانبول، وليس لك هنا الاّ واحد او اثنان، وهم بدورهم سيرحلون الى هناك. فالذهاب الى استانبول بالنسبة لك اذن ليس بفراق حزين، ولا بافتراق أليم.. وها أنتذا قد أتيت اليها، ألـم تصبح راضياً شاكراً؟ فلقد نـجوتَ من بلد الاعداء، من لياليها الطوال السوداء، ومن شتائها القارس العاصف، وقدمت استانبول الزاهية الـجميلة، كأنها جنة الدنيا!. وهكذا الامر حيث ان تسعاً وتسعين من مائة شخص مـمن تـحبهم منذ صغرك حتى الآن، قد ارتـحلوا الى الـمقبرة. تلك تبدو لك موحشة مدهشة، ولـم يظل منهم في هذه الدنيا الاّ واحد او اثنان، وهم في طريقهم اليها كذلك. فوفاتك في الدنيا اذن ليست بفراق، ولا بافتراق، وانـما هي وصال ولقاء مع اولئك الاحبة الاعزاء.

نعم ان اولئك – أي الارواح الباقية – قد تركوا مأواهم وعشهم الـمندرس تـحت الارض، فيسرح قسم منهم بين النجوم، وقسم آخر بين طبقات عالـم البرزخ.

وهكذا ذكـّرني ذلك النور القرآني.. ولقد أثبت هذه الـحقيقة اثباتاً قاطعاً كلٌ من القرآن الكريـم، والإيـمان، بـحيث مَن لـم يفقد قلبه وروحه، او لـم تغرقه الضلالة لابد ان يصدق بها كأنه يراها؛ ذلك لأن الذي زيـّن هذه الدنيا بأنواع ألطافه التي لاتـحد وبأشكال آلائه التي لاتُعد مُظهراً بها ربوبيته الكريـمة الرؤوف، حفيظاً حتى على الاشياء الصغيرة الـجزئية جداً – كالبذور مثلاً – ذلك الصانع الكريـم الرحيم، لابد – بل بالبداهة – لايُفني هذا الانسان الذي هو اكمل مـخلوقاته واكرمها واجمعها واهمـّها واحبها اليه، ولا يـمحوه بالفناء والاعدام النهائي، بلا رحـمة وبلا عاقبة – كما يبدو ظاهراً – ولا يضيـّعه ابداً.. بل يضع الـخالق الرحيم ذلك الـمخلوق الـمحبوب تـحت التراب الذي هو باب الرحـمة موقتاً، كي يعطي ثـماره في حياة اخرى، كما يبذر الفلاح البذور على الارض(1).

وبعد ان تلقيت هذا التنبيه القرآني، باتت تلك الـمقبرة عندي مؤنسة اكثر من استانبول نفسها، واصبحت الخلوة والعزلة عندي اكثر لطافة من الـمعاشرة والـمؤانسة، مـما حدا بي ان اجد مكاناً للعزلة في ((صاري ير)) على البسفور. واصبح الشيخ الكيلاني رضي الله عنه استاذاً لي وطبيباً ومرشداً بكتابه ((فتوح الغيب))، وصار الامام الرباني رضي الله عنه(1) كذلك بـمثابة استاذ أنيس ورؤوف شفيق بكاتبه ((مكتوبات)) فاصبحت راضياً كلياً ومـمتنـّاً من دخولي الـمشيب، ومن عزوفي عن مظاهر الـحضارة البراقة ومتعها الزائفة،ومن إنسلالي من الـحياة الاجتماعية وانسحابي منها، فشكرت الله على ذلك كثيراً.

فيا من يدلف الى الـمشيب مثلي.. ويا من يتذكر الـموت بنذير الشيب.. ! ان علينا ان نرضى بالشيخوخة وبالـموت وبالـمرض، ونراها لطيفة بنور الإيـمان الذي أتى به القرآن الكريـم، بل علينا ان نـحبها – من جهة – فما دمنا نـملك إيـماناً وهو النعمة الكبرى، فالشيخوخة اذن طيبة والـمرض طيب، والـموت طيب ايضاً.. وليس هناك شيء قبيح محض في حقيقة الامر الاّ الاثم والسفه والبدع والضلالة.
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-01-2011
  #23
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: اللمعات

الرجاء الـحادي عشر

عندما رجعت من الاسر، كنت أسكن مع ابن اخي ((عبدالرحـمن))(2) في قصر على قمة ((جاملجة)) في استانبول. ويـمكن ان تعتبر هذه الـحياة التي كنت احياها حياة مثالية من الناحية الدنيوية بالنسبة لأمثالنا؛ ذلك لانني قد نـجوت من الاسر، وكانت وسائل النشر مفتوحة امامي في ((دار الـحكمة الإسلامية))(1) وبـما يناسب مهنتي العلمية، وان الشهرة والصيت والاقبال عليّ تـحفّ بي بدرجة لا استحقها، وانا ساكن في اجـمل بقعة من استانبول ((جاملجة))، وكل شيء بالنسبة لي على مايرام، حيث أن ابن اخي (عبدالرحـمن)) – رحـمه الله – معي، وهو في منتهى الذكاء والفطنة، فهو تلميذ ومضحّ وخادم وكاتب معاً، حتى أعدّه ابناً معنوياً لي.

وبينما كنت احس بأني اسعد انسان في العالـم، نظرت الى الـمرآة، ورأيت شعيرات بيضاء في رأسي وفي لـحيتي، واذا بتلك الصحوة الروحية التي احسست بها في الاسر في جامع ((قوصترما)) تبدأ بالظهور. فأخذتُ أنعم النظر وافكر مدققاً في تلك الـحالات التي كنت ارتبط بها قلبياً، وكنت اظنها انها هي مدار السعادة الدنيوية. فما من حالة او سبب دققت النظر فيه، الا رأيت أنه سبب تافه وخادع، لا يستحق التعلق به، ولا الارتباط معه. فضلاً عن ذلك وجدت في تلك الاثناء عدم الوفاء وفقدان الصداقة من صديق حـميم، يُعدّ من أوفى الاصدقاء لي، وبشكل غير متوقع وبصورة لاتـخطر على بال.. كل ذلك أدى الى النفرة والامتعاض من الـحياة الدنيا، فقلت لقلبي:

- ياتُرى هل انا منخذع كلياً؛ فأرى الكثيرين ينظرون الى حياتنا التي يُرثى لـها من زاوية الـحقيقة نظر الغبطة؟ فهل جُنَّ جنون جـميع هؤلاء الناس؟ أم انا في طريقي الى الـجنون، لرؤيتي هؤلاء الـمفتونين بالدنيا مـجانين بلهاء؟! وعلى كل حال.. فالصحوة الشديدة التي صحوتها برؤية الشيب جعلتني ارى اولاً: فناء ما ارتبط به من الاشياء الـمعرّضة للفناء والزوال!!

ثم التفتّ الى نفسي، فوجدتها في منتهى العجز!.. عندها صرختْ روحي وهي التي تنشد البقاء دون الفناء وتشبثت بالاشياء الفانية متوهمة فيها البقاء، صرخت من اعماقها: ((مادمتُ فانية جسماً فأي فائدة ارجوها من هذه الفانيات؟ وما دمتُ عاجزة فماذا انتظر من العاجزين؟.. فليس لدائي دواء الاّ عند الباقي السرمدي، عند القدير الازلي)) فبدأت أبـحث وأستقصي.. راجعت اول ماراجعت، تلك العلوم التي اكتسبتها سابقاً، أبـحث فيها السلوة والرجاء. ولكن كنت – وباللاسف- الى ذلك الوقت مغترفاً من العلوم الإسلامية مع العلوم الفلسفية ظناً مني – ظناً خطأ جداً – أن تلك العلوم الفلسفية هي مصدر الرقي والتكامل ومـحور الثقافة وتنوّر الفكر، بينما تلك الـمسائل الفلسفية هي التي لوثت روحي كثيراً، بل اصبحت عائقة امام سـموي الـمعنوي.

نعم، بينما كنت في هذه الـحالة، اذا بـحكمة القرآن الـمقدسة تسعفني، رحـمةً من العلي القدير، وفضلاً وكرماً من عنده سبـحانه، فغسلتْ أدران تلك الـمسائل الفلسفية وطهرت روحي منها – كما هو مبين في كثير من الرسائل – اذ كان الظلام الروحي الـمنبثق من العلوم الفلسفية، يغرق روحي ويطمسها في الكائنات، فاينما كنت اتوجه بنظري في تلك الـمسائل فلا أرى نوراً ولا اجد قبساً، ولـم أتـمكن من التنفس والانشراح، حتى جاء نور التوحيد الساطع النابع من القرآن الكريـم الذي يلقن ((لا اله الا هو)) فـمزق ذلك الظلام وبدده. فانشرح صدري وتنفس بكل راحة واطمئنان.. ولكن النفس والشيطان، شنـّا هجوماً عنيفاً على العقل والقلب وذلك يـما أخذاه من تعليمات وتلقياه من دروس من اهل الضلالة والفلسفة. فبدأت الـمناظرة النفسية في هذا الـهجوم حتى اختتمت – ولله الـحمد والـمنـّة – بانتصار القلب وفوزه.

ولـما كان قسم من تلك الـمناظرات قد ورد في اغلب الرسائل، فنـحن نكتفي به، الا أننا نبين هنا برهاناً واحداً فقط من بين آلاف البراهين، لنبين انتصار القلب وفوزه على النفس والشيطان، وليقوم ذلك البرهان بتطهير ارواح اولئك الشيوخ الذين لوثوا أرواحهم، واسقموا قلوبهم، واطغوا انفسهم، حتى تـجاوزت حدودها، تارة بالضلالة، وتارة بـما لايعنيهم من أمور تتستر تـحت ستار العلوم الاجنبية والفنون الـحضارية ولينجوا – باذن الله – في حق التوحيد، من شرور النفس والشيطان. والـمناظرة هي كالآتي:

قالت نفسي مستفسرة باسم العلوم الفلسفية الـمادية: ان الاشياء الـموجودة في الكون، بطبيعتها تتدخل في الـموجودات فكل شيء متوجه الى سبب وصادر منه، فالثـمرة تؤخذ من الشـجرة، والـحبوب تطلب من التراب، فماذا يعني التضرع الى الله وطلب اصغر شيء واكثره جزئية منه سبحانه؟!

انكشف حالا سر التوحيد بنور القرآن الكريـم بالصورة الآتية:

أجاب قلبي لنفسي الـمتفلسفة: ان اصغر شيء واكثره جزئية انـما هو كأكبر شيء واعظمه، فهو يصدر من قدرة خالق الكائنات مباشرة، ويأتي من خزينته سبحانه.. فليس هناك صورة اخرى قط، وما الاسباب الاّ ستائر؛ ذلك لان اصغر الـمخلوقات وأتفهها – حسب ظننا – قد يكون أعظم من اكبر الـمخلوقات واضخمها، من حيث الـخلقة والصنعة والاتقان، فالذباب مثلاً، ان لـم يكن أدق وارقى من حيث الصنعة من الدجاج فليس هو بقاصر عنها، لـهذا لا يـمكن التمييز بين الصغير والكبير من حيث الـخلقة والصنعة فإما أن يُنسب خلق الـجميع – صغيرهُ وكبيرهُ – الى الاسباب الـمادية وإما أن يُسند الـخلق جـميعاً الى الواحد الاحد. ومثلما أن الشق الاول مـحال في مـحال، فان الشق الثاني واجب الاعتقاد به وضروري. لانه:

ما دام علم الله سبحانه وتعالى يـحيط بكل شيء، والذي هو ثابت وجوده بشكل قاطع بانتظام جـميع الـموجودات والـحِكَم التي فيها.. وما دام كل شيء يتعيـّن مقداره في علمه سبحانه.. وما دامت الـمصنوعات والـمخلوقات وهي في منتهى الروعة والاتقان تأتي بـمنتهى السهولة الى الوجود من العدم كل حين كما هو مشاهد.. ومادام ذلك القدير العليم يـملك قدرة مطلقة يـمكنه أن يوجد كل شيء بامر ((كن فيكون)) وفي لـمح البصر.. كما بيـّنا ذلك في كثير من الرسائل بدلائل قاطعة ولاسيما في الـمكتوب العشرين وختام اللمعة الثالثة والعشرين. فلابد أن السهولة الـمطلقة الـمشاهدة، والـخارقة للعادة، ماهي الاّ من تلك الاحاطة العلمية ومن عظمة تلك القدرة الـمطلقة.

مثلاً: كما انه اذا أمررت مادة كيمياوية معينة على كتاب كـُتب بـحبر كيمياوي لايُرى، فان ذلك الكتاب الضخم يظهر عياناً حتى يستقرىء كل ناظر اليه، كذلك يتعين مقدار كل شيء وصورته الـخاصة به في العلم الـمحيط للقدير الازلي، فيمرر القدير الـمطلق قوته – التي هي تـجلٍ من قدرته – بكل سهولة ويسر، كإمرار تلك الـمادة في الـمثال، على تلك الـماهية العلمية، يـمرره بأمر ((كن فيكون))، وبقدرته الـمطلقة تلك، وبارادته النافذة.. فيعطي سبحانه ذلك الشيء وجوداً خارجياً، مـُظهراً اياه امام الاشهاد، مـما يـجعلهم يقرأون ما فيه من نقوش حكمته..

ولكن ان لـم يُسند خلق جـميع الاشياء دفعة واحدة الى العليم الـمطلق والى القدير الازلي، فان خلق اصغر شيء عندئذ – كالذباب مثلاً – يستلزم جـمع جـميع ما له علاقة بالذباب من اكثر انواع العالـم، جـمعه بـميزان خاص ودقيق جداً، أي جـمع كل ذلك في جسم الذباب، بل ينبغي ان تكون كل ذرة عاملة في جسم الذباب عالـمة تـمام العلم بسرّ خلق الذباب وحكمة وجوده، بل ينبغي أن تكون متقنة لروعة الصنعة التي فيها بدقائقها وتفاصيلها كافة.

ولـما كانت الاسباب الـمادية او الطبيعية لا يـمكنها ان تـخلق شيئاً من العدم مطلقاً كما هو بديهي ومتفق عليه عند ارباب العقول؛ لذا فان تلك الاسباب حتى لو تـمكنت من الايـجاد فانها لاتتمكن ذلك الاّ بالـجمع، فما دامت ستقوم بالـجمع، وأن الكائن الـحي – اياً كان – ينطوي على اغلب نـماذج ما في العالـم من عناصر وانواع، وكأنه خلاصة الكائنات او بذرتها، فلابد اذن من جـمع ذرات البذرة من شـجرة كاملة، وجـمع عناصر الكائن الـحي وذراته من ارجاء العالـم اجـمع، وذلك بعد تصفيتها وتنظيمها وتقديرها بدقة واتقان حسب موازين خاصة ووفق مصاف حساسة ودقيقة جداً.. ولكون الاسباب الـمادية الطبيعية جاهلة وجامدة، فلا علم لـها مطلقاً كي تقدّر خطة، وتنظم منهاجاً، وتنسق فهرساً، وكي تتعامل مع الذرات وفق قوالب معنوية، مصهرة اياها في تلك القوالب لتمنعها من التفرق والتشتت واختلال النظام. بينما يـمكن أن يكون شكل كل شيء وهيئته ضمن أنـماط لاتـحد.. لذا فان اعطاء شكل معين واحد من بين تلك الاشكال غير الـمحدودة، وتنظيم ذلك الشيء بـمقدار معين ضمن تلك الـمقادير غير الـمعدودة، دون أن تتبعثر ذرات العناصر الـجارية كالسيل وبانتظام كامل. ثم بناؤها وعمارتها بعضها فوق بعض بلا قوالب خاصة وبلا تعيين الـمقادير، ثم اعطاء الكائن الـحي وجوداً منتظماً منسقاً.. كل هذا امر واضح أنه خارج عن حدود الامكان، بل خارج عن حدود العقل والاحتمال! فالذي لـم يفقد بصيرته يرى ذلك بـجلاء! نعم، وتوضيحاً لـهذه الـحقيقة فقد جاء في القرآن الكريـم } انّ الذين تَدعونَ من دون الله لن يَخلقوا ذُباباً ولو اجتمعوا له..{ (الحج:73). أي اذا اجتمعت الاسباب الـمادية كافة لا يـمكنها أن تـجمع وتنسق جسم ذبابة واحدة وأجهزتها وفق موازين دقيقة خاصة حتى لو أوتيت تلك الاسبابا ارادةًَ واختياراً، بل حتى لو تـمكنت من تكوين جسم ذباب وجـمعه فانها لاتستطيع ابقاءه وادامته على مقداره الـمعين له، بل حتى لو تـمكنت من ابقائه بالـمقدار الـمعين فلن تستطيع ن تـحرك بانتظام تلك الذرات التي تتجدد دوماً وترد الى ذلك الوجود لتسعى فيه؛ لذا فـمن البداهة أن الاسباب لن تكون مالكة لـهذه الاشياء ولن تكون صاحبتها مطلقاً. انـما صاحبها الـحقيقي هو غير الاسباب.. نعم، ان لـها مالكاً وصاحباً حقيقياً بـحيث أن إحياء ما على الارض من كائنات سهل عليه ويسير، كإحياء ذبابة واحدة. وايـجاد الربيع عنده سهل وهين كسهولة أيـجاد زهرة واحدة.. كما تبينه الآية الكريـمة:

} ما خلقُكُم ولا بَعثُكم الاّ كنَفسٍ واحدة { (لقمان:28) ذلك لأنه غير مـحتاج الى الـجمع، حيث أنه مالك لأمر: ((كن فيكون)).. ولانه يـخلق من العدم في كل ربيع أحوال موجودات الربيع وصفاتها واشكالـها، مـما سوى عناصرها.. ولان خطة كل شيء ونـموذجه وفهرسه ومـخططه متعين في علمه سبحانه.. ولان جـميع الذرات لاتتحرك الاّ ضمن دائرة علمه وقدرته؛ لذا فانه يـخلق كل شيء ويوجده ايتجاداً بلمح البصر وفي منتهى اليسر، ولن يـحيد شيء عمـّا أنيط به في حركته ولو بـمقدار ذرة. فتعدو الكواكب السيارة جيشاً منظماً طائعاً له، وتصبح الذرات جنوداً مطيعين لأمره، وحيث ان الـجميع يسيرون على وفق تلك القدرة الازلية ويتحركون وفق دساتير ذلك العلم الازلي لذا فأن هذه الآثار تأتي الى الوجود حسب تلك القدرة، فلا تصغُر تلك الآثار بنظر الاستصغار، ولا تكون مهملة بعدم الاهتمام بها؛ اذ الذبابة الـمنتسبة الى تلك القدرة تهلك نـمروداً، والنملة تدمر قصر فرعون، وبذرة الصنوبر الـمتناهية في الصغر تـحمل على اكتافها ثقل شجرة الصنوبر الضخمة كالـجبل. فكما اننا اثبتنا هذه التحقيقة في رسائل كثيرة فاننا نقول هنا كذلك: ان الـجندي الـمنتسب الى السلطان بالـجندية يـمكنه أن يقوم بأعمال تفوق طاقته ألف مرة، كأن يأسر مثلاً قائداً عظيماً للعدو بانتسابه، كذلك فان كل شيء بانتسابه الى تلك القدرة الازلية يكون مصدراً لـمعجزات الصنعة والاتقان بـما تفوق تلك الاسباب الطبيعية بـمائة ألف مرة.

الـخلاصة:

ان الصنعة الـمتقنة البديعة لكل شيء، والسهولة الـمطلقة في ايـجاده، تظهران معاً من آثار القدير الازلي ذي العلم الـمحيط، والاّ فهو مـحال في مائة مـحال، بأن ذلك الشيء وروده الى الوجود، بل يكون – عندئذٍ – خارجاً عن دائرة الامكان وداخلاً في دائرة الامتناع، بل خارجاً من صورة الـممكن الى صورة الـممتنع وماهية الـممتنع، بل لا يـمكن ان يرد – عندئذ – شيء مهما كان الى الوجود مطلقاً.

وهكذا فان هذا البرهان وهو في منتهى القوة والدقة، ومنتهى العمق والوضوح قد أسكت نفسي التي اصبحت تلميذة مؤقتة للشيطان، ووكيله لاهل الضلالة والفلسفة، حتى آمنت – ولله الـحمد – إيـماناً راسخاً، وقالت:

نعم انه ينبغي أن يكون لي ربٌ خالق يعلم ويسمع أدق خواطر قلبي وأخفى رجائي ودعائي. ويكون ذا قدرة مطلقة فيسعف أخفى حاجات روحي ويستبدل كذلك بهذه الدنيا الضخمة دنيا اخرى غيرها ليسعدني سعادة ابدية فيقيم الآخرة بعدما يرفع هذه الدنيا، وكما أنه يـخلق الذباب فانه يوجد السـموات أيـجاداً ايضاً. وكما أنه رصـّع وجه السـماء بعين الشمس جعل من الذرة ترصيعاً في بؤبؤ عيني. والاّ فان الذي لا يستطيع أن يـخلق ذباباً لا يـمكنه أن يتدخل في خواطر قلبي، ولن يسمع تضرع روحي. وان الذي لايستطيع أن يـخلق السموات لايـمكنه ان يهبني السعادة الابدية؛ لذا فان ربي انـما هو الذي يسمع – بل يصلح – خواطر قلبي، فمثلـما أنه يـملأ جو السماء بالغيوم ويفرغها منه خلال ساعة فانه سيبدل الآخرة بهذه الدنيا ويعمـّر الـجنة ويفتح أبوابها لي قائلاً: هيا أدخل!!

فيا اخوتي الشيوخ، ويامن صرفتم جزءاً من عمركم بسوء حظ النفس وشقائها – مثل نفسي – في مغالطات العلوم الاجنبية والفلسفة الـمظلمة.. اعلموا أن الذي يردده القرآن دوماً من ((لا اله الاّ هو)) ذلك الامر القدسي، ركن إيـماني لا يتزلزل ولا يتصدع ولا يتغير أبداً!! فما اقواه وما اصوبه! حيث يبدد جـميع الظلمات ويضمد الـجراحات الـمعنوية.

هذا وان درج هذه الـحادثة الـمطولة ضمن ابواب الرجاء والامل لشيخوختي، لـم يكن باختياري، بل لـم أكن أرغب درجها هنا، تـحاشياً من الـملل، الاّ انني استطيع ان اقول قد كُتـّبتها وأملِيَنْ عليّ.. وعلى كل.. لنرجع الى الـموضوع الذي نـحن بصدده:

نعم، هكذا جاءني النفور من تلك الـحياة الدنيوية البهيجة في استانبول التي ظاهرها اللذة، من ذلك التأمل والنظر في شعيرات بيضاء لرأسي ولـحيتي، ومن عدم الوفاء الذي بدر من الصديق الوفي الـمخلص.. حتى بدأت النفس بالبحث والتحري عن اذواق معنوية بدلا عما افتتنت به من اذواق، فطلبت نوراً وسلواناً في هذه الشيخوخة التي تبدو ثقيلة ومزعجة ومقيتة في نظر الغافلين. فللـّه الـحمد والـمنـّة وألف شكر وشكر له سبحانه أن وفقني لوجدان تلك الاذواق الإيـمانية الـحقيقية الدائمة في ((لا اله الاّ هو)) وفي نور التوحيد بدلا من تلك الاذواق الدنيوية التي لا حقيقة لـها ولا لذة فيها، بل لا خير في عقباها. وله الـحمد أن وفقني كذلك لأجد الشيخوخة خفيفة الظل أتنعم بدفئها ونورها بـخلاف ما يراه أهل الغفلة من ثقل وبرودة.

نعم يا اخوتي! فما دمتم تـملكون الإيـمان، وما دامت لديكم الصلوات والدعاء اللذان ينوران الإيـمان، بل ينميانه ويصقلانه.. فانكم تستطيعون اذن أن تنظروا الى شيخوختكم من أنها شباب دائم، بـما تكسبون بها شباباً خالداً، حيث ان الشيخوخة الباردة حقاً، والثقيلة جداً، والقبيحة، بل الـمظلمة والـمؤلـمة تـماماً ليس الاّ شيخوخة اهل الضلالة، بل ربـما عهد شبابهم كذلك.. فليبكوا.. ولينتحبوا.. وليقولوا: واأسفاه.. واحسرتاه!!

أما انتم ايها الشيوخ الـمؤمنون الـموقرون فعليكم أن تشكروا ربكم بكل فرح وسرور قائلين: ((الـحمد لله على كل حال!)).

الرجاء الثاني عشر

بينما كنت وحيداً بلا معين في ((بارلا)) تلك الناحية التابعة لـمحافظة ((اسبارطة)) أعاني الأسر الـمعذّب الـمسمى بالنفي، مـمنوعاً من الاختلاط بالناس، بل حتى من الـمراسلة مع أيّ كان، فوق ما كنت فيه من الـمرض والشيخوخة والغربة.. فبينما كنت اضطرب من هذه الـحالة واقاسي الـحزن الـمرير اذا بنور مسلٍّ يشعّ من الاسرار اللطيفة للقرآن الكريم ومن نكاته الدقيقة، يتفضل الـحق سبحانه به عليَّ برحـمته الكاملة الواسعةـ فكنت اعمل جاهداً بذلك النور لتناسي ما انا فيه من الـحالة الـمؤلـمة الـمحزنة، حتى استطعت نسيان بلدتي واحبتي واقاربي.. ولكن – ياحسرتاه – لـم اتـمكن من نسيان واحد منهم أبداً وهو ابن اخي، بل ابني الـمعنوي، وتلميذي الـمخلص وصديقي الشجاع ((عبدالرحـمن)) تغمده الله برحـمته الذي فارقني قبل حوالي سبع سنوات، ولا اعلم حاله كي أرسله واتـحدث معه ونتشارك في الآلام، ولا هو يعلم مكاني كي يسعى لـخدمتي وتسليتي، نعم لقد كنت في أمسّ الـحاجة – ولاسيـّما في الشيخوخة هذه – الى من هو مثل ((عبدالرحـمن)).. ذلك الفدائي الصادق.. وذات يوم وفجأة سلمني أحدهم رسالة، ما إن فتحتها حتى تبيـّن لي انها رسالة تظهر شخصية ((عبدالرحـمن)) تـماماً وقد أدرج قسم من تلك الرسالة ضمن فقرات الـمكتوب السابع والعشرين بـما يظهر ثلاث كرامات واضحة.

لقد ابكتني تلك الرسالة كثيراً ولاتزال تبكيني، حيث يبيـّن فيها ((عبدالرحـمن)) بكل صدق وجدّ انه قد عزف عزوفاً تاماً عن الاذواق الدنيوية وعن لذائذها، وان اقصى ما يتمناه هو الوصول الىّ ليقوم برعايتي في شيخوختي هذه مثلما كنت ارعاه في صغره، وان يساعدني بقلمه السيـّال في وظيفتي ومهمـّتي الـحقيقية في الدنيا، وهي نشر اسرار القرآن الكريم، حتى انه كان يقول في رسالته: إبعث الىّ ما يقرب من ثلاثين رسالة كي اكتب وأستكتب من كل منها ثلاثين نسخة.

لقد شدتني هذه الرسالة الى الدنيا بأمل قوي شديد، فقلت في نفسي: ها قد وجدت تلميذي الـمخلص الشجاع، ذا الذكاء الـخارق، وذا الوفاء الـخالص، والارتباط الوثيق الذي يفوق وفاء الابن الـحقيقي وارتباطه بولده. فسوف يقوم – باذن الله – برعايتي وخدمتي، بل حتى انني بهذا الامل نسيت ما كنت فيه من الاسر الـمؤلـم ومن عدم وجود معين لي، بل نسيت حتى الغربة والشيخوخة! بإيـمان وكأن عبدالرحـمن قد كتب تلك الرسالة في منتهى القوة وفي غاية اللمعان وهو ينتظر أجله، اذ استطاع ان يـحصل على نسخة مطبوعة من الكلمة العاشرة التي كنت قد طبعتها وهي تبحث عن الإيـمان بالآخرة. فكانت تلك الرسالة بلسماً شافياً له حيث ضمـّدت جـميع جراحاته الـمعنوية التي عاناها عبر سبع سنوات خلت.

وبعد مضي حوالي شهرين وانا اعيش في ذلك الامل لنعيش معاً حياة دنيوية سعيدة.. اذا بي أفاجأ بنباً وفاته، فيا اسفاه.. وياحسرتاه.. لقد هزّني هذا الـخبر هزاً عنيفاً، حتى انني لاازال تـحت تأثيره منذ خـمس سنوات، واورثني حزناً شديداً وألـماً عميقاً للفراق الـمؤلـم يفوق ما كنت اعانيه من ألـم الاسر الـمعذّب وألـم الانفراد والغربة الـموحشة وألـم الشيخوخة والـمرض.

كنت اقول: ان نصف دنياي الـخاصة قد إنهدَّ بوفاة أمي، بيد اني رأيت ان النصف الاخر قد توفي ايضاً بوفاة عبدالرحـمن، فلم تبق لي اذن علاقة مع الدنيا.. نعم لو كان عبدالرحـمن يظل معي في الدنيا لا صبح مـحوراً تدور حوله وظيفتي الاخروية في الدنيا ولغدا خير خلف لي، ولـحلّ مكاني من بعدي، ولكان صديقاً وفياً بل مدار سلوان لي وأنس، ولبات اذكى تلميذ لرسائل النور، والامين الـمخلص الـمحافظ عليها.. فضياع مثل هذا الضياع – باعتبار الانسانية – لـهو ضياع مـحرق مؤلـم لأمثالي. ورغم انني كنت ابذل الوسع لأتصبـّر وأتـحمل ما كنت اعانيه من الآلام الاّ أنه كانت هناك عاصفة قوية جداً تعصف باقطار روحي، فلولا ذلك السلوان النابع من نور القرآن الكريم يفيض عليّ احياناً لـما كان لـمثلي ان يتحمل ويثبت.

كنت أذهب واسرح في وديان ((بارلا)) واجول في جبالـها وحيداً منفرداً واجلس في اماكن خالية منعزلة، حاملاً تلك الهموم والآلام الـمحزنة، فكانت تـمر من امامي لوحات الـحياة السعيدة ومناظرها اللطيفة التي كنت قد قضيتها مع طلابي – امثال عبدالرحـمن – كالفلم السينمائي. فكما مرّت تلك اللوحات امام خيالي، سلبت من شدة مقاومتي وفتّ في عضدي، سرعة التأثر النابعة من الشيخوخة والغربة.

ولكن على حين غرّة انكشف سرّ الآية الكريـمة } كلُ شيءٍ هالكٌ إلاّ وجههُ لهُ الـحُكمُ واليه تُرجعون { (القصص:88). انكشافاً بيـّناً بـحيث جعلني أردّد: ياباقي انت الباقي.. وبه اخذت السلوان الـحقيقي.

اجل!. رأيت نفسي بسرّ هذه الآية الكريـمة، وعبر تلك الوديان الـخالية، ومع تلك الـحالة الـمؤلـمة، رأيتها على رأس ثلاث جنائز كبرى كما أشرت اليها في رسالة ((مرقاة السنـّة)):

الاولى: رأيت نفسي كشاهد قبر يضم خـمساً وخـمسين سعيداً ماتوا ودفنوا في حياتي، وضمن عمري الذي يناهز الـخامسة والـخمسين سنة.

الثانية: رأيت نفسي كالكائن الـحي الصغير جداً – كالنملة – يدب على وجه هذا العصر الذي هو بـمثابة شاهد قبر للـجنازة العظمى لـمن هم بنو جنسي ونوعي، والذيم دفنوا في قبر الـماضي منذ زمن آدم عليه السلام.

اما الثالثة: فقد تـجسـّمت امام خيالي – بسرّ هذه الآية الكريـمة – موت هذه الدنيا الضخمة، مثلما تـموت دنيا سيارة من على وجه الدنيا كل سنة كما يـموت الانسان.. وهكذا فقد أغاثني الـمعنى الاشاري للآية الكريـمة } فإنْ تَوَلوا فَقُل حَسبيَ الله لا الهَ إلاّ هو عليهِ توكلتُ وهو ربُّ العرش العظيم { (التوبة:129) وأمدني بنور لايـخبو، فبدد ما كنت اعانيه من الـحزن النابع من وفاة ((عبدالرحـمن)) واهباً لي التسريَ والتسلي الـحقيقي.

نعم لقد علمتني هذه الآية الكريـمة أنه مادام الله سبحانه وتعالى موجوداً فهو البديل عن كل شيء، وما دام باقياً فهو كافٍ عبده، حيث أن تـجلياً واحداً من تـجليات عنايته سبحانه يعدل العالـم كله، وان تـجلياً من تـجليات نوره العميم يـمنح تلك الـجنائز الثلاث حياة معنوية أيـما حياة، بـحيث تظهر انها ليست جنائز، بل مـمن أنهوا مهامهم ووظائفهم على هذه الارض فارتـحلوا الى عالـم آخر.

ولـما كنا قد اوضحنا هذا السرّ والـحكمة في ((اللمعة الثالثة)) أراني هنا في غير حاجة الى مزيدٍ من التوضيح، الاّ أنني اقول:

ان الذي نـجـّاني من تلك الـحالة الـمحزنة الـمؤلـمة، تكراري لـ ((ياباقي انت الباقي.. ياباقي انت الباقي)) مرتين والذي هو معنى الآية الكريـمة } كلُ شيءٍ هالكٌ إلاّ وجههُ { وتوضيح ذلك:

انني عندما قلت: ((ياباقي انت الباقي)) للمرة الاولى، بدأ التداوي والضماد بـما يشبه العمليات الـجراحية على تلك الـجروح الـمعنوية غير الـمحدودة الناشئة من زوال الدنيا وزوال مَن فيها من الاحبة من أمثال عبدالرحـمن والـمتولدة من انفراط عقد الروابط التي ارتبط بها معهم.

اما في الـمرة الثانية فقد اصبحت جـملة ((ياباقي انت الباقي)) مرهماً لـجميع تلك الـجروح الـمعنوية، بلسماً شافياً لـها، وذلك بالتأمل في الـمعنى الآتي:

ليرحل مَن يرحل ياإلـهي فانت الباقي وانت الكافي، وما دمتَ باقياً فَلَتجلٍّ من تـجليات رحـمتك كافٍ لكل شيء يزول، ومادمتَ موجوداً فكل شيء اذاً موجود لـمن يدرك معنى انتسابه اليك بالإيـمان بوجودك ويتحرك على وفق ذلك الانتساب بسر الإسلام، فليس الفناء والزوال ولا الـموت والعدم الاّ ستائر للتجديد ، وإلاّ وسيلة للتجول في منازل مـختلفة والسير فيها.. فانقلبتْ بهذا التفكير تلك الـحالة الروحية الـمحرقة الـحزينة، وتلك الـحالة الـمظلمة الـمرعبةالى حالة مسرّة بهيجة ولذيذة، والى حالة منورة مـحبوبة مؤنسة، فاصبح لساني وقلبي بل كل ذرّة من ذرات جسمي، يردد بلسان الـحال قائلاً: الـحمد لله.

ولقد تـجلى جزء من ألف جزء من ذلك التجلـّى للرحـمة بهذه الصورة:

عندما رجعت من موطن حزني.. من تلك الوديان، الى ((بارلا)) حاملاً معي تلك الاحزان، رأيت شاباً يدعى ((مصطفى قوله أونلى)) قد أتاني مستفسراً عن بعض ما يشغله من مسائل الفقه والوضوء والصلاة.. فرغم انني لـم اكن استقبل الضيوف في تلك الفترة الاّ أن روحي كأنها قد قرأت ما في روح ذلك الشاب من الاخلاص، وكأنها شعرت – بـحسٍّ قبل الوقوع – ما سوف يؤديه هذا الشاب من خدمات الرسائل النور في الـمستقبل (1)، لذا لـم أردّه وقبلته ضيفاً(2) ثم تبيـّن لي أن الله سبحانه وتعالى قد عوضني بهذا الشاب عن ((عبدالرحـمن)) الذي هو خير خلف لي ويفي بـمهمة الوارث الـحقيقي في خدمة رسالة النور. وبعث سبحانه وتعالى اليّ ((مصطفى)) وكأنه يقول: أخذت منك عبداً للرحـمن واحداً وسأعوضك عنه بثلاثين ((عبدالرحـمن)) كهذا الشاب ((مصطفى)) مـمن يسعون في تلك الوظيفة الدينية، وسيكونون لك طلاباً اوفياء، وابناء كرماء، واولاداً معنويين، واخوة طيبين، واصدقاء فدائيين مضحيـّن..

نعم.. ولله الـحمد فقد وهبني الباري عز وجل ثلاثين عبداً للرحـمن، وعندها خاطبت قلبي: مادمتَ ياقلبي الباكي الـمكلوم قد رأيت هذا النـموذج وهذا الـمثال وضمدتَ به اهم جرح من تلك الـجروح الـمعنوية، فعليك ان تسكن وتطمئن بأن الله سبحانه سيضمد الـجروح الباقية التي تقلقك وتتألـم منها..

فيا أيها الاخوة الشيوخ ويا أيتها الاخوات العجائز.. ويامَن فقدتـم مثلي أحب ولده اليه زمن الشيخوخة او فارقه احد اقاربه.. ويامن يثقل كاهله وطأة الشيخوخة ويـحمل معها على رأسه الهموم الثقيلة الناشئة من الفراق! لقد علمتهم وضعي وعرفتم حالي فانه رغم شدّته باضعاف ما عندكم من اوضاع وحالات، الاّ أن هذه الآية الكريـمة قد ضمدته واسعفته فشفته باذن الله، فلا شك من أن صيدلية القرآن الـمقدسة زاخرة بعلاج كل مرض من امراضكم ودواء كل سقم من اسقامكم. فاذا استطعتم مراجعتها بالإيـمان، وقمتم بالتداوي والعلاج بالعبادة، فلابُدَّ أن تـخف وطأة ما تـحملون على كاهلكم من أثقال الشيخوخة وما يثقل رؤوسكم من هموم.

هذا وان سبب كتابة هذا البحث كتابة مطوّلة هو رجاء الاكثار من طلب الدعاء للـمرحوم ((عبدالرحـمن)). فلا تـملـّوا ولا تسأموا من طوله. وان قصدي من اظهار جرحي الـمخيف بهذه الصورة الـمفجعة الـمؤلـمة، فتتألـمون أكثر وتـحزنون حتى أنه قد يؤدي الى زيادة آلامكم واحزانكم فتنفرون منه، ليس الاّ لبيان ما في البلسم القرآني الـمقدس من شفاء خارق ومن نور باهر ساطع.

الرجاء الثالث عشر(1)

سأبـحث في هذا الرجاء عن لوحة مهمة من لوحات وقائع حياتي، فالرجاء ألاّ تسأموا وتضجروا من طولـها.

بعدما نـجوت من أسر الروس في الـحرب العالـمية الاولى، لبثت في استانبول لـخدمة الدّين في ((دار الـحكمة الإسلامية)) حوالي ثلاث سنوات. ولكن بارشاد القرآن الكريم وبهمـّة الشيخ الكيلاني، وبانتباهي بالشيخوخة، تولـّد عندي سأم وملل من الـحياة الـحضارية في استانبول، وبت أنفر من حياتها الاجتماعية البهيجة، فساقني الشوق والـحنين الـمسمى بـ ((داء الغُربة)) الى بلدتي، اذ كنت اقول: مادمت سأموت فلأمت اذن في بلدتي.. فتوجهت الى مدينة ((وان)).

وهناك قبل كل شيء ذهبت الى زيارة مدرستى الـمسماة بـ((خورخور)) فرأيت أن الأرمن قد أحرقوها مثلما احرقوا بقية البيوت الـموجودة في ((وان)) اثناء الاحتلال الروسي.. صعدت الى القلعة الـمشهورة في ((وان)) وهي كتلة من صخرة صلدة تضم تـحتها مدرستي الـملاصقة بها تـماماً، وكانت تـمرّ من امامي أشباح اولئك الاصدقاء الـحقيقيين والاخوة الـمؤنسين من طلابي في مدرستي الذين فارقتهم قبل حوالي سبع سنوات خلت، فعلى إثر هذه الكارثة اصبح قسم من اولئك الاصدقاء الفدائيين شهداء حقيقيين وآخرون شهداء معنويين، فلم اتـمالك نفسي من البكاء والنـحيب.. صعدت الى قمة القلعة وارتقيتها وهي بعلو الـمنارتين ومدرستي تـحتها، وجلست عليها أتأمل، فذهب بي الـخيال الى ما يقرب من ثـماني سنوات خلَتْ وجال بي الـخيال في ذلك الزمان، لـما لـخيالي من قوة ولعدم وجود مانع يـحول بيني وبين ذلك الـخيال ويصرفني عن ذلك الزمان، اذ كنت وحيداً منفرداً.

شاهدت تـحولاً هائلاً جداً قد جرى خلال ثـماني سنوات حتى أنني كلـّما كنت افتح عيني أرى كأن عصراً قد ولـّى ومضى باحداثه. رأيت ان مركز الـمدينة الـمحيطة بـمدرستي – الذي هو بـجانب القلعة – قد أحرق من اقصاه الى أقصاه ودمـّر تدميراً كاملاً. فنظرت الى هذا الـمنظر نظرة حزن وأسى.. اذ كنت أشعر الفرق الهائل بين ماكنت فيه وبين ماأراه الآن، وكأن مائتي سنة قد مرّت على هذه الـمدينة.. كان أغلب الذين يعمـّرون هذه البيوت الـمهدّمة أصدقائي، وأحبـّة اعزّاء عليّ.. فلقد توفـّى قسم منهم بالـهجرة من الـمدينة وذاقوا مضاضتها، تغمدهم الله جـميعاً برحـمته. حيث دُمـّرت بيوت الـمسلمين في الـمدينة كليـّاً ولـم تبق الاّ مـحلة الأرمن، فتألـمت من الاعماق، وحزنت حزناً شديداً ما لو كان لي ألف عين لكانت تسكب الدموع مدراراً.

كنت أظن أنني قد نـجوت من الاغتراب حيث رجعت الى مدينتي، ولكن – وياللاسف – لقد رأيت أفجع غربة في مدينتي نفسها؛ اذ رأيت مئات من طلابي وأحبتي الذين ارتبط بهم روحياً – كعبدالرحـمن الـمار ذكره في الرجاء الثاني عشر – رأيتهم قد أهيل عليهم التراب والانقاض، ورأيت أن منازلـهم أصبحت أثراً بعد عين، وامام هذه اللوحة الـحزينة تـجسـّد معنى هذه الفقرة لأحدهم والتي كانت في ذاكرتي منذ زمن بعيد إلاّ انني لـم اكن افهم معناها تـماماً:-

لولا مفارقةُ الاحبابِ ما وجَدَتْ لـها الـمنايا الى ارواحنا سبُلاً(1)

أي ان اكثر ما يقضي على الانسان ويهلكه انـما هو مفارقة الاحباب.

نعم، انه لـم يؤلـمني شيء ولم يبكني مثل هذه الـحادثة، فلو لـم يأتني مددٌ من القرآن الكريم ومن الإيـمان لكان ذلك الغم والـحزن والهم يؤثر فيّ الى درجة كافية لسلب الروح منيّ. لقد كان الشعراء منذ القديم يبكون على منازل أحبتهم عند مرورهم على اطلالـها فرأيت بعيني لوحة الفراق الـحزينة هذه.. فبكت روحي وقلبي مع عيني بـحزن شديد كـمن يـمـّر بعد مائتي سنة على ديار أحبـّته واطلالـها..

عند ذلك مرّت الصفحات اللطيفة اللذيذة لـحياتي امام عيني وخيالي واحدة تلو الاخرى بكل حيوية، كمرور مشاهد الفلم السينمائي.. تلك الـحياة السارة التي قضيتها في تدريس طلابي الـنجباء بـما يقرب من عشرين سنة، وفي هذه الاماكن نفسها، التي كانت عامرة بهيجة وذات نشوة وسرور، فاصبحت الآن خرائب وأطلالاً. قضيت فترة طويلة امام هذه اللوحات من حياتي، وعندها بدأت أستغرب من حال أهل الدنيا، كيف أنهم يـخدعون انفسهم، فالوضع هذا يبيـّن بداهة ان الدنيا لامـحالة فانية، وان الانسان فيها ليس الاّ عابر سبيل، وضيف راحل. وشاهدت بعينيّ مدى صدق ما يقوله اهل الـحقيقة:

((لاتنخدعوا بالدنيا فإنها غدّارة.. مكـّارة.. فانية..)).
ورأيت كذلك أن الانسان ذو علاقة مع مدينته وبلدته بل مع دنياه مثلما له علاقة مع جسمه وبيته، فبينما كنت أريد أن ابكي بعينيّ لشيخوختي – باعتبار وجودي – كنت أريد أن أجهش بالبكاء بعشرة عيون لا لـمجرد شيخوخة مدرستي، بل لوفاتها، بل كنت أشعر أنني بـحاجة الى البكاء بـمائة عين على مدينتي الـحلوة الشبيهة بالـميتة.

لقد ورد في الـحديث الشريف من أن مَلَكاً ينادي كل صباح: (لدوا للـموت وابنوا للـخراب)(1) كنت اسـمع هذه الـحقيقة، اسـمعها بعينيّ لا بأذني، ومثلما أبكاني وضعي في ذلك الوقت، فان خيالي منذ عشرين سنة يذرق الدموع ايضاً كلـّما مرّ على ذلك الـحال. نعم ان دمار تلك البيوت في قمة القلعة التي عمـّرت آلاف السنين، واكتهال الـمدينة التي تـحتها خلالا ثـماني سنوات، حتى كأنه قد مرّت عليها ثمانـمائة سنة، ووفاة مدرستي – اسفل القلعة – التي كانت تنبض بالـحياة والتي كانت مـجمع الاحباب.. تشير الى وفاة جـميع الـمدارس الدينية في الدولة العثمانية. وتبين العظمة الـمعنوية لـجنازتها الكبرى، حتى كأن القلعة التي هي صخرة صلدة واحدة، قد اصبحت شاهدة قبرها. ورأيت ان طلابي – رحـمهم الله جـميعاً – الذين كانوا معي في تلك الـمدرسة - قبل ثـماني سنوات - وهم راقدون في قبورهم، رأيتهم كأنهم يبكون معي، بل تشاركني البكاء والـحزن حتى بيوت الـمدينة الـمدَمـَّرة، بل حتى جدرانها الـمنهدّة واحجارها الـمبعثرة.

نعم انني رأيت كُل شيء وكأنه يبكي، وعندئذٍ علمت انني لاأستطيع أن اتـحمـّل هذه الغربة في مدينتي، ففكرت إما أن أذهب اليهم في قبورهم او عليّ أن انسحب الى مغارة في الـجبل منتظراً اجلي، وقلت مادام في الدنيا مثل هذه الفراقات والافتراقات التي لايـمكن أن يُبصر عليها، ولايـمكن أن تقاوم، وهي مؤلـمة ومحرقة الى هذه الدرجة، فلاشك أن الـموت افضل من هذه الـحياة، ويرجح على مثل هذه الاوضاع التي لاتطاق.. لذا ولـّيت وجهي سارحاً بنظري الى الـجهات الست.. فـما رأيت فيها الاّ الظلام الدامس، فالغفلة الناشئة من ذلك التألـم الشديد والتأثر العميق أرتنى الدنيا مـخيفة مرعبة، وانها خالية جرداء وكأنها ستنقض على رأسي. كانت روحي تبحث عن نقطة استناد وركن شديد امام البلايا والـمصائب غير الـمحدودة التي اتـخذت صورة اعداء ألدّاء. وكانت تبحث ايضاً عن نقطة استمداد امام رغباتها الكامنة غير الـمحدودة والتي تـمتد الى الابد. فبينما كانت روحي تبحث عن نقطة استناد، وتفتش عن نقطة استمداد وتنتظر السلوان والتسرّي من الـهموم والاحزان الـمتولدة من الفراقات والإفتراقات غير الـمحدودة والتـخريبات والوفيات الهائلة، اذا بـحقيقة آية واحدة من القرآن الكريم الـمعجز وهي: } سبـَّح لله ما في السـموات والارض وهو العزيزُ الـحكيم ` لهُ مُلك السـموات والأرض يـحيي ويُميت وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ { (الـحديد:1-2) تتجلى امامي بوضوح وتنقذني من ذلك الـخيال الاليم الـمرعب، وتنجيني من ألـم الفراق والافتراق، فاتـحةً عيني وبصيرتي. فالتفتُ الى الاثـمار الـمعلقة على الاشجار الـمثمرة وهي تنظر اليّ مبتسمة ابتسامة حلوة وتقول لي: ((لاتـحصرنَّ نظرك في الـخرائب وحدها.. فهلاّ نظرت الينا، وانعمت النظر فينا..)).

نعم ان حقيقة هذه الآية الكريـمة تنبـّه بقوة مذكـّرةً وتقول: لِمَ يُحزنك الى هذا الـحدّ سقوط رسالة عامرة شيـّدت بيد الانسان الضعيف على صحيفة مفازة ((وان))، حتى اتـخذت صورة مدينة مأهولة؟ فلِمَ تـحزن من سقوطها في السيل الـجارف الـمخيف الـمسمـّى بالاحتلال الروسي الذي مـحا آثارها واذهب كتابتها؟ إرفع بصرك الى الباري الـمصوّر وهو ربّ كل شيء ومالكه الـحقيقي، فناصيته بيده، وان كتاباته سبحانه على صحيفة ((وان)) تُكتب مـجدداً باستمرار بكمال التوهج والبهجة وان ما شاهدته من اوضاع في الغابر والبكاء والنـحيب على خلو تلك الاماكن وعلى دمارها وبقائها مقفرة انـما هو من الغفلة عن مالكها الـحقيقي، ومن توهم الانسان – خطأ – انه هو الـمالك لـها، ومن عدم تصوره انه عابر سبيل وضيف ليس الاّ..

فانفتح من ذلك الوضع الـمحرق، ومن ذلك الـخطأ في التصور بابٌ لـحقيقة عظيمة، وتهيأت النفسُ لتقبلها – كالـحديد الذي يدخل في النار ليلين ويعطي له شكلاً معيناً نافعاً – اذ اصبحت تلك الـحالة الـمحزنة وذلك الوضع الـمؤلـم، ناراً متأججة ألانت النفس. فأظهر القرآن الكريم لـها فيض الـحقائق الإيـمانية بـجلاء ووضوح تام من خلال حقيقة تلك الآية الـمذكورة حتى جعلها تقبل وترضخ.

نعم، فكما أثبتنا في الـمكتوب العشرين وامثاله من الرسائل، فان حقيقة هذه الآية الكريـمة – ولله الـحمد – قد وهبت بفيض الإيـمان نقطة استناد وارتكاز هائلة، وهبتها للروح ومنحتها الى القلب كل حسب ما ينكشف له من فيض ما يـملكه من قوة الإيـمان، بحيث تستطيع ان تتصدّى لتلك الـمصائب والـحالات الـمرعبة حتى لو تضاعفت مائة مرة، ذلك لانها ذكـّرت بأن كل شيء مسخّر لأمر خالقك الذي هو الـمالك الـحقيقي لـهذه الـمملكة، فمقاليد كل شيء بيده، وحسبك أن تنتسب اليه سبحانه.

فبعدما عرفتُ خالقي، وتوكلتُ عليه، ترك كل شيء ما يضمره من العداء نـحوي حتى بدأت الـحالات التي كانت تـحزنني وتؤلـمني، بدأت الآن تسعدني وتسرّني.

وكما أثبتنا في كثير من الرسائل ببراهين قاطعة، فان النور القادم من ((الإيـمان بالآخرة)) كذلك اعطى ((نقطة استمداد)) هائلة جداً تـجاه الآمال والرغبات غير الـمحدودة، بـحيث أنها تكفي تلك القوة لا لتلك الـميول والرغبات الصغيرة الـمؤقتة والقصيرة، ولا لتلك الروابط مع احبتي في الدنيا وحدها. بل تكفي ايضاً لرغباتي غير الـمتناهية في دار الـخلود وعالـم البقاء وفي السعادة الابدية، ذلك لانه بتجلٍّ واحد من تـجليات رحـمة الرحـمن الرحيم يُنشر على مائدة الربيع مالايعد ولا يُحصى من نعمه اللذيذة البديعة على سطح الارض التي هي منزل من منازل دار ضيافة الدنيا الـمؤقتة، فيمنح بها – سبحانه – في كل ربيع الى اولئك الضيوف، وينعم بها عليهم، كي يدخل في قلوبهم السرور لبضع ساعات، وكأنه يطعمهم فطور الصباح، ثم يأخذهم الى مساكنهم الابدية في ثـماني جنات خالدات ملأى بنعم غير مـحدودة لزمن غير مـحدود التي اعدّها لعباده، فلاريب ان الذي يؤمن برحـمة هذا ((الرحـمن الرحيم)) ويطمئن اليها مدركاً انتسابه اليه سبحانه، لابدّ أنه يـجد نقطة استمداد عظيمة بـحيث ان ادنى درجاتها تـمدّ آمالاً غير مـحدودة وتديـمها.

هذا وان النور الصادر من ضياء الإيـمان – بـحقيقة تلك الآية – قد تـجلـّى كذلك تـجلياً باهراً ساطعاً حتى أنه نوّر الـجهات الست الـمظلمة تنويراً كالنهار، ونوّر حالتي الـمؤسفة الـمبكية على مدرستي هذه وعلى طلابي وأحبتي الراحلين تنويراً كافياً حيث نبهني الى ان العالـم الذي يرحل اليه الاحباب ليس هو بعالـم مظلم، بل بدّلوا الـمكان ليس الاّ، فستتلاقون معاً وستجتمعون ببعضكم.. وبذلك قطع دابر البكاء قطعاً كاملاً، وأفهمني كذلك انني سأجد أمثالـهم ومن يـحلّ مـحلهم.

فلله الـحمد والـمنـّة الذي احيا مدرسة ((اسبارطة)) عوضاً عن مدرسة ((وان)) الـمتوفاة والـمتحولة الى اطلال، واحيا اولئك الاحبة معنىً باكثر وافضل منهم من الطلاب النجباء والاحبة الكرام. وعلـّمني كذلك ان الدنيا ليست خاوية مقفرة، وانها ليست مدينة خربة مدمـّرة، كما كنت أتصورها خطأ، بل ان الـمالك الـحقيقي – كما تقتضي حكمته – يبدل اللوحات الـمؤقتة والـمصنوعة من قبل الانسان بلوحات اخرى ويـجدد رسائله، فكما تـحمل ثـمار جديدة كلما قطعت الثـمار فكذلك الزوال والفراق في البشرية انـما هو تـجددّ وتـجديد، فلا يبعث حزناً أليـماً لانعدام الاحباب نهائياً، بل يبعث من زاوية الإيـمان حزناً لذيذاً نابعاً من فراق لأجل لقاء في دار اخرى بهيجة.

وكذا نوّر تلك الـحالة الـمدهشة التي كنت فيها، ونوّر ما يتراءى لي من الوجه الـمظلم لـموجودات الكون كلها. فأردت ابداء الـحمد والشكر على تلك الـحالة الـمنوّرة في وقته فأتتني الفقرة التالية باللغة العربية مصورةً لتلك الـحقيقة كاملة:

[ الـحمد لله على نور الإيـمان الـمصور ما يُتوهم اجانب اعداءً امواتاً موحشين أيتاماً باكين، أودّاء اخواناً احياءً مؤنسين مرخـّصين مسرورين ذاكرين مسبحين ].

وهي تعني.: انني اقدم الى الـخالق ذي الـجلال حـمداً لانهاية لـه، على ما وهبني من نور الإيـمان الذي هو منبع جـميع هذه النعم الإلـهية غير الـمحدودة، بـما حوّل تلك اللوحة الـمرعبة التي اُظهرت لنفسي الغافلة فأوهمتها الغفلة – الـمتولدة من شدة التأثر على تلك الـحالة الـمؤلـمة – أن قسماً من موجودات الكون أعداء او جانب(1) وقسماً آخر جنائز مدهشة مفزعة، وقسماً آخر أيتام باكون حيث لامعين لـهم ولامولى، حوّل ذلك النور كل شيء حتى شاهدت بعين اليقين ان الذين كانوا يبدون اجانب وأعداء انـّما هم اخوة واصدقاء.. وان ما كان يَظهر كالـجنائز الـمرعبة؛ قسمٌ منهم أحياء مؤنسون، أو هم مـمن أنهوا وظائفهم ومهماتهم.. وان ما يتوهم أنها نواح الايتام الباكين، ترانيم ذكر وتراتيل تسبيح. أي أنني اقدم الـحمد لله مع جميع الـموجودات التي تـملأ دنياي الـخاصَة التي تسع الدنيا كلها، فأشركها معي في ذلك الـحمد والتسبيح لله سبحانه، نيةً وتصوراً. حيث لي الـحق في ذلك، فنقول معاً بلسان حال كل فرد من افراد الـموجودات وبلسان حال الـجميع ايضاً: ((الـحمد لله على نور الإيـمان)).

ثم أن لذائذ الـحياة واذواقها التي تلاشت على اثر تلك الـحالة الـمدهشة الباعثة على الغفلة، والآمال التي انسحبت نهائياً وانكمشت ونضب معينها، والنعم واللذائذ الـخاصة بي التي ظلـّت مـحصورة في أضيق دائرة وربـما فنيت، كل ذلك قد تـحول وتبدل بنور الإيـمان – كما أثبتنا ذلك في رسائل اخرى – فوسـّع ذلك النور تلك الدائرة الضيقة الـمطوقة حول القلب الى دائرة واسعة جداً حتى انطوى فيها الكون كلـّه، وجعل دار الدنيا ودار الآخرة سُفرتين مـملوءتين بالنعم، وحوّلـهما الى مائدتين مـمدتين للرحـمة، بدلاً من تلك النعم التي يبست وفقدت لذتها في حديقة ((خورخور)). ولـم يقتصر على ذلك فقط بل جعل كلاً من العين والاذن والقلب وامثالـها من الـحواس بل مائة من اجهزة الانسان، يداً مـمتدة حسب درجات الـمؤمن تـمتد الى السفرتين الـمملوءتين بالنعم بـحيث تتمكن من ان تأخذ النعم وتلتقطها من جـميع اقطارها؛ لذا قلت امام هذه الـحقيقة الكبرى شكراً لله على تلك النعم غير الـمحدودة ما يأتي:

[ الـحمد لله على نور الإيـمان الـمصوّر للدارين مـملوءتين من النعمة والرحـمة، لكل مؤمن حقٌ أن يستفيد منهما بـحواسه الكثيرة الـمنكشفة باذن خالقه ].

وهذا يعني: الـحمد لله الذي وهب لي ذلك الإيـمان الذي يُري بنعمة نوره أن الدنيا والآخرة مـملوءتان بالنعم والرحـمة ويضمن الاستفادة من تينك السفرتين العظيمتين بايدي جـميع الـحواس الـمنكشفة بنور الإيـمان والـمنبسطة بنور الإسلام للـمؤمنين الـحقيقيين، فلو استطعت تقديـم الـحمد والشكر لله خالقي تـجاه ذلك الإيـمان بـجميع ذرات كياني وبـملء الدنيا والاخرة لَفعلت.

