أنت غير مسجل في منتديات البوحسن . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           الحَمْدُ لله الذِي عَافَانِي في جَسَدِي ورَدَّ عَلَيَّ رُوحِي، وأَذِنَ لي بِذِكْرهِ           
العودة   منتديات البوحسن > التزكية > رسائل ووصايا في التزكية

رسائل ووصايا في التزكية كلّ ما يختص بعلوم السلوك وآداب القوم وتزكية النفس والتصوف الإسلامي

إضافة رد
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع
قديم 04-06-2011
  #1
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي الشعاعات - الشعاع الخامس عشر


الشعاع الخامس عشر - ص: 626

الشعاع الخامس عشر
الحجة الزهراء
"عبارة عن مقامين"


يبدو هذا الدرس ظاهراً رسالة صغيرة، الاّ انها في الحقيقة رسالة عظيمة وقوية وواسعة جداً. وهي فاكهة ايمانية وثمرة قرآنية فردوسية أينعت من حياتي التفكرية ومن اتحاد علم اليقين وعين اليقين في حياة النور المعنوية التحقيقية.

سعيد النورسي
الشعاع الخامس عشر - ص: 627
المقام الاول
"
على ثلاثة اقسام"

القسم الاول
من الدرس الذي اُلقي في المدرسة اليوسفية الثالثة. وهو خلاصة الخلاصة للمكتوب العشرين.
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
ان الذي قضى خمساً وثلاثين سنة معتزلاً الناس، وودّع الدنيا ونسيها، ولاسيما في الليالي، حتى استوحش من الناس، لكثرة ماعانى من المراقبة المستديمة والترصد الدائم لأعماله ترصداً ينطوي على حقد وضغينة وسوء طوية، طوال ثلاثٍ وعشرين سنة، حتى اصبح يتضايق من ان يقضي ساعة من وقته مع أحدٍ من الناس وفي مكان واحد، سوى من يشتاق الى رسائل النور ومَن يقوم بمعاونته.. اقول: لقد نقلوا هذا الضعيف - انا العاجز - الى الزنزانة الخامسة كرهاً، حيث الازدحام على أشده. ومنعوا اخوتي من التردد اليّ، بحجة رفعي دعوىً الى محكمة التمييز حول وضعي في السجن المنفرد احد عشر شهراً.
فحينما كنت مضطرباً وقلقاً على عدم تحمل العيش في هذا الازدحام الكثيف، اذا بالجو يبرد برداً شديداً - علامة على الغضب - بحيث لو كنت في مكاني السابق لما تحملته قطعاً. فانقلب لي العُسر يسراً، ونزلت بي تلك الشدة رحمة منه تعالى. فخطر للقلب:
الشعاع الخامس عشر - ص: 628
على الرغم من قيام طلاب النور باداء وظيفتهم - ونيابة عنك - في تبليغ حقائق رسائل النور بجد واخلاص، في كل ردهة من ردهات السجن، فان هذه الردهة الخامسة الشبيهة بموضع إنزواء الزاهدين يتجدد دائماً ويتبدل، فهي اذن احوج ماتكون الى دروس النور.
وكذا الشباب والشيوخ لاشك أنهم بأمس الحاجة الى دروس يقينية وراسخة في اثبات وجوده تعالى واثبات وحدانيته سبحانه. حيث يقرأون ماتكتبه الصحف من هجوم الروس على الايمان بهجمات الالحاد الرهيبة، وانكار الخالق العظيم.
فالذي ورد الى القلب اثناء الاذكار عقب الصلاة هو هذا. وذكرت بدوري التهليل الذي اذكره منذ السابق عقب صلاة الفجر عشر مرات، وهو:
(لا اله الاّ الله وحده لاشريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لايموت بيده الخير وهو على كل شئ قدير واليه المصير.) 1
هذا التهليل العظيم والتوحيد الجليل الذي يحمل الاسم الاعظم - حسب رواية - قد فصّله (المكتوب العشرون) العظيم تفصيلاً واضحاً ساطعاً كالشمس، وذلك في احدى عشرة كلمة من كلماته في احد عشر برهان من براهين وجوب وجوده تعالى ووحدانية ربوبيته وأورد احدى عشرة بشارة من البشارات السارة.
نعم، كنت اكرر هذه الجملة المقدسة بتدبر عميق مع التفكر في خلاصة موجزة للمكتوب العشرين، فخطر للقلب فجأة: إلق هذه الخلاصة الموجزة درساً للعالم الفاضل "نادر" ومن يقيم هنا من الشباب. وانا بدوري قلت: بسم الله.. وبدأت بإلقاء الدرس:

_____________________
"كان صلى الله عليه وسلم يقول في دُبر كل صلاة مكتوبة [حين يسلم]: لاإله إلا الله وحده لاشريك له، له الملك وله الحمد (يحيي ويميت، وهو حي لايموت بيده الخير وهو على كل شيءٍ قدير).
«ثلاث مرات» اللهم لامانع لما اعطيت ولامعطي لما منعت ولاينفع ذا الجدّ منك الجدّ./ صحيح: انظر تفصيل التخريج وعزو هذه الزيادات في الاحاديث الصحيحة (196) - الاحاديث التي هي خارج الاقواس موجودة في البخاري ومسلم. والزيادة الاولى المحصورة بين القوسين لأحمد وابي داود، والثانية للطبراني والثالثة للنسائي وابي خزيمة. أقول: وهذا الحديث الذي أورده الاستاذ النورسي من العجائب، اذ عندما تتبعت احاديث الورد في الصباح والمساء وبعد الصلاة وجدتها تختلف بالسياق. وجمع الزيادات بهذه الطريقة صعبة للغاية تحتاج الى مصادر واسعة وطول باع في الحديث، فياترى ما تفسير ايراد الاستاذ لهذا النص وبتلك الزيادات دونما رجوع او توفر مصادر كالتي يمتلكها المحدّثون.. ان التفسير الوحيد هو: إكرام إلهي.

الشعاع الخامس عشر - ص: 629
ان في هذا الكلام التوحيدي احدى عشرة بشارة، واحدى عشرة حجة ايمانية. سأشير الى الحجج وحدها باشارة قصيرة جداً محيلاً ايضاحاتها وبشاراتها الى "المكتوب العشرين" والى اجزاء رسائل النور.
وعندما كتبت هذا الدرس، رأيت من الانسب ايضاً ادراج ما لم افصح عنه للمسجونين من كلمات ونكات فيه.
وهكذا، فالكلمات الاحدى عشرة من ذلك الكلام التوحيدي هي الآتية:

الكلمة الاولى: "لا اله الاّ الله"
ان الحجة الايمانية في هذه الكلمة هي رسالة "الآية الكبرى" تلك الرسالة الخارقة التي لانظير لها.
فقد أدت الى نيل طلاب النور بالبراءة من المحكمة، وظهورهم في سجن "دنيزلي" وانتصارهم في كل من محاكم "انقرة ودنيزلي" وانتشارها بالخفاء انتشاراً مؤثراً. مثلما اصبح طبعها سراً سبباً لاعتقال طلابها تسعة اشهر.
نعم ان شعاع "الآية الكبرى" اظهر ثلاثةً وثلاثين اجماعاً عظيماً وحججاً كلية في الكون كله، مع اشارته في كل حجة كلية الى براهين غير محدودة تثبت وجود واجب الوجود، ووحدانيته اثباتاً ساطعاً واضحاً وضوح النهار. فيستنطق السموات بكلمات النجوم في المقدمة ثم الارض بجمل الحيوانات والنباتات وهكذا حتى يستنطق الكون كله بكلمات حقائق الحدوث والامكان والتغيّر..
فعلى الذين يطلبون ايماناً راسخاً لايتزعزع والباحثين عن سيف لاينثلم تجاه الفوضى الملحدة ان يراجعوا رسالة "الآية الكبرى".

الكلمة الثانية: "وحده"
والاشارة الوجيزة الى الحجة التي فيها هي:
ان في كل جهة من جهات هذا الكون وفي كل ناحية من نواحيه تشاهد وحدةً واضحة:
الشعاع الخامس عشر - ص: 630
فمثلاً: الكون كله اشبه مايكون بمدينة عامرة، وقصر شامخ وكتاب بليغ مجسم، بحيث أن كل آية فيه، بل كل حرف من حروفه، بل كل نقطة من نقاطه في حكم معجزة وقرآن مجسّد.
نعم فكما يبين هذا وحدةً واضحة في الكون، فان مصباح ذلك القصر مصباح واحد، وقنديله الذي يبين الاوقات واحد ايضاً، وطبّاخه المالك للنار.. واحد. وساقيه بالماء.. واحد، وهكذا واحد.. واحد.. واحد. حتى يبلغ الألف وواحد من الواحد والوحدة.
وبإظهار الكون هذه الوحدة في كل شئ، يثبت أن صاحب ذلك القصر وتلك المدينة وذلك الكتاب، ذلك القرآن الكبير المجسم، وكاتبه ومصنّفه، موجود وواحد أحد.

الكلمة الثالثة: "لاشريك له"
والاشارة المختصرة جداً الى ما فيها من حجة هي:
الآية الجليلة: (قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذاً لابتغوا الى ذي العرش سبيلاً) (الاسراء: 42) التي هي منبع شعاع "الآية الكبرى" واستاذه، واساسه.
نعم لو كان معه آلهة ولها مداخلة في الخلق والايجاد والربوبية لفسد نظام الكون كله واختل. بينما يشاهد أكمل نظام وادقه في كل شئ ابتداءاً من جناح ذبابة صغيرة، ومن بؤبؤ عينها ومن حجيرتها الصغيرة وانتهاء الى الطائرات الجوية، تلك هي الطيور التي لاتعد ولاتحصى، والى المنظومة الشمسية، ففي كل شئ في الوجود يُرى أكمل نظام سواءً أكان جزئياً أم كلياً، صغيراً ام كبيراً. مما يثبت هذا النظام الاكمل اثباتاً لا يحتمل الشك ان الشرك محال وجوده، وانه معدوم اصلاً، ويثبت ايضا إثباتا واضحاً وجود واجب الوجود ووحدته.
الشعاع الخامس عشر - ص: 631
الكلمة الرابعة: "له الملك"
واشارة قصيرة جداً الى ما فيها من حجة طويلة هي:
اننا نشاهد بأبصارنا أن وراء حجاب الغيب من هو متصرف بالامور مالك لقدرة مطلقة لايحدها حد ويملك من العلم مالايحده حدود، اذ جعل وجه الارض مزرعة واسعة سعة الارض كلها، ينثر فيها كل ربيع بذوراً تزيد على مائة الف نوع من النباتات، ينثرها جميعاً معاً ومختلطاً بعضها ببعض، ثم يجني محاصيلها جنياً متمايزاً دون اختلاط ولا التباس مع انتظام كامل، ويوزع بيد الرحمة والحكمة على مائتي الف نوع من الحيوانات مايلائمهم من رزق معين على حسب حاجتهم. وهكذا يصرّف الامور على سعة ملكه الواسع الفسيح، الغني المعطاء. ولاسيما مزرعة الارض.
فالذي لايؤمن بهذا المتصرف الحكيم والملك الرحيم يضطر الى انكار هذه الارض مع محاصيلها ويكون كالسوفسطائيين الحمقى.

الكلمة الخامسة : وهي " وله الحمد "
ان إشارة مختصرة جدا ً الى ما فيها من حجة واسعة جدا ً هي :
اننا نشاهد بابصارنا وندرك بعقولنا ادراكا ً لحد البداهة : ان رزاقا ً رحيما ً ومحسنا ً كريما ً يتصرف ويدبر امور مدينة الكون ويرعى شؤون حي الارض، ويربي معسكر الانسان والحيوان، حتى انه حوّل الارض الى سفينة تجارية، والى قطار لجلب الارزاق ، ليبعث على الشكر والحمد بما يغدق من نعمه التي لاتعد ولاتحصى جاعلا ً من الربيع المبسوط على وجه الارض ما هو بمثابة عربة القطار، المشحونة بمائة الف نوع ونوع من انواع الاطعمة ، وملأ الاثداء الشبيهة بالمعلبات باللبن السائغ لإمداد ذوى الحياة المعوزين الذين نفدت ارزاقهم نهاية الشتاء. فمن يملك ذرة من عقل يؤمن بلاشك أن هذا الأمر انما هو من افعال رزاق رحيم. ومن لايؤمن بهذا و يضل ضلالا ً بعيدا ً يضطر الى انكار جميع النعم المنضودة والارزاق المعينة الباعثة على الحمد والشكر، وليس هو الاّ احمق حيوان مضر.
الشعاع الخامس عشر - ص: 632
الكلمة السادسة : وهي " يحي".
ان اشارة مختصرة جدا ً الى ما فيها من حجة هي :
ما اثبت في "الكلمة العاشرة " وفي اجزاء رسائل النور بالبراهين القوية انه :
يبعث على سطح الارض في كل ربيع جيش سبحاني ضخم مؤلف من ثلاثمائة الف نوع من انواع ذوى الحياة وبما لايحد من الافراد في اشكال متنوعة وانماط مختلفة. فتوهب لها الحياة، ويجهز بكل ما يلزم الحياة وبانتظام كامل، مما يبين لنا مائة الف نموذج من نماذج الحشر الاعظم، بل من اماراته.. فالذي يحي كل تلك المخلوقات المتنوعة غير المحدودة معاً، وهي مختلطة ومكتنفة ومتشابكة بعضها في بعض، بلا سهو ولاخطأ ولانقص، ومن دون تحيّر، ويميّزها برغم اختلاطها وامتزاجها، وبلا نسيان لأحد منها، ويهب لها الحياة بكمال الميزان والنظام ويبعثها من نطفها التي هي قطرات ماء متماثلة، ومن نواها المتشابهة، ومن حبيبات لايتميز بعضها عن بعض الاّ قليلاً، ومن بويضات الحشرات التي هي عين الاخرى ومن نطف الطيور، ومن بويضاتها التي هي عين بعضها او بفروق طفيفة، فالذي يحيي تلك المئات من الالوف من ذوى الحياة التي تضم افرادا ً لاتعد ولاتحصى، المتباينة صورة، وصنعة ومعيشة، ويبعث تلك المئات من الالوف من الاحياء. ويكتب مائة الف كتاب مختلف بعضها عن بعض على صحيفة الارض والربيع، يكتبها معا ً ومتداخلا ًوبلا خطأ كتابة في اتم اتقان، ويتصرف فيها بعناية لا حدّ لها ويعمل فيها بحكمة لا منتهى لها.. نعم.. ان الذي يفعل هذا انما هو الخلاق العليم وهو المحيي والحي القيوم.. فمن لا يعتقد بهذا لاشك انه مضطر الى انكار نفسه وانكار جميع الاحياء المنتشرة على الارض كافة والمعلقة على شريط الزمان في جميع مواسم الربيع الماضية والموجودة على وجوه الارض الحية والفضاء الحي.. وما هو الاّ احمق الاحياء واشقاهم.

الكلمة السابعة : وهي "ويميت"
ان اشارة في منتهى الاختصار الى حججها هي :
اننا نشاهد عندما تسرّح ثلاثمائة الف نوع من الاحياء من وظائفها باسم الموت في الخريف، فان كل نوع وكل فرد يودع بذوره الى يد الحكمة للحفيظ الجليل ، تلك
الشعاع الخامس عشر - ص: 633
البذور التي هي عليبات صحائف اعماله، وفهارس افعاله، وقوائم ما سيعمله في الربيع المقبل، وهي شبيهة بروحه الباقية من جهة - كبذيرات التين المتناهية في الصغر التي تحمل جميع قوانين الحياة لشجرتها، فهى بمثابة روح باقية لها - فيكتب فيها الخلاق الحكيم، الحى الذي لايموت، بقلم القدر - كالكتابة في القوة الحافظة - تأريخ حياة الشجرة وكأنها كتاب ضخم.. فمن لايؤمن بهذا الخلاق الحكيم الحي الذي لايموت ليس هو انسان احمق وحيوان فاقد الشعور وحده بل هو كذلك اشقى من شيطان تضرم به نار جهنم ومحكوم عليه بالموت الابدي.
نعم، ان هذه الافعال المذكورة والتي تشير الى حجج هذه الكلمات، وهي افعال حكيمة كلية محيطة وفي منتهى الاعجاز وتضم ما لا يتناهى من المعجزات والخوارق.. هذه الافعال لا يمكن ان تكون بلا فاعل قطعاً، بل ذلك محال بمائة محال، وباطل اطلاقاً، فاسنادها الى الاسباب العمياء الصماء العاجزة الفاقدة للشعور، الجامدة المختلطة المستولية غير المنتظمة، ممتنع بالف مرة ومرة ولا أساس له قطعاً.
فلو فوضت تلك الافعال الحكيمة الى غيرالفاعل الحكيم للزم وجود قدرة مطلقة وحكمة مطلقة واتقان بديع كلى تخص تشكل جميع الاعشاب والازاهير في كل ذرة من ذرات التراب.. ويلزم وجود قابلية فهم وإفهام اقوال ومكالمات وكلمات جميع الهواتف والراديوات في كل ذرة من ذرات الهواء. كما ذكر في نكتة توحيدية في لفظ "هو" في "مرشد الشباب" ـ
وهذا المفهوم الغريب العجيب لا يسع اى شيطان كان ان يقنع به احدا ً قط، فالكفر والانكار الذي هو خارج عن نطاق العقل الى هذا الحد وبعيد كل البعد عن الحقيقة وهو اهانة للكائنات كلها وتعدّ على حقوقها.. لاجزاء له الاّ النار، وهو عين العدالة. فينبغي القول :"لتعش جهنم لمثل هؤلاء المنكرين".

الكلمة الثامنة : "وهو حي لايموت "
ان اشارة مختصرة جدا ً الى ما فيها من حجة هي:
ان الشميسات المشاهدة مثلا ً اثناء النهار على حباب وجه البحر وعلى سطح النهر الجاري، تختفى بذهاب تلك الحباب، فتُظهر التي تعقبها الشميسات نفسها
الشعاع الخامس عشر - ص: 634
كسابقاتها، فتشير بهذا الى الشمس التي في السماء وتشهد عليها. وتدل بزوالها ووفاتها على وجود شمس دائمية وعلى بقائها.
كذلك المخلوقات على وجه بحر الكون المتبدل دوماً وفي فضائه المتجدد الذي لايحد، وفي مزرعة ذراته، هذه المخلوقات تسيل سراعا ً وباستمرار في نهر الزمان الذي يتموج محتضنا ً جميع الحوادث والموجودات الفانية، وتموت مع اسبابها الظاهرية. فيذوق كونٌ الموتَ كل سنة ،وكل يوم، ويحل آخر جديد محله، وتموت دنى ً سيارة باستمرار وعوالم سيالة في مزرعة الذرات بعد اخذ المحاصيل منها .
فكما تبين الحباب والشميسات بزوالها الشمس الدائمة ، فان وفاة تلك المخلوقات غير المحدودة وزوال تلك المحاصيل، وتسريحها مع اسبابها الظاهرية تسريحاً بكمال الانتظام تدل دلالة قاطعة كالنهار الابلج والشمس في وضح النهار على وجوب وجود الحى الذي لايموت، على الشمس السرمدية، على الخلاق الباقي، على الآمر الاقدس، وعلى وحدانيته جل وعلا وعلى وجوده، دلالة ظاهرة أظهر من وجود الكائنات نفسها بألف مرة.. والشاهد على هذا كل موجود بحد ذاته وكل الموجودات معاً.
فلاشك ان قد ادركتم مدى حماقة وصمم وجناية من لايسمع هذه الاصوات العالية التي تملأ فضاء الكون كله وهذه الشهادات القاطعة الصادقة.