فما دام الإيـمان يفعل فعله في هذا العالـم بـمثل هذه الآثار العظيمة، فلابدّ أن له في دار البقاء والـخلود ثمراتٍ اعظم وفيوضات اوسع، بـحيث لا يـمكن أن تستوعبها عقولنا الدنيوية وتعرّفها.

فيا اخوتي الشيوخ، ويا اخواني العجائز، ويا مَن تتجرعون مثلي الآلام الـمرّة بفراق كثير من الاحبة بسبب الشيخوخة! انيّ أخال نفسي اكثر منكم شيباً معنىً، وان كان يبدو أن فيكم من هو اكبر مني سنـّاً، ذلك لانني أتألـم – فضلاً عن آلامي – بآلام آلاف من اخواني، لــما أحـمله في فطرتي من الرقة والشفقة الزائدتين الى بني جنسي. فأتألـم كأنني شيخ يناهز الـمئات من السنين، أما انتم فمهما تـجرعتم من آلام الفراق لـم تتعرضوا لـمثل ما تعرضت له من البلايا والـمصائب! انه ليس لي ابن افكر فيه، الاّ انني اشعر برقة وألـم – بسر الشفقة الكامنة في فطرتي – متوجهة الى آلام ومصائب آلاف من أبناء الإسلام، بل اشعرها حتى لالآم الـحيوانات البريئة. زد على ذلك أنني ارى نفسي متعلقة – من جهة الغيرة على الإسلام – بهذه البلاد، بل بالعالـم الإسلامي، وارتبط بهما كأنهما داري، برغم انـّي لا أملك بيتاً خاصاً بي كي أحصر ذهني فيه؛ لذا فانني أتألـم بالآم الـمؤمنين الذين هم في هاتين الدارين وأحزن كثيراً لفراقهم.

ولـما كان نور الإيـمان قد كفاني كفاية تامة وأتى على جـميع تأثراتي الناشئة من شيخوختي كلها ومن بلايا الفراقات، ووهب لي رجاءً لايخيب، واملاً لا ينفصم، وضياءً لاينطفىء، وسلواناً لا ينفد، فلابد أن الإيـمان ايضاً سيكون كافياً لكم ووافياً ايضاً ازاء الظلمات الناشئة من الشيخوخة، وازاء الغفلة الواردة منها، وازاء التأثرات والتألـمات الصادرة منها. وحقاً ان اعتم شيخوخة انـما هي شيخوخة اهل الضلالة والسفاهة وأن أقسى الفراقات واشدها ايلاماً انـما هي آلامهم وفراقاتهم!!

نعم، ان تذوق الإيـمان الذي يبعث الرجاء ويشيع النور وينشر السلوى، وان الشعور بسلوانه والتلذذ به هو في التمثلالشعوري للعبودية اللائقة بالشيخوخة والـموافقة للإسلام، وليس هو بتناسي الشيخوخة واللهات وراء التشبـّه بالشباب واقتحام غفلتهم الـمسكرة.. تفكـّروا دائماً وتأملوا في الـحديث النبوي الشريف ((خيرُ شبابكم من تشبـّه بكهولكم وشرُّ كهولكم من تشبـّه بشبابكم))(1) اوكما قالe ، أي خير شبابكم من تشبه بالكهول في التأني والرزانة وتـجنبهم السفاهة وشر كهولكم من تشبه بالشباب في السفاهة والاتغماس في الغفلة.

فيا اخوتي الشيوخ ويا اخواتي العجائز! لقد ورد في الـحديث الشريف ما معناه ((ان الرحـمة الإلـهية لتستحي من أن تردّ يداً ضارعة من شيخ مؤمن او عجوز مؤمنة))(2). فما دامت الرحـمة الإلـهية تـحترمكم هكذا، فعظموا إذن احترامها بعبوديتكم لله
.
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-01-2011
  #24
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: اللمعات

الرجاء الرابع عشر

جاء في مستهل (الشعاع الرابع) الذي هو تفسير للآية الكريـمة: } حَسْبُنا اللهُ وَنِعْمَ الوَكيل { (آل عمران:173) ما خلاصته:

حينما جرّدني أرباب الدنيا من كل شيء، وقعت في حـمسة ألوان من الغربة. ولـم ألتفت الى ما في ((رسائل النور)) من أنوار مسلـّية مـمدّة، جراء غفلة اورثها الضـجر والضيق وانـما نظرت مباشرة الى قلبي وتـحسست روحي، فرأيت انه يسيطر عليّ عشق في منتهى القوة للبقاء، وتهيمن عليّ مـحبة شديدة للوجود، ويتحكم فيّ شوق عظيم للـحياة.. مع ما يمكن فيّ من عـجز لاحد له، وفقر لانهاية له. غير ان فناءً مهولاً مدهشاً، يطفىء ذلك البقاء ويزيله، فقلت مثلما قال الشاعر الـمحترق الفؤاد:

حكمة الأله تقضي فناء الـجسد والقلـب تــوّاق الى الابـــــد

لـهـف نفســي من بـلاء وكمـد حار لقمان في ايـجاد الضمد

فطأطأت رأسي يائساً.. واذا بالآية الكريـمة: } حسبنا الله ونعم الوكيل{ تغيثني قائلة: إقرأني جيداً بتدبر وامعان، فقرأتها بدوري خـمسمائة مرة في كل يوم، فكلما كنت أتلوها كانت تكشف عن بعضٍ من أنوارها وفيوضاتها الغزيرة، فرأيت منها بعين اليقين – وليس بعلم اليقين – تسع مراتب حسبية:

الـمرتبة النورية الـحسبية الاولى:

ان ما فيّ من عشق البقاء، ليس متوجهاً الى بقائي أنا، بل الى وجود ذلك الكامل الـمطلق والى كماله وبقائه. وذلك لوجود ظلٍ لتجلٍ من تـجليات اسمٍ من اسـماء الـجليل والـجميل الـمطلق ذي الكمال الـمطلق، وهو الـمحبوب لذاته – أي دون داعٍ الى سبب – في ماهيتي الاّ ان هذه الـمحبة الفطرية ضلت سبيلها وتاهت بسبب الغفلة، فتشبثت بالظل وعشق بقاء الـمرآة.

ولكن ما ان جاءت } حسبنا الله ونعم الوكيل { حتى رفعت الستار فاحسستُ وشاهدت، وتذوقتُ بـحق اليقين:

ان لذة البقاء وسعادته، موجودة بنفسها، بل افضل وأكمل منها، في ايـماني وإذعاني وإيقاني ببقاء الباقي ذي الكمال، وبأنه ربي وإلـهي. وقد وضحت دلائل هذا بعمق ودقة متناهية في الرسالة ((الـحسبية)) في اثنتي عشرة كذا.. كذا.. كذا..)). وبينت الاستشعار الإيـماني بـما يـجعل كل ذي حسّ وشعور في تقدير واعجاب!.

الـمرتبة النورية الـحسبية الثانية:

انه مع عجزي غير الـمتناهي الكامن في فطرتي، ومع الشيخوخة الـمستقرة في كياني، ومع تلك الغربة التي لفـّتني، ومع عدم وجود الـمعين لي، وقد جُردت من كل شيء ويهاجمني اهل الدنيا بدسائسهم وبـجواسيسهم.. في هذا الوقت بالذات خاطبت قلبي قائلاً:

((ان جيوشاً كثيفة عارمة تهاجم شخصاً واحداً ضعيفاً مريضاً مكبـّل اليدين.. أوَ ليس له – أي لي – من نقطة استناد؟)).

فراجعت آية } حسبنا الله ونعم الوكيل { فاعلمتني:

انك تنتسب بهوية الانتساب الإيـماني الى سلطان عظيم ذي قدرة مطلقة، بـحيث يجهز بانتظام تام في الربيع جـميع ماتـحتاجه جيوش النباتات والـحيوانات الـمنتشرة على سطح الارض من معدّات، فيزوّد جـميع تلك الـجيوش الـمتشكلة في اربعمائة ألف نوع من الأمـم الـمختلفة، ويوزع جـميع ارزاق الـجيش الـهائل للأحياء – وفي مقدمتها الانسان – لابشكل ما اكتشفه الانسان في الآونة الأخيرة من مستخلصات اللحم والسكر وغيرهما، بل بصورة مستخلصات أكمل وافضل بكثير بل تفوقها مائة مرة، فهي مستخلصات متضمنة جـميع انواع الاطعمة. بل هي مستخلصات رحـمانية.. تلك التي تسمى البذور والنوى.. زد على ذلك فانه يغلف ايضاً تلك الـمستخلصات باغلفة قَدَرية تتناسب مع نضجها وانبساطها ونـموها، ويـحفظها في عليبات وصنيدقات صغيرة وصغيرة جداً، وهذه الصُنيدقات ايضاً تُصنع بسرعة متناهية جداً، وبسهولة مطلقة للغاية، وبوفرة هائلة، وذلك في معمل ((ك.ن)) الـموجود في أمر ((كـُنْ))، حتى أن القرآن الكريم يقول: } فإنـما يَقولُ لهُ كـُنْ فيكُونْ! { .

فما دمت قد ظفرت بنقطة استناد مثل هذه بهوية الانتساب الإيـماني، فيمكنك الاستناد والاطمئنان اذاً الى قوة عظيمة وقدرة مطلقة. وحقاً لقد كنت أحسّ بقوة معنوية عظيمة كلما كنت أتلقى ذلك الدرس من تلك الآية الكريـمة، فكنت أشعر انني أملك قوة يـمكنني أن اتـحدّى بها جـميع اعدائي في العالـم وليس الـماثلين امامي وحدهم، لذا رددتُ من اعماق روحي: } حسبنا الله ونعم الوكيل { .

الـمرتبة النورية الـحسبية الثالثة:

حينما اشتد خناق الامراض وألوان الغربة وأنواع الظلم عليّ، وجدت ان علاقاتي تنفصم مع الدنيا، وان الإيـمان يرشدني بانك مرشح لدنيا اخرى ابدية، وانك مؤهل لـمملكة باقية وسعادة دائمة. ففي هذه الاثناء تركت كل شيء تقطر منه الـحسرة ويـجعلني أتأوّه وأتأفف، وأبدلته بكل ما يبشـّر بالـخير والفرح ويـجعلني في حـمدٍ دائم. ولكن أنـّى لـهذه الغاية أن تتحقق وهي غاية الـمنى ومبتغى الـخيال وهدف الروح ونتيجة الفطرة، الاّ بقدرة القدير الـمطلق الذي يعرف جـميع حركات مـخلوقاته وسكناتهم قولاً وفعلاً، بل يعرف جـميع احوالـهم واعمالـهم ويسجلها كذلك. وانـّى لـها أن تـحصل الاّ بعنايته الفائقة غير الـمحدودة لـهذا الانسان الصغير الهزيل الـمتقلب في العجز الـمطلق حتى كـّرمه، واتـخذه خليلاً مـخاطباً، واهباً له الـمقام السامي بين مـخلوقاته.

نعم، حينما كنت أفكر في هاتين النقطتين، أي: في فعالية هذه القدرة غير الـمحدودة، وفي الاهمية الـحقيقية التي أولاها البارىء سبحانه لـهذا الانسان الذي يبدو حقيراً. اردت ايضاحاً في هاتين النقطتين ينكشف به الإيـمان ويُطمئن به القلب فراجعت بدوري تلك الآية الكريـمة ايضاً، فقالت لي: دقق النظر في ((نا)) التي في ((حسبنا))، وانظر مَنْ هم اولاء ينطقون ((حسبنا)) معك، سواء ينطقونها بلسان الـحال، او بلسان الـمقال، أنصت اليهم.. نعم هكذا أمرتني الآية!. فنظرت.. فاذا بي أرى طيوراً مـحلـّقة لاتـحدّ، وطويرات صغيرة صغيرة جداً كالذباب لاتـحصى، وحيوانات لا تعد ونباتات لاتنتهي واشجاراً لاآخر لـها ولانهاية...

كل ذلك يردد مثلي بلسان الـحال معنى } حسبنا الله ونعم الوكيل { ، بل يُذكر الآخرين بها.. أن لـهم وكيلاً – نِعمَ الوكيل – تكفـّل بـجـميع شرائط حياتهم، حتى انه يـخلق من البيوض الـمتشابهة بعضها مع بعض وهي الـمتركبة من الـمواد نفسها، ويـخلق من النطف التي هي مثل بعضها البعض، ويـخلق من الـحبوب التي هي البعض عينه، ويـخلق من البذور الـمتماثلة بعضها مع البعض الآخر مائة الف طراز من الـحيوانات ومائة الف شكل من الطيور ومائة الف نوع من النباتات، ومائة الف صنف من الاشجار، يـخلقها بلاخطأ وبلانقص وبلا التباس، يـخلقها مزينة جـميلة وموزونة منظمة، مع تـميـّز بعضها عن البعض الآخر واختلاف بعضها عن بعض، يـخلقها باستمرار ولاسيما ايام كل ربيع امام اعيننا في منتهى الكثرة، وفي منتهى السهولة، وفي منتهى السعة، وفي منتهى الوفرة.. فخلقُ جـميع هذه الـمخلوقات متشابهاً ومتداخلاً ومـجتمعة على النمط نفسه والاشكال عينها، ضمن عظمة هذه القدرة الـمطلقة وحشمتها، يظهر لـنا بوضوح: وحدانيته سبحانه وتعالى وأحديته.

وقد أفهمتني الآية أنه لا يـمكن التدخل مطلقاً ولا الـمداخلة قطعاً في مثل هذا الفعل للربوبية الـمطلقة وفي تصرف هذه الـخلاقية، اللتين تبرزان هذه الـمعجزات غير الـمحدودة وتنشرانها.

فالى الذين يريدون ان يفهموا هويتي الشخصية وماهيتي الانسانية كما هي لكل مؤمن.. والى الذين يرغبون أن يكونوا مثلي، عليهم أن ينظروا الى تفسير نفسي (أنا) في جـمع ((نا)) في الآية الكريـمة ويتدبّروا في موقعه في ذلك الـجمع. وليفهموا ما وجودي وجسمي الذي يبدو ضئيلاً وفقيراً لا اهمية له – كوجود كل مؤمن.؟! وليعلموا ما الـحياة نفسها بل ما الانسانية؟! وما الإسلام؟! وما الإيـمان التحقيقي؟ وما معرفة الله؟ وكيف تـحصل محبة الله؟. فليفهموا.. وليتلقوا درساً في ذلك!.

الـمرتبة النورية الـحسبية الرابعة:

وافقت العوارض الـمزلزلة لكياني أمثال الشيب والغربة والـمرض وكوني مغلوباً على أمري، وافقت تلك العوارض فترة غفلتي، فكأن وجودي الذي أتعلق به بشدة يذهب الى العدم، بل وجود الـمخلوقات كلها تفنى وتنتهي الى الزوال، فولـّد عندي ذهاب الـجميع الى العدم قلقاً شديداً واضطراباً أليماً فراجعت الآية الكريـمة ايضاً } حسبنا الله ونعم الوكيل { فقالت لي: ((تدبـّر في معانيّ، وانظر اليها بـمنظار الإيـمان)) وانا بدوري نظرت الى معانيها بعين الإيـمان فرأيت:

ان وجودي الذي هو ذرة صغيرة جداً – كوجود كل مؤمن – مرآةٌ لوجود غير مـحدود، ووسيلة للظفر بانواع من وجود غير مـحدود بإنبساط غير متناه.. وهو بـمثابة كلمة حكيمة تثمر من انواع الوجود الكثيرة الباقية ما هو اكثر قيمة من وجودي حتى أن لـحظة عيش له من حيث انتسابه الإيـماني ثمين جداً، وله قيمة عالية كقيمة وجودٍ أبدي دائم، فعلمت كل ذلك بعلم اليقين؛ لأن معرفتي بالشعور الإيـماني بان وجودي هذا أثرٌ من آثار واجب الوجود وصنعةٌ من صنعته وجلوة من جلواته جعلتني انـجو من ظلمات لا حدّ لـها تورثها أوهام موحشة، واتـخلص من الآم لاحدّ لـها نابعة من افتراقات وفراقات غير متناهية، ودفعتني لأمدّ روابط اخوة وثيقة الى جـميع الـموجودات ولاسيما الى ذوي الـحياة روابط بعدد الافعال والاسـماء الإلـهية الـمتعلقة بالـموجودات. وعلمت أن هناك وصالاً دائماً بهذه الروابط مع جـميع ما أحبه من الـموجودات من خلال فراق موقت.

وهكذا فان وجودي كوجود كل مؤمن، قد ظفر بالإيـمان والانتساب الذي فيه بأنوار انواع وجود غير مـحدودة لاافتراق فيها. فـحتـّى لو ذهب وجودي فان بقاء تلك الأنواع من الوجود من بعده يُطمئن وجودي وكأنه قد بقي بنفسه كاملاً.

والـخلاصة: ان الـموت ليس فراقاً بل هو وصال وتبديل مكان وإثـمار لثمرة باقية..

الـمرتبة النورية الـحسبية الـخامسة:

لقد تصدّعت حياتي حيناً تـحت اعباء ثقيلة جداً، حتى لفتت نظري الى العمر، والى الـحياة فرأيت أن عمري يـجري حثيثاً الى الآخرة.. وان حياتي الـمتقربة الى الآخرة قد توجهت نـحو الانطفاء تـحت الـمضايقات العديدة، ولكن الوظائف الـمهمة للحياة ومزاياها الراقية وفوائدها الثـمينة لاتليق بهذا الانطفاء السريع، بل تليق بـحياة طويلة، مديدة، ففكرت في هذا بكل ألـم وأسى، وراجعت استاذي الآية الكريـمة } حسبنا الله ونعم الوكيل { فقالت لي: انظر الى الـحياة من حيث ((الـحي القيوم)) الذي وهب لك الـحياة. فنظرت اليها بهذا الـمنظار وشاهدت أنه ان كان للحياة وجه واحد متوجه اليّ انا فان لـها مائة وجه متوجه الى ((الـحي الـمحيي)) وان كانت لـها نتيجة واحدة تعود اليّ انا، فان لـها الفاً من النتائج تعود الى خالقي؛ لذا فان لـحظة واحدة من الـحياة، او آناً من الوقت ضمن هذه الـجهة كافٍ جداً، فلا حاجة الى زمان طويل.

هذه الـحقيقة تتوضح باربع مسائل: فليفتش اولئك الذين ينشدون الـحياة او الذين هم ليسوا أمواتاً… ليفتشوا عن ماهية الـحياة وعن حقيقتها وعن حقوقها الـحقيقية ضمن تلك الـمسائل الاربع. فليظفروا.. وليحيوا..

وخلاصتها هي: ان الـحياة كلما تتوجه الى الـحيّ القيوم وتتطلع اليه، وكلما كان الإيـمان حياةً للحياة وروحاً لـها تكسب البقاء بل تعطي ثـماراً باقية كذلك، بل أنها ترقى وتعلو الى درجة تكتسب تـجلى السرمدية، وعندها لاينظر الى قصر العمر وطوله.

الـمرتبة النورية الـحسبية السادسة:

من خلال الشيب الذي يذكـّر بفراقي الـخاص، ومن خلال حوادث آخر الزمان التي تنبىء عن دمار الدنيا ضمن الفراقات العامة الشاملة، ومن خلال الانكشاف الواسع فوق العادة في اوآخر عمري لأحاسيس الـجمال والعشق له والافتتان بالكـمالات الـمغروزة في فطرتي. من خلال كل هذا رأيت ان الزوال والفناء اللذين يدمران دائماً، وان الـموت والعدم اللذين يفرّقان باستمرار، رأيتهما يفسدان بشكل مرعب ومخيف، جـمال هذه الدنيا الرائعة الـجمال ويشوهانه بتحطيمهما لـها، ويُتلفان لطافة هذه الـمخلوقات… فتألـّمت من اعماقي بالغ التألـم لـما رأيت. ففار ما في فطرتي من عشق مـجازي فوراناً شديداً وبدأ يتاجج بالرفض والعصيان امام هذه الـحالة الـمفجعة، فلم يك لي منها بد الاّ مراجعة الآية الكريـمة ايضاً لأجد الـمتنفس والسلوان، فقالت: ((إقرأني جيداً، أنعم النظر في معانيَّ)) وأنا بدوري دخلت الى مركز الارصاد لسورة النور لآية } الله نور السموات والارض… { (النور:35). فنظرت من هناك ((بـمنظار)) الإيـمان الى أبعد طبقات الآية الـحسبية، وفي الوقت نفسه نظرت ((بـمجهر)) الشعور الإيـماني الى أدق اسرارها.. فرأيت انه مثلما تُظهر الـمرايا والزجاج والـمواد الشفافة وحتى حباب البحر الـجمال الـمخفي الـمتنوع لضوء الشمس، فيُظهر كل منها مـختلف الـجمال للالوان السبعة لذلك الضوء ومثلما يتجدد ذلك الـجمال وذلك الـحسن بتجدد تلك الـمواد وبتحركها وحسب قابليتها الـمختلفة ووفق انكساراتها الـمتنوعة، أي مثلما أنها تُظهر الـجمال الـمخفي للشمس ولضوئها ولألوانها السبعة – بشكل جـميل جذاب – فكذلك الامر في هذه الـمصنوعات الـجميلة وهذه الـمخلوقات اللطيفة والـموجودات الـجميلة التي تقوم مقام مرايا عاكسة لذلك الـجمال الـمقدس للجميل ذي الـجلال الذي هو ((نور الأزل والابد)). فهذه الـمخلوقات لاتلبث أن تذهب دون توقف مـجدّدة بذلك تـجليات لأسـمائه الـحسنى جل علا. فالـجمال الظاهر في هذه الـمخلوقات والـحسن البارز فيها اذن ليس هو ملك ذاتها، وانـما هو اشارات الى ذلك الـجمال الـمقدس السرمدي الذي يريد الظهور، وعلامات واشارات وتـجليات لذلك الـحسن الـمجرد والـجمال الـمنزّه الـمتجلي دائماً والذي يريد الـمشاهدة والاشهاد.

وقد وضحـّت دلائل هذا مفصلاً في ((رسائل النور)) لاسيما تلك الرسالة التي تستهل بـ ((هنا سنذكر ثلاثة براهين بصورة مـختصرة جداً ومعقولة))(1). فأيـّما إنسان نظر الى هذه الرسالة من اصحاب الذوق السليم لايـمكن أن يتمالك نفسه من غير الاعجاب والتقدير بل سيرى أن عليه أن يسعى لإفادة الآخرين بعدما أفاد نفسه، ولاسيما النقاط الـخمس الـمذكورة في البرهان الثاني. فلابد ان مَن لـم يفسد عقله ولـم يصدأ قلبه أن يقول مستحسناً ومستصوباً: ماشاء الله.. بارك الله.. ويـجعل وجوده الذي يظهر فقيراً حقيراً يسمو ويتعالى.. ويدرك مصدقاً أنه: معجزة خارقة حقاً!!.

الرجاء الـخامس عشر(2)

عندما كنت نزيل غرفة في ((اميرداغ))(3) تـحت الاقامة الـجبرية وحيداً فريداً، كانت عيون الترصد تتعقبني وتضايقني دائماً فأتعذب منها أشد العذاب، حتى مللت الـحياة نفسها وتأسفت لـخروجي من السجن، بل رغبتُ من كل قلبي في ان اعود الى سجن ((دنيزلي)) او دخول القبر، حيث السجن او القبر افضل من هذا اللون من الـحياة. فأتتني العناية الإلـهية مغيثة، إذ وهبتْ آلة الرونيو التى ظهرت حديثاً لطلاب ((مدرسة الزهراء))(4) وهم يـحملون اقلاماً ماسية كآلة الرونيو. فباتت ((رسائل النور)) تظهر بـخمسمائة نسخة بقلم واحد، فتلك الفتوحات التي هيأتها العناية الإلـهية لرسائل النور جعلتني أحب تلك الـحياة الضجرة القلقة الـمضطربة، بل جعلتني اردد الف شكر وشكر للبارىء سبحانه وتعالى.

ولكن بعد مرور فترة وجيزة لـم يتمكن اعداء رسائل النور الـمتسترين ان يتحملوا تلك الفتوحات النورية، فنبهوا الـمسؤولين في الدولة ضدنا وأثاروهم علينا، فاصبحت الـحياة – مرة اخرى – ثقيلة مضجرة، الاّ ان العناية الإلـهية تـجلت على حين غرة، حيث ان الـمسؤولين أنفسهم – وهم أحوج الناس الى رسائل النور – بدأوا فعلاً بقراءة الرسائل الـمصادرة بشوق واهتمام، وذلك بـحكم وظيفتهم. واستطاعت تلك الرسائل بفضل الله أن تليـّن قلوبَهم وتـجنحها الى جانبها. فتوسعت بذلك دائرة مدارس النور، حيث أنهم بدأوا بقدرها والاعجاب بها بدلاً من جرحها ونقدها. فأكسبتنا هذه النتيجة منافع جـمة، اذ هي خير مائة مرة مـّما نـحن فيه من الاضرار الـمادية، وأذهبت ما نعانيه من اضطراب وقلق. ولكن ما ان مرّت فترة وجيزة، حتى حـوّل الـمنافقون – وهم الاعداء الـمتسترون – نظر الـحكومة الى شخصي أنا، ونبـّهوا أذهانها الى حياتي السياسية السابقة، فأثاروا الأوهام والشكوك، وبثوا الـمخاوف من حولي في صفوف دوائر العدل والـمعارف (التربية) والامن ووزارة الداخلية، ومـما وسّع تلك الـمخاوف لديهم ما يـجري من الـمشاحنات بين الاحزاب السياسية، وما أثاره الفوضويون والارهابيون – وهم واجهة الشيوعيين – حتى أن الـحكومة قامت إثر ذلك بـحملة توقيف وتضييق شديد علينا، وبـمصادرة ما تـمكنت من الـحصول عليه من الرسائل فتوقف نشاط طلاب النور وفعالياتهم.

وبالرغم من أن بعض الـموظفين الـمسؤولين أشاعوا دعايات مغرضة عجيبة لـجرح شخصيتي وذمـّها – مـما لايـمكن أن يصدّقه أحد – الاّ انهم باؤوا بالاخفاق الذريع، فلم يستطيعوا ان يقنعوا احداً بها. ومع ذلك احالوني الى الـموقف لـمدة يومين بـحجج رخيصة تافهة جداً، ووضعوني في قاعة واسعة جداً وحيداً في تلك الايام الشديدة البرد كالزمهرير، علماً انني ما كنت اتـحمل البرد في بيتي الاّ على مضض وكنت اقاومه بشدة بإشعال الـموقد دائماً وبأشعال الـمدفأة عدة مرات يومياً، وذلك لـما أعانيه من ضعف ومرض.

فبينما كنت اتقلب من شدة الـحمـّى الـمتولدة من البرد، واتـململ من حالتي النفسية الـمتضايقة جداً، انكشفت في قلبي حقيقة عناية إلـهية، ونُبهـّت الى ما يأتي:

((أنك قد اطلقت على السجن اسم ((الـمدرسة اليوسفية))، وقد وهب لك ((سجن دنيزلي)) من النتائج والفوائد اضعاف اضعاف ما اذاقكم من الضيق والشدة، ومنحكم فرحاً شديداً وسروراً عظيماً وغنائم معنوية كثيرة: واستفادة الـمساجين معكم من رسائل النور، وقراءة رسائل النور في الاوساط الرسـمية العليا وغيرها من الفوائد، حتى جعلتكم في شكر دائم مستمر بدل التشكي والضجر محوّلة كل ساعة من ساعات السجن والضيق الى عشر ساعات من العبادة، فخلـّدت تلك الساعات الفانية، فهذه ((الـمدرسة اليوسفية الثالثة))(1) كذلك ستعطي – باذن الله – من الـحرارة الكافية ما يدفىء هذا البرد الشديد، وستمنح من الفرح والبهجة ما يرفع هذا الضيق الثقيل، باستفادة اهل الـمصائب والبلاء معكم من رسائل النور ووجدانهم السلوان فيها. أما الذين غضبت واحتدت عليهم، فان كانوا من الـمغرّربهم ومن الـمخدوعين فلا يستحقون الغضب والـحدّة، اذ انهم يظلمونك دون قصد ولاعلم ولاشعور. وان كانوا يعذبونك ويشددون عليك الـخناق يقومون بها عن علم وعن حقد دفين ارضاء لأهل الضلالة فإنهم سيعذّبون عن قريب بالـموت الذي يتصورونه إعداماً أبدياً، وسيرون الضيق الشديد الدائمي الـمقيم في السجن الـمنفرد وهو القبر. وانت بدورك تكسب ثواباً عظيماً – نتيجة ظلمهم – وتظفر بـخلود ساعاتك الفانية، وتغنم لذائذ روحية معنوية فضلاً عن قيامك بـمهمتك العلمية والدينية باخلاص.

هكذا ورد الى روحي هذا الـمعنى فقلت بكل ماأوتيت من قوة: ((الـحمد لله)). واشفقت على اولئك الظَلَمة بـحكم انسانيتي ودعوت: ياربـّي أصلح شأن هؤلاء..

ولقد ثبتّ في افادتي التي كتبتُها الى وزارة الداخلية: ان هذه الـحادثة الـجديدة غير قانونية، وأثبتها بعشرة أوجه، بل ان هؤلاء الظلمة الذين يـخرقون القانون باسم القانون هم الـمجرمون حقاً، حيث بدأوا بالبـحث عن حجج واهية جداً وتتبعوا افتراءات مـختلفة الى حدّ ان جلبوا سخرية السامعين وابكت اهل الـحق الـمنصفين، وأظهروا لأهل الانصاف أنهم لايـجدون باسم القانون والـحق أي مسـوّغ للتعرض لرسائل النور ومسّ طلابها بسوء، فيزلـّون الى البلاهة والـجنون ويتخبطون خبط عشواء.

مثال ذلك:

لـم يـجد الـجواسيس الذين راقبونا لـمدة شهر شيئاً علينا، لذا لفـّقوا التقرير الآتي: ان خادم ((سعيد)) قد اشترى له الـخمر من حانوت. الاّ أنهم لـم يـجدوا أحداً يوقـّع على هذا التقرير تصديقاً لـهم، الاّ شخصاً غريباً وسكيراً في الوقت نفسه، فطلبوا منه – تـحت الضغط والتهديد – ان يوقع مصدقاً على ذلك التقرير، فردّ عليهم: ((استغفر الله من يستطيع أن يوقع مصدقاً هذا الكذب العجيب)) فاضطروا الى اتلاف التقرير.

مثال آخر

لـحاجتي الشديدة لاستنشاق الـهواء النقي، ولـما يُعلم من اعتلال صحتي، فقد أعارني شخص لاأعرفه – ولـم اتعرف عليه لـحدّ الآن – عربة ذات حصان لأتنزه بها خارج البلدة فكنت اقضي ساعة او ساعتين في هذه النزهة، وكنت قد وعدت صاحب العربة والـحصان بأن أوفي اجرتها كتباً تثمن بـخمسين ليرة، لئلا أحيد عن قاعدتي التي اتـخذتها لنفسي، ولئلا أظل تـحت منـّة أحد من الناس واذاه.. فهل هناك احتمال لان ينجم ضرر ما من هذا العمل؟! غير أن دائرة الشرطة ودائرة العدل والامن الداخلي وحتى الـمحافظ نفسه استفسر باكثر من خـمسين مرة: لـمنْ هذا الـحصان؟ ولـمن هذه العربة؟ وكأنه قد حدثت حادثة سياسية خطيرة للاخلال بالأمن والنظام! مـما اضطر ان يتطوع أحد الاشخاص لقطع دابر هذه الاستفسارات السخيفة الـمتتالية فيدّعي أن الـحصان ملكه، وادّعى آخر بان العربة له، فصدر الامر بالقبض عليهما واودعا معي في السجن. فبمثل هذه النماذج اصبحنا من الـمتفرجين على لعب الصبيان ودُماهم، فبكينا ضاحكين وحزنـّا ساخرين، وعرفنا أن كل من يتعرض لرسائل النور ولطلابها يصبح اضحوكة وموضع هزء وسخرية.

واليك مـحاورة لطيفة من تلك النماذج: لقد قلتُ للـمدعي العام – قبل ان اطلـّع على ماكتب في مـحضر اتهامي من الاخلال بالامن – قلت له: لقد اغتبتك امس اذ قلت لأحد افراد الشرطة الذي استجوبني نيابة عن مدير الامن: ((ليهلكني الله – ثلاثة مرات – ان لـم اكن قد خدمت الامن العام لـهذا البلد أكثر من الف مدير أمن واكثر من ألف مدع عام..)).

ثم انني في الوقت الذي كنتُ في أمسّ الـحاجة الى الاخلاد الى الراحة وعدم الاهتمام بهموم الدنيا والابتعاد نهائياً عن البرد، فان قيام هؤلاء بنفيي – في هذه الفترة من البرد بالذات – وتهجيري من مدينة لاخرى بـما يفوق تـحملي، ومن ثم توقيفي والتضيق عليّ باكثر من طاقتي وبـما يشعر أنه حقدٌ دفين وأمر متعمد مقصود.. كل ذلك ولـّد عندي غيظاً وامتعاضاً غير اعتيادي تـجاه هؤلاء. ولكن العناية الإلـهية أغاثتني فنبهت القلب الى هذا الـمعنى:

ان للقدر الإلـهي – الذي هو عدل مـحض – حصةً عظيمةً جداً فيما يسلطه عليك هؤلاء البشر من الظلم البيـّن، وان رزقك في السجن هو الذي دعاك الى السجن، فينبغي اذاً ان تقابل هذه الـحصة بالرضى والتسليم.

وان للـحكمة الربانية ورحـمتها حظاً وافراً ايضاً كفتح طريق النور والـهداية الى قلوب الـمساجين وبث السلوان والأمل فيهم، ومن ثم احراز الثواب لكم؛ لذا ينبغي تقديم آلاف الـحمد والشكر لله – من خلال الصبر – تـجاه هذا الـحظ العظيم.

وكذا فان لنفسك انت ايضاً حصتها حيث ان لـها مالاتعرف من التقصيرات.. فينبغي مقابلة هذه الـحصة ايضاً بالاستغفار والتوبة والانابة الى الله وتأنيب النفس بأنها مستحقة لـهذه الصفعة.

وكذا فان بعض الـموظفين السذج والـجبناء الـمنخدعين الذين يساقون الى ذلك الظلم بدسائس الاعداء الـمتسترين منهم حصة ايضاً ونصيب، فرسائل النور قد ثأرت لك ثأراً كاملاً من هؤلاء الـمنافقين بـما أنزلت بهم من صفعاتها الـمعنوية الـمدهشة. فـحسبهم تلك الضربات.

أما الـحصة الاخيرة فهي لاولئك الـموظفين الذين هم وسائط فعلية. ولكن لكونهم منتفعين حتماً من جهة الإيـمان – سواء أرادوا أم لـم يريدوا – عند نظرهم الى رسائل النور وقراءتهم لـها بنيـّة النقد او الـجرح، فان العفو والتجاوز عنهم وفق دستور } والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس { (آل عمران:134) هو شهامة ونـجابة.

وبعد ان تلقيت هذا التنبيه والـتحذير الذي كلـّه حق وحقيقة قررت أن أظل صابراً وشاكراً جذلاً في هذه الـمدرسة اليوسفية الـجديدة. بل قررت أن أساعد وأعاون حتى اولئك الذين يسيئون اليّ ويـخاصمونني مؤدباً نفسي بتقصير لا ضرر منه.

ثم ان من كان مثلي في الـخامسة والسبعين من عمره، وقد انقطعت علاقاته مع الدنيا ولـم يبق من احبابه في الدنيا الاّ خـمسٌ من كل سبعين شخص، وتقوم سبعون ألف نسخة من رسائل النور بـمهمته النورية بكل حرية، وله من الاخوان ومن الورثة مَن يؤدون وظيفة الإيـمان بآلاف الالسنة بدلاً من لسان واحد.. فالقبر لـمثلي اذاً خير وأفضل مائة مرّة من هذا السجن. فضلاً عن أن هذا السجن هو اكثر نفعاً واكثر راحة بـمائة مرة من الـحرية الـمقيدة في الـخارج، ومن الـحياة تـحت تـحكـّم الآخرين وسيطرتهم؛ لان الـمرء يتحمل مضطراً مع مئات الـمساجين تـحكماً من بعض الـمسؤولين؛ امثال الـمدير ورئيس الـحراس بـحكم وظيفتهم، فيجد سلواناً وإكراماً أخوياً من اصدقاء كثيرين من حوله، بينما يتحمل وحده في الـخارج سيطرة مئات الـموظفين والـمسؤولين.

وكذلك الرأفة الإسلامية والفطرة البشرية تسعيان بالرحـمة للشيوخ ولاسيما من هم في هذه الـحالة فتبدلان مشقة السجن وعذابه الى رحـمة ايضاً.. لاجل كل ذلك فقد رضيت بالسجن..

وحينما قُدمت الى هذه الـمحكمة الثالثة جلست على كرسي خارج باب الـمحكمة لـما كنت أحسّ من النصب والضيق في الوقوف لشدة ضعفي وشيخوختي ومرضي. وفجأة أتى الـحاكم وقال مغاضباً مع إهانة وتـحقير: لـمَ لا ينتظر هذا واقفاً؟!.

ففار الغضب في اعماقي على انعدام الرحـمة للشيب، والتفتُّ واذا بـجمع غفير من الـمسلمين قد احتشدوا حولنا ينظرون الينا بعيون ملؤها الرأفة، بقلوب ملؤها الرحـمة والاخوة، حتى لـم يستطع أحد من صرفهم عن هذا التجمع، وهنا وردت الى القلب هاتان الـحقيقتان:

الاولى

ان اعدائي، واعداء النور الـمتسترين قد اقنعوا بعض الـموظفين الغافلين وساقوهم الى مثل هذه الـمعاملات الـمهينة كي يـحطموا شخصيتي امام أنظار الناس، ويصرفوا ما لا أرغبه أبداً من توجه الناس واقبالـهم عليّ، ظناً منهم أنهم يتمكنون بذلك من إقامة سدّ منيع امام سيل فتوحات النور. فتجاه تلك الاهانة الصادرة من رجل واحد فقد صرفت العناية الإلـهية نظري الى هؤلاء ((الـمائة)) إكراماً منها للـخدمة الإيـمانية التي تقدمها رسائل النور وطلابها قائلة: ((انظر الى هؤلاء، فقد أتوا للترحيب بكم لـخدمتكم تلك، بقلوب ملأى بالرأفة والـحزن والاعجاب والارتباط الوثيق)).

بل حتى في اليوم الثاني عندما كنت أجيب عن اسئلة حاكم التحقيق؛ إحتشد ألفٌ من الناس في الساحة الـمقابلة لنوافذ الـمقر. كانت ملامح وجوههم تعبـّر عن وضعهم، وتقول: ((لاتضايقوا هؤلاء)). ولشدة ارتباطهم بنا، عجزت الشرطة عن ان تفرقهم. وعند ذلك ورد الى القلب:

((ان هؤلاء الناس في هذا الوقت العصيب؛ ينشدون سلوانا كاملا، ونوراً لاينطفىء، وإيـماناً راسخاً، وبشارة صادقة بالسعادة الابدية، بل يبحثون عنها بفطرتهم، وقد طرق سـمعُهم أن ما يبحثون عنه موجود فعلاً في رسائل النور، لذا يبدون هذا الاحترام والقدر لشخصي – الذي لا اهمية له – بـما يفوق طاقتي وحدي، من موقع كوني خادماً للإيـمان، وعسى أن اكون قد قمت بشيء من الـخدمة له)).

الـحقيقة الثانية

لقد ورد الى القلب: انه حيال اهانتنا والاستخفاف بنا بحجة اخلالنا بالامن العام، وازاء صرف اقبال الناس عنا بالـمعاملات الدنيئة التي يقوم بها اشخاص معدودون من الـمغرربهم.. فان هناك الترحيب الـحار والقدر اللائق لكم من قبل اهل الـحقيقة وابناء الـجيل القادم. نعم، في الوقت الذي تنشط الفوضى والارهاب الـمتستـّر بستار الشيوعية للاخلال بالأمن العام، فان طلاب رسائل النور يقفون ذلك الأفساد الـمرعب، في جـميع ارجاء البلاد ويكسرون شوكته بقوة الإيـمان التحقيقي، ويسعون حثيثاً لإحلال الأمن والنظام مكان الـخوف والفوضى، فلـم تظهر في العشرين سنة السابقة اية حادثة كانت حول اخلالـهم بالأمن، رغم كثرة طلاب النور وانتشارهم في جـميع انـحاء البلاد، فلـم يـجد ولـم يسجل عليهم أحد من الضباط الـمسؤولين حدثاً، في عشر ولايات وعبر حوالي اربع محاكم ذات علاقة، بل لقد قال ضباط منصفون لثلاث ولايات: ((ان طلاب النور ضباط معنويون للأمن في البلاد، انهم يساعدوننا في الـحفاظ على الامن والنظام لـما يـجعلون من فكر كل من يقرأ رسائل النور بالإيـمان التحقيقي حارساً ورقيباً عليه فيسعون بذلك للحفاظ على الأمن العام)).

وسجن ((دنيزلي)) مثال واضح ونـموذج جيد لـهذا الكلام، فما ان دخل طلاب النور ورسالة ((الثـمرة)) التي كتبت للـمسجونين حتى تاب اكثر من مائتي سجين وتـحلـّوا بالطاعة والصلاح، وذلك في غضون ثلاثة أشهر أو تزيد. حتى أن قاتلاً لاكثر من ثلاثة اشخاص كان يتحاشى أن يقتل ((بقة الفراش). فلم يعد عضواً لا يضر، بل اصبح نافعاً رحيماً للبلاد.

فكان الـموظفون الـمسؤولون ينظرون الى هذا الوضع بـحيرة واعجاب، حتى صرّح بعض الشباب قبل ان يستلموا قرار الـمحكمة: ((اذا لبث طلاب النور في السجن فسنحكم على انفسنا وندينها لنظل معهم ونتتلمذ عليهم ونصلح انفسنا بارشاداتهم لنكون امثالـهم)). فالذين يتهمون طلاب النور الذين لـهم هذه الـخصائص والـخصال بإخلال الامن لامـحالة قد انـخدعوا بشكل مفجع، او خُدعوا، او انهم يغفلون اركان الـحكومة في سبيل الفوضى والارهاب – من حيث يعلمون او لا يعلمون – لذا يسعون لإبادتنا واقتحامنا في العذاب.

فنحن نقول لهؤلاء:

((مادام الـموت لايُقتل والقبر لايُغلق بابه، وقوافل البشرية في دار ضيافة الدنيا تغيب وتتوارى فيما وراء التراب بسرعة مذهلة.. فلا مناص اننا سنفترق في اقرب وقت، وسترون جزاء ظلمكم جزاءً رهيباً، وفي الاقل ستذوقون الـموت الذي هو رخصة من الـحياة عند اهل الإيـمان الـمظلومين، ستذوقونه إعداماً ابدياً لكم، فالاذواق الفانية التي تكسبونها بتوهمكم الـخلود في الدنيا ستنقلب الى آلام باقية مؤلـمة دائمة..

ان حقيقة الإسلام التي ظفرت بها هذه الامة الـمتدينة وحافظت عليها بدماء مئات الـملايين من شهدائها الذين هـم بـمرتبة الاولياء وسيوف ابطالـها الـمجاهدين يطلق عليها اليوم – مع الاسف- اعداؤنا الـمنافقون الـمتسترون اسم ((الطريقة الصوفية)) احياناً، ويظهرون الطريقة الصوفية التي هي شعاع واحد من اشعة تلك الشمس الـمنيرة انها الشمس نفسها ليموهو على بعض الـموظفين السطحيين. مطلقين على طلاب النور الذين يسعون بـجد ونشاط الابراز حقيقة القرآن وحقائق الإيـمان اسم ((اهل الطريقة الصوفية)) او ((جمعية سياسية)) ولا يبغون من ورائها الاّ التشويه والتحريض علينا. فنحن نقول لـهؤلاء ولكل من يصغي اليهم قولتنا التي قلناها امام مـحكمة دنيزلي العادلة:

((ان الـحقيقة الـمقدسة التي افتدتها ملايين الرؤوس فداءٌ لـها رأسنا ايضاً، فلو اشعلتم الدنيا على رؤوسنا ناراً فلن ترضخ تلك الرؤوس التي افتدت الـحقيقة القرآنية ولن تسلم القيادة للزندقة ولن تتخلـّى عن مهمتها الـمقدسة باذن الله)).

وهكذا فلا أستبدل بسنة واحدة من شيخوختي التي أنشأت حوادثُها اليأسَ والاعباء الثقيلة والتي اسعفها السلوان النزيه النابع من الإيـمان والقرآن، مع ما فيها من معاناة وضيق، عشر سنوات بهيجة سارة من حياة شبابي. وبالاخص اذا كان كل ساعة من ساعات التائب الـمقيم لفرائضه في السجن بـحكم عشر ساعات له من العبادة، وان كُل يوم يـمـّر بالـمريض وهو مظلوم يـجعل صاحبه يفوز بثواب عشرة ايام خالدة، فكم يكون مثل هذه الـحياة مبعث شكر وامتنان لله لـمثلي الذي يترقب دوره وهو على شفير القبر.

نعم، فهذا هو الذي فهمته من ذلك التنبيه الـمعنوي، فقلت: شكراً لله بلا نهاية.. وفرحت بشيخوختي ورضيت بالسجن. حيث ان العمر لايتوقف بل يـمضي مسرعاً، فان مضى باللذة والفرح فانه يورث الـحزن والاسى؛ لان زوال اللذة يورث الألـم، وان مضى مشبعاً بالغفلة خاوياً من الشكر. فانه يترك بعض آثار الآثام ويفنى هو ويـمضي. ولكن اذا مضى العمر بالعناء والسجن، فلكون زوال الألـم يورث لذةً معنوية، وأن مثل هذا العمر يعدّ نوعاً من العبادة؛ لذا يظل باقياً من جهة، فيجعل صاحبه يفوز بعمر خالد بثـمرات خالدة خيـّرة، ومن جهة اخرى كفـّارة للذنوب السابقة وتزكية للاخطاء التي سببت السجن. فمن زاوية النظر هذه على الـمسجونين الذين يؤدون الفرائض أن يشكروا الله تعالى ضمن الصبر.

الرجاء السادس عشر

عندما ساقوني منفياً الى قسطموني(1) بعد أن اكملت سنة مـحكوميتي في سجن ((اسكي شهر)) وانا الشيخ الـهرم، مكثت موقوفاً هناك في مركز الشرطة حوالي ثلاثة اشهر. ولا يـخفى عليكم مدى الأذى الذي يلحق بـمثلي في مثل هذه الاماكن، وقد انعزل عن الناس، ولا يتحمل البقاء حتى مع اصدقائه الاوفياء، ولا يطيق أن يبدل زيـّه الذي اعتاد عليه(1).

فبينما كان اليأس يـحيط بي من كل جانب، اذا بالعناية الإلـهية تغيث شيخوختي، اذ اصبح افراد الشرطة الـمسؤولين في ذلك الـمخفر بـمثابة اصدقاء أوفياء، حتى كانوا يـخرجونني متى شئت للاستجمام والتجوال في سياحة حول الـمدينة وقاموا بـخدمتي كأي خادم خاص، فضلاً عن أنهم لـم يصروا عليّ بلبس القبعة مطلقاً.

ثم دخلت الـمدرسة النورية التي كانت مقابل ذلك الـمخفر في قسطموني وبدأت بتأليف الرسائل، وبَدأ كل من ((فيضي وامين وحلمي وصادق ونظيف وصلاح الدين)) وامثالـهم من ابطال النور يداومون في تلك الـمدرسة لاجل نشر الرسائل وتكثيرها، وأبدوا في مذكراتهم العلمية القيـّمة التي أمضوها هناك جدارة تفوق ما كنت قضيتها ايام شبابي مع طلابي السابقين.

ثم بدأ اعداؤنا الـمتسترون يحرَضون علينا بعضاً من الـمسؤولين وبعضاً مـمن يعتـّدون بأنفسهم والـمغرورين من العلماء والـمشايخ الصوفية، فأصبحوا الوسيلة في جـمعنا في تلك الـمدرسة اليوسفية ((سجن دنيزلي)) مع طلاب النور القادمين من عدة ولايات.

هذا وان تفاصيل هذا الرجاء السادس عشر هي في تلك الرسائل التي ارسلتها سراً من ((قسطموني)) والتي ضمت في كتاب ((ملحق قسطموني)) وفي الرسائل الـمقتضبة السرية التي كنت قد ارسلتها الى اخواني من سجن دنيزلي. ويرد تفاصيله ايضاً في ((الدفاع)) الـمرفوع امام مـحكمة دنيزلي.

فحقيقة هذا الرجاء تظهر بوضوح في ذلك، نـحيل الى تلك التفاصيل الـمذكورة في (الـملحق) و (الدفاع) ونشير هنا اشارة مـختصرة اليها:

لقد خبأتُ بعض الرسائل الـخاصة والـمجموعات الـمهمة ولاسيما التي تبحث عن دجـّال الـمسلمين (السفياني) وعن كرامات رسائل النور، خبـّأتها تـحت أكوام من الـحطب والفحم لأجل أن تنشر بعد وفاتي، او بعد أن تصغي آذان الرؤساء وتعي رؤوسهم الـحقيقة ويرجعوا الى صوابهم. كنت مطمئت البال من هذا العمل، ولكن ما ان داهم موظفو التحريات ومعاون الـمدعي العام البيت واخرجوا تلك الرسائل الـمهمة الـمخبوءة من تـحت اكوام الفحم والـحطب، ساقوني الى سجن ((اسبارطة)) وانا اعاني من اعتلال صحتي ما اعاني. وبينما كنت متألـماً بالغ الالـم ومستغرقاً في التفكير حول ما اصاب رسائل النور من اضرار، اذا بالعناية الربانية تأتي لأغاثتنا جـميعاً حيث بدأ الـمسؤولون الذين هـم في أمسّ الـحاجة الى قراءة تلك الرسائل الـمخبوءة القيمة، بدأوا بدراستها بكل اهتمام ولـهفة، فتحولت تلك الـمحافل الرسمية الى ما يشبه الـمدارس النورية، اذ انقلب النقد والـجرح عندهم الى نظرة الاعجاب والتقدير. حتى انه في (دنيزلي) قرأ الكثيرون سواء من الـمسؤولين او غيرهم – دون علمنا – رسالة ((الآية الكبرى)) الـمطبوعة بسرية تامة فازدادوا أيـماناً واصبحوا سبباً لـجعل مصيبتنا كأن لـم تكن.

ثم ساقونا الى سجن دنيزلي وزجـّوني في ردهة كبيرة ذات عفونة ورطوبة شديدتين فوق ما فيها من برودة شديدة، فاعتراني حزن وألـم شديدان من جراء ابتلاء اصدقائي الابرياء بسببي فضلاً عن الـحزن النابع مـما اصاب انتشار ((النور)) من عطل ومصادرة مع ما كنت اعانيه من الشيب والـمرض.. كل ذلك جعلني اتقلب مضطرباً في ضجر وسأم.. حتى اغاثتني العناية الربانية فحوّلت ذلك السجن الرهيب الى مدرسة نورية، فحقاً ان السجن مدرسة يوسفية، وبدأت رسائل النور بالانتشار والتوسع حيث بدأ أبطال ((مدرسة الزهراء)) بكتابة تلك الرسائل بأقلامهم الالـماسية. حتى أن بطل النور قد استنسخ اكثر من عشرين نسخة من رسالتي ((الثـمرة)) و((الدفاع)) خلال مدة لـم تتجاوز اربعة اشهر، مع ضراوة تلك الظروف الـمحيطة، فكانت تلك النسخ سبباً للفتوحات في السجن وفي خارجه فحوّل ضررنا في تلك الـمصيبة الى منافع وبدّل ضجرنا وحزننا الى افراح، مبدياً مرة اخرى سراً من اسرار الآية الكريـمة } وعَسى أنْ تَكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكُم { (القرة:216).

ثم وُزّع ضدنا بيان شديد اللهجة بناء على التقرير السطحي الـخاطيء الـمقدَّم من قبل ((الـخبراء الاوليين)) وشنّ وزير التربية هجوماً عنيفاً علينا، مـما حدا بالبعض أن يطالب باعدامنا بل قد سعوا في الامر.

وفي هذا الوقت العصيب بالذات جاءتنا العناية الربانية فأسعفتنا ايضاً، اذ بينا ننتظر انتقادات لاذعة عنيفة من ((خبراء انقرة)) اذا بتقاريرهم الـمتضمنة للاعجاب والتقدير برسائل النور، واذا بهم لـم يـجدوا من مـجموع خـمسة صناديق من رسائل النور الاّ بضعة اخطاء لاتتجاوز العشرة، وقد وضحـّنا امام الـمحكمة واثبتنا كذلك ان هذه الاخطاء التي أوردوها ليست أخطاءً، بل الـحقيقة بعينها، وان الـخبراء هم انفسهم على خطأ فيما يدّعون، وبيـّنا أن في تقريرهم الـمتكون من خـمس اوراق حوالي عشرة اخطاء.

وبينما كنا ننتظر التهديد والاوامر الـمشددّة من الدوائر الرسـمية السبع التي ارسلت اليها رسائل الثـمرة والدفاع كما اُرسلت الى دائرة العدل جـميع الرسائل، ولاسيما تلك الرسائل الـخاصة الـمتضمنة للصفعات الشديدة والتعرض لاهل الضلالة.. اجل بينما كنا ننتظر التهديد العنيف منهم، إذا بتقاريرهم الـمسلـّية وهي في منتهى اللين والرقة – الشبيهة بتلك الرسالة التي بعثها رئيس الوزراء الينا – وكأنهم يبدون رغبتهم في الـمصالـحة معنا. فأثبت – كل هذا – اثباتاً قاطعاً ان حقائق رسائل النور بفضل العناية الإلـهية وكرامتها قد غلبتهم وانتصرت عليهم حتى جعلتهم يقرأونها ويسترشدون بها، وحولت تلك الدوائر الرسـمية الواسعة الى ما تشبه الـمدارس النورية، وانقذت كثيراً من الـحيارى والـمترددين وشدّت من ايـمانهم، مـما ملأنا بهجة وسروراً هو اضعاف اضعاف ما كنا نعانيه من ضيق وضجر.

ثم دسّ الاعداء الـمتسترون السـُّم في طعامي، ونقل بطل النور الشهيد (حافظ علي) على اثرها الى الـمستشفى بدلاً عني، ومن ثم ارتـحل الى عالـم البرزخ ايضاً عوضاً عني، مـما جعلنا نـحزن كثيراً ونبكي بكاءً حاراً عليه.

لقد قلت يوماً – قبل نزول هذه الـمصيبة بنا – وانا على جبل قسطموني. بل صرخت مراراً: يا اخواني ((لاتلقوا اللـحم امام الـحصان ولا العشب امام الاسد)) بمعنى: لا تعطوا كل رسالة أياً كان حذراً من أن يتعرضوا لنا بسوء. وكأن الاخ ((حافظ علي)) قد سمع بهاتفه الـمعنوي كلامي هذا (وهو على بعد مسيرة سبعة ايام)). فكتب اليّ – في الوقت نفسه – يقول : ((نعم يا استاذي.. انها من احدى كرامات رسائل النور وخصائصها أنها لا تعطي اللحم الـحصان ولا العشب الأسد، بل تعطي العشب الـحصان واللحم الاسد!)) حتى اعطى ذلك العالِم رسالة الاخلاص، وبعد سبعة ايام تسلمنا رسالته هذه، وبدأنا بالعدّ والـحساب فعلمنا انه قد كتب تلك العبارة الغريبة نفسها في الوقت الذي كنت ارددها من فوق جبل قسطموني.

فوفاة بطل معنوي مثل هذا البطل من ابطال النور، والـمنافقون يسعون لادانتنا وانزال العقوبة بنا، علاوة على قلقي الـمستمـرّ من اخذهم إياي بأمر رسـمي الى الـمستشفى لـمرشي الناشيئ من التسمم.. في هذا الوقت وجـميع هذه الـمضايقات تـحيط بنا، اذا بالعاية الإلـهية تأتي لإمدادنا؛ فلقد أزال الدعاء الـخالص الـمرفوع من قبل اخواني الطيبين خطر التسمم. وهناك أمارات قوية جداً تدل على أن ذلك البطل الشهيد منهمك في قبره برسائل النور وانه يـجيب بها عن اسئلة الـملائكة. وان بطل دنيزلي ((حسن فيضي)) (تغمده الله برحـمته) واصدقاءه الاوفياء سيحلون مـحله فيقومون بـمهمته في خدمة النور سراً.. وان اعداءنا قد انضموا الىالرأي القائل بضرورة اخراجنا من السجن خوفاً من سعة انتشار الرسائل بين الـمساجين وسرعة استجابتهم لـها ليحولوا بيننا وبين السجناء وقد حوّل تلاميذ النور تلك الـخلوة الـمزعجة الى ما يشبه كهف اصحاب الكهف، اولئك الفتية الـمؤمنون، أو ما يشبه مغارات الـمنزوين من الزهاد، وسعوا بكل اطمئنان وسكينة في كتابة الرسائل ونشرها.. كل ذلك أثبت ان العناية الإلـهية كانت تـمدّنا وتغيثنا.

ولقد خطر للقلب: مادام الامام الاعظم ((ابو حنيفة النعمان)) وامثاله من الائمة الـمجتهدين قد اوذوا بالسجن وتـحملوا عذابه، وان الامام احـمد بن حنبل وامثاله من الـمجاهدين العظام قد عذّبوا كثيراً لاجل مسألة واحدة من مسائل القرآن الكريـم. وقد ثبت الـجميع امام تلك الـمحن القاسية وكانوا في قمة الصبر والـجلد، فلـم يُبد احدهم الضجر والشكوى، ولـم يتراجع عن مسألته التي قالـها. وكذا علماء عظام كثيرون وأئمة عديدون لـم يتزلزلوا قط امام الآلام والاذى الذي نزل بهم، بل صبروا شاكرين لله تعالى، مع أن، البلاء الذي نزل بهم كان أشدّ مـما هو نازل بكم، فلابد أن في اعناقكم دَين الشكر لله تبار وتعالى شكراً جزيلاً على ما تتحملونه من العذاب القليل والـمشقة اليسيرة التنازلة بكم في سبيل حقائق عديدة للقرآن الكريم مع الثواب الـجزيل والاجر العميم.

وسأبين هنا باختصار احدى تـجليات العناية الربانية من خلال الظلم الذي يقترفه البشر:

كنت اكرر واقول في العشرين من عمري: سأنزوي في اخريات حياتي في مغارة، مبتعداً عن الـحياة الاجتماعية كما كان ينزوي الزهاد في الـجبال، وكذلك قررت عندما كنت اسيراً في شـمال روسيا في الـحرب العالـمية الاولى أن سأقضي بقية ايام عمري في الكهوف والـمغارات منسلاً عن الـحياة الاجتماعية والسياسية. كفاني تدخلاً.. فتجلت العناية الربانية وعدالة القدر – رحـمة بشيخوختي – وحولتا تلك الـمغارات التي كنت أتصورها الى ما هو خير وافضل منها، وبـما يفوق كثيراً رغبتي وقراري.. حوّلتا الى سجون انزواء وانفراء، ومنحتا لي ((مدارس يوسفية)) بدلاً عن تلك الـمغارات في الـجبال للـمنزوين واهل الرياضة الروحية، لئلا تضيع اوقاتنا سدىً، حيث ان في تلك الـمغارات فوائد اخروية زيادة عما فيها من اداء مهمة الـجهاد لاجل القرآن والـحقائق الإيـمانية. حتى عزمت – بعد الافراج عن اخواني وتبرئتهم – أن أظهر شيئا يدينني ويبقيني في زنزانة السجن مع ((خسرو وفيضي)) وامثالـهم من الـمجاهدين الـمخلصين الـمتفرغين للخدمة لأتـخذها حجة تغنيني عن الاختلاط بالناس ولئلا أضيـّع شيئاً من وقتي فيما لايعني من الامور وبالتصنع وحب الظهور، حيث البقاء في ردهات السجن افضل، الاّ ان القدر الإلـهي وما قسم الله لنا من رزق قد ساقني الى مـحل انزواء آخر. فحسب مضمون (الـخير فيما اختاره الله) وبسر الآية الكريـمة } وعَسى أنْ تَكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكُم { (القرة:216) ورحـمة بشيخوختي، ولاجل ان نسعى بشوق اكثر في الـخدمة الإيـمانية، فقد وُهبتْ لنا مهمة، وأوكلت الينا وظيفة، هي خارج إرادتنا وطوقنا في هذه الـمدرسة اليوسفية الثالثة.

نعم ان في تـحويل العناية الإلـهية مغارات عهد الشباب الذي لـم يكن له اعداء شرسون، لي ردهات السجن الـمنفرد، ثلاث حِكم وثلاث فوائد مهمة لـخدمة النور:





T الـحكمة والفائدة الاولى

اجتماع طلاب النور في هذا الوقت دون ان يتضرر منهم احد انـّما يكون في ((الـمدرسة اليوسفية)). حيث ان اللقاء فيما بينهم في الـخارج قد يثير الشبهة ويـحتاج الى مصاريف، اذ كان بعضهم ينفق حوالي خـمسين ليرة لاجل لقائي مدة لاتزيد عن عشرين دقيقة، او كان يرجع دون أن يتمكن من مقابلتي. لذا فأنا اتـحمل ضيق السجن بل أتقبله مسروراً لاجل اللقاء عن قرب مع بعض اخوتي الاوفياء، فالسجن بالنسبة لنا اذن نعمة ورحـمة.

T الـحكمة والفائدة الثانية

انه لابّد من الاعلان والتبليغ في كل جهة في وقتنا هذا عن خدمة الإيـمان برسائل النور، ولفت أنظار الـمحتاجين اليها في كل مكان. فدخولنا السجون يلفت الانظار الى الرسائل، فيكون اذن بـمثابة اعلان عنها، فيجدها اعتى الـمعاندين والـمحتاجين فتكسر بها شوكة عنادهم وينقذون بها ايـمانهم، وينجون من الـمهالك، وتتوسع دائرة مدارس النور.

T الـحكمة والفائدة الثالثة

ان طلاب النور الذين دخلوا السجن يتعرف كل منهم على احوال الآخر، ويتعلم كل منهم من الآخر السجايا الـحميدة والاخلاص والتضحية، فلا يبالون بعدئذٍ بالـمنافع الدنيوية في الـخدمة النورية.

نعم انهم يوفقون بالظفر بالاخلاص الكامل لـما يـجدون ويرون من أمارات كثيرة تدل على ان كل ضيق ومشقة في الـمدرسة اليوسفية لـها عشرة اضعافها من الفوائد الـمعنوية والـمادية، ومن النتائج اللطيفة، ومن الـخدمات الواسعة الـخالصة للإيـمان، بل قد تصل الى مائة صعف، وعندئذٍ لا يتنازلون لكسب الـمنافع الـخاصة الجزئية.

وبالنسبة لي فان لأماكن الانزواء والـمعتكفات هذه لطافة حزينة الاّ أنها لذيذة وهي كما يأتي:

اني أجد هنا من الاوضاع والاحوال ما كنت اجدها في ايام شبابي في بلدتي وفي مدرستي القديـمة، حيث كان طعام قسم من طلاب الـمدارس – حسب عادة الولايات الشرقية – يأتيهم من خارج الـمدرسة وقسم آخر يطبخونه فيما بينهم في الـمدرسة، فكما نظرت هنا – مع حالات اخرى متشابهة 0 تذكرت تلك الـحالة ايام شبابي من خلال حسرة لذيذة فأذهب خيالاً الى تلك الايام، وأنسى حالات شيخوختي.

ذيل اللمعة السادسة والعشرين

هو الـمكتوب الـحادي والعشرون، نشر ضمن ((الـمكتوبات))

اللمعة السابعة والعشرون

هي دفاع الاستاذ النورسي امام مـحكمة اسكي شهر، ينشر في مـجموعة

((سيرة ذاتية))
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-02-2011
  #25
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: اللمعات

اللمعة الثامنة والعشرون

هذه اللمعة عبارة عن فقرات مـختصرة كتبتها لبعث السلوان الى قلوب اخواني الذين كانوا معي، حينما كنت مـمنوعاً عن التكلم والاختلاط مع الاخرين في سجن ((اسكي شهر)).

مـحاورة لطيفة

مع سليمان رشدي(1) الذي هو رمز الوفاء والاخلاص، الـمتميز بنقاء السريرة.

عندما يقترب زمن تسريح الذباب من مهمة الـحياة وذلك في موسم الـخريف، يستعمل بعض من يقصد نفعه بالذات دواءً لـمكافحة الذباب ليحولوا دون ان يـمسهم شيء من الازعاج. فـمسّ ذلك رقة قلبي واثـّر فيّ كثيراً. علماً ان الذباب قد تكاثر اكثر من قبل على الرغم من استعمال الدواء القاتل. وكان في غرفتي في السجن حبل لنشر الـملابس لأجل تنشيفها فكانت تلك الطويرات الصغيرة جداً تتراصف على ذلك الـحبل مساءً تراصفاً جـميلاً منتظماً. فقلت لرشدي: لا تتعرض لـهذه الطويرات الصغيرة، انشر الـملابس في مكان آخر. فردّ عليّ بـجدّ: اننا بـحاجة الى هذا الـحبل، فلتجد الذبان لـها موضعاً آخر!

وعلى كل حال، ولـمناسبة الـمحاورة اللطيفة التي جرت بيننا انفتح باب البحث عن الذباب والـنحل وما شابههما من الـحشرات الكثيرة، فدار الكلام حولـها.

فقلت له:

ان مثل هذه الانواع من الـحيوانات التي تتكاثر نسخها بكثرة هائلة، لـها وظائف مهمة. فالكتاب تطبع بطبعات كثيرة نظراً لقيمته، بـمعنى ان جنس الذباب(1) له وظيفة مهمة وقيمة كبيرة حيث يُكثر الفاطر الـحكيم من نسخ تلك الرسائل القَدَرية وكلمات القدرة الإلـهية.

نعم! ان هذه الطائفة من الذباب التي تنظـّف وجهها وعينيها وجناحيها كل حين، وكأنها تتوضأ، تشكـّل موضوعاً مهما للآية الكريـمة: } يا ايها الناسُ ضُربَ مثلٌ فاستمعوا له إنّ الذين تَدعونَ من دون الله لن يَخلـُقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإنْ يَسْلـُبهم الذبابُ شيئاً لا يستنقذوه منه ضَعُفَ الطالبُ والـمطلوبُ{ (الـحج:73).

بـمعنى ان الاسباب وما يدّعيه اهل الضلالة من ألوهية من دون الله لو اجتمعت على خلق ذبابة واحدة لعجزت. اى ان خلق الذباب معجزة ربانية وآية تكوينية عظيمة، بـحيث لو اجتمعت الاسباب كلها لـما خلقت مثل تلك الآية الربانية ولا استطاعت ان تعارضها ولا تقليدها قطعاً. فتلك الـمعجزة قهرت نـمرود، ودافعت عن حكمة خلقها دفاعاً فاق ألف اعتراض، لـما شكى موسى عليه السلام من ازعاجاتها قائلاً: يارب لِمَ اكثرتَ من نسل هذه الـمخلوقات الـمزعجة.. اُجيب إلـهاماً: لقد اعترضتَ مرةَ على الذبان، وهي كثيراً ما تسأل: يارب ان هذا الانسان الكبير ذا الرأس الضخم لا يذكرك الاّ بلسان واحد بل يغفل احياناً عن ذكرك، فلو خلقتَ من رأسه فحسب مـخلوقات من امثالنا لكانت الوف الـمخلوقات ذاكرة لك.

وفضلاً عن هذا فان الذباب يرعى النظافة أيـمـّا رعاية، اذ ينظف وجهه وعينيه باستمرار ويـمسح على اجنحته دوماً ويؤدي كل ذلك كمن يتوضأ. اذاً لـهذه الطائفة وظائف مهمة وجليلة بلاشك، الاّ ان نظر الـحكمة البشرية وعلمها قاصر لـم يـحط بعدُ بتلك الوظائف.

نعم، ان الله سبحانه وتعالى قد خلق قسماً من الـحيوانات مفترسة آكله للـحوم، وكأنها موظفات صحيات ومأمورات للتنظيف تؤدي وظيفتها في غاية الاتقان، بتنظيفها وجه البحر وجـمعها لـجثث ملايين الـحيوانات البحرية يومياً، وانقاذ وجه البحر من الـمناظر القذرة(1). فان لـم توف هذه الـحيوانات بوظيفتها الصحية حق الوفاء وعلى اجـمل وجه لـما تلألأ وجه البحر كالـمرآة الساطعة، ولكان البحر يورث الكآبة والـحزن.

وكذا فانه سبحانه قد خلق حيوانات مفترسة وطيوراً جارحة بـمثابة مأمورات للنظافة والامور الصحية، تقوم بتنظيف وجه الارض يومياً من جثث مليارات من الـحيوانات البرية والطيور وانقاذها من التعفن، وانقاذ ذوي الـحياة من ذلك الـمنظر الكئيب الأليم. حيث تستطيع تلك الـحيوانات ان تتحسس مواضع تلك الـجثث الـخفية والبعيدة من مسافة تبلغ حوالي ست ساعات، وذلك بسَوق من إلـهام رباني، فتنطلق الى تلك الـمواضع وتزيل الـجثث. فلولا هذه الـموظفات الصحيات البرية وهي تؤدي وظائفها على افضل وجه لكان وجه الارض في حالة يرثى لـها.

نعم، ان الرزق الـحلال للحيوانات الوحشية الـمفترسة هو لـحوم الـحيوانات الـميتة، وحرام عليها لـحوم الـحيوانات الـحية، بل لـها جزاء إن اكلت منها، فالـحديث الشريف ((حتى يقتصّ الـجمـّاء من القَرناء))(2). يدل على أن الـحيوانات التي تبقى ارواحها رغم فناء اجسادها لـها جزاء وثواب يناسبها في دار البقاء. فعلى هذا يصح القول ان لـحوم الـحيوانات الـحية حرام على الـمفترسات.

وكذا النمل موظف بـجمع شتات القطع الصغيرة للنعم الإلـهية وصيانتها من التلف والامتهان لئلا تداس تـحت الاقدام، فضلاً عن جـمعه جثث الـحيوانان الصغيرة وكأنه موظف صحي.

وكذا الذبان لـها وظائف – اهم مـما ذكر – فهي مأمورة بتنظيف مالا يراه الانسان من جراثيم مرضية وتطهير الـمواد السامة. فهي ليست ناقلة للجراثيم، بل العكس تهلك تلك الـجراثيم الـمضرة وتـمحيها بمصها لـها واكلها، وتـحيل تلك الـمواد السامة الى مواد اخرى. فتحُول دون سريان كثير من الامراض، وتوقفها عند حدّها.

والدليل على أن الذبان موظفات صحيات، ومأمورات تنظيف وكيمياويات حاذقات، وان لوجودها حكمة الـهية واسعة.. هو كثرتها الـمتناهية، اذ الـمواد النافعة والثمينة تكثـّر منها(1).

ايها الانسان الذي يقصد نفع ذاته وحده!

انظر الى فائدة واحدة للذباب تعود اليك فحسب مـما سوى فوائده ومنافعه للحياة. وتخلّ عن عدائك له. فكما انه يورثك الانس والسلوان في الاغتراب والوحدة والانفراد، كذلك يوقظك من نوم الغفلة وغمرات تشتت الفكر، فيذكـّرك بوظائف انسانية كالـحركة والنشاط والنظافة الدائمة بوضوئه وصلاته وتنظيفه وجهه وعينه، كما هو مشاهد.

وكذا النحل – وهي صنف من الذباب – تطعمك العسل الذي هو ألذّ غذاء والطفه، وهي الـملهمة بالوحي الإلـهي كما نص عليه القرآن الكريم، فعليك ان توليها حبـّك.

ان العداء للذباب لا معنى له، بل هو ظلم واجحاف بـحق تلك الـحيوانات التي تعاون الانسان وتسعى لصداقته وتتحمل أذاه، وانـما يـجوز مكافحة الـمضرة منها فحسب، وذلك دفعاً لأضرارها، كدفع ضرر الذئاب عن الاغنام.

فيا ترى أليس من الـمحتمل ان تكون البعوض والبرغوث الـمسلـّطين علينا حجـّامات فطرية، أي موظفات بـمص الدم الفاسد الـجاري في الاوردة وقت الـحر وزيادة الدم اكثر من حاجة الـجسم؟.. سبحان من تـحيـّر في صنعه العقول..

كنت يوماً في جدال مع نفسي، اذ اغترت بـما انعم الله عليها، وتوهمت انها مالكة لـها، وبدأت بالفخر والـمدح.

فقلت لـها: انك لاتـملكين شيئاً بل هو أمانة. فتركت الغرور والفخر. ولكنها تكاسلت قائلة: لِمَ أَرعى ما ليس لي؟ وماذا عليّ لو ضاع؟.

وفجأة رأيت ذبابة وقفت على يدي وبدأت بتنظيف وجهها وعينها وجناحيها وهي امانات لديها تنظيفاً على اجـمل ما يكون، مثلما ينظف الـجندي سلاحه وملابسه التي سلـّمتها له الدولة، فقلت لنفسي: انظري الى هذه الذبابة، فنظرت وتعلـّمت منها درساً بليغاً. وهكذا اصبح الذباب استاذاً لنفسي الكسلانة.

ان فضلات الذباب لاضرر لـها من حيث الطب، بل قد تكون شراباً حلواً (وغذاء لـحشرات اخرى) اذ ليس من الـمستبعد عن الـحكمة الإلـهية، بل من شأنها ان تـجعل من الذباب مكائن تصفية واجهزة استحالة، نظراً لأكلها الوف الأصناف من مواد هي منشأ الـجراثيم والسموم.

نعم ان من طوائف الذباب – مـما سوى النـحل – طائفة تأكل الـمواد الـمتعفنة الـمختلفة(1) فتقطر دوماً قطرات من مواد حلوة بدلاً من فضلاتها – كنزول الـمنّ على اوراق الاشجار – فتثبت انها مكائن استحالة.

وهكذا يتبين امام الانظار مدى عظمة امة الذباب الصغير هذا، ومدى عظمة وظائفها. وكأنها تقول بلسان الـحال: لا تنظروا الى صغر اجسامنا بل الى عِظَم وظائفنا. وقولوا: سبحان الله.





((الـحروف القرآنية))(1)



بِسْم الله الرَّحـمن الرَّحيم

} إنـّما أمرُه إذا أراد شَيئاً أنْ يقولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون { (يس:82)

يفهم من اشارة هذه الآية الكريـمة: ان الـخلق يتم بالأمر، وان خزائن القدرة الإلـهية بين الكاف والنون. ولـهذا السر الدقيق وجوه كثيرة، وقد ذكر بعضها في الرسائل.

اما الآن فنحاول ان نفهم هذا السر وفق مثال مادي مـحسوس لأجل تقريب الأحاديث النبوية الواردة حول خواص الـحروف القرآنية ومزاياها وتأثيراتها الـمادية – ولاسيما الـحروف الـمقطعة في اوائل السور – الى نظر هذا العصر الـمادي، وذلك:

ان للخالق الـجليل ذي العرش العظيم سبحانه وتعالى أربعة عروش إلـهية، هي مـحاور لتدبير امور الـمخلوقات الـموجودة على كرة الارض، التي هي بـمثابة مركز معنوي للعالـم وقلب الكائنات وقبلتها.

احدها: هو عرش التحفظ والـحياة وهو التراب، الـمظهر لتجلي اسم الـحفيظ والـمحيي.

ثانيها: هو عرش الفضل والرحـمة وهو عنصر الـماء.

ثالثها: هو عرش العلم والـحكمة وهو عنصر النور.

رابعها: هو عرش الامر والارادة وهو عنصر الـهواء.

اننا نشاهد بابصارنا ظهور الـمعادن التي تدور عليها حاجات غير مـحدودة غير مـحدودة حيوانية وانسانية، وظهور مالايـحد من النباتات الـمختلفة، من تراب بسيط كما نشاهد ظهور ما لا يـحد من معجزات الصنعة الإلـهية ولاسيما من نطف الـحيوانات التي هي سائل شبيه بالـماء، ظهورها في الاحياء الـمختلفة بالـماء.. أي ظهور تلك الكثرة الكاثرة والانواع الـمختلفة من عنصر بسيط، وبانتظام تام وكتابتها على صحيفة بسيطة على صورة نقوش بديعة لاتـحد، مـما يدلنا على ان النور والـهواء ايضاً - كهذين العرشين - مظاهر لـمعجزات عجيبة لقلم علم الـمصور الازلي العليم الـجليل وقلم ارادته وأمره كالعرشين السابقين، رغم بساطتهما.

سندع حالياً عنصر النور. ولـمناسبة مسألتنا نـحاول كشف الـحجاب عما يستر عجائب الامر والارادة وغرائبهما في عنصر الـهواء الذي يـمثل عرش الامر والارادة بالنسبة الى كرة الارض. وذلك:

كما اننا نزرع الـحروف والكلمات بالـهواء الذي في افواهنا، واذا بها تتسنبل وتثمر، أي ان الكلمة تصبح حبة في آن واحد كأنه بلازمان وتتسنبل في الـهواء الـخارجي، هواءً حاوياً على مالايـحد من الكلمة نفسها، صغيرها وكبيرها. كذلك ننظر الى عنصر الـهواء فنرى انه مطيع ومنقاد لأمر ((كن فيكون)) ومسخـّر له الى حد عظيم حتى كأن كل ذرة من ذراته جندي لـجيش منظم متأهب لتلقي الأمر في كل آن، ويُظهر الطاعة والامتثال للارادة الـمتجلية في أمر ((كن)) بلازمان، سواءً في ذلك أبعد الذرات وأقربها.

مثلاً: ان الـخطاب الذي يلقيه انسان من الاذاعة يُسمع في كل مكان في الارض في الوقت نفسه وكأنه بلا زمان – بشرط وجود الراديوات – مـما يبين مدى امتثال كل ذرة من ذرات الهواء لتجلي امر ((كن فيكون)) امتثالاً كاملاً.

فالأمر كذلك في الـحروف التي هي غير مستقرة في الـهواء، يـمكن ان تصبح بكيفياتها القدسية مظاهر لتأثيرات خارجية ولـخواص مادية كثيرة حسب سر الامتثال هذا. فتشاهد فيها خاصية، كأنها تقلب الـمعنويات الى ماديات وتـحول الغيب الى شهادة.

وهكذا بـمثل هذه الامارة، فان امارات اخرى لاتـحد تظهر لنا ان الـحروف التي هي موجودات هوائية، ولاسيما الـحروف الـمقدسة القرآنية وبـخاصة حروف الشفرات الإلـهية وهي الـمقطعات التي في اوائل السور، تسمع الاوامر وتـمتثلها امتثالاً في غاية الانتظام والشعور التام والـحساسية الكاملة وبلا حاجة الى زمان. فلا شك ان هذا يـحمل الـمرء على التسليم بالـخواص الـمادية والـمزايا الـخارقة الـمروية للحروف التي في ذرات الـهواء ومن حيث القدسية، والتي ينعكس فيها تـجلي الارادة الازلية وجلوة من أمر ((كن فيكون)).

وهكذا فان تعابير القرآن الكريم التي تبين احياناً اثر القدرة كأنها صادرة من صفة الارادة وصفة الكلام مبني على هذا السر. فتلك التعابير القرآنية تدل على ان الـموجودات تُخلق في منتهى السرعة ومسخـّرة ومنقادة انقياداً تاماً للاوامر حتى لكأن الأمر ينفـّذ حُكمه كالقدرة.

أي ان الـحروف الآتية من الأمر التكويني تؤثر في وجود الاشياء وكأنها قوة مادية، ويظهر الامر التكويني كأنه القدرة نفسها والارادة نفسها. نعم ان هذه الـموجودات الـخفية التي وجودها الـمادي هوائي وهي في غاية الـخفاء، حتى كأنها موجودات نصف معنوية ونصف مادية، تشاهد فيها آثار الامر والارادة بـحيث يشبه الامر التكويني كالقدرة بعينها، بل القدرة نفسها.

وهكذا لأجل جلب الانظار والـحث على التدبير في موجودات كأنها برزخ بين الـمعنويات والـماديات يقول القرآن الكريم } إنـّما أمرُه إذا أراد شَيئاً أنْ يقولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون { (يس:82). لذا فمن الـمعقول جداً ان تكون الـحروف الـمقطعة التي في اوائل السور امثال: الـم، طس، حم، وما شابهها من الشفرات الإلـهية، عقداً وازراراً حرفية تستطيع ان تهزّ اوتار العلاقات الدقيقة الـخفية بين ذرات الـهواء بلا زمان، بل هذا من شأن تلك الـحروف ومن وظائفها أن تؤدي مـخابرات قدسية – كاللاسلكي الـمعنوي – من الارض الى العرش.

نعم ان كل ذرة بل كل ذرات الـهواء الـمنتشرة في اقطار العالـم تـمتثل الاوامر وتنقلها عبر اللاسلكي والـهاتف والبرقية، فضلاً عن نقلها سائر السيالات اللطيفة كالكهرباء. فلقد شاهدت بالـحدس القطعي بل بالـمشاهدة الـحقة احدى وظائفها – مـما سوى الـمذكورة – في ازاهير اللوز، وهي: ان الاشجار الـمنتشرة في اقطار الارض كأنها جيش منظم يستلم الامر نفسه في آن واحد. فبمجرد هبوب نسيم رقيق تستلم الامر من تلك الذرات، وتظهر وضعاً معيناً. مـما اورثتني تلك الـحالة يقيناً تاماً وقناعة كاملة. بـمعنى ان قيام الـهواء في سطح الارض كـخادم امين نشط فعال، يـخدم ضيوف الرحـمن الرحيم الذين يسكنون سطح الارض، يبلـّغ في الوقت نفسه اوامر الرحـمن بذراته الشبيهة باللاسلكي الى النباتات والـحيوانات، بـحيث تكون ذراته كلها في حكم خدّام الامر وشبيهة بلاقطات اللاسلكي والـهاتف. وفي الوقت نفسه يؤدي بأمر ((كن)) مهمات جليلة ووظائف منتظمة كثيرة، من امثال تشكيل الـحروف في الفم بعد خروجه منه، وتهوية الانفاس واسترواح النفوس، أي بعد ادائه وظيفة تنقية الدم الباعث على الـحياة، واشعال الـحرارة الغريزية التي هي وقود الـحياة، ثم يـخرج الـهواء من الفم ويكون مبعث نطق الـحروف وانطلاقها.. وهكذا تـجري وظائف كثيرة بأمر ((كن فيكون)).

فبناء على خاصية الـهواء هذه، فان الـحروف التي هي موجودات هوائية كلما اكتسبت قداسة، أي اتـخذت اوضاع البث والالتقاط يصبح لـها حظ وافر من تلك الـخاصية.

لذا فلكون حروف القرآن، وهي في حكم العقد، وحروف الـمقطعات في حكم الـمركز لرؤوس تلك الـمناسبات الـخفية، وفي حكم عقدها وازرارها الـحساسة، يكون وجودها الـهوائي مالكاً لـهذه الـخاصية، كما ان وجودها الذهني، بل وجودها النقشي ايضاً، لـهما خاصية من تلك الـخاصية.

أي يـمكن بقراءة تلك الـحروف وبكتابتها كسبَ الشفاء – كالدواء الـمادي – والـحصول على مقاصد اخرى.

سعيد النورسي















((الكلمات الإلـهية))



بِسْمِ اللهِ الرَّحْـمنِ الرَّحيمِ

} قُل لَو كان البحرُ مِداداً لكلمات ربـّي لَنَفد البحرُ قبل ان تَنفَدَ كلماتُ ربـّي ولو جئنا بـمثله مَدداً { (الكهف:109)

ان هذه الآية اللطيفة بـحر واسع رفيع زاخر باللآلىء والدرر، ينبغي لكتابة جواهرها النفسية كتابة مـجلد ضخم، لذا نعلقها الى وقت آخر بـمشيئة الله. ولقد تراءى لي من بعيد شعاع صدر من نكتة من نكاتها الدقيقة، فلفت نظر فكري اليه بعد اذكار الصلاة التي اعدّها افضل وقت لـخطور الـحقائق. الاّ أنني لـم اتـمكن من تسجيل تلك النكتة في حينه، فتباعد ذلك الشعاع كلما مرّ الزمان، فنذكر هنا بضع كلماتٍ لتخط حوله دوائر لاقتناص جلوة منها قبل ان يغيب كلياً ويتوارى عن الانظار.

الكلمة الأولى:

ان الكلام الازلي صفة إلـهية، كالعلم والقدرة، لذا فهو غير مـحدد وغير متناهٍ، والذي لا نهاية له لا ينفد ولو كان البحر مداداً له.

الكلمة الثانية:

ان اظهر شىء للإشعار بوجود شخص ما هو تكلمه، فهو أقوى أثر للدلالة عليه؛ اذ سـماع كلام صادر من شخص ما، يثبت وجوده اثباتاً يفوق الف دليل، بل بدرجة الشهود. لذا فان هذه الآية تقول بـمعناها الاشاري:

لو كان البحر مداداً لعدّ الكلام الإلـهي الدال على وجوده سبحانه وتعالى وكانت الاشجار اقلاماً تكتب ذلك العدد، مانفد كلام الله. بـمعنى أن ما يدل على الأحد الصمد – دلالة الكلام على الـمتكلم – لا يعدّ ولا يـحصى ولا حدّ له، حتى لو كانت البحار مداداً له.

الكلمة الثالثة:

لـما كان القرآن الكريـم يرشد جـميع الطبقات البشرية الى حقائق الإيـمان، يكرر ظاهراً الـحقيقة الواحدة بـمقتضى تقريرها في القلوب وتثبيتها في أفكار العامة وإقناعهم.

لذا فهذه الآية الكريـمة جواب ضمني لأهل العلم وعلماء اليهود من اهل الكتاب في ذلك الوقت، على اعتراضهم الـمجحف الظالـم ظلماً بيـّناً على أُمية الرسول العظيم عليه الصلاة والسلام وعلى قلة علمه.

فالآية تقول: ان تكرار الـمسائل الـجليلة التي لكل منها قيمة الف مسألة وتتضمن الوفاً من الـحقائق – كما هي في مسائل الاركان الايـمانية – تكراراً معجزاً وبأساليب شتى، وان تكرار حقيقة واحدة وهي تتضمن كثيراً جداً من النتائج من حيث الفوائد الـمتنوعة، لإقرارها في قلوب الناس كافة ولاسيما العوام.. هذا التكرار الذي تقتضيه حكمٌ كثيرة – كالتقرير والاقناع والتحقيق – لايعدّ حصراً للكلام ولا هو نابع من قصور الذهن ولا من قلة البضاعة وقصر الباع، بل لو كانت البحار مداداً، وذوو الشعور كتـّاباً والنباتات اقلاماً، بل حتى الذرات لو كانت رؤوس اقلام وقامت كلها بعدّ كلمات الكلام الإلـهي الازلي، ما نفدت ايضاً، لأن كل ماذكر من امور هي متناهية وكلمات الله غير متناهية، وهي منبع القرآن الكريم الـمتوجه الى عالـم الشهادة من عالـم الغيب مـخاطباً الـجن والانس والـملائكة والروحانيين، فيرنّ في اسماع كل فرد منهم. ولا غرو فهو النازل من خزينة الكلام الإلـهي الذي لا ينفد.

الكلمة الرابعة:

من الـمعلوم ان صدور كلامٍ مـما لا يُتوقع منه الكلام، يـمنح الكلام اهمية ويدفع الى سماعه، ولاسيما الاصداء الشبيهة بالكلام، الصادرة من الاجسام الضخمة كالسحاب وجوّ السماء، فانها تـحمل كل احد على سماعها باهتمام بالغ، وبـخاصة النغمات التي يطلقها جهاز ضخم ضخامة الـجبل فانها تـجلب الاسماع اليها اكثر. ولا سيما الصدى السماوي القرآني الذي يبث – بالراديو – فترن به السموات العلى حتى تسمع هامة الكرة الارضية برمتها. فتصبح ذرات الـهواء بـمثابة لاقطات تلك الـحروف القرآنية ومراكز بثـّها. فتكون الذرات بـمثابة الـمرايا العاكسة للانوار والاذان الصاغية للأصداء، والألسنة الذاكرة لـها، وكأنها نهايات إبر لـجهاز حاك عظيم تـخرج الاصوات.

فالآية تبين رمزاً مدى اهمية الـحروف القرآنية ومدى قيمتها ومزاياها وكونها نابضة بالـحياة، فتقول بـمعناها الاشاري: ان القرآن الكريـم الذي هو كلام الله، حي يتدفق بالـحيوية، رفيع سام الى حدّ لا ينفد عدد الاسماع التي تنصت اليه ولاعدد الكلمات الـمقدسة التي تدخل تلك الاسماع.. لا تنفد تلك الاعداد حتى لو كانت البحار مداداً والـملائكة كتـّاباً لـها والذرات نقاطاً والنباتات والشعور اقلاماً.

نعم، لا تنفد، لان الله سبحانه الذي يُكثر في الـهواء عدد ما لا روح فيه ولا حياة من كلام الانسان الضعيف، الى الـملايين فكيف بعدد كل كلمة من كلام رب السموات والارض الذي لاشريك له والـمتوجه الى جـميع ذوي الشعور في السموات والارضين.

الكلمة الـخامسة: عبارة عن حرفين:

الـحرف الاول: كما أن لصفة الكلام كلمات، كذلك لصفة القدرة كلمات مـجسمة. ولصفة العلم كلمات قَدَرَية حكيمة وهي الـموجودات ولاسيما الأحياء ولاسيما الـمخلوقات الصغيرة، فكل منها كلمة ربانية بـحيث تشير الى الـمتكلم الازلي اشارة اقوى من الكلام. فهذه الآية الكريـمة تومىء الى هذا الـمعنى: ان إحصاء عدد تلك الـمخلوقات لا ينفد حتى لو كانت البحار مداداً له.

الـحرف الثاني: ان جـميع انواع الالـهام الآتي الى الـملائكة والانسان وحتى الى الـحيوانات، نوع من كلام إلـهي. فلاشك ان كلمات هذا الكلام غير متناهية. فان الآية الكريـمة تخبرنا عن مدى كثرة ولا نهائية عدد كلمات الالـهام والامر الإلـهي الذي يستلهمه دوماً مالايعد ولا يـحصى من جنود رب السموات والارض.

والعلم عند الله .. ولا يعلم الغيب إلا الله

((انزال الـحديد))

بِسْمِ الله الرَّحـمن الرَّحيم

} وأنزلـْنا الـحديدَ فيه بأسٌ شَديدٌ وَمَنافعُ للنـّاس { (الـحديد:25)

جواب مهم جداً ومـختصر عن سؤال يـخص هذه الاية الكريـمة، طرحه رجل له اهميته وعلى علم واسع، وألزم به بعض العلماء.

سؤال:

يقال: ان الـحديد يـخرج من الارض ولا ينزل من السماء حتى يقال: ((انزلنا)). فلِمَ لـم يقل القرآن الكريم: ((اخرجنا)) بدلاً عن ((انزلنا)) الذي لا يوافق الواقع ظاهراً؟

الـجواب: ان القرآن الكريم قد قال كلمة ((انزلنا)) لأجل التنبيه الى جهة النعمة العظيمة التي ينطوي عليها الـحديد والتي لـها اهميتها في الـحياة. فالقرآن الكريم لا يلفت الانظار الى مادة الـحديد نفسها ليقول ((اخرجنا)) بل يقول ((انزلنا)) للتنبيه الى النعمة العظيمة التي في الـحديد والى مدى حاجة البشر اليه. وحيث ان جهة النعمة لا تـخرج من الاسفل الى الاعلى بل تأتي من خزينة الرحـمة، وخزينة الرحـمة بلا شك عالية وفي مرتبة رفيعة معنى، فلا بد ان النعمة تنزل من الاعلى الى الاسفل، وان مرتبة البشر الـمحتاج اليها في الاسفل، وان الإنعام هو فوق الـحاجة. ولـهذا فالتعبير الـحق الصائب لورود النعمة من جهة الرحـمة اسعافاً لـحاجة البشر هو: ((انزلنا)) وليس ((اخرجنا)).

ولـما كان الاخراج التدريـجي يتم بيد البشر، فان كلمة ((الاخراج)) لا يُشعر جهة النعمة ولا يـحسسها لانظار الغافلين.

نعم لو كانت مادة الـحديد هي الـمرادة، فالتعبير يكون ((الاخراج)) باعتبار الـمكان الـمادي. ولكن صفات الـحديد، والنعمة التي هي الـمعنى الـمقصود هنا، معنويتان؛ لذا لا يتوجه هذا الـمعنى الى الـمكان الـمادي، بل الى الـمرتبة الـمعنوية.

فالنعمة الآتية من خزينة الرحـمة التي هي احدى تـجليات مراتب سـمو الرحـمن ورفعته غير الـمتناهية تُرسل من اعلى مقام الى اسفل مرتبة بلاشك؛ لذا فالتعبير الـحق لـهذا هو: انزلنا. والقرآن الكريم ينبه البشر بهذا التعبير الى ان الـحديد نعمة إلـهية عظيمة. نعم، ان الـحديد هو منشأ جـميع الصناعات البشرية ومنبع جـميع رقيها ومـحور قوتها، فلاجل تذكير هذه النعمة العظمى يذكر القرآن بكل عظمة وهيبة وفي مقام الامتنان والإنعام قائلاً: } وأنزلـْنا الـحديدَ فيه بأسٌ شَديدٌ وَمَنافعُ للنـّاس { (الـحديد:25) كما يعبـّر عن اعظم معجزة لسيدنا داود عليه السلام بقوله تعالى } وَأَلَنـّاَ لَهُ الْحَدِيدَ { (سبأ:10). اي انه يبين تليين الـحديد معجزة عظيمة ونعمة عظيمة لنبي عظيم.

ثانياً: ان ((الاعلى)) و ((الاسفل)) تعبيران نسبيان، فيكون الاعلى والاسفل بالنسبة الى مركز الكرة الارضية. حتى ان الذي هو اسفل بالنسبة الينا هو الاعلى بالنسبة لقارة امريكا. بـمعنى ان الـمواد الاتية من الـمركز الى سطح الارض تتغير اوضاعها بالنسبة الى من هم على سطح الارض.

فالقرآن الـمعجز البيان يقول بلسان الاعجاز: ان للـحديد منافع كثيرة وفوائد واسعة، بـحيث انه ليس مادة اعتيادية تـخرج من مـخزن الارض التي هي مسكن الانسان، وليس هو معدناً فطرياً يستعمل في الـحاجات كيفما اتفق. بل هو نعمة عظيمة أنزلـها خالق الكون بصفته الـمهيبة ((رب السموات والارض)) انزلـها من خزينة الرحـمة وهيأها في الـمصنع العظيم للكون، ليكون مداراً لـحاجات سكنة الارض. فعبـّر عنه بالانزال قائلاً } وأنزلـْنا الـحديدَ{ لأجل بيان الـمنافع العامة التي ينطوي عليها الـحديد وفوائده الشاملة، كما للـحركة والـحرارة والضياء الآتي من السماء فوائد. تلك التي ترسل من مصنع الكون. فالـحديد لا يـخرج من الـمخازن الضيقة لكرة الارض، بل هو في خزينة الرحـمة التي هي في قصر الكون العظيم ثم ارسل الى الارض ووضع في مـخزنها كيما يـمكن استخراجه من ذلك الـمخزن حسب حاجة العصور تدريـجياً.

فلا يريد القرآن الكريم ان يبين استخراج الـحديد هذا تدريـجياً من هذا الـمخزن الصغير، الارض. بل يريد ان يبين ان تلك النعمة العظمى قد انزلت من الـخزينة الكبرى للكون مع كرة الارض، وذلك لاظهار الـحديد انه هو اكثر ضرورة لـخزينة الارض. بـحيث ان الـخالق الـجليل عندما فصل الارض من الشمس انزل معها الـحديد ليحقق اكثر حاجات البشر ويضمنها. فالقرآن الـحكيم يقول باعجاز، ما معناه: انـجزوا بهذا الـحديد اعمالكم واسعوا للاستفادة منه باخراجه من باطن الارض.

وهذه الآية الـجليلة تبين نوعين من النعم التي هي مـحور لدفع الاعداء وجلب الـمنافع. ولقد شوهد تـحقق منافع الـحديد الـمهمة للبشرية قبل نزول القرآن، إلاّ ان القرآن يبين ان الـحديد سيكون في الـمستقبل في صور تـحيـّر العقول سيراً في البحر والـهواء والارض حتى انه يسخـّر الارض ويظهر قوة خارقة تهدد بالـموت، وذلك بقوله تعالى } فيه بأسٌ شَديدٌ { مظهراً لـمعة اعجاز في إخبار غيبي.

* * *

عندما طرق البحث عن النكتة السابقة انفتح الكلام حول هدهد سليمان. فيسأل احد اخواننا الذي يلح في السؤال(1): ان الهدهد يصف الـخالق الكريم سبحانه بقوله } يُخرِجُ الْخَبَء فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرضْ { (النمل:25) فما سبب ذكره في هذا الـمقام الـجليل هذا الوصف الرقيق بالنسبة الى الاوصاف الـجليلة؟.

الـجواب: ان احدى مزايا الكلام البليغ هو ان يُشعر الكلامُ صنعةَ الـمتكلم التي ينشغل بها. فهدهد سليمان الذي يـمثل عريف الطيور والـحيوانات كالبدوي العارف الذي يكشف بالفراسة الشبيهة بالكرامة مواضع الـماء الـخفية في صحراء جزيرة العرب الشحيحة بالـماء، فهو طير ميمون مأمور بايـجاد الـماء ويعمل عمل الـمهندس لدى سيدنا سليمان عليه السلام، فلذلك يُثبت بـمقياس صنعته الدقيقة، كون الله معبوداً ومسجوداً له، باخراجه سبحانه ما خبىء في السماوات والارض، فيعرّف اثباته هذا بصنعته الدقيقة.

ألا ما أحسن رؤية الـهدهد! اذ ليس من مقتضى فطرة ما تـحت التراب من الـمعادن والنوى والبذور التي لا تـحصى، ان تـخرج من الاسفل الاعلى. لأن الاجسام الثقيلة التي لا روح لـها ولا اختيار لا تصعد بنفسها الى الاعلى، وانـما تسقط من الاعلى الى الاسفل. فاخراج جسم مـخفي تـحت التراب، من الاسفل الى الاعلى ونفض التراب الثقيل الـجسيم من على كاهله الـجامد لابد ان يكون بقدرة خارقة لا بذاته. فادرك الـهدهد أخفى براهين كون الله تعالى معبوداً ومسجوداً له وكشفها بعارفيته ووجد أهم تلك البراهين بصنعته، والقرآن الـحكيم منح اعجازاً بالتعبير عنه.





((انزال الأنعام))

بِسْمِ اللهِ الرَّحـمنِ الرَّحيمِ

} وَأنزلَ لكَم مِن الأنعامِ ثـمانيةَ أزواجٍ يَخْلُقُكُم في بُطونِ اُمـّهاتِكُم خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلقٍ في ظُلُماتٍ ثَلثْ.. { (الزمر:6)

ان هذه الآية الكريـمة تتضمن النكتة نفسها التي بينـّاها في الآية الكريـمة: } وأنزلـْنا الـحديدَ { فهي تؤيدها وتتأيد بها في الوقت نفسه.

نعم، ان القرآن الكريم يقول في سورة الزمر: } وَأنزلَ لكَم مِن الأنعامِ ثـمانيةَ أزواجٍ { ولا يقول: ((وخلق لكم من الانعام ثـمانية ازواج)) وذلك للإفادة بان ثـمانية ازواج من الـحيوانات الـمباركة قد انزلت لكم وارسلت اليكم من خزينة الرحـمة الإلـهية وكأنها مرسلة من الـجنة، لان تلك الـحيوانات الـمباركة نعمة بـجميع جهاتها للبشرية كافة. فمن أشعارها واوبارها يستفيد البدو في حلـّهم وترحالـهم، ومنها تنسج الـملابس، ومن لـحومها تهيأ ألذّ الـمأكولات، ومن ألبانها تستخرج أطيب الاطعمة، ومن جلودها تصنع الاحذية والنعال وغيرها من الـمواد النافعة، حتى ان روثها تكون رزقاً للنباتات ووقوداً للانسان. فكأن تلك الـحيوانات الـمباركة قد تـجسمت واصبحت النعمة بعينها والرحـمة بنفسها. ولـهذا اُطلق عليها اسم ((الأنعام)) مثلما اطلق على الـمطر اسم ((الرحـمة)) فكأن الرحـمة قد تـجسمت مطراً والنعمة تـجسدت في صور شتى من اشكال الـمعزى والضأن والبقر والـجاموس والابل.

وعلى الرغم من ان موادها الـجسمانية تُخلق في الارض، فان صفة النعمة ومعنى الرحـمة قد غلبتا واستحوذتا على مادتها، فعبـّر القرآن عنها بـ ((انزلنا)) الذي يفيد: ان الـخالق قد أنزل هذه الـحيوانات الـمباركة من خزينة الرحـمة مباشرة، أي ان الـخالق الرحيـم قد ارسلها من مرتبة رحـمته الرفيعة، ومن جنته الـمعنوية العالية، هدية الى وجه الارض بلا وساطة.

نعم، تُدرج احياناً صنعةٌ تقدّر بـخمس ليرات في مادة لاتساوي خـمسة قروش، فلا تؤخذ مادة الشىء بنظر الاعتبار، بل تعطى الاهمية للصنعة الـموجودة عليها، كالصنعة الربانية العظيمة الـموجودة في الـجرم الصغير للذباب. واحياناً تكون صنعة زهيدة في مادة ثـمينة، فالـحكم عندئذٍ للـمادة.

على غرار هذا الـمثال: فان مادة جسمانية قد تـحمل من معاني الرحـمة ومعاني النعمة الكثيرة بـحيث تفوق مائة مرة في الاهمية على مادتها. حتى لكأن مادة ذلك الشىء تـختفي وتنزوي امام عظم اهمية النعمة والرحـمة، لذا فالـحكم هنا يتوجه الى حيث النعمة.

وكما تـخفي الـمنافع العظيمة للـحديد وفوائده الكثيرة مادتها الـمادية، فان النعمة الـموجودة في كل جزء من اجزاء هذه الـحيوانات الـمباركة الـمذكورة كأنها قد قلبت مادتها الـجسمانية الى نعمة، فأخذت صفاتها الـمعنوية بنظر الاعتبار دون مادتها الـجسمانية. لذا عُبـّرت عنها في الآية الكريـمة ((وانزل.. وانزلنا)).

نعم، ان عبارة ((وانزل.. وانزلنا)) كما تفيد النكات السابقة من حيث الـحقيقة فانها تفيد ايضاً معنى بلاغياً مهماً إفادة معجزة. وذلك:

ان منح الـحديد خواص مـميزة، كوجودها في كل مكان، وسهولة تليينها كالعجين، نعمة إلـهية، حيث يـمكن الـحصول عليه واستعماله في كل عمل رغم صلابته واختفائه ووجوده في الاعماق فطرة، لذا فان التعبير بـ } وأنزلـْنا الـحديدَ { انـما يبين هذا الـمعنى أي كأن الـحديد نعمة من النعم الفطرية السماوية التي يـمكن الـحصول عليها بيسر، وكأن مادة الـحديد تنزل من مصنع علوي رفيع وتسلـّم بيد الانسان بسهولة.

وكذلك الـحيوانات الضخمة كالبقر والـجاموس والابل وغيرها من الـمخلوقات الـجسيمة، مسخـّرة وذليلة ومطيعة ومنقادة حتى لصبي صغير، اذ تسلم قيادها له وتطيعه. لذا فالتعبير بـ } وَأنزلَ لكَم مِن الأنعامِ{ يفيد ان هذه الـحيوانات الـمباركة ليست حيوانات دنيوية تستوحش منها وتلحق بنا الضرر كالبعوض والـحية والعقرب والذئب والسبع وما شابهها من الضوارى الـمفترسة، بل كأنها حيوانات آتية من جنة معنوية، لـها منافع جليلة، ولا يأتي منها ضرر، بل كأنها تنزل من الاعلى، أي من خزينة الرحـمة.

ولعل الـمقصود من قول بعض الـمفسرين: ان هذه الـحيوانات قد اُنزلت من الـجنة ناشىء من هذا الـمعنى الـمذكور(1).

ان كتابة صحيفة كاملة حول ايضاح ما في حرف واحد من القرآن الكريم من مسائل ونكات لا تعد اطناباً، فليس اذن من الاسراف في شيىء كتابتنا ثلاث صفحات لبيان نكات العبارة القرآنية ((انزلنا)). بل قد يكون احياناً حرف واحد من القرآن الكريم مفتاحاً لـخزينة معنوية عظيمة.

* * *

دستور

ان طلاب النور لا يتحرّون عن نورٍ خارج دائرة رسائل النور، وما ينبغي لـهم. ولو تحرّى أحدٌ منهم فلا يـجد الاّ مصباحاً بدلاً من شـمس معنوية تضىء من نافذة رسائل النور، بل قد يفقد الشمس.

ثم ان ما في دائرة رسائل النور من مشرب الـخلة ومسلك الاخوة، هذا الـمشرب الـخالص والـمسلك القوي الذي يُكسب الفرد الواحد ارواحاً كثيرة ويُظهر سراً من اسرار الاخوة التي ورثها الصحابة الكرام من نور النبوة، هذا الـمشرب لايدع حاجة الى البحث عن الـمرشد الوالد في الـخارج – مع إضرار به بثلاث جهات – بل يوجد له بدلاً من الوالد الـمرشد الواحد، اخواناً كباراً كثيرين. فلاشك ان ما تسبغه اَنواع الشفقة النابعة من قلوب اخوة كبار، يزيل شفقة الوالد الواحد.

نعم، ان الذي اتـخذ لنفسه شيخاً قبل دخوله الدائرة يـمكنه ان يـحافظ على رابطته بشيخه ومرشده ضمن الدائرة ايضاً، ولكن من لـم يكن له شيخ بعد الدخول في الدائرة، ليس له ان يتخذ شيخاً إلاّ ضمن الدائرة.

ثم ان ما في درس رسائل النور للـحقائق من علم الـحقيقة الذي يـمنح فيض الولاية الكبرى النابعة من سر الوراثة النبوية، لا يدع حاجة الى الانتماء الى الطرق الصوفية خارج الدائرة، إلا من فهم الطريقة على غير وجهها وكأنها رؤى جـميلة وخيالات وانوار وأذواق، ويرقب في الـحصول على اذواق الدنيا وهوساتها مـما سوى فضائل الآخرة، ويطلب مقام الـمرجعية كعبدة النفس. ان هذه الدنيا دار حكمة. والأجر والثواب فيها على قدر الـمشقات والتكاليف، وهي ليست دار مكافأة وجزاء. ولـهذا لا يهتم اهل الـحقيقة بالاذواق والانوار التي في الكشف والكرامات، بل قد يفرّون منها يريدون سترها.

ثم ان دائرة رسائل النور دائرة واسعة جداً، وطلابها كثيرون جداً، فلا تعقب الذين يهربون منها، ولا تهتم بهم. وربـما لا تدخلهم ضمن دائرتها مرة اخرى. لأن الانسان يـملك قلباً واحداً والقلب الواحد لا يـمكن أن يكون في داخل الدائرة وخارجها معاً.

ثم ان الراغبين في ارشاد الآخرين مـمن هم خارج دائرة النور، عليهم الاّ ينشغلوا بطلاب النور لأن احتمال خسرانهم بثلاث جهات وارد. فالطلاب الذين هم في دائرة التقوى ليسوا بـحاجة الى الارشاد، علماً ان في الـخارج الكثيرين من تاركي الصلاة، فترك اولئك والانشغال بهؤلاء الـمتقين ليس من الارشاد في شىء. فان كان مـمن يـحب هؤلاء الطلاب فليدخل اولاً ضمن الدائرة، وليكن لـهم أخاً، وان كان ذو مزايا وفضائل فليكن لـهم اخاً كبيراً.

ولقد تبيـّن في هذه الـحادثة ان للانتساب الى رسائل النور اهمية عظيمة وثمناً غالياً جداً، فالراشد الذي بذل هذه التضحيات وجاهد الالـحاد باسم العالـم الإسلامي، لا يترك هذا الـمسلك الذي هو أثـمن من الألـماس ولا يتسطيع ان يدخل مسالك اخرى غيره.



سعيد النورسي
























__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-02-2011
  #26
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: اللمعات

فقرة

كتبت في سجن ((اسكي شهر))

اخوتي!

لقد دافعتُ دفاعات عديدة عن طلاب النور بـما يليق بهم من دفاع، وسأقولـها باذن الله في الـمحكمة وبأعلى صوتي، وسأسمع صوت رسائل النور ومنزلة طلابها الى الدنيا بأسرها. الاّ أنني انبهكم الى ما يأتي:

ان شرط الـحفاظ على ما في دفاعي من قيمة، هو عدم هجر رسائل النور بـمضايقات هذه الـحادثة وامثالـها، وعدم استياء الأخ من استاذه، وعدم النفور من اخوانه مـما يسببه الضيق والضجر، وعدم تتبع عورات الآخرين وتقصيراتهم.

انكم تذكرون ما اثبتناه في رسالة القدر: ان في الظلم النازل بالانسان جهتين وحكمين.

الـجهة الأولى: للانسان. والاخرى: للقدر الإلـهي

ففي التحادثة الواحدة يظلم الانسان فيما يعدل القدر وهو العادل.

فعلينا ان نفكر – في قضيتنا هذه – في عدالة القدر الإلـهي والـحكمة الإلـهية اكثر مـما نفكر في ظلم الانسان.

نعم! ان القدر قد دعا طلاب النور الى هذا الـمجلس. وان حكمة ظهور الـجهاد الـمعنوي قد ساقتهم الى هذه الـمدرسة اليوسفية التي هي حقاً ضجرة وخانقة، فصار ظلم الانسان وسيلة لذلك.

ولـهذا، اياكم ان يقول بعضكم لبعض: ((لو لـم افعل كذا لـما اعتقلت)).

سعيد النورسي

* * *







((شرف الرسائل الرفيع))

اخواني!

لقد اُخطر الى قلبي: كما ان الـمثنوي الرومي قد اصبح مرآة لـحقيقة واحدة من الـحقائق السبع الـمفاضة من نور شـمس القرآن الكريم، فاكتسب منزلة سامية وشرفاً رفيعاً حتى اصبح مرشداً خالداً لكثير من اهل القلب فضلاً عن الـمولويين. كذلك رسائل النور ستنال باذن الله شرفاً رفيعاً سامياً بسبع جهات، وستكون لدى اهل الـحقيقة بـمثل مرشدة خالدة رائدة باقية بسبع اضعاف الـمثنوي الرومي. لأنها تـمثل الانوار السبعة لنور شـمس القرآن الكريم والالوان السبعة الـمتنوعة في ضيائها، تـمثلها دفعة واحدة في مرآتها.

سعيد النورسي

* * *

((لطمة رحـمة))

اخوتي!

لقد ادركت ان التي نزلت بنا – مع الاسف – هي لطمة رحـمة. ادركتها منذ حوالي ثلاثة ايام وبقناعة تامة. حتى انني فهمت اشارة من الاشارات الكثيرة للآية الكريـمة الواردة بـحق العاصين لله، فهمتها كأنها متوجهة الينا وتلك الآية الكريـمة هي: } فَلَمـّاَ نَسُواْ مَا ذُكـِّرُواْ بِهِ ... أَخَذنَاهُم { (1) أي: لـما نسي الذين ذُكـّروا بالنصائح، ولـم يعملوا بـمقتضاها.. اخذناهم بالـمصيبة والبلاء.

نعم، لقد كُتـّبنا مؤخراً رسالة تـخص سر الاخلاص، وكانت حقاً رسالة رفيعة سامية، ودستوراً اخوياً نورانياً، بـحيث ان الـحوادث والـمصائب التي لايـمكن الصمود تـجاهها الاّ بعشرة الآف شـخص، يـمكن مقاومتها – بسر ذلك الاخلاص – بعشرة اشخاص فقط. ولكن أقولـها آسفاً: اننا لـم نستطع وفي الـمقدمة أنا، ان نعمل بـموجب ذلك التنبيه الـمعنوى، فأخذتنا هذه الآية الكريـمة – بـمعناها الاشارى – فابتلي قسم منا بلطمة تأديب ورحـمة، بينما لـم تكن لطمة تأديب لقسم آخر بل مدار سلوان لـهم، وليكسْبوا بها لأنفسهم الثواب.

نعم، انني لكونى مـمنوعاً عن الاختلاط منذ ثلاثة شهور لـم استطع ان اطلع على احوال اخوانى الاّ منذ ثلاثة أيام، فلقد صدر – مالا يـخطر ببالي قط – مـمن كنت احسبهم من اخلص اخواني اعمالاً منافية لسر الاخلاص. ففهمت من ذلك ان معنىً اشارياً للآية الكريـمة } فَلَمـّاَ نَسُواْ مَا ذُكـِّرُواْ بِهِ … أَخَذنَاهُم{ يتوجه الينا من بعيد.

ان هذه الآية الكريـمة التي نزلت بـحق اهل الضلال مبعث عذاب لـهم، هي لطمة رحـمة وتأديب لنا؛ لتربية النفوس وتكفير الذنوب وتزييد الدرجات. والدليل على أننا لـم نقدر قيمة ما نـملك من نعمة إلـهية حق قدرها هو: اننا لـم نقنع بـخدمتنا القدسية برسائل النور الـمتضمنة لأقدس جهاد معنوي، ونالت الولاية الكبرى بفيض الوراثة النبوية وهي مدار سر الـمشرب الذي تـحلى به الصحابة الكرام. وان الشغف بالطرق الصوفية التي نفعها قليل لنا في الوقت الـحاضر، واحتمال إلـحاقها الضرر بوضعنا الـحالي مـمكن، قد سُدّ امامه بتنبيهي الشديد عليه.. والاّ لأفسد ذلك الـهوى وحدتنا، وادّى الى تشتت الافكار الذي ينزل قيمة الترابط والتساند من ألف ومائة وأحد عشر الناشئة من اتـحاد أربعة آحاد، ينزلـها الى قيمة أربعة فـحسب، وادّى الى تنافر القلوب الذي يبدّد قوتنا إزاء هذه الـحادثة الثقيلة ويتجعلها أثراً بعد عين.

اورد الشيخ سعدي الشيرازي(1) صاحب كتاب ((كلستان)) ما مضمونه:

لقد رأيت احد الـمتقين من أهل القلب في زاوية ((التكية)) يزاول السير والسلوك، ولكن بعد مضي بضعة ايام شاهدته في الـمدرسة بين طلاب العلوم الشرعية، فسألته: لِمَ تركت الزاوية التي تفيض الانوار واتيت الى هذه الـمدرسة؟ قال: هؤلاء النجباء ذوو الـهمم العالية يسعون لإنقاذ الآخرين مع انقاذهم لأنفسهم بينما اولئك يسعون لإنقاذ أنفسهم وحدها إن وفقوا اليها. فالنجابة وعلو الـهمة لدى هؤلاء والفضيلة والـهمة عندهم، ولأجل هذا جئت الى هنا. هكذا سجل الشيخ سعدي خلاصة هذه الـحادثة في كتابه ((كلستان)).

فلئن رُجـّحت الـمسائل البسيطة للنحو والصرف التي يقرأها الطلاب مثل: نصر نصراً ونصروا.. على الاوراد التي تُذكر في الزوايا، فكيف برسائل النور الـحاوية على الـحقائق الإيـمانية الـمقدسة في ((آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر)). ففي الوقت الذي ترشد رسائل النور الى تلك الـحقائق باوضح صورة واكثرها قطعية وثبوتاً حتى لأعتى الـمعاندين الـمكابرين من الزنادقة وأشد الفلاسفة تـمرداً، وتلزمهم الـحجة، كم يكون على خطأ من يترك هذه السبيل او يعطلها او لا يقنع بها ويدخل الزوايا الـمغلقة دون استئذان من رسائل تبعا لـهواه! ويبين في الوقت نفسه مدى كوننا مستحقين لـهذه الصفعة، صفعة الرحـمة والتأديب.

سعيد النورسي

* * *

تنبيه

حكايتان صغيرتان

الـحكاية الأولى: عندما كنت اسيراً في شـمالي روسيا قبل خـمسة عاماً(1) في قاعة مصنع كبير، مع تسعين من ضباطنا، كانت الـمناقشات تـحتد والاصوات تتعالى نتيجة الضجر وضيق الـمكان. وكنت اهدئـّهم حيث كانوا جـميعاً يـحترمونني. ثم عينت خـمساً من الضباط لإقرار الـهدوء وقلت لـهم: اذا سـمعتم الضوضاء في أية ناحية اسرعوا اليها، وعاونوا الـجهة غير الـمحقة. وحقاً لقد انتهى الضوضاء نتيجة هذا العمل. فسألوني: لِمَ قلت: عاونوا غير الـمحق؟وقد أجبتهم حينها: ان غير الـمحق، هو غير منصف، لا يدع درهماً من راحته لأربعين درهماً من راحة الـجميع. اما الـمحق فيكون ذا انصاف يضحي براحته التي تعدل درهما، لراحة صديقه التي تعدل اربعين درهماً. وبتخليه عن راحته هذا، يسكن الضوضاء والصخب وينتهي ويعم الـهدوء. فيرتاح الضباط التسعون الساكنون في هذه القاعة. ولكن اذا مدّ الـمحقّ بقوة يزداد الصخب اكثر. ففي مثل هذه الـحياة الاجتماعية تؤخذ الـمصلحة العامة بنظر الاعتبار.