الكلمة التاسعة : وهي " بيده الخير "
ان اشارة في منتهى الاختصار الى ما فيها من حجة هي :
اننا نشاهد في كل دائرة من دوائر هذا الكون وفي كل نوع من انواعه وفي كل طبقة من طبقاته حتى في كل فرد من افراده ، بل في كل عضو من اعضائه ، بل حتى في كل حجيرة من حجيرات جسمه، مخزناً احتياطىاً ومستودعاً لإدخار الرزق، ومزرعة وخزينة تهيئ ما يلزمه ويقيه ، وتسلم - ما فيها - يدٌ غيبية الى يد ذلك المخلوق في أنسب وقت ومن حيث لايحتسب بل بشكل خارج عن طوقه وارادته، ضمن انتظام تام على وفق ميزان دقيق، ويتم ذلك كله في منتهى الحكمة وغاية
الشعاع الخامس عشر - ص: 635
العناية.. فالجبال مثلا ً تدخر كل ما يلزم الاحياء والانسان من معادن وادوية وكل ما يلزم متطلبات الحياة. فهى خزائن ملئت في غاية الكمال بأمر الواحد الاحد وبتدبيره. مثلما الارض مزرعة وبيدر ومطبخ تهيئ ارزاق جميع الاحياء وبكمال الانتظام والميزان وذلك بقوة الرزاق الحكيم، بل ان في كل انسان، وفي كل عضو من اعضائه مخزنا ً ومستودعا ً للإدخار، بل حتى في كل حجيرة من حجيرات الجسم ايضاً مخزن صغير يناسبه لخزن الاحتياطي من الارزاق.. وهكذا في كل موجود مخزن؛ حتى ان مخزن الاخرة هو دار الدنيا، ومزرعة الجنة ومستودعها هو عالم الاسلام وعالم الانسانية الحقة، الذي تنبعث منه الحسنات والحسن والانوار. ومخزن من مخازن جهنم هو المواد الفاسدة والطوائف الملوثة التي تنتج حناظل الشرور والقبح والكفر، تلك الشرور الناتجة من العدم والملوثة لعوالم الوجود التي هي الخير. ومخزن حرارة النجوم وموردها جهنم، وخزينة انوارها ومصدرها الجنة..
وهكذا فان كلمة " بيده الخير" باشارتها الى جميع تلك الخزائن غير المحدودة تبين حجة ساطعة جداً.
نعم، ان هذه الكلمة، وكذا عبارة: "بيده مقاليد كل شئ " حجتان للربوبية والوحدانية لا منتهى لسعتهما، وهما ذات خوارق ومعجزات لاحدود لها، تبينها هاتان الجملتان لمن لم يطمس على عينه.
فانظر مثلاً من تلك الخزائن والمقاليد غير المحدودة الى هذه فحسب :
ان المدبر الحكيم المالك لمفاتيح البذور والنوى، تلك المخازن الصغيرة التي يضم كل منها اجهزة منهاج مقدرات شجرة ضخمة او زهرة فوّاحة، كما يوقظ بواب بذرة بأمره "أفق" بمفتاح الارادة، وبميزان نظام تام، كذلك يفتح خزينة الارض الهائلة بمفتاح الغيث، فيفتح جميع المخازن الصغيرة أي الحبيبات التي هي نطف النباتات وجميع مبادئ الحيوانات، والقطرات التي هي نطف الطيور والحشرات المتشكلة من هواء وماء، يفتحها جميعا ً ومعا ً وبلاخطأ وذلك بتلقيها أمر الإنفتاح والانكشاف.. ويفتح سبحانه في الوقت نفسه جميع خزائن الكون الكلية والجزئية، المادية والمعنوية، بمفتاح خاص لكل منها بيد الحكمة والارادة والرحمة والمشيئة.
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-06-2011
  #2
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الشعاعات - الشعاع الخامس عشر


الشعاع الخامس عشر - ص: 636
فان كنت تريد ان تعرف هذا وتراه فانظر الى مخازنك الصغيرة وهي قلبك ودماغك وجسدك ومعدتك. وانظر الى حديقتك والى الربيع الذي هو زهرة الارض والى ازاهيره وثمراته، فانه سبحانه يفتحها بيد غيبية بمفاتيح متباينة متنوعة آتية من مصنع "كن فيكون" يفتحها بكمال النظام والميزان والرحمة والحكمة، فيخرج رطلاً بل مائة رطل من المطعومات احيانا ًمن درهم من عليبات صغيرة، يخرجها بكمال الانتظام والميزان مقيماً بها ضيافة فاخرة لذوي الحياة.
فهل من الممكن ان تتدخل قوة عمياء وطبيعة صماء ومصادفة عشواء واسباب جامدة جاهلة عاجزة في فعل ٍ لانهاية له يؤدّى الى هذه الدرجة من الانتظام والعلم والبصيرة، وفي صنعة دقيقة ذات حكمة تامة لا تدنو منها المصادفة قطعاً، وفي تصرف موزون لاخطأ فيه اطلاقاً، وفي ربوبية جليلة عادلةٍ عدالةً تامة لاظلم فيها اصلا ً ؟
وهل يمكن لمن لايرى الاشياء كافة في آن واحد ولايستطيع ادارتها كلها دفعة واحدة، ولايجعل الذرات والنجوم السيارة معاً تحت أمره ان يتدخل في هذه الادارة وتصريف الامور التي جوانبها كلها ذات حكمة ومعجزة وميزان؟.
وهكذا فمن لايؤمن بمثل هذا المتصرف للامور ، المدبر الرحيم، والرب الحكيم، والذي بيده الخير، وله مقاليد كل شئ، ويضل ضلالا ً بعيدا ً، ليس له الاّ النار التي تستعر وتغضب حتى (تكاد تميز من الغيظ) (الملك: 8) كما قال تعالى. فتقول جهنم بلسان حالها: انه يستحق عذابى الخالد فليس هو اهل للرحمة.

الكلمة العاشرة : وهي "وهو على كل شئ قدير"
ان اشارة مختصرة جدا ً الى ما فيها من حجة هي:
ان كل ذي شعور يأتي الى هذه الدنيا المضيف، ويفتح عينه يرى:
قدرة تمسك الكون كله في قبضتها، وتضم علماً ازلياً مطلقاً لايضل ولاينسى وحكمة سرمدية لاعبث فيها اطلاقاً وتشمل عناية بالغة، بحيث تجعل كل فرد من افراد جيش الذرات منجذباً جذبة مولوية، فتستخدمها في وظائف شتى، وتجرى في
الشعاع الخامس عشر - ص: 637
اللحظة نفسها الكرة الارضية في دائرة واسعة تبلغ مسافتها اربعة وعشرين الف سنة في سنة واحدة وتديرها كالعاشق المولوى المجذوب بالقانون نفسه.
واذ هي تجلب محاصيل المواسم الى الحيوانات والانسان، تجعل بالقانون نفسه في اللحظة نفسها الشمس مكوكاً ودولاباً وتديرها في مركزها دوران منجذب عاشق ايضاً مسخرة النجوم السيارة التي هي افراد جيش المنظومة الشمسية في خدمات ووظائف جليلة بكمال الميزان والانتظام.
وان القدرة نفسها تكتب بقانون الحكمة نفسها في اللحظة نفسها مئات الالوف من الانواع على صحيفة الارض كافة، والتي كل منها بمثابة مئات الالوف من الكتب، تكتبها معاً ومتداخلة، وبلا التباس ولاسهو، مظهرة بها الوف نماذج الحشر الاعظم.
وان القدرة نفسها، في اللحظة نفسها تحول صحيفة الهواء الى لوحة محو وإثبات، جاعلة من ذراتها كلها كأنها نهايات قلم ذلك الكتاب ونقاطه، مستعملة اياها في وظائف كثيرة ضمن ما يعيّنه الامر والارادة الإلهية، حتى انها اعطت قابلية الى كل من تلك الذرات لتتلقى الكلمات والمكالمات كلها كأنها تعلم بها وتنشرها بلاخطأ ولاحيرة كأنها اُذينات صغيرة ولُسينات دقيقة. مما يثبت ان عنصر الهواء عرش للأمر والارادة الإلهية.
وهكذا فقياساً على هذه الاشارة المختصرة:
فالذي جعل هذا الكون في حكم مدينة منسقة، وقصر عامر، ومضيف فاخر وكتاب معجز، وقران مبين، ويمسك في قبضة قدرته بميزان العلم ونظام الحكمة جميع طبقات المخلوقات ودوائرها وطوائفها ابتداءً من ذرة من ذراتها وانتهاء ً الى مجموع الكون كله، ويدبّر شؤونه ويتصرف فيه ويظهر ضمن تلك القدرة الجليلة، حكمته البالغة ورحمته الواسعة ويُُعلم ضمن ربوبيته المطلقة ويعرّف بها وجوده ووحدانيته، تعريفاً ظاهراً كالشمس في رابعة النهار. فيطلب ازاء تعريفه، التعرف اليه بالايمان، وإزاء تودده ودّّه بالعبادة، وازاء آلائه شكره وحمده.
الشعاع الخامس عشر - ص: 638
فالذين لايعرفون هذا الرحمن الرحيم ولايسعون بالعبودية لحبّه، بل يضلون الى الانكار فيضمرون نوعاً من العداء تجاهه.. هؤلاء ليسوا الاّ شياطين في صور أناسي، وفي حكم نماردة صغار وفراعنة صُغر. ولاشك أنهم يستحقون عذاباً خالداً لانهاية له.

الكلمة الحادية عشرة : وهي " واليه المصير "
اي: ان المصير الى دائرة حضوره، والى عالمه الباقي، والى دار آخرته، والى منزل سعادته السرمدية، كما انه مرجع جميع مخلوقات الكون فتستند اليه وترجع الى قدرته جميع سلسلة الاسباب، علماًً ان الاسباب ستائر وضعت امام تصرفات تلك القدرة، لأجل الحفاظ على هيبتها وعزتها المقدسة. فجميع الاسباب الظاهرية ستائر لا تأثير لها في الايجاد قطعاً. فلولا امره جل وعلا وارادته لايقدر شئ - حتى الذرة - من الحركة.
نشير اشارة مختصرة الى ما في هذه الكلمة من حجة فنقول:
اولاً: ان حقيقة الحشر والآخرة والحياة الباقية التي تعبّر عنها هذه الكلمة المقدسة نحيل اثباتها والتصديق بها الى "الكلمة العاشرة" وذيولها والى الكلمة التاسعة والعشرين التي تثبت تحققها القاطع كتحقق الربيع المقبل، والى المسألة السابعة من رسالة الثمرة، والى شعاع المناجاة، والى الاجزاء الايمانية لرسائل النور.
حقاً ان تلك الرسائل قد اثبتت هذا الركن الايماني بحجج لا منتهى لها، بان تحقق الآخرة ثابت بدرجة تحقق وجود الدنيا بحيث تلجئ حتى اعتى المنكرين الى التصديق به.
ثانيا ً: ان ثلث القرآن المبين يبحث في الآخرة والحشر، ويبني كل الدعاوى على تلك الحقيقة. لهذا فكما أن جميع معجزات القران وحججه التي تثبت أحقيته تدل على وجود الآخرة. كذلك جميع معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم الشاهدة على صدق نبوته
الشعاع الخامس عشر - ص: 639
وجميع دلائل نبوته وجميع حجج صدقه تشهد على الآخرة والحشر؛ لان اعظم ما دعا اليه ذلك النبي الكريم صلى الله عليه وسلم طوال حياته كلها هو الآخرة، كما ان مائة واربعة وعشرين الف من الانبياء الكرام عليهم السلام قد دعوا جميعهم الى الحياة الباقية والسعادة الابدية وبشروا البشرية بها واثبتوا صدق دعواهم بما لايحد من المعجزات والدلائل القاطعة.
فلاشك ان جميع معجزاتهم وحججهم الدالة على نبوتهم وعلى صدقهم في دعواهم تشهد ايضاً على الاخرة والحياة الباقية التي هي اعظم وادوم دعواهم.
فقياساً على هذا فان جميع الادلة التي تثبت سائر الاركان الايمانية تشهد بدورها على حدوث الاخرة وعلى انفتاح ابواب دار السعادة الخالدة.
ثالثا ً: ان خالق هذا الكون الذى خلقه بجميع ذراته وسياراته وأجزائه وطبقاته مقلداً كلاً منها بوظيفة بل وظائف كثيرة بكمال الحكمة ومسخراً لها باستمرار اظهاراً لكماله وقدرته وربوبيته. والذي يرسل طوائف المخلوقات قافلة اثر قافلة بل يرسل دنىً متعاقبة متجدّدة سيالة الى مضيف هذا العالم والى ميدان امتحان هذه الحياة الدنيوية ليظهر تجليات غير محدودة لاسمائه الحسنى السرمدية وليلتقط صور تلك المخلوقات واعمالها واوضاعها بكامرات برزخية وسينمات اخروية منصوبة في عالم المثال. ومن بعد تسريحها يرسل طوائف اخرى قافلة اثر قافلة، بل يرسل نوعا ًمن دنى سيارة وسيالة الى ذلك الميدان، لاجل ان تتسنم وظائف جليلة وتصبح مرايا لتجليات اسمائه الحسنى.
فهل من الممكن لهذا الخالق الجميل، الصانع الجليل،الله ذي الكمال، الاّ يجعل دار ثواب وجزاء؟ والاّ يقيم الحشر والنشور لنوع الانسان الذي يقابل بالشعور والعقل في هذه الدنيا الفانية جميع مقاصد ذلك الخالق الكريم، والذي يحبّ ذلك الخالق ويحببه بجميع استعداداته، والذي يعرفه ويعرّفه، ويتوسل اليه بادعية لاحد لها لبلوغ السعادة الابدية والبقاء الاخروى، والذي يسأل الحياة الباقية التي هي اللذة بعينها يسألها بجميع فطرته وروحه واستعداده لما يتألم آلاماً لاحد لها بالعقل الذي يحمله.
الشعاع الخامس عشر - ص: 640
فهل يمكن الا يكون لهذا الانسان ثواب وعقاب؟ حاش لله والف مرة كلاّ..
ان تفاصيل وايضاح هذه الاشارة المختصرة موجودة باسطع صورها واقوى حججها في رسائل النور؛ لذا نحيل اليها ونختصر هذه المسألة الطويلة جداً .

(سبحانك لا علم لنا الاّ ما علّمتنا انك انت العليم الحكيم)

* * *
الشعاع الخامس عشر - ص: 641
خلاصة مختصرة لسورة "الفاتحة "
القسم الثانى
من درس واحد فقط القي في المدرسة اليوسفية الثالثة في فترة قصيرة جداً اثناء نقلي من التجريد والسجن الانفرادي الى الردهة العامة ومعاشرة الاخرين.

نموذج لدرس قصير جداً القي على طلاب النور في السجن
لقد أمرت "الفاتحة" التي في الصلاة، القلبَ لبيان قطرة من بحرها ولمعة من فيوضات الالوان السبعة لشمسها. ولقد كتبنا نكات لطيفة في غاية الطيب والجمال لهذه الخزينة القرآنية السامية في كل من المكتوب التاسع والعشرين - في قسم منه - وبخاصة في السياحة الخيالية في "ن" نعبد وفي رسالة "الرموز الثمانية" وفي تفسير "اشارات الاعجاز" وفي سائر اجزاء رسائل النور. الاّ اننى اضطررت - من جهة - الى كتابة تفكري في الصلاة لإشارات تلك الخلاصة القرآنية الطيبة الى اركان الايمان وحججه فقط ولخلاصتها التي هي في منتهى الاختصاركالقسم الأول.
أبدأ بـ "الحمدلله" محيلاً "بسم الله الرحمن الرحيم" الى عدد من رسائل النور.

بسم الله الرحمن الرحيم
(الحمدُلله رَبِّ العَالمَينَ _ الرّحمن الرّحيمِ _ مَالكِ يَومِ الدِّينِ _ إياكَ نَعْبُدُ وإياكَ نَسْتَعينُ _ إهدِنا الصِرَاطَ المُسْتَقيمَ _ صِراطَ الذينَ اَنعَمْتَ عليهم غَيرِ المغضُوبِ عَليهم ولاالضّآلين) آمين
الشعاع الخامس عشر - ص: 642
الكلمة الاولى : وهي (الحمدلله)
ان اشارة في منتهى الاختصار الى حجتها الايمانية هي :
ان مبعث الحمد والشكر في الكون؛ هو الآلاء والنعم التي تغدق قصدا ً ولاسيما إرسال اللبن الخالص السائغ للشاربين من بين فرث ودم للصغار والاطفال العاجزين، والاحسانات والهدايا الاختيارية، والاكرامات والضيافات الرحيمة التي غطت سطح الارض برمته، بل غمرت الكون كله، وان ما يقدم لها من اثمان وقدر لقيمتها هي قول: "بسم الله" بدءاً ثم "الحمدلله" ختاماً؛ وبينهما الاحساس بالانعام من خلال النعمة نفسها ثم البلوغ منه الى معرفة الرب الجليل. فانظر الى نفسك بالذات والى معدتك والى حواسك ؛ كم هي محتاجة الى أمور كثيرة ونعم وفيرة! وكم تطلب الارزاق واللذائذ والاذواق بأثمان الحمد والشكر! ابصر هذا وقس على نفسك كل ذي حياة.
وهكذا فإن الحمد غير المتناهي المنطلق بألسنة الاحوال والاقوال؛ إزاء هذه الآلاء الشاملة؛ يبين كالشمس الساطعة ربوبية عامة وموجودية معبود محمود ومنعم رحيم.
الكلمة الثانية : وهي (رب العالمين)
ان اشارة مختصرة جداً الى ما فيها من حجة هي :
إننا نشاهد بأبصارنا ان في هذا الكون الوف العوالم والاكوان الصغيرة، بل ملايين منها، واغلبها متداخل بعضها في البعض؛ وبرغم ان ادارة كل منها؛ وشرائط تدبير شؤونها متباينة، فانها تدار في منتهى التربية والتدبير والادارة، فالكون كله صحيفة مبسوطة امام نظره جل وعلا في كل آن، وجميع العوالم تكتب كسطر بقلم قدرته وقدره، وتُجدد وتُغير.فتنبعث شهادات كلية وجزئية وبعدد الذرات والموجودات الحاصلة من تركبها، وفي كل لحظة وآن، على وجوب وجود ووحدانية رب العالمين الذي يدير هذه الملايين من العوالم والكائنات السيالة بربوبية مطلقة ذات علم وحكمة لانهاية لهما وذات عناية ورحمة وسعتا كل شئ.
الشعاع الخامس عشر - ص: 643
ان من لايصدق بربوبية جليلة تربي وتدبر الامور؛ إبتداءً من مزرعة الذرات الى المنظومة الشمسية والى دائرة درب التبانة؛ ومن حجيرة في الجسم الى مخزن الارض والى الكون كله، تربيها وتدبر شؤونها بالقانون نفسه وبالربوبية نفسها وبالحكمة عينها، ولايستشعر بها ولايدركها ولايشاهدها، يجعل نفسه بلاشك أهلاً لعذاب خالد ويسلب عنه الاشفاق والرحمة عليه.