فيا اخوتي!! لا يستاء بعضكم من بعض قائلاً: ان اخي هذا لـم ينصفني او اجحف بـحقي.. فهذا خطأ جسيم في هذه الـحياة وفي اجتماعنا هذا. فلئن اضرك صاحبك بدرهم من الضرر، فانك بإستيائك منه وهجرك اياه تلـحق اربعين درهماً من الاضرار. بل يـحتمل إلـحاق اربعين ليرة من الاضرار برسائل النور. ولكن ولله الـحمد فان دفاعاتنا الـحقة القوية والصائبة جداً قد حالت دون أخذ اصدقائنا الى الاستجواب واخذ افاداتهم الـمكرر، فانقطع دابر الفاسد. والاّ لكان الاستياء الذي وقع بين الاخوة يلـحق بنا اضراراً جسيمة. كسقوط قشة في العين او سقوط شرارة في البارود.

الـحكاية الثانية: كانت لعجوز ثـمانية ابناء. اعطت لكل منهم رغيفاً دون ان تستبقي لـها شيئاً. ثم ارجع كل منهم نصف رغيفه اليها. فاصبحت لديها اربعة ارغفة، بينما لدى كل منهم نصف رغيف.

اخوتي انني اشعر في نفسي نصف ما يتألـم به كل منكم من آلام معنوية وانتم تبلغون الاربعين، انني لا ابالي بالآمي الشخصية. ولكن اضطررت يوماً فقلت: ((أهذا عقاب لـخطأي واُعاقب به)) فتحريت عن الـحالات السابقة. فشاهدت انه ليس لدي شىء من تهييج هذه الـمصيبة واثارتها، بل كنت اتـخذ منتهى الـحذر لأتـجنبها.

بـمعنى ان هذه الـمصيبة قضاء إلـهي نازل بنا.. فلقد دبـّرت ضدنا منذ سنة من قبل الـمفسدين فما كان بطوقنا تـجنبها، فلقد حمـّلونا تبعاتها فلا مناص لنا مهما كنا نفعل.

فللـّه الـحمد والـمنة أن هوّن من شدة الـمصيبة من الـمائة الى الواحد.

بناء على هذه الـحقيقة: فلا تـمنـّوا عليّ بقولكم: اننا نعاقب بهذه الـمصيبة من جرائك. بل سامـحوني وادعوا لي.

ولا ينتقدن بعضكم بعضاً. ولا تقولوا: لو لـم تفعل كذا لـما حدث كذا.. فـمثلاً ان اعتراف احد اخواننا عن عدد من اصحاب التواقيع (على الرسائل) انقذ الكثيرين. فهوّن من شأن الـخطة الـمرسومة في اذهان الـمفسدين الذين يستعظمون القضية. فليس في هذا ضرر، بل فيه نفع عام عظيم. لانها اصبحت وسيلة لانقاذ الكثيرين من الابرياء.

سعيد النورسي





((نكتتان))

الفقرات التالية عبارة عن نكتتين:

الأولى: تـخص الاخلاق، كتبت لـمناسبة ظهور حالات غير مريـحة في سجن اسكي شهر من جراء انقباض النفوس.

الثانية: نكتة لطيفة لآية كريـمة لطيفة مشهورة الاّ انها ظلت مستورة.

النكتة الأولى:

ان من كمال الله سبحانه وسعة رحـمته وطلاقة عدالته ان ادرج ثواباً ضمن اعمال البر، واخفى عقاباً معجلاً في اعمال الفساد والسيئات. فقد ادرج طي الـحسنات لذائذ وجدانية معنوية ما يذكـّر بنعم الآخرة، وادرج في ثنايا السيئات اعذبة معنوية ما يـحسس بعذاب الآخرة الاليم.

فمثلاً: ان افشاء الـمحبة والسلام في صفوف الـمؤمنين، انـما هو حسنة كريـمة للمؤمن، فله ضمن هذه الـحسنة لذة معنوية وذوقاً وجدانياً وانشراحاً قلبياً ما يذكـّر بثواب الآخرة الـمادي. ومن يتفقد قلبه يشعر بـهذا الذوق.

ومثلاً: ان بث الـحصومة والعداء بين الـمؤمنين انـما هو سيئة قبيحة، فـهذه السيئة تنطوي على عذاب وجداني واي عذاب، بـحيث يأخذ بـخناق القلب والروح معاً، فكل من يـملك روحاً حساسة وهـمة عالية يشعر بـهذا العذاب.

ولقد مررت بنفسي – طوال حياتي – بأكثر من مائة تـجربة على هذا النوع من السيئات. فكنت كلما حـملت عداء على اخ مؤمن تـجرعت عذاب تلك العداوة، حتى لـم يبق لي ريب من ان هذا العذاب انـما هو عقاب معجل لسيئتي التي ارتكبتها. فاعاقب عليها واعذب بها.

ومثلاً: ان توقير الـجديرين بالاحترام والتوقير وابداء العطف والرحـم لـمن يستحقه عمل صالـح وحسنة للمؤمن. ففي هذه الـحسنة تكمن لذة عظيمة ومتعة وجدانية الى حدٍ قد تسوق صاحبها الى التضحية حتى بـحياته. فان شئت فانظر الى اللذة التي تكسبها الوالدت من بذل شفقتهن لاولادهن، حتى أنها تـمضي في سبيل تلك الرأفة والشفقة الى الـجود بنفسها. بل ترى هذه الـحقيقة واضحة حتى في عالـم الـحيوان، فالدجاجة تهاجم الاسد دفاعاً عن فراخها.

اذن ففي الاحترام والرأفة اجره معجلة. يشعر بهذه اللذة اولئك الذين يـملكون ارواحاً عالية ونفوساً ابية شهمة.

ومثلاً: ان في الـحرص والاسراف عقوبة معنوية معجلة وجزاء قلبياً، اذ يـجعل صاحبه ثملاً من كثرة الشكوى والقلق، فترى العقوبة نفسها بل اشد منها في الـحسد والتنافس والغيرة، حتى ان الـحسد يـحرق صاحبه قبل غيره. وتنقلب الآية في التوكل والقناعة اذ فيهما ثواب واي ثواب بـحيث انه يزيل آثار الـمصائب واوضار الفاقة والـحاجة.

ومثلاً: ان الغرور والتكبر حـمل ثقيل مقيت على كاهل الانسان، حيث انه يتعذب من رؤيته استثقال الآخرين له في الوقت الذي ينتظر منهم احترامه.

نعم! ان الاحترام والطاعة توهب ولا تطلب.

ومثلاً: ان في التواضع وترك الغرور والكبر لذة عاجلة ومكافأة آنية يـخلص الـمتواضع من عبء ثقيل وهو التصنع والرياء.

ومثلاً: ان في سوء الظن وسوء التأويل جزاء معجلاً في هذه الدنيا. حتى غدت ((مَن دقّ دُقّ)) قاعدة مطردة. فالذي يسىء الظن بالناس يتعرض حتماً لسوء ظنهم. والذي يؤول تصرفات اخوانه الـمؤمنين تأويلاً سيئاً، لا مـحالة سيتعرض للـجزاء نفسه في وقت قريب.

وهكذا فقس على هذا الـمنوال جـميع الـخصال الـحسنة والذميمة.

نسأل الله الرحـيم ان يرزق الذين يتذوقون طعوم الاعجاز القرآني الـمعنوي الـمنبعث من رسائل النور في زماننا هذا ذوق تلك اللذائذ الـمعنوية الـمذكورة، فلا تقرب اليهم بأذن الله الاخلاق الذميمة.



النكتة الثانية:

بِسْمِ اللهِ الرَّحمْن الرَّحيْم

} وَمَا خَلَقْتُ الـجنَّ والإنْسَ اِلاّ لِيَعْبُدون ` ما اُريد منهم

مِن رزقٍ وما اُريد أن يُطْعِمون ` إنّ الله هُو الرزّاقُ

ذُو القُوّةِ الـمتينِ{ (الذاريات:56-58)



ان ظاهر معنى هذه الآية الكريـمة لا يبين الاسلوب الرفيع الـمنسجم مع بلاغة القرآن الـمعجزة، مثلما جاء في اغلب التفاسير. لذا كان يشغل فكري في كثير من الاحيان. فنبين ثلاثة اوجه اجـمالاً، من بين الـمعاني الـجميلة الرفيعة التي وردت من فيض القرآن الكريم.

الوجه الاول:

ان الله سبحانه يسند احياناً الى نفسه ما يـمكن ان يعود الى رسوله الكريـم عليه الصلاة والسلام من حالات، وذلك تكريـماً له وتشريفاً.

فها هنا كذلك، اذ الـمعنى الـمراد من الآية الكريـمة الـمتصدرة، لابد ان يكون الاطعام والارزاق الذي يعود الى الرسول e ، أي:

ان رسولي في ادائه مهمة الرسالة وتبليغه العبودية لله، لايريد منكم اجراً ولا اجرة ولاجزاءً ولا إطعاماً.. وإلاّ إن لـم يكن الـمراد هذا الـمعنى لكان اعلاماً لـمعلوم في منتهى البداهة، مـما لا ينسجم وبلاغة القرآن الـمعجزة.

الوجه الثاني:

الانسان مغرم بالرزق كثيراً، ويتوهم ان السعي الى الرزق يـمنعه عن العبودية، فلاجل دفع هذا التوهم، ولكي لا يُتخَذ ذريعة لترك العبادة تقول الآية الكريـمة } وَمَا خَلَقْتُ الـجنَّ والإنْسَ اِلاّ لِيَعْبُدون { وتـحصر الغاية من الـخلق في العبودية لله، وان السعي الى الرزق – من حيث الامر الإلـهي – عبودية لله ايضاً.

أما احضار الرزق لـمخلوقاتي ولأنفسكم واهليكم وحتى رزق حيواناتكم فأنا الكفيل به. فأنتم لـم تـخلقوا له، فكل ما يـخص الرزق والاطعام يـخصني أنا وأنا الرزاق ذو القوة الـمتين.. فلا تـحتجوا بـهذا فتتركوا العبادة، فانا الذي ارسل رزق مَن يتعلق بكم من عبادي.

ولو لـم يكن هذا الـمعنى هو الـمراد، لكان من قبيل اعلام الـمعلوم. لأن رزق الله سبحانه وتعالى واطعامه مـحال بديهي ومعلوم واضح. وهناك قاعدة مقررة في علم البلاغة تفيد.

ان كان معنى الكلام معلوماً وبديهياً، فلا يكون هذا الـمعنى مراداً، بل الـمراد لازمهُ او تابع من توابعه.

فمثلاً: ان قلتَ لاحدهم وهو حافظ للقرآن الكريم: انت حافظ. فهذا الكلام اعلامٌ بـما هو معلوم لديه، فاذاً الـمراد منه هو: انني اعلم انك حافظ للقرآن، أي: اُعلِمهُ بـما لايعلمه، وهو علمي أنه حافظ للقرآن.

فبناء على هذه القاعدة يكون معنى الآية التي هي كناية عن نفي رزق الله واطعامه هو:

انكم لـم تـخلقوا لإيصال الرزق الى مـخلوقاتي التي تعهـّدت انا برزقهم. فالرزق أنا به زعيم. فواجبكم الاساس هو العبودية، والسعي على وفق اوامري للحصول على الرزق، بذاته نوع من العبادة.

الوجه الثالث:

ان الـمعنى الظاهري للآية الكريـمة } لَم يَلِد وَلَم يُولَد { في سورة الاخلاص، معلوم وبديهي. فيكون الـمقصود لازماً من لوازم ذلك الـمعنى. أي: ان الذين لـهم والدة وولد لا يكونون الـهاً قطعاً.

فيقضي سبحانه وتعالى بقوله } لَم يَلِد وَلَم يُولَد { الذي هو بديهي ومعلوم ويعني انه ازلي وابدي، لاجل نفي الالوهية عن سيدنا عيسى عليه السلام وعزير عليه السلام والـملائكة والنجوم والـمعبودات الباطلة.

فكما أن هذه الآية هكذا فهنا ايضاً يكون معنى الآية الكريـمة } ما اُريد منهم

مِن رزقٍ وما اُريد أن يُطْعِمون { ان كل ما يُرزق ويُطعم وله استعداد للرزق والاطعام لا يـمكن ان يكون الـهاً. فلا تليق الالوهية بـما هو مـحتاج الى الرزق والاطعام.



سعيد النورسي













بِسْمِ اللهِ الرَّحـمن الرَّحيمِ

} أَو هُم قَآئِلُون{ (الاعراف:4)

لقد اهتم ((رأفت)) بـمعنى كلمة ((قائلون)) الواردة في الآية الكريـمة:

} أَو هُم قَآئِلُون{

فكُتب هذا البحث لــمناسبة استفساره عنها، ولئلا يعطل قلمه الالـماسي، بـما يصيبه من انـحلال في الـجسم بسبب نومه بعد صلاة الفجر كالآخرين معه في السجن.

النوم على انواع ثلاثة:

الاول: الغيلولة:

وهي النوم بعد الفجر حتى انتهاء وقت الكراهة. هذا النوم مـخالف للسنة الـمطهرة؛ اذ يورث نقصان الرزق، وزوال بركته، كما هو وارد في الـحديث الشريف. حيث ان افضل وقت لتهيئة مقدمات السعي لكسب الرزق هو في الـجو اللطيف، عقب الفجر، ولكن بعد مضيه يطرأ على الانسان خـمول وانـحلال، مـما يضرّ بسعيه في ذلك اليوم، وبدوره يضر بالرزق، كما يسبب زوال بركته، وقد ثبت هذا بتجارب كثيرة.

الثاني: الفيلولة:

وهي النوم بعد صلاة العصر حتى الـمغرب، هذا النوم يسبب نقصان العمر، أي: يتناقص عمر الانسان مادياً في اليوم الذي يشوّب بالنوم الـمورث للغفلة؛ اذ يبدو ذلك اليوم قصيراً ناقصاً مثلما يكون قضاء وقت العصر بالنوم في حكم عدم رؤية نتائج معنوية لذلك اليوم، تلك النتائج التي تتظاهر على الاغلب في ذلك الوقت. فيكون الانسان كأنه لـم يعش ذلك اليوم.

الثالث: القيلولة:

وهي سنة نبوية شريفة، ويبدأ وقتها من الضحى الى ما بعد الظهر بقليل، ومع كون هذا النوم من السنة الـمطهرة(1) فانه يعين على قيام الليل، وقد رسـّخ هذه السنة النبوية ما اعتاد عليه اهل الـجزيرة العربية من تعطيل نسبي للاعمال عند اشتداد الـحر من الظهر حسب مـحيطهم. وهذا النوم يطيل العمر ويزيد الرزق؛ لان نصف ساعة من القيلولة يعادل ساعتين من نوم الليل، أي انه يزيد عمر يومه ساعة ونصف الساعة. وينقذ ساعة ونصف الساعة ايضاً من النوم الذي هو صنو الـموت، ويـحييها بتزييد وقت عمله كسباً للرزق، فيطيل زمن السعي والعمل.

سعيد النورسي

* * *







وهذه خاطرة جـميلة

حينما كنت اقرأ جـملة ((ألف ألف صلاة وألف ألف سلام عليك يارسول الله)) عقب الصلاة، تراءت لي من بعيد خاطرة لطيفة انكشفت من تلك الصلوات، الا انني لـم أتـمكن من اقتناصها كاملة، ولكن ساشير الى بعض جـملها:

رأيت ان عالـم الليل شبيه بـمنزل جديد يفتح لدار الدنيا.. دخلت ذلك العالـم في صلاة العشاء، ومن انبساط فوق العادة للخيال وبـحكم ارتباط ماهية الانسان مع الدنيا قاطبة رأيت ان هذه الدنيا العظيمة قد اصبحت في ذلك الليل منزلا صغيراً جداً حتى لا يكاد يرى ما فيه من بشر وذوي حياة. ورأيت خيالاً أن ليس هناك من ينور ذلك الـمنزل الا الشخصية الـمعنوية للرسول e حتى امتلأت ارجاؤه بهجة وانساً وسروراً.

وكما يبدأ الشخص بالسلام عند دخوله الـمنزل، كذلك وجدت في نفسي شوقاً هائلاً ورغبة جياشة الى القول: ألف ألف سلام عليك يارسول الله(1)..

ومن هنا وجدت نفسي كأنني اسلم عليه بعدد الانس والـجن واعبر بسلامي هذا عن تـجديد البيعة له والرضى برسالته وقبولـها منه واطاعة القوانين التي أتى بها، والتسليم لاوامره وسلامته من بلايانا. أي كأنني اقدم هذا السلام – ناطقاً تلك الـمعاني – باسم كل فرد من افراد عالـمي وهم ذوو الشعور من جن وانس، وجـميع الـمخلوقات.

وكذا فان ما جاء به من النور العظيم والـهدية الغالية ينور عالـمي الـخاص هذا كما ينور العالـم الـخاص لكل احد في هذه الدنيا، فيحوّل عالـمنا الى عالـم زاخر بالنعم. فقلت تـجاه هذه النعمة الـهائلة: ((اللهم أنزل ألف صلاة عليه)) علـّها تكون شكراناً وعرفانا للجميل على ذلك النور الـحبيب والـهدية الغالية، اذ اننا لانستطيع أن نرد جـميله واحسانه الينا أبداً، فأظهرنا تضرعنا الى الله جل وعلا بالدعاء والتوسل كي ينزل من خزائن رحـمته رحـمة عليه بعدد اهل السموات جـميعاً.. هكذا احسست خيالاً.

فهو e يطلب صلاة بـمعنى ((الرحـمة)) من حيث هو ((عبد)) ومتوجه من الـخلق الى الـحق سبحانه. ويستحق ((السلام)) من حيث أنه ((رسول)) من الـحق سبحانه الى الـخلق.

وكما اننا نرفع اليه سلاماً بعدد الانس والـجن، ونـجدد له البيعة العامة بعددها ايضاً، فانه علية الصلا ة والسلام يستحق ايضاً صلاة من خزائن الرحـمة الإلـهية بعدد اهل السموات، وبأسم كل واحد منهم؛ ذلك لأن النور الذي جاء به هو الذي يظهر كمال كل شىء في الوجود، ويُبرز قيمة كل موجود، وتُشاهد به الوظيفة الربانية لكل مـخلوق، وتتجلى به الـمقاصد الإلـهية من كل مصنوع. لذلك لو كان لكل شىء لسان لكان يردد قولاً كما يردد حالاً: الصلاة والسلام عليك يارسول الله.. فنحن بدورنا نقول بدلا عن الـمخلوقات كافة:

- ألف ألف صلاة وألفُ ألف سلام عليك يارسول الله بعدد الانس والـجن وبعدد الـملك والنـجوم.

فيكفيك ان الله صلى بنفسه واملاكه صلت عليه وسلمت



سعيد النورسي

* * *





اخي العزيز:

تطلبون شيئاً من الايضاح حول ((وحدة الوجود)) ففي احدى لـمعات ((الـمكتوب الـحادي والثلاثين)) جواب شاف وقوي واضح إزاء رأي مـحي الدين بن عربي في هذه الـمسألة.

اما هنا فنكتفي بهذا القدر ونقول:

ان تلقين مسألة ((وحدة الوجود)) في الوقت الـحاضر للناس يضرهم ضرراً بالغاً، اذ كما ان التشبيهات والتمثيلات(1)، اذا خرجت من ايدي الـخواص ودخلت ايدي العوام وسرت من يد العلم الى يد الـجهل تُتلقى حقائق كذلك وحدة الوجود وامثالـها من الـحقائق العالية، اذا ما دخلت بين العوام الغافلين السارحين في تأثير الاسباب، يتلقونها ((طبيعة)) وتولد ثلاث مضار مهمة.

الضرر الاول:

ان مشرب وحدة الوجود، مع انه في حكم انكار وجود الكائنات ازاء وجود الله سبحانه، الا انه كلما دخل بين العوام يـمضي بهم الى أن يصل في فكر الغافلين منهم ولاسيما الـملوثين بالـماديات الى انكار الالوهية ازاء الكون والـماديات.

الضرر الثاني:

ان مشرب وحدة الوجود، يردّ رداً شديداً ربوبية ما سوى الله تعالى، حتى انه ينكر ما سواه تعالى ويرفع الثنائية، فلا يرى وجوداً مستقلاً للنفس الامارة ولا لأي شىء كان، ولكن في هذا الزمان، الذي استولت فيه مفاهيم الطبيعة وتفرعنت نفوس أمارة وبـخاصة من له استعداد ليتخذ نفسه معبوده من دون الله، ونفخ الغرور والانانية في اوداجه، فضلا عن نسيان الـخالق والآخرة الى حد ما. فتلقين هؤلاء بوحدة الوجود يطغي نفوس حتى لايسعها شىء، والعياذ بالله.

الضرر الثالث:

انه يورث افكارا وتصورات لاتليق بوجوب وجود الذات الـجليلة، الـمنزهة الـمبرأة الـمتعالية الـمقدسة عن التغير والتبدل والتجرؤ والتحيز، ولاتلائم تنزهه وتقدسه سبحانه بـحال، فيكون بذلك سبباً لتلقينات باطلة.

نعم! ان من يتكلم عن وحدة الوجود عليه ان يعرج فكراً من الثرى الى الثريا تاركاً الكائنات وراءه ظهريا، مـحدقاً بنظره الى العرش الاعلى، عاداً الكائنات معدومة في حالة الاستغراق، فيمكنه ان يرى بقوة الإيـمان ان كل شىء من الواحد الاحد سبحانه مباشرة. والا فان من يقف وراء الكائنات وينظر اليها ويرى الاسباب أمامه وينظر من الارض، فانه يـحتمل ان يغرق في تأثير الاسباب ويقع في مستنقع الطبيعة، بينما الذي يعرج فكراً الى العرض كجلال الدين الرومي(1) يستطيع ان يقول: ((افتح سـمعك فانك تستطيع أن تسمع من كل أحد – كأنه حاك فطري – ما تسمعه من الـحق تعالى)). والا فمن لا يستطيع العروج مثله الى هذه الـمرتبة الرفيعة ولا يرى الـموجودات من الفرش الى العرش على صورة مرايا (لـتجلياته) ان قلت له:

((اصغ الى كل أحد تسمع منه كلام الله)) فانه يبتلى بتصورات باطلة مـخالفة للحقيقة كمن يهوي معنىً من العرش الى الفرش.

} قل الله ثُمَ ذَرهُم في خَوضِهم يَلعَبون { (الانعام:91).

ما للتراب ولرب الارباب.

سبحان من تقدس عن الاشباه ذاته وتنزهت عن مشابهة الامثال صفاته وشهد على ربوبيته آياته جل جلاله ولا اله الا هو.

سعيد النورسي



* * *



جواب عن سؤال

لا يسعني الوقت الكافي لعقد موازنة بين افكار كل من مصطفى صبري(1) وموسى باكوف(2) الا انني اكتفي بالقول الآتي:

ان احدهما قد افرط والآخر يفرط. فمع ان مصطفى صبري مـحق في دفاعاته بالنسبة الى موسى باكوف الا انه ليس له حق تزييف شخص مـحي الدين بن عربي الذي هو خارقة من خوارق العلوم الإسلامية.

نعم، ان مـحي الدين بن عربي مهتد ومقبول ولكنه ليس بـمرشد ولاهاد وقدوة في جـميع كتاباته، اذ يـمضي غالباً دون ميزان في الـحقائق، فيخالف القواعد الثابتة لأهل السنة, ويفيد بعض أقواله – ظاهراً – الضلالة غير انه برىء من الضلالة، اذ الكلام قد يبدو كفرا بظاهره، الا أن قائله لا يكون كافراً.

فمصطفى صبري لـم يراع هذه النقاط بنظر الاعتبار ففرط في بعض النقاط لتعصبه لقواعد اهل السنة. أما موسى باكوف فهو يـخطىء كثيراً بافكاره التي تـماشي التمدن والـمنحازة شديداً للتجدد. اذ يـحرف بعض الـحقائق الإسلامية بتأويلات خاطئة ويتخذ شخصاً مردوداً كابي العلاء الـمعري في مستوى اعلى من علماء الإسلام الـمحققين وقد غالى كثيراً لانـحيازه الشديد الى تلك الـمسائل التي خالف فيها مـحي الدين اهل السنة والتي تنسجم مع افكاره.

ولقد قال مـحي الدين: ((تـُحرم مطالعة كتبنا على من ليس منا)) أي على من لايعرف مقامنا. نعم ان قراءة كتب مـحي الدين ولاسيما مسائله التي تبحث في وحدة الوجود مضرة في هذا الزمان.

سعيد النورسي





بِسمِ اللهِ الرَّحـمنِ الرَّحيمِ

عندما كنت انظر من نافذة السجن، الى ضحكات البشرية الـمبكية، في مهرجان الليل البهيج، انظر اليها من خلال عدسة التفكر في الـمستقبل والقلق عليه، انكشف امام نظر خيالي هذا الوضع، الذي ابينه:

مثلما تشاهد في السينما اوضاع الـحياة لـمن هم الأن راقدون في القبر، فكأنني شاهدت امامي الـجنائز الـمتحركة لـمن سيكونون في الـمستقبل القريب من اصحاب القبور.. بكيت على اولئك الضاحكين الآن، فانتابني شعور بالوحشة والالـم. راجعت عقلي، وسألت عن الـحقيقة قائلاً: ما هذا الـخيال؟ قالت الـحقيقة:

ان خـمسة من كل خـمسين من هؤلاء البائسين الضاحكين الآن والذين يـمرحون في نشوة وبهجة سيكونون كهولاً بعد خـمسين عاماً، وقد انـحنت منهم الظهور وناهز العمر السبعين. والخـمسة والاربعين الباقية يُرمـّون في القبور.

فتلك الوجوه الـملاح، وتلك الضحكات البهيجة، تنقلب الى أضدادها. وحسب قاعدة ((كل آت قريب))(1) فان مشاهدة ما سيأتي كأنه آتٍ الآن تنطوي على حقيقة، فما شاهدته اذاً ليس خيالاً.

فما دامت ضحكات الدنيا الـمتسمة بالغفلة مؤقتة ومعرضة الى الزوال، وهي تستر مثل هذه الاحوال الـمؤلـمة الـمبكية، فلابد أن ما يسرّ قلب الانسان البائس العاشق للـخلود، ويفرح روحه الولـهان بعشق البقاء، هو ذلك اللهو البرىء والـمتعة النزيهة وافراح ومسرات تـخلد بثوابه، ضمن نطاق الشرع، مع اداء الشكر باطمئنان القلب وحضوره بعيداً عن الغفلة. ولئلا تقوى الغفلة في النفوس في الاعياد، وتدفع الانسان الى الـخروج عن دائرة الشرع، ورد في الاحاديث الشريفة ترغيب قوي وكثير في الشكر وذكر الله في تلك الايام. وذلك لتنقلب نعم الفرح والسرور الى شكر يديـم تلك النعمة ويزيدها، اذ الشكر يزيد النعم ويزيل الغفلة.

سعيد النورسي



















بِسمِ اللهِ الرَّحـمنِ الرَّحيْمِ

نكتة من نكات الآية الكريـمة:

} انَّ النفسَ لأمـّارة بالسوء { (يوسف:53)

والـحديث الشريف: ((أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك))(1).

نعم! ان الذي يـحب نفسه الامارة بالسوء – غير الـمزكاة – ويعجب بها، هو في الـحقيقة لا يـحب أحداً غيرها، وحتى لو ابدى للغير حباً فلا يـحبه من صميم قلبه، بل ربـما يـحبه لـمنافعه، ولـما يتوقع منه من متاع. فهو في محاولة دائمة لتحبيب نفسه للآخرين وفي سعي متواصل لأثارة اعجابهم به، يصرف كل قصورٍ عن نفسه فلا يحـملـّها أي نقص كان، بل يدافع دفاع الـمحامي الـمخلص لإبراء ساحتها، ويـمدحها بـمبالغات بل بأكاذيب لينزّهها عن كل عيب او قصور، حتى يقربها الى التقديس، بل يبلغ به الامر ان يكون مصداق الآية الكريـمة } من أتـخذ ألـهه هواه { (الفرقان:43) عندها تتوالى عليه صفعات هذه الآية الكريـمة – حسب درجته – فينقلب مدحُه الى إعراض الناس عنه، ويتحول تـحبيب نفسه اليهم الى استثقالـهم له، فيجد عكس ما كان يروم، فضلاً عن أنه يضيـّع الاخلاص، لـما يـخلط من رياء وتصنع في اعماله الأخروية، فيكون مغلوباً على أمره امام شهواته وهواه ومشاعره، تلك التي لاتبصر العقبى ولاتفكر في النتائج والـمغرمة بالتلذذ الآني. بل قد تبرر له اهواؤه الضالة اموراً يرتكبها لاجل متعة لاتدوم ساعة يفضي به ان يلقى في السجن لسنة كاملة. وقد يقاسي عشر سنوات من الـجزاء العادل لاجل تسكين روح الثأر لديه وشهوة الغرور التي لا تستغرق دقيقة واحدة. فيكون مثله كمثل ذلك الطفل الابله الذي لايقدر قيمة جزء الـمصحف الشريف الذي يتلوه ويدرسه فيبيعه بقطعة حلوى رخيصة، اذ يصرف حسناته التي هي اغلى من الالـماس ويبدلـها بـما يشبه في تفاهتها قطع الزجاج، تلك هي حسياته وهواه وغروره، فيخسر خسارة جسيمة فيما كان ينبغي له ان يربح ربـحاً عظيماً.

اللهم احفظنا من شر النفس والشيطان ومن شر الـجن والانس.



سؤال:

كيف يكون البقاء في سجن جهنم بقاءاً خالداً جزاءً عادلاً لكفر في زمن قصير؟

الـجواب: ان القتل الذي يـحصل في دقيقة واحدة يعاقب عليه بسبع ملايين وثـمانـمائة واربع وثـمانين الفاً من الدقائق – على اعتبار السنة ثلاثـمائة وخـمس وستين يوماً. فان كان هذا قانوناً عدلاً، فالذي يقضي عشرين سنة من عمره في احضان الكفر ويـموت عليه يستحق جزاءً بـمقتضى هذا القانون العادل للبشر سبجناً يدوم سبعاً وخـمسين ترليوناً وواحد مائتي مليار مليون من السنين، باعتبار دقيقة من الكفر تعادل ألف قتل ويـمكن ان يُفهم من هذا وجه الانسجام مع عدالة قوله تعالى: } خالدين فيها ابداً { (البينة:8).

ان سر العلاقة بين العددين الـمتباعدين جداً بعضها عن بعض، هو ان الكفر والقتل تـخريب وتعدّ على الآخرين، ولـهما تأثير في الآخرين، فالقتل الذي يـحصل في دقيقة واحدة يسلب خـمس عشرة سنة في الاقل من حياة الـمقتول، حسب ظاهر الـحال، لذا يسجن القاتل بدلاً منه، فدقيقة واحدة في الكفر الذي هو انكار لألف اسم واسم من الاسـماء الـحسنى وتزييف لنقوشها البديعة.. واعتداء على حقوق الكائنات.. وانكار لكمالاتها.. وتكذيب لدلائل الوحدانية التي لا يـحد وردّ لشهاداتها .. تلقي بالكافر في اسفل سافلين لاكثر من الف سنة، فتسجتنه في قوله تعالى } خالدين فيها ابداً { (البينة:8).

سعيد النورسي

* * *





توافق لطيف ذو مغزى:

ان الـمادة (163) من القانون التي يُتهم بـموجبها طلاب النور، ويُطالب بها انزال العقوبة عليهم. هذا الرقم يتوافق مع عدد النواب الذين وافقوا على لائـحة البرلـمان الـخاصة بـمنح مائة وخـمسين الف ليرة لبناء مدرسة مؤلف رسائل النور، وقد كانوا (163) نائباً من بين ((200) نائباً في مـجلس الأمة التركي.

هذا التوافق يقول معنىً: ان تواقيع (163) نائباً من نواب حكومة الـجمهورية على وجه التقدير والاعجاب بـخدمته يُبطل حكم الـمادة (163) بـحقه.

وكذا من بين التوافقات اللطيفة ذات الـمغزى:

لقد كان القبض على مؤلف رسائل النور وطلابه واعتقالـهم في 27/نيسان/1935 بينما كان قرار الـمحكمة بـحقهم في 19/آب/1935 أي بعد (115) يوماً. هذا الرقم يتوافق مع عدد كتب رسائل النور وهو (115) كتاباً يضم (128) رسالة.

كما انه يوافق عدد الـمتهمين الـمائة وخـمسة عشر من طلاب النور الذين استجوبوا واتهموا.

فهذا التوافق يدل على ان الـمصيبة التي ابتلى بـها مؤلف رسائل النور وطلابها انـما تُنظـّم بيدٍ من العناية (الإلـهية)(1).

* * *



النكتة الثامنة والعشرون

من اللمعة الثامنة والعشرون

بِسْمِ اللهِ الرَّحـمْنِ الرَّحيْمِ

} لا يَسـَّمَعُونَ إِلَى الـمَلإِ الأَعلَى وَيُقذَفُونَ مِن كـُّلِ جَانِبٍ ` دُحُوراً وَلَـهُم عَذَابٌ وَاصِبٌ ` إِلاَّ مَن خَطِفَ الـخَطفَةَ فَأَتبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ{ (الصافات:8-10)

} وَلَقَد زَيـَّنـَّا السـّمَآءَ الدُّنيَا بِمصَابِيحَ وَجَعَلناهَا رُجُوماً لِلشـَّيَاطِينِ{ (الـملك:5)

سنبين نكتة مهمة من نكات هذه الآيات الكريـمة وامثالـها من الآيات لـمناسبة اعتراض يرد من اهل الضلالة على وجه النقد.

تفيد هذه الآيات الكريـمة ان جواسيس الـجن والشياطين يسترقون السمع الى اخبار السـموات ويـجلبون منها الاخبار الغيبية الى الكهان والـماديين، والذين يعلمون في تـحضير الارواح. فـحيل بين هذه الاخبار وبين التجسس الدائمي لأولئك الـجواسيس ورجـموا بالشهاب أزيد ماكان في تلك الفترة من بداية الوحي، وذلك لئلا يلتبس شىء على الوحي.

نبين جواباً في غاية الاختصار عن سؤال في غاية الاهمية وهو ذو ثلاث شعب.

سؤال:

يفهم من امثال هذه الآيات الكريـمة الـمتصدرة انه لاجل استراق السمع وتلقي الـخبر الغيبي حتى في الـحوادث الـجزئية بل احياناً حوادث شخصية تقتحم جواسيس الشياطين مـملكة السموات التي هي في غاية البعد، لكأن تلك الـحادثة الـجزئية هي موضع بـحث في كل جزء من اجزاء تلك الـمملكة الواسعة، ويـمكن لاي شيطان كان، ومن أي مكان دخل الى السموات، التنصت ولو بصورة مرقعة الى ذلك الـخبر وجلبه هكذا الى الارض. هذا الـمعنى الذي يُفهم من الآيات الكريـمة لا يقبل به العقل والـحكمة. ثم ان قسماً من الانبياء وهم اهل الرسالة، والاولياء وهم اهل الكرامة يتسلمون ثـمار الـجنة التي هي فوق السموات العلى – بنص الآية – وكأنهم يأخذونها من مكان قريب، واحياناً يشاهدون الـجنة من قريب. هذه الـمسألة تعني: نهاية البعد في نهاية القرب بـحيث لايسعها عقل هذا العصر.

ثم أن حالة من احوال جزئية لشخص جزئي يكون موضع ذكر وكلام لدى الـملأ الاعلى في السموات العلى الواسعة جداً، هذه الـمسألة لاتوافق ادارة الكون التي تسير في منتهى الـحكمة.

علماً أن هذه الـمسائل الثلاث تعد من الـحقائق الإسلامية.

الـجواب:

اولاً: أن الآية الكريـمة: } وَلَقَد زَيـَّنـَّا السـّمَآءَ الدُّنيَا بِمصَابِيحَ وَجَعَلناهَا رُجُوماً لِلشـَّيَاطِينِ{ هذه الآية تفيد أن جواسيس الشياطين التي تـحاول الصعود الى السموات للتجسس تطرد بنجوم السموات.

فقد بـحثت هذه الـمسألة بـحثاً جيداً في الكلمة الـخامسة عشرة، واُثبتت اثباتاً يقنع حتى أعتى الـماديين، بل يلجؤهم الى السكوت والقبول، وذلك بسبع مقدمات قاطعة هي بـمثابة سبع مراتب للصعود الى فهم الآية الكريـمة:

ثانياً: نشير الى هذه الـحقائق الإسلامية الثلاث التي تُظن انها بعيدة (عن العقل) بتمثيل وذلك لنقربها الى الاذهان القاصرة الضيقة.

هب ان الدائرة العسكرية لـحكومة تقع في شرقي البلاد، ودائرتها العدلية في الغرب ودائرة الـمعارف في الشـمال ودائرة الشؤون الدينية (الـمشيخة) في الـجنوب، ودائرة الـموظفين الاداريين في الوسط وهكذا.

فعلى الرغم من البعد بين دوائر هذه الـحكومة، فان كل دائرة لو استخبرت الاوضاع فيما بينها بالتلفون او التلغراف ارتباطاً تاماً: عندها تكون البلاد كلها كأنها دائرة واحدة عي دائرة العدل، او الدائرة العسكرية او الدينية، او الادارية وهكذا.

مثال آخر: يـحدث احياناً أن دولاً متعددة ذات عواصم مـختلفة. تشترك معاً في مـملكة واحدة، بسلطات متباينة، من حيث مصالـحها الاستعمارية فيها، او لوجود امتيازات خاصة بها، او من حيث الـمعاملات التجارية وغيرها. فكل حكومة عندئذ ترتبط بعلاقة مع تلك الرعية من حيث امتيازاتها، فعلى الرغم من انها رعية واحدة وأمة واحدة، فان معاملات تلك الـحكومات الـمتباينة – التي هي في غاية البعد – تتماس وتتقارب كلٌ منها مع الاخرى في البيت الواحد بل تشترك في كل انسان. حتى تُشاهد مسائلها الـجزئية في الدوائر الـجزئية وهي نقاط التماس والتقارب، ولاتؤخذ كل مسألة جزئية من الدائرة الكلية. ولكن عندما تبحث تلك الـمسائل الـجزئية، تبحث كأنها اُخذت من الدائرة الكلية وذلك لارتباطها بالقوانين الكلية لتلك الدائرة. وتعطى لـها صورة كأنها مسألة اصبحت موضع بـحث في تلك الدائرة الكلية.

وهكذا ففي ضوء هذين الـمثالين:

ان مـملكة السموات التي هي في غاية البعد، من حيث العاصمة والـمركز، فان لـها هواتف معنوية تـمتد منها الى قلوب الناس في مـملكة الارض. فضلاً عن أن عالـم السموات لا يشرف على العالـم الـجسماني وحده بل يتضمن عالـم الارواح وعالـم الـملكوت؛ لذا فعالـم السموات يـحيط بـجهة بعالـم الشهادة تـحت ستار.

وكذلك الـجنة التي هي من العوالـم الباقية، وهي دار البقاء، فمع انها في غاية البعد، الاّ ان دائرة تصرفاتها تـمتد امتداداً نورانياً وتنتشر الى كل جهة تـحت ستار عالـم الشهادة.

فكما ان حواس الانسان التي اودعها الصانع الـحكيم الـجليل بـحكمته وبقدرته في رأس الانسان، فعلى الرغم من ان مراكزها مـختلفة، فان كلامنها تسيطر على الـجسم كله، وتأخذه ضمن دائرة تصرفها.

كذلك الكون الذي هو انسان اكبر يضم الوف العوالـم الشبيهة بالدوائر الـمتداخلة. فالاحوال الـجارية في تلك العوالـم والـحوادث التي تقع فيها تكون موضع النظر من حيث جزئياتها وكلياتها، وخصوصياتها وعظمتها.

بـمعنى ان الـجزئيات تُشاهد في الاماكن الـجزئية والقريبة، بينما الكليات والامور العظيمة تُرى في الـمقامات الكلية والعظيمة.

ولكن قد تستولي حادثة جزئية خصوصية على عالـم عظيم فاينما يُلقى السمع تٌسمع تلك الـحادثة.

واحياناً تـحشد الـجنود الـهائلة اظهاراً للعظمة والهيئة وليس لقوة العدو. فمثلاً:

ان حادثة الرسالة الـمحمدية، ونزول الوحي القرآني، لكونها حادثة جليلة، فان عالـم السموات كله، بل حتى كل زاوية من زواياه متأهب، وقد صفت فيه الـحراس، في تلك البروج العظيمة، من تلك السموات العالية الرفيعة والبعيدة بعداً عظيماً. ويقذفون من النجوم الـمجانيق، طرداً لـجواسيس الشياطين ودفعاً بهم عن السموات.

فالآية الكريـمة عندما تبرز الـمسألة هكذا برجم الشياطين بكثرة هائلة والقذف بالشهب ولاسيما في بداية الوحي في ذلك الوقت. تبين اشارة ربانية الى الاعلان عن درجة عظمة الوحي القرآني وشعشعة سلطانه، والى درجة أحقيته وصوابه والذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وهكذا يترجـم القرآن الكريم ذلك الاعلان الكوني العظيم ويشير الى تلك الاشارات السماوية.

نعم! ان اظهار هذه الاشارات العظيمة السماوية، وابراز مبارزة الشياطين للملائكة، مع إمكان طرد جواسيس الشياطين بنفخ من مَلَك، انـما هو لاظهار عظمة الوحي القرآني وعلوه ورفعه.

ثم ان هذا البيان القرآني الـمهيب، واظهار الـحشود السماوية العظيمة، ليس تعبيراً عن أن للجن والشياطين قوة واقتداراً بـحيث تسوق اهل السموات الى الـمبارزة والـمدافعة معهم، بل هي اشارة الى أنه لادخل للشياطين والـجن في أي موضع من مواضع هذا الطريق الطويل الـممتد من قلب الرسول الاعظم e الى عالـم السموات الى العرش الاعظم.

وبهذا يعبـّر القرآن الكريم عن ان الوحي القرآني حقيقة جليلة حقيق ان يكون موضع ذكر وبـحث لدى الـملأ الاعلى والـملائكة كلهم في تلك السموات الـهائلة، بـحيث يضطر الشياطين الى الصعود الى السموات لينالوا شيئاً من اخبارها فيرجـمون ولاينالون شيئاً.

فيشير القرآن الكريم بهذا الرجـم الى ان الوحي القرآني النازل على قلب مـحمد صلى الله عليه وسلم، وجبرائيل عليه السلام الذي نزل الى مـجلسه والـحقائق الغيبية الـمشهودة لنظره، سليمة، صائبة، صحيحة، لاتدخل فيها شبهة قط وفي أية جهة منها قط.

وهكذا يعبـّر القرآن الكريم عن هذه الـمسألة باعجازه البليغ.

أما مشاهدة الـجنة في أقرب الاماكن وقطف الثـمار منها احياناً، مع كونها بعيدة كل البعد عنا وكونها من عالـم البقاء، فبدلالة التمثيلين السابقين يُفهم:

ان هذا العالـم الفاني، عالـم الشهادة، حـجاب لعالـم الغيب وعالـم البقاء. انه يـمكن رؤية الـجنة في كل جهة مع أن مركزها العظيم في مكان بعيد جداً، وذلك بوساطة مرآة عالـم الـمثال. ويـمكن بوساطة الإيـمان البالغ درجة حق اليقين ان تكون للجنة دوائر ومستعمرات (لامشاحة في الامثال) في هذا العالـم الفاني ويـمكن أن تكون هناك مـخابرات واتصالات معها بالارواح الرفيعة وبهاتف القلب ويـمكن أن ترد منها الثـمار.

أما انشغال دائرة كلية بـحادثة شخصية جزئية، أي: ما ورد في التفاسير من ان الشياطين يصعدون الى السموات ويسترقون السمع هناك ويأتون باخبار غيبية ملفقة للكهان، فينبغي أن تكون حقيقته هكذا:

انه لا صعود الى عاصمة عالـم السموات لتلقي ذلك الـخبر الـجزئي، بل هو صعود الى بعض الـمواقع الـجزئية في جو الـهواء – الذي يشمله معنى السموات – والذي فيه مواضع بـمثابة مـخافر (لامشاحة في الامثال) للسموات، وتقع علاقات في هذه الـمواقع الـجزئية مع مـملكة الارض. فالشياطين يسترقون السمع في تلك الـمواقع الـجزئية لتلقي الاحداث الـجزئية، حتى ان قلب الانسان هو احد تلك الـمقامات حيث يبارز فيه ملك الالـهام الشيطان الـخاص.

أما حقائق القرآن والإيـمان وحوادث الرسول e ، فمهما كانت جزئية فهي بـمثابة اعظم حادثة واجلـّها في دائرة السموات وفي العرش الاعظم. حتى كأنها تنشر في الصحف الـمعنوية للـمقدرات الإلـهية الكونية (لا مشاحة في الامثال) بـحيث يذكر عنها ويبحث مسائلها في كل زاوية من زوايا السموات، حيث أنه ابتداءً من قلب الرسول الكريم علية الصلاة والسلام وانتهاءً الى دائرة العرش الاعظم مصون من أي تدخل كل من الشياطين.

فان القرآن مع بيانه لـهذا انـما يعبـّر بتلك الآيات الـجليلة أنه: لاحيلة ولا وسيلة للشيطان لتلقي اخبار السموات الاّ استراق السمع.

فيبين القرآن بهذا بياناً معجزاً بليغاً: ما اعظم الوحي القرآني وما اعظم قدره! وما اصدق نبوة مـحمد e وما اصوبها! حتى لا يـمكن الدنو اليهما بأية شبهة كانت وباي شكل من الاشكال.

سعيد النورسي
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-02-2011
  #27
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: اللمعات

فقرة

كتبت في سجن ((اسكي شهر))

اخوتي!

لقد دافعتُ دفاعات عديدة عن طلاب النور بـما يليق بهم من دفاع، وسأقولـها باذن الله في الـمحكمة وبأعلى صوتي، وسأسمع صوت رسائل النور ومنزلة طلابها الى الدنيا بأسرها. الاّ أنني انبهكم الى ما يأتي:

ان شرط الـحفاظ على ما في دفاعي من قيمة، هو عدم هجر رسائل النور بـمضايقات هذه الـحادثة وامثالـها، وعدم استياء الأخ من استاذه، وعدم النفور من اخوانه مـما يسببه الضيق والضجر، وعدم تتبع عورات الآخرين وتقصيراتهم.

انكم تذكرون ما اثبتناه في رسالة القدر: ان في الظلم النازل بالانسان جهتين وحكمين.

الـجهة الأولى: للانسان. والاخرى: للقدر الإلـهي

ففي التحادثة الواحدة يظلم الانسان فيما يعدل القدر وهو العادل.

فعلينا ان نفكر – في قضيتنا هذه – في عدالة القدر الإلـهي والـحكمة الإلـهية اكثر مـما نفكر في ظلم الانسان.

نعم! ان القدر قد دعا طلاب النور الى هذا الـمجلس. وان حكمة ظهور الـجهاد الـمعنوي قد ساقتهم الى هذه الـمدرسة اليوسفية التي هي حقاً ضجرة وخانقة، فصار ظلم الانسان وسيلة لذلك.

ولـهذا، اياكم ان يقول بعضكم لبعض: ((لو لـم افعل كذا لـما اعتقلت)).

سعيد النورسي

* * *







((شرف الرسائل الرفيع))

اخواني!

لقد اُخطر الى قلبي: كما ان الـمثنوي الرومي قد اصبح مرآة لـحقيقة واحدة من الـحقائق السبع الـمفاضة من نور شـمس القرآن الكريم، فاكتسب منزلة سامية وشرفاً رفيعاً حتى اصبح مرشداً خالداً لكثير من اهل القلب فضلاً عن الـمولويين. كذلك رسائل النور ستنال باذن الله شرفاً رفيعاً سامياً بسبع جهات، وستكون لدى اهل الـحقيقة بـمثل مرشدة خالدة رائدة باقية بسبع اضعاف الـمثنوي الرومي. لأنها تـمثل الانوار السبعة لنور شـمس القرآن الكريم والالوان السبعة الـمتنوعة في ضيائها، تـمثلها دفعة واحدة في مرآتها.

سعيد النورسي

* * *

((لطمة رحـمة))

اخوتي!

لقد ادركت ان التي نزلت بنا – مع الاسف – هي لطمة رحـمة. ادركتها منذ حوالي ثلاثة ايام وبقناعة تامة. حتى انني فهمت اشارة من الاشارات الكثيرة للآية الكريـمة الواردة بـحق العاصين لله، فهمتها كأنها متوجهة الينا وتلك الآية الكريـمة هي: } فَلَمـّاَ نَسُواْ مَا ذُكـِّرُواْ بِهِ ... أَخَذنَاهُم { (1) أي: لـما نسي الذين ذُكـّروا بالنصائح، ولـم يعملوا بـمقتضاها.. اخذناهم بالـمصيبة والبلاء.

نعم، لقد كُتـّبنا مؤخراً رسالة تـخص سر الاخلاص، وكانت حقاً رسالة رفيعة سامية، ودستوراً اخوياً نورانياً، بـحيث ان الـحوادث والـمصائب التي لايـمكن الصمود تـجاهها الاّ بعشرة الآف شـخص، يـمكن مقاومتها – بسر ذلك الاخلاص – بعشرة اشخاص فقط. ولكن أقولـها آسفاً: اننا لـم نستطع وفي الـمقدمة أنا، ان نعمل بـموجب ذلك التنبيه الـمعنوى، فأخذتنا هذه الآية الكريـمة – بـمعناها الاشارى – فابتلي قسم منا بلطمة تأديب ورحـمة، بينما لـم تكن لطمة تأديب لقسم آخر بل مدار سلوان لـهم، وليكسْبوا بها لأنفسهم الثواب.

نعم، انني لكونى مـمنوعاً عن الاختلاط منذ ثلاثة شهور لـم استطع ان اطلع على احوال اخوانى الاّ منذ ثلاثة أيام، فلقد صدر – مالا يـخطر ببالي قط – مـمن كنت احسبهم من اخلص اخواني اعمالاً منافية لسر الاخلاص. ففهمت من ذلك ان معنىً اشارياً للآية الكريـمة } فَلَمـّاَ نَسُواْ مَا ذُكـِّرُواْ بِهِ … أَخَذنَاهُم{ يتوجه الينا من بعيد.

ان هذه الآية الكريـمة التي نزلت بـحق اهل الضلال مبعث عذاب لـهم، هي لطمة رحـمة وتأديب لنا؛ لتربية النفوس وتكفير الذنوب وتزييد الدرجات. والدليل على أننا لـم نقدر قيمة ما نـملك من نعمة إلـهية حق قدرها هو: اننا لـم نقنع بـخدمتنا القدسية برسائل النور الـمتضمنة لأقدس جهاد معنوي، ونالت الولاية الكبرى بفيض الوراثة النبوية وهي مدار سر الـمشرب الذي تـحلى به الصحابة الكرام. وان الشغف بالطرق الصوفية التي نفعها قليل لنا في الوقت الـحاضر، واحتمال إلـحاقها الضرر بوضعنا الـحالي مـمكن، قد سُدّ امامه بتنبيهي الشديد عليه.. والاّ لأفسد ذلك الـهوى وحدتنا، وادّى الى تشتت الافكار الذي ينزل قيمة الترابط والتساند من ألف ومائة وأحد عشر الناشئة من اتـحاد أربعة آحاد، ينزلـها الى قيمة أربعة فـحسب، وادّى الى تنافر القلوب الذي يبدّد قوتنا إزاء هذه الـحادثة الثقيلة ويتجعلها أثراً بعد عين.

اورد الشيخ سعدي الشيرازي(1) صاحب كتاب ((كلستان)) ما مضمونه:

لقد رأيت احد الـمتقين من أهل القلب في زاوية ((التكية)) يزاول السير والسلوك، ولكن بعد مضي بضعة ايام شاهدته في الـمدرسة بين طلاب العلوم الشرعية، فسألته: لِمَ تركت الزاوية التي تفيض الانوار واتيت الى هذه الـمدرسة؟ قال: هؤلاء النجباء ذوو الـهمم العالية يسعون لإنقاذ الآخرين مع انقاذهم لأنفسهم بينما اولئك يسعون لإنقاذ أنفسهم وحدها إن وفقوا اليها. فالنجابة وعلو الـهمة لدى هؤلاء والفضيلة والـهمة عندهم، ولأجل هذا جئت الى هنا. هكذا سجل الشيخ سعدي خلاصة هذه الـحادثة في كتابه ((كلستان)).

فلئن رُجـّحت الـمسائل البسيطة للنحو والصرف التي يقرأها الطلاب مثل: نصر نصراً ونصروا.. على الاوراد التي تُذكر في الزوايا، فكيف برسائل النور الـحاوية على الـحقائق الإيـمانية الـمقدسة في ((آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر)). ففي الوقت الذي ترشد رسائل النور الى تلك الـحقائق باوضح صورة واكثرها قطعية وثبوتاً حتى لأعتى الـمعاندين الـمكابرين من الزنادقة وأشد الفلاسفة تـمرداً، وتلزمهم الـحجة، كم يكون على خطأ من يترك هذه السبيل او يعطلها او لا يقنع بها ويدخل الزوايا الـمغلقة دون استئذان من رسائل تبعا لـهواه! ويبين في الوقت نفسه مدى كوننا مستحقين لـهذه الصفعة، صفعة الرحـمة والتأديب.

سعيد النورسي

* * *

تنبيه

حكايتان صغيرتان

الـحكاية الأولى: عندما كنت اسيراً في شـمالي روسيا قبل خـمسة عاماً(1) في قاعة مصنع كبير، مع تسعين من ضباطنا، كانت الـمناقشات تـحتد والاصوات تتعالى نتيجة الضجر وضيق الـمكان. وكنت اهدئـّهم حيث كانوا جـميعاً يـحترمونني. ثم عينت خـمساً من الضباط لإقرار الـهدوء وقلت لـهم: اذا سـمعتم الضوضاء في أية ناحية اسرعوا اليها، وعاونوا الـجهة غير الـمحقة. وحقاً لقد انتهى الضوضاء نتيجة هذا العمل. فسألوني: لِمَ قلت: عاونوا غير الـمحق؟وقد أجبتهم حينها: ان غير الـمحق، هو غير منصف، لا يدع درهماً من راحته لأربعين درهماً من راحة الـجميع. اما الـمحق فيكون ذا انصاف يضحي براحته التي تعدل درهما، لراحة صديقه التي تعدل اربعين درهماً. وبتخليه عن راحته هذا، يسكن الضوضاء والصخب وينتهي ويعم الـهدوء. فيرتاح الضباط التسعون الساكنون في هذه القاعة. ولكن اذا مدّ الـمحقّ بقوة يزداد الصخب اكثر. ففي مثل هذه الـحياة الاجتماعية تؤخذ الـمصلحة العامة بنظر الاعتبار.

فيا اخوتي!! لا يستاء بعضكم من بعض قائلاً: ان اخي هذا لـم ينصفني او اجحف بـحقي.. فهذا خطأ جسيم في هذه الـحياة وفي اجتماعنا هذا. فلئن اضرك صاحبك بدرهم من الضرر، فانك بإستيائك منه وهجرك اياه تلـحق اربعين درهماً من الاضرار. بل يـحتمل إلـحاق اربعين ليرة من الاضرار برسائل النور. ولكن ولله الـحمد فان دفاعاتنا الـحقة القوية والصائبة جداً قد حالت دون أخذ اصدقائنا الى الاستجواب واخذ افاداتهم الـمكرر، فانقطع دابر الفاسد. والاّ لكان الاستياء الذي وقع بين الاخوة يلـحق بنا اضراراً جسيمة. كسقوط قشة في العين او سقوط شرارة في البارود.

الـحكاية الثانية: كانت لعجوز ثـمانية ابناء. اعطت لكل منهم رغيفاً دون ان تستبقي لـها شيئاً. ثم ارجع كل منهم نصف رغيفه اليها. فاصبحت لديها اربعة ارغفة، بينما لدى كل منهم نصف رغيف.

اخوتي انني اشعر في نفسي نصف ما يتألـم به كل منكم من آلام معنوية وانتم تبلغون الاربعين، انني لا ابالي بالآمي الشخصية. ولكن اضطررت يوماً فقلت: ((أهذا عقاب لـخطأي واُعاقب به)) فتحريت عن الـحالات السابقة. فشاهدت انه ليس لدي شىء من تهييج هذه الـمصيبة واثارتها، بل كنت اتـخذ منتهى الـحذر لأتـجنبها.

بـمعنى ان هذه الـمصيبة قضاء إلـهي نازل بنا.. فلقد دبـّرت ضدنا منذ سنة من قبل الـمفسدين فما كان بطوقنا تـجنبها، فلقد حمـّلونا تبعاتها فلا مناص لنا مهما كنا نفعل.

فللـّه الـحمد والـمنة أن هوّن من شدة الـمصيبة من الـمائة الى الواحد.

بناء على هذه الـحقيقة: فلا تـمنـّوا عليّ بقولكم: اننا نعاقب بهذه الـمصيبة من جرائك. بل سامـحوني وادعوا لي.

ولا ينتقدن بعضكم بعضاً. ولا تقولوا: لو لـم تفعل كذا لـما حدث كذا.. فـمثلاً ان اعتراف احد اخواننا عن عدد من اصحاب التواقيع (على الرسائل) انقذ الكثيرين. فهوّن من شأن الـخطة الـمرسومة في اذهان الـمفسدين الذين يستعظمون القضية. فليس في هذا ضرر، بل فيه نفع عام عظيم. لانها اصبحت وسيلة لانقاذ الكثيرين من الابرياء.

سعيد النورسي





((نكتتان))

الفقرات التالية عبارة عن نكتتين:

الأولى: تـخص الاخلاق، كتبت لـمناسبة ظهور حالات غير مريـحة في سجن اسكي شهر من جراء انقباض النفوس.

الثانية: نكتة لطيفة لآية كريـمة لطيفة مشهورة الاّ انها ظلت مستورة.

النكتة الأولى:

ان من كمال الله سبحانه وسعة رحـمته وطلاقة عدالته ان ادرج ثواباً ضمن اعمال البر، واخفى عقاباً معجلاً في اعمال الفساد والسيئات. فقد ادرج طي الـحسنات لذائذ وجدانية معنوية ما يذكـّر بنعم الآخرة، وادرج في ثنايا السيئات اعذبة معنوية ما يـحسس بعذاب الآخرة الاليم.

فمثلاً: ان افشاء الـمحبة والسلام في صفوف الـمؤمنين، انـما هو حسنة كريـمة للمؤمن، فله ضمن هذه الـحسنة لذة معنوية وذوقاً وجدانياً وانشراحاً قلبياً ما يذكـّر بثواب الآخرة الـمادي. ومن يتفقد قلبه يشعر بـهذا الذوق.

ومثلاً: ان بث الـحصومة والعداء بين الـمؤمنين انـما هو سيئة قبيحة، فـهذه السيئة تنطوي على عذاب وجداني واي عذاب، بـحيث يأخذ بـخناق القلب والروح معاً، فكل من يـملك روحاً حساسة وهـمة عالية يشعر بـهذا العذاب.

ولقد مررت بنفسي – طوال حياتي – بأكثر من مائة تـجربة على هذا النوع من السيئات. فكنت كلما حـملت عداء على اخ مؤمن تـجرعت عذاب تلك العداوة، حتى لـم يبق لي ريب من ان هذا العذاب انـما هو عقاب معجل لسيئتي التي ارتكبتها. فاعاقب عليها واعذب بها.

ومثلاً: ان توقير الـجديرين بالاحترام والتوقير وابداء العطف والرحـم لـمن يستحقه عمل صالـح وحسنة للمؤمن. ففي هذه الـحسنة تكمن لذة عظيمة ومتعة وجدانية الى حدٍ قد تسوق صاحبها الى التضحية حتى بـحياته. فان شئت فانظر الى اللذة التي تكسبها الوالدت من بذل شفقتهن لاولادهن، حتى أنها تـمضي في سبيل تلك الرأفة والشفقة الى الـجود بنفسها. بل ترى هذه الـحقيقة واضحة حتى في عالـم الـحيوان، فالدجاجة تهاجم الاسد دفاعاً عن فراخها.

اذن ففي الاحترام والرأفة اجره معجلة. يشعر بهذه اللذة اولئك الذين يـملكون ارواحاً عالية ونفوساً ابية شهمة.

ومثلاً: ان في الـحرص والاسراف عقوبة معنوية معجلة وجزاء قلبياً، اذ يـجعل صاحبه ثملاً من كثرة الشكوى والقلق، فترى العقوبة نفسها بل اشد منها في الـحسد والتنافس والغيرة، حتى ان الـحسد يـحرق صاحبه قبل غيره. وتنقلب الآية في التوكل والقناعة اذ فيهما ثواب واي ثواب بـحيث انه يزيل آثار الـمصائب واوضار الفاقة والـحاجة.

ومثلاً: ان الغرور والتكبر حـمل ثقيل مقيت على كاهل الانسان، حيث انه يتعذب من رؤيته استثقال الآخرين له في الوقت الذي ينتظر منهم احترامه.

نعم! ان الاحترام والطاعة توهب ولا تطلب.

ومثلاً: ان في التواضع وترك الغرور والكبر لذة عاجلة ومكافأة آنية يـخلص الـمتواضع من عبء ثقيل وهو التصنع والرياء.

ومثلاً: ان في سوء الظن وسوء التأويل جزاء معجلاً في هذه الدنيا. حتى غدت ((مَن دقّ دُقّ)) قاعدة مطردة. فالذي يسىء الظن بالناس يتعرض حتماً لسوء ظنهم. والذي يؤول تصرفات اخوانه الـمؤمنين تأويلاً سيئاً، لا مـحالة سيتعرض للـجزاء نفسه في وقت قريب.

وهكذا فقس على هذا الـمنوال جـميع الـخصال الـحسنة والذميمة.

نسأل الله الرحـيم ان يرزق الذين يتذوقون طعوم الاعجاز القرآني الـمعنوي الـمنبعث من رسائل النور في زماننا هذا ذوق تلك اللذائذ الـمعنوية الـمذكورة، فلا تقرب اليهم بأذن الله الاخلاق الذميمة.



النكتة الثانية:

بِسْمِ اللهِ الرَّحمْن الرَّحيْم

} وَمَا خَلَقْتُ الـجنَّ والإنْسَ اِلاّ لِيَعْبُدون ` ما اُريد منهم

مِن رزقٍ وما اُريد أن يُطْعِمون ` إنّ الله هُو الرزّاقُ

ذُو القُوّةِ الـمتينِ{ (الذاريات:56-58)



ان ظاهر معنى هذه الآية الكريـمة لا يبين الاسلوب الرفيع الـمنسجم مع بلاغة القرآن الـمعجزة، مثلما جاء في اغلب التفاسير. لذا كان يشغل فكري في كثير من الاحيان. فنبين ثلاثة اوجه اجـمالاً، من بين الـمعاني الـجميلة الرفيعة التي وردت من فيض القرآن الكريم.

الوجه الاول:

ان الله سبحانه يسند احياناً الى نفسه ما يـمكن ان يعود الى رسوله الكريـم عليه الصلاة والسلام من حالات، وذلك تكريـماً له وتشريفاً.

فها هنا كذلك، اذ الـمعنى الـمراد من الآية الكريـمة الـمتصدرة، لابد ان يكون الاطعام والارزاق الذي يعود الى الرسول e ، أي:

ان رسولي في ادائه مهمة الرسالة وتبليغه العبودية لله، لايريد منكم اجراً ولا اجرة ولاجزاءً ولا إطعاماً.. وإلاّ إن لـم يكن الـمراد هذا الـمعنى لكان اعلاماً لـمعلوم في منتهى البداهة، مـما لا ينسجم وبلاغة القرآن الـمعجزة.

الوجه الثاني:

الانسان مغرم بالرزق كثيراً، ويتوهم ان السعي الى الرزق يـمنعه عن العبودية، فلاجل دفع هذا التوهم، ولكي لا يُتخَذ ذريعة لترك العبادة تقول الآية الكريـمة } وَمَا خَلَقْتُ الـجنَّ والإنْسَ اِلاّ لِيَعْبُدون { وتـحصر الغاية من الـخلق في العبودية لله، وان السعي الى الرزق – من حيث الامر الإلـهي – عبودية لله ايضاً.

أما احضار الرزق لـمخلوقاتي ولأنفسكم واهليكم وحتى رزق حيواناتكم فأنا الكفيل به. فأنتم لـم تـخلقوا له، فكل ما يـخص الرزق والاطعام يـخصني أنا وأنا الرزاق ذو القوة الـمتين.. فلا تـحتجوا بـهذا فتتركوا العبادة، فانا الذي ارسل رزق مَن يتعلق بكم من عبادي.

ولو لـم يكن هذا الـمعنى هو الـمراد، لكان من قبيل اعلام الـمعلوم. لأن رزق الله سبحانه وتعالى واطعامه مـحال بديهي ومعلوم واضح. وهناك قاعدة مقررة في علم البلاغة تفيد.

ان كان معنى الكلام معلوماً وبديهياً، فلا يكون هذا الـمعنى مراداً، بل الـمراد لازمهُ او تابع من توابعه.

فمثلاً: ان قلتَ لاحدهم وهو حافظ للقرآن الكريم: انت حافظ. فهذا الكلام اعلامٌ بـما هو معلوم لديه، فاذاً الـمراد منه هو: انني اعلم انك حافظ للقرآن، أي: اُعلِمهُ بـما لايعلمه، وهو علمي أنه حافظ للقرآن.

فبناء على هذه القاعدة يكون معنى الآية التي هي كناية عن نفي رزق الله واطعامه هو:

انكم لـم تـخلقوا لإيصال الرزق الى مـخلوقاتي التي تعهـّدت انا برزقهم. فالرزق أنا به زعيم. فواجبكم الاساس هو العبودية، والسعي على وفق اوامري للحصول على الرزق، بذاته نوع من العبادة.

الوجه الثالث:

ان الـمعنى الظاهري للآية الكريـمة } لَم يَلِد وَلَم يُولَد { في سورة الاخلاص، معلوم وبديهي. فيكون الـمقصود لازماً من لوازم ذلك الـمعنى. أي: ان الذين لـهم والدة وولد لا يكونون الـهاً قطعاً.

فيقضي سبحانه وتعالى بقوله } لَم يَلِد وَلَم يُولَد { الذي هو بديهي ومعلوم ويعني انه ازلي وابدي، لاجل نفي الالوهية عن سيدنا عيسى عليه السلام وعزير عليه السلام والـملائكة والنجوم والـمعبودات الباطلة.

فكما أن هذه الآية هكذا فهنا ايضاً يكون معنى الآية الكريـمة } ما اُريد منهم

مِن رزقٍ وما اُريد أن يُطْعِمون { ان كل ما يُرزق ويُطعم وله استعداد للرزق والاطعام لا يـمكن ان يكون الـهاً. فلا تليق الالوهية بـما هو مـحتاج الى الرزق والاطعام.



سعيد النورسي













بِسْمِ اللهِ الرَّحـمن الرَّحيمِ

} أَو هُم قَآئِلُون{ (الاعراف:4)

لقد اهتم ((رأفت)) بـمعنى كلمة ((قائلون)) الواردة في الآية الكريـمة:

} أَو هُم قَآئِلُون{

فكُتب هذا البحث لــمناسبة استفساره عنها، ولئلا يعطل قلمه الالـماسي، بـما يصيبه من انـحلال في الـجسم بسبب نومه بعد صلاة الفجر كالآخرين معه في السجن.

النوم على انواع ثلاثة:

الاول: الغيلولة:

وهي النوم بعد الفجر حتى انتهاء وقت الكراهة. هذا النوم مـخالف للسنة الـمطهرة؛ اذ يورث نقصان الرزق، وزوال بركته، كما هو وارد في الـحديث الشريف. حيث ان افضل وقت لتهيئة مقدمات السعي لكسب الرزق هو في الـجو اللطيف، عقب الفجر، ولكن بعد مضيه يطرأ على الانسان خـمول وانـحلال، مـما يضرّ بسعيه في ذلك اليوم، وبدوره يضر بالرزق، كما يسبب زوال بركته، وقد ثبت هذا بتجارب كثيرة.

الثاني: الفيلولة:

وهي النوم بعد صلاة العصر حتى الـمغرب، هذا النوم يسبب نقصان العمر، أي: يتناقص عمر الانسان مادياً في اليوم الذي يشوّب بالنوم الـمورث للغفلة؛ اذ يبدو ذلك اليوم قصيراً ناقصاً مثلما يكون قضاء وقت العصر بالنوم في حكم عدم رؤية نتائج معنوية لذلك اليوم، تلك النتائج التي تتظاهر على الاغلب في ذلك الوقت. فيكون الانسان كأنه لـم يعش ذلك اليوم.

الثالث: القيلولة:

وهي سنة نبوية شريفة، ويبدأ وقتها من الضحى الى ما بعد الظهر بقليل، ومع كون هذا النوم من السنة الـمطهرة(1) فانه يعين على قيام الليل، وقد رسـّخ هذه السنة النبوية ما اعتاد عليه اهل الـجزيرة العربية من تعطيل نسبي للاعمال عند اشتداد الـحر من الظهر حسب مـحيطهم. وهذا النوم يطيل العمر ويزيد الرزق؛ لان نصف ساعة من القيلولة يعادل ساعتين من نوم الليل، أي انه يزيد عمر يومه ساعة ونصف الساعة. وينقذ ساعة ونصف الساعة ايضاً من النوم الذي هو صنو الـموت، ويـحييها بتزييد وقت عمله كسباً للرزق، فيطيل زمن السعي والعمل.

سعيد النورسي

* * *







وهذه خاطرة جـميلة

حينما كنت اقرأ جـملة ((ألف ألف صلاة وألف ألف سلام عليك يارسول الله)) عقب الصلاة، تراءت لي من بعيد خاطرة لطيفة انكشفت من تلك الصلوات، الا انني لـم أتـمكن من اقتناصها كاملة، ولكن ساشير الى بعض جـملها:

رأيت ان عالـم الليل شبيه بـمنزل جديد يفتح لدار الدنيا.. دخلت ذلك العالـم في صلاة العشاء، ومن انبساط فوق العادة للخيال وبـحكم ارتباط ماهية الانسان مع الدنيا قاطبة رأيت ان هذه الدنيا العظيمة قد اصبحت في ذلك الليل منزلا صغيراً جداً حتى لا يكاد يرى ما فيه من بشر وذوي حياة. ورأيت خيالاً أن ليس هناك من ينور ذلك الـمنزل الا الشخصية الـمعنوية للرسول e حتى امتلأت ارجاؤه بهجة وانساً وسروراً.

وكما يبدأ الشخص بالسلام عند دخوله الـمنزل، كذلك وجدت في نفسي شوقاً هائلاً ورغبة جياشة الى القول: ألف ألف سلام عليك يارسول الله(1)..

ومن هنا وجدت نفسي كأنني اسلم عليه بعدد الانس والـجن واعبر بسلامي هذا عن تـجديد البيعة له والرضى برسالته وقبولـها منه واطاعة القوانين التي أتى بها، والتسليم لاوامره وسلامته من بلايانا. أي كأنني اقدم هذا السلام – ناطقاً تلك الـمعاني – باسم كل فرد من افراد عالـمي وهم ذوو الشعور من جن وانس، وجـميع الـمخلوقات.

وكذا فان ما جاء به من النور العظيم والـهدية الغالية ينور عالـمي الـخاص هذا كما ينور العالـم الـخاص لكل احد في هذه الدنيا، فيحوّل عالـمنا الى عالـم زاخر بالنعم. فقلت تـجاه هذه النعمة الـهائلة: ((اللهم أنزل ألف صلاة عليه)) علـّها تكون شكراناً وعرفانا للجميل على ذلك النور الـحبيب والـهدية الغالية، اذ اننا لانستطيع أن نرد جـميله واحسانه الينا أبداً، فأظهرنا تضرعنا الى الله جل وعلا بالدعاء والتوسل كي ينزل من خزائن رحـمته رحـمة عليه بعدد اهل السموات جـميعاً.. هكذا احسست خيالاً.

فهو e يطلب صلاة بـمعنى ((الرحـمة)) من حيث هو ((عبد)) ومتوجه من الـخلق الى الـحق سبحانه. ويستحق ((السلام)) من حيث أنه ((رسول)) من الـحق سبحانه الى الـخلق.

وكما اننا نرفع اليه سلاماً بعدد الانس والـجن، ونـجدد له البيعة العامة بعددها ايضاً، فانه علية الصلا ة والسلام يستحق ايضاً صلاة من خزائن الرحـمة الإلـهية بعدد اهل السموات، وبأسم كل واحد منهم؛ ذلك لأن النور الذي جاء به هو الذي يظهر كمال كل شىء في الوجود، ويُبرز قيمة كل موجود، وتُشاهد به الوظيفة الربانية لكل مـخلوق، وتتجلى به الـمقاصد الإلـهية من كل مصنوع. لذلك لو كان لكل شىء لسان لكان يردد قولاً كما يردد حالاً: الصلاة والسلام عليك يارسول الله.. فنحن بدورنا نقول بدلا عن الـمخلوقات كافة:

- ألف ألف صلاة وألفُ ألف سلام عليك يارسول الله بعدد الانس والـجن وبعدد الـملك والنـجوم.

فيكفيك ان الله صلى بنفسه واملاكه صلت عليه وسلمت



سعيد النورسي

* * *





اخي العزيز:

تطلبون شيئاً من الايضاح حول ((وحدة الوجود)) ففي احدى لـمعات ((الـمكتوب الـحادي والثلاثين)) جواب شاف وقوي واضح إزاء رأي مـحي الدين بن عربي في هذه الـمسألة.

اما هنا فنكتفي بهذا القدر ونقول:

ان تلقين مسألة ((وحدة الوجود)) في الوقت الـحاضر للناس يضرهم ضرراً بالغاً، اذ كما ان التشبيهات والتمثيلات(1)، اذا خرجت من ايدي الـخواص ودخلت ايدي العوام وسرت من يد العلم الى يد الـجهل تُتلقى حقائق كذلك وحدة الوجود وامثالـها من الـحقائق العالية، اذا ما دخلت بين العوام الغافلين السارحين في تأثير الاسباب، يتلقونها ((طبيعة)) وتولد ثلاث مضار مهمة.

الضرر الاول:

ان مشرب وحدة الوجود، مع انه في حكم انكار وجود الكائنات ازاء وجود الله سبحانه، الا انه كلما دخل بين العوام يـمضي بهم الى أن يصل في فكر الغافلين منهم ولاسيما الـملوثين بالـماديات الى انكار الالوهية ازاء الكون والـماديات.

الضرر الثاني:

ان مشرب وحدة الوجود، يردّ رداً شديداً ربوبية ما سوى الله تعالى، حتى انه ينكر ما سواه تعالى ويرفع الثنائية، فلا يرى وجوداً مستقلاً للنفس الامارة ولا لأي شىء كان، ولكن في هذا الزمان، الذي استولت فيه مفاهيم الطبيعة وتفرعنت نفوس أمارة وبـخاصة من له استعداد ليتخذ نفسه معبوده من دون الله، ونفخ الغرور والانانية في اوداجه، فضلا عن نسيان الـخالق والآخرة الى حد ما. فتلقين هؤلاء بوحدة الوجود يطغي نفوس حتى لايسعها شىء، والعياذ بالله.

الضرر الثالث:

انه يورث افكارا وتصورات لاتليق بوجوب وجود الذات الـجليلة، الـمنزهة الـمبرأة الـمتعالية الـمقدسة عن التغير والتبدل والتجرؤ والتحيز، ولاتلائم تنزهه وتقدسه سبحانه بـحال، فيكون بذلك سبباً لتلقينات باطلة.

نعم! ان من يتكلم عن وحدة الوجود عليه ان يعرج فكراً من الثرى الى الثريا تاركاً الكائنات وراءه ظهريا، مـحدقاً بنظره الى العرش الاعلى، عاداً الكائنات معدومة في حالة الاستغراق، فيمكنه ان يرى بقوة الإيـمان ان كل شىء من الواحد الاحد سبحانه مباشرة. والا فان من يقف وراء الكائنات وينظر اليها ويرى الاسباب أمامه وينظر من الارض، فانه يـحتمل ان يغرق في تأثير الاسباب ويقع في مستنقع الطبيعة، بينما الذي يعرج فكراً الى العرض كجلال الدين الرومي(1) يستطيع ان يقول: ((افتح سـمعك فانك تستطيع أن تسمع من كل أحد – كأنه حاك فطري – ما تسمعه من الـحق تعالى)). والا فمن لا يستطيع العروج مثله الى هذه الـمرتبة الرفيعة ولا يرى الـموجودات من الفرش الى العرش على صورة مرايا (لـتجلياته) ان قلت له:

((اصغ الى كل أحد تسمع منه كلام الله)) فانه يبتلى بتصورات باطلة مـخالفة للحقيقة كمن يهوي معنىً من العرش الى الفرش.

} قل الله ثُمَ ذَرهُم في خَوضِهم يَلعَبون { (الانعام:91).

ما للتراب ولرب الارباب.

سبحان من تقدس عن الاشباه ذاته وتنزهت عن مشابهة الامثال صفاته وشهد على ربوبيته آياته جل جلاله ولا اله الا هو.

سعيد النورسي



* * *



جواب عن سؤال

لا يسعني الوقت الكافي لعقد موازنة بين افكار كل من مصطفى صبري(1) وموسى باكوف(2) الا انني اكتفي بالقول الآتي:

ان احدهما قد افرط والآخر يفرط. فمع ان مصطفى صبري مـحق في دفاعاته بالنسبة الى موسى باكوف الا انه ليس له حق تزييف شخص مـحي الدين بن عربي الذي هو خارقة من خوارق العلوم الإسلامية.

نعم، ان مـحي الدين بن عربي مهتد ومقبول ولكنه ليس بـمرشد ولاهاد وقدوة في جـميع كتاباته، اذ يـمضي غالباً دون ميزان في الـحقائق، فيخالف القواعد الثابتة لأهل السنة, ويفيد بعض أقواله – ظاهراً – الضلالة غير انه برىء من الضلالة، اذ الكلام قد يبدو كفرا بظاهره، الا أن قائله لا يكون كافراً.

فمصطفى صبري لـم يراع هذه النقاط بنظر الاعتبار ففرط في بعض النقاط لتعصبه لقواعد اهل السنة. أما موسى باكوف فهو يـخطىء كثيراً بافكاره التي تـماشي التمدن والـمنحازة شديداً للتجدد. اذ يـحرف بعض الـحقائق الإسلامية بتأويلات خاطئة ويتخذ شخصاً مردوداً كابي العلاء الـمعري في مستوى اعلى من علماء الإسلام الـمحققين وقد غالى كثيراً لانـحيازه الشديد الى تلك الـمسائل التي خالف فيها مـحي الدين اهل السنة والتي تنسجم مع افكاره.

ولقد قال مـحي الدين: ((تـُحرم مطالعة كتبنا على من ليس منا)) أي على من لايعرف مقامنا. نعم ان قراءة كتب مـحي الدين ولاسيما مسائله التي تبحث في وحدة الوجود مضرة في هذا الزمان.

سعيد النورسي





بِسمِ اللهِ الرَّحـمنِ الرَّحيمِ

عندما كنت انظر من نافذة السجن، الى ضحكات البشرية الـمبكية، في مهرجان الليل البهيج، انظر اليها من خلال عدسة التفكر في الـمستقبل والقلق عليه، انكشف امام نظر خيالي هذا الوضع، الذي ابينه:

مثلما تشاهد في السينما اوضاع الـحياة لـمن هم الأن راقدون في القبر، فكأنني شاهدت امامي الـجنائز الـمتحركة لـمن سيكونون في الـمستقبل القريب من اصحاب القبور.. بكيت على اولئك الضاحكين الآن، فانتابني شعور بالوحشة والالـم. راجعت عقلي، وسألت عن الـحقيقة قائلاً: ما هذا الـخيال؟ قالت الـحقيقة:

ان خـمسة من كل خـمسين من هؤلاء البائسين الضاحكين الآن والذين يـمرحون في نشوة وبهجة سيكونون كهولاً بعد خـمسين عاماً، وقد انـحنت منهم الظهور وناهز العمر السبعين. والخـمسة والاربعين الباقية يُرمـّون في القبور.

فتلك الوجوه الـملاح، وتلك الضحكات البهيجة، تنقلب الى أضدادها. وحسب قاعدة ((كل آت قريب))(1) فان مشاهدة ما سيأتي كأنه آتٍ الآن تنطوي على حقيقة، فما شاهدته اذاً ليس خيالاً.

فما دامت ضحكات الدنيا الـمتسمة بالغفلة مؤقتة ومعرضة الى الزوال، وهي تستر مثل هذه الاحوال الـمؤلـمة الـمبكية، فلابد أن ما يسرّ قلب الانسان البائس العاشق للـخلود، ويفرح روحه الولـهان بعشق البقاء، هو ذلك اللهو البرىء والـمتعة النزيهة وافراح ومسرات تـخلد بثوابه، ضمن نطاق الشرع، مع اداء الشكر باطمئنان القلب وحضوره بعيداً عن الغفلة. ولئلا تقوى الغفلة في النفوس في الاعياد، وتدفع الانسان الى الـخروج عن دائرة الشرع، ورد في الاحاديث الشريفة ترغيب قوي وكثير في الشكر وذكر الله في تلك الايام. وذلك لتنقلب نعم الفرح والسرور الى شكر يديـم تلك النعمة ويزيدها، اذ الشكر يزيد النعم ويزيل الغفلة.

سعيد النورسي



















بِسمِ اللهِ الرَّحـمنِ الرَّحيْمِ

نكتة من نكات الآية الكريـمة:

} انَّ النفسَ لأمـّارة بالسوء { (يوسف:53)

والـحديث الشريف: ((أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك))(1).

نعم! ان الذي يـحب نفسه الامارة بالسوء – غير الـمزكاة – ويعجب بها، هو في الـحقيقة لا يـحب أحداً غيرها، وحتى لو ابدى للغير حباً فلا يـحبه من صميم قلبه، بل ربـما يـحبه لـمنافعه، ولـما يتوقع منه من متاع. فهو في محاولة دائمة لتحبيب نفسه للآخرين وفي سعي متواصل لأثارة اعجابهم به، يصرف كل قصورٍ عن نفسه فلا يحـملـّها أي نقص كان، بل يدافع دفاع الـمحامي الـمخلص لإبراء ساحتها، ويـمدحها بـمبالغات بل بأكاذيب لينزّهها عن كل عيب او قصور، حتى يقربها الى التقديس، بل يبلغ به الامر ان يكون مصداق الآية الكريـمة } من أتـخذ ألـهه هواه { (الفرقان:43) عندها تتوالى عليه صفعات هذه الآية الكريـمة – حسب درجته – فينقلب مدحُه الى إعراض الناس عنه، ويتحول تـحبيب نفسه اليهم الى استثقالـهم له، فيجد عكس ما كان يروم، فضلاً عن أنه يضيـّع الاخلاص، لـما يـخلط من رياء وتصنع في اعماله الأخروية، فيكون مغلوباً على أمره امام شهواته وهواه ومشاعره، تلك التي لاتبصر العقبى ولاتفكر في النتائج والـمغرمة بالتلذذ الآني. بل قد تبرر له اهواؤه الضالة اموراً يرتكبها لاجل متعة لاتدوم ساعة يفضي به ان يلقى في السجن لسنة كاملة. وقد يقاسي عشر سنوات من الـجزاء العادل لاجل تسكين روح الثأر لديه وشهوة الغرور التي لا تستغرق دقيقة واحدة. فيكون مثله كمثل ذلك الطفل الابله الذي لايقدر قيمة جزء الـمصحف الشريف الذي يتلوه ويدرسه فيبيعه بقطعة حلوى رخيصة، اذ يصرف حسناته التي هي اغلى من الالـماس ويبدلـها بـما يشبه في تفاهتها قطع الزجاج، تلك هي حسياته وهواه وغروره، فيخسر خسارة جسيمة فيما كان ينبغي له ان يربح ربـحاً عظيماً.

اللهم احفظنا من شر النفس والشيطان ومن شر الـجن والانس.



سؤال:

كيف يكون البقاء في سجن جهنم بقاءاً خالداً جزاءً عادلاً لكفر في زمن قصير؟

الـجواب: ان القتل الذي يـحصل في دقيقة واحدة يعاقب عليه بسبع ملايين وثـمانـمائة واربع وثـمانين الفاً من الدقائق – على اعتبار السنة ثلاثـمائة وخـمس وستين يوماً. فان كان هذا قانوناً عدلاً، فالذي يقضي عشرين سنة من عمره في احضان الكفر ويـموت عليه يستحق جزاءً بـمقتضى هذا القانون العادل للبشر سبجناً يدوم سبعاً وخـمسين ترليوناً وواحد مائتي مليار مليون من السنين، باعتبار دقيقة من الكفر تعادل ألف قتل ويـمكن ان يُفهم من هذا وجه الانسجام مع عدالة قوله تعالى: } خالدين فيها ابداً { (البينة:8).

ان سر العلاقة بين العددين الـمتباعدين جداً بعضها عن بعض، هو ان الكفر والقتل تـخريب وتعدّ على الآخرين، ولـهما تأثير في الآخرين، فالقتل الذي يـحصل في دقيقة واحدة يسلب خـمس عشرة سنة في الاقل من حياة الـمقتول، حسب ظاهر الـحال، لذا يسجن القاتل بدلاً منه، فدقيقة واحدة في الكفر الذي هو انكار لألف اسم واسم من الاسـماء الـحسنى وتزييف لنقوشها البديعة.. واعتداء على حقوق الكائنات.. وانكار لكمالاتها.. وتكذيب لدلائل الوحدانية التي لا يـحد وردّ لشهاداتها .. تلقي بالكافر في اسفل سافلين لاكثر من الف سنة، فتسجتنه في قوله تعالى } خالدين فيها ابداً { (البينة:8).

سعيد النورسي

* * *





توافق لطيف ذو مغزى:

ان الـمادة (163) من القانون التي يُتهم بـموجبها طلاب النور، ويُطالب بها انزال العقوبة عليهم. هذا الرقم يتوافق مع عدد النواب الذين وافقوا على لائـحة البرلـمان الـخاصة بـمنح مائة وخـمسين الف ليرة لبناء مدرسة مؤلف رسائل النور، وقد كانوا (163) نائباً من بين ((200) نائباً في مـجلس الأمة التركي.

هذا التوافق يقول معنىً: ان تواقيع (163) نائباً من نواب حكومة الـجمهورية على وجه التقدير والاعجاب بـخدمته يُبطل حكم الـمادة (163) بـحقه.

وكذا من بين التوافقات اللطيفة ذات الـمغزى:

لقد كان القبض على مؤلف رسائل النور وطلابه واعتقالـهم في 27/نيسان/1935 بينما كان قرار الـمحكمة بـحقهم في 19/آب/1935 أي بعد (115) يوماً. هذا الرقم يتوافق مع عدد كتب رسائل النور وهو (115) كتاباً يضم (128) رسالة.

كما انه يوافق عدد الـمتهمين الـمائة وخـمسة عشر من طلاب النور الذين استجوبوا واتهموا.

فهذا التوافق يدل على ان الـمصيبة التي ابتلى بـها مؤلف رسائل النور وطلابها انـما تُنظـّم بيدٍ من العناية (الإلـهية)(1).

* * *



النكتة الثامنة والعشرون

من اللمعة الثامنة والعشرون

بِسْمِ اللهِ الرَّحـمْنِ الرَّحيْمِ

} لا يَسـَّمَعُونَ إِلَى الـمَلإِ الأَعلَى وَيُقذَفُونَ مِن كـُّلِ جَانِبٍ ` دُحُوراً وَلَـهُم عَذَابٌ وَاصِبٌ ` إِلاَّ مَن خَطِفَ الـخَطفَةَ فَأَتبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ{ (الصافات:8-10)

} وَلَقَد زَيـَّنـَّا السـّمَآءَ الدُّنيَا بِمصَابِيحَ وَجَعَلناهَا رُجُوماً لِلشـَّيَاطِينِ{ (الـملك:5)

سنبين نكتة مهمة من نكات هذه الآيات الكريـمة وامثالـها من الآيات لـمناسبة اعتراض يرد من اهل الضلالة على وجه النقد.

تفيد هذه الآيات الكريـمة ان جواسيس الـجن والشياطين يسترقون السمع الى اخبار السـموات ويـجلبون منها الاخبار الغيبية الى الكهان والـماديين، والذين يعلمون في تـحضير الارواح. فـحيل بين هذه الاخبار وبين التجسس الدائمي لأولئك الـجواسيس ورجـموا بالشهاب أزيد ماكان في تلك الفترة من بداية الوحي، وذلك لئلا يلتبس شىء على الوحي.

نبين جواباً في غاية الاختصار عن سؤال في غاية الاهمية وهو ذو ثلاث شعب.

سؤال:

يفهم من امثال هذه الآيات الكريـمة الـمتصدرة انه لاجل استراق السمع وتلقي الـخبر الغيبي حتى في الـحوادث الـجزئية بل احياناً حوادث شخصية تقتحم جواسيس الشياطين مـملكة السموات التي هي في غاية البعد، لكأن تلك الـحادثة الـجزئية هي موضع بـحث في كل جزء من اجزاء تلك الـمملكة الواسعة، ويـمكن لاي شيطان كان، ومن أي مكان دخل الى السموات، التنصت ولو بصورة مرقعة الى ذلك الـخبر وجلبه هكذا الى الارض. هذا الـمعنى الذي يُفهم من الآيات الكريـمة لا يقبل به العقل والـحكمة. ثم ان قسماً من الانبياء وهم اهل الرسالة، والاولياء وهم اهل الكرامة يتسلمون ثـمار الـجنة التي هي فوق السموات العلى – بنص الآية – وكأنهم يأخذونها من مكان قريب، واحياناً يشاهدون الـجنة من قريب. هذه الـمسألة تعني: نهاية البعد في نهاية القرب بـحيث لايسعها عقل هذا العصر.

ثم أن حالة من احوال جزئية لشخص جزئي يكون موضع ذكر وكلام لدى الـملأ الاعلى في السموات العلى الواسعة جداً، هذه الـمسألة لاتوافق ادارة الكون التي تسير في منتهى الـحكمة.

علماً أن هذه الـمسائل الثلاث تعد من الـحقائق الإسلامية.

الـجواب:

اولاً: أن الآية الكريـمة: } وَلَقَد زَيـَّنـَّا السـّمَآءَ الدُّنيَا بِمصَابِيحَ وَجَعَلناهَا رُجُوماً لِلشـَّيَاطِينِ{ هذه الآية تفيد أن جواسيس الشياطين التي تـحاول الصعود الى السموات للتجسس تطرد بنجوم السموات.

فقد بـحثت هذه الـمسألة بـحثاً جيداً في الكلمة الـخامسة عشرة، واُثبتت اثباتاً يقنع حتى أعتى الـماديين، بل يلجؤهم الى السكوت والقبول، وذلك بسبع مقدمات قاطعة هي بـمثابة سبع مراتب للصعود الى فهم الآية الكريـمة:

ثانياً: نشير الى هذه الـحقائق الإسلامية الثلاث التي تُظن انها بعيدة (عن العقل) بتمثيل وذلك لنقربها الى الاذهان القاصرة الضيقة.

هب ان الدائرة العسكرية لـحكومة تقع في شرقي البلاد، ودائرتها العدلية في الغرب ودائرة الـمعارف في الشـمال ودائرة الشؤون الدينية (الـمشيخة) في الـجنوب، ودائرة الـموظفين الاداريين في الوسط وهكذا.

فعلى الرغم من البعد بين دوائر هذه الـحكومة، فان كل دائرة لو استخبرت الاوضاع فيما بينها بالتلفون او التلغراف ارتباطاً تاماً: عندها تكون البلاد كلها كأنها دائرة واحدة عي دائرة العدل، او الدائرة العسكرية او الدينية، او الادارية وهكذا.

مثال آخر: يـحدث احياناً أن دولاً متعددة ذات عواصم مـختلفة. تشترك معاً في مـملكة واحدة، بسلطات متباينة، من حيث مصالـحها الاستعمارية فيها، او لوجود امتيازات خاصة بها، او من حيث الـمعاملات التجارية وغيرها. فكل حكومة عندئذ ترتبط بعلاقة مع تلك الرعية من حيث امتيازاتها، فعلى الرغم من انها رعية واحدة وأمة واحدة، فان معاملات تلك الـحكومات الـمتباينة – التي هي في غاية البعد – تتماس وتتقارب كلٌ منها مع الاخرى في البيت الواحد بل تشترك في كل انسان. حتى تُشاهد مسائلها الـجزئية في الدوائر الـجزئية وهي نقاط التماس والتقارب، ولاتؤخذ كل مسألة جزئية من الدائرة الكلية. ولكن عندما تبحث تلك الـمسائل الـجزئية، تبحث كأنها اُخذت من الدائرة الكلية وذلك لارتباطها بالقوانين الكلية لتلك الدائرة. وتعطى لـها صورة كأنها مسألة اصبحت موضع بـحث في تلك الدائرة الكلية.

وهكذا ففي ضوء هذين الـمثالين:

ان مـملكة السموات التي هي في غاية البعد، من حيث العاصمة والـمركز، فان لـها هواتف معنوية تـمتد منها الى قلوب الناس في مـملكة الارض. فضلاً عن أن عالـم السموات لا يشرف على العالـم الـجسماني وحده بل يتضمن عالـم الارواح وعالـم الـملكوت؛ لذا فعالـم السموات يـحيط بـجهة بعالـم الشهادة تـحت ستار.

وكذلك الـجنة التي هي من العوالـم الباقية، وهي دار البقاء، فمع انها في غاية البعد، الاّ ان دائرة تصرفاتها تـمتد امتداداً نورانياً وتنتشر الى كل جهة تـحت ستار عالـم الشهادة.

فكما ان حواس الانسان التي اودعها الصانع الـحكيم الـجليل بـحكمته وبقدرته في رأس الانسان، فعلى الرغم من ان مراكزها مـختلفة، فان كلامنها تسيطر على الـجسم كله، وتأخذه ضمن دائرة تصرفها.

كذلك الكون الذي هو انسان اكبر يضم الوف العوالـم الشبيهة بالدوائر الـمتداخلة. فالاحوال الـجارية في تلك العوالـم والـحوادث التي تقع فيها تكون موضع النظر من حيث جزئياتها وكلياتها، وخصوصياتها وعظمتها.

بـمعنى ان الـجزئيات تُشاهد في الاماكن الـجزئية والقريبة، بينما الكليات والامور العظيمة تُرى في الـمقامات الكلية والعظيمة.

ولكن قد تستولي حادثة جزئية خصوصية على عالـم عظيم فاينما يُلقى السمع تٌسمع تلك الـحادثة.

واحياناً تـحشد الـجنود الـهائلة اظهاراً للعظمة والهيئة وليس لقوة العدو. فمثلاً:

ان حادثة الرسالة الـمحمدية، ونزول الوحي القرآني، لكونها حادثة جليلة، فان عالـم السموات كله، بل حتى كل زاوية من زواياه متأهب، وقد صفت فيه الـحراس، في تلك البروج العظيمة، من تلك السموات العالية الرفيعة والبعيدة بعداً عظيماً. ويقذفون من النجوم الـمجانيق، طرداً لـجواسيس الشياطين ودفعاً بهم عن السموات.

فالآية الكريـمة عندما تبرز الـمسألة هكذا برجم الشياطين بكثرة هائلة والقذف بالشهب ولاسيما في بداية الوحي في ذلك الوقت. تبين اشارة ربانية الى الاعلان عن درجة عظمة الوحي القرآني وشعشعة سلطانه، والى درجة أحقيته وصوابه والذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وهكذا يترجـم القرآن الكريم ذلك الاعلان الكوني العظيم ويشير الى تلك الاشارات السماوية.

نعم! ان اظهار هذه الاشارات العظيمة السماوية، وابراز مبارزة الشياطين للملائكة، مع إمكان طرد جواسيس الشياطين بنفخ من مَلَك، انـما هو لاظهار عظمة الوحي القرآني وعلوه ورفعه.

ثم ان هذا البيان القرآني الـمهيب، واظهار الـحشود السماوية العظيمة، ليس تعبيراً عن أن للجن والشياطين قوة واقتداراً بـحيث تسوق اهل السموات الى الـمبارزة والـمدافعة معهم، بل هي اشارة الى أنه لادخل للشياطين والـجن في أي موضع من مواضع هذا الطريق الطويل الـممتد من قلب الرسول الاعظم e الى عالـم السموات الى العرش الاعظم.

وبهذا يعبـّر القرآن الكريم عن ان الوحي القرآني حقيقة جليلة حقيق ان يكون موضع ذكر وبـحث لدى الـملأ الاعلى والـملائكة كلهم في تلك السموات الـهائلة، بـحيث يضطر الشياطين الى الصعود الى السموات لينالوا شيئاً من اخبارها فيرجـمون ولاينالون شيئاً.

فيشير القرآن الكريم بهذا الرجـم الى ان الوحي القرآني النازل على قلب مـحمد صلى الله عليه وسلم، وجبرائيل عليه السلام الذي نزل الى مـجلسه والـحقائق الغيبية الـمشهودة لنظره، سليمة، صائبة، صحيحة، لاتدخل فيها شبهة قط وفي أية جهة منها قط.

وهكذا يعبـّر القرآن الكريم عن هذه الـمسألة باعجازه البليغ.

أما مشاهدة الـجنة في أقرب الاماكن وقطف الثـمار منها احياناً، مع كونها بعيدة كل البعد عنا وكونها من عالـم البقاء، فبدلالة التمثيلين السابقين يُفهم:

ان هذا العالـم الفاني، عالـم الشهادة، حـجاب لعالـم الغيب وعالـم البقاء. انه يـمكن رؤية الـجنة في كل جهة مع أن مركزها العظيم في مكان بعيد جداً، وذلك بوساطة مرآة عالـم الـمثال. ويـمكن بوساطة الإيـمان البالغ درجة حق اليقين ان تكون للجنة دوائر ومستعمرات (لامشاحة في الامثال) في هذا العالـم الفاني ويـمكن أن تكون هناك مـخابرات واتصالات معها بالارواح الرفيعة وبهاتف القلب ويـمكن أن ترد منها الثـمار.

أما انشغال دائرة كلية بـحادثة شخصية جزئية، أي: ما ورد في التفاسير من ان الشياطين يصعدون الى السموات ويسترقون السمع هناك ويأتون باخبار غيبية ملفقة للكهان، فينبغي أن تكون حقيقته هكذا:

انه لا صعود الى عاصمة عالـم السموات لتلقي ذلك الـخبر الـجزئي، بل هو صعود الى بعض الـمواقع الـجزئية في جو الـهواء – الذي يشمله معنى السموات – والذي فيه مواضع بـمثابة مـخافر (لامشاحة في الامثال) للسموات، وتقع علاقات في هذه الـمواقع الـجزئية مع مـملكة الارض. فالشياطين يسترقون السمع في تلك الـمواقع الـجزئية لتلقي الاحداث الـجزئية، حتى ان قلب الانسان هو احد تلك الـمقامات حيث يبارز فيه ملك الالـهام الشيطان الـخاص.

أما حقائق القرآن والإيـمان وحوادث الرسول e ، فمهما كانت جزئية فهي بـمثابة اعظم حادثة واجلـّها في دائرة السموات وفي العرش الاعظم. حتى كأنها تنشر في الصحف الـمعنوية للـمقدرات الإلـهية الكونية (لا مشاحة في الامثال) بـحيث يذكر عنها ويبحث مسائلها في كل زاوية من زوايا السموات، حيث أنه ابتداءً من قلب الرسول الكريم علية الصلاة والسلام وانتهاءً الى دائرة العرش الاعظم مصون من أي تدخل كل من الشياطين.

فان القرآن مع بيانه لـهذا انـما يعبـّر بتلك الآيات الـجليلة أنه: لاحيلة ولا وسيلة للشيطان لتلقي اخبار السموات الاّ استراق السمع.

فيبين القرآن بهذا بياناً معجزاً بليغاً: ما اعظم الوحي القرآني وما اعظم قدره! وما اصدق نبوة مـحمد e وما اصوبها! حتى لا يـمكن الدنو اليهما بأية شبهة كانت وباي شكل من الاشكال.

سعيد النورسي
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-02-2011
  #28
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: اللمعات

اللمعة التاسعة والعشرون

رسالة التفكر الإيـماني الرفيع

والـمعرفة التوحيدية السامية(1)

باسـمه سبحانه

اخوتي!

ان رسالة التفكر هذه جليل القدر. وان اطلاق الامام علي رضي الله عنه عليها – من جهة- اسم الآية الكبرى يبين قيمتها الرفيعة تـماماً.

فهي رسالة معرفة إيـمانية وردت الى القلب بعين اليقين، اثناء اذكار الصلاة. واثـمرت كثيراً من الرسائل. واصبحت غذاء للعقل والفكر وعلاجاً لـهما طوال ثلاثين سنة. فمن الأنسب أن تُدرج ضمن ((اللمعات)) وان تطبع منها اربعون او خـمسون نسخة مستقلة.

سعيد النورسي

سجن ((اسكي شهر)) قبل عشرين سنة

بِسْمِ اللهِ الرَّحـمْنِ الرَّحيْمِ

وبه نستعين

الـحمد لله رب العالـمين والصلاة والسلام على سيدنا مـحمد

وعلى آله وصحبه اجـمعين.

ايضاح

لقد امتزج قلبي بعقلي منذ ثلاثة عشر عاماً ضمن انتهاج مسلك التفكر الذي يأمر به القرآن الـمعجز البيان كقوله تعالى } لعلكم تتفكرون{ } لعلهم يتفكرون{ } أَوَ لَم يَتَفَكـَّرُواْ فِي أَنفُسِهِم مـَّا خَلَقَ اللهُ السـَّمَوَاتِ وَالأَرضَ.. { (الروم:8) } لآيات لقوم يتفكرون{ وامثالـها من الآيات التي تـحث على التفكر مثلما يـحث عليه حثاً عظيماً الـحديث الشريف كقوله e ((تفكر ساعة خير من عبادة سنة))(1).

ولقد تواردت في غضون هذه السنوات الثلاثين على عقلي وقلبي ضمن انتهاج مسلك التفكر، انوار عظيمة وحقائق متسلسلة طويلة. فوضعت بضع كلمات – من قبيل الاشارات – لا للدلالة على تلك الانوار، بل للاشارة الى وجودها ولتسهيل التفكر فيها وللمحافظة على انتظامها.

وكنت اردد بيني وبين نفسي تلك الكلمات لساناً بعبارات عربية في غاية الاختلاف. وعلى الرغم من تكراري لـها آلاف الـمرات خلال هذه الفترة الطويلة وانا انتهج هذا التفكر لـم يطرأ عليّ السأم ولـم يعتر ذوقها النقص، ولـم تنتف حاجة الروح اليها. لأن ذلك التفكر لـمعات تلمعت من آيات القرآن الكريم فتمثلت فيه جلوة من خصائص الآيات، تلك هي عدم الاستشعار بالسأم والـملل والـحفاظ على حلاوتها وطراوتها.

وقد رأيت في الآونة الاخيرة ان العقدة الـحياتية القوية والانوار الساطعة التي تـحتويها اجزاء رسائل النور ما هي الاّ لـمعات سلسلة ذلك التفكر، فنويت كتابة مـجموعها في اخريات ايام عمري، على أمل تأثيرها في غيري مثلما اثـّرت فيّ. وستكون لـمجموعها قوة وقيمة اخرى وإن ادرجت اهم اجزائها في الرسائل.

ولـما كان اخر الـمطاف في رحلة العمر غير معيـّن. وان اوضاعي في سجن ((اسكي شهر)) قد بلغت حداً أشد من الـموت بكثير، فقد كتبت تلك السلسلة من التفكر دون انتظار لآخر الـحياة، ودون تغيير فيها، وبناء على رغبة اخوة النور واصرارهم بقصد استفادتهم. وجعلتها في سبعة ابواب.

ولـما كانت الاكثرية الـمطلقة من هذا النوع من الـحقائق تـخطر بالبال اثناء اذكار الصلاة، وان كل كلمة من كلمات الاذكار بـمثابة منبع الـحقائق. كان ينبغي ان تكتب على وفق ترتيبها وتسلسلها في اذكار الصلاة، أي (سبحان الله والـحمد لله والله اكبر ولا اله الاّ الله) الاّ أن ظروف السجن الـمنفرد الـمضطربة آنذاك قد أخلـّت بذلك الترتيب.

أما الآن فستكون الابواب على النحو الآتي:

الباب الأول: في (سبحان الله)

الباب الثاني: في (الـحمد لله)

الباب الثالث: في (الله اكبر)

والباب الرابع: في (لا اله الاّ الله)

وذلك لأن معظم الشافعية يذكرون: (لا اله الاّ الله) ثلاثاً وثلاثين مرة بعد ذكرهم كلاً من سبحان الله، والـحمد لله، والله اكبر ثلاثاً وثلاثين مرة.

سعيد النورسي



































الباب الأول

في ((سبحان الله))

وهو ثلاثة فصول

(الفصل الأول)

بِسمِ الله الرَّحـمنِ الرَّحيمِ

فَسُبْحانَك يا مَنْ تُسَبـِّحُ بِحَمْدِكَ السـَّمآءُ بِكَلِمَاتِ نُجُومِهَا وَشُموُسِهَا وَ اَقَمَارِهَا بِرُمُوزِ حِكَمِهَا.

وَيُسَبـِّحُ بِحَمْدِكَ الـجَوُّ بِكَلِمَاتِ سَحاباتِهِ وَرُعُودِهَا وَبُرُوقِهَا وَأمطَارِهَا، بِإشاراتِ فَوَائِدِهَا.

وَيُسَبـِّحُ بِحَمْدِكَ رأَسُ الأرضِ بَكَلِمَاتِ مَعَادِنِهَا وَ نَـبَاَتَاتِهاَ وَأشْجَارِهَا وَحَيْوَانَاتِهَا بِدَلالاتِ إنْتِظَامَاتِهَا.

وَتُسَبـِّحُ بِحَمْدِكَ النـَّبَاتَاتُ وَ اَلأشْجَارُ بِكَلِمَاتِ أوْرَاقِهَا وَأزهَارهَا وَ ثَمَرَاتِهَا، بَـتَصَرْيـحَاتِ مَنَافِعِهَا.

وَتُسَبـِّحُ بِحَمْدِكَ الأزهَارُ وَالأثْمَارُ بِكَلِمَاتِ بُذُورِهَا وَأجْنِحَتِها وَ نَوَاتَاتِهَا، بِعَجَائبِ صَنْعَتِهَا.

وَتُسَبـِّحُ بِحَمْدِكَ النـَّواتَاتُ وَالبُذُورُ بَألسِنَةِ سَنَابِلِهَا وكَلِمَاتِ حَبـَّاتِهَا بالـُمشَاهَدةِ.

وَيُسَبـِّحُ بِحَمْدِكَ كـُلُّ نَـبَاتٍ بِغَايَةِ اْلوُضُوحِ وَالظـُهُورِ عِنْدَ انْكِشافِ أكمَامِها وَ تَـبَسـُّمِ بَنَاتِهَا بَأفْوَاهِ مُزَيـَّنَاتِ أزاهيرِهَا وَمُنْتَظَمَاتِ سَنَابِلِهَا، بِكَلِمَاتِ مَوْزُونَاتِ بُذُورِهَا وَمَنْظـُومَاتِ حَبـّاتِهَا، بِلِسَانِ نِظامِهَا في ميزانِهَا في تَنْظِيمِها في تَوْزِ يِـنِهَا في صَنْعَتِهَا في صِبغَتِها في زِينَتِهَا في نُقُوشِهَا في رَوَائِحِهَا في طعومِها في ألوَانِهَا في أشْكَالِهَا(1)، كَمَا تَصِفُ تَجَلـِّيَاتِ صِفَاتِكَ وتُعَرِّفُ جَلَواتِ أسـمآئِكَ وَتُفَسـِّرُ تَوَدُّدَكَ وَتُعَرُّفَكَ بِمَا يَتـَقَطـَّرُ مِنْ ظَرَافَةِ عُيُونِ أزاهيِرهَا وَمِنْ طَرَاوَةِ أسْنَانِ سَنـَابِلِهَا مِنْ رَشَحَاتِ لَمَعَاتِ جَلَوَاتِ تَوَدُّدِكَ وتَعَرُّفِكَ إلى عِبَادِكَ.

سُبْحانَكَ يَا وَدُودُ يا مَعْروُفُ مَا أحسَنَ صُنْعَكَ وَمَا أزيَنـَهُ وَمـَا أبْيَنـَهُ وَمَا أتْقَنَهُ!

سُبْحانَكَ يَا مَن تُسَبـِّحُ بِحَمْدِكَ جَميعُ الأشْجَارِ بِكَمَالِ الصـَّرَاحَةِ وَالبَيـَانِ عِنْدَ انْفِتَاحِ أكمَامِهَا وَانْكِشافِ أزهَارِهَا وتَزايُدِ أورَاقِهَا وَتَكَامُلِ أثـمَارِهَا وَرَقْصِ بَنـَاتِهَا عَلى أيَادي أغْصَانهَا حَامدَةً بأفْوَاهِ أوراقِهَا الـخَضِرِةِ بِكَرمَكَ، وَأزهَارِهَا الـمُتَبـَسـّمَةِ بِلُطْفِكَ، وَاثـمَارِهَا الضـَّاحِكَةِ بِرِحْمَتِكَ، بِالسِنَةِ نِظَامِهَا في ميزَانِهَا في تَنْظيِمِهَا في تَوْزينهَا في صَنعَتِهَا في صِبْغَتِهَا في زِينَتِهَا في نُقُوشِهَا في طُعومِهَا في رَوَائحِهَا في ألوَانِهَا في أشكَالِهَا في اختِلافِ لُحُومِهَا في كَثْرَةِ تَنَوُّعِهَا في عَجَائبِ(2) خِلقَتِهَا كَمَا تَصِفُ صِفَاتِكَ وَتُعَرِّفُ أسْمَاءَكَ وتُفَسـِّرُ تَحَبـُّبَكَ وَ تَعـَهـُّدَكَ لِمَصنْوُعَاتِكَ بِمَا يَـتَـرَشـَّحُ مِنْ شِفَاهِ ثِمَارِهَا مِنْ قَطَراتِ رَشَحَاتِ لَـمَعَاتِ جَلَـوَاتِ تَـحَبـُّبِكَ وتَعَهـُّدِكَ لِمَخْلُوقَاتِكَ.

حَتـّى كَأنَّ الشـَّجَرَ الـمُزَهـَّرَةَ قَصيِدَةٌ مَنْظُومَةٌ مُحَرَّرَةٌ، لِتُنْشِدَ للِصـَّانعِ الـمَدَائِحَ الـمُبَهـَّرَةَ.

أو فَتَحَتْ بِكَثْرَةٍ عُيُونُهَا الـمُبَصـَّرَةُ لِتَنْظـُرَ للفَاطِرِ العَجَائِبَ الـمُنشـَّرَةَ.

أوْ زَيـَّنَتْ لِعيِدِهَا أعْضَاءهَا الـمُخَضـَّرَةَ لِيَشْهَدَ سُلْطَانُهَا آثَارَهَا الـمُنَوَّرَة. وَتُشْهِرَ في الـمَشْهَرِ مُرَصـَّعَاتِ الـجَوْهَرِ. وتَعُعْلِنَ للِبَشَرِ حِكْمَةَ خَلْقِ الشَجَرِ.

سُبْحَانَكَ مَا أحْسَنَ إحْسَانَكَ مَا أبْيَنَ تِبْيَانَكَ مَا أبْهَرَ بُرْهَانَكَ ومَا أظـْهَرَهُ ومَا أنْوَرَهُ!. سُبْحَانَكَ مَا أعْجَبَ صَنْعَتـَكَ!

تَلألُؤُ الضـِّيآءِ بدَلاَلَةِ حِكَمِهَا؛ مِنْ تَنْوِيؤِكَ، تَشْهِيرِكَ.. تَمَوُّجُ الاعْصَارِ بِسِرّ وَظَائِفِهَا – خُصُوصَاً في نَقْلِ الكَلِمَاتِ – مِنْ تَصْرِيفِكَ تَوْظِيفِكَ.. تَفَجـُّرُ الانْهَارِ بإشَارَةِ فَوَائِدِهَا؛ مِنْ تَدْخِيرِكَ، تَسْخِيرِكَ.. تَزَيـُّنُ الاحْجَارِ والـحَدِيدِ بِرمُوُزِ خَوَاصـِّهَا وَمَنـَافِعِها – خُصُوصاً فِي نَقْلِ الأصْواتِ والـمُخَابَرَاتِ – مِن تَدْبِيِرِكَ، تَصْوِيِرِكَ.. تَـبَسُّمُ الأزهَارِ بِعَجَائِبِ حِكَمِهَا؛ مِنْ تَحْسِينِكَ، تَزْيِينِكَ.. تَبَرُّجُ الاثـْمَارِ بِدلالَةِ فَوَائِدِهَا؛ مِنْ إنْعَامِكَ، إكْرَامِكَ.. تَسَجـُّعُ الأطْيَارِ بِإشَارَةِ إنْتِظَامِ شَرائَطِ حَيَاتِهَا؛ مِنْ إنطَاقِكَ إرفَاقِكَ.. تَهَزُّجُ الأمْطَارِ بِشَهَادَةِ فَوَائِدِهَا؛ مِنْ تَنْزِيِلكَ، تَفْضِيِلكَ.. تَحَرُّكُ الأقْمَارِ بِشَهَادَةِ حِكَمِ حَرَكَاتِهَا؛ مِنْ تَقْدِيرِكَ، تَدْبِيرِكَ، تَدْوِيرِكَ، تَنْوِيرِكَ.

سُبْحانَكَ مَا أنْوَرَ بُرهَانَك مَا أبْهَرَ سُلطَانَكَ!

(الفصل الثاني)

سُبْحَانَكَ لآ اُ حْصِي ثَنـَاءً عَلَيْكَ أنْتَ كَمَا أثْنَيْتَ عَلى نَفْسِكَ فيِ فُرْقَانِكَ. وَأثنَى عَلَيْكَ حَبِيبُكَ بِإذْنِكَ. وَأثنتْ عَلَيْكَ جَميِعُ مَصنْوُعَاتِكَ بإنْطَاقِكَ.

سُبْحَانَكَ مَا عَرَفْنَاكَ حقَّ مَعْرِفَتِكَ يا مَعْروُفُ بِمُعْزَاتِ جَميعِ مَصنوُعَاتِكَ وَبِتَوصِيفَاتِ جَميعِ مَخْلُوقَاتِكَ وَبِتَعْرِيِفَاتِ جَميعِ مَوْجُوُداتِكَ.

سُبْحَانَكَ مَا ذَكَرْنَاكَ حَقَّ ذِكْرِكَ مَذْكُورُ بِألسِنَةِ جَميعِ مَخلُوقَاتِكَ وَبِأنفُسِ جَميعِ كَلِمَاتِ كِتَابِ كَائِنَاتِكَ وَبِتَحـَّياتِ جَميعِ ذَويِ الـحَيـَاةِ مِنْ مَخْلُوقَاتِك لَك وَبِمَوْزُنَاتِ جَميعِ الاورَاقِ الـمُهْتَزَّةِ الذّاكِرَةِ في جَميعِ أشْجاَرِكَ ونَبـَاتَاتِكَ.

سُبْحَانَكَ مَا شَكَرْنَاكَ حَقَّ شُكْرِكَ يا مَشْكُورُ بِأثِنيـَةِ جَميعِ إحْسَانَاتِكَ عَلى إحْسَانِكَ عَلى رُؤسِ الأشْهَادِ وَبِاعْلانَاتِ جَميعِ نِعَمِكَ عَلى إنْعَامِكَ في سُوقِ الكَائنَاتِ وَبِمَنْظـُومَاتِ جَميعِ ثَمَرَاتِ رَحْمَتِكَ وَنِعْمَتِكَ لَدى أنْظَارِ الـمَخْلـُوقَاتِ وبِتَحْمِيدَاتِ جَميعِ مَوْزُونَاتِ أزاهيركَ وَعَنـَاقيدِكَ الـمُنَظـَّمَةِ في خُيُوطِ الأشْجَارِ وَالنَـبَاتَاتِ.

سُبْحَانَكَ مَا أعظَمَ شَأنَكَ وَمَا أزيَنَ بُرْهَانَكَ وَمَا أظْهَرَهُ وَمَا أبـْهَرهُ!

سُبْحَانَك مَا عَبَدْنَاكِ حَقَّ عِبَادَتِكَ يَا مَعْبُودَ جَميعِ الـمَلئِكَةِ وجَميعِ ذَوي الـحَيـَاةِ وجَميعِ العَنـَاصِرِ والـمَخْلُوقَاتِ، بِكَمَالِ الاطَاعَةِ والامْتِثَالِ والانتِظَامِ والاتـِّفَاقِ والاِشْتِيَاقِ.

سُبْحَانَكَ مَا سَبـَّحْنَاكَ حَقَّ تَسْبيحكَ يا مَنْ } تُسَبـِّحُ لهُ السـَّمواتُ السـَّبْعُ والأرْضُ وَمَنْ فيهنَّ وَإنْ مِنْ شَيءٍ إلاّ يُسَبـِّحُ بِحَمْدِه { (الاسراء:44).

سُبحَانَكَ تُسَبـِّحُ بِحَمْدِكَ السـَّمآءُ وَلأرضُ بِجَميعِ تَسْبيِحاتِ جَميعِ مَصْنوُعَاتِكَ وَبِجَميعِ تَحْميِدَاتِ جَميعِ مَخْلُوُقَاتِكَ لَكَ.

سُبْحَانَكَ تُسَبـِّحُ بِحَمْدِكَ الأرضُ وَالسـَّمَآءُ بِجَميعِ تَسْبيِحَاتِ جَميعِ أنْبيَائِكَ وَأولِيَائِكَ وَمَلائِكَتِكَ عَليِهِمْ صَلَوَاتُكَ وَتَسْليِمَاتُكَ.