الكلمة الثالثة: وهي (الرحمن الرحيم)
ان اشارة مختصرة جدا ً الى ما فيها من حجة هي:
انه يشاهد بوضوح ضوء الشمس وجود الرحمة غير المتناهية في الكون وحقيقتها. فهذه الرحمة الواسعة تشهد شهادة قاطعة - كشهادة الضياء على الشمس - على رحمن رحيم محتجب بستار الغيب.
نعم، ان قسماً مهماً من الرحمة هو الرزق، حيث يعطى معنى الرزاق لإسم الله "الرحمن". والرزق نفسه يدل على الرزاق الرحيم دلالة واضحة الى درجة تجعل من له ذرة من شعور مضطرا ً الى التصديق والايمان.
فمثلا ً: أنه سبحانه يهئ ارزاق جميع ذوي الحياة، ولاسيما للعاجزين وبخاصة للصغار، وهم منتشرون على الارض كافة والفضاء كله، يهيؤها لهم بصورة خارقة وهى خارج نطاق اختيارهم واقتدارهم، من غير شئ، من نوى متماثلة، من قطرات ماء، من حبات تراب. حتى انه يسخر للفراخ الضعاف العاجزة عن الطيران والجاثمة في اوكارها على قمم الاشجار، امهاتها وكأنها جندية متأهبة لتلقي الاوامر، فتجول الخضار وتجوب السواقي لجلب الارزاق اليها. بل يسخر اللبوة الجائعة لشبلها، فتطعمه مما حصلت عليه من لحم دون ان تأكل. ويرسل من بين فرث ملوث ودم احمر لبناً سائغاً للشاربين، الى صغار الحيوانات والانسان، يرسله من ينابيع الأثداء، بلا إختلاط ولا إمتزاج ولاتلوث، جاعلاً شفقة والداتهم معينة لهم.
وكما انه يُهرع الارزاق الملائمة الى جميع الاشجار المحتاجة الى نوع من الرزق بصورة خارقة، يُنعم على مشاعر الانسان التي تطلب نوعاًً من ارزاق مادية ومعنوية؛
الشعاع الخامس عشر - ص: 644
ويُحسن الى عقله وقلبه وروحه مائدة واسعة جداً للأرزاق. حتى كأن الكائنات مئات الالوف من موائد النعم المتداخلة ومئات الالوف من سفرات الأطعمة المتباينة، مكتنف بعضها ببعض كأوراق الزهرة وكأغلفة العرانيس، غلافا ً داخل غلاف. فتدل لمن لم يطمس على عينه على الرحمن الرزاق والرحيم الكريم بألسنة بعدد تلك السفرات المبسوطة وبمقدار ما عليها من أطعمة، ألسنة متباينة متغايرة كلية وجز ئية.
واذا قيل: ان ما في هذه الدنيا من المصائب والقبائح والشرور تنافي تلك الرحمة التي وسعت كل شئ ؛ وتعكّّر صفوها!.
الجواب: لقد أوفت جواب هذا السؤال الرهيب أجزاء رسائل النور؛ ولاسيما رسالة القدر. نحيل إليها مشيرين اشارة قصيرة اليه:
ان لكل عنصر ولكل نوع ولكل موجود؛ وظائف متعددة كلية وجزئية ؛ ولكل من تلك الوظائف نتائج كثيرة وثمرات وفيرة. والأكثرية المطلقة منها هي نتائج جميلة ومصالح نافعة وخيرات ورحمات. وقسم قليل منها يصبح شراً وقبحاً جزئياً وظاهرياً وظلما ً إزاء فاقدي القابلية والمباشرين به خطأً، او المستحقين للجزاء والتأديب، او لما يكون وسيلة لإثمار خيرات كثيرة. فلو منعت الرحمة ذلك العنصر وذلك الموجود الكلي عن القيام بتلك الوظيفة للحيلولة دون مجئ ذلك الشر الجزئي، لما حصلت إذاً جميع نتائجها الخيرة الجميلة الاخرى. فتحصل من الشرور والقبائح بعدد تلك النتائج، حيث ان عدم الخيرٍٍشرٌ، وإفساد الجمال قبحٌ. بمعنى ان مئات الشرور والمظالم تقترف للحيلولة دون مجئ شر واحد، وهذا مناف كلياً للحكمة والمصلحة والرحمة التي تتسم بها الربوبية.
مثال ذلك: ان الثلج والبرد والنار والمطر وماشابهها من الانواع ينطوى كل منها على مئات من الحكم والمصالح، فاذا ما قام احد المهملين بسوء اختياره بإرتكاب شر بحق نفسه كأن ادخل يده في النار ثم قال: ليس في خلق النار رحمة. فان فوائدالنار الخيرة الرحيمة النافعة وهي لاتعد ولاتحصى تكذبه في قوله وتصفعه على فمه.
ثم ان اهواء الانسان ومشاعره السفلية التي لا ترى العقبى؛ لا تكون قطعاً مقياساً ومحكاً وميزاناً لقوانين الرحمانية والحاكمية والربوبية الجارية في الكون؛ اذ يرى
الشعاع الخامس عشر - ص: 645
الوجود من خلال تلك المشاعر حسب الوان مرآته. فالقلب المظلم الخالي من الرحمة يرى الكائنات باكية قبيحة تتمزق بين مخالب الظلم وتتقلب في خضم الظلمات. بينما لو ابصرها ببصر الايمان يجدها على صورة انسان كبير متسربل بسبعين الف حلة قشيبة مخيطة بالرحمات والخيرات والحكم، بعضها فوق بعض كأنها حورية من الجنة لبست سبعين حلّة من حللها. ويجدها باسمة دوما بالرحمة ضاحكة مستبشرة. ويشاهد نوع الإنسان الذي فيه كوناً مصغراً، وكل انسان عالماً اصغر، فيقول من اعماق قلبه وروحه: (الحمد لله رب العالمين _ الرحمن الرحيم _ مالك يوم الدين).

الكلمة الرابعة : وهي (مالك يوم الدين)
ان اشارة مختصرة جدا ً الى ما فيها من حجة هي :
اولاً: ان جميع الدلائل المشيرة على الحشر والآخرة والشاهدة على حجة "وإليه المصير" في ختام القسم الاول من هذا الدرس، تشهد كذلك على الحقيقة الايمانية الواسعة التي تشير اليها "مالك يوم الدين".
ثانياً : كما ان ربوبية صانع هذا الكون ورحمته الواسعة وحكمته السرمدية، وكذا جماله وجلاله وكماله الازلي الابدي، وكذا صفاته الجليلة المطلقة ومئات من اسمائه الحسنى، تستدعي كلها الآخرة قطعاً - كما قيل في ختام الكلمة العاشرة - كذلك القرآن الكريم بالوف من آياته وبراهينه.. وكذا الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم بمئات من معجزاته وحججه.. وكذا جميع الانبياء والمرسلين عليهم السلام.. وكذا الكتب السماوية والصحف المقدسة بدلائلها غير المحدودة، تشهد جميعاً على الآخرة.
وبعد، فمن لايؤمن بالحياة الباقية في الدار الآخرة انما يقذف نفسه في جهنم معنوية ينشؤها الكفر، فيقاسى العذاب دوماً، ولمّا يزل في الدنيا، حيث تنزل الازمنةُ الماضية جميعُها والمستقبلة والمخلوقات والكائنات بزوالها وفراقها مطر السوء على روحه وقلبه فتذيقه آلاماً لاحد لها واعذبة كعذاب جهنم قبل ان يدخلها في الاخرة. كما وضح ذلك في رسالة "مرشد الشباب".
الشعاع الخامس عشر - ص: 646
ثالثاً : نشير برمز "يوم الدين" الى حجة عظيمة وقوية للحشر. ولكن حالة فجائية معينة سببت في تأخير تلك الحجة الى وقت آخر. وربما لم تبق حاجة اليها بعد؛ لأن رسائل النور قد اثبتت بمئات الحجج القوية القاطعة ان مجئ صبح الحشر وحلول ربيع النشور يقين كمجئ النهار عقب الليل ومجئ الربيع عقب الشتاء.

الكلمة الخامسة: وهي (إياك نعبد وإياك نستعين) .
قبل الاشارة الى ما فيها من حجة ورد الى القلب بيان سياحة خيالية ذات حقيقة بياناً موجزاً بناءً على إيضاح "المكتوب التاسع والعشرين" لها، وهي كالآتي:
بينما كنت أبحث عن معجزات القرآن، كما هو مبين في رسائل النور، ولاسيما في تفسير "إشارات الإعجاز" وفي رسالة "الرموز الثمانية". وحينما وجدت بضع معجزات حول الإخبار الغيبي في آية الختام لسورة الفتح؛ والمعجزة التاريخية في الآية الكريمة (اليوم ننجيك ببدنك) (يونس: 92) بل وجدت لمعات إعجاز متعددة في كثير من كلمات القرآن ونكات إعجازية دقيقة في بعض حروفه.. في هذه الاثناء وانا اقرأ سورة الفاتحة في الصلاة ورد الى قلبي سؤال؛ ليعلمني معجزة من معجزات "ن" التي في "نعبد. ونستعين".
والسؤال هو: لِمَ قال: "نعبد ..نستعين" بنون المتكلم مع الغير، ولم يقل "أعبد.. أستعين"؟
وعلى حين غرة فُتح امام خيالي ميدان سياحة واسعة من باب تلك الـ"ن". فعلمت بدرجة الشهود السر العظيم في صلاة الجماعة، وشاهدت منافعها الجليلة وعلمت يقيناً ان هذا الحرف الواحد معجزة بذاتها، وذلك :
عندما كنت أصلى في ذلك الوقت في جامع "بايزيد" واثناء قولي: "إياك نعبد وإياك نستعين" رأيت ان جماعة ذلك الجامع يؤيدون دعواي هذه بقولهم مثل ما أقول؛ ويشاركونني مشاركة تامة في دعواي هذه وفي دعائي الذي في "إهدنا" مصدّقين إياي.. في هذا الوقت بالذات رفع ستار من امام خيالي فرأيت كأن مساجد استانبول كلها قد تحولت الى مسجد "بايزيد" كبير وجميع المصلين فيها
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-06-2011
  #3
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الشعاعات - الشعاع الخامس عشر


الشعاع الخامس عشر - ص: 647
يقولون مثلي: "إياك نعبد وإياك نستعين " مصدقين دعواي ومؤمّنين لدعائي. ومن خلال إتخاذهم صورة شفعاء لي، رفع ستار آخر امام خيالي، فرأيت ان العالم الاسلامي قد أتخذ صورة مسجد عظيم جداً واخذت مكة المكرمة والكعبة المشرّفة بمثابة محراب ذلك المسجد العظيم وقد يمّم جميع المصلين الصافين المتراصين وجوههم بشكل حلقات شطر ذلك المحراب المقدس وهم يقولون مثلي: "إياك نعبد وإياك نستعين. إهدنا.." وكل منهم يصدق الكل ويدعو بإسمهم، جاعلا جميع المصلين شفعاء له.
وحينما كنت أفكر أن طريقاً يسلكها جماعة عظيمة الى هذا الحد لاتكون طريقاً عوجاً قطعاً ولاتكون دعواها إلا صواباً، ولايُردُّ دعاءها بل تطرد شبهات الشيطان.. وإذ أنا أصدق منافع الصلاة العظيمة في جماعة تصديقاً شهودياً، رفع ستار آخر، ورأيت :
كأن الكون مسجد كبير وجميع طوائف المخلوقات منهمكة في صلاة جماعية كبرى، كل قد علم صلاته وتسبيحه، يؤدى نوعا ًً من صلاة خاصة به بلسان الحال. ايفاء ً لعبودية واسعة عظيمة جداًً إزاء ربوبية المعبود الجليل المحيطة. فيصدق كل منهم شهادة الجميع على التوحيد بحيث يحصل كل منهم على اثبات النتيجة نفسها. وإذ كنت اشاهد هذه الامور، رفع ستار آخر، ورأيت :
كما ان الكون الذي هو انسان كبير يقول بلسان الحال وبلسان الاستعداد والحاجة الفطرية لكثير من اجزائه، وبلسان المقال لذوي الشعور من موجوداته: "إياك نعبد وإياك نستعين" مظهرين عبوديّتهم لخالقهم ازاء ربوبيته الرحيمة، كذلك جسدى، هذا الكون الصغير، كجسد كل مصلّ ٍ معي في تلك الجماعة العظمى يقول بذراته وبقواه وبمشاعره ايضاً : "إياك نعبد وإياك نستعين" بلسان الطاعة والحاجة، ازاء ربوبية خالقه، منقاداً للأمر الآلهى مستسلماً لارادته سبحانه، ورأيت ان تلك الجماعة من الذرات والقوى والمشاعر تعرض في كل آن حاجتها الى عناية خالقها الجليل وتبسطها امام رحمته واعانته. وشاهدت باعجاب السر الرفيع للجماعة في الصلاة، وأبصرت المعجزة الجميلة لـ"ن" نعبد. واستودعت تلك السياحة الخيالية لدى باب "ن" الذي دخلتها منه. وحمدتُُ الله قائلاً: الحمد لله. وسعيت لاقول "إياك نعبد وإياك نستعين" بلسان تلك الجماعات الثلاث، اولئك الاصدقاء الكبار والصغار.
الشعاع الخامس عشر - ص: 648
والآن انتهت المقدمة، ونرجع الى ما نحن بصدده. وهو اشارة مختصرة الى الحجة التى تشير اليها "إياك نعبد وإياك نستعين ".
أولاً: إننا نشاهد بأبصارنا فعالية وخلاقية مهيبتين دائمتين وفي أتم أنتظام وانسجام تجريان في الكون باسره ولاسيما على سطح الارض. ونشاهد ربوبية مطلقة رحيمة مدبّرة ضمن هذه الفعالية والخلاقية تستجيب لاستعانات واستغاثات تنطلق مما لايحد من ذوي الحياة غير المحدودة واستمداداتها ودعواتها الفعلية والحالية والقولية استجابة تتسم بكمال الحكمة ومنتهى العناية. ونرى تجليات الوهية مطلقة ومعبودية عامة ضمن هذه الربوبته وضمن مظاهر استجابة كل كائن حي على حدة استجابة فعلية لمقابلة الوف الانماط من العبادات الفطرية والاختيارية التي تؤديها جميع المخلوقات ولاسيما ذوي الحياة وبخاصة طوائف الانسان، يراها العقل السليم ويبصرها الايمان. كما تخبر عنها جميع الكتب السماوية والانبياء الكرام عليهم السلام .
ثانياً: ان انشغال كل جماعة من الجماعات الثلاث المذكورة في المقدمة، بما ترمز اليها "ن" نعبد؛ انشغالها جميعاً ومعاً بعبادات فطرية واختيارية وباشكال مختلفة تدل بالبداهة على أنها مقابلةٌ شاكرة ازاء ألوهية معبودة وشهادات قاطعة لاحد لها على وجود المعبود المقدس .
وان لكل جماعة من الجماعات الثلاث المذكورة ولكل طائفة من طوائفها، ولكل فرد من افرادها ابتداءً من مجموع الكون كله الى جماعة ذرات جسد واحد، إستعانة فعلية وحالية، ولكل منها دعاء خاص بها كما يرمز الى ذلك "ن" نستعين. فالسعي لإعانة كل منها واغاثتها واستجابة دعائها، شهادة صادقة لاتقبل الشبهة قطعاً على مدبّر رؤوف رحيم .
فمثلاًً :مثلما ذكرت "الكلمة الثالثة والعشرون": ان استجابة الانواع الثلاثة للادعية التي تدعو بها جميع المخلوقات على الارض كافةً، استجابة خارقة جداً ومن حيث لايحتسب، تشهد شهادة قاطعة على ربّ رحيم مجيب...
نعم، كما اننا نشاهد بابصارنا استجابة دعاء كل نواة وكل بذرة تسأل خالقها بلسان الاستعداد لتصبح شجرة وسنبلة. كذلك نشاهد ارسال الارزاق الى جميع
الشعاع الخامس عشر - ص: 649
الحيوانات بما تقصر ايديها عنها، واعطائها ما يلزم حياتها، واستجابة مطاليبها التي هي خارجة عن طوقها؛ والتي تسألها من واحد احد بلسان الحاجة الفطرية .
فهذه الاستجابات والامدادات تشهد شهادة صادقة على خالق كريم يستجيب لجميع تلك الادعية المنطلقة بلسان الحاجة الفطرية، كما نشاهدها بأم أعيننا؛ ويدفع مخلوقات عجيبة لاشعور لها لإمداد تلك الحيوانات في انسب وقت و في اتم حكمة.
وهكذا فقياساً على هذين القسمين؛ فإن استجابة جميع انواع الادعية التي تُسأل بلسان المقال؛ ولاسيما ادعية الانبياء عليهم السلام والخواص، استجابة خارقة، تشهد على حجة الوحدانية التي في "إياك نستعين".

الكلمة السادسة: وهي (اهدنا الصراط المستقيم).
ان اشارة في منتهى الاختصار الى حجتها هي :
كما ان اقصر الطرق المؤدية من مكان الى آخر هي الطريق المستقيم، وان اقصر الخطوط الممتدة بين نقطة واخرى بعيدة عنها هو الخط المستقيم؛ كذلك ان اصوب طريق في المعنويات وفي الطرق المعنوية وفي المسالك القلبية واكثرها استقامة هي اقصرها وايسرها. فمثلاً: ان جميع الموازنات والمقايسات المعقودة في رسائل النور بين طريق الايمان والكفر تبين بياناً قاطعاً ان طريق الايمان والتوحيد اقصر الطرق واصوبها وايسرها واكثرها استقامة، بينما طرق الكفر والانكار طويلة جداً وذات مشكلات ومخاطر. فلاشك ان هذا الكون الذي يساق في طريق ذات استقامة وحكمة وهي اقصر الطرق واسهلها في كل شئ، لايمكن ان تكون فيه حقيقةالشرك والكفر. بينما حقائق الايمان والتوحيد واجبة وضرورية في هذا الكون ضرورة الشمس فيه.
وكذا فان ايسر الطرق في الاخلاق الانسانية وانفعها واقصرها واسلمها هي في الصراط المستقيم وفي الاستقامة.
الشعاع الخامس عشر - ص: 650
فمثلاً: اذا فقدت القوة العقلية الحد الوسط، وهو الحكمة والاستقامة، التي هي سهلة نافعة، تهوى بالافراط والتفريط في خبٍ مضر وبلاهةٍ ذات بلية، فتعاني المهالك في طرقها الطويلة. وان لم تسلك القوة الغضبية طريق الشجاعة التي هي حد الاستقامة، هوت بالافراط في تهور وتجبّر ذي اضرار بالغة وظلم شنيع، وبالتفريط الى كثير من التخوف والتجبن المذلّ المؤلم، فتعاني عذاباً وجدانياً دائماً جزاءً لما ارتكبت من خطإ فقدها حد الاستقامة. وما في الانسان من قوة شهوية إذا ضيعت طريق الاستقامة السليمة والعفة تهوى بالافراط في الفجور والفحش ذات المصائب، وبالتفريط في الخمود، أي الحرمان من أذواق النعم ولذائذها؛ فتعاني آلام ذلك المرض المعنوي.
وهكذا قياساً على ما ذكر؛ فان الاستقامة هي انفع طريق واسهلها واقصرها من بين جميع الطرق المسلوكة في حياة الانسان الشخصية والاجتماعية. وإذا مافقد الانسان الصراط المستقيم فان تلك الطرق تكون طويلة جداً وذات بلايا كثيرة ومصائب واضرار.
بمعنى ان " إهدنا الصراط المستقيم" دعاء جامع وعبودية واسعة ؛ كما انها اشارة الى حجة في التوحيد والى درس في الحكمة وتعليم الاخلاق.

الكلمة السابعة: وهي (صراط الذين أنعمت عليهم).
ان اشارة قصيرة الى ما فيها من حجة هي :
اولاً: مَن المقصود في "عليهم"؟
تفسّره الآية الكريمة: (فاولئك مع الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين) (النساء:69) اذ تبين الطوائف الاربع الذين نالوا في النوع البشري نعمة سلوك طريق الاستقامة؛ مشيرة بــ "النبيين" الى سيدهم محمد عليه السلام، وبـ"والصديقين" الى ابى بكر الصديق رضى الله عنه، وبـ "والشهداء" الى عمر وعثمان وعلي. فالآية الكريمة تخبر عن الغيب وتبين لمعة اعجاز بأن الذين يأتون بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، الصديق رضى الله عنه ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضوان الله عليهم أجمعين، سيستشهدون ويتولون الخلافة.
الشعاع الخامس عشر - ص: 651
ثانياًً: ان هذه الطوائف الاربع الذين هم اصدق نوع البشر وأقومهم سلوكاً وأرفعهم شأناً، قد دعوا بكل ما أوتوا من قوة وبما لايعد ولايحصى من الحجج والمعجزات والكرامات والادلة والكشفيات الى حقيقة التوحيد وصدّق دعواهم أغلب البشر منذ سيدنا آدم عليه السلام. فلاشك ان تلك الحقيقة حقيقة قاطعة كقطعية ثبوت الشمس، لذا فان اتفاق هذا الجم الغفيرمن خيرة البشرية ممن اظهروا صدقهم وعدلهم بمئات الالوف من المعجزات والحجج التي لاتحد؛ واجماعهم في المسائل الايجابية كالتوحيد ووجوب وجود الخالق؛ لهو حجة قاطعة تزيل كل شبهة.
نعم؛ ان الحقيقة الجليلة التي آمن بها اولئك الطوائف الاربع المذكورون الذين يمثلون اقوم نوع البشر الذي هو النتيجة المهمة لخلق الكون وخليفة الارض؛ واجمع الاحياء استعداداً وارفعها شأناً؛ بل هم اصدق مرشديهم المصدقين، وأئمتهم في الكمالات. هؤلاء أخبروا بالاجماع والاتفاق تلك الحقيقة التي آمنوا بها وأعتقدوا بها إعتقادا ًجازما ًبحق اليقين وبعلم اليقين وبعين اليقين. وأطمأنوا إليها إطمئناناً لايتزعزع مظهرين الكون بموجوداته جميعا ً دليلاً.
تُرى ألا يرتكب جناية لاتحد من لا يعرف هذه الحقيقة الجليلة وينكرها.. ألا يستحق عذاباً خالداً ؟ !