سُبْحَانَكَ تُسَبـِّحُ بِحَمْدِكَ الكَائِنَاتُ بِجَميعِ تَسْبيِحَاتِ حَبيبِكَ الأَكْرَمِ e . وَبِجَميعِ تَحْميِدَاتِ رَسُولِكَ الأعْظَمْ لَكَ، عَلَيهِ وَعَلى آلهِ أفْضَلُ صَلَوَاتِكَ وَأتَمُ تَسْلِيمَاتِكَ.

سُبْحَانَكَ يا مَنْ تُسَبـِّحُ بِحَمْدِكَ هذِهِ الكَائِنَاتُ بِأصْدِيَةِ تَسْبيِحَاتِ مُحَمـَّدٍ عَلَيهِ الصَلاةُ والسـَّلامُ لَكَ؛ إذْ هُوَ الـَّذِي تتَمَوَّجُ أصْدِيَةُ تَسْبيحَاتِهِ لَكَ عَلى لأمْوَاجِ الأعْصَارِ واَفْوَاجِ الأَجْيَالِ.

الـَّلهُمَّ فَأبـِّدْ عَلى صَفَحَاتِ الكَائِنَاتِ وَأوْرَاق الاوْقَاتِ إلى قَيامِ العَرَصَاتِ أصْدِيَةَ تَسْبيحَاتِ مُحَمـَّدٍ عَلَيهِ الصَلاَةُ والتَسْليماتُ.

سُبْحَانَكَ يا مَنْ تُسَبـِّحُ بِحَمْدِكَ الدُنْيَا بِآثَارِ شَريِعَةِ مُحَمـَّدٍ عَلَيهِ الصَلاةُ وَالسـَّلامُ. اَلـَّلهُمَّ فَزَيـِّنِ الدُّنيَا بِآثارِ دِيَانَةِ مُحَمـَّدٍ عَلَيهِ الصَلاةُ وَالسـَّلامُ اِلى يَوْمِ القِيَامِ.

سُبْحَانَكَ يا مَنْ تُسَبـِّحُ بِحَمْدِكَ الأرضُ سَاجِدَةً تَحتَ عرْشِ عَظَمَةِ قُدْرَتِكَ بِلِسَانِ مُحَمـَّدِهَا عَلَيهِ الصَلاةُ وَالسـَّلامُ.

اَلـَّلهُمَّ فَأنْطِقِ الأرضَ بِاقْطَارِهَا بِلِسَانِ مُحَمـَّدٍ عَلَيهِ الصَلاةُ وَالسـَّلامُ اِلى يَوْم البَعْثِ والقيَامِ.

سُبْحَانَكَ يَا مَنْ تُسَبـِّحُ بِحَمْدِكَ جَميعُ الـمُؤمِنينَ وَالـمُؤْمِنَاتِ في جَميعِ الأمْكِنَةِ وَالاوْقَاتِ بِلِسَان مُحَمـَّدِهِمْ عَلَيهِ الصَلاةُ وَالسـَّلامُ.

اللـَّهُمَّ فَاَنْطِقِ الـمُؤمِنِينَ وَالـمُؤمِنَاتِ اِلى يَومِ القِيَامِ بِأصْدِيَةِ تَسْبيحَاتِ مُحَمـَّدٍ لك عَلَيهِ الصَلاةُ وَالسـَّلامُ.

(الفصل الثالث)

ذُو الـجَلال سُبْحَانَ اللهِ الوَاحِدِ الأحَدِ الـمُتَقَدِّسِ الـمُتَـنَزّهِ عَنِ الاضْدَادِ وَالأنْدَادِ وَالشُرَكَاءِ.

ذُو الـجَلال سُبْحَانَ اللهِ القَدِيِرِ الأزَليّ الـمُتَـقَدِّسِ الـمُتَـنَزِّهِ عِنِ الـمُعينِ وَالوُزَرَاءِ.

ذُو الـجَلال سُبْحَانَ اللهِ القَدِيمِ الأزَليِّ الـمُتَقَدِّسِ الـمُتَنـَزِّهِ عَنْ مُشَابَهَةِ الـمُحْدثَاتِ الزَّائِلاَتِ.

ذُو الـجَلال سُبْحَانَ اللهِ الوَاجِبِ وُجُوُدُهُ الـمُممْْتَنِعِ نَظيرُهُ الـمُمكِنِ كُلُّ مَا سِوَاهُ الـمُتَقَدِّسِ الـمُتَنـَزِّهِ عَنْ لَوَازِمِ ما هيـَّاتِ الـمُمْكِنَاتِ.

ذُو الـجَلال سُبْحَانَ اللهِ الـَّذي } لَيسَ كَمِثِلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السـَّميعُ البَصيِرُ{ (الشورى:11) الـمُتَقَدِّسُ الـمُتَـنَزِّهُ عَمـَّا تَتـَصوَّرُهُ الأوْهَامُ القَاصِرَهُ الـخَاطِئَةُ.

ذُو الـجَلال سُبْحَانَ اللهِ الـَّذي } وَلَهُ الَمَثَلُ الأَعلَى فِي السـَّموَاتِ وَالأَرضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ { (الروم:27) الـمُتَقَدِّسُ الـمُتَـنَزِّهُ عَمـَّا تَصِفُهُ العَـقَائِدُ النَاقِصَةُ البَاطِلَةُ.

ذُو الـجَلال سُبْحَانَ اللهِ القَديِرِ الـمُطْلَقِ الغَنـيِّ الـمُتَقَدِّسِ الـمُتَـنَزِّهِ عَنِ العَجْزِ والاحْتِياجِ.

ذُو الـجَلال سُبْحَانَ اللهِ الكاملِ الـمُطْلَقِ في ذاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأفْعالِهِ الـمُتَقـَدِّسِ الـمُتَـنَزِّهِ عَنِ القُصًورِ والنـُّقْصَانِ، بِشَهَادَاتِ كَمَالاتِ الكائِنَاتِ. إذْ مَجْمُوعُ مَا في الكائِنَاتِ مِن الكَمالِ وَالـجَمَالِ ظِلُّ ضَعيفٌ بِالنـّسْبَةِ الى كَمَالهِ سُبْحَانَهُ، بالـحَدْسِ الصـَّادِقِ وَبِالبُرْهَانِ القَاطِعِ وبالدَّليل الوَاضِحِ. إذِ التـَّنْويرُ لا يَكُونُ إلاّ مِنَ النـُّورانِيِّ وبِدَوَامِ تَجَلـّي الـجَمَالِ وَالكَمَالِ مَعَ تَفَانِي الـمَرَايا وسَيـَّاليـَّةِ الـمَظَاهِرِ وبِاجْمَاعِ وَاتـِّفَاقِ جَمَاعَةٍ كَثيرَةٍ مِنَ الأعَاظِمِ الـمُخْتَلِفِينَ في الـمَشَارِبِ والكَشْفِيـَّاتِ الـمُتـَّفِقِينَ عَلى ظِلـّيـَّةِ كَمَالاتِ الكِائِنـَاتِ لأنْوَارِ كَمالِ الذَاتِ الوَاجِبِ الوُجُودِ.

ذُو الـجَلال سُبْحَانَ اللهِ الاَزَليِّ الأبَديِّ السـَّرْمَديِّ الـمُتَقَدِّسِ الـمُتَـنَزِّهِ عَنِ التـَّغَيـُّرِ والتـَّبِدُّلِ اللاّزِمَيْنِ للمُحْدَثَاتِ الـمُتَجَدّدات الـمُتكامِلاتِ.

ذُو الـجَلال سُبْحَانَ اللهِ خَالِقِ الكَوْنِ وَالمَكَانِ الـمُتَقَدِّسِ الـمُتَـنَزِّهِ عَنِ التـَّحَيـُّز وَالتـَّجَزُّءِ اللاَّزِمَيْنِ للمَادّيـَّاتِ وَالـمُمْكِنَاتِ الكَثيِفَاتِ الكَثيِراتِ الـمُقَيـَّدَاتِ الـمَحْدُودَاتِ.

ذُو الـجَلال سُبْحَانَ اللهِ القَديِمِ الباقِي الـمُتَقَدِّسِ الـمُتَـنَزِّهِ عَنِ الـحُدُوثِ وَالزَّوَالِ.

ذُو الـجَلال سُبْحَانَ اللهِ الوَاجِبِ الوُجُودِ الـمُتَقَدِّسِ الـمُتَـنَزِّهِ عَنِ الوَلَدِ وَالوَالِدِ وَعَنِ الـحُلُول والإتـّحَادِ وَعَنِ الـحَصْرِ وَالتـَّحْدِيدِ وَعَمـَّا لا يَليِقُ بِجَنَابِهِ وَمَا لايُنَاسِبُ وَجوُبَ وُجُودِهِ وَعَمـَّا لا يُوَاقِقُ اَزَلِيـَّتَهُ وَ اَبَدِيـَّتَهُ.

جَلَّ جَلالُهُ. وَلآ إلهَ إلاّ هُوَ.







الباب الثاني

في ((الـحَمْدُ لله..))(1)

في هذا الباب تسع تقاط..



النقطة الأولى:

الـحَمْدُ للهِ عَلى نِعَمَةِ الإيَمانِ الـمُزيلِ عَنـَّا ظُلُمَاتِ الجِهَاتِ السـِّتّ.

إذْ جِهةُ الـمَاضِي في حُكْمِ يَميننا مُظْلِمَةٌ وَمُوحِشَةٌ بِكَونِهَا مَزَاراً أكبَرَ. وبِنِعْمَةِ الإيـمانِ تَزُولُ تـِلكَ الظـُّلْمَةُ وَيـَنْكَشِفُ الـمَزَارُ الأكْبَرُ عَنْ مَجْلِسٍ مُنَوَّرٍ.

وَ يَسَارُنَا الـَّذي هُوَ الـجِهَةُ الـمُسْتَقْبَلَةُ، مُظْلِمَةٌ وَمُوحِشَةٌ بِكَوْنِهَا قَبراً عَظيمَاً لَنَا. وبِـنِعْمَةِ الإيَمانِ تَنْكَشِفُ عَنْ جـِنـَانٍ مُزَيـَّنَةِ فيهَا ضِيافَاتٌ رَحْمَانـَّيةٌ.

وَجِهَةُ الفَوقِ وَهُوَ عَاَلـَمُ السـَّمواتِ مُوحِشَةٌ مُدْهِشَةٌ بِنَظَرِ الفَلسَفَةِ. فَبِنِعْمَةِ الإيـمَانِ تتَكَشـَّفُ تِلكَ الـجِهَةُ عَنْ مَصابِيحَ مُتـَبـَسـِّمَةٍ مُسَخـَّرةٍ بِأمْرِ مَنْ زَيـَّنَ وَجه السـَّماءِ بِهَا يُسْتَأنَسُ بـِهـَا وَلا يُتَوَحـَّشُ مِنْهَا.

وَجِهَةُ الـتَّحْتِ وَهيَ عَالَمُ الأرضِ مُوحِشَةٌ بِوَضْعيـَّتِهَا في نَفْسِهَا بِنَظَرِ الفَلسَفَةِ الضـَّالـَّةِ. فَبِنعْمَةِ الإيـمَانِ تَتكَشـَّفُ عَنْ سَفينَةٍ رَبـَّانيَةٍ مُسَخـَّرَةٍ وَمَشْحُونَةٍ بِاَنْوَاعِ اللـّذَائِذِ والـمَطْعُومَاتِ؛ قَدْ اَركَبَهَا صَانِعُهَا نَوعَ البَشَرِ وَجِنسَ الـحَيَوَانِ للسـَّياحَةِ في أطْرَافِ مَملَكَةِ الرَّحْمنِ.

وَجِهَةُ الأمَامِ الـَّذي يَتـَوَجَهُ الى تِلكَ الجِهَةِ كُلُّ ذَوي الـحَـيَاةِ مُسْرِعَةً قَافِلَةً خَلفَ قَافِلَةٍ، تَغيبُ تِلكَ القَوافِلُ في ظُلُمَاتِ العَدَمِ بِلا رُجُوعٍ. وَبِنـِعْمـَةِ الإيَمَان تَتَكَشـَّفُ تِلكَ السِياحَةُ عَنِ انتِقَالِ ذَوي الـحَياةِ مِنَ دَارِ الفَنَاءِ الى دَارِ البَقآءِ، وَمِنْ مَكَانِ الـخِدْمَةِ اِلى مَوضِعِ أخْذِ الأُجْرَةِ، وَمِنْ مَحَلِّ الزَّحْمَةِ الى مَقامِ الرَّحْمَةِ والاستِرَاحَةِ. وَأمَا سُرعَةُ ذَوي الـحَيـَاةِ في أمْوَاجِ الـمَوتِ، فَلَيْسَتْ سُقوُطاً وَمـُصيبـَةً، بل هِيَ صُعٌودٌ باشتِيِاقٍ وَتـَسَارُعٌ اِلى سَعادَاتِهِمْ.

وَجِهَةُ الـخَلْفِ ايضاً مُظْلِمَةٌ مُوحِشَةٌ. فَكُلُّ ذي شُعُورٍ يَـتَحيـَّرُ مُتَرَدِّداً ومُستَفْسِراً بـ ((مِنْ أينَ ؟ إلى أينَ؟)). فلأَنَّ الغَفْلَةَ لا تُعْطي لهُ جَوَابَاً، يَصيرُ التَرَدُّدُ والتـَّحَيـُّرُ ظُلُمَاتٍ في رُوحِهِ.. فَبِنِعْمَةِ الإيـمَانِ تَنْكَشِفُ تِلكَ الـجِهَةُ عَنْ مَبْدَإِ الانْسَانِ وَوَظيفَتِهِ، وَبِأنَّ السُّلطَانَ الاَزَليَّ أرسَلَهُمْ مُوَظَفينَ الى دَارِ الامْتِحَانِ..

فَمِنْ هذه الـحَقيقَة يَكوُنُ ((الـحَمْدُ)) عَلى نِعْمَةِ الإيـمَانِ الـمُزيلِ للِظـُّلُمَاتِ عَنْ هذِه الـجِهَاتِ السـِّتِّ أيضاً نِعْمَةً عَظيمَةً تَسْتَلْزِمُ ((الـحَمْدَ)). إذْ بـ((الـحَمْدِ)) يُفْهَمُ دَرَجَةُ هذِهِ النـَّعْمَةِ وَلَـذَّتُهَا. فَالـحَمْدُ لله عَلى ((الـحَمْدُ للهِ في تَسَلسُلٍ يَـتَسَلسَلُ في دَوْرٍ دَآئرٍ بِلا نِهَايَةٍ)).

النقطة الثانية:

الـحَمْدُ للهِ عَلى نِعْمَةِ الإيـمَانِ الـمُنَوِّرِ لَنَا الـجِهَاتِ السِّتَّ. فَكَمَا أنَّ الإيـمَانَ بإزَالَتِهِ لِظُلُمَاتِ الـجِهَاتِ السِّتِّ نِعْمَةٌ عَظيِمَةٌ مِنْ جِهَةِ دَفْعِ البَلايا؛ كَذَلِكَ أنَّ الإيـمَانَ لِتَنْوِيرِهِ لِلَجِهَاتِ السِّتِّ نِعْمَةٌ عَظيِمَةٌ اُخْرى مِنْ جِهَةِ جَلْبِ الـمَنَافِعِ. فَالانسَانُ لعلاَقَتهِ بِجَامِعيـَّةِ فِطْرَتِهِ بِمَا في الـجِهَاتِ السِّتِّ مِنَ الـمَوجُودَاتِ. وَبِـنِعْمَةِ الإيـمَانِ يُمْكِنُ لِلإنسَانِ اِسْتِفَادَةٌ مِنْ جِميعِ الـجِهَاتِ السِّتِّ أيْنَمَا يَـتَوَجـَّهُ. فَبِسِرِّ } فأيَنما تُوَلُوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ { (البقرة:115) تَـتَـنَوَّرُ لهُ تِلكَ الـجِهَةُ بِمَسَافَتِهَا الطـَّوِيلَةِ بِلاَ حَدٍّ. حَتـَّى كأَنَّ الانسَانَ الـمُؤْمِنَ لَهُ عُمْرٌ مَعْنَوِيٌّ يَمْتَدُّ مِنْ أوَلِ الدُّنيَا إلى آخِرِهَا، يَسْتـَمِدُّ ذَلِكَ العُمْرُ من نُور حَيـَاةٍ مُمْتَدَّةٍ من الأزَلِ الى الأبَدِ. وحتى إنَّ الإنسَانَ بسرِّ تَنْويرِ الإيـمَانِ لِجِهَاتِهِ يَخْرُجُ عَنْ مَضِيقِ الزَّمَانِ الـحَاضِرِ وَالـمَكَانِ الضـَّيـِّقِ الى سَاحَةِ وُسْعَةِ العَالَم، ويَسيرُ العَالَمُ كَبَيتِهِ، والـمَاضِي وَالـمُسْتَقْبَلُ زَمَانَاً حَاضِرَاً لِرُوحِهِ وَقَلْبِهِ. وَهَكَذا فَقِسْ…

النُقطة الثالثة:

الـحَمْدُ للهِ عَلى الإيـمَانِ الـحَاوي لِنُقطَتَي الاسْتِنَاد وَالاسْتِمْدَادِ.

نَعَمْ، بِسِرِّ غَايَةِ عَجْزِ البَشَرِ وَكَثَرةِ أعْدَائِهِ يَحتَاجُ البَشَرُ أشَدَّ احتِيَاج إلى نُقطَةِ اسْتِنَادٍ يَلْتَجِىءُ إلَيْهِ بِدَفْعِ أعْدآئِهِ الغَيْر(1) الـمَحْدُودَةِ، وَبِغايَةِ فَقْرِ الانسَانِ مَعَ غَايَةِ كَثَرةِ حاجَاتِهِ وَآمَالِهِ يَحْتَاجُ أشَدَّ احتِيَاجٍ الى نُقطَةِ اسْتِمدَادٍ يَستَمِدُّ مِنْهَا، وَيـَسْألُ حَاجَاتِهِ بِهَا.

فَالإيَمَانُ باللهِ هِيَ نُقطَةُ اسْتِنَادٍ لِفِطَرةِ البَشَر. وَالإيـمَانُ بِالآخِرَةِ هُوَ نُقطَةُ اِسْتِمدَادٍ لِوِجْدَانِهِ. فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ هَاتَينِ النـُّقطَتَينِ يَـتَوَحـَّشُ عَلَيهِ قَلبُهُ وَرُوحُهُ، ويَعُذِّبُهُ وِجدَانُهُ دآئِماً. وَمَنْ اسْـتَـنَدَ بالإيـمَانِ إلى النُقطَةِ الاوُلَى، وَاسْتَمَدَّ مِنَ النُقطَةِ الثـَّانِيَة أحسَّ مِنْ أعْماقِ رُوحِهِ لَذَائِذَ مَعْنَويـَّةً وَأُنْسِيَةً مُسَلـّيَةً وَاعْتِمَاداً يَطْمَئِنُّ بِهَا وِجْدَانُهُ.



النُقطة الرابعة:

الـحَمْدُ للهِ عَلى نُورِ الإيـمَانِ الـمُزيلِ للآلآمِ عَنِ اللـَّذَائِذِ الـمَشْرُوعَةِ بِإراءَةِ دَوَرَانِ الامْثَالِ، وَالـمُدِيمِ للنـِّعَم بِإراءَةِ شَجَرَةِ الإنْعَامِ، وَالـمُزيلِ آلامَ الفِرَاقِ بإراءةِ لَذَّةِ تَجَدُّدِ الامثَالِ. يَعْنِي أنَّ في كُلِّ لَذَّةٍ آلاماً تَنشَأ مِنْ زَوَالِهَا. فَبِنُورِ الإيـمَانِ يَزُولُ الـزَّوَالُ، وَيـَـنَقَلِبُ الى تَجَدُّدِ الامثَالِ. وَفي التـَّجَدُّدِ لّذَةٌ أُخرى..

فَكَمَا أنَّ الثـَّمَرَةَ إذا لَمْ تُعْرَفْ شَجَرَتُهَا تَنْحَصِرُ النـِّعْمَةُ في تِلك الثـَّمَرَةِ. فَتَزُولُ بِأكْلِهَا. وَتُورِثُ تَأسـُّفاً عَلى فَقْدِهَا. وإذا عُرِفَتْ شَجَرَتُها وَشُوهِدَتْ، يَزُولُ الاَلَمُ في زَوَالِهَا لِبَقَاءِ شَجَرَتِهَا الـحَاضِرَةِ، وَتَبْديلِ الثـَّمَرَةِ الفَانِيَةِ بِأمْثَالِهَا. وَكَذَا إنَّ مِنْ أشَدِّ حَلاتِ رُوحِ البَشَرِ هِيَ التـَّألـُّمَاتُ النـَّاشِئَةُ مِنَ الفِرَاقَاتِ. فَبِنُورِ الإيـمَانِ تَفتَرِقُ الفِرَاقَاتُ وَتَـنْعَدِمُ. بَل تَنْقَلِبُ بِتَجَدُّدِ الامثَالِ الـذَّي فيهِ لذَّةٌ أُخرى إذ ((كُلُّ جَدَيدٍ لَذِيذٌ))...

النقطة الـخامسة:

الـحَمْدُ للهِ عَلى نُورِ الإيـمَانِ الـذَّي يُصَوِّرُ مَا يُتَوَهـَّمُ أعْدآءً وَاجَانِبَ وَامْوَاتَاً مُوحِشينَ، وَايْتَاماً باكين مِنَ الـمَوجُودَاتِ، أحْبَاباً وإخْوَانَاً وَأحْيَاءً مُونِسِينَ، وَعِبَادَاً مُسَبِّحينَ ذَاكِرِينَ..

يَعْني أنَّ نَظَرَ الغَفلَةِ يَرى مَوجُودَاتِ العَالَمِ مُضرِّينَ كَالاَعْداءِ وَيـَـتَوَحـِّشُ مِنْ كُلِّ شىءٍ، وَيـَرَى الاَشْيَآءَ كَالاجانِبِ. إذْ في نَظَرِ الضـَّلاَلَةِ تَنْقَطِعُ عَلاَقَةُ الاُخُوَّةِ في كُلِّ الاَزمِنَةِ الـمَاضِيَةِ وَالاسْتِقْبَاليـَّةِ. وَمَا اُخُوَّتُهُ وَعَلاقَتُهُ إلاّ في زَمَانٍ حَاضِرٍ صَغيرٍ قَليِلٍ. فاُخُوَّةُ أهْلِ الضـَّلالَة كَدقَيقَةٍ في اُلُوفِ سَنَةٍ مِنَ الاجْنَبِيـَّةِ. وَاُخُوَّةُ أهْلِ الإيـمَانِ تَمتَدُّ مِنْ مَبْدَإِ الـمَاضِي إلى مُنتهَى الاسْتِقبَالِ. وَاِنَّ نظَرَ الضـَّلالَةِ يَرى أجْرَامَ الكائِنَاتِ أمْوَاتَاً مُوحِشينَ. وَنـَظَرَ الإيـمَان يُشَاهِدُ اُولئكَ الاجْرَامَ أحْياءً مُونِسينَ يَـتَكَلـَّمُ كُلُّ جرْم بِلِسَانِ حالِهِ بِتَسْبيحَاتِ فاطِرِهِ. فَلَها رُوُحٌ وحَيَاةٌ مِنْ هذِهِ الـجِهَةِ. فَلا تَكُونُ مُوحِشَاً مَدْهِشَاً، بلْ انيسَاً مُونِساً. وَانَّ نَظَرَ الضـَّلالَةِ يَرَى ذَوي الـحَيَاةِ العَاجِزينَ عَنْ مَطَالِبِهمْ لَيسَ لَهُمْ حَامٍ مُتَوَدِّدٌ وَصَاحِبٌ مُتَعَهـِّدٌ. كَأنَهَا أيتَامٌ يَبكُونَ مِنْ عَجْزِهِمْ وَحُزْنِهِمْ وَيَأسِهِمْ. وَنَظَر الإيـمَانِ يَقُولُ: إنَّ ذَوي الـحَيَاةِ لَيسُوأيتَامَاً بَاكينَ، بَل هُمْ عِبَادٌ مُكَلـَّفُونَ وَمَأمُورونَ مُوَظـَّفُونَ وَذَاكِرونَ مُسَبـِّحُونَ.

النُقطة السادسة:

الـحَمْدُ للهِ عَلى نُورِ الإيـمَانِ الـمُصَوِّرِ للدَّارَينِ كَسُفرَتـَينِ مَمْلـُوءتَينِ مِنَ النـِّعَمِ يَستَفِيدُ مِنْهُمَا الـمُؤمِنُ بيَدِ الإيـمَانِ بِأنوَاعِ حَوَاسـِّهِ الظَاهِرةِ وَالبَاطِنَةِ، وَ اَقسَامِ لَطَائِفِهِ الـمَعنَويَةِ وَالرُوحِيَةِ الـمُنْكَشِفَةِ بَضِيَاءِ الإيـمَانِ.

نَعَمْ: إنَّ في نَظَرِ الضـَّلالَةِ تتَصَاغَرُ دائِرَةُ اسْتِفَادَةِ ذَوي الـحَيَاة الى دائِرَةِ لَذائِذهِ الـْمَادِّيـَّة الـمُنَغـَّصَةِ بِزَوَالِهَا. وَبِنُورِ الإيـمَانِ تتَوَسـَّعُ دَائِرَةُ الاسْتِفَادَةِ الى دآئِرَةِ تُحيطُ بِالسـَّمَواتِ وَالارضِ بَلْ بِالدُّنيَا وَالآخِرَةِ. فَالـمُؤمِنُ يَرى الشـَّمسَ كَسِراجٍ في بَيْتِهِ وَرَفيقَـاً في وَظيفَتِهِ وأنِيسَاً في سَفَرِهِ؛ وَ تَكُونُ الشـَّمْسُ نِعْمَةً مِنْ نِعَمِةً. وَمَنْ تَكُونُ الشـَّمْسُ نِعْمَةً لَهُ؛ تَكُونً دائِرَةُ استِفَادَتِهِ وَسُفرَةُ نِعَمَتِهِ أوسَعَ مِنَ السـَّمَواتِ.

فَالقُرآنُ الـمُعْجِزُ البَـيَانِ بِامثَالِ } وَسَخـَّرَ لَكُمُ الشـَّمسَ وَالقَمَرَ ` وَسَخـَّرَ لَكُمْ مَا في البَرِّ والبَحرِ { يُشيِرُ ببَلاَغَتِهِ إلى هذِهِ الإحسانَاتِ الـخَارِقَةِ النَاشِئَةِ مِنَ الإيـمَانِ.

النقطة السابعة:

الـحَمْدُ للهِ عَلى اللهِ. فَوُجُودُ الوَاجِبِ الوُجوُدِ نِعْمَةٌ لَيسَتْ فَوقَهَا نِعْمَةٌ لِكُلِّ أحدٍ ولِكُلِّ مَوجُودٍ. وهذِهِ النـِّعْمَةُ تَـتَضَمـَّنُ أنوَاعَ نِعَمِ لا نِهَايَةَ لَهَا، وَأجْنَاسِ إحْسَانَاتٍ لا غَايَةَ لَهَا، وأصْنَافَ عَطـَّياتٍ لا حَدَّ لَهَا.

قد اشير الى قسم منها في اجزاء ((رسالة النور)) وبالـخاصة (في الـموقف الثالث من الرسالة الثانية والثلاثين). وكل الرسائل الباحثة عن الإيـمان بالله من أجزاء رسالة النور تكشف الـحجاب عن وجه هذه النعمة. فإكتفاءً بها نقتصر هنا.

الـحَمْدُ للهِ عَلى رَحْمَانِيـَّتِهِ تَعَالى التي تَـتَضَمـَّنُ نِعَمَاً بَعَدَدِ مَنْ تَـعَلـَّقَ بِهِ الرَّحْمَةُ مِنْ ذَوي الـحَياة. إذ في فِطَرةِ الانسَانِ بِسِرِّ جَامِعيـَّتِهِ عَلاقَاتٌ بِكُلِّ ذَوي الـحَيَاة تَحصُلُ لَهُ سَعَادَةٌ مَعْنويـَّةٌ بِسَبـَبِ سَعَادَاتِهِمْ. وَفي فِطَرتِهِ تَأثـُّرٌ بِآلامِهِمْ. فَالنـِّعْمَةُ عَليهِم تـَكوُنُ نَوعَ نِعْمَةِ لِذلِكَ الانسَانِ.

والـحَمْدُ للهِ عَلى رَحِيمِيـَّتِهِ تَعَالى بَعَدَدِ الاطفَالِ الـمُنْعَمِ عَلَيهِمْ بِشَفقَاتِ والِدَاتِهِمْ. إذ كَمَا أنَّ كُلُّ مَنْ لَهُ فِطرَةٌ سَليمَةٌ يَـتَألـَّمُ وَ يَـتَوَجـَّعُ مِنْ بُكَاءِ طِفلٍ جَائِع لا وَالِدَةَ لـّهُ؛ كذَلِكَ يَـتَـنَعـَّمُ بِتَعَطـُّفِ الوَالِداتِ عَلى أطفَالِهَا.

الـحَمْدُ للهِ عَلى حَكيِميـَّتِهِ تَعَالى بِعَدَدِ دقَائِقِ جِميعِ أنوَاعِ حِكمَته في الكائنَاتِ. إذْ كمَا تـَتـَـنَعـَّمُ نَفْسُ الإنْسَانِ بِجَلَوَاتِ رَحْمانِيـَّتِهِ، ويـَتـَـنَعـَّمُ قَلبُ الانسَانِ بِتَجَلـَّيَاتِ رَحيِميـَّتِهِ؛ كَذَلِك يـَتـَلَذَّذُ عَقلُ الانسَانِ بِلَطَائفِ حِكمتِهِ.

الـحَمْدُ للهِ عَلى حَفيِظيـَّتِهِ تَعَالى بِعَدَدِ تَجَلـِّيَاتِ اسـمِهِ ((الوَارِثِ))، وبِعَدَدِ جَميعِ مَا بَقيَ بَعدَ فَوَاتِ اُصُولِهَا وَابآئهَا وَصَواحِـبِهَا، وَبِعَدَدِ مَوجُودَاتِ دَارِ الآخِرَةِ، وبِعَدَدِ آمَالِ البَشَرِ الـمَحْفُوظَةِ لاَجلِ الـمُكافأةِ الاُخرَويـَّةِ. إذْ دَوَامُ النـِّعْمَةِ اعْظَمُ نعمَةً مِنْ نَفسِ النـِّعْمَةِ وَبَـقَاءُ الـَّلـذَّةِ لـَذَةٌ أعلى لـَذَّةً مِنْ نَفسِ اللـَّذَّةِ؛ والـخُلودُ في الـجـَنـَّةِ نِعْمَةٌ فَوْقَ نَفْسِ الـْجَنـَّةِ. وهَكَذا.

فَحَفِيظـِيـَّتُهُ تَعَالى تـَتـَضَمـَّنُ نِعَماً اَكَثَر وَ اَزيَدَ وَ اَعلى مَنْ جَميعِ النـِّعَمِ عَلى الـمَوجُوداتِ في جَميعِ الكائِنَاتِ.

وهكَذا، فَقِسْ عَلى اسمِ ((الرَّحـمن والرَّحيمِ وَالـحَكيِمِ وَالـحَفيِظِ)) سآئِرَ أسْمَائِهِ الـحُسْنى.

فالـحَمْدُ للهِ عَلى كُلِّ اسم مِنْ أسْمآئِهِ تَعَالى حَمداً بِلا نِهايَةٍ. لِمَا أنَّ في كُلِّ اسم منها نِعَمَاً بِلا نِهَايَةٍ.

الـحَمْدُ للهِ عَلى القُرآنِ الـَّذي هُوَ تَرْجُمَانٌ لكُلِّ مَامَضى مِنْ جَميعِ الإنْعَامَاتِ الـَّتي لا نِهَايَةَ لَهَا حَمْداً بلا نِهَايَةٍ.

الـحَمْدُ للهِ عَلى مُحَمـَّدٍ عَليهِ الصـَّلاةُ وَالسـَّلامُ حَمْداً بِلا نِهَايَة. إذْ هُوَ الوسيلَةُ للإِيـمَانِ الـَّذي فيهِ جَميعُ الـمَفَاتـِيحِ لِجَميعِ خَزَائِنِ النـِّعَمِ التي أشَرْنَا إليهَا في هذَا البَابِ الثـَّاني آنفَاً.

الـحَمْدُ للهِ عَلى نِعْمَةِ الإسْلامِيـَّة الـَّتي هيَ مَرضيـَّاتُ رَبِّ العَالَمينَ، وفِهرِسْتَةٌ لاَنْوَاعِ نِعَمِهِ الـمَادِّيـَّةِ وَالـمَعْنَويـَّةِ، حَمْداً بِلا نِهَايَةٍ.

النقطة الثامنة:

الـحَمْدُ للهِ الـَّذي يَحْمَدُ لَهُ وَيُثنِي عَلَيِهِ بِإظهَارِ أوصَافِ جَمَالِهِ وَكَمَالِهِ، هذَا الكِتَابُ الكَبيرُ الـمُسَمـّى بـ((الكائِنَاتِ)) بـجَميعِ ابوَابِهِ وَفُصوُلـِهَا، وبِجَميعِ صَحائِفِهِ وَسُطـُورِهَا، وبِجَميع كَلِمَاتِهِ وَحُرُوفِهَا، كُلٌّ بِقَدَرِ نِسْبَتِهِ يَحْمَدُهُ تَعَالى وَيُسَبـِّحُهُ بِإظهَارِ بَوَارقِ اَوصَافِ جَلالِ نَقـَّاشِهِ الاحَدِ الصـَّمَدِ بِمَظهَرِيـَّةِ كُلٌّ بَقَدَرِ نِسْبَتِهِ لأضْوَاءِ أَوْصَافِ جَمَالِ كَاتِبِهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَبِمَظْهَرِيـَّةِ كُلٌّ بِقَدَرِ نِسْبَتِهِ لأنوارِ أوْصَافِ كمالِ مُنْشِئها ومُنْشِدِها القَديرِ العْليمِ العَزيزِ الـحَكِيمِ، وَبِمِرآتـَّيةكلٌّ بَقَدَرِ نِسْبَتِهِ لاَشِعـَّةِ تَجَلـِّيَاتِ أسْماءِ مَنْ لَهُ الاَسْماءُ الـحُسنى. جَلَّ جَلالُهُ ولا إلهَ إلاّ هُوَ.

النقطة التاسعة:

الـحَمْدُ – مِنَ اللهِ باللهِ عَلى اللهِ – للهِ بَعَدَدِ ضَرْبِ ذَرَّاتِ الكائِنَاتِ مِنْ أوَّلِ الدُّنيَا الى آخِرِ الـخِلقَةِ في عَاشِرَاتِ دَقائِقِ الأزمِنَةِ مِنَ الأزَلِ الى الأبَدِ.

الـحَمْدُ للهِ عَلى ((الـحَمْدُ للهِ)) بِدَورٍ دآئِرٍ في تَسَلسُلٍ(1) يـَتـَسَلسَلُ إلى مَلا يـَتـَنـَاهى.

الـحَمْدُ للهِ عَلى نِعْمَةِ القُرآنِ وَالإيـمَانِ عَلَيَّ وَعَلى إخوَاني بِعَدَدِ ضَرْبِ ذَرَّاتِ وُجودِي في عَاشِرَاتِ دَقَائقِ عُمْري في الدُّنيَا، وَبـَقـَائِي وبَقائِهِمْ في الآخِرَةِ.

} سُبـحانَكَ لاَ عِلـم لَنَا إِلاّ ما عَلـَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليـم الـحكيـم{ (البقرة:32).

} الـحَمْدُ للهِ الـَّذي هَدينَا لِهذا وَمَا كُنـَّا لِنَهْتَدِيَ لَولا أنْ هَدينَا اللهُ لقَدْ جَآءتْ رُسُلُ رَبـِّنَا بِالـحَقِّ { (الاعراف:43)

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى سَيـِّدِنَا مُحَمـَّدٍ بَعَدَدِ حَسَنَاتِ اُمـَّتِهِ وَعَلى آلهِ وَصَحْبِهِ وسَلـَّمْ آمينَ

وَالـحَمْدُ للهِ ربِّ العَالَمِينْ
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-02-2011
  #29
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: اللمعات

الباب الثالث

في مراتب

((الله اكبر))

((سنذكر سبعاً من ثلاث وثلاثين مرتبة لـهذا الباب، حيث قد ذُكر قسمٌ مهم من تلك الـمراتب في الـمقام الثاني من الـمكتوب العشرين، وفي نهاية الـموقف الثاني من الكلمة الثانية والثلاثين، وفي بداية الـموقف الثالث منها. فمن شاء أن يطلع على حقيقة هذه الـمراتب، فليراجع تلك الرسائل)).

الـمرتبة الأولى:

} وَقُلِ الـحَمْدُ للهِ الـَّذي لَمْ يـَتـَخـِّذْ وَلـَدَاً وَلـَمْ يَكُنْ لـَهُ شَريكٌ في الـمُلكِ وَلـَمْ يَكُنْ لـَهُ وَليٌّ مِنْ الـذُّلِّ وَكَبـِّرهُ تَكبيراً{ (الاسراء:111). لـَبـَيكَ وَسَعْدَيكَ..

جلَّ جلالُه اللهُ مِنْ كُلِّ شَـيءٍ قُدرَةً وَعِلماً، إذْ هُوَ الـخَالِقُ البارىءُ الـمُصَوِّرُ الـَّذي صَنـَعَ الانسَانَ بقُدرَتهِ كالكَائِنَاتِ، وَكَتَبَ الكَائِنَاتِ بقَلَمِ قَدَرِهِ كَمَا كَتَبَ الانسَانَ بذَلِكَ القَلَمِ. إذْ ذاكَ العَالَمُ الكَبيرُ كَهَذَا العَالَمِ الصغيرِ مَصنُوعُ قُدرَتِهِ مَكتُوبُ قَدَرِهِ. إبدَاعُهُ لِذَاكَ صَيـَّرَهُ مَسْجداً. اِيـجَادُهُ لـهذا صَيـَّرَهُ ساجِداً. إنْشَاؤُهُ لِذَاكَ صَيـَّرَ ذاكَ مُلكاً. بِنَاؤُهُ لِهذا صَيـَّرَهُ مَملُوكاً صَنْعَتـُهُ في ذاكَ تَظَاهَرَتْ كِتَاباً. صِبْغَتُهُ في هَذا تَزَاهَرَتْ خِطابَاً. قُدرَتُهُ في ذاكَ تُظهِرُ حِشمَتَهُ. رَحْمَتُهُ في هَذا تَنظِمُ نِعْمَتَهُ. حِشمَتُهُ في ذاكَ تَشْهَدُ هُوَ الوَاحِدُ. نِعْمَتُهُ في هَذا تُعلِنُ هُوَ الأحَدُ. سِكـَّتُهُ في ذَاك في الكُلِّ وَالاَجْزَاءِ سُكونَاً حَرَكَةً. خاتَمُهُ في هَذا في الـجِسمِ وَالاَعْضآءِ حُجَيْرَةً ذَرَّةً.

فَانْظُرْ إلى آثَارهِ الـمُتـَّسِقَةِ كيفَ تَرى كَالفَلَقِ سَخَاوَةً مُطْلَقَةً مَعَ انْتِظَام مُطْلَقٍ، في سُرْعَةٍ مُطْلَقَةٍ مَعَ اتـِّزَانٍ مُطـْلَقٍ، في سُهُولةٍ مُطْلَقَةٍ مَعَ اتْقَانٍ مُطْلَقٍ، في وُسْعَةٍ مُطْلَقَةٍ مَعَ حُسْنِ صُنْعٍ مُطْلَقٍ، في بُعْدَةٍ مُطْلَقَةٍ مَعَ اتـِّفَاقٍ مُطْلَقٍ، في خِلْطَةٍ مُطْلَقَةٍ مَعَ امْتِيَازٍ مُطْلَقٍ، في رُخْصَةٍ مُطْلَقَةٍ مَعَ غُلُوٍّ مُطْلَقٍ. فَهَذهِ الكَيْفِيـَّةُ الـمَشْهُودَةُ شَاهِدَةٌ للعَاقِلِ الـمُحَقـِّقِ، مُجْبِرَةٌ للاَحْمَقِ الـمُنَافِقِ عَلى قَبُولِ الصِنْعَةِ وَالوَحْدَةِ للـحَقِّ ذي القُدْرَةِ الـمُطْلَقَةِ، وَهُوَ العَلِيمُ الـمُطْلَقُ.

وَفي الوَحْدَةِ سُهُولَةٌ مُطْلَقَةٌ، وَفي الكَثْرَةِ وَالشـِّرْكَةِ صُعُوبَةٌ مُنغَلِقَةٌ:

إنْ اُسْنِدَ كُلُّ الاَشْيَاءِ للِوَاحِدِ، فَالكَائِنَاتُ كَالنـَّخْلَةِ. وَالنـَّخْلَةُ كَالثـَّمَرَةِ سُهُولَةً في الاْبـِتدَاعِ. وَإنْ اُسْنِدَ للِكَثْرَةِ فَالنـَّخْلةُ كَالكَائِنَاتِ، وَالثـَّمَرَةُ كَالشـَّجَرَاتِ صُعُوبَةً في الامْتِنَاعِ. إذْ الوَاحِدُ بِالفَعْلِ يُحَصـِّلُ نَتِيجَةً ووَضْعِيةً للكَثيرِ بِلا كُلْفَةٍ ولا مُبَاشَرَةٍ؛ ولَوْ اُحِيلَتْ تِلْكَ الوَضْعـَّيةُ وَالنـَّتيجَةُ إلى الكَثَرةِ لا يُمْكنُ أنْ تَصِلَ إلَيهَا إلاّ بِتَكَلـُّفَاتٍ وَمُبَاشَرَاتٍ وَمُشَاجَرَاتٍ كَالاَمِيرِ مَعَ النـَّفَرَاتِ، وَالبَانِي مَعَ الـحَجَراتِ، وَالاَرضِ مَعَ السـَّيـَّارَاتِ، والفَوَّارَةِ مَعَ القَطَرَاتِ، وَنُقطَةِ الـمَرْكَزِ مَعَ النـُّقَطِ في الدَّائِرَةِ.

بِسِرِّ أنَّ في الوَحْدَةِ يَقُومُ الانتسَابُ مَقَامَ قُدْرَةٍ غَيْرِ مَحْدُودَةٍ. وَلا يَضْطَرُ السـَّبَبُ لِحَمْلِ مَـنَابعِ قُوَّتِهِ وَيـَتـَعـَاظَمُ الاَثَرُ بالنـِّسْبَةِ إلى الـمُسْنَدِ إلَيهِ. وَفي الشـِّرْكَةِ يَضْطَـرُّ كُلُّ سَـبَبِ لِحَمْلِ مَنَابعِ قُوَّتِهِ؛ فـَيـَتـَصاغَرُ الاَثَرُ بِنـِسْبَةِ جِرْمِهِ. وَمِنْ هُنَا غـَلـَبَتِ النـَّمْلَةُ وَالـذُّبـَابَةُ عَلى الـجَبابِرَةِ، وَحَـمَلـَتْ النـُّوَاةُ الصـَّغِيرَةُ شَجَرَةً عَظِيمة.

وَبِسِرِّ أنَّ في إسنْادِ كُلِّ الاشياءِ الى الوَاحِدِ لا يَكُونُ الايـجَادُ مِنَ العَدَمِ الـمُطْلَقِ. بَلْ يَكُونُ الايـجَادُ عَيْنَ نَقلِ الـمَوجُودِ العِلمِيِّ إلى الوُجُودِ الـخَارِجِيِّ، كَنَقْلِ الصـُّورَةِ الـمُتَمَثـِّلَةِ في الـمِرآةِ إلى الصـَّحيِفَةِ الفُوطُوغْرافِيـَّةِ لِتَثْبِيتِ وُجُودٍ خَارِجِيٍّ لَهَا بِكَمالِ السـُّهُولَةِ، أوْ إظهارِ الـخَطـِّ الـمَكتُوبِ بِمِدَادٍ لا يُرى، بِواسِطةِ مَادَةٍ مُظهِرَةٍ للِكِتَابَةِ الـمَسْتُورَةِ. وَفي إسْنَادِ الاَشْيَاءِ إلى الاَسْبَابِ وَالكَثْرَةِ يَلـْزَمُ الايـجَادُ مِنَ العَدَمِ الـمُطـْلَقِ، وَهُوَ إنْ لَمْ يَكُنْ مُحَالاً يَكُونُ أصْعَبَ الاشْيَاءِ. فَالسُهُولَةُ في الوَحْدَةِ واصِلَةٌ الى دَرَجَةِ الوُجوبِ، وَالصُعُوبَةُ في الكَثْرَةِ وَاصِلَةٌ الى دَرَجَةِ الامِتنَاعِ. وَبِحِكْمَةِ أنَّ في الوَحدَةِ يُمْكِنُ الإبْدَاعُ وَايـجَادُ ((الاَيْسِ مِنَ اللـَّيْسِ)) يَعْني إبْدَاعَ الـمَوْجُودِ مِنَ العَدَمِ الصـِّرْفِ بِلا مُدَّةِ وَلا مَادَّةٍ، وَإفراغَ الـذرَّاتِ في القَالَبِ العِلْميَّ بلا كُلْفَةٍ وَلا خِلْطَةٍ. وفَي الشـِّرْكَةِ وَالكَثْرَةِ لا يُمْكِنُ الإبْدَاعُ مِنَ العَدَمِ بِاتـِّفَاقِ كُلِّ أهلِ العَقْلِ. فَلا بُدَّ لِوُجودِ ذي حَيَاةٍ جَمْعُ ذَرَّاتٍ مُنْتَشِرَةٍ في الارضِ وَالعَناصِرِ؛ وَبِعَدَمِ القَالَبِ العِلْميِّ يَلـْزَمُ لِمُحَافَظَةِ الذَّرَاتِ في جِسْمِ ذي الحيَاةِ وَجُودُ عِلْمٍ كُلـِّـيٍّ، وَإرادَةٍ مُطْلَقَةٍ في كُلِّ ذَرَّةٍ. وَمَعَ ذلِكَ إنَّ الشـُّركاءَ مُسْتَغْنيةٌ عَنْهَا وَمـمْتَنِعَةٌ بالذَّاتِ وَتَحَكـُّمِيـَّةٌ مَحْضَةٌ، لا أمارَةَ عَلَيْها وَلا إشَارَةَ إلَيْهَا في شَيءٍ مِنَ الـمَوْجُودَاتِ. إذ خِلْقَةُ السـَّمَوَاتِ وَالأرضِ تَسْتَلْزِمُ قُدْرَةً كَامِلَةً غَيْرَ مُتَناهِيَةٍ بالضـَّرُورَةِ. فَاسْتُغْنيَ عَنِ الشـُّرَكَاءِ؛ وَإلاّ لَزِمَ تَحْديدُ وَانْتِهَاءُ قُدْرَةٍ كَامِلَةٍ غَيْرِ مُتَنـَاهِيَةٍ في وَقْتِ عَدَمِ التـَّناهِي بِقُوَّةٍ مُتـَنـَاهِيَةٍ بِلا ضَرَورَةٍ، مَعَ الضـَّرُورَةِ في عَكْسِهِ؛ وَهُوَ مُحَالٌ في خَمْسَةِ أوْجُهٍ. فَامْتـَنـَعَتِ الشـُّرَكَاءُ، مَعَ أنَّ الشـُّرَكَاءَ الـمُمتَنِعَةَ بِـتِلكَ الوُجوُهِ لا إشَارَةَ إلى وَجودِها، وَلا أمارَةَ عَلى تَحُقـُّقِهَا في شىءٍ مِنَ الـمَوجُودَاتِ.

فقد استفسرنا هذه الـمسألة في ((الـموقف الأول من الرسالة الثانية والثلاثين)) من الذرات الى السيارات وفي ((الـموقف الثاني)) من السموات الى التشخصات الوجهية فاعطت جميعها جواب رد الشرك بإراءة سكة التوحيد.

فَكَمَا لا شُرَكَاءَ لَهُ؛ كَذَلِكَ لا مُعِينَ وَلا وَزَراءَ لَهُ. وَمَا الاسْبَابُ إلاّ حِجَابٌ رَقـِيقٌ عَلى تَصَـرُّفِ القُدْرَةِ الاَزَلـَّيةِ، لَيـْسَ لـَهَا تَأثِيرٌ إيـجادِيٌ في نَفسِ الأمرِ. إذْ أشْرَفُ الاسْبَابِ وَاوْسَعُهَا اختِيَاراً هُوَ الانسَانُ؛ مَعَ أنـَّهُ لَيسَ في يَدِهِ مِنْ أظـْهَرِ أفْعَالهِ الاختِيَاريَةِ كـَ ((الاَكْلِ وَالكَلامِ وَالفِكْرِ)) مِنْ مِئَاتِ أجْزاءٍ إلاّ جُزْءٌ وَاحِدٌ مَشْكُوكٌ. فَإذا كَانَ السـَّبَبُ الاَشْرَفُ وَالاَوْسَعُ اختِيَاراً مَغـْلُولَ الاَيْدي عَنِ التـَّصَـرُّفِ الـحَقِيقيِّ كَمَا تَرى؛ فَكَيفَ يُمْكِنُ أنَ تَكُونَ البَهِيماتُ والـجَمَاداتُ شَرِيكةً في الايـجَادِ وَالـرُّبُوبِيـَّةِ لـخَالِقِ الأرضِ وَالسـَّمَواتِ. فَكَمَا لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ الظـَّرْفُ الـَّذي وَضَعَ السـُّلطَانُ فيهِ الـهَدِيـَّةَ، أو الـمنَدِيلُ الـَّذي لَفَّ فيهِ العِطـَّيةَ، أوِ النـَّفَرُ الـَّذي أرسَلَ عَلى يَدِهِ النـَّعْمَةَ إليكَ، شُرَكَاءَ للِسُلـْطَانِ في سَلـْطَنَتِهِ؛ كَذَلِكَ لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ الاسْبَابُ الـمُرْسَلَةُ عَلى أيْديِهمُ النـِّعَمُ إلينَا، وَالظـُرُوفُ الـَّتي هِيَ صَنَادِيقُ للِنـِّعَمِ الـمُدَّخـَّرَةِ لَنَا، والاسْبَابُ الـَّتي التَفـَّتْ عَلى عَطَايَا إلَهِيـَّةٍ مُهْداةٍ إلَينَا، شُرَكَاءَ أعْواناً أو وَسَائِطَ مُؤَثـِّرَةً.

الـمرتبة الثانية:

جَلَّ جَلالُهُ اللهُ أكبَرُ مِنْ كُلِّ شَىءٍ قُدْرَةً وًَعِلْمَاً. إذْ هُوَ الــخَلاّقُ العَليِمُ الصـَّانِعُ الـحَكِيمُ الرَّحـمنُ الرَّحِيمُ الـَّذي هذِهِ الـمَوجُودَاتُ الأرضِيـَّةُ وَالاجْرَامُ العُلوِيـَّةُ في بُسْتَانِ الكَائَنَاتِ مُعجِزَاتُ قُدْرَةِ خَلاّقٍ عَليِم بِالبَدَاهَةِ، وَهَذهِ النَبَاتَاتُ الـمُتَـزَيـِّنَةُ الـمَنْثُورَةُ، وَهَذِهِ الـحَيْوَانَاتُ الـمُتَنـَوِّعَةُ الـمُتـَبـَرِّجـَةُ الـَمْنشُورَةُ في حَدِيقَةِ الأرضِ خَوَارِقُ صَنْعَةِ صانِعِ حَكِيمٍ بِالضـَّرُورَةِ، وَهَذهِالاَزْهَارُ الـمُتـَبـَسـِّمَةُ وَالاَثْمَارُ الـمُـتَزَيـِّنَةُ في جِنَانِ هذِهِ الـحّديقَةِ هَدَايَا رَحْمَةِ رَحْمَن رَحيِمٍ بالـمُشَاهَدَةِ. تَشْهَدُ هاتِيكَ وَتُنـَادي تَاكَ وتُعْلِنُ هذِهِ بِأَنَّ خَلاَّقَ هَاتيكَ وَمُصَوِّرَ تَاكَ وَوَاهِبَ هذِهِ عَلى كُلِّ شىءٍ قَديرٌ وَبِكُلِّ شىءٍ عَليمٌ قَد وَسعَ كُلَّ شَىءٍ رَحْمَةً وَعِلمَاً، تتَسَاوى بِالنـِّسْبَةِ إلى قُدْرَتِهِ الـذرَّاتُ وَالـنـُّجُومُ وَالقَليلُ وَالكَثيرُ والصَغيرُ وَالكَبيرُ وَالـمُتـَنـَاهِي وَغَيرُ الـمُتـَنـَاهِي. وَكُلُّ الوُقُوعَاتِ الـمَاضِيَةِ وَغَرَائِـبِها مُعْجِزَاتُ صَنْعَةِ صانِعٍ حِكيمٍ تَشْهَدُ على أنَّ ذَلِكَ الصـَّانِعَ قَديرٌ عَلى كُلِّ الامْكَانَاتِ الاسْتِقْبَالِيـَّةِ وَعَجائِبِها، إذ هُوَ الـخَلاّقُ العَليمُ وَالعَزيزُ الـحَكيِمُ.

فَسْبْحانَ مَنْ جَعَلَ حَديقَةَ أرضِهِ مَشْهَرَ صَنْعَتِهِ. مَحْشرَ فِطْرَتِهِ. مَظْهَرَ قُدرَتِهِ.مَدَارَ حِكْمَتِهِ. مَزْهَرَ رَحْمَتِهِ. مَزْرَعَ جَنـَّتِهِ. مـَمـَرَّ الـمَخْلُوقَاتِ. مَسِيلَ الـمَوجُودَاتِ. مَكيلَ الـمَصْنُوعَاتِ.

فَمُزَيـَّنُ الـحَيْوانَاتِ مُنَقـَّشُ الطـُّيوراتِ مُثـَمـَّرُ الشـَّجَراتِ مُزَهـَّرُ النَـبَاتاتِ مُعْجِزَاتُ عِلمِهِ. خَوَارِقُ صُنْعِهِ. هَدايَا جُودِهِ. بَراهِينُ لُطْفِهِ.

تـَبـَسـُّمُ الأزهَارِ مِنْ زينَةِ الأثـْمَارِ، تَسَجـُّعُ الاطيَارَ في نَسْمَةِ الاسْحَارِ، تَهـَزُّجُ الامطارِ عَلى خُدُودِ الازهَارِ، تَرَحـُّمُ الوالِدَاتِ عَلى الاَطفَالِ الصـِّغَارِ.. تَعـَرُّفُ وَدُودٍ، تَوَدُّدِ رَحـمن، تَرَحـُّمُ حَنـَّانٍ، تـَحـَنــُّنُّ مـَنــَّانٍ للِجِنَّ وَالانسَانِ وَالـرُّوحِ وَالـحَيوَانِ وَالـمَلَكِ وَالـجانِّ.

وَالبُذُورُ وَالاثْمَارُ، والـحُبُوبُ وَالازهَارُ، مُعجِزَاتُ الـحِكمَةِ. خَوَارِقُ الصـَّنْعَةِ. هَدَايا الرَّحْمَةِ. بَرَاهينُ الوَحْدَةِ. شَوَاهِدُ لُطـْفِهِ في دارِ الآخِرَةِ. شَوَاهِدٌ صَادِقَةٌ بأنَّ خَلاَّقِهَا عَلى كُلِّ شىءٍ قَديرٌ. وَبِكُلِّ شىءٍ عَلِيمٌ. قَدْ وَسِعَ كُلَّ شىءٍ بِالرَّحْمَةِ وَالعِلْمِ وَالـخَلْقِ وَالتـَّدْبيرِ وَالصـُّنْعِ وَالـتـَّصْوِيرِ. فَالشـَّمسُ كَالبَذرَةِ وَالنـَّجْمُ كَالـزَّهْرَةِ وَالاَرضُ كَالـحَبــَّةِ لاتَثْقُلُ عَلَيهِ بِالـخَلْقِ وَالتـَّدْبيرِ وَالصــُّنعِ وَالتـَّصْويرِ. فَالبُذُورُ وَالاَثْمَارُ مَرَايا الوَحْدَةِ في اَقْطَارِ الكَثْرَةِ. إشَاراتُ القَدَرِ. رُمُوزَاتُ القُدْرَةِ بِأنَّ تِلكَ الكَثْرةَ مِنْ مَنْبَعِ الوَحْدَةِ، تَصْدُرُ شَاهِدَةً لِوَحْدَةِ الفَاطِرِ في الصـُّنْعِ وَالتَصْويرِ. ثــُمَّ الى الوَحْدَةِ تَنْتَهي ذَاكِرَةً لِحِكمَةِ الصــَّانِعِ في الـخَلْقِ وَالتـَّدْبيِرِ. وَتـَلْوِيـحاتُ الـحِكْمَةِ بِأنَّ خَالِقَ الكُلِّ بِكُلــِّيــَّةِ النـَّظَرِ الى الـجُزْئيِّ يَنْظُرُ، ثـّمَّ إلى جُزْئِهِ. إذْ إنْ كانَ ثَمَرَاً فَهُوَ الـمقْصُودُ الا ظهَرُ مِنْ خَلقِ هَذا الشـَّجَرِ. فَالبَشَرُ ثَمَـرٌ لِهَذِهِ الكَائِنَاتِ، فَهُوَ الـمَقْصُودُ الاَظْهَرُ لِخَالِقِ الـمَوْجُودَاتِ. والقَلبُ كَالـنــُّوَاةِ، فَهُوَ الـمِرآةُ الانْوَرُ لِصَانِعِ الـمَخْلُوقَاتِ. وَمِنْ هذِهِ الـحِكْمَةِ فَالانسَانُ الاَصْغَرُ في هذِهِ الكَائِناتِ هُوَ الـمَدَارُ الاَظْهَرُ للنــَّشْرِ وَالـمحَشْرِ في هذِهِ الـمَوجُوداتِ، وَالتـَّخْريبِ والتـَّبْديلِ وَالتـَّحويلِ وَالتـَّجْديدِ لِهَذِهِ الكَائِناتِ.

الله أكبَرُ يَا كَبيرُ أنت الـَّذي لا تَهدِي العُقُولُ لِكُنْهِ عَظَمَتِهِ.

كهِ لا إلَهَ إلاّ هُوَ بَرَابَرْمي زَنـَنـْدْ هَرْشىء

دَمَادَمْ جُو يَدَنْدْ: ((ياحَقْ)) سَرَاسَرْ كُوَيَدَنْدْ: ((يا حَيّ))

الـمرتبة الثالثة(1)

إيضاحها في رأس ((الـموقف الثالث)) من ((الرسالة الثانية والثلاثين)).

اللهُ أكْبَرُ مِنْ كُلِّ شىءٍ قُدْرَة وَعِلماً إذْ هُوَ القَديرُ الـمُقَدِّرُ العِلِيمُ الـحَكيِمُ الـمُصَوِّرُ الكَرِيمُ اللـَّطِيفُ الـمُزَيـِّنُ الـمُنْعِمُ الوَدُودُ الـمُتَعَرِّفُ الرَّحْـمنُ الرَّحِيمُ الـمُتَحَنـِّنُ الـجَميِلُ ذُو الـجَمَالِ وَالكَمَالِ الـمُطْلَقِ النـَّقـَّاشُ الاَزَليُّ الـَّذي ما حَقَائِقَ هَذِهِ الكَائِناتِ كُلاً وَأجزَاءً وَصَحَائِفَ وَطَبَقاتٍ، وَما حَقائِقُ هذِهِ الـمَوجُودَاتِ كُلــِّيــَّا وَجُزِئيـِّا ووُجُوداً وَبَقاءً:

إلاّ خُطُوطُ قَلَمِ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ بِتَنْظِيمٍ وَتَـقدِيرٍ وَعِلـْمٍ وَحِكْمَةٍ.

وَإلاّ نُقُوشُ بَركَارِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ بَصُنْعِ وَتـَصويرٍ.

وَإلاّ تَـزْييناتُ يَدِ بَيْضاءِ صُنْعِهِ وَتـَصويِرِهِ وَتـَزْيـِيـِنـِهِ وَتـَنـْوِيِرِهِ بِلُطْفٍ وَكَرَمٍ.

وَإلاّ أزاهيرُ لَطائِفِ لُطْفِهِ وَكَرَمِهِ وتَعَـرُّفِهِ وَتـَوَدُّدِهِ بِرحْمَةٍ وَنِعْمَةٍ.

وَإلاّ ثـَمـَرَاتُ فـَيــَّاضِ عَيْنِ رَحْمَتِهِ وَنِعْمَتِهِ وَتـَرَحـُّمِهِ وَتـَحَنـُّنِهِ بِجَمَالٍ وَكَمالٍ.

وَإلاّ لَمـَعـَاتُ جَمالٍ سَرْمَديٍّ وَكَمالٍ دَيْمُومِيٍّ بِشَهَادَةِ تَفانِيــَّةِ الـمَرايا وَسَيــَّالِيــَّةِ الـمَظاهِرِ، مَعَ دوام تَجَلي الـجَمَالِ عَلى مَرِّ الفُصُولِ وَالعُصُورِ وَالادْوَارِ، وَمَعَ دَوَامِ الاِنْعَامِ عَلى مَرِّ الاَنَامِ وَالاَيـَّامِ وَالاَعْوَامِ.

نَعَمْ تَفَاني الـمِرْآةِ زَوَالُ الـمَوجُودَاتِ مَعَ التـَّجَلـِّي الدَّائِمِ مَعَ الفَيضِ الـمُلازِمِ مِنْ أظْهَرِ الظـَّوَاهِرِ مِنْ أبْهَرِ البَوَاهِرِ على أنَّ الـجَمالَ الظـَّاهِرَ أنَّ الكَمالَ الـزَّاهِرَ ليسَا مُلْكَ الـمَظَاهِرِ مَنْ أفصَحِ تِبيانٍ مِنْ أوضَحِ بُرْهَانٍ للِجَمَالِ الـمُجَرَّدِ للاِحسانِ الـمُجَدَّدِ للواجِبِ الوُجُودِ للِبَاقي الوَدُودِ.

نَعَمْ فَاْلاَثَرُ الـمُكَمـَّلُ يَدُلُّ بالبَدَاهَةِ على الفعل الـمُكَمـَّلِ. ثُمَّ الفَعْلُ الـمُكَمـَّلُ يَدُلُّ بِالضــَّرُورَةِ عَلى الاسمِ الـمُكَمـَّلِ وَالفَاعِلِ الـمُكَمـَّلِ ثم الاسمُ الـمُكمـّلُ يَدُلُّ بِلا رَيبٍ عَلى الوَصْفِ الـمُكَمـَّلِ. ثـُمّ الوَصفُ الـمُكَمـَّلُ يَدُلُّ بِلاشكٍ عَلى الشـَّأنِ الـمُكَمـَّلِ. ثـُمّ الشـَّأنُ الـمُكَمـَّلُ يَدُلُّ بِاليَقينِ عَلى كَمالِ الذَّاتِ بِمَا يَليقُ بِالذَاتِ وَهُوَ الـحَقُّ اليَقينُ.

الـمرتبة الرابعة:

جَلَّ جَلاُلهُ اللهُ أكبَرُ إذْ هُوَ العَدْلُ العَادِلُ الـحَكَمُ الـحَاكِمُ الحَكيمُ الأزَليُّ الــَّذي أسـَّسَ بُنْيَانَ شَجَرَةِ هذِهِ الكَائِنَاتِ في سِتَةِ أيـَّامٍ بِاُصًولِ مَشِيَئتِهِ ةحِكمَتِهِ. وَفَصـَّلَها بِدَساتِيرِ قَضائِهِ وَقَدَرِهِ. وَنَظـَّمَها بِقَوَانينَ عادَتِهِ وَسُنـَّتِهِ. وَزَيـَّنَها بِنَواميسِ عِنَايَتِهِ وَرَحْمَتِهِ. وَنـَوَّرَهَا بِجَلـَواتِ أسْمآئِهِ وَصِفَاتِهِ بِشَهَادَاتِ انْتِظامَاتِ مَصنُوعَاتِهِ وَتـَزَيـُّنَاتِ مَوجُودَاتِهِ وَتـَشابُهِها وَ تَناسُبِها وَتـَجَاوُبها وَتـَعاوُنِها وَتـَعانُقِها، وَاتْقانِ الصـَّنعَةِ الشـُّعُوريـّةِ في كُلِّ شَىءٍ عَلى مِقْدَارِ قَامَةِ قابِليـَّتِهِ الـمُقَدَّرَةِ بِتَقْدِيرِ القَدَرِ.

فَالـحِكمَةُ العَامـَّةُ في تَنْظيماتِها.. وَالعِنَايَةُ التـَّامــَّةُ في تَزيِيـِنَاتِها.. وَالـرَّحـمَةُ الوَاسِعَةُ في تَلطيفاتِها.. وَالاَرزَاقُ وَالاعَاشَةُ الشـَّامِلَةُ في تَربـِيـَتِها.. والـحَيَاةُ العَجيبَةُ الصـَّنعَةِ بِمَظْهَرِيـَّتِها للِشًؤونِ الذَّاتِيـَّةِ لِفَاطِرِها.. وَالـمَحَاسِنُ القَصْدِيـَّةُ في تـَحْسينَاتِهَا.. وَدَوَامُ تَجَلـِّي الـجَمَالِ الـمُنْعَكِسِ مَعَ زَوالِهَا.. وَالعِشْقُ الصـَّادِقُ في قَلْبِها لِمَعبُودِهَا.. وَالانْجِذَابُ الظـَّاهِرُ في جَذْبَتِها.. وَاتـِّفاقُ كُلِّ كُمـَّلِهَا عَلى وَحْدَةِ فاطِرها.. وَالتَصَـرُّفُ لـمَصالِحَ في أجزائِها.. وَالتـَّدْبيرُ الـحَكيمُ لِنَباتاتِها.. وَالتـَّربِيَةُ الكَريَمةُ لِحَيواناتِهَا.. والانِتـِظامُ الـمُكَمـَّلُ فِي تَغيـُّراتِ أركَانِها.. وَالغاياتُ الـجَسيمةُ في انتِظامِ كُلـِّيـَّتِها.. وَالـحُدُوثُ دَفْعَة مَعَ غايَةِ كَمَالِ حُسنِ صَنْعَتِها بِلا احتِياجٍ الى مُدَّةٍ ومَادَّةٍ.. وَالتـشَخصّاتُ الـحَكِيمَةُ مَعَ عَدَمِ تَحْديدِ تَرَدُّدِ إمْكاناتِها.. وَقَضاءُ حاجاتِها عَلى غَايَةِ كَثْرَتِها وَتـَنـَوُّعِها في أوقَاتِها اللاَّئِقةِ الـمُنَاسِبَةِ، مِنْ حَيثُ لا يُحتَسَبُ وَمِنْ حَيثُ لا يُشْعَرُ مَعَ قِصَرِ اَيْدِيها مِنْ أصغَرِ مَطالِبِها.. وَالقُوَّةُ الـمُطلَقَةُ في مَعْدَنِ ضَعْفِهَا.. وَالقُدْرَةُ الـمُطلَقَةُ في مَنبَعِ عَجْزِها.. وَالـحَياةُ الظَاهِرَةُ في جُمُودِها.. وَالشُعُورُ الـمُحيطُ في جَهْلِها.. وَالانتِظامُ الـمُكَمـَّلُ في تَغَيـُّراتِها الـمُسْتَلزِمُ لِوُجُودِ الـمُغَيـِّرِ الغَيرِ الـمُتَغَيـِّر.. وَالاتـِّفاقُ في تَسْبِيحَاتِها كَالدوائِرِ الـمُتَدَاخِلَةِ الـمُتـَّحِدَةِ الـمَرْكَزِ.. وَالـمَقْبُوِليـَّةُ في دَعَوَاتِها الثـَّلاثِ ((بِلسانِ استعدادها، وبِلسانِ احتِيَاجَاتِها الفِطريــَّةِ، وبِلسانِ اضطِرارِها)).. وَالـمُناجاة وَالشـُّهوداتُ وَالفُيُوضاتُ في عِباداتِهَا.. وَالاِنتِظامُ في قَدَرَيها.. وَالاِطْمِئنَانُ بِذِكرِ فاطِرِها.. وَكَونُ العِبادَةِ فيها خَيْطَ الوُصْلَةِ بَينَ مُنْتَهاها وَمَبْدَئِها.. وسَببِ ظُهُورِ كَمَالِها وَلِتَحَقـُّقِ مَقَاصِدِ صانِعِها..

وَهكَذا بِسائِرِ شُؤوناتِها وَاحْوَالـِها وَكَيفِيـَّاتـِها شاهِداتٌ بِاَنـَّها كُلـَّها بِتَدبيِرِ مُدَبـِّرٍ حَكيم واحِدٍ.. وفي تَربِيَةِ مُرَبٍ كَريم اَحَدٍ صَمَدٍ.. وَكُلـُّهَا خُدَّامُ سَيـَّدٍ واحدٍ.. وتَحتَ تَصَرُّف متصرِّفٍ واحدٍ.. وَمَصدَرُهَا قُدْرَةُ واحِدٍ الــَّذي تَظاهَرتْ وَتـَكاثَرَتْ خَواتِيمُ وَحْدَتِهِ على كُلِّ مَكتُوبٍ مِنْ مَكتُوبَاتِهِ في كُلِّ صَفحَةٍ مِنْ صَفَحَاتِ مَوجُودَاتِهِ.

نَعَمْ: فَكُلُّ زَهرَةٍ وَ ثَمَرٍ، وَكُلُّ نَبَاتٍ وَشَجَرٍ، بَل كُلُّ حَيَوانٍ وَحـَجَرٍ، بَل كُلُّ ذَرٍّ وَمَدَرٍ، في كُلِّ وَادٍ وَجـَبَلٍ، وكُلِّ بادٍ وَقَفْرٍ خاتَمٌ بَيـِّنُ النـَّقشِ وَالاَثـَر، يُظْهِرُ لِدِقـَّةِ النـَّظرِ بِأنَّ ذا ذاكَ الاثر هُوَ كاتب ذاكَ الـمَكانِ بِالعِبَرِ؛ فَهُوَ كاتِبُ ظَهْرِ البَرِّ وَبَطْنِ البَحْرِ؛ فَهُوَ نَقـَّاشُ الشـَّمْسِ وَالقَمَرِ في صَحيفةِ السَّموَاتِ ذاتِ العِبَرِ. جَلَّ جَلالُ نَقــَّاشِها الله أكْبَرُ.

كهِ لا إلهَ إلاّ هُو. بـَرابـَرْمِى زَنـَدْ عالـَمْ

الـمرتبة الـخامسة(1):

اللهُ أكبَرُ إذْ هُوَ الـخَلاّقُ القَديرُ الـمُصَوِّرُ البَصيرُ الـَّذي هذِهِ الأجَرامُ العُلويـَّةُ والكَواكِبُ الدُّرِّيـَّةُ نَيـِّراتُ بَراهينِ اُلُوهيـَّتِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَشُعاعاتُ شَوَاهِدِ رُبُوبِيـَّتِهِ وَعِزَّتِهِ؛ تَشْهَدُ وَتُنادي عَلى شَعْشَعَةِ سَلْطَنةِ رُبُوبِيـَّتِهِ وَتُنَادي عَلى وُسْعْةِ حُكْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وعَلى حِشمَةِ عَظَمَةِ قُدْرَتِهِ. فَاسْتَمِعْ إلى آيةِ:

} اَفَلَمْ يَنْظُرُوا إلى السـَّمآءِ فَوقَهُمْ كَيْفَ بـَنـَيْنـَاهَا وَزَيـَّنـاها..{ (ق:6).

ثُمَّ انظُرْ الى وَجْهِ السـَّمآءِ كيفَ تَرى سُكُوتـاً في سُكُونة، حَـرَكَةً في حـِكْمَةٍ، تَلألأ ً في حِشمَةٍ تَـبَسـُّماً في زِينَةٍ مَعَ انتَظامِ الـخِلقَةِ مَعَ اتـِّزَانِ الصـَّنْعَةِ.

تَشَعْشُعُ سِراجِها لِتَبديلِ الـمَوَاسِمِ، تَهَلهُلُ مِصْباحِها لِتَنويِرِ الـمعَالَم، تَلألُؤُ نُجُومِها لِتَزيينِ العَوَالِم. تُعْلِنُ لاَهلِ النـُّهَى سَلْطَنَةً بلا انتِهَاءٍ لِتَدبيرِ هذَا العَالَمِ.

فَذَلِكَ الـخَلاّقُ القَديرُ عَليمٌ بِكُلِّ شَىءٍ، وَمُريدٌ بِإرادَةٍ شَامِلَةٍ ماشآءَ كانَ وَمَالَم يَشأ لَمُ يَكُنْ. وَهُوَ قَدِيرٌ عَلى كُلِّ شَىءٍ بِقُدْرَةٍ مُطْلَقَةٍ مُحيطةٍ ذاتِيـَّةٍ. وَكَما لا يُمكِنُ ولا يُتَصوَّرُ وُجُودُ هذِه الشـَّمسِ في هذا اليَومِ بِلا ضِياءٍ ولا حَرارةٍ؛ كذَلِكَ لا يُمَكِنُ ولا يُتَصوَّرُ وُجودُ إلهٍ خالِقٍ للِسـَّمواتِ بِلا عِلْمٍ مُحيْطٍ، وبِلا قُدرَةٍ مُطلَقَةٍ. فَهُوَ بِالضَرورَةِ عَليمٌ بِكُلِّ شَىءٍ بِعلم مُحيطٍ لازم ذَاتيٍّ لِلذاتِ، يَلزَمُ تَعَلـُّقُ ذلِكَ العِلمِ بِكُلِّ الاَشيَاءِ لا يُمكِنُ أنْ يَنْفَكَّ عَنْهُ شَىءٌ بِسِرِّ الـحُضُورِ وَالشـُّهُودِ وَالنـُّفُوذِ وَالاحَاطَةِ النـُّورانِيـَّةِ.

فَما يُشَاهَدُ في جَميعِ الـمَوجُودَاتِ مِنَ الانْتِظامَاتِ الـمَوزُونَةِ، وَالاِتـِّزَاناتِ الـمَنْظُومَةِ، وَالـحِكَمِ العَامـَّةِ، وَالعِنَايَاتِ التـَّامـَّةِ، وَالاَقْدَارِ الـمُنْتَظَمَةِ، وَالاَقْضِيَةِ الـمُثْمِرَةِ، وَالاَجالِ الـمُعَـيَـنَةِ، وَالاَرزَاقِ الـمُقَنـَّنـَةِ، وَالاتِقْاناتِ الـمُفَنـَّنـَةِ، وَالاِهتِمَامَاتِ الـمُزّيـَّنَةِ، وَغـَايَةِ كَمَالِ الاِمتِيازِ وَالاِتـِّزانِ وَالاِنْتِظَامِ وَالاِتْقانِ، وَالسـُّهُولَةِ الـمُطلَقَةِ شَاهِدَاتٌ عَلى إحَاطَةِ عِلمِ عَلاّمِ الغُيُوبِ بِكُلِّ شَىءٍ.

وَأنَّ آيَةَ } ألا يَعلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللـَّطِيفُ الـخَبيرُ { (الـملك:14) تَدُلُّ عَلى أنَّ الوُجودَ في الشَىء يَسْتَلزِمُ بِهِ. وَنُورَ الوُجودِ في الاَشيَاءِ يَستَلزِمُ العِلْمَ نُورَ العِلمِ فيها.

فَنِسبَةُ دَلالَةِ حُسنِ صَنْعَةِ الاِنسانِ عَلى شُعُورِهِ، الى نِسبَةِ دَلالَةِ خِلقَةِ الانسانِ عَلى عِلمِ خالِقِهِ ، كَنِسبَةِ لُمَيعَةِ نُجَيْمَةِ الذبـَيْبَةِ في اللـَّيلَةِ الدَّهمَاءِ إلى شَعشَعةِ الشَمْسِ في نِصفِ النـَّهارِ عَلى وَجهِ الغَبـْراءِ.

وَكَما أنـَّهُ عَليمٌ بِكُلِّ شَىءٍ فهو مُريْدٌ لكُلِّ شَىءٍ لا يُمْكِنُ أنْ يـَتـَحَقـَّقَ شَىءٌ بِدُونِ مَشِيئَتِهِ. وَكمَا أنَّ القُدْرَةَ تُؤَثِرُ، وَأنَّ العِلمَ يُمَيـِّزُ؛ كَذَلكَ أنَّ الارادةَ تُخَصـِّصُ، ثُمَّ يـَتـَحَقـَّقُ وُجودُ الاَشيَاءِ.

فَالشَوَاهِدُ عَلى وُجودِ إرادَتِهِ تـَعالى وَاختِيَارِهِ سُبحانِهُ بَعَدَدِ كَيفِيـَّاتِ الاَشيَاءِ وَاحْوالِهَا وَشُؤوناتِها.

نَعَمْ، فـَتـَنْظيمُ الـمَوجودَاتِ وَتـَخْصيصُها بِصِفاتِها مِنْ بِينِ الاِمْكَانَاتِ الغَيْرِ الـمَحْدُودَةِ، وَمِنْ بَينِ الطـُّرُقِ العَقيمَةِ، وَمِنْ بَينِ الاحتِمَالاتِ الـمُشَوَّشَةِ، وَتـَحتَ أيدي السـُّيُولِ الـمُتَشاكِسَةِ، بِهذا النـِّظَامِ الأدَقِّ الاَرَقِّ، وَتـَوْزِينُهَا بِهذا الـمِيزانِ الـحَسـَّاسِ الـجَسـَّاسِ الـمَشْهُودَينِ؛ وَ اَنَّ خَلْقَ الـمَوجُوداتِ الـمُختَلِفَاتِ الـمُنتَظَماتِ الـحَيـَويـَّةِ مِنَ البَسائِطِ الـجَامِدةِ – كَالانسانِ بِجِهَازاتِهِ مِنَ النـُّطفَةِ، وَالطـَّيْرِ بِجوارِحِهِ مِنَ البَيضَةِ، وَالشـَّجَرِ باعْضَائِهِ الـمُتـَنـَوعَةِ مِنَ النـَّوَاةِ - تَدُلُّ عَلى أنَّ تـَخَصـُّصَ كُلِّ شَىءٍ وَتـَعـَيـُّنَهُ بإرادَتِهِ واختِيَارِهِ وَمـَشِيِئَتِهِ سُبْحَانَهُ. فَكَما أنَّ تَوافُقَ الاشيَاءِ مِنْ جِنْسٍ، وَالافَرادِ مِنْ نَوعٍ في اسَاساتِ الاَعْضاءِ، يَدُلُّ بالضـَّرُرَةِ عَلى أنَّ صانِعَها واحِدٌ أحدٌ؛ كَذلكَ أنَّ تـَمايُزَها في التـَّشَخـُّصاتِ الـحَكيمَةِ الـمُشتَمِلَةِ عَلى عَلاماتٍ فارِقَةٍ مُنْتَظَمَةٍ، تَدُلُّ عَلى أنَّ ذلكَ الصـَّانعَ الواحِدَ الاَحدَ هُوَ فاعِلٌ مُختَارٌ مُرِيدٌ يَفعَلُ ما يَشآءُ وَيـَحكُمُ ما يُريدُ جَلَّ جَلاُلهُ.

وَكَما أنَّ ذلِكَ الـخَلاّقَ العَليمَ الـمُريدَ عَليمٌ بَكُلِّ شَىء، وَمُرِيدٌ لِكُلِّ شَىء، لَهُ عِلمٌ مُحيطٌ، وَارادةٌ شَامِلَةٌ، وَاختيارٌ تَامٌّ؛ كّذلـِكَ لَهُ قُدرَةٌ كاملَةٌ ضَرُوريـَّةٌ ذَاتِيـَّةٌ ناشِئَةٌ مِنَ الـذاتِ وَلازِمـَةٌ للِذاتِ. فَمُحَالٌ تَداخُلُ ضِدِّها. وَإلاَّ لَزِمَ جَمْعُ الضـِّدَّيْنِ الـمُحالُ بالاتِفَاقِ.

فَلا مرَاتِبَ في تِلكَ القُدرةِ. فـَتـَتـَساوى بِالنـِّسبَةِ إلَيها الذرَّاتُ وَالنجُومُ وَالقَليلُ وَالكثيرُ وَالصَغيرُ والكَبيرُ وَالـجُزئيُّ وَالكُلـِّيُّ وَالـجُزءُ وَالكُلُّ وَالانسانُ وَالعالَمُ والنـُّوَاةُ والشـَّجَرُ:

بَسَرِّ النـُّورَانيـَّةِ وَالشـَّفافِيـَّةِ وَالـمُقابَلَةِ وَالـمُوَازَنـَةِ وَالانـِتظامِ وَالامتِثالِ.

بِشَهادَةِ الانتِظامِ الـمُطلَقِ وَالاتـِّزَانِ الـمُطلَقِ وَالامتِيَازِ الـمُطلَقِ في السـُّرعَةِ وَالسـُّهُولَةِ وَالكَثرَةِ الـمَطـَلقَاتِ.

بَسِرِّ إمدادِ الوَاحِديـَّةِ ويُسرِ الوَحدَةِ وتـَجَلـِّي الاَحَديـَّةِ.

بِحِكمَةِ الوُجوبِ وَالتَجَــرُّدِ وَمُبَايَـنَةِ الـماهيـَّةِ.

بَسرِّ عَدَمِ التـَّقَيـُّدِ وَعـَدَمْ التحَيـُّز وَعَدَمِ التـَّجـَزُّءِ.

بـِحِكمَةِ انقِلابِ العَوَائِقِ وَالـمَوَانِعِ الى الوَسَائِلِ في التِسْهيلِ إنْ احْتيجَ إلَيه. وَالـحَالُ أنـَّهُ لا احتِيَاجَ، كاعْصابِ الانسانِ، وَالـخُطُوطِ الـحَديديـَّةِ لنَقلِ السَيـَّالاتِ اللـَّطيفَةِ.

بِحِكمَةِ أنَّ الـذَّرَّةَ وَالـجُزءَ وَالـجُزئيَّ وَالقَليلَ وَالصَغيَر وَالانسانَ وَالنـَّواةَ ليسَتْ بِاقَلَّ جـَزَالَـةً مِنَ النـَّجْمِ وَالنـَّوعِ وَالكُلِّ وَالكُلـِّيِّ وَالكَثيرِ وَالكَبيرِ وَالعَالَمِ وَالشـَّجَرِ.

فَمَنْ خَلَقَ هؤُلاءِ لا يُسْتَبعَدُ مِنْهُ خَلقُ هذِهِ. إذْ الـمُحاطاتُ كالامِثلَةِ الـمَكتُوبَةِ الـمُصَغـَّرَةِ، أو كالنـُّقَطِ الـمَحلُوبَةِ الـمُعَصـَّرَةِ. فَلابُدَّ بالضَرُورةِ أنْ يَكونَ الـمُحيطُ في قَبضَةِ تـَصـَرُّفِ خالِقِ الـمُحَاطِ، لِيُدْرِجَ مِثالَ الـمُحيطِ في الـمُحَاطَاتِ بِدَسَاتيرِ عِلمِهِ، وَاَنْ يَعْصُرَها مِنْهُ بِمَوازينِ حِكمَتِهِ. فَالقُدرَةُ الـَّتي أبرَزَتْ هَاتيكَ الـجُزئيـَّاتِ لا يـَتـَعسـّرُ عَليها إبرَازُ تَاكَ الكُلـِّيـَّاتِ.

فَكَما أنَّ نُسخَةَ قُرآنِ الـحِكمَةِ الـمَكتُوبَةَ عَلى الـجَوهَرِ الفَردِ بَذَرَّاتِ الاَثيرِ لَيسَتْ بِأقَلَّ جـَزَالـَةً مِنْ نُسْخَةِ قُرآنِ العَظَمَةِ الـمُكُتوبَةِ عَلى صَحَائِفِ السـَّمواتِ بِمِدادِ النـُّجُومِ وَالشـُّموسِ؛ كذَلِكَ لَيسَتْ خِلقَةُ نَحلَةٍ وَنـَمْلَةٍ بِاقَلَّ جَزَالَةً مِنْ خِلْقةِ النـَّخلَةِ والفيلِ، وَلا صَنْعَةُ وَردِ الـزَّهْرَةِ بِاقَلَّ جَزَالَةً مِنْ صـَنْعَةِ دُرِّيِّ نَجمِ الزُّهْرَةِ. وَهكَذا فَقِسْ.

فَكمَا أنَّ غايَةَ كَمالِ الـُّسهُولَةِ في إيـجَادِ الاَشيَاءِ أوقَعَتْ اهلَ الضـَّلالَةِ في التِبَاسِ التـَّشكيلِ بالتـَّشَكـُّلِ الـمُستَلزِمِ للِمُحَالاتِ الـخُرَافيـَّةِ الـَّتي تـَمُجـُّها العُقُولُ، بَل تـَتـَنَفـَّرُ عَنها الاَوهَامُ؛ كذلِكَ أثْبـَتـَتْ بِالقَطعِ وَالضَرُورَةِ لاَهلِ الـحَقِّ وَالـحَقيقَةِ تَساويَ السـَّيـَّاراتِ مَعَ الـذرَّاتِ بالنِسبَةِ إلى قُدْرَةِ خالِقِ الكائِناتِ.

جَلَّ جَلالُهُ وَعَظُمَ شأنُهُ وَلآ اِلهَ إلاّ هُوَ.

الـمرتبة السادسة(1)

جَلَّ جَلالُهُ وَعـَظُمَ شَأنُهُ اللهُ أكبَرُ مِنْ كُلِّ شَىءِ قُدْرَةً وَعلمَاً، إذْ هُوُ العَادِلُ الـحَكيمُ القَادِرُ العَليمُ الوَاحِدُ الاَحَدُ السـُّلطَانُ الاَزَليُّ الـَّذي هذِهِ العَوَالِمُ كُلـُّهَا في تَصَرُّفِ قَبْضَتَىْ نِظامِهِ وَميزانِهِ وَتَنْظيمِهِ وَتـَوزيِنـِهِ وَعـَدلِهِ وَحـِكمَتـِهِ وَعـِلمِهِ وَقـُدرَتِهِ، وَمـَظهَرُ سـِرِّ وَاحـِدِيـَّتِهِ وَأحَديـَّتِهِ بـِالـحَدْسِ الشـُّهُوديِّ بـَلِ بِالـمُشَاهَدَةِ. إذ لا خـَارِجَ في الكَونِ مِنْ دَائِرةِ النـِّظَامِ وَالـميزَانِ وَالتـَّنظيمِ وَالتـَّوزينِ؛ وَهـُمَا بابانِ مِنَ ((الاِمامِ الـمُبينِ وَالكِتَابِ الـمُبينِ)). وَهُما عُنوَانانِ لِعِلمِ العَليم الـحَكيمِ وَأمْرِهِ وَقُدْرَةِ العَزيزِ الـرَّحيمِ وَإرادَتِهِ. فَذلكَ النـِّظامُ مَعَ ذلكَ الـمِيزَانِ، في ذلكَ الكِتَابِ مَعَ ذلكَ الاِمامِ بُرهَانانِ نـَيــِّرانِ لِمَنْ لَهُ في رَأسِهِ إذعَانٌ، وفي وَجهِهِ العَينَانِ، أنْ لا شَىءَ مِنَ الاَشياءِ في الكَونِ وَالـزَّمانِ يَخْرُجُ منْ قَبضَةِ تَصَرُّفِ رَحـمنٍ، وتَنـْظيمِ حَنـَّانٍ، وَتـَزيِينِ مـَنـَّانٍ، وَتـَوزينِ دَيــَّانٍ.

الـحَاصِلُ:

أنَّ تـَجَلـِّيَ الاِسمِ ((الاَوَّلِ وَالاخِرِ)) في الـخَلاّقِيـَّةِ، النـَّاظِرَينِ إلى الـمَبدَأِ وَالـمُنتَهى وَالاَصلِ وَالنَسلِ وَالـمَاضي وَالـمُستَقبلِ وَالاَمرِ وَالعِلمِ، مـُشيرانِ الى ((الاِمامِ الـمُبينِ)). وَتـَجَلـِّيَ الاِسم ((الظـَّاهِرِ وَالباطِنِ)) عَلى الاَشيَاءِ في ضِمنِ الـخَلاّقِيـَّةِ يُشيرانِ الى ((الكِتابِ الـمُبينِ)).

فَالكَائِناتُ كَشَجَرَةٍ عَظيمَةٍ، وَكُلُّ عالَمٍ مِنها ايضاً كَالشـَّجَرةِ. فـَنُمَثــِّلُ شَجَرَةً جُزئِيـَّةً لـِخِلقَةِ الكائِناتِ وَاَنواعِها وَعـَوالِمِها. وهَذِهِ الشـَّجَرَةُ الـجُزئِيـَّةُ لـها أصلٌ وَمـَبدَأٌ وَهُوَ النـَّواةُ الـَّتي تَنُبتُ عَليهَا، وَكَذا لـها نَسلٌ يُديمُ وَظيفَتـَها بَعد مَوتِها وَهُوَ النـَّواةُ في ثَمَراتِها.

فَالَـمبدَأُ وَالـمُنتَهى مَظْهرَانِ لِتَجَلـَّي الاِسمِ ((الاَوَّلِ وَالآخِرِ)). فَكأنَّ الـمَبدأ وَالنـَّواةَ الاَصليـَّةَ بِالانتِظامِ وَالـحِكمَةِ، فـِهرِستَةٌ وَتـَعرِفـَةٌ مُرَكـَّبَةٌ مِنْ مَجمُوعِ دَساتيرِ تَشكـُّلِ الشـَّجَرةِ. وَالنـَّواتَاتُ في ثـَمَراتِها التـَّي في نِهاياتِها مَظهَرٌ لتجَلـِّي الاِسمِ الآخِر.

فـَتِلكَ النـَّواتاتُ في الثـَّمَراتِ بِكمَالِ الـحِكمَةِ، كَأنَها صُنَيدِيقَاتٌ صَغيرَةٌ اُودِعَتْ فيها فِهرِستَةٌ وَتَعرِفَةٌ لتَشَكـُّلِ ما يُشابِهُ تِلكَ الشَجَرةَ. وَكأنـَّها كُتِبَ فيها بِقَلـَمِ القَدَرِ دَساتيرُ تَشكـُّلِ شَجَراتٍ آتِيَةٍ.

وَظاهِرُ الشـَّجَرَةِ مَظْهَرٌ لِتَجَلـِّي الاِسمِ ((الظـَّاهِرِ)). فَظَاهِرُها بِكَمالِ الاِنتِظامِ وَالتـَّزيينِ وَالـحِكمَةِ، كأنَها حُلـَّةٌ منتَظَمَةٌ مُزَيــَّنَةٌ مُرَصـَّعَةٌ قَد قُدَّتْ عَلى مِقدارِ قَامَتِها بِكَمالِ الـحِكمَةِ وَالعِنَايَةِ.

وَبـَاطِنُ تِلك الشـَّجَرَةِ مَظهَرٌ لِتَجَلـِّي الاِسمِ ((البَاطِنِ)). فـَبكَمالِ الانتِظامِ وَالتـَّدبيرِ الـمُحَيـَّرِ للِعُقُولِ، وَتـَوزيعِ مَـوَادِّ الـحَياةِ الى الاَعـَضاءِ الـمُختَلِفَةِ بِكَمالِ الانتِظامِ، كأنَّ باطِنَ تِلكَ الشـَّجـَرَةِ ماكِينَةٌ خَارِقَةٌ في غَايَةِ الاِنتَظامِ وَالاِتـَّزَانِ.

فَكَما أنَّ أوَّلـَها تـَعرِفَةٌ عـَجيبَةٌ، وآخِرَها فِهرِستَةٌ خارِقَةٌ تُشيرانِ الى ((الاِمامِ الـمُبينِ))؛ كَذَلكَ إنَّ ظَاهِرَها كـحُلــَّةٍ عَجيبَةِ الصَنْعَةِ، وَباطِنَها كَمَاكينَةٍ في غَايَةِ الاِنتِظامِ، تُشيرَانِ الى ((الكِتَابِ الـمُبينِ)).

فَكما أنَّ القُوَّاتِ الـحَافِظاتِ في الاِنسانِ تُشيرُ الى ((اللـَّوحِ الـمَحفُوظِ)) وَتـَدُلُّ عَلَيهِ؛ كَذلِكَ إنَّ النـَّوَاتاتِ الاَصلـَّيةَ وَالثـَّمَراتِ تُشيرَانِ في كُلِّ شَجَرةٍ الى ((الاِمامِ الـمُبينِ)). وَالظـَّاهِرُ وَالبَاطِنُ يَرمُزَانِ الى ((الكِتَابِ الـمُبينِ)). فَقِسْ عَلى هذِهِ الشـَّجَرَةِ الـجُزئـِيــَّةِ شـَجـَرَةَ الاَرضِ بِمَاضـِيها وَمـُستَقبَلِها، وَشـَجَرَةَ الكَائِناتِ بِـاَوائِلِها وَاتِيها، وَشـَجَرةَ الاِنسانِ بِـاجْدَادِها وَانسَالِها. وَهَكذا..

جَلَّ جَلالُ خالِقِها وَلا إلَهَ إلاّ هُوَ.

يا كَبيرُ أنتَ الــَّذي لا تَهدِي العُقُولُ لِوَصفِ عـَظَمَتِهِ وَلا تَصِلُ الاَفْكَارُ إلى كُنْهِ جـَـبَرُوتِهِ.

الـمرتبة السابعة:

جَلَّ جَلالُهُ اللهُ أكبَرُ مِنْ كُلَّ شَىءٍ قُدرَةً وَعِلماً. إذ هُوَ(1) الـخَلاّقُ الفَتـَّاحُ الفَعـَّالُ العَلاّمُ الوَهـَّابُ الفَيـَّاضُ شَمسُ الاَزَلِ الــَّذيِ هذِهِ الكَائِناتُ بِانواعِها وَمـَوجُودَاتِها ظِلالُ أنوَارهِ، وَآثارُ أفعَالِهِ، وَألوانُ نُقوشِ انواعِ تـَجـَلـَّياتِ اسـمائِهِ، وخُطُوطُ قـَلَمْ قَضائِهِ وَقـَدَرِهِ، وَمـَرَاَيَا تـَجـَلـِّياتِ صِفَاتِهِ وَجـَمَالِهِ وَجـَلالِهِ وَكـَمالِهِ..

بـِإجـمَاعِ الشـَّاهِدِ الأزَلـيِّ بـِجَميعِ كـُتُبِهِ وَصُحُفِهِ وآياتِهِ التَكْويِنيـَّةِ والقُرآنيـَّةِ..

وباجمـَاعِ الاَرضِ مَعَ العَالَمِ بِـافتِقَاراتِها وَاحتِيَاجاتِها في ذاتِها وَذَرَّاتِها مَعَ تَظاهُرِ الغَناءِ الـمُطلَقِ وَالثـَّروَةِ الـمُطلَقَةِ عَلَيها..

وبإجـمَاعِ كُلِّ اهلِ الشـُّهُودِ مِنْ ذَوي الاَرواحِ النـَّيـِّرَةِ وَالقُلوبِ الـمُنَوَّرَةِ وَالعُقُولِ النـُّورانيـَّةِ مِنَ الاَنبِيَاءِ وَالاَولِيَاءِ والاَصفِيَاءِ بـِجَميعِ تـَحقيقَاتِهِمْ وَكُشُوفَاتِهِمْ وَفُيُوضاتِهِمْ وَمـُمَاجَاتِهِمْ..

قَدْ اتـَّفَقَ الكُلُّ مِنُمْ، وَمـِنَ الاَرضِ وَالاَجرَامِ العُلويــَّةِ وَالسـُّفليـَّةِ بِما لا يُحـَدُّ مِنْ شَهادَاتِهِمُ القَطعيــَّةِ وَتَصدِيقاتِهِمُ اليَقينيـَّةِ بـِقُبولِ شَهَادَاتِ الآيَاتِ التـَّكْوينيـَّةِ والقُرآنيـَّةِ وشَهَادَاتِ الصـُّحُفِ وَالكُتُبِ السـَّماويــَّةِ الــَّتي هيَ شَهـَادَةُ الوَاجِبِ الوُجُودِ عَلى أنَّ هذِهِ الـمَوجُودَاتِ آثارُ قُدرَتِهِ ومَكْتُوباتُ قَدَرِهِ وَمـَرايا أسـمائِهِ وَتـَمَثـُّلاتُ أنوَارِهِ.

جـَلَّ جَلالُهُ وَلا إلَهَ إلاّ هُوَ







الباب الرابع

فصلان

الفصل الأول

هذا الفصل يشير الى ثلاثٍ وستين مرتبة من مراتب معرفة الله وتوحيده سبحانه متخذاً ورداً مهماً ومشهوراً لسيدنا الـخضر عليه السلام كمبدأ واساس لـهذا الورد. علما أن كل مرتبة من الـمراتب الثلاث والستين عبارة عن جملتين.

فكلمة ((لا اله الاّ الله)) تثبت الوحدانية، كما أن الاسماء التي تبدأ بـ((هو)) تثبت وجود واجب الوجود. فعندما تشير الـجملة الأولى الى الوحدانية، يـخطر بالبال سؤال مقدّر، كأن يقال: ومن هو الواحد؟ وكيف نعرفه؟ فيكون جوابه: هو الرحـمن الرحيم.. مثلاً. أي أن آثارة الشفقة والرحـمة التي تـملأ الكون كله تعرّف ذلك الرحـمن وتدل عليه. وهكذا قس الباقي.

بِسمِ الله الرَّحـمنِ الرَّحيمِ

اللـَّهُمَّ إنـِّي اُقَـدِّمُ إلَيكَ بَينَ يَديَ كُلِّ نِعْمَةِ وَرَحـمَةٍ وَحِكمَةٍ وَعِنَايَةٍ، وبَينَ يَديَ كُلِّ حَيَاةٍ وَمَـمَاتٍ وَحَيوَانٍ وَنـَبَاتٍ، وَبينَ يَدَي كُلِّ زَهرَةٍ وَثـّمَرةٍ وَحـّبـَّةٍ وَبـّذرَةٍ، وَبَينَ يَدَي كُلِّ صَنـْعَةٍ وصِبغَةٍ ونِظامٍ وَميزَانٍ، وبينَ يَدي كُلِّ تَنظيم وَتـَوزيِنٍ وتَمييزٍ في كُلِّ الـمَوجُودَاتِ وَذَرَّاتِها، شَهادَةً نَشهَدُ(1) أنْ:

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هَوَ الـحيُّ القَيـُّــومُ لآ إلهَ إلاّ اللهُ هَوَ الباقِــي الدَّيـُمومُ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لــهُ لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ العَزيــزُ الــجَبـَّارُ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـحَكيم الغَفــَّــارُ لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُــوَ الأوَّلُ وَالآخِــرُ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الظـِّـاهِرُ وَالبَاطِنُ لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ السَّـميعُ البَصـيرُ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ اللـَّــطيفُ الـخَبيرُ لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الغَــفُورُ الشَّـكورُ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـخَلاّقُ القَـديــرُ لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـمُصَــوِّرُ البَصـيرُ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـجَوَادُ الكريــمُ لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـمُـحـيي العَليـمُ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـمُغني الكَريــمُ لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـمُدَبـِّرُ الـحَكيمُ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـمُرّبـِّي الرَّحيمُ لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ العَزيزُ الـحَكيـــمُ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ العَلـِّــيُّ القَــويُّ لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـوَلــيُّ الـغَنـــيُّ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الشَّـهيدُ الـرَّقيبُ لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ القَريبُ الـمُجيبُ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الفَتـــَّاحُ العَليـمُ لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـخَلاّقُ الـحَكيمُ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الرَّزاقُ ذُو القُوَّةِ الـمَتينُ لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الأحـَـدُ الصــَمَدُ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ البـاقـي الأمْجَـدُ لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الوَدُوُدُ الـمَجِـيـدُ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الفَعَّالُ لـما يُريدُ لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـمَــلِكُ الـوَارِثُ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ البـَاقي البـَاعِـثُ لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَالبـــاريءُ الـمُصوِّرُ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَاللـَّطيفُ الـمُدّبِّرُ لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ السَّــيِّـدُ الــدَّيـَّـانُ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَالـحّنـَانُ الـمَنَّانُ لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَالسُّــبُّوحُ القُدُّوسُ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ العَدْلُ الـحَكمُ لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الفَـرْدُ الـصـَّمَـدُ







لآ إلــهَ إلاّ اللهُ هُــوَ الـنـّـــُورُ الـهَـــادي ..

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـمَرُوفُ لِكُلِّ العَـارِفينَ(1)

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـمَعبُودُ الـحَـقُّ لِكُلِّ العابِد ين..

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـمَشكُورُ لِكُلِّ الشَّاكِرينَ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـمَذْكُورُ لكُلِّ الذَّاكِرينَ..

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـمَحمُودُ لِكُلِّ الـحَامِدينَ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـمَوجُودُ لِكُلِّ الطَّالبينَ..

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـمَوصُوفُ لِكُلِّ الـمُوَحِّدينَ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـمَحبُوبُ الـحقُّ لكُلِّ الـمُحبِيِّنَ..

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـمَرغُوبُ لِكُلِّ الـمُريدينَ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـمَقصُودُ لِكُلِّ الـمُنيبينَ..

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـمَقصُودُ لِكُـلِّ الـجَنــانِ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـمُوجِدُ لِكُــلِّ الأنــامِ..

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـمَوجُـودُ في كُــلِّ زَمــانٍ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـمَعبُودُ في كُلِّ مَكانٍ..

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـمَـذكُـورُ بِكُـلِّ لـِـسانٍ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـمَشكُورُ بِكُلِّ إحسَانٍ..

لآ إلهَ إلاّ اللهُ هُوَ الـمُـنْـعِـمُ بِـلا إمـتـِنــَانٍ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ اِيـمانـاً بـاللهِ لآ إلهَ إلاّ اللهُ أمانَــاً مِنَ اللهِ

لآ إلهَ إلاّ اللهُ أمانَـةً عِنْـدَ اللهِ لآ إلهَ إلاّ اللهُ حَقــَّـاً حَقــَّـاً

لآ إلهَ إلاّ اللهُ إذعَاناً وَصِدْقَاً لآ إلهَ إلاّ اللهُ تَعَبـُّداً وَرقـَّـا

لآ إلهَ إلاّ اللهُ الـمَلِكُ الـحَقُّ الـمُبينُ مُحَمـَّدٌ رَسُولُ اللهِ صَادِقُ الوَعدِ الاَمينُ.

الفصل الثاني

ان هذه السطور الـخمسة او الستة من التمجيد والتعظيم التي تعتبر فاتـحة اوراد الصباح لدى معظم الاقطاب. وعلى الاخص الشيخ الطيلاني، قد اصبحت كنواة لسلسلة فكرية طويلة. وانبتت سنبلاً معنوياً من قبيل الاشارة الى تسع وتسعين مرتبة من مراتب الـمعرفة والتوحيد.

وقد ذكرت هنا تسع وسبعون مرتبة من تلك الـمراتب التسع والتسعين، وهي تتوجه في كل فقرة من تلك الاشارات، الى الذات الإلـهية الـمقدسة بـجهتين:

الأولى: انها تشهد على الله سبحانه بالـحال الـحاضرة الـمشهودة، فيعـّبر عن ذلك الـمعنى بعبارة ((لله شهيد)).

الثانية: انها تدلّ بعبارة ((على الله دليل)) على اشارة السلسلة التي تظهر بتعاقب الأمثال بعضها وراء بعض.

بِسمِ الله الرَّحـمنِ الرَّحيمِ

أصْبَحنا(1) وَأصبَحَ الـمُلكُ للهِ شَهيدٌ. وَالكبرِيَاءُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالعَظَمَةُ للهِ شَهيدٌ. وَالهَيبَةُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالقُوَةُ شَهيدٌ. وَالقُدرَةُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالآلاُء للهِ شَهيدٌ(1). وَالاِنعامُ الــدَّائِمُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالبَهـَاءُ للهِ شَهيدٌ. وَالـجَمَالُ الســَّرمَدُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالـجَلالُ للهِ شَهيدٌ. وَالكَمالُ عَلى دَليلٌ

وَالعَظـَمُوتُ للهِ شَهيدٌ. وَالـجَبَروتُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالرُبُوبيــَّةُ للهِ شـَهيدٌ. وَالاُلـُوهيـَّةُ الـمُطلَقَةُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالسـَّلْطَنَةُ للهِ شَهيدٌ. وَجُنُودُ السـَّمواتِ وَالاَرضِ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالاَقضِيَةُ(2) للهِ شَهيدٌ. وَالتقَديرُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالتَربيــَّةُ للهِ شَهيدٌ. وَالتـَّدبيرُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالتَصويرُ للهِ شَهيدٌ. وَالتـَّنظمُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالتـَّزيينُ للهِ شَهيدٌ. وَالتـَّوزينُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالاِتْقانُ(1) للهِ شَهيدٌ. وَالـجُودُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالـخَلقُ للهِ شَهيدٌ. وَالاِيـجادُ الدَّائِمُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالـحَكْمُ للهِ شَهيدٌ. وَالاَمرُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالـمَحاسِنُ للهِ شَهيدٌ. وَاللطــَّائِفُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالـمَحامِدُ للهِ شَهيدٌ. وَالـمَدائِحُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالعبادَاتُ للهِ شَهيدٌ. وَالكَمالاتُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالتـَّحيـَّاتُ(2) للهِ شَهيدٌ. وَالبَركاتُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالصــَّلَواتُ للهِ شَهيدٌ. وَالطــَّيــِّبَاتُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالـمَخلُوقَاتُ للهِ شَهيدٌ. وَالـخَوارِقُ الـماضِيَةُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالـمَوجُودَاتُ للهِ شَهيدٌ. وَالـمُعجِزاتُ الآتِيَةُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالســَّمواتُ للهِ شَهيدٌ. وَالعَرشُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالشــُّموسُ للهِ شَهيدٌ. وَالاَقمَارُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالنــُّجُومُ للهِ شَهيدٌ. وَالسَيــَّاراتُ عَلى اللهِ دَليلٌ

وَالـجَوُّ بِتَصــرُّفاتِهِ وأمطارِهِ للهِ شَهيدٌ. وَالاَرضُ عَلى اللهِ دَليلٌ

يعني:

(وَالقُدرَةُ الظـَّاهِرَةُ في الاَرضِ، وَالـحِكمَةُ الباهِرَةُ فيها، وَالصَنعَةُ الـمُكَمــَّلَةُ فيها، وَالصـِّبغَةُ الـمُتَزَيــِّنَةُ فيها، وَالنــِّعمَةُ الـمُتَنَــوِّعَةُ فيها، وَالرَّحـمَةُ الوَاسِعَةُ فيها عَلى اللهِ دليلٌ).

وَالقُرآنُ باُلُوفِ آياتِهِ للهِ شَهيدٌ. وَمُحَمــَّدٌ بآلافِ مُعجِزَاتِهِ عَلى اللهِ دَليلٌ وَالبِحَارُ بَعَجائِبِها وَغَرائِبها للهِ شَهيدٌ. وَالنبَاتاتُ بأوراقِها بأزهارِها بِأثـمَارِها عَلى اللهِ دليلٌ.

يعني:

(فالدَّلائِلُ الـمُتَزَيــِّناتُ الـمُتَزَهــِّراتُ الـمُثمِراتُ الـمُسَبــِّحاتُ بِأوراقِها، وَالـحامِداتُ بِازهارِها، وَالـمُكَبــِّراتُ بِأثْمَارِها، عَلى اللهِ دليلٌ).

وَالاَشجَارُ بِأوراقِها الـمُسبــِّحاتِ وَأزهارِها الـحامِداتِ وَاثْمارِها الـمُكَبــِّراتِ للهِ شَهيدٌ. وَالـحَيواناتُ الـمُكبــِّراتُ، والـحُوينَاتُ الـمُسبــِّحَاتُ، وَالطُويراتُ الـحامِداتُ، وَالطــُّويراتُ الصــَّافــَّةُ الـمُهَلـِّلاتُ عَلى اللهِ دَليلٌ.

وَالانِسُ وَالجِنُّ بِعِبَاداتِهم وَصَلَواتِهمْ في مَسجِدِ الكَائِناتِ للهِ شَهيدٌ. وَالـمَلَكُ وَالــرُّوحُ في مَسجِدِ العَالَمِ بِتَسبيحاتِهِمْ وَعِباداتِهِمْ عَلى اللهِ دَليلٌ.

وَالصـِّنْعَةُ للهِ فَالـمَدحُ للهِ..

وَالصــِّبْغَةُ للهِ فَالثــَّنَاءُ للهِ..

وَالنــِّعْمَةُ للهِ فَالشــُّكُر للهِ..

وَالرَّحـمَةُ للهِ..

فَالـحَمدُ للهِ ربِّ العَالَمينَ.

في شــّهادة:

نَشهَدُ أنْ لآ اِلَهَ إلاّ اللهُ وَأنَّ مُحَمــَّداً رَسُولُ اللهِ

اللـَّهُمَّ يارَبَّ مُحَمــَّدٍ الـمُختَارِ. وياربَّ الـجَنــَّةِ وَالنــَّارِ. وَياربَّ النَبيـّينَ وَالاَخـْيارِ، يَاربَّ الصـِّدِّيقينَ وَالأبرَارِ. ياربَّ الصِغَارِ وَالكِبَارِ. يارَبَّ الـحُبُوبِ وَالاَثـمَارِ. ياربَّ الأنْهَارِ وَالاَشجَارِ. يَاربَّ الصـَّحـَّارَى وَالقِفارِ. ياربَّ العَبيدِ وَالأحرارِ. ياربَّ اللـَّيلِ وَالنــَّهارِ.

أمسَينَا وَأصبَحنا نُشهِدُكَ وَنُشهِدُ جَميعُ صِفَاتِكَ الـمُتَقَدِّسَةِ.. وَنُشهِدُ جَميعَ أسمَائِكَ الـحُسنى.. وَنُشهِدُ جَميعَ مَلئِكَتِكَ العُليَا.. وَنُشهِدُ جـيعَ مَخْلوقَاتِكَ الشــَّتـَّى.. وَنُشهِدُ جَميعَ أنبِيَائِكَ العُظمى. وَجَميعَ أولِيَائِكَ الكُبرى. وَجَميعَ أصْفِيائِكَ العُليَا.. وَنُشهِدُ جَميعَ آياتِكَ التـَّكوينيــَّةِ الــَّتي لا تُعَــدُّ وَلا تُحصى.. وَنُشهِدُ جَميعَ مَصنُوعَاتِكَ الـمُزيــَّناتِ الـمُوزونَاتِ الـمَنْظُومَاتِ الـمُتَمَاثِلاتِ.. وَنُشهِدُ جَميعَ ذَرَّاتِ الكائِناتِ العاجِزاتِ. الـجَامِداتِ الـجَاهِلاتِ والـحَامِلَةِ بِحولِكَ وَطَولِكَ وَأمرِكَ وَإذنِكَ عَجائِبَ الوَظائِفِ الـمُنتَظَمَاتِ.. وَنُشهِدُ جَميعَ مُرَكباتِ الذَّراتِ الغَيرِ الـمَحدودَاتِ الـمُتَنَوعاتِ الـمُنتَظَمَاتِ الـمُتقَنَاتِ الـمَصنُوعاتِ مِنْ البسائِطِ الـجَامِداتِ.. وَنُشهِدُ جَميعَ تَرَكــُّباتِ الـموجُوداتِ النــَّاميَاتِ الـمُختَلِطَةِ مَوَادُّ حَيَاتِها في غَايَة الاختِلاطِ وَالـمُتَمَيــِّزَةِ دَفعَةً في غَايةِ الامتيَازِ.. وَنُشهِدُ حَبيبَكَ الاَكرَمَ سُلطَانَ الاَنبيَاءِ وَالاَوليَاءِ أفضَلَ الـمَخلُوقَاتِ ذا الـمُعجِزَاتِ الباهِرَةِ عَليهِ وعَلى آلِهِ افضلُ الصــَّلَواتِ وَالتـِّسليمَاتِ.. وَنُشهِدُ فُرقانَكَ الـحَكيمَ ذَا الآياتِ البَيــِّنَاتِ وَالبَرَاهينِ النــَّيــّراتِ وَالدَلائِلِ الوَاضِحَاتِ وَالاَنوارِ الســَّاطِعاتِ: بِأنــَّا كُلــَّنا نَشهَدُ بِأنــَّكَ أنتَ اللهُ الوَاجِبُ الوُجودِ الوَاحِدُ الأحَدُ الْفَرْدُ الصــَّمَدْ الـحيُّ القَيــُّومُ العَليمُ الـحَكيمُ القَديرُ الـمُريدُ الســَّميعُ البَصيرُ الرَّحـمنُ الرَّحيمُ العَدلُ الـحَكَمُ الـمُقتَدِرُ الـمُتَكَلــِّمُ، لَكَ الاَسمَاءُ الـحُسنى.. وَكَذا نَشهَدُ أنْ لا إلهَ إلاّ أنتَ وَحدَكَ لا شَريكَ لَكَ وَأنـَّكَ عَلى كُــلِّ شَيءٍ قَديرٌ وَبِكُــلِّ شَيءٍ عَليمٌ.. وَكَذا نَشهَدُ بِكُلِّ ما مَرَّ وَمَعَ كُلِّ مَا مَرَّ بِأنَّ مُحَمــَّداً عَبدُكَ وَنـَبيُكَ وَصَفِيــُّكَ وَخَليلُكَ. وَجَمَالُ مُلكِكَ. وَمـَليكُ صُنْعِكَ. وَعـَينُ عِنَايَتِكَ. وَشـَمسُ هِدَايَتِكَ. وَلِسانُ مَحَبــَّتِكَ. وَمِثالُ رحـمَتِكَ. وَنُورُ خَلقِكَ. وَشـَرَفُ مَوجُودَاتِكَ(1). وَكـَشــَّافُ طِلسِمِ كائِنَاتِكَ. وَدلاّلُ سَلطَنَة رُبُوبِيَتِكَ. وَمُعَــرِّفُ كُنُوزِ أسـمَائِكَ. وَمُعَلــِّمُ أوامِرِكَ لِعِبادِكَ وَمُفَسِرُ آياتِ كِتابِ كَائِنَاتِكَ. ومَدَارُ شُهودِكَ وَاِشهَادِكَ. وَمِرآةُ مُحَبــَّتِكَ لِجَمَالِكَ وَأسـمائِكَ، وَمِحَبــَّتِكَ لِصنعَتِكَ وَمـَصنُوعَاتِكَ، وَلـمِحَاسِنِ مَخلُوقَاتِكَ. وَحَبيبُكَ وَرَسُولَكَ الــَّذي أرسَلتَهُ رَحْمَةً للِعالَمينَ. وَلِبيَانِ مَحَاسِنِ كَمالاتِ سَلطَنَةِ رُبُوبيــَّتِكَ بِحِكمَةِ صَنعَةِ صِبغَةِ نُقُوشِ قَصرِ العَالَمينَ. وَلِتَعريفِ كُنُوزِ أسمائِكَ بِإشاراتِ حِكَمِيــَّاتِ كَلمَاتِ آياتِ سُطُورِ كِتَابِ العالَمينَ. وَلِبيَانِ مَرضِيــَّاتِكَ يارَبَّ السـَّمواتِ وَالاَرضينَ. عَلَيهِ وَعَلى آلِهِ وَاصحَابِهِ وَاِخوانِهِ ألفُ ألفِ صَلاةٍ وَسَلامٍ في كُلِّ آنٍ وَزَمانٍ.

اللــَّهُمَّ يا حَفيظُ يا حَافِظُ يا خَيرَ الـحافظينَ نَستَودِعُ حِفظَكَ وَحِمَايَتكَ وَرَحـمَتَكَ هذِهِ الشــَّهاداتِ الــَّتي أنعَمتَها عَلينا. فَاحفَظهَا إلى يَومِ الـحَشرِ وَالـميزَانِ آمين. وَالـحَمدُ للهِ رّبَّ العَالَمينَ.