الكلمة الثامنة: وهي (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) .
فهذه اشارة قصيرة الى ما فيها من حجة:
ان تاريخ البشرية والكتب المقدسة، يخبر بالاتفاق إخباراً قاطعاً وبصراحة تامة، استناداً الى التواتر والى الحوادث الكلية الثابتة والمعارف البشرية والمشاهدات الانسانية، ان استجابة استمدادات الانبياء عليهم السلام وهم اصحاب الصراط المستقيم استمداداً غيبياً فوق المعتاد في الوف من الحوادث، وانجاز مطاليبهم بذاتها، ونزول الغضب والمصائب السماوية باعدائهم الكفار في مئات من الحوادث، تدل دلالة قاطعة لاريب فيها على ان لهذا الكون ولنوع الانسان الذي فيه؛ رباً حاكماً عادلاً محسنا ً كريما ً عزيزا ً مدبرا ً مسخرا ً؛ قد منح من لدنه النصر المؤزر والنجاة
الشعاع الخامس عشر - ص: 652
الخارقة لانبياء كرام كثيرين أمثال نوح وإبراهيم وموسى وهود وصالح (عليهم السلام) في حوادث تاريخية واسعة، وانزل في الوقت نفسه مصائب سماوية مرعبة في الدنيا على اقوام ظلمة كفرة أمثال ثمود وعاد وفرعون ازاء عصيانهم الرسل.
نعم؛ ان تيارين عظيمين قد جريا متصارعين في البشرية منذ زمن آدم عليه السلام.
الاول: هم أهل النبوة والصلاح والايمان الذين نالوا النعمة وسعادة الدارين بسلوكهم الصراط المستقيم؛ فانسجمت بسلوكهم القويم اعمالهم وحركاتهم مع جمال الكون الحقيقي ونظامه وتناسقه وكماله؛ لذا نالوا ألطاف رب العالمين؛ وسعادة الدارين؛ واصبحوا السبب في رفع الانسان الى مراتب الملائكة بل أرفع منها؛ وكسبوا وأكسبوا اهل الايمان جنة معنوية حتى في الدنيا؛ مع سعادة خالدة في الآخرة.. كل ذلك بسر حقائق الايمان .
والتيار الثاني: هم الذين ضلوا عن سواء السبيل جاعلين بالافراط والتفريط؛ العقل وسيلة عذاب واداة لمّ الآلام؛ فأردوا البشرية في دركات سحيقة أضل من الانعام، فاستحقوا الغضب الالهي فنزلت بهم صفعات المصائب جزاء ظلمهم الذي ارتكبوه في الدنيا. زد على ذلك انهم جعلوا بالضلالة التي هم فيها وبالعقل المرتبط مع الموجودات؛ الكون موضع احزان وآلام ومأتماً عاماً؛ ومذبحة لذوى حياة؛ يتقلبون في دوامات الزوال والفراق، ومسلخة قذرة ضربت الفوضى اطنابها في الآفاق.لذا انحصرت روح الضال ووجدانه بجهنم معنوية في الدنيا، واصبح أهلاً لعقاب اليم في الآخرة.
وهكذا فان الآية الكريمة التي في ختام سورة الفاتحة: (الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولاالضالين) تبين هذين التيارين العظيمين.
فمنبع جميع الموازنات المذكورة في رسائل النور واساسها ومرشدها هي هذه الآية الكريمة. وحيث ان رسائل النور قد فسرت هذه الآية الكريمة بمئات من موازناتها. نحيل ايضاحها الى تلك الرسائل مكتفين بهذه الاشارة.
الشعاع الخامس عشر - ص: 653
الكلمة التاسعة: وهي ( آمين) ! واشارة قصيرة جداً اليها هي :
لما كانت "ن" التي في "نعبد ونستعين" تبين لنا الجماعات العظيمة الثلاث؛ ولاسيما جماعة الموحدين في جامع العالم الاسلامي وبخاصة ملايين المصلين الذين يؤدون الصلاة في ذلك الوقت؛ وتجعلنا ضمن صفوفهم ؛ فاتحة امامنا طريقاً سوياً لنكسب حظاً من أدعيتهم، ولنغنم تصديقهم لنا لنطقهم بمثل ماننطق به نحن، ولنحظى بنوع من شفاعتهم؛ فنحن كذلك بقولنا: "آمين " نعزز أدعية اولئك الموحدين المصلين؛ ونصدّق دعواهم؛ ونرجو بكلمة " آمين " ان يستجيب الله سبحانه وتعالى استعانتهم وشفاعتهم، محوّلين عبوديتنا الجزئية ودعاءنا الجزئي ودعوانا الجزئية الى عبودية كلية ودعاء كلى ودعوى كلية ازاء ربوبية كلية شاملة.
بمعنى ان كلمة "آمين" تكسب كلية واسعة بل يمكن أن تكون بمثابة ملايين "آمين" بسر الاخوة الايمانية والوحدة الاسلامية وبواسطة راديوات معنوية ورابطة الوحدة لجماعة يربون على الملايين من المصلين المتراصين في الصلاة في مسجد العالم الاسلامي. 1
الحمدلله رب العالمين
(سبحانك لاعلم لنا إلاّ ما علّمتنا إنك أنت العليم الحكيم)
* * *

_____________________
1
وهكذا اذا ما اخذ رجل عامي شيئاً بقدر نواة، فالانسان الكامل الذي ترقى روحياً يأخذ حظاً كالنخلة، كل حسب درجته، ولكن الذي لم يرق بعدُ، لاينبغي له ان يتذكر هذه المعاني قصداً اثناء قراءته الفاتحة (*) لئلا يفسد اطمئنانه وسكينته واذا ما ترقى الى ذلك المقام فان تلك المعاني ستظهر بنفسها. - المؤلف

(*) لقد سألنا استاذنا ايضاحاً عن كلمة "قصداً" الواردة في هذا الهامش ودوّنا ادناه ما ذكره نصاً:
باسم طلاب النور
في المدرسة اليوسفية الثالثة
جيلان
ارى انه يمكن التفكر بالمعاني الواسعة الرفيعة للتشهد وسورة الفاتحة، ولكن لاتقصد تلك المعاني قصداً، وانما بصورة تبعية، اذ الذي يورث الحضور القلبي نوعاً من الغفلة هي تفاصيلها. بينما معانيها المجملة تبدد الغفلة وتنور العبادة والمناجاة وتسطعها. فتظهر اظهاراً تاماً القيم الرفيعة للصلاة والفاتحة والتشهد.
اما المراد من "عدم الانشغال قصداً " الوارد في ختام القسم الثاني هو ان الانشغال بتفاصيل تلك المعاني بالذات قد تنسي الصلاة أحياناً وربما تخل بسكينة القلب والحضور. والاّ فاني اشعر بفوائدها العظيمة إذا كان التفكر تبعي وبشكل مختصر.- المؤلف.

الشعاع الخامس عشر - ص: 655
ونبيها الاعظم صلى الله عليه وسلم، وفخر العالم، القمين بخطاب "لولاك لولاك لما خلقت الافلاك" 1. وكما ان حقيقته - اى الحقيقة المحمدية - هى سبب خلق العالم، ونتيجته وأكمل ثمراته. كذلك تتحقق بها وبالرسالة الأحمدية الكمالات الحقيقية للكائنات قاطبة، اذ تصبح مرايا باقية للجميل الجليل السرمدى تعكس تجليات صفاته الجليلة، وآثاره القيّمة الموظفة لدى أفعاله الحكيمة جل جلاله، ورسائله البليغة المرسلة من الملأ الاعلى، وتغدو حاملة لعالم باق، منتجة دار سعادة خالدة ودار آخرة ابدية تشتاق اليها ذوو الشعور كلهم.. وامثالها من الحقائق التي تتحقق بالحقيقة المحمدية والرسالة الأحمدية. لذا فكما يشهد هذا الكون شهادة قاطعة وفي منتهى القوة والثبوت على رسالته صلى الله عليه وسلم، كذلك البشرية جمعاء بل جميع ذوى الشعور وفي مقدمتهم العالم الاسلامى، يشهدون جميعاً على ما بشّرت به الرسالة الأحمدية والحقيقة المحمدية بشارة قوية قاطعة، تلك هى الحياة الخالدة ، التي تسألها البشرية بالعشق الدائم والشوق الملازم في كل حين وآن، تسألها بلسان جميع قوى ماهيتها الجامعة، وبألسنة جميع استعداداتها، وبألسنة جميع الادعية والعبادات والتضرعات والتوسلات المرفوعة الى المولى القدير، فتسأل حياة باقية خالدة، نجاةً من العدم والعبث، والاعدام الابدى والفناء المطلق الذى هو أشد رهبة واكثر ايلاماً من جهنم. فكما تشهد البشرية بهذا على انه صلى الله عليه وسلم فخر البشرية واشرف المخلوقات طراً، كذلك فان دخول مثل جميع الحسنات والخيرات التي يكسبها يوميا ً ثلاثمائة وخمسون مليوناً من المؤمنين في كل عصر ، في سجل حسناته صلى الله عليه وسلم حسب قاعدة "السبب كالفاعل" ونيل تلك الشخصية المحمدية الفريدة مقاماً رفيعاً يحظى بعبودية كلية وفيوضات ربانية بقدر عبادة مئات الملايين بل المليارات من العبّاد المحسنين.. هو شهادة قوية جدا ً على رسالته صلى الله عليه وسلم .
الاشارة الثانية :
ان الفقرة الاتية التي أتأمل فيها دائماً هى من اورادي، وتشير الى اكثر من عشرين شهادة على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.نوجز فحواها باختصار. والفقرة هي:
_____________________
1 تناوله العلماء معنىً ومبنىً، ولعل قول علي القاري هو الوسط بين المثبتين والنافين له، اذ يقول: انه صحيح معنى ولو ضعف مبنى (شرح الشفا 1/ 26) - المترجم.

الشعاع الخامس عشر - ص: 656
[محمّدٌ رسولُ الله صادقُ الوعدِ الأمينُ بشهادة ِ ظهوُرِه دفعَة ً مع اُمّيّتِه باكملِ دينٍ واسلاميّةٍ وشرَيعة ٍ وباَقوى ايمان ٍ واِعتقادٍ وعبادَةٍ وباعلى دعوةٍ ومناجاةٍ ودعواتٍ وباَعمّ تبليغ ٍ واتمّ متانة ٍ خارقاتٍ مثمراتٍ لامثلَ لها.] 1

فاُولى تلك الشهادات هى :
حجة الرسالة النابعة من احدى عشرة حالة من حالاته صلى الله عليه وسلم.
نعم، انه مع كونه امياً لم يتعلم القراءة والكتابة، فقد أتى بدين أوقع عقلاء اربعة عشرة قرناً وفلاسفتها في حيرة واعجاب وانبهار، وفاق الاديان السماية وقد اظهره دفعة واحدة من دون ان يكون له تجربة مسبقة .. وهذه حالة لامثيل لها.
وكذا الاسلام النابع من اقواله وافعاله وحالاته، وارشاده ثلاثمائة وخمسين مليوناً من البشر في كل وقت، مربياً ارواحهم مزكيا ً انفسهم ومنوراً عقولهم، ودفعهم الى الرقى المعنوى.. وهذه حالة لامثيل لها .
وكذا قد أتى بشريعة غراء عظيمة بحيث ادارت بقوانينها العادلة خمس البشر طوال اربع عشرة قرنا ً من الزمان ادارة حققت له الرقى المادى والمعنوى.. وهذه حالة لا مثيل لها .
وكذا ظهوره بايمان راسخ واعتقاد جازم بحيث يستلهم منه جميع اهل الحقيقة في كل وقت ويصدقون بالاتفاق على انه في ارفع درجة واسمى مرتبة ، فضلا ً عن عدم ايراث مخالفيه واعدائه ومعارضيه في ذلك الوقت - برغم كثرتهم - اية شبهة ولاوسوسة ولاشك قط، مما يبين بجلاء انه لامثيل له في قوة الايمان ايضاً ولانظير لايمانه الرفيع الكلى.
وكذا قد اظهر عبودية وعبادة عظيمتين بحيث وحّد المبدأ والمنتهى، من دون تقليد لأحد، ملاحظاً أدق اسرار العبادة، ومراعياً لها حتى في اشد الاوقات اضطراباً، وأداها على اتم وجه واتقنه.. وهذه حالة لامثيل لها .
_____________________
1 هذه الفقرات المحصورة بين قوسين مركنين وردت في النص باللغة العربية - المترجم.
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-06-2011
  #4
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الشعاعات - الشعاع الخامس عشر


الشعاع الخامس عشر - ص: 657
وكذا قد تضرع الى خالقه الكريم ودعا دعوات لطيفة رقيقة بحيث لم يبلغ احد مرتبة تلك الدعوات والمناجاة الى هذا الزمان برغم تلاحق الافكار .
فمثلاً : قد جعل ألف اسم واسم من الاسماء الالهية شفيعة لدعائه في مناجاة (الجوشن الكبير) فوصف خالقه العظيم وصفاً بديعاً يليق به وعرّفه تعريفاً لامثل له قط.
وهكذا فان عدم بلوغ أحد ما بلغه من معرفة الله، حالة لامثيل لها قط.
وكذا انه دعا الناس الى الدين دعوة ملؤها الثقة وبلّغ رسالته بشجاعة واقدام بحيث ان معارضة قومه وعمه والدول الكبرى في العالم واتباع الاديان السابقة وعدائهم، لم ينل منه الخوف ولا الاحجام قطعاً بل تحدى العالمين وظهر على الجميع.. فهذه حالة لامثيل لها.
وهكذا فان مجموع هذه الحالات الثمانية الخارقة التي لانظير لها، شهادة في منتهى القوة على صدقه صلى الله عليه وسلم وثبوت دعوته. وهى حالات تظهر مدى اطمئنانه ومنتهى جديته ومبلغ وثوقه وكمال صدقه وعدله صلى الله عليه وسلم .
لذا فالعالم الاسلامي يهنئ ويبارك هذا النبى الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله في كل جلسة تشهّد في الصلاة يومياً وبملايين الألسنة: "السلام عليك ايها النبي ورحمة الله وبركاته" مقدما ً له ولاءه لمهمة النبوة، ومصدقا ً اياه في بشراه بالسعادة الابدية التي اتى بها، فيستقبله بامتنان بالغ وشكر عميم ازاء فتحه طريقاً سوياً الى الحياة الباقية التي تبحث عنها البشرية بعشق دفين عميق وشوق فطرى عارم وباستعداد قوي جداً، بقوله: "السلام عليك ايها النبي" معبراً به عن زيارة معنوية له صلى الله عليه وسلم ولقاء معه، ومرحّباً ومهنئاً اياه باسم ثلاثمائة وخمسين مليوناً بل مليارات من المؤمنين.
الشهادة الثانية من الشهادات العشرين الكلية، والتي تضم كثيرا ً من الشهادات وهي:
[وبشهادة جميع حقائق الايمان على تصديقه] .
اى: ان حقائق اركان الايمان الستة وتحققها وصدقها وصوابها تشهد شهادة قاطعة على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وعلى صدقه وصوابه، لأن الشخصية المعنوية لحياة رسالته،
الشعاع الخامس عشر - ص: 658
واساس جميع دعاواه، وماهية نبوته، انما هى تلك الاركان الستة، لذا فان جميع الدلائل الدالة على تحقق تلك الاركان تدل ايضاً على ان رسالة محمد صلى الله عليه وسلم حق وانه صادق مصدَّق. وكما بينت رسالة " الثمرة " وذيول "الكلمة العاشرة" دلالة سائر الاركان الايمانية على تحقق الآخرة، كذلك كل ركن من الاركان بحججه معاً حجة على رسالته صلى الله عليه وسلم.
الشهادة الكلية الثالثة المتضمنة لالوف الشهادات :
[وبشهادة ذاته عليه الصلاة والسلام بآلاف معجزاته وكمالاته وعلوّ اخلاقه]
اى: هو كالشمس دليل بنفسها. فكما اثبتت الرسالة الخارقة، رسالة "المعجزات الاحمدية" على صاحبها افضل الصلاة والسلام في ازيد من ثلاثمائة معجزة بروايات صحيحة، كذلك انشقاق القمر الى شقين باصبع من كفه المباركةصلى الله عليه وسلم كما هو صراحة الآية الكريمة (وانشق القمر).. وكذا نبعان الماء من اصابعه الخمس المباركة وتدفقه كما يدفق من خمس عيون وارتواء جيش كامل منه وشهادتهم له، المنقول الينا بروايات صحيحة متواترة ، فضلا ً عن تكرار هذه الحادثة العجيبة مرتين وفي مواضع اخرى.. وكذا رميه حفنة من تراب بالكف نفسها على جيش العدو المغير ودخول التراب عين كل منهم وانهزامهم اثناء هجومهم كما هو صراحة الاية الكريمة (وما رميتَ إذ رَميت).. وكذا تسبيح الحصى في الكف نفسه تسبيحاً واضحاً بيناً المروى بروايات صحيحة.. وامثالها من المعجزات الباهرة التي ظهرت من يده المباركة صلى الله عليه وسلم والمروي قسم منها في كتب السير والتاريخ بروايات متواترة قاطعة وهى تربو على المئات بل تبلغ الألف لدى اهل التحقيق من العلماء.
وكذا اتفاق الاولياء والاعداء على انه في ذروة الاخلاق الفاضلة والخصال الحميدة 1 واتفاق جميع اهل التحقيق السالكين طريقه المقتفين أثره البالغين الكمالات والمدركين الحقيقة بعين اليقين ، وتصديقهم جميعاً بحق اليقين، ان الكمالات المحمدية هى في قمة الدرجات. كما يدل عليها فيوضات العالم الاسلامى النابعة من دينه صلى الله عليه وسلم، وحقائق الاسلام العظيم. فلاشك ان ذلك النبي الكريم بذاته صلى الله عليه وسلم يشهد شهادة واسعة كلية ساطعة على رسالته نفسه.
_____________________
1 حتى يقول سيدنا علي رَضِيَ الله عَنْهُ بشجاعة فائقة: اذا حزبنا أمر - في الحرب - احتمينا برسول الله صلى الله عليه وسلم وتحصنّا به.
ونقلت التواريخ ان اعداءه كذلك شهدوا أنه صلى الله عليه وسلم كان في ذروة كل خصلة نبيلة كما هو في الشجاعة - المؤلف.

الشعاع الخامس عشر - ص: 659
الشهادة الرابعة المتضمنة لكثير من الشهادات القوية :
[وبشهادة القرآن بما لايحدمن حقائقه وبراهينه].
اي: ان القرآن المعجز البيان يشهد بحقائقه وحججه التي لا تعد ولاتحصى على رسالته وصدقه صلى الله عليه وسلم.
نعم! ان القرآن الكريم الذى هو معجزة باهرة باربعين وجهاً (كما أثبتتها رسالة المعجزات القرآنية المنشورة ضمن مجموعة ذو الفقار).. والذى انار اربعة عشر قرناً من الزمان.. والذى أدار خمس البشرية بقوانينه الرصينة التي لاتتبدل.. والذى تحدى وما زال يتحدى جميع المعارضين حتى لم يجرأ ان يعارضه احد لحد الان ولو بسورة واحدة.بل ان جهاته الست نورانية لا تدخل فيها الشبهات قطعا ً، وتصدق ستة مقامات كبرى على صدقه وعدله، ويستند الى ست حقائق لاتتزعزع، كما أثبت ذلك في رسالة "الآية الكبرى".. والذي يتلى في كل وقت بألسنة مئات الملايين وبكل لهفة وتوقير.. والذى يكتب في قلوب ملايين الحفاظ في كل دقيقة كتابة سامية.. والذى تترشح من شهادته جميعُ شهادات وايمان العالم الاسلامى، وتنساب من نبعه جميع العلوم الايمانية والاسلامية.
وكما انه يصدّق تلك الكتب السماوية السابقة، ينال التصديق المعنوى ايضاً لجميع الكتب والصحف السماوية .
فهذا القرآن العظيم بحقائقه كلها، وبحججه التي تثبت صدقه وعدله يشهد على صدقه صلى الله عليه وسلم وعلى رسالته.

الشهادة الكلية الخامسة والسادسة والسابعة والثامنة :
[ وبشهادة الجوشن بقدسية اشاراتِه ورسائلِ النور بقوة دلائلها والماضى بتواتر ارهاصاته والاستقبال بتصديق آلاف حادثاته]
اى:كما ان "الجوشن الكبير" الذى يضم ألف اسم واسم من الاسماء الإلهية صراحة واشارةً، ونابع - من جهة - من القران الكريم، هذه المناجاة النبوية الخارقة
الشعاع الخامس عشر - ص: 660
التي تفوق مناجاة جميع العارفين الذين عرجوا في مراتب المعرفة الالهية وترقوا فيها، وقد اتى بها جبريل عليه السلام وحياً في غزوة قائلاً: انزع الدرع (الجوشن) واقرأ هذا الجوشن. فان الحقائق التي تتضمنها هذه المناجاة والاوصاف المتوجهة فيها الى ربه الجليل بالذات تشهد شهادة صادقة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم وعلى رسالته.
كذلك "رسائل النور" المترشحة من القران الكريم والمستفاضة من جهة من "الجوشن الكبير" هي حجة واحدة على الرسالة المحمدية باجزائها البالغة مائة وثلاثين رسالة وذلك باثباتها اثباتاً عقلياً ومنطقياً جميع حقائق رسالته صلى الله عليه وسلم، بل تعليمها وتفهيمها بسهولة ويسر ما تعجز عنه الفلسفة من مسائل بعيدة جداً عن العقل واظهارها انها مسائل مستساغة معقولة كأنها مشهودة.. هذه الرسائل البالغة ثلاثين ومائة رسالة تشهد شهادة كلية على صدق محمد صلى الله عليه وسلم وعلى رسالته.
وكذا الماضى هو شهادة كلية على رسالته، اذ الارهاصات التي هي خوارق سبقت البعثة وتعدّ من معجزات النبي الذي سيأتي، قد ذكرت في وقائع كثيرة في كتب السير والتاريخ ذكرا ً متواتراً قاطعاً. فتشهد هذه الارهاصات شهادة صادقة على رسالته صلى الله عليه وسلم. ولهذه الارهاصات انواع كثيرة سيبين قسمٌ منها في الشهادة الآتية، قسم آخر ذكر في مجموعة "ذو الفقار" ونقلتهاكتب التاريخ نقلاً صحيحاً.
فمثلاً: ارسال طير أبابيل لترمى جيش ابرهة الذى أتى لهدم الكعبة بحجارة من سجيل قبيل ولادته صلى الله عليه وسلم.. وسقوط الاصنام في الكعبة ليلة الولادة المباركة، وتصدّع ايوان كسرى، وخمود نار المجوس التي كانت تشتعل منذ ألف سنة، وإظلال السحاب له صلى الله عليه وسلم كما اخبر به بحيرا الراهب وحليمة السعدية.. وامثالها من الحوادث الكثيرة التي اخبرت عن نبوته صلى الله عليه وسلم قبل بعثته.
وكذا المستقبل، اى الحوادث التي وقعت بعد وفاته صلى الله عليه وسلم واخبر عنها وهي كثيرة جداً ومتنوعة جداً؛ منها: اخباره الغيبى التي تخص الآل والاصحاب الكرام، والفتوحات الاسلامية، وقد اثبتت في رسالة المعجزات الاحمدية (المنشورة ضمن مجموعة ذو الفقار) برواية صحيحة ثمانين حادثة وقعت كما أخبر. مثلاً: استشهاد سيدنا عثمان رضى الله عنه عند قرآءته المصحف الشريف، واستشهاد سيدنا الحسين
الشعاع الخامس عشر - ص: 661
رضى الله عنه في كربلاء ، وفتح الشام وفارس واستانبول، وقيام الدولة العباسية وسقوطها ودمارها بيد جنكيز خان وهولاكو.. وماشابهها من معجزاته في اخباره الغيبى الذي ظهر في ثمانين حادثة، مما نقل الينا نقلاً صحيحاً استنادا ً الى كتب السير والتاريخ التي ذكرتها بالتفصيل. فهذه الاخبارات الغيبية مع سائر انواعها التي تدل على صدقه صلى الله عليه وسلم ومع وقائع مستقبلية كثيرة جدا ً تدل على صدقه، اي ان المستقبل يشهد شهادة قوية كلية على الرسالة المحمدية صلى الله عليه وسلم.

الشهادة التاسعة والعاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة، والتي تشيراليها :
[وبشهادة الآل ِبقوةِ يقينّياتهم في تصديقه بدرجة حقّ اليقين.. والاصحاب بكمال ايمانهم في تصديقه بدرجة عين اليقين.. والاصفياء بقوّة تحقيقاتهم في تصديقه بدرجة علم اليقين.. والاقطاب بتطابقهم على رسالته بالكشف والمشاهدات باليقين].
فمن الشهادة الكلية التي تشهد شهادة صادقة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم وعدله:
الشهادة التاسعة :
وهي شهادة آل محمد صلى الله عليه وسلم الذين نالوا مرتبة "علماء امتى كأنبياء بنى اسرائيل" والذين هم كفو لآل ابراهيم عليه السلام في صلوات التشهد، وهم الاولياء العظام والائمة الاثنا عشر رضى الله عنهم، ويتقدم الجميع الامام على والحسن والحسين رضوان الله عليهم اجمعين، والشيخ الكيلاني واحمد الرفاعي 1 واحمد البدوي 2

_____________________
1 الرفاعي: (512 - 578 هـ) احمد بن علي بن يحيى الرفاعي، ابو العباس، الامام الزاهد مؤسس الطريقة الرفاعية. ولد في قرية حسن في واسط بالعراق سنة 512 هـ وتفقه وتأدب في واسط. وكان يسكن قرية ام عبيدة بالبطائح (بين واسط والبصرة) وتوفي بها سنة 578 هـ. (وفيات الاعيان 1/55 الطبقات الكبرى 1/140 نور الابصار 220 الاعلام 1/174 جامع كرامات الاولياء 1/490) - المترجم.
2 السيد البدوي: 596 - 675هـ / 1200 - 1276م احمد بن علي بن ابراهيم الحسيني، أبو العباس البدوي. المتصوف، صاحب الشهرة في الديار المصرية. أصله من المغرب، ولد بفاس، وطاف البلاد وأقام بمكة والمدينة، ودخل مصر في ايام الملك الظاهر بيبرس، فخرج لاستقباله هو وعسكره، وانزله في دار ضيافته، وزار سورية والعراق سنة 634هـ وعظم شأنه في بلاد مصر فانتسب الى طريقته جمهور كبير بينهم الملك الظاهر. وتوفي ودفن في طنطا، لم يذكر له مترجموه تصنيفاً غير «حزب - مخطوط -» و«وصايا» و«صلوات». وقد افرد بعضهم سيرته في كتب، منها كتاب «السيد البدوي» لمحمد فهمي عبداللطيف. (الاعلام 1/175). - المترجم.

الشعاع الخامس عشر - ص: 662
وابراهيم الدسوقي 1 وابو الحسن الشاذلي 2 (قدس الله اسرارهم) وأمثالهم من الاقطاب والائمة، يشهدون جميعاً وبالاتفاق وباعتقادهم اليقينى وبالكشفيات والمشاهدات وبالكرامات والارشاد التى اظهروها في الامة، فيصدّقون بايمانهم الراسخ الرسالة المحمدية وصدق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

الشهادة العاشرة :
وهي شهادة الصحابة الكرام الذين هم افضل الناس واسماهم منزلة بعد الانبياء عليهم السلام. والذين اداروا العالم من الشرق الى الغرب بالعدل والقسطاس المستقيم بعد ان تنوّروا بنور محمد صلى الله عليه وسلم في فترة قصيرة برغم كونهم بدوا ً واميين. وظهروا على الدول العظمى وغدوا اساتذة الامم الراقية ذات الحضارات والعلم والسياسة، ومعلمين لها وسياسيين حكماء عادلين، فحوّلوا ذلك القرن الى خير القرون وعصر السعادة. فهؤلاء الصحابة الكرام بعد تدقيقهم وتحريهم عن كل حال من احوال محمد صلى الله عليه وسلم ومشاهدتهم بابصارهم قوة معجزاته الكثيرة، تركوا عداءهم السابق، وعافوا طريق اجدادهم وضحوا بالنفس والنفيس تضحية كريمة رفيعة وانضووا تحت راية الاسلام،كخالد بن الوليد، وعكرمة بن ابى جهل وامثالهم ممن ترك آباءه وقبيلته. فان ايمان هؤلاء الصحابة الكرام البالغ درجة عين اليقين شهادةٌ صادقة كلية على صدق محمد صلى الله عليه وسلم وعلى أحقية رسالته.

الشهادة الحادية عشرة :
وهي شهادة الوف من اهل التحقيق،اي شهادة المجتهدين والائمة الاعلام والعلماء المحققين الذين يطلق عليهم جميعاً الاصفياء والصديقين، والفلاسفة الدهاة من امثال
_____________________
1 الدسوقي: ( 633 - 676هـ) وهو ابراهيم بن ابي المجد بن قريش بن محمد، يتصل نسبه بالحسين السبط، وهو احد الاقطاب الاربعة، تفقه على المذهب الشافعي ثم اقتفى آثار التصوف وكثر مريدوه. وهو من اهل دسوق بغربية مصر. - المترجم.
2 الشاذلي: (591 - 656 هـ) هو علي بن عبدالله بن عبد الجبار الشاذلي، والشاذلة قرية من افريقيا، الضرير الزاهد نزيل الاسكندرية وشيخ الطائفة الشاذلية، صاحب الاوراد المسماة "حزب الشاذلي". (الطبقات الكبرى 2/4 الاعلام 4/305 نور الابصار 234 جامع كرامات الاولياء 2/341). - المترجم

الشعاع الخامس عشر - ص: 663
ابن سينا وابن رشد الذين آمنوا ايماناً منطقياً وعقلياً، رغم اختلاف مسلك كل منهم عن الآخر، مستندين الى الوف الحجج القاطعة والبراهين الدامغة، حتى بلغوا درجة علم اليقين.. فان ايمان هؤلاء جميعاً بمحمد صلى الله عليه وسلم ورسالته وصدقه وصوابه شهادةٌ كلية الى حدّ لا يمكن ان يردّها الاّ من كان ذا ذكاء يكافئ ذكاءهم كلهم .
ورسائل النور هي واحدة من اولئك الشهود الصادقين في هذا العصر الذين لايحصون ولايعدّون، ولكن لما سقطت الحجة بايدي المنكرين لها ولم يجدوا عنها مصرفاً، حاولوا ان يسكتوها بالمحاكم بتغرير افراد الامن ودوائر العدل.

الشهادة الثانية عشرة :
وهي شهادة الاقطاب الذين يضم كل منهم قسماً مهماً من الامة الاسلامية ضمن حلقة درسه وارشاده، ودفعوهم بالارشاد الخارق والتوجيه الصائب والكرامات الظاهرة الى الرقى المعنوى مستندين في مواضع الحجج الى المشاهدات والكشفيات.. فهؤلاء الذين هم افذاذ اهل التحقيق والحقيقة قد شاهدوا كشفاً في رقيهم الروحاني صدق محمد صلى الله عليه وسلم وصدق رسالته وانه في قمة مراتب الصدق والعدل والحق. فشهادة هؤلاء بالاتفاق والتطابق، على نبوته صلى الله عليه وسلم وعلى رسالته، تصديق قوي الى حد لا يمكن جرحه الاّ من نال ما نالوه جميعاً من مراتب الكمالات والفضائل.

الشهادة الثالثة عشرة :
عبارة عن اربع حجج قاطعة واسعة كلية وهى :
[وبشهادة الازمنة الماضية بتواتر بشارات الكواهن والهواتف والعرفاء في الادوار السالفين وبمشاهدة بشارات الرسل والانبياء وبشهادتهم وبشارتهم عليهم السلام برسالة محمدٍ عليه الصّلاة والسّلام في الكتب المقدّسة]
ان خلاصة فحوى هذه الفقرة ستوضح هنا أما ايضاحها الكامل وسندها فهما في ختام رسالة "المعجزات الاحمدية" المنشورة ضمن "مجموعة ذو الفقار".
الشعاع الخامس عشر - ص: 664
والفقرة تعنى :
ان مشاهير البشر في الازمنة الماضية ، وفي مقدمتهم الانبياء الكرام عليهم السلام والعارفين والكهان والهواتف قد أخبروا بالاتفاق عن مجئ محمد صلى الله عليه وسلم وعن رسالته، تلك الاخبارات التي تسمى "الارهاصات" وهي صريحة ومكررة ومذكورة في كتب التاريخ والسير والحديث الشريف، بروايات صحيحة ومتواترة لقسم منها. وقد فصلت رسالة "المعجزات الاحمدية" و بينت ما هو أقوى واثبت من تلك الالوف من الارهاصات، فنحيل اليها ونقول باشارة في منتهى الاختصار:
اما اخبار الانبياء فلقد ذكر في "المكتوب التاسع عشر" عشرون آية تخص نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بما يقرب من الصراحة من مئات الآيات في الكتب السماوية كالتوراة والانجيل والزبور ولقد سجل حسين الجسر 1 في كتابه مائة من تلك الايات التي تبشر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم رغم التحريفات الكثيرة التي طرأت على تلك الكتب من قبل النصارى واليهود.
اما الكهان ففى مقدمتهم الكاهنان الشهيران "شقّ وسطيح" فهم يخبرون عن الغيب بوساطة الروحانيين والجن فأخبروا بروايات صحيحة متواترة وصريحة لاريب فيها عن مجئ الرسول صلى الله عليه وسلم وازالته لدولة فارس. وعن ظهور نبى عن قريب في الحجاز.
وأخبر كعب بن لؤى - من اجداد النبى صلى الله عليه وسلم - وسيف بن ذى يزن من ملوك اليمن وتبّع من ملوك الحبشة وامثالهم من العرفاء، أولياء ذلك الزمان. أخبروا صراحة عن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم واعلنوها شعراً. حتى قال احد اولئك الملوك: "انى لارجح خدمة محمد على هذه السلطنة". وقال آخر: "لو ادركته لكنت له ابن عم" اى كنت كعلي رضى الله عنه مضحياً ووزيراً له. وقد ذكر في "المكتوب التاسع عشر" ما هو مهم وثابت من هذه الاخبار. وعلى كل حال فان هؤلاء العرفاء يشهدون شهادة صادقة كلية قوية على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وعلى صادقيتها، كما نشر كتب التاريخ والسير هذه الاخبار نشراً كاملاً.
_____________________
1 (1261 - 1327هـ)(1845 - 1909م) عالم بالفقه والادب، من بيت علم في طرابلس الشام. له نظم كثير. دخل الازهر سنة 1279هـ واستمر الى سنة 1284هـ، وعاد الى طرابلس فكان رجلها في عصره، علماً ووجاهة، وتوفي فيها. كتبه (الرسالة الحميدية في حقيقة الديانة الاسلامية) و(الحصون الحميدية) في العقائد الاسلامة.

الشعاع الخامس عشر - ص: 665
وكذا الروحانيون، هم لايشاهَدون ولكن تُسمع اقوالهم، ويطلق عليهم الهواتف فهم يشهدون شهادة صادقة كالعارفين والكهان على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وعلى نبوته شهادة صريحة جداً.
وكذا كثرة من المخبرين، بل حتى الذبائح التي تذبح للاصنام، والاصنام نفسها وشواهد القبور كل اولئك قد اخبروا عن نبوته صلى الله عليه وسلم فيشهدون شهادة صدق على رسالته واحقيته بلسان التاريخ.

الشهادة الرابعة عشرة :
هي شهادة الكون القوية، تشير اليها هذه الفقرة العربية:
[ وبشهادة الكائنات بغاياتها وبالمقاصد الالهية فيها على الرسالة المحمدية الجامعة؛ بسبب توقف حصول غايات الكائنات والمقاصد الالهية منها وتقرر قيمتها ووظائفها وتبارز حسنها وكمالها وتحقق حكم حقائقها على الرسالة الانسانية لاسيما على الرسالة المحمدية؛ اذ هى المظهرة والمدار الاتم لها، ولولاها لصارت هذه الكائنات المكملة والكتاب الكبير ذو المعانى السرمدية هباءً منثوراً متطايرة المعانى متساقطة الكمالات وهو محال من وجوه وجهات].
لقد ذكرت رسالة "الآية الكبرى" فيما يخص هذه الفقرة العربية الآتي :
هذا الكون كما انه يدل على صانعه وكاتبه ومصوره الذي اوجده والذي يديره وينظمه ويتصرف فيه بالتصوير والتقدير والتدبير كأنه قصر باذخ أو كأنه كتاب كبير او كأنه معرض بديع، او كأنه مشهر عظيم، فهو كذلك يستدعي لامحالة وجود من يعبّر عما في هذا الكتاب الكبير من معانٍ، ويعلَم ويعلّم المقاصد الالهية من وراء خلق الكون، ويعلّم الحكم الربانية في تحولاته وتبدلاته، ويدرّس نتائج حركاته الوظيفية، ويعلن قيمة ما هيته وكمالات ما فيه من الموجودات.. ويجيب عن الاسئلة الرهيبة المحيرة، من اين تأتى هذه الموجودات والى اين المصير ولِمَ لا تلبث هنا بل تمضى وترحل مسرعة؟. ويوضح معاني ذلك الكتاب الكبير ويفسر حكمة آياته التكوينية. اى يقتضى داعياً عظيماً، ومنادياً صادقاً، واستاذاً محققاً، ومعلماً بارعاً، فالكون من حيث هذا الاقتضاء يدل ويشهد شهادة قوية وكلية على صدق النبي الكريم صلى الله عليه وسلم
الشعاع الخامس عشر - ص: 666
وصوابه الذي هو افضل من اتم هذه الوظائف والمهمات. وعلى كونه افضل واصدق مبعوث لرب العالمين. فيشهد الكون قائلاً: اشهد ان محمداً رسول الله.
نعم ان ماهية الكون وقيمته ومزاياه تتحقق بالنور الذي اتى به محمد صلى الله عليه وسلم وبه تُعلم وظائف ما فيه من موجودات ونتائجها ومهماتها وقيمتها، وبه يكون الكون بأسره عبارة عن مكاتيب إلهية بليغة وقرآن ربانى مجسّم ومعرض آثار سبحانية مهيب. اذ لولا نوره صلى الله عليه وسلم لاتخذ الكون ماهية مأتم موحش وخراب مخيف ذا اخلاط متشابهة واضطرابات متعاقبة يتردى في خضم ظلمات العدم والعبث والزوال والفناء.
فبناء على هذه الحقيقة فان مزايا الكون وكمالاته وتحولاته الحكيمة ومعانيه السرمدية تقول بقوة: نشهد أن محمداً رسول الله.

الشهادة الخامسة عشرة التي تضم كثيرا ً من الشهادات وهي:
ان جميع التحولات والحركات والسكنات والحياة والممات وامثالها من التصرفات الجارية في الكون انما تتم بأمر وارادة وقوة الذات الأقدس الواجب الوجود الذي يتصرف في هذا الكون ابتداء من الذرات الى السيارات، فتشهد اجراءات ربوبيته وافعال رحمانيته على الرسالة المحمدية صلى الله عليه وسلم. والفقرة العربية الآتية تعبّرعن هذه الشهادة السامية الرفيعة :
[وبشهادة صاحب الكائنات وخلاقها ومتصرفها على الرسالة المحمدية؛ بافعال رحمانيته وباجراآت ربوبيته؛ كفعل الرحمانية بانزال القرآن المعجز البيان عليه، وباظهار انواع المعجزات على يديه، وبتوفيقه وحمايته في كل حالاته، وبادامة دينه بكل حقائقه، وباعلاء مقام حرمته وشرفه واكرامه على جميع المخلوقات بالمشاهدة والعيان، وكفعل ربوبيته بجعل رسالته شمسا ً معنويةً لكائناته، وبجعل دينه فهرستة كمالات عباده، وبجعل حقيقته مرآةً جامعةً لتجليات الوهيته، وبتوظيفه بوظائف ضرورية لازمة لوجود المخلوقات في هذه الكائنات كلزوم الرحمة والحكمة والعدالة وكضرورة لزوم الغذاء والماء والهواء والضياء.]
نحيل تفاصيل هذه الشهادة السامية القاطعة الواسعة جداً الى رسائل النور، وننظر الى معناها الاجمالي باشارة في منتهى الاختصار وهي :
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-06-2011
  #5
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الشعاعات - الشعاع الخامس عشر


الشعاع الخامس عشر - ص: 667
اننا نشاهد باعيننا في هذا الكون ان من عادة الربوبية الجارية في كل آن بالعدالة والحكمة والعناية، حماية الابرار وتأديب الكذابين الفاسدين نشاهدها ضمن تصرفاته المنتظمة جل جلاله. فبمقتضى افعاله الرحمانية انزال القرآن المعجز البيان على محمد صلى الله عليه وسلم.. وإظهار انواع المعجزات الكثيرة البالغة نحو الف معجزة على يديه.. وحمايته له تحت جناح رأفته الشفيقة في كل حالاته، بل في اخطر اوضاعه حتى حمايته بالحمام والعنكبوت!.. وتوفيقه توفيقاً معززاً في مهامه.. وادامة دينه بجميع حقائقه.. وتتويج هامة الارض والبشرية باسلامه.. واعلاء مقامه وشرفه الى ارفع مقام واشرفه.. وتفضيله على الموجودات كافة بمنحه مقاماً مرضياً مقبولاً ودائماً يفوق افاضل الانسانية.. واعطائه شخصية تحمل اجمل الخصال الحميدة الرفيعة باتفاق الاولياء والاعداء حتى جعل خمس البشرية من امته.. كل ذلك يشهد شهادة صادقة قاطعة على صدقه صلى الله عليه وسلم ورسالته.
وكذا نشاهد من حيث افعال ربوبيته جل وعلا: ان متصرف هذا العالم ومدبّر شؤونه جعل رسالة محمد صلى الله عليه وسلم شمسا ً معنوية للكون ، فقد اُثبتت في رسائل النور: انه بدّد بها جميع الظلمات، مظهرا ً بها حقائق الكون النورانية.. وابهج ذوى الشعور قاطبة بل الكون باسره ببشارة الحياة الباقية.. وجعل دينه ايضا ً فهرس كمالات جميع عباده المقبولين، ومنهجا ً قويما ً لأفعال العبودية.. وجعل الحقيقة المحمدية وهي شخصيته المعنوية مرآة جامعة لتجليات اُلوهيته بدلالة القرآن الكريم والجوشن الكبير.. بل جعله ينال - علاوة على الحقائق التي اشرنا اليها - مثل حسنات امته كافة في كل يوم طوال اربعة عشر قرناً.. وبعثه الى البشرية واناط به وظائف جليلة سامية.. وجعله احسن قدوة واعظم مرشد واكرم سيدٍ للبشرية قاطبة، بدلالة آثاره في الحياة الاجتماعية والمعنوية والبشرية، وجعل البشرية محتاجة الى دينه وشريعته وحقائقه التي اتى بها في الاسلام 1 حاجتها الى الرحمة والحكمة والعدالة والغذاء والهواء والماء

_____________________
1 وقدشعرت وانا اعانى شيخوختي وضعفي بواحدٍ من مليون من الارزاق المعنويةالتي اتى بها هذا النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، فلو كان بوسعي لشكرته بملايين الالسنة والصلوات. وذلك :
انني أتألم غاية الالم من الفراق والزوال، مع ان الدنيا التي احبها والدنيويين يتركونى برحيلهم و بمفارقتهم لي، وانا على علم برحيلي ايضاً. فيتملكنى يأس أليم قاتم. ولكن اتسلى وانجو كلياً من هذا اليأس باستماع بشارة السعادة الابدية والحياة الباقية من النبي الكريم صلى الله عليه وسلم،حتى اننى عندما اقول (السلام عليك ايها النبي ورحمة الله وبركاته) في التشهد، اقدم له بيعتي وطاعتي واستسلامي لمهمته واباركه في وظيفته مقدماً نوعاً من الشكر اليه، مقابل تلك البشارة بالسعادة الابدية، وهكذا ينطق المسلمون بهذا السلام خمس مرات يومياً - المؤلف

الشعاع الخامس عشر - ص: 668
والضياء.. كل هذه الحجج الكلية القاطعة البالغة اثنتا عشرة حجة، شهادة سامية رفيعة على الرسالة المحمدية..
فهل من الممكن الاّ تكون الرسالة المحمدية شمساً معنوية للكون وهي التي نالت هذا العدد من الشهادات الكلية الواسعة من رب العالمين الذي لا يهمل رعاية وتنظيم شئ مهما كان حتى جناح ذبابة وزهيرة صغيرة .
* * *
فكل شهادة من هذه الشهادات الخمس عشرة تتضمن شهادات كثيرة جداً، حتى ان الشهادة الثالثة قد اثبتت دعوى: اشهد ان محمداً رسول الله بقطعية تامة وقوة راسخة لإندراج الف من الشهادات تحتها بلسان المعجزات، واعلنت تحققها وقيمتها واهميتها العظيمة بحيث ان مئات الملايين من الالسنة في طول العالم الاسلامي وعرضه يعلنون تلك الدعوى الى الكون خمس مرات في اليوم.
كما ان مليارات من اهل الايمان قد رضوا وصدّقوا بلاريب ان اساس تلك الدعوى - وهو الحقيقة المحمدية - هي البذرة الاصلية للكون وسبب خلقه واكمل ثمرته، وان رب العالمين جل جلاله قد جعل تلك الشخصية المعنوية المحمدية داعيا ً رفيعاً الى سلطان ربوبيته وكشافاً صادقاً لطلسم الكائنات ومعمى الخلق ، ومثالاً ساطعاً لألطافه ورحمته، ولساناً بليغاً لشفقته ومحبته ، واعظم مبشر للحياة الدائمة والسعادة الابدية في العالم الباقي، وخاتم مبعوثيه واعظم رسله صلى الله عليه وسلم.
فيا خسارة من لايؤمن بحقيقة لها هذه الماهية ولايثق بها، او لايهتم بها! ويا فداحة خطئه وعظم ارتكابه بلاهة وجناية.
فكما ان سورة "الفاتحة" التي في الصلاة باشاراتها في القسم الثاني تبين حججاً قاطعة على دعوى حقيقة التوحيد في (اشهد ان لا إله إلاّ الله) وتضع عليها ما لايحد من علامات التصديق، كذلك تأتى في هذا القسم الثالث ايضا ً بشهود اقوياء يصدقون ما في التشهد من "اشهد ان محمداً رسول الله" ويضعون عليه ما لايحد من علامات التصديق.
الشعاع الخامس عشر - ص: 669
فيا ارحم الراحمين بحرمة هذا الرسول الاكرم صلى الله عليه وسلم، وفقنا لنيل شفاعته واتباع سنته السنية واجعلنا بجوار آله واصحابه الكرام في دار السعادة الابدية.
آمين.آمين. آمين.
اللهم صلّ وسلّم عليه وعلى آله وصحبه بعدد حروف القرآن المقروءة والمكتوبة
آمين.
(سبحانك لاعلم لنا إلاّ ما علّمتنا انك انت العليم الحكيم)
* * *
الشعاع الخامس عشر - ص: 670
المقام الثاني
من
الحجة الزهراء
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
ان حقيقة واحدة من آية الختام لسورة الفاتحة تشير الى الموازنة بين اهل الهداية والاستقامة واهل الضلالة والطغيان. والآية هي منبع جميع الموازنات والمقايسات المعقودة في رسائل النور. وهذه الموازنة يبيّنها بوضوح وبأسلوب عجيب ويعبّر عنها تعبيراً معجزاً قوله تعالى في سورة النور:
(الله نور السموات والارض مثل نوره كمشكوةٍ فيها مصباحُ المصباحُ في زجاجةٍ الزجاجةُ كأنّها كوكبٌ درّيّ يوقدُ من شجرةٍ مباركةٍ..) (النور: 35) الى آخر الآية.
والذي بعده...
(أو كظلماتٍ في بحرٍ لُجّيّ يغشيهُ موجٌ من فوقه موجٌ..) (النور: 40) الى آخر الآية.
فالآية الاولى، آية النور تتوجه بعشر اشارات الى رسائل النور وتنظر اليها، كما اثبت في الشعاع الاول، مخبرة خبراً مستقبلياً معجزاً عن ذلك التفسير للقرآن الكريم.
الشعاع الخامس عشر - ص: 671
ولما كانت هذه الآية الكريمة اهم سبب من اسباب اطلاق اسم "النور" على رسائل النور، وبناء ً على بيان معجزة معنوية لهذه الآية العظيمة، كما في السياحة الخيالية التمثيلية لبيان معجزة "ن" نعبد، في قسم من المكتوب التاسع والعشرين.. فان سائح الدنيا في رسالة "الآية الكبرى" الذي سأل جميع الكائنات وانواع الموجودات اثناء بحثه عن خالقه ووجدانه له ومعرفته اياه، وعرفه بثلاث وثلاثين طريقاً وببراهين قاطعة بعلم اليقين وعين اليقين، فإن السائح نفسه قد ساح بعقله وقلبه وخياله في اجواء طبقات العصور والارض والسموات، دون ان يصيبه تعب او نصب، بل ما زال يسيح ليشفي غليله حتى ساح في ارجاء الدنيا الواسعة كلها، فبحث عن جميع نواحيها كمن يسيح في مدينة. مستنداً بعقله احياناً الى حكمة القرآن وتارة الى حكمة الفلسفة كاشفاً بمنظار الخيال اقصى الطبقات، الى أن رأى الحقائق كما هي في الواقع، فأخبر عن قسم منها في تلك الرسالة "الآية الكبرى".
وها نحن نبين بياناً مختصراً جداً ثلاث عوالم فقط من تلك العوالم والطبقات الكثيرة التي دخلها السائح بسياحة خيالية، والتي هي عين الحقيقة، الاّ انها ظهرت في معنى التمثيل وفي صورته. نبين هذه العوالم كنماذج وامثلة فحسب للموازنة الموجودة في ختام سورة "الفاتحة" وكمثال من حيث القوة العقلية وحدها.
اما سائر مشاهداته وموازناته فنحيلها الى الموازنات المعقودة في رسائل النور.

النموذج الاول هو :
ان ذلك السائح الذي لم يأت الى الدنيا الاّ ليجد خالقه وليعرفه، خاطب عقله قائلا ً:
لقد سألنا كل شئ عن خالقنا، واخذنا جواباً شافياً وافياً، ولكن كما يرد في المثل: "ينبغي سؤال الشمس عن الشمس نفسها" فعلينا الآن ان نقوم بسياحة اخرى لاجل معرفة خالقنا من تجليات صفاته الجليلة "كالعلم والارادة والقدرة" ومن آثاره البديعة ومن جلوات اسمائه الحسنى. فدخل الدنيا لهذا الغرض، وركب سفينة الارض
الشعاع الخامس عشر - ص: 672
فوراً كأهل الضلال الذين يمثلون تياراً آخر، وقلّد نظارة العلم والفلسفة غير المقيدة بحكمة القرآن. ونظر من خلال منظارمنهج الجغرافية غير المسترشد بالقران فرأى: ان الارض تسيح في فضاء غير محدود، وتقطع في سنة واحدة دائرة تبلغ اربعة وعشرين ألف سنة، بسرعة تزيد على سرعة انطلاق القذيفة بسبعين مرة. وقد حملت على مناكبها مئات الالوف من انواع ذوى الحياة العاجزة الضعيفة. فلو تاهت لدقيقة واحدة وضيعت طريقها او اصطدمت بنجمة سائبة، تبعثرت متساقطة في فضاء غير محدود، والقت ما عليها من الاحياء الضعيفة وافرغتها في العدم والعبث والضياع.
فاستشعر ظلمات معنوية رهيبة خانقة كظلمات في بحر لجّي تنبعث من هذا الفهم الذي في تيار "المغضوب عليهم والضالين". فقال من اعماقه: ياحسرتاه! ماذا عملنا؟ لِمَ ركبنا هذه السفينة المرعبة؟ وكيف النجاة منها؟ فقذف نظارة تلك الفلسفة العمياء وكسرها، ودخل تيار (الذين انعمت عليهم) واذا بحكمة القرآن تغيثه مسلمةً الى عقله منظاراً يبين الحقيقة كاملة، قائلة له: انظر الآن.. فنظر ورأى:
ان اسم "رب السموات والارض" قد أشرق من برج قوله تعالى (هو الذي جعل لكم الارض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه) (الملك: 15) وجعل الارض سفينة آمنة سالمة تمخر عباب بحر الكون الواسع بانتظام دقيق دائرة حول الشمس لاجل حكم كثيرة ومنافع شتى، مشحونة بذوى الحياة ومايلزمها من ارزاق، وهي تجلب محاصيل المواسم للمحتاجين الى الرزق، ونصب سبحانه وتعالى ملكين اثنين يسميان بـ"الثور والحوت" ملاحين وقائدين لتلك السفينة. فيجريانها في سياحة عبر المملكة الربانية التي هي في منتهى الهيبة والروعة، لتستجم مخلوقات الخالق الجليل وضيوفه في فضاء هذا الكون الواسع. وهكذا تبين هذه السياحة المهيبة حقيقة (الله نور السموات والارض) حيث تعرّف خالقها بتجلي هذا الاسم.
وبعدما ادرك السائح هذا المعنى من مشاهدته الارض ردّد من اعماق روحه ووجدانه : الحمد لله رب العالمين ، ودخل ضمن طائفة (الذين انعمت عليهم) .
الشعاع الخامس عشر - ص: 673
النموذج الثاني من العوالم التي شاهدها ذلك السائح هو انه:
بعدما غادر ذلك السائح سفينة الارض، دخل عالم الانسان والحيوانات. فنظر الى العالم بمنظار الحكمة الطبيعية غير المستلهمة الحياة والروح من الدين، فرأى :
ان حاجات غير محدودة لذوي حياة لايحصون، واعداء غير محدودين محيطون بهم يؤذونهم ويلحقون بهم اضراراً جسيمة في حوادث قاسية لارحمة فيها وهم لايملكون من رأس المال الاّ واحداً من ألفٍ بل واحداً من مائة ألف ازاء تلك الحاجات. وليس في اقتدارهم تجاه تلك الامور والاشياء المضرة الاّ واحد من مليون! فتألم السائح امام هذه الحالة التي تثير الرثاء والرهبة والألم - لما يحمل الانسان من علاقات الرقة الجنسية والشفقة النوعية والعقل - وتألم لحالهم ألماً شديداً وحزن عليهم حزناً يشعره بآلام اليأس كالعذاب الشديد في جهنم، فندم ألف ندم على دخوله هذا العالم الحزين النكد.
واذ هو يكابد هذه الآلام ويعاني منها مايعاني اذا بحكمة القرآن الكريم تمدّه وتسعفه، مسلّمة له منظار (الذين أنعمت عليهم) قائلة له : أنظر.. فنظر ورأى :
ان كل اسم من اسماء الله الحسنى امثال : الرحمن ، الرحيم، الرزاق، المنعم، الكريم، الحفيظ، قد اشرق كالشمس الساطعة، وذلك بتجلي (الله نور السموات والارض) عند بروج الآيات الكريمة :
(ما من دابة الاّ هو آخذ بناصيتها) (هود: 56)
(وكأيّن من دابة لاتحمل رزقها الله يرزقها وإياكم) (العنكبوت:60)
(ولقد كرّمنا بنى آدم) (الاسراء:70)
(ان الابرار لفى نعيم) (الانفطار:13)
فأنغمرت دنيا الانسان والحيوان بتلك الرحمة السابغة والاحسان العميم حتى كأنها تحولت الى جنة موقتة. فعلم السائح ان هذه الدنيا بما فيها تعرّف تعريفاً جيداً المضيّف الكريم لهذا المضيف الجميل الجدير بالمشاهدة، الملئ بالعبر، فحمد الله سبحانه ألف حمد قائلا ً: الحمد لله رب العالمين .
الشعاع الخامس عشر - ص: 674
النموذج الثالث من سياحة السائح التي تحوى مئات من مشاهداته:
ان ذلك السائح في الدنيا ، الذي يريد معرفة خالقه، من خلال تجليات اسمائه الحسنى وصفاته الجليلة خاطب عقله وخياله قائلاً: هيا لنصعد الى السموات العلى كالارواح والملائكة تاركين اجسادنا في الارض، ولنسأل عن خالقنا اهل السموات . فركب العقلُ الفكرَ والروحُ الخيالَ وصعدوا جميعاً الى السماء متخذين علم الفلك مرشدهم، ونظروا بمنظار (الضالين.. المغضوب عليهم) اى بمنظار الفلسفة التي لاتعير للدين بالاً، فشاهد السائح: ان آلاف الاجرام والنجوم المستطيرة ناراً وتكبر الارض ألف مرة وتنطلق وتجرى متداخلة أسرع من سرعة القذائف مائة مرة وهي جامدة لاشعور لها، كأنها سائبة، حتى اذا ما أخطأت احداها سبيلها لدقيقة واحدة مصادفة ً واصطدمت مع اخرى لاشعور لها لاختلط الحابل بالنابل وعمت الفوضى وحدث ما يشبه القيامة في ذلك العالم غير المحدود .
فما من جهة نظر اليها السائح الاّ واورثته الوحشة والدهشة والحيرة والخوف، فندم على صعوده الى السماء ألف ندم، اذ قد اختل العقل والخيال واضطربا كلياً.حتى ليقولا: اننا لانريد معرفة مثل هذه المعانى القبيحة الاليمة المعذبة كعذاب جهنم، بل نربأ بأنفسنا حتى عن مشاهدتها، لأن وظيفتنا الاساس رؤية الحقائق الجميلة واراءتها، واذ يقولان هكذا اذا بتجل من (الله نور السموات والارض) اشرقت الاسماء الالهية: "خالق السموات والارض" و"مسخر الشمس والقمر" و"رب العالمين" وامثالها.. اشرقت كالشمس من بروج الآيات الكريمة :
(ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح) (الملك:5)
(افلم ينظروا الى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيّناها) (ق:6)
و(ثم استوى الى السماء فسويهن سبع سموات) (البقرة:29)
فملأت انوار تلك الاسماء السموات كلها بالنور والملائكة. وحوّلتها الى مسجد عظيم وجامع كبير ومعسكر مهيب. فدخل ذلك السائح ضمن طائفة (الذين أنعمت عليهم) ونجا من ظلمات (كظلماتٍ في بحرٍ لجيّ) واذا به يرى مملكة جميلة مهيبة منسقة كالجنة.. فترقت قيمة العقل والخيال وسمت وظائفهما ألف درجة لما شاهدا في كل جانب منها من يعرّف بالخالق الجليل.
الشعاع الخامس عشر - ص: 675
وهكذا ننهى هذا البحث الواسع مكتفين بهذه الاشارة القصيرة جداً محيلين سائر مشاهدات السائح في الكون الى رسائل النور قياساً على هذه النماذج الثلاثة المذكورة من بين مئات النماذج لدى سياحته لمعرفة واجب الوجود من خلال تجليات اسمائه تعالى. ونحاول باشارة في منتهى الاختصار معرفة خالق الكون - كمعرفة ذلك السائح - وذلك من خلال آثار وتجليات صفات "العلم"و"الارادة"و"القدرة" فقط بين الصفات السبع الجليلة لخالقنا ومن حجج تحقق تلك الصفات الثلاث الجليلة، ونحيل تفاصيلها الى رسائل النور.
ان الفقرة العربية الآتية هي وردى التفكرى الدائم المستخلص من خلاصة الحزب النورى العربى، التي تبين ثلاث مراتب من المراتب الثلاث والثلاثين لجملة "الله أكبر" فنشير ضمن شرحها وما يشبه ترجمتها باشارات قصيرة الى ما اشغل كثيراً علماء الكلام وعلماء العقائد من معرفة تلك الصفات بتجلياتها في الكون والتصديق بها بايمان راسخ بعين اليقين. فهذه الفقرة العربية تفتح سبيلاً الى الايمان الكامل بتلك الصفات الثلاث - بعلم اليقين - على وجود واجب الوجود ووحدانيته بدرجة البداهة:
بسم الله الرحمن الرحيم
(وقل الحمدُلله الذي لَم يتخِذ ولَدا ً ولم يكُن لهُ شريك ٌ في الملك ِ ولم يكن لهُ ولىّ من َ الذلّ وكبّرهُ تكبيرا) (الاسراء:111)
اَلله اكبرُ من كلّ شئ ٍقدرة ً وعلما ً إذ هو العليم ُ بكل ّ شئ ٍ بعلم ٍ محيط ٍ لازم ٍ ذاتىّ 1 للذاتِ يلزم ُ الاشياء لايمكنُ ان ينفكّ عنهُ شئ ٌ بسر الحضور والشهود والاحاطة النورانية وبسر استلزام الوجود للمعلومية واحاطة نور العلم بعالم الوجود.
نعم فالانتظامات الموزونة.. والاتزانات المنظومة.. والحكم القصدية العامة.. والعنايات المخصوصة الشاملة.. والاقضية المنتظمة.. والاقدار المثمرة.. والاجال المعينة والارزاق المقننة.. والاتقانات المفننة.. والاهتماماتُ المزينة.. وغاية كمال الانتظام والانسجام والاتساق والاتقان والاتزان والامتياز، المطلقات في كمال السهولة
_____________________
1 ولله المثل الاعلى: كلزوم الضياء المحيط للشمس - المؤلف.

الشعاع الخامس عشر - ص: 676
المطلقة.. دآلاّت على احاطة علم علاّم الغيوب بكلّ شئ ٍ (ألاَ يعلمُ من خلقَ وهوَ اللّطيفُ الخبيرُ) (الملك:14) فنسبةُ دلالة حسن صنعة الانسان على شعور الانسان الى نسبةِ دلالة حسن خلقة الانسان على علم خالق الانسان كنسبة لُميعة نجمية الذبيبة في اللّيلة الدّهماء الى شعشعة الشّمس في رابعة النّهار.]
نشير باشارات قصيرة الى "العلم الالهي" هذه الحقيقة الايمانية الجليلة، ضمن ترجمة قصيرة جداً لهذه الفقرة العربية محيلين تفاصيلها الى رسائل النور، فنقول: 1
نعم،كما ان الرحمة تبين نفسها كالشمس بأرزاقها العجيبة وتثبت بدلالة قاطعة ان وراء ستار الغيب رحمن رحيم، كذلك "العلم" الذي اتخذ موقعاً ضمن مئات الآيات القرانية، والذي هو - من جهة - اولى الصفات السبع الجليلة يبين نفسه كضوء الشمس بثمرات وحكم النظام والميزان، ويدل على وجود عليم بكل شئ دلالة مطلقة.
نعم ان نسبة دلالة حسن صنعة الانسان المنتظمة المقدّرة على شعوره وعلمه، ودلالة حسن خلق الانسان في احسن تقويم على علم خالق الانسان وحكمته جل وعلا كنسبة لميعة اليراعة في الليلة الدهماء الى شعشعة الشمس في رابعة النهار.
والان قبل الخوض في بيان دلائل العلم الالهي، فان دلالة تجليات تلك الصفة المقدسة في انواع الكائنات على الذات المقدسة دلالة واضحة جدا ً قد شهد عليها وتضمنها الحوار الذي دار ليلة المعراج النبوي، لدى حظوته صلى الله عليه وسلم بالحضور والخطاب الالهي لما قال :
"التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله" باسم جميع ذوي الحياة وانواع المخلوقات، حيث هو مبعوث ورسول، فقدم الى خالقه الجليل هدايا جميع ذوي الحياة، في طراز معرفة جميع تلك المخلوقات ربَّها بتجليات العلم، قال ذلك في موضع السلام وبدلاً عن جميع ذوي الشعور.
_____________________
1 لقد كتب القسم الثاني اثناء مكابدة مرض رهيب لم اره طوال حياتي من جراء تسمم، فأرجو النظر الى تقصيراتي بنظر المسامحة. ويستطيع «خسرو» ان يصلح ويبدل ويعدل ما يراه غير مناسب.- المؤلف.

الشعاع الخامس عشر - ص: 677
اي ان الطوائف الاربع لجميع ذوي الحياة تقدم بالكلمات الاربع "التحيات المباركات الصلوات الطيبات" وبتجليات العلم الازلى الابدى، تحياتها وتهانيها وعبوديتها ومعرفتها الجميلة الطيبة ازاء علام الغيوب، لذا غدت قراءة هذه المحاورة المعراجية المقدسة بمعناها الواسع فرضاً على جميع المسلمين في التشهد.
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-06-2011
  #6
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الشعاعات - الشعاع الخامس عشر

نبين معنى من معانى تلك المحاورة السامية باربع اشارات مختصرة جداً محيلين ايضاحها الى رسائل النور.

الكلمة الاولى : هي " التحيات لله "
ومعناها باختصار هو :
اذا ما صنع صنّاع ماهر ماكنة خارقة، بمايملك من علم واسع وذكاء خارق، فان كل من يشاهد تلك الماكنة العجيبة يهنئ ذلك الصناع تهنئة تقدير واعجاب. ويقدم له هدايا وتحيات مادية ومعنوية مع ثناء مفعم بالاستحسان. والماكنة بدورها تهنئ وتبارك صناعها بلسان الحال وتقدم هدايا وتحيات معنوية له، وذلك باظهار رغبات ذلك الصناع كاملة، وعرض خوارق صنعته الدقيقة وابراز حذاقته العلمية.
كذلك فان جميع طوائف ذوي الحياة في الكائنات كلها، بل كل طائفة منها، وكل فرد من افرادها، انما هي ماكنة معجزة بكل جوانبها، تهنئ صانعها الجليل الذي يعرّف نفسه بجلوات علمه الواسع الذي يبصر علاقةكل شئ باي شئ كان ويوصل اليه كل ما يلزم حياته في وقته، تهنؤه بالتحيات وتباركه بقولها: "التحيات لله" بألسنة احوال حياتها، كما تهنؤه ألسنة اقوال ذوي الشعور كالانس والجن والملك. فيقدم جميع ذوي الحياة ثمن حياتهم مباشرة بمعنى العبادة الى خالقهم الذي يعلم احوال المخلوقات كلها. فعبّر الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم لدى حضوره امام الواجب الوجود في ليلة المعراج بإسم جميع ذوي الحياة بقوله: "التحيات لله" بدلاً من السلام، مقدماً تحيات طوائف جميع ذوي الحياة وهداياهم وسلامهم المعنوى.
نعم، ان كانت ماكنة منتظمة اعتيادية تدل على صانع ماهر حاذق بتركيبها المنظم الموزون، فان كل ماكنة من المكائن الحية التي تملأ الكون والتي لاتعد ولاتحصى تظهر
الشعاع الخامس عشر - ص: 678
اذن ألف معجزة ومعجزة علمية، ولاشك ان ذوي الحياة يدلون على وجوب وجود صانعهم السرمدي وعلى معبوديته بتجليات العلم التي هي كضوء الشمس بالنسبة لدلالة تلك الماكنة التي هي كضوء اليراعة.

الكلمة الثانية السامية من كلمات المعراج: هي "المباركات":
لما كانت الصلاة معراج المؤمن كما هو ثابت في الحديث الشريف، وفيها انوار تجليات المعراج الاعظم، وان سائح الدنيا قد وجد خالقه العلاّم للغيب بصفة العلم في كل عالم. فنحن كذلك ندخل مع ذلك السائح عالم المباركات الواسع والذي يستنطق الاخرين بالتبريك والتهنئة، ونحاول ان نعرف خالقنا بعلم اليقن - مثل ذلك السائح - من خلال التجليات المعجزة الدقيقة للصفة الالهية الجليلة ، صفة العلم. وذلك اثناء مشاهدة ذلك العالم، عالم المباركات ومطالعته، ولاسيما صغار ذوي الارواح اللطيفين المباركين الابرياء، والنوى والبذور التي هي عليبات تضم مقدرات ذوي الحياة وبرامجها.
نعم اننا نشاهد بابصارنا ان جميع اولئك الصغار اللطيفين الابرياء وتلك المخازن والعليبات المباركة، تنتفض جميعها وكل فرد منها دفعة بعلم عليم حكيم للمضي الى ما خُلق لأجله حتى تستنطق تلك الحركات كل ناظر اليها بنظر الحقيقة بالقول : بارك الله، ما شاء الله.. ألف ألف مرة.
نعم، فالنطف مثلا ً والبيوض والبذور والنوى، كل منها ضمن نظام دقيق آت من العلم.. وان ذلك النظام ضمن ميزان آت من مهارة كاملة.. وذلك الميزان ضمن تنظيم جديد.. وهذا ضمن مكيال ووزان جديد.. وهذا بدوره ضمن تربية.. وتمييز.. وعلامات فارقة مقصودة عن متشابهات امثالها.. وهذه ضمن تزيين وتجميل متقن.. وهذا ايضاً ضمن اجهزة كاملة وتصوير ملائم دقيق حكيم.. وهذه ضمن اختلاف لحوم تلك المخلوقات والثمرات وما يؤكل منها، لإشباع المحتاجين الى الرزق اشباعاً كريما ًبما ينسجم واذواقهم.. وهذا ايضا ً ضمن نقوش واشكال من الزينة المتباينة زيّنت بعلم واعجاز.. وهذه ضمن روائح طيبة متنوعة.. وطعومات لذيذة متباينة،
الشعاع الخامس عشر - ص: 679
بحيث ان انكشاف صور جميع تلك المخلوقات وتمايز بعضها عن بعض بكمال الانتظام بلا خطأ ولا سهو في سرعة مطلقة.. ووسعة مطلقة.. مع انها في كثرة مطلقة.. ودوام تلك الحالة الخارقة في كل موسم، يجعل كل فرد والافراد جميعاً يظهرون بهذه الألسنة الخمسة عشرة العلم الإلهي، ويلفتون الانظار الى المهارة الخارقة لربهم ويدلون بها على علمه المعجز. فيعرّفون بجلاء كالشمس صانعَهم الواجب الوجود، علام الغيوب.
فشهادتهم هذه الواسعة الساطعة جداً وتهانيهم لصانعهم، هي التي عبّر عنها النبي صلى الله عليه وسلم الذي تكلم باسم جميع المخلوقات في ليلة المعراج وقال: "المباركات" بدلا عن السلام.

الكلمة الثالثة: وهي " الصلوات"
ان مائة مليون من اهل الايمان يعلنون تلك الكلمة المقدسة التي قيلت في المعراج المحمدي الاكبر، وتقال في المعراج الخاص بالمؤمن، اي في تشهد الصلاة، في كل يوم في الاقل عشر مرات، بإتّباعهم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يعلنونها في ارجاء الكون كله مقدمين اياها الى الحضرة الربانية.
وبناء على البيان الواضح والاثبات القوى القاطع في رسالة المعرا ج "الكلمة الحادية والثلاثين" وايضاحها جميع حقائق المعراج، حتى ازاء خطابها للملحد المنكر المتعنت، نحيل تفاصيل البحث وحججه الى تلك الرسالة،الاّ اننا نشير اشارة في منتهى الاختصار الى المعنى الواسع لهذه الكلمة المعراجية الثالثة والذي يبينه العوالم العجيبة لطوائف ذوي الارواح والمشاعر، فنشاهد تلك العوالم محاولين معرفة وحدانية خالقنا ووجوده وكمال رحمانيته ورحيميته وعظمة قدرته وشمول ارادته، وذلك من خلال تجليات العلم الازلي.
نعم، اننا نشاهد في هذا العالم ان كل ذي روح يستشعر بالاحاسيس وبالفطرة - وان لم يكن بالشعور والعقل - انه يعانى عجزاً وضعفاً لايحدان بحدود مع ان اعداءه وما يؤلمه لايعدون، وان كلاً منهم يتقلب في فقر وحاجة لاحدود لهما مع ان
الشعاع الخامس عشر - ص: 680
حاجاته ومطاليبه لاحدّ لها. ولما كان اقتداره وراس ماله لايكفي لواحد من الف منها تراه يستغيث ويبكي بكل ما يملك من قوة، ويتضرع فطرة وضمناً. واذ يلتجئ الى ديوان عليم قدير بصوته الخاص وبلسانه الخاص وبدعوات وصلوات وتوسلات وتضرعات ونوعاً من صلوات خاصة به، اذا بنا نشاهد ان قديراً حكيماً عليماً مطلقاً يعلم كل حاجة من حاجات اولئك الاحياء ويقضيها لهم، ويبصر كل داء من ادوائهم ويسعفها لهم، ويسمع كل نداء ودعاء يدعونه فطرة ويستغيثونه ويستجيب لهم، فيحول سبحانه وتعالى بكاءهم الى ابتسامات حلوة ويبدل استغاثاتهم الى انواع من الحمد والشكر.
ان هذا المدد المتسم بالحكمة والعلم والرحمة يدل دلالة واضحة بتجليات العلم والرحمة على المجيب المغيث الرحيم الكريم. فجميع الصلوات والعبادات التي تنطلق من هذه العوالم، عوالم ذوي الارواح، الصاعدة الى ذلك المجيب المغيث قد عبّر عنها - بهذا المعنى - وقدّمها وخصصها محمد صلى الله عليه وسلم في المعراج الاكبر، ويرددها كل مؤمن في المعراج الاصغر في كل صلاة بـ"الصلوات الطيبات لله".

الكلمة الرابعة السامية: "وهي الطيبات لله":
لما كانت حقائق كثيرة لرسائل النور تتخطر على قلبي في أذكار الصلاة، فقد رأيتني كأنني أنساق - بناء على هذه الحكمة - الى بيان حقائق كلمات سورة الفاتحة والتشهد باشارات قصيرة دون اختيار منى.
وهكذا فالكلمة القدسية "الطيبات" التي قيلت في المعراج المحمدي التي تحوى معانى الطيبات التي لاتحد والمنطلقة من الانس والجن والملك والروحانيين الذين هم اهل المعرفة والايمان والشعور الكلي، والذين يجملون الكون بأسره بطيباتهم وحسناتهم وعباداتهم الجميلة، المتوجهة كلها الى عالم الجميلات، والذين يدركون ادراكاً كاملاً الجمالات والمحاسن التي لاتحد للجميل المطلق السرمدي والجمال الدائم لأسمائه الحسنى التي تجمل الكون فيقابلون بالعبادات الكلية المفعمة بالعشق والشوق، وبالروائح الطيبة العطرة للايمان الساطع وللمعارف الواسعة وللحمد والثناء التي يقدمونها تجاه خالقهم الجليل..
الشعاع الخامس عشر - ص: 681
وبحكم هذا المعنى الواسع لتلك الطيبات التي لا تحد وبمضمون ما قيل في المعراج، تكرر الأمة كلها تلك الكلمة المقدسة في التشهد يومياً دون ملل ولاسأم.
نعم ان هذا الكون مرآة تعكس الجمال السرمدي والحسن غير المحدود، بل من تجلياته سبحانه. وما في الكون من جمال وحسن آت من ذلك الحسن السرمدي، ويتجمل بالانتساب اليه فيرقى ويعلو.. اذ لولا ذلك الانتساب لتحول الكون الى مأتم موحش واخلاط ودمار وفوضى ضارب اطنابها.
ويُدرك ذلك الانتساب بمعرفة الانس والجن والملك والروحانيين وبتصديقهم، وهم الدعاة الادلاء الى سلطنة الالوهية،حتى ان الحمد الجميل والثناء الحسن الذي يرفعه اولئك الدعاة ونشر ثنائهم على معبودهم وكلماتهم الى كل ناحية في الكون والى العرش الاعظم تقف ازاءها ذرات الهواء على أهبة الاستعداد لاداء هذه المهمة وكأنها ألسنة ناطقة مصغرة وآذان صاغية صغيرة،لأجل تقديم تلك الكلمات الطيبات الى الحضرة الالهية.. فخطر الى قلبي ان هناك احتمالاً قوياً بمنح تلك المهمة الخارقة جداً والعجيبة الى الهواء.
وهكذا فكما ان الانس والملك يعرّفون المعبود الجليل بايمانهم وعباداتهم، كذلك الحكيم ذو الجلال يعرّف نفسه تعريفاً ظاهراً ساطعاً بما اودع من استعدادات جامعة كثيرة في الدعاة وبما جهزهم باجهزة بديعة خارقة وبما فيهم من دقائق علمية، وجعل كلاً منهم ذا ارتباط مع الكون بأسره وكأن كلاً منهم كون مصغر.
فمثلاً: ان خلق القوة الحافظة والخيالية والمفكرة وامثالها من المكائن العجيبة. في موضع صغير في دماغ الانسان لايتجاوز حجم جوزة واحدة. وجعل القوة الحافظة بمثابة مكتبة ضخمة.يبين انه سبحانه وتعالى يظهر نفسه بتجليات العلم الازلي بياناً واضحاً كالشمس في رابعة النهار 1.
والآن نشير باشارات في منتهى الايجاز الى فحوى الفقرة العربية المذكورة في مقدمة هذا البحث المشيرة الى الحجج الكلية للعلم المحيط، وهي حجة عظيمة تضم ما لايحد من البراهين وتبين العلم الازلي بخمسة عشر دليلاً.
_____________________
1 ان مرضي الشديد جداً لا يسمح بالايضاح، وما كتبته انما هو مصدر ومساعدة لمهمة «خسرو» في الترجمة ليس إلاّ. - المؤلف.

الشعاع الخامس عشر - ص: 682
فالدليل الاول من الادلة الخمسة عشر هو: [فالانتظامات الموزونة].
اي ان التناسق المقدر قدره والمشاهد في المخلوقات جميعاً، وكذا الانتظام الموزون فيها يشهدان على علم محيط بكل شئ. نعم انه ابتداءً من جميع الكون الذي هو كقصر بديع منسق الاجزاء، ومن المنظومة الشمسية، ومن عنصر الهواء الذي تنشر ذراته الكلمات والاصوات نشراً يبعث على الحيرة والاعجاب، ويبين انتظاماً بديعاً، ومن سطح الارض الذي يهيئ ثلاثمائة ألف نوع من الانواع المختلفة في كل ربيع وفي اتم نظام واكمل انتظام.. الى كل جهاز من اجهزة كل كائن حي بل الى كل عضو فيه بل الى كل حجيرة من جسمه بل الى كل ذرة من ذرات جسمه..كل ذلك انما هو اثر علم لطيف محيط بكل شئ لايضل ولاينسى.
نعم ان وجود هذا النظام الموزون والانتظام الاتم في كل ما ذكر يدل دلالة قاطعة ويبين بوضوح تام علماً محيطاً بكل شئ ويشهد له.
الدليل الثاني: هو [الاتزانات المنظومة].
اي ان وجود ميزان في منتهى الانتظام ومكيال في منتهى الاتزان في جميع المصنوعات التي في الكون جزئيها وكلّيها إبتداءً من السيارات الجارية في الفضاء الى الكريات الحمر والبيض السابحة في الدم. انما يدل بالبداهة على علم محيط بكل شئ ويشهد عليه شهادة قاطعة.
نعم اننا نشهد مثلاً ان اعضاء الانسان او الذباب واجهزته، بل حتى حجيرات جسمه وكريات دمه الحمر والبيض قد وضعت في موضعها الملائم المناسب والمنسجم، بميزان حساس جداً وبمكيال دقيق جداً ينسجم انسجاماً تاماً بعضه مع البعض الآخر ومع سائر اعضاء الجسم.. بحيث يدل دلالة قاطعة على ان من لايملك علماً محيطاً بكل شئ لايستطيع ان يعطى تلك الاوضاع الى تلك الاشياء ولايمكن له ذلك بحال من الاحوال.
وهكذا فان جميع ذوي الحياة وانواع المخلوقات من الذرات الى سيارات المنظومة الشمسية هي في موازنة تامة لاتتعثر قيد أنملة، ويحكمها جميعاً مكيال منظم، مما
الشعاع الخامس عشر - ص: 683
يدل دلالة قاطعة على علم محيط بكل شئ ويشهد شهادة صادقة عليه. بمعنى ان كل دليل من دلائل العلم دليل ايضاً على وجود العليم الخبير. اذ محال وجود صنعة بلا موصوف، فجميع حجج العلم الازلي حجة قوية ايضاً على وجوب وجوده سبحانه وتعالى.
الدليل الثالث: وهو [والحِكَم القصدية العامة]
اى ان حكماً مقصودة بعلم، تناط بكل مصنوع، وبكل طائفة فى الكون الذى تجرى فيه الخلاقية الدائمة والفعالية المستمرة والتبدل الدائم والاحياء المستمر والتوظيف والتسريح المستديمين، تلك التى لها من الفوائد والوظائف بحيث لايمكن اسنادها الى المصادفة قطعاً .فنشاهد انه من لايملك علماً محيطاً لايمكن ان يكون مالكاً لإي منها وفي أية جهة كانت من حيث الايجاد.
فمثلاً: اللسان جهاز واحد من مائة جهاز من اجهزة الانسان الذي هو واحد مما لايحد من الاحياء، هذا اللسان عبارة عن قطعة لحم ليس الاّ. ولكنه يكون وسيلة لمئات من الحكم والنتائج والثمرات والفوائد بادائه وظيفتين مهمتين:
فاداؤه لوظيفة تذوق الاطعمة: هو ابلاغه الجسم والمعدة بعلم عن جميع اللذائذ المتنوعة لكل نوع من انواع الاطعمة، وكونه مفتشاً حاذقاً على مطابخ الرحمة الالهية..
واداؤه لوظيفة الكلمات: هو كونه مترجماً اميناً ومركزاً لبث ما يدور في القلب وما يراود الروح والدماغ من امور.. كل ذلك يدل دلالة في منتهى السطوع والقطعية على علم محيط لاشك فيه..
فلئن كان لسان واحد يدل دلالة الى هذا الحد بما فيه من حكم وثمرات، فان ألسنة غير متناهية وذوي حياة غير معدودين ومصنوعات لامنتهى لها تدل بلاشك دلالة اوضح من الشمس وتشهد شهادة أبين من النهار على علم لانهاية له. وتعلن جميعها انه لاشئ خارج عن دائرة علم الغيب ولاخارج عن مشيئته جل وعلا.
الدليل الرابع: هو:[والعنايات المخصوصة الشاملة]
اي ان انواع العناية والشفقة والرعاية الخاصة المناسبة لكل نوع بل لكل فرد والشاملة جميع ما في عالم الاحياء وذوي الشعور تدل دلالة بديهية على علم
الشعاع الخامس عشر - ص: 684
محيط. وتشهد شهادات لاحدّ لها على وجوب وجود عليم ذي عناية يعلم اولئك الذين نالوا تلك العنايات ويعلم حاجاتهم.
"تنبيه": ان ايضاح كلمات الفقرة العربية التي هي زبدة خلاصة الخلاصة لرسائل النور المترشحة من القرآن الكريم هو إشارة الى ما استفاضته رسائل النور من الحقائق المنبعثة من لمعات آيات القرآن الكريم ولاسيما الدلائل والحجج التي تخص "العلم" و"الارادة" و"القدرة" بحيث تفسّر باهتمام بالغ ما تشير اليه هذه الكلمات العربية من دلائل علمية. بمعنى ان كلاً منها عبارة عن بيان لنكتة واشارة لآيات قرآنية كريمة.والاّ فهى ليست تفسيراً لتلك الكلمات العربية وبيانها وترجمتها.."
نرجع الى الموضوع الذي نحن بصدده:
نعم اننا نشاهد بابصارنا ان عليماً رحيماً يعرفنا ويعلم بحالنا واحوال جميع ذوي الارواح فيشملهم جميعاً بشفقته وحمايته ويأخذهم تحت كنف رحمته عن معرفة وبصيرة، ويوفي حاجات كل منهم ومطاليبه فيغيثه بعنايته ورأفته.
نورد مثالاً واحداً من بين امثلته غير المحدودة: فالعنايات الخاصة والعامة والواردة من حيث رزق الانسان وما يحتاجه من ادوية ومعادن تبين بياناً جليّاً علماً محيطاً وتشهد على الرحمن الرحيم بعدد الارزاق والادوية والمعادن.
نعم، ان اعاشة الانسان ولاسيما العاجزين والصغار الضعاف،وبخاصة ايصال الرزق الى اعضاء الجسم المحتاجة اليه من مطبخ المعدة، حتى الى حجيراته، كل بما يناسبه.. وكذا جعل الجبال الشوامخ مخازن للمعادن ومداخر ادوية يحتاجها الانسان وامثالها من الافعال الحكيمة، لايمكن ان تحصل الاّ بعلم محيط بكل شئ. فالمصادفة العشواء والقوة العمياء والطبيعة الصماء والاسباب الجامدة الفاقدة للشعور والعناصر البسيطة المستولية، لايمكن ان تتدخل قطعاً في مثل هذه الاعاشة والادارة والحماية والتدبير المتسمة بالعلم والبصر والحكمة والرحمة والعناية. فليست تلك
الشعاع الخامس عشر - ص: 685
الاسباب الظاهرية الاّ ستاراً لعزة القدرة الالهية بأمر العليم المطلق وباذنه وضمن دائرة علمه وحكمته.
الدليل الخامس والسادس: وهما: [والاقضية المنتظمة والاقدار المثمرة]
اي ان اشكال كل شئ ولاسيما اشكال النباتات والاشجار والحيوانات والانسان ومقاديرها قد فصلت تفصيلاً متقناً بدساتير نوعي العلم الازلي وهما القضاء والقدر وخيطت بما يلائم قامة كل منها ملاءمة تامة وأسبغت على كل منها فاعطيت لها شكلاً منتظماً في غاية الحكمة. فكل شئ من هذه الاشياء وجميعها معاً تدل على علم لانهاية له وتشهد بعددها على صانع عليم.
لنأخذ من امثلتها غير المحدودة مثالاً واحداً: شجرة واحدة، او انسان فرد، فنشاهد ان هذه الشجرة المثمرة وهذا الانسان الحامل لاجهزة كثيرة قد رسمت حدود ظاهره وباطنه بفرجال غيبي وقلم علم دقيق، اذ اعطي بانتظام تام لكل عضو من اعضائه ما يناسبه من صورة لتثمر ثمراتها وتنتج نتائجها وتؤدي وظائف فطرتها. ولما كان هذا لا يحدث الاّ بعلم لانهاية له، يحتاج الى علم غير محدود لصانع مصوّر وعليم مقدّر يعلم العلاقة بين الاشياء كلها ويحسب ارتباط كل شئ بالاشياء كلها ويعلم جميع امثال هذه الشجرة وهذا الانسان، وجميع انواعهما ويقدّر بفرجال وقلم قضائه وقدر علمه الازلي مقادير خارجه وباطنه ويصوّر صورته تقديراً حكيماً، وعلى بصيرة وعلم. اي ان الدلائل والشهادات على وجوب وجوده سبحانه وعلى علمه المطلق هي بعدد النباتات والحيوانات.
الدليل السابع والثامن: وهما: [والآجال المعينة والارزاق المقننة].
ان الآجال والارزاق اللذين يبدوان بظاهر الأمر كأنهما مبهمان وغير معيّنان، الاّ انهما في الواقع مقدّران تحت ستار إبهام في دفتر القضاء والقدر الازلي، وفي صحيفة المقدّرات الحياتية. فالأجل المحتوم لكل ذي حياة مقدر ومعين لا يتقدم ساعة ولا يتأخر، ورزق كل ذي روح قد عين وخصص، ومكتوب كل ذلك في لوح القضاء والقدر.
الشعاع الخامس عشر - ص: 686
وهناك ما لا يحد من الادلة على هذا الحكم، منها:
ان موت شجرة ضخمة وتوريثها بذيراتها التي هي بمثابة نوع من روحها،للقيام بمهامها التي كانت تؤديها، لا يتم الاّ بقانون حكيم لعليم حفيظ. وان ما يتدفق من الاثداء من لبن خالص رزقاً للصغير، وخروجه من بين فرثٍ ودمٍ دون اختلاط او امتزاج، صافياً طاهراً، وسيلانه الى فمه، ليردّ رداً قوياً احتمال وقوعه بالمصادفة، ويبين تحققه في غاية القطعية انه من جراء دستور ذي شفقة موضوعة من لدن رزاق عليم رحيم. وقس سائر ذوي الحياة وذوي الارواح على هذين النموذجين الجزئيين.
ففي حقيقة الامر ان الاجل معين مقدر، والرزق كذلك، وقد ادرجا في سجل المقدّرات وجعل كل منهما معيناً. ولكنهما يبدوان ـ في الظاهر ـ متواريين خلف الغيب، ومتعلقين في خيوط الابهام غير المرئية، ويظهران كأنهما غير معينين فعلاً، وكأنهما مشدودان الى المصادقة...كل ذلك لاجل حكمة دقيقة وفي غاية الأهمية.!
اذ لو كان الاجل معيناً كغروب الشمس لكان الانسان يقضي شطر عمره في غفلة مطبقة، ويضيّعه، عازفاً عن السعي للآخرة، ثم يتورط في الشطر الآخر بخضم المخاوف المذهلة، ويكون كمن يخطو خطوة كل يوم نحو اعواد المشانق، ولكانت المصيبة المندرجة في الاجل تتضاعف بالمئات!.ولاجل هذا السر الدقيق أبقيت المصائب - التي تعاود الانسان عادةً - تحت ستار الغيب. بل حتى ان أجل الدنيا الذي هو القيامة قد أخفاه سبحانه - رحمةً منه ورأفةً - خلف حجاب الغيب للسبب نفسه.
اما الرزق، فلكونه أعظم خزينة تفيض بالنعم بعد نعمة الحياة.. واغنى منبع يفعم بالشكر والحمد..وأجمع كنز للعبودية والدعاء وضروب الرجاء، فقد عرض في صورته الظاهرة كأنه مبهمٌ ومشدود الى المصادفة؛ وذلك لئلا يوصد باب طلب الرزق بالدعاء من الرزاق الكريم في كل حين، ولئلا ينغلق باب الالتجاء والتوسل المشفعة بالحمد والشكر لله تعالى، اذ لو كان الرزق معيناً كشروق الشمس وغروبها، لكانت ماهيتُه متغيرة كلياً، ولكانت أبواب الرجاء ومنافذ التضرع ومعارج الدعاء الملفّعة كلها بالشكر الجميل والرضى الحسن قد أنسدت عن آخرها، بل لكانت ابواب العبودية الخاشعة الضارعة قد انغلقت نهائياً.
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-06-2011
  #7
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الشعاعات - الشعاع الخامس عشر


الشعاع الخامس عشر - ص: 687
الدليل التاسع والعاشر: وهما: [والاتقانات المفننة والاهتمامات المزينة].
اي: ان كل مصنوع من جميع المخلوقات الجميلة المبثوثة على سطح الارض كافة ولاسيما في موسم الربيع يبين تجليات حسن سرمد وجمال خالد. فخذ مثلاً: الازاهير والثمرات والطويرات والحشرات ولاسيما المذهبة اللماعة، ففي خلقها وفي صورتها وفي اجهزتها من المهارة المعجزة والصنعة الدقيقة الخارقة والاتقان البديع والكمال المعجز لصانعها الجليل، في اشكال متنوعة وانماط مختلفة ومكائن دقيقة ما يدل دلالة قاطعة على علم محيط بكل شئ وملكة علمية ذات مهارات وفنون - ان جاز التعبير - وتشهد شهادات صادقة على ان مداخلة المصادفة والاسباب المتشاكسة الفاقدة للشعور، محال في محال.
وان عبارة "والاهتمامات المزينة" تفيد: ان في تلك المصنوعات الجميلة تزييناً لطيفاً حلواً وزينة فاخرة رائعة وجمال صنعة جاذب فيفعل ما يفعل بعلم لا نهاية له، ويعلم اجمل حالة وألطف وضع لكل شئ، ويريد اظهار جمال كمال الابداع وكمال جماله الى ذوي الشعور بحيث يخلق اصغر زهيرة جزئية واصغر حشرة ويصورها باهتمام بالغ وبمهارة فائقة وباتقان بديع.
فهذا التزيين والتجميل المتسم بالاهتمام والرعاية يدل بالبداهة على علم محيط بكل شئ ويشهد على وجوب وجود الصانع العليم ذي الجمال بعدد تلك المخلوقات الجميلة..
الدليل الحادي عشر المتضمن لخمسة ادلة وخمس حجج:
[وغاية كمال الانتظام، الاتزان، الامتياز، المطلقات، في السهولة المطلقة..
وخلق الاشياء في الكثرة المطلقة مع الاتقان المطلق..
وفي السرعة المطلقة مع الاتزان المطلق..
وفي الوسعة المطلقة مع كمال حسن الصنعة..
وفي البعدة المطلقة مع الاتفاق المطلق..
وفي الخلطة المطلقة مع الامتياز المطلق..]
الشعاع الخامس عشر - ص: 688
هذا الدليل هو صياغة اخرى للدليل المذكور في ختام الفقرة العربية السابقة واجمل منها، وهو بيان للدلائل الخمسة والستة الواسعة، نشير اليه باشارة في منتهى الاختصار والقصر بسبب المرض الشديد.
اولاً: نشاهد على الارض كافة ان صنع مكائن ذات حياة عجيبة، بكل سهولة ويسر دفعةً، نابعين من علم كامل ومهارة تامة، بل صنع قسم منها في دقيقة واحدة، وبشكل منسق موزون، مع فوارق عن مثيلاتها، يدل دلالة تامة على علم لا نهاية له، وعلى كمال ذلك العلم بدرجة السهولة واليسر الناشئين من المهارة العلمية في الصنعة.
ثانياً: ان خلق المخلوقات في غمرة الكثرة غير المتناهية والوفرة التي لاتحدها حدود بإتقان وبلا خطأ ولاحيرة يدل على علم لا حد له ضمن قدرة غير متناهية، ويشهد شهادات لاحدّ لها على العليم المطلق والقدير المطلق.
ثالثاً: ان خلق المخلوقات التي هي في غاية الميزان والمكيال في منتهى السرعة، يدل على علم لاحدود له، ويشهد بعدد تلك المخلوقات على العليم المطلق والقدير المطلق.
رابعاً: ان خلق ذوي حياة لا يحصرها العد في وسعة مطلقة تسع الارض كلها، في اتم اتقان في الصنعة وفي اجمل زينة، وكمال حسن الصنعة، يدل على علم محيط بكل شئ لايضلّ ولاينسى ويرى الاشياء كلها دفعة واحدة ولا يمنعه شئ عن شئ ويشهد كل موجود وجميعها معاً على انه مصنوع عليم بكل شئ وقدير على كل شئ.
خامساً: ان خلق افراد الانواع التي تفصل بينها مسافات هائلة، فأحدها في الشرق وآخر في الغرب وآخرفي الشمال وآخر في الجنوب، في وقت واحد، وعلى طراز واحد متشابهاً متماثلاً مع تميّز كل منها عن الاخر في التشخص، لايمكن ان يكون الاّ بقدرة قدير مطلق القدرة يدير الكون باسره بقدرته وبعلم مطلق يحيط بالموجودات مع احوالها. لذا فهذه المخلوقات تشهد شهادات لاحدود لها علِى علم محيط بكل شئ وعلى علاّم الغيوب.
الشعاع الخامس عشر - ص: 689
سادساً: ان خلق مكائن كثيرة ذات حياة في تميّز خاص تام وعلامات فارقة عن مثيلاتها، مع انها ضمن ازدحام شديد وفي اماكن مظلمة - كالنوى الموجودة تحت التراب - ومن دون التباس ولاخطأ ولاحيرة رغم انها في اختلاط مطلق، وخلق جميع اجهزة كل منها بلانقصان خلقاً معجزاً، يدل دلالة واضحة كالشمس على علم ازلي ويشهد شهادة بينة كالنهار على ربوبية وخلاقية قدير مطلق وعليم مطلق.
نختصر هذا البحث الطويل جداً محيلين تفاصيله الى رسائل النور. ونبدأ الآن بمسألة "الارادة" الموجودة في خلاصة الخلاصة.
[الله اكبر من كل شئ قدرة وعلماً اذ هو المريد لكل شئ، ما شاء الله كان ومالم يشأ لم يكن؛ اذ تنظيم ايجاد المصنوعات ذاتاً وصفاتٍ وماهيّةً وهوّية من بين الامكانات الغير المحدودة والطرق العقيمة والاحتمالات المشوشة والامثال المتشابهة ومن بين سيول العناصر المتشاكسة بهذا النظام الادق الارق وتوزينها بهذا الميزان الحسّاس الجسّاس وتمييزها بهذه الامثال المتشابهة والتعيّنات المزينة المنتظمة وخلق المخلوقات المنتظمات الحيوية من البسيط الجامد الميت كالانسان بجهازاته من النطفة والطير بجوارحه من البيضة والشجرة باعضائها من النواة والحبة تدل على ان كل شئ بارادته تعالى واختياره وقصده ومشيئته سبحانه كما ان توافق الاشياء في اساسات الاعضاء النوعية والجنسية يدل على ان صانع تلك الافراد واحد احد كذلك ان تمايزها بالتعينات المنتظمة والتشخصات المتمايزة يدل على ان ذلك الصانع الواحد الاحد فاعل مختار يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد].
هذه الفقرة دليل واحد طويل وكلي من أدلة "الارادة الالهية" تتضمن حججاً كلية كثيرة جداً، نبين ضمن ترجمة فحواها ترجمة مختصرة، دليلاً يثبت اثباتاً قاطعاً الارادة الالهية وإختيارها ومشيئتها، فضلاً عن ان جميع دلائل "العلم الالهي" المذكورة سابقاً هي بذاتها دليل على الارادة الالهية ايضاً،لأن جلوات "العلم والارادة الالهية" واثارهما تشاهدان معاً في كل مصنوع.
الشعاع الخامس عشر - ص: 690
ان خلاصة الفحوى لهذه الفقرة العربية هي:
ان كل شئ يحصل بارادته ومشيئته سبحانه، فما شاء كان ومالم يشأ لم يكن، يفعل ما يشاء، ولاشئ مالم يشأ. وحجة واحدة من حججها هي:
اننا نشاهد ان كل مصنوع من هذه المصنوعات متميز بذاتٍ معينة وصفات مخصصة وماهية خاصة به، وصورة ذات علامات فارقة متميزة. وبينما يمكن ان يكون كل هذه الاحوال ضمن امكانات واحتمالات مشوشة لاحد لها، ويجري في طرقٍ عقيمة كثيرة خلال مداخلة سيول العناصر وضمن امثاله المتشابهة الداعية على السهو والالتباس، فان خلقه - ازاء هذه الحالات المضطربة المختلطة - ضمن نظام دقيق موزون ومنسق، وأخذ كل عضو من اعضائه واجهزته وفق ميزان حساس جساس كامل، وتمكين كلٍ منها في موضعه المناسب، وتقليده بوظائف، ومنح وجهه سيماء شخصياً مزيناً جميلاً، وخلق اعضائه المتخالفة المتباينة من مادة بسيطة جامدة ميتة، حيّة متقنة الصنعة؛ كخلق الانسان الحامل لمئات الاجهزة المتنوعة المتباينة في صور معجزة من قطرة ماء. وخلق الطير باجهزة وجوارح مختلفة متنوعة من بيضة بسيطة، وانشاء الشجرة باغصانها الملتفة واعضائها المتشابكة واجزائها المتغايرة من بذيرة صغيرة مركبة من اشياء بسيطة جامدة هي الكاربون والازوت ومولد الحموضة ومولد الماء (الاوكسجين والهيدروجين)، واضفاء شكل منظم ومثمر عليها..يثبت بلاشك وبالبداهة وبقطعية لاريب فيها بل بدرجة الوجوب والضرورة واللزوم ان كل مصنوع من هذه المصنوعات يعطى له ذلك الوضع الخاص الكامل لجميع ذراته