الـحَمْدُ للهِ الــَّذي(1) دَلَّ عَلى وُجوبِ وُجوُدِهِ، وَدَلَّ النــَّاسَ عَلى اوصَافِ والبُرْهانُ جَلالِهِ وَجـَمَالِهِ وكَمالِهِ، وشَهِدَ على أنــَّهُ وَاحِدٌ فَردٌ صَمَدٌ: الشــَّاهِدُ الصــَّادِقُ والبُرْهانُ الـمُصَدَّقُ النـَّاطِقُ الـمُحَقِقُ سَيــَّدُ الاَنبيَاءِ وَالـمُرسَلينَ. الـحَاوي لِسرِّ إجـمَاعِهِمْ وَتـَصديقِهِمْ وَمْعجِزاتِهِمْ. وَاِمامُ الاَولِياءِ وَالصِدّيقينَ. الـحَاويِ لِسِرِّ إتِفَاقِهِمْ وَتـَحقيقِهِمْ وَكَرامَاتِهِمْ. ذُو الاِرهاصَاتِ الـخَارِقَةِ وَالـمُعجِزاتِ البَاهِرةِ وَالبَراهينِ القاطِعَةِ الواضِحَةِ. ذُو الاَخلاَقِ العَاليَةِ في ذاتِهِ. وَالـخِصالِ الغَاليَةِ في وَظيفَتِهِ. وَالســَّجايا السـَّامِيَةِ في شَريعَتِهِ. مَهبَطُ الوَحيِ الرَّبـَاني بِاجـمَاعِ الـمُنزِلِ بِتَوفيقٍ لَهُ. وَالـمُنْزَلِ بِاعجَازِهِ. وَالـمُنْزَلِ عَلَيهِ بِقُوَّةِ إيـمَانِهِ. وَالـمُنزلِ إليهِمْ بِكُشُوفِهِمْ وَتـَحقيقَاتِهمْ. سَيــَّارُ عَالَمِ الغَيبِ وَالـمَلَكوتِ. مُشاهِدُ الأرواحِ وَمُصَاحِبُ الـمَلئِكَةِ مُرشِدُ الـجِنِّ وَالاِنسِ. وَانْوَرُ ثَمَراتِ شَجَرَةِ الـخِلقَةِ. سِراجُ الـحقِّ. بُرهَانُ الـحَقيقَةِ. لِسانِ الـمحَبــَّةِ, مِثالُ الرَّحـمَةِ. كاشِفُ طِلسِمِ الكائِنَاتِ. حَلاّلُ مُعَمــَّى الـخِلقَةِ. دَلاّلُ سَلطَنَةِ الرُّبُوبيــَّةِ. مَدارُ ظُهورِ مَقَاصِدِ خالِقِ الكائِناتِ في خَلقِ الـمَوجُوداتِ. ووَاسِطَةُ تَظاهُرِ كَمالاتِ الكائِناتِ، الـمُرمِزُ بِشَخصيـَّتِهِ الـمَعنَويــَّةِ إلى أنَهُ نَصبَ عَينِ فَاطِرِ الكَونِ في خَلقِ الكائِناتِ ((يَعني أنَّ الصـَّانِعَ نَظَرَ إلَيهِ وَخـَلَقَ لاَجلِهِ وَلاَمثالِهِ هَذا العَالَمَ)) ذُو الدّينِ والشَّريعَةِ وَالاِسلاميَةِ الــَّتي هي بِدَساتيرِها أنـمُوذَجُ دَساتيرِ الســَّعادِةَ في الدَّارَينِ. كَأنَّ ذلِكَ الدّينَ فِهرِستةٌ اُخرِجَتْ مِنْ كِتَابِ الكائِناتِ. فَكأنَّ القُرآنَ الـمُنزَل عَليهِ قِراءَةٌ لآياتِ الكائِناتِ. الـمُشيرُ دِينُهُ الـحَقُّ إلى أنــَّهُ نِظامُ نَاظِم الكونِ. فَنَاظِمُ هذِهِ الكائِناتِ بِهذا النـِّظامِ الاَتَمِّ الاَكمَلِ هُوَ نَاظِمُ ذلكَ الدّينِ الـجَامِعِ بِهذا النـّظمِ الاَحسَنِ الاَجـمَلِ، سَيــِّدُنا نَحنُ مَعـَاشِرَ بَني آدَمَ، وَمُهدينَا إلى الاِيـمَانِ نـَحنُ مَعـَاشِرَ الـمَؤمنينَ مُحَمــَّدٌ عَليهِ وَعَلى آلِهِ افضَلُ الصــَّلَواتِ وَأتَمُّ التــَّسْليماتِ ما دَامَتِ الاَرضُ وَالســَّمواتُ. فَإنَّ ذلِكَ الشــَّاهِدَ يَشهَدُ عَنِ الغَيبِ في عالَمِ الشـَّهادَةِ عَلى رَؤسِ الاَشهَادِ بِطَورِ الـمُشَاهِدِ.

نَعـَمْ؛ يُشَاهَدُ أنــَّهُ يُشاهِدُ ثُمَّ يَشهَدُ مُنادِياً لاَجيَالِ البَشَرِ خَلفَ الاَعصَارِ وَالاَقطارِ بِاعلى صَوتِهِ.

نَعـَمْ؛ فَهذا صَدى صَوتِهِ يُسمَعُ مِنْ أعمَاقِ الـماضي إلى شَواهِقِ الاستِقبَالِ وبِجميعِ قُـوَّتِهِ.

نَعـَمْ؛ فَقَد استَولى عَلى نِصفِ الاَرضِ. وَانصَـبَغَ بِصبغِهِ السـَّماويّ خُمُسُ بَني آدَمَ. وَدَامَتْ سَلطَنَتُهُ الـمَعنَويــَّةُ ألفاً وَثـَلـَثـمائة وَخـَمسينَ سَنَةً في كُلِّ زَمانٍ، يَحكُمُ ظَاهِراً وَباطِنَاً عَلى ثَلَثـمائة وَخَمسينَ مِليُوناً مِنْ رَعِيــَّتَهَ الصـَّادِقَةِ الـمُطيعَةِ بِانقيَادِ نُفوسِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ وَاروَاحِهِمْ وَعُقُولِهِمْ لاَوَامِرِ سَيــَّدِهِمْ وَسُلطَانِهِمْ. وَبِغايَةِ جِدِّيــَّتِهِ بِشَهاداتِ قُوَّةِ دَساتيرِهِ الـمُسَمــَّرَةِ عَلى صُخُورِ الدُّهُورِ وَعَلى جِبَاهِ الاَقطَارِ. وَبِغَايَةِ وُثُوقِهِ بِشَهادَةِ زُهدِهِ واستِغنائِهِ عَنِ الدُّنيَا. وبغاية اطمئنانه ووُثُوقِه بشهادَةِ سَيرهِ وِبِغايَةِ قُوَّةِ إيـمَانِهِ بِشَهادَةِ أنــَّهٌ أعْبَدُ وَاتقى مِنَ الكُلِّ بِاتـِّفاقِ الكُلِّ، شَهادَةً جازِمَةً مُكَـرَّرَةً بـ:

} فَاعلَمْ أنَهُ لا إلَهَ إلاّ اللهُ{ الــَّذي دَلَّ عَلى وُجُوبِ وُجودِهِ، وَصَـرَّحَ بِأوصَافِ جَلالِهِ وَجَمالِهِ وَكَمالِهِ، وَشَهِدَ أنــَّهُ واحِدٌ أحَدٌ فَردٌ صَمَدٌ، الفُرقانُ الـحَكيمُ الـحَاوي لِسِرِّ إجـماعِ كُلِّ كُتُبِ الاَنبِيَاءِ وَالاَوليَاءِ وَالـمُوَحـِّدِينَ الـمُختَلِفينَ في الـمَشَارِبِ والـمَسَالِكِ الـمُتـَّفِقَةِ قُلُوبُ هَؤُلاءِ وَعُقولُ اُولئكَ بِحقَائق كُتُبِهِمْ عَلى تَصديقِ أساساتِ القُرآنِ الـمُنَوَّرِ جِهاتُهُ الســِّتُّ. إذْ عَلى ظَهرِهِ سِكــَّةُ الاِعجَازِ. وَفي بَطنِهِ حقَائِقُ الاِيـمَانِ. وَتـَحتَهُ بَرَاهينُ الاِذعَانِ. وَهـَدَفُهُ سَعَادَةُ الدَّارَينِ. وَنُقطَةُ استِنَادِهِ مـَحضُ الوَحيِ الــرَّبــَّانيِّ بِاجمـَاعِ الـمُنزِلِ بِاياتِهِ. وَالـمُنزَلِ بِاعجَازِهِ. وَالـمُنزَلِ عَليهِ بِقُــوَّةِ أيـمَانِهِ وَامنيـَّتِهِ. وَكَمالِ تَسليمِيــَّتِهِ وَصَفوَتِهِ. وَوضعِيــَّتِهِ الـمعلُومَةِ عِندَ نُزُولِهِ. مَجمَعُ الـحَقائِقِ بِاليَقينِ. وَمـَنبَعُ أنوارِ الاِيـمَانِ بِالبَداهَةِ الـمُوصِلُ إلى السـَّعادَاتِ بِاليَقينِ. ذُو الاَثـمَارِ الكَامِلينِ بِالـمُشَاهَدَةِ. مَقبُولُ الـمَلَكِ وَالانسِ وَالـجَانّ بِالـحَدسِ الصـَّادِقِ مِنْ تَفاريقِ الأمارَات. الـمُؤيــَّدُ بِالدَلائِلِ العقَلـيــَّةِ بِاتـِّفاقِ العُقَلاءِ الكاملينَ. وَالـمُصَدَّقُ بالفِطرَةِ السـَّليمَةِ بِشَهادَةِ اطمِئنانِ الوِجدَانِ بِهِ. الـمُعجِزَةُ الابديــَّةُ بالـمُشَاهَدَةِ. ذُو البَصَرِ الـمُطلَقِ يَرى الاَشيَاءَ بِكَمالِ الوُضُوحِ، يَرى الغَائِبَ البَعيدَ كَالـحَاضِرِ القَريبِ. ذُو الاِنبِساطِ الـمُطلَقِ يُعــَلــِّمُ الـمَلأَ الاَعلى مِنَ الـمُقَــرَّبينَ بِدَرسٍ، وَيُعـَلــِّمُ أطفَالَ البَشَرِ بِعينِ ذَلِكَ الـدَّرسِ، وَيـَشمِلُ تـَعليمُهُ وتـَعليمَاتُهُ طَبَقاتِ ذَوي الشعُوُرِ مِنْ أعلى الأعَالي إلى أبسَطِ البَسائِطِ. لِسانُ الغَيبِ في عَالَمِ الشــَّهادَةِ، شَهادَةً جَازمَةً مُكـَــرَّرَةً بـ ((لآ إلَهَ إلاّ هُوَ)) و } فَاعلَمْ أنَهُ لا إلَهَ إلاّ اللهُ{ .
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-02-2011
  #30
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: اللمعات

الباب الـخامس

في مراتب

} حَسْبُنا الله وَنِعْمَ الوَكيلُ{ (آل عمران:173) (1)

وَهُوَخَمسُ نكت..

T النكتة الأولى

فهذا الكلام دواء مـجرب لـمرض العجز البشري وسقم الفقر الانساني

} حَسْبُنا الله وَنِعْمَ الوَكيلُ{ (آل عمران:173) (2) إِذْ هُوَ الـْمُوجِدُ الـْمَوْجُودُ الـْبَاقِي فَلاَ بـَأْسَ بِزَوَالِ الـْمَوْجُودَاتِ لِدَوَامِ الـْوُجُودِ الـْمَحْبُوبِ بِبَقَاءِ مُوجِدِهِ الْوَاجِبِ الـْوُجُودِ.

وَهُوَ الصـَّانِعُ الـْفَاطِرُ الـْبَاقِي فَلاَ حُزْنَ عَلَى زَوَالِ الـْمَصْنُوعِ لِبَقَاءِ مَدَارِ الـْمَحَبــَّةِ فِي صَانِعِهِ.

وَهُوَ الـْمَلِكُ الـْمَالِكُ الـْبَاقِي فَلاَ تَاَسـُّفَ عَلَى زَوَالِ الـْمُلْكِ الـْمُتَجَدِّدِ فِي زَوَالٍ وَذَهَابٍ.

وَهُوَ الشـَّاهِدُ الـْعَالِمُ الـْبَاقِي فَلاَ تـَحَســُّرَ عَلَى غَيْبُوبَةِ الـْمَحْبُوبَاتِ مِنَ الـدُّنْيَا لِبَقَائِهَا فِي دَائِرةِ عِلْمِ شَاهِدِهَا وَفِي نَظَرِهِ.

وَهُوَ الصـَّاحِبُ الـْفَاطِرُ الـْبَاقِي فَلاَ كَدَرَ عَلَى زَوَالِ الـمُسْتَحْسَناتِ لِدَوَامِ مَنْشَأِ مَحـَاسِنِهَا فِي اَسْمَآءِ فَاطِرِهَا.

وَهُوَ الـْوَارِثُ الـْبَاعِثُ الـْبَاقِي فَلاَ تَلَهــُّفَ ‘ علَى فِرَاقِ الاَحْبـَابِ لِبَقَاءِ مَنْ يَرِثُهُمْ وَيـَبْعَثُهُمْ.

وَهُوَ الـْجَميلُ الـْجَلِيلُ الباقي فَلاَ تـَحَزُّنَ عَلَى زَوَالِ الـْجَمِيلاَتِ الـَّتي هِيَ مَرَايَا لِلاَسْمَآءِ الـْجَمِيلاَتِ لِبَقَاءِ الاَسْمَآءِ بِجَمَالِهَا بَعْدَ زَوَالِ الـْمَرَايَا.

وَهُوَ الـْمَعْبُودُ الـْمَحْبُوبُ الـْبَاقِي فَلاَ تـَأَلــُّمَ مِنْ زَوَالِ الـْمَحْبُوبَاتِ الـْمَجَازِيــَّةِ لِبَقَاءِ الـْمَحْبُوبِ الـْحَقِيقيِّ.

وَهُوَ الـرَّحْمَنُ الـرَّحِيمُ الـْوَدُودُ الـرَّؤُفُ الـْبَاقِي فَلاَ غَمَّ وَلا مَاْيُوسِيــَّةَ وَلا اَهـَمـِّيَةَ مِنْ زَوَالِ الـْمُنْعِمِينَ الـْمُشْفِقِينَ الظــَّاهِرِينَ لِبَقَاءِ مَنْ وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ وَشـَفَقَتُهُ كـُلَّ شَىءٍ.

وَهُوَ الـْجَمِيلُ اللــَّطِيفُ الـْعَطُوفُ الـْبَاقِي فَلاَ حِرْقَةَ وَلا عِبـْرَةَ بِزَوَالِ اللــَّطِيفَاتِ الـْمُشْفِقَاتِ لِبَقَاءِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَ كُلــِّهَا، وَلاَ يَقُومُ الـْكُلُّ مَقَمَ تـَجَلٍّ وَاحِدٍ مِنْ تـَجَلـّيَاتِهِ؛ فَبـَقَاؤهُ بِهَذِهِ الاَوْصَافِ يَقُومُ مَقـَامَ كـُلِّ مَا فَنَي وَزَالَ مِنْ اَنْوَاعِ مَحـْبُوبَاتِ كـُلِّ أحَدٍ مِنَ الــدُّنْيا. } حَسْبُنا الله وَنِعْمَ الوَكيلُ{

نَعـَمْ حَسْبِي مِنْ بَقـَاءِ الـدُّنْيا وَمَا فِيهَا بَقـَاءُ مَالِكِهَا وَصَانِعِهَا وَفَاطِرِهَا.

النـُّكْتـَةُ الثــَّانِيـَةُ

حَسْبِي(1) مِنْ بَقـَائِي اَنَّ الله هُوَ الَـهِيَ الْبـَاقِي، وَخـَالِقِيَ(2) الـْبَاقِي، وَمـُوجِديَ الـْبَاقِي، وَفـَاطِرِيَ الـْبَاقِي، وَمـَالِكِي الـْبَاقِي، وَشـَاهِدِيَ الـْبَاقِي، وَمـَعْبُودِيُ الـْبَاقِي وبـَاعِثِيَ الـْبَاقِي، فَلاَ بـَأْسَ وَلاَ حـُزْنَ وَلاَ تـَأَسـُّفَ وَلاَ تـَحَسـُّرَ عـَلَى زَوَالِ وَجـُودِي لِبـَقَاءِ مـُوجِدِي، وَاِيـجَادِهِ بِآسْمَائِهِ. وَمـَا فِي شَخْصِي مِنْ صِفَةٍ اِلاَّ وَهِيَ مِنْ شُعَاعٍ اِسْمٍ مِنْ اِسْمَائِهِ الـْبَاقِيَةِ؛ فـَزَوَالُ تِلْكَ الصـِّفَةِ وَفـَنَاؤهَا لـَيْسَ اِعْدَاماً لـَهَا، لاَنـَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي دَائِرَةِ الْعِلْمِ وَبـَاقِيَةٌ وَمـَشْهُودَةٌ لـِخَالِقِهَا.

وَكـَذَا حَسْبِي مِنَ الـْبَقَاءِ وَلـَذتِهِ عِلـْمِي وَاِذْعَانِي وَشُعُورِي وَاِيـمَانِي بـِاَنــَّهُ اِلَهِيَ الـْبَاقِي الـْمُتَمَثـِّلُ شُعَاعُ اِسْمِهِ الـْبَاقِي فِي مِرْآةِ مَاهِيــَّتِي؛ وَمـَا حَقِيقَةُ ماهِيــَّتِي اِلاَّظِلٌّ لِذلِكَ الاِسْمِ. فَبِسِرِّ تـَمَثــُّلِهِ فِي مِرَآةِ حَقِيقَتِي صَارَتْ نَفْسُ حَقِيقَتِي مَحْبُوبَةً، لاَ لِذاتِهَا بَلْ بِسِرِّ مَا فِيهَا وَبــَقَاءُ مَا تَمـَثــَّلَ فِيهَا اَنْوَاعُ بـَقـَاءٍ لَهـَا.





النـُّكْتـَةُ الثــَّالِثَةُ (1)

} حَسْبُنا الله وَنِعْمَ الوَكيلُ{ (آل عمران:173) اِذْ هُوَ الْوَجِبُ الْوُجُودِ الـَّذِي مَا هذِهِ الـْمَوْجُودَاتُ الســَّيـِّالاَتُ اِلاَّ مَظَاهِرُ لِتَجَـدُّدِ تـَجَلـّيَاتِ اِيـجَادِهِ وَوُجُودِهِ؛ بِهِ وَبِالاِنْتِسَابِ اِلَيْهِ وَبِمَعْرِفَتِهِ أَنْوَارُ الْوُجُودِ بِلاَ حَـدٍّ. وَبِدُونِهِ ظُلُمَاتُ الْعَدَمَاتِ وَآلاَمُ الْفِرَاقاتِ الْغَيْر الْمَحْدُودَاتِ.

وَمـَا هذِهِ الْمَوْجُودَاتُ السـَّيـَّالَةُ اِلاَّ وَهِي مَرَايَا وَهِيَ مُتَجَدِّدَةٌ بِتَبَدُّلِ التـَّعْيـُّنَاتِ الاِعْتِبَارِيــَّةِ فِي فَنـَائِهَا وَزَوَالِهَا وَبـَقَائِهَا بِسِتـَّةِ وَجُوهٍ:

اَلاَوَّلُ: بَقـَاءُ مَعـَانِيهَا الْجَمِيلَةِ وَهُوِيـَّاتِهَا الْمِثَالِيـَّةِ.

وَالثـَّانِي: بَقـَاءُ صُوَرِهَا فِي الاَلْوَاحِ الْمِثَالِيــَّةِ.

والثـَّالثُ: بَقـَاءُ ثَمَرِاتِها الأخْرَويــَّةِ.

وَالرّابِعُ بَقـَاءُ تَسْبِيحَاتِهَا الـرَّبـَّانِيــَّةِ الْمُتَمَثـِّلَةِ لَهَا اَلـَّتِي هِيَ نَوْعُ وَجُودٍ لَهَا.

وَالـْخَامِسُ: بَقـَاؤهَا فِي الـْمَشَاهِدِ الـْعِلـْمِيـَّةِ وَالـْمَنَاظِرِ السـَّرْمَدِيــَّةِ.

وَالسـَّادِسُ: بَقـَاءُ اَرْوَاحِهَا اِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوِي الاَرْوَاحِ(2). وَمـَا وَظِيفَتـُهَا فِي كَيْفِيـَّاتِهَا الـْمُتَخَالِفَةِ فِي مَوْتِهَا وَفـَنـَائِهَا وَزَوَالِهَا وَعـَدَمِهَا وَظـُهُورِهَا وَاِنـْطِفَائِهَا: اِلاَّ اِظـْهَارُ الـْمُقْتَضِيَاتِ للاَسْمَاءِ الاِلَهِيـَّةِ، فَمِنْ سـِرِّ هذِهِ الْوَظِيفَةِ صَارَتِ الـْمَوْجُودَاتُ كَسَيْلٍ فِي غَايَةِ السـُّرْعَةِ تَتـَمَوَّجُ مَوْتـَاً وَحـَيَاةً وَوُجُوداً وَعـَدَمـَاً. وَمِنْ هذِهِ الـْوَظِيفَةِ تـَتـَظَاهَرُ الـْفَعـَّالِيــَّةُ الـدَّائِمَةُ وَالـْخَلاَّقِيـَّةُ الـْمًسْتَمِـرَّةُ. فـَلاَبُدَّ لِي وَلِكُلِّ اَحـَدٍ اَنْ يَقُولَ: } حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الـْوَكِيلُ{ يَعْنِي؛ حَسْبِي مِنَ الـْوُجُودِ اَنـِّي اَثــّرٌ مِنْ آثـَارِ وَاجِبِ الـْوُجُودِ. كَفَانِي آنٌ سَيــَّالٌ مِنْ هذا الـْوُجُودِ الـمُنــَّورِ الـْمَظهِرَ مِنْ مَلايينَ سَنَةٍ مِنَ الـْوُجُودِ الـْمُزَوَّرِ الاَبْتَرِ.

نَعـَمْ بِسِــرِّ الاِنْتِسَابِ الاِيـمَانِيِّ تَقُومُ دَقِيقةٌ مِنَ الـْوُجُودِ؛ مقام اُلـُوفِ سَنَةٍ بِلاَ اِنْتِسَابِ اِيـمَانِيٍ، بَلْ تِلْكَ الدَّقِيقَةُ اَتـَمُّ وَاَوْسَعُ بِمَرَاتِبَ مِنْ تِلْكَ الآلاَفِ سَنـَةٍ.

وَكَذا حَسْبِي مِنَ الـْوُجُودِ وَقِيمَتِهِ اَنــَّي صَنْعَةُ مَنْ هُوَ فِي السـَّمَاءِ عَظَمَتُهُ، وَفِي الاَرْضِ أيـَاتُهُ وَخـَلَقَ السـَّمَواتِ وَالاَرْضِ فِي سِتـَّةِ اَيــَّامٍ.

وَكـَذا حَسْبِيَ مِنَ الـْوُجُودِ وَكـَمالِهِ اَنــَّي مَصْنُوعُ مَنْ زَيـَّنَ وَنـُوَّرَ الســَّمَاءَ بِمَصَابِيحَ، وَزَيــَّنَ وَبــَّهر الأرضَ بأَزاهيرَ.

وَكَذا حَسْبِي مِنَ الـْفَخْرِ وَالشــَّرَفِ اَنــَّي مَخْلُوقٌ وَمـَمْلُوكٌ وَعـَبْدٌ لِمَنْ هذِهِ الـْكَائِنَاتُ بِجَميعِ كَمـَالاَتِهَا وَمـَحَاسِنِهَا ظـِلٌّ ضَعِيفٌ بِالنـِّسْبَةِ اِلَى كَمـَالِهِ وَجـَمَالِهِ، وَمِنْ آيـَاتِ كَمـَالِهِ وَاِشَاراتِ جَمـَالِهِ.

وَكَذا حَسْبِي مِنْ كُلِّ شَيءٍ مَنْ يَدَّخِرُ مَا لاَ يُعَدُّ وَلاَ يُحْصَى مِنْ نِعَمِهِ فِي صُنَيْدِقَاتٍ لَطِيفَةٍ هِيَ بَيْنَ ((الـْكَافِ وَالنـُّونِ)) فَيَدَّخِرُ بِقُدْرَتِهِ مَلاَيِينَ قِنْطَاراً فِي قَبْضَةٍ وَاحِدَةٍ فِيهَا صُنَيْدِقَاتٌ لَطِيفَةٌ تُسَمـَّى بُذُوراً وَنـَوايـَا.

وَكَذا حَسْبِي مِنْ كُلِّ ذِي جَمَالٍ وَذِي اِحسْانٍ؛ الـْجَمِيلُ الـرَّحِيمُ الـَّذِي مَا هذِهِ الـْمَصْنُوعَاتُ الـْجَمِيلاَتُ اِلاَّ مَرايَا مُتَفـَانِيَةٌ لِتَجَدُّدِ اَنْوَارِ جَمَالِهِ بِمَـرِّ الـْفُصُولِ وَالـْعُصُورِ وَالـدُّهُورِ. وَهذِهِ النـِّعَمُ الـْمُتَوَاتِرَةُ وَالاَثْمَارُ الـْمُتَعَاقِبَةُ فِي الـرَّبِيعِ وَالصـَّيْفِ مَظَاهِرُ لِتَجَدُّدِ مَرَاتِبِ اِنْعَامِهِ الدَّائِمِ عَلَى مَرِّ الاَنَامِ وَالاَيـَّامِ وَالاَعَوَامِ.

وَكَذا حَسْبِي مِنَ الـْحَيَاةِ وَمـَاهِيـَّتِهَا اَنـِّي خَرِيطَةٌ وَفِهْرَسْتَةٌ وَفـَذْلَكَةٌ وَمِيزَانٌ وَمِقْيَاسٌ لِجَلَوَاتِ اَسْمَآءِ خَالِقِ الـْمَوْتِ وَالـْحَـيَاةِ.

وَكَذا حَسْبِي مِنَ الـْحَيَاةِ وَوَظِيفَتِهَا كَوْنِي كَكـَلِمَةٍ مَكْتُوبَةٍ بِقَلَمِ الـْقُدْرَةِ، وَمُفْهِمَةٍ دَالـَّةٍ عَلَى اَسْمَآءِ الـْقَدِيرِ الـْمُطْلَقِ الـْحَـيِّ الـْقَيــُّومِ بِمَظـْهَرِيــَّةِ حَيــَاتِي لِلشــُّئُونِ الذَّاتِيــَّةِ لِفَاطِرِيَ الــَّذِي لَهُ الاَسْمَاءُ الـْحُسْنى.

وَكَذا حَسْبِي مِنَ الـْحَيـَاةِ وَحُقُوقِهَا اِعْلانِي وَتـَشْهِيرِي بَيْنَ اِخْوَانِي الـْمَخْلُوقَاتِ وَاِعْلاَنِي وَاِظْهَارِي لِنَظَرِ شُهُودِ خَالِقِ الـْكائِنَاتِ بِتَزَيــُّنِي بِجَلَواتِ اَسْماءِ خَالِقِي الـَّذِي زَيـَّنَني بِمُرَصـَّعَاتِ حُلــَّةِ وُجُودِي وَخِلْعَةِ فِطْرَتِي وَقِلاَدَةِ حَيَاتِي الـْمُنْتَظَمَةِ الــَّتِي فِيَها مُزَيــَّنَاتُ هَدَايَا رَحْمَتِهِ.

وكَذا حَسْبِي مِنْ حُقـُوقِ حَيـَاتِي فَهْمي لِتَحِيــَّاتِ ذَوِي الـْحَيـَاةِ لِوَاهِبِ الـْحَيـَاةِ وَشُهُودِي لَهـَا وَشَهَادَاتٌ عَلـَيْهَا.

وَكَذا حَسْبِي مِنَ حُقـُوقِ حَيـَاتِي تَبـَرُّجِي وَتـَزَيـُّنِي بِمُرَصـَّعَاتِ جَوَاهِرِ اِحْسَانِهِ بِشُعُورٍ اِيـمَانِيٍ لِلَعْرضِ لِنَظَرِ شُهُودِ سُلْطَانِيَ الاَزَلِـيِّ.

وَكَذا حَسْبِي مِنَ الـْحَيَاةِ وَلَذَّتِهَا عِلْمِي وَاِذْعَانِي وَشُعُورِي وَاِيـمَانِي، بِاَنـِّي عَبْدُهُ وَمـَصْنوعُهُ وَمـَخْلُوقُهُ وَفـَقِيرُهُ وَمـُحْتَاجٌ اِلَيْهِ؛ وَهُوَ خَالِقِي رَحِيمٌ بِي كَرِيمٌ لَطِيفٌ مُنْعِمٌ عَلَىَّ، يُرَبـِّيِني كَما يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ.

وَكَذا حَسْبِي مِنَ الـْحَيَاةِ وَقِيمَتِهَا مِقْيَاسِيـَّتِي بِاَمْثَالِ عَجْزِيَ الـْمُطْلَقِ وَفـَقْرِيَ الـْمُطْلَقِ وَضـَعْفِيَ الـْمُطْلَقِ لِمَراتِبِ قُدْرَةِ الـْقَدِيرِ الـْمُطْلَقِ، وَدَرَجـَاتِ رَحْمَةِ الـرَّحِيمِ الـْمُطْلَقِ، وَطـَبـَقـَاتِ قـُوَّةِ الـْقَوِيِّ الـْمُطْلَقِ.

وَكَذا حَسْبِي بِمَعْكَسِيـَّتِي بِجُزْئِيــَّاتِ صِفَاتِي مِنَ الـْعِلْمِ وَالاِرَادَةِ وَالـْقُدْرَةِ الـْجُزْئِيــَّةِ لِفَهْمِ الصـِّفَاتِ الـْمُحِيطَةِ لِخَالِقِي. فَـاَفْهَمُ عِلْمَهُ الـْمُحِيطَ بِمِيزَانِ عِلْمِي الـْجُزْئِيِّ.

وَهَكَذا حَسْبِي مِنْ الـْكَمَالِ؛ عِلْمِي بـِاَنَّ اِلَهِي هُوَ الـْكَامِلُ الـْمُطْلَقُ. فَكُلُّ مَا فِي الـْكَوْنِ مِنَ الـْكَمَالِ مِنْ آيـَاتِ كَمـَالِهِ، وَاِشَاراتٌ اِلَى كَمَالِهِ.

وَكَذا حَسْبِي مِنَ الـْكَمَالِ فِي نَفسي، الاِيـمَانُ بِالله. اِذا الايـمَانُ لِلْبَشَرِ مَنْبَعٌ لِكُلِّ كَمالاَتِهِ.

وَكَذا حَسْبِي مِنَ كُلِّ شَيءٍ لاَنْوَاعِ حَاجَاتِيَ الـْمَطـْلُوبَةِ بِاَنْوَاعِ اَلـْسِنَةِ جِهَازاتِيَ الـْمُخَلِفَةِ، اِلَهِي وَرَبـِّي وَخـَالِقِي وَمُصَـوِّرِيَ لِهُ الاَسْمَآءُ الـْحُسْنَى الـَّذِي هوَ يُطـْعِمُني وَيـَسْقِينِي وَيـُربــِّينِي وَيـُدَبـِّرُنِي وَيـُكَمّلُنِي، جَلَّ جَلاَلُهُ وَعَـمَّ نَوَالُهُ.

اَلنـُّكْتَةُ الـرَّابِعَةُ

حَسْبِي لِكُلِّ مَطَالِبِي مَنْ فَتـَحَ صُورَتِي وَصـُورَةَ اَمْثـَالِي مِنْ ذَوِي الـْحَيَاةِ فِي الـْمَآءِ بِلَطِيفِ صُنْعِهِ وَلـَطِيفِ قُدْرَتِهِ وَلـَطِيفِ حِكْمَتِهِ رُبـُوبِيــَّتِهِ.

وَكَذا حَسْبِي لِكُلِّ مَقَاصِدِي مَنْ اَنـْشَأَنِي وَشَقَّ سَمْعِي وَبـَصَرِي، وَاَدْرَجَ في جِسْمِي لِسَاناَ وَجَناناً، وَاَوْدَعَ فِيهَا وَفِي جِهَازاتِي؛ مَوَازِينَ حَسـَّاسـَّةً لاَ تـُعَدٌّ لِوَزْنِ مُدَّخَرَاتِ اَنـْوَاعِ خَزَائِنِ رَحْمَتِهِ. وَكَذا اَدْمَجَ فِي لِسَانِي وَجـَنَانِي وَفِطْرَتِي آلاتٍ جَسـَّاسَةً لا تـُحْصَى لِفَهْمِ اَنـْوَاعِ كُنُوزِ اَسْمَآئِهِ.

وَكَذا حَسْبِي مَنْ اَدْرَجَ فِي شَخْصِيَ الصـَّغِيرِ الـْحَقِيرِ، وَاَدْمَجَ فِي وُجُودِيَ الضـَّعِيفِ الـْفَقِيرِ هذِهِ الاَعْضـَاءَ وَالآلاتِ وَهذِهِ الـْجَوَارِحَ وَالـْجِهَازاتِ وَهذِهِ الـْحَوَاسَّ وَالـْحِسـِّياتِ وَهذِهِ اللـَّطَائِفَ وَالـْمَعْنَوِياتِ؛ لاِحْسَاسِ جَميعِ اَنْواعِ نِعَمِهِ، وَلإذاقَةِ اَكْثَرِ تَجـَلـِّيـَّاتِ اَسْمَائِهِ بِجَليلِ اُلُوهِيـَّتِهِ وَجـَمِيلِ رَحْمَتِهِ وَبِكَبِيرِ رُبـُوبِيـَّتِهِ وَكَرِيمِ رَأْفَتِهِ وَبِعَظِيمِ قُدْرَتِهِ وَلـَطِيفِ حِكْمَتِهِ.

اَلنـُّكْتَةُ الـْخَامِسَةُ

لابُدَّ لِي وَلِكُلِّ اَحـَدٍ اَنْ يَقُولَ حَالاً وَقـَالاً وَمْتَشَكـِّراً وَمُفْتَخِراً: حَسْبِي مَنْ خَلـَقَنِي، وَاَخْرَجَنِي مِنْ ظـُلْمَةِ الـْعَدَمِ، وَاَنْعَمَ عَلَـيَّ بِنُورِ الـْوُجُودِ.

وَكَذا حَسْبِي مَنْ جَعـَلَنِي حَيــَّاً فـَاَنْعَمَ عَلَـيَّ نِعْمَةَ الـْحَيـَاةِ الــّتِي تُعْطِي لِصَاحِبِهَا كُلَّ شَيءٍ وَتـُمِدُّ يَدَ صَاحِبِهَا اِلَى كُلِّ شَيءٍ.

وَكَذا حَسْبِي مَنْ جَعـَلَنِي اِنْسَاناً فـَاَنْعَمَ عَلَـيَّ بِنـِعْمَةِ الاِنْسَانِيــَّةِ الـَّتِي صَيــَّرَتِ الاِنْسَانَ عـَالَمَاً صَغِيراً اَكْبَر مَعْنَىً مِنَ الـْكَبِيرِ.

وَكَذا حَسْبِي مَنْ جَعـَلَنِي مُؤْمِناً فَاَنْعَمَ عَلَـيَّ نِعْمَةَ الاِيـمَانِ الــَّذِي يُصَيــِّرُ الـدُّنْيـَا وَالآخِرَةَ كَسُفْرَتَيْنِ مـَمْلـُوئَتـَيْنِ مِنَ النـِّعَمِ يـُقَـدِّمُهَا الَى الـْمُؤمِنِ بِيَدِ الاِيـمَانِ.

وَكَذا حَسْبِي مَنْ جَعـَلَنِي مِنْ اُمـَّةِ حَبِيبِهِ مُحَمــَّدٍ عَلَيْهِ الصـَّلاَةُ وَالسـَّلاَمُ، فَاَنْعَمَ عَلَـيَّ بِمَا فِي الاِيـمَانِ مِنْ الـْمَحَبــَّةِ وَالـْمَحْبُوبِيـَّةِ الاِلـَهِيـَّةِ، الـَّتِي هِيَ مِنْ اَعْلَى مَرَاتِبِ الـْكَمَالاتِ الـْبَشَرِيــَّةِ.. وَبِتِلْكَ الـْمَحَبــَّةِ الاِيـمَانِيــَّةِ تَمْتَدُّ أيـَادِي اِسْتِفَادَةِ الـْمُؤْمِنِ اِلَى مـَا لاَ يَتـَنـَاهى مِنْ مُشْتَمِلاَتِ دَائِرَةِ الاِمْكَانِ وَالـْوُجُوبِ.

وَكَذا حَسْبِي مَنْ فـَضـَّلـَنِي جِنْساَ وَنـَوْعاً وَدِيناً وَاِيـمَاناً عَلَى كَثِيرٍ مِنْ مـَخْلـُوقاتِهِ، فـَلـَمْ يـَجْعَلـْنِي جـَامِداً وَلا حـَيَواناً وَلا ضَالاَّ. فـَلـَهُ الـْحَمْدُ وَلَهُ الشـُّكْرُ.

وَكَذا حَسْبِي مَنْ جـَعَلـَنِي مـَظْهَراً جـَامِعاً لِتـَجَلـِّيــَّاتِ اَسْمَائِهِ، وَاَنْعَمَ عَلَــيَّ بِنِعْمَةٍ لا تـَسَعُهَا الـْكَائِنَاتُ بِسِـرِّ حَدِيثِ ((لا يـَسَعُنِي اَرْضِي وَلا سـَمَائِي وَيـَسَعُنِي قـَلـْبُ عـَبْدِيَ الـْمُؤْمِنِ))(1) يـَعْنِي اَنَّ الـْمَاهِيـَّةِ الاِنْسَانِيـَّةَ مـَظـْهَرٌ جَامِعٌ لِجَمِيعِ تـَجَلـِّيَاتِ الاَسْمَاءِ الـْمُتَجَلـِّيَةِ فِي جَمِيعِ الـْكَائِنَاتِ.

وَكـَذا حَسْبِي مَنِ اشْتـَرى مـُلْكَهُ الـَّذِي عِنْدِي مِنـَّي لِيَحْفَظَهُ لِي، ثـُمَّ يُعِيدَهُ اِلـَيَّ، وَاَعْطانا ثَمـَنـَهُ الـْجَنـَّةَ. فَلـَهُ الشـُّكْرُ وَلـَهُ الـْحَمْدُ بِعَدَدِ ضَرْبِ ذَرَّاتِ وُجُودِي فِي ذَرَّاتِ الـْكَائـِنَاتِ.

حَسْبِي رَبــِّي جـَلَّ الله نُورْ مُحَمـَّدْ صـَلَّى الله

لاَ اِلَهَ اِلاَّ الله

حَسْبِي رَبــِّي جـَلَّ الله سِـرُّ قـَلْبِـــي ذِكْـرُ الله

ذِكْرُ اَحْمَدْ صـَلَّى الله

لاَ اِلـَهَ اِلاَّ الله







الباب السادس

في ((لا حَولَ ولا قـُوَّةَ إلاّ باللهِ العَلِيِّ العَظيمِ))(1)

وهذه الكلمة الطيبة الـمباركة خامسة من الـخمس الباقيات الصالـحات الـمشهورات التي هي: ((سبحان الله. والـحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله اكبر، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العليّ العظيم)).

بِسمِ الله الـرَّحـمنِ الـرَّحيمِ

إلـهي وَسَيـِّدي وَمـَالِكي! لِي فَقْرٌ بِلا نِهايَةٍ، مَعَ أنَّ حاجَاتي وَمـَطالِبي لا تُعَدُّ وَلاتُحصى، وَتـَقصُرُ يَدي عَنْ أدنى مَطالِبي. فَلا حَولَ وَلا قُوَّةَ إلاّ بِكَ يا رَبـِّيَ الـرَّحيمِ! وَيا خالِقي الكَريم! يا حَسيبُ يا وَكيلُ يا كافي.

إلَهي ! إختيَاري كَشـَعَرةٍ ضَعيفَةٍ، وَآمالي لاتُحصَى. فـَأعْجَزُ دائِمَاً عـَمـَّا لا اَستغَني عَنها أبـَداً. فـَلاحَولَ وَلا قُوَّةَ إلاّ بِكَ يا غَنيُّ ياكَريمُ يا كَفيلُ ياوَكيلُ يا حَسيبُ ياكَافي.

إلـهَي وَسـَيـِّدي وَمـَالِكي! إقِتداري كـَذَرَّةٍ ضَعيفَةٍ، مَعَ أنَّ الاَعدَاءَ وَالعِلَلَ وَالاَوهامَ وَالاهوالَ وَالالامَ وَالاسقَامَ وَالظـُّلُماتِ وَالضَّلالَ وَالاسفَارَ الطـِّوالَ ما لاتُحصى. فَلا حَولَ عَنها، وَلا قـُوَّةَ عَلى مُقابـَلَتِها إلاّ بِكَ ياقَوِيُّ ياقَديرُ ياقَريبُ يامُجيبُ يا حَفيظُ ياوَكيلُ.

إلَهي! حَياتِي كَشُعلَةٍ تَنطَفىءُ كَـأمثَالِي. وَآمالي لاتُحصَى. فَلا حَولَ عَنْ طَلَبِ تِلكَ الامَالِ، وَلاقُوَّةَ عَلى تَحصِيلِها إلاّ بِكَ يا حَـيُّ ياقَيـُّومُ يا حَسيبُ ياكافِي ياوَكيلُ يَاوافي.

إلَهي! عُمري كَدَقيقَةٍ تـَنْقَضي كَاَقرانِي؛ مَـعَ أنَّ مَقـَاصِدي وَمـَطـَالِبي لا تُعـَدُّ وَلا تُحصَى. فَلا حَولَ عَنها وَلا قـُوَّةَ عَليها إلاّ بِكَ يا أزَليُّ يا أبَدِيُّ يا حَسيبُ يا كافي ياوَكيلُ ياوَافي.

إلَهي! شُعُوري كَلَمْعَةٍ تَزُولُ؛ مَعَ أنَّ ما يَلزَمُ مُحافَظـَتُهُ مِنْ أنوَارِ مَعرِفَتِكَ، وَما يَلزَم التـَّحَفُّظُ مِنْهُ مِنَ الظـُّلـُماتِ وَالضـَّلالاتِ لا تُعَــدُّ وَلاتُحصَى. فَلا حَولَ عَنْ تِلكَ الظـُّلـُماتِ وَالضــَّلالاتِ وَلا قُوَّةَ عَلى هاتيِكَ الانَوارِ وَالـهِداياتِ إلاّ بِكَ يا عَليمٌ يا خَبيرُ يا حَسيبُ يا كافي يا حَفيظُ ياوَكيلُ.

إلَهي! لِي نَفسٌ هَلُوعٌ وَقـَلبٌ جَزُوعٌ وصَبرٌ ضَعيفٌ وَجِسمٌ نَحيفٌ وَبـَدَنٌ عَليلٌ ذَليلٌ، مَعَ أنَّ الـمَحمُولَ عَلـّـيَّ مِنَ الاَحـمَالِ الـمَادِّيــَّةِ والـمَعْنَويـَّةِ ثَقيلٌ ثَقيلٌ. فَلا حَولَ عَنْ تِلكَ الاَحـمَالِ وَلا قُوَّةَ عَلى حَملـها إلاّ بِكَ يارَبــِّي الـرَّحيمُ يا خالِقي الكَريمُ يا حَسيبُ يا كَافي يا وَكِيْلُ يا وَافي.

إلَهي! لِي مِنَ الـزَّمَانِ آنٌ يَسيلُ في سَيْلٍ وَاسِعٍ سَريع الـجَرَيانِ؛ وَلِيَ مِنَ الـمَكانِ مِقدارُ القَبرِ مَـعَ عَلاقَتيِ بِسائِرِ الاَمكِنَةِ وَالاَزمِنَةِ. فَلا حَولَ عَنِ العَلاقَةِ بِهَا، وَلا قُوَّةَ عَلى الوُصُولِ إلى ما فيها إلاّ بِكَ يارَبَّ الاَمْكِنَةِ وَالاَكوَانِ، وَيارَبَّ الدُّهُورِ وَالاَزمَانِ ياحَسيبُ يا كَافي يا كَفيلُ ياوَافي.

إلَهي! لِي عَجْزٌ بِلا نِهايَةٍ وَضعَفٌ بِلا غَايَةٍ، مَعَ أنَّ أعدَائي وَما يُؤلِمُني وَما أخَافُ مِنهُ وَما يُهَدِّدُني مِنَ البَلايَا وَالافاتِ ما لا تُحصَى. فَلا حَولَ عَنْ هَجَماتِها وَلا قُوَّةَ عَلى دَفعِها إلاّ بِكَ ياقَويُّ ياقَديرُ ياقَريبُ يارَقيبُ يا كَفيلُ يا وَكيلُ يا حَفيظُ يا كَافي.

إلَهي! لِي فَقْرٌ بِلا غايَةٍ وَفـَاقـَةٌ بِلا نِهايَةٍ؛ مـَعَ أنَّ حاجاتي وَمـَطالِبي وَوَظائِفي مالا تُحصَى. فَلا حَولَ عنها وَلاقُـوَّةَ عَليها إلاّ بِكَ يا غَنيُّ ياكَريمُ يامُغني يارَحيمُ.

إلَهي تَبـَرَّأتُ إلِيكَ مِنْ حَولي وَقـُوَّتي، وَالتَجاْتُ إلى حَولِكَ وَقـُوَّتِكَ فَلا تَكِلني الى حَولي وَقـُوَّتي. وَارحَمْ عَجزي وَضـَعفي وَفَقـَري وَفـَاقـَتي. فـَقَد ضاقَ صَدري، وَضاعَ عُمري، وَفَني صَبري، وَتـَاهَ فِكري، وَأنتَ العَالمُ بسرِّي وَجَهري، وَأنتَ الـمَالِكُ لِنَفعي وَضَـرِّي، وَأنتَ القَادِرُ عَلى تَفريجِ كَربي وَتـَسِيرِ عُسري. فَـفـَـرِّجْ كُلَّ كَربَتي وَيـَسـِّرْ عَلَيَّ وَعـَلى إخواني كُلَّ عَسيرٍ.

إلَهي! لا حَولَ عَنِ الـزَّمانِ الاَتي، وَعَنِ اَهوالِهِ مَعَ سَوقٍ إلَيهِ؛ وَلا قُـوَّةَ عَلى الـماضي وَلـَذَائِذِهِ مَعَ عَلاقَةٍ بِهِ إلاَ بِكَ يا أزَلـيُّ يا أبَديُّ.

إلَهي! لا حَولَ عَنِ الـزَّوالِ الـَّذي أخـَافُ وَلا أخلِصُ مِنهُ؛ وَلا قُوَّةَ عَلى إعَادَةِ ما فَاتَ مِنْ حَياتيَ الــَّتي أتـَحَسـَّرُها، وَلا أصِلُ إلَيها إلاّ بِكَ ياسَرمَدِيُّ ياباقي.

إلَهي! لا حَولَ عَنْ ظُلمَةِ العَدَمِ؛ وَلا قُـوَّةَ عَلى نُورِ الوُجُودِ إلاّ بِكَ يا مُوجِدُ يا مَوجُودُ ياقَديمُ.

إلَهي! لا حَولَ عَنِ الـمَضارِّ اللاّحِقَةِ بِالـحَياةِ؛ وَلا قـُـوَّةَ عَلى الـمَسارِّ اللاّزِمَةِ للِحَياةِ إلاّ بِكَ يا مُدَبـِّرُ يا حَكيمُ.

إلَهي! لا حَولَ عَنِ الآلامِ الهَاجِمَةِ عَلى ذي الشـُّعُورِ؛ وَلا قُـوَّةَ عَلى اللــَّذائِذِ الـمَطلُوبَةِ لِذي الـحِسِّ إلاّ بِكَ يا مُرَبـِّي يا كَريمُ.

إلَهي! لا حَولَ عَنِ الـمَساوي العَارِضَةِ لِذَوي العُقُولِ؛ وَلا قُــوَّةَ عَلى الـمَحَاسِنِ الـمُزّيــِّنَةِ لِذَوي الـهِمَمِ إلاّ بِكَ يا مُحسِنُ يا كَريمُ.

إلَهي! لا حَولَ عَنِ النـِّقَمِ لاَهلِ العِصيَانِ؛ وَلا قـُوَّةَ عَلى النــِّعَمِ لاَهلِ الطــَّاعَاتِ إلاّ بِكَ يا غَفُورُ يامُنْعِمُ.

إلَهي! لا حَولَ عَنِ الاَحزَانِ؛ وَلا قـُوَّةَ عَلى الافراحِ إلاّ بِكَ. فَإنــَّكَ أنتَ الــَّذي أضْحَكَ وَاَبْكى يا جـَميلُ يا جَليلُ.

إلَهي! لا حَولَ عَنِ العِلَلِ، وَلا قـُوَّةَ عَلى العَلفِيَةِ إلاّ بِكَ ياشافي يا مُعَافي.

إلَهي! لا حَولَ عَنِ الآلامِ؛ وَلا قـُوَّةَ عَلى الامالِ إلاّ بِكَ ياَمُنجي يا مُغيثُ.

إلَهي! لا حَولَ عَنِ الظــُّلُماتِ؛ وَلا قــُوَّةَ عَلى الاَنوَارِ إلاّ بِكَ يانُورُ ياهادي.

إلَهي! لا حَولَ عَنِ الشــُّرورِ مُطلَقاً؛ وَلا قـُوَّةَ عَلى الـخَيراتِ أصلاً إلاّ بِكَ يامَنْ بيَدِهِ الـخَيرُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قديرٌ، وَبِعِبَادِهِ بَصيرٌ، وَبِحَوايِجِ مَخلُوقَاتِهِ خَبيرٌ.

إلَهي! لا حَولَ عَنِ الـمَعاصي إلاّ بِعِصمَتِكَ؛ وَلا قـُوَّةَ عَلى الطــَّاعَةِ إلاّ بِتَوفيقِكَ يا مُوَفــِّقُ يا مُعينُ.

إلَهي! لِي عَلاقَاتُ شَديدَةٌ مَعَ نَوعيَ الاِنسانـيِّ، مَعَ أنَّ آيـَةَ } كـُلُّ نَفسٍ ذآئِقَةُ الـمَوتِ{ تُهَـدِّدُني وَتُطفِىءُ آمالي الـمُتَعَلــِّعَةِ بِنَوعي وَجِنسي، وَتـَنْعِي عَلـَيَّ بِمَوتِهما. فَلا حَولَ عَنْ ذاكَ الـحُزنِ الاَليمِ النـَّاشِىء مِنْ ذلكَ الـمَوتِ وَالنــَّعِي، وَلا قـُوَّةَ عَلى تَسَلٍّ يَملأُ مَحـَلَّ مازالَ عَنْ قَلبي وَروحي إلاّ بِكَ. فَانتَ الـَّذي تَكفي عَنْ كـُلِّ شَيءٍ، وَلا يَكفي عَنكَ كـُلُّ شَيء.

إلَهي! لِي عَلاقاتٌ شَدِيدَةٌ مَعَ دُنيَايَ الــَّتي كَبيْتِي وَمـَنْزِلي؛ مَعَ أنَّ آيَةَ } كُـلُّ مَنْ عَلَيها فانٍ وَيَبقى وَجهُ رَبــِّكَ ذُو الـجَلالِ وَالاِكرامِ { (الرحـمن:26) تُعلِنُ خَرابِيــَّةِ بَيتي هذَا. وَزَوَالَ مَحبُوبَاتي الــَّتي ساكَنْتُهُمْ في ذلكَ البَيتِ الـمُنهَدِمِ؛ وَلاحَولَ عَنْ هذِهِ الـمُصيبَةِ الـهائِلَةِ، وَعَنْ الفِراقَاتِ مِنَ الأَحبَابِ الآفِلَةِ؛ وَلا قُـوَّةَ عَلى ما يُسَلــِّيني عَنها، وَيَقُومُ مَقَامَها إلاّ بِكَ يا مَنْ يَقُومُ جلوَةٌ مِنْ تَجَلــِّياتِ رَحمَتِهِ مَقَامَ كـُلِّ ما فارَقَني.

إلَهي لِي عَلاقَاتٌ(1) بِجامِعـَّيةِ ماهِيـَّتي، وَغايَةِ كَثَرةِ جَهازاتي الــَّتي أنْعَمْتَها عَلـَيَّ، وَأحتياجاتٌ شَديدَةٌ إلى الكائِناتِ وَانوَاعِها؛ مَعَ أنَّ آيَةَ } كـُـلُّ شَيءٍ هالِكٌ اِلاّ وَجهَهُ لَهُ الـحُكْمُ وَاِلَيهِ تُرجَعُونَ{ (القصص:88) تُهَدِّدُني وَتـَقطَعُ عَلاقَاتي الكَثيرَةَ مِنَ الاَشيَاءِ. وَبِانقِطاعِ كَلِّ عَلاقَةٍ يَتَولــَّدُ جَزْحٌ وَألـَمٌ مَعنَويٌ في رُوحي. وَلا حَولَ عَنْ تِلكَ الـجُرُوحاتِ الغَيرِ الـمَحدُودةِ؛ وَلا قـُوَّةَ عَلى أدويَتِها إلاّ بِكَ يا مَنْ يكفي لِكـُلِّ شَيءٍ، وَلا يَكفي عَنْ شَيءٍ واحدٍ مِنْ تَوَجـُّهِ رَحمَتِهِ كـُلُّ الاَشيَاءِ، وَيا مَنْ اذا كَانَ لشيءٍ كَانَ لَهُ كـُلُّ شَيءٍ ومَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ لا يَكُونُ لَهُ شَيءٌ مِنَ الأشيَاءِ.

إلَهي! لِي عَلاقاتٌ شَديدَةٌ وَابِتلاءٌ وَمَفتُونِيــَّةٌ مَعَ شَخصيـَّتي الـجِسمانيـَّةِ، حَتـَّى كَأنَّ جسمي عَمُودٌ في نَظَري الظـَّاهِريِّ لِسَقفِ جَميعِ آمالي وَمَطَالبِي؛ وَفِيَّ عِشقٌ شَديدٌ لِلبَقاءِ؛ مَعَ أنَّ جِسمي لَيسَ مِنْ حَديدٍ وَلا حَجَرِ لِيَدُومَ في الـجُملَةِ، بل مِنْ لَحمٍ وَدَمٍ وَعَظمٍ عَلى جَناحِ التـَّفَـرُّقِ في كـُلِّ آنٍ؛ وَمـَعَ أنَّ حـَياتي كَجِسمي مـَحدودةُ الطـَّرَفَينِ، سَتُختَمُ بِخَاتَمِ الـمَوتِ عَنْ قَريبٍ؛ مَعَ أنـِّي قَد اشتَعَلَ الـرَّأسُ شَيباً مِنـِّي، وَقد ضَرَبَ السـَّقَمُ ظَهري وَصَدري، فَأنا في قَلـَقٍ وَضَجَر وَاضطِرابٍ وَتـَألـُّم وَتـَحَـزُّنٍ شَديدٍ مِنْ هذِهِ الكَيفيــَّةِ. فَلا حَولَ عَنْ هذِهِ الـحَالَةِ الـهَائِلَةِ؛ وَلا قـُوَّةَ عَلى ما يُسَلـِّيني عَمـَّا يَحزُنُني، وَعَلى ما يُعَــوِّضُني ما يَضيعُ مِنــِّي، وَعَلى ما يَقُومُ مَقام ما يَفُوتُ مِنــِّي إلاّ بِكَ يارَبــِّي الباَقي، وَالباقي ببَقَائِهِ وَإبقائِهِ مَنْ تَمَسـَّكَ بِاسمٍ مِنْ أسـمائِهِ الباقِيَةِ.

إلـَهي! لِي وَلِكـُـلِّ ذي حَياةٍ خَوفٌ شَديدٌ مِنَ الـمَوتِ وَالـزَّوالِ اللــَّذَينِ لا مَفـَرَّ مِنهًما؛ وَلِي مَحـَبــَّةٌ شَديدةٌ للِحَياةِ وَالعُمْرِ اللــَّذينِ لا دَوامَ لَهُما؛ مَعَ أنَّ تَسارُعَ الـمَوتِ إلى أجسامنا بِهُجُومِ الآجالِ لا يُبقي لِي وَلا لأحَدٍ أمَلاً مِنَ الآمال الـدُّنيَويـَّةِ إلاّ وَيَقطَعُها، وَلا لـَذَّةً إلاّ وَيَهْدِمُها. فَلا حَولَ عَنْ تلِكَ البَلِيــَّةِ الهائِلَةِ وَلا قـُوَّةَ عَلى مل يُسَلـِّينَا عَنها إلاّ بِكَ يا خَالِقَ الـمَوتِ وَالحَياةِ! وَيا مَنْ لَهُ الـحَياةُ الَسـَّرمَدِيــَّةُ، الـَّذي مَنْ تَمـَسـَّكَ بِهِ وَتـَوجــَّهَ إلَيهِ وَيـَعرِفُهُ وَيُحِبــُّهُ؛ يَدُومُ حَياتُهُ وَيـَكُونُ الـمَوتُ لَهُ تَـجَـدُّدَ وَتـَبديلَ مـَكانٍ. فَإذاً فَلا حُزنَ لَهُ وَلا ألَمَ عَليهِ بِسِرِّ } ألا إنَّ أولِيَاءَ اللهِ لا خَوفٌ عَلَيهِمْ وَلا هُمْ يَحزَنُونَ { (يونس:62).

إلـَهي! لِي لأجلِ نَوعيِ وَجِنسِي عَلاقاتٌ بِتَألــُّماتٍ وَتـَمَنـّياتٍ بِالسـَّموَاتِ وَالأرضِ وَبـِاَحوَالِها. فَلا قُوَّةَ لي بِِوجهٍ مِنَ الوُجُوهِ عَلى إسماعِ أمري لَهُما، وَتـَبليغِ أمـَلي لِتِلكَ الاَجرامِ، وَلا حَولَ عَنْ هذا الابِتِلاءِ وَالعَلاقَةِ إلاّ بِكَ ياربَّ الســَّموَاتِ وَالاَرضِ! وَيا مَنْ سَخـَّرَهُما لِعِبادِهِ الصـَّالِحينَ.

إلـَهي! لِي وَلِكـُلِّ ذي عَقلٍ عَلاقَاتٌ مَعَ الأزمنة الـماضِيَةِ وَالاَوقاتِ الاِستِقبَاليــَّةِ؛ مَعَ أنـَّنا قَد انْحَبـَسْنَا في زَمانٍ حاضِرٍ ضَيـّقٍ لا يَصلُ ايدِينا اِلى أدنى زَمانٍ ماضٍ وَمُستَقبَلٍ لـِجلبٍ مِنْ ذاكَ ما يُفـرِّحُنا، او لِدَفْعٍ مِنْ هذا ما يُحزنُنا. فَلا حَولَ عَنْ هذِهِ الـحالَةِ، وَلا قُوَّةَ عَلى تـَحويلِها إلى أحسَنِ الـحالِ إلاّ بِكَ يارَبَّ الـدُّهُورِ وَالاَزمَانِ.

إلـَهي! لِي فِي فِطرَتِي وَلِكـُلِّ أحَدٍ في فِطرَتِهِمْ آمالٌ أبَديـَّةٌ وَمـَطالِبُ سَرمَديــَّةٌ تَمْتَـدُّ إلى أبَدِ الآيادِ. إذ قَد أوْدَعْتَ في فِطرِتَنَا استِعداداً عَجيباً جامعاً، فيهِ احتياجٌ وَمـَحـَبــَّةٌ لا يُشبِعُهُما الدُنيا وَما فيها، وَلاَ يرضي ذلكَ الاِحتِياجُ وَتِلكَ الـمَحَبــَّةُ إلاّ بِالـجَنــَّةِ الباقِيَةِ؛ ولا يَطمئِنُّ ذلِكَ الاِستِعدادُ إلاّ بِدارِ السـَّعادَةِ الاَبـَديــَّةِ. يارَبَّ الـدُّنيا وَالآخـِرَةِ وَيارَبَّ الـجَنــَّةِ وَدَارِ القَرارِ(1).
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الألعاب التراثية القديمة.. من ذاكرة الريف السوري عبدالقادر حمود ركن وادي الفرات 0 06-05-2010 11:15 AM
برنامج DirectX 11 for Windows XP and VISTA لزيادة توافق الألعاب والبرامج الجديدة احمد قسم الحاسوب 3 08-04-2009 01:01 PM


الساعة الآن 08:42 PM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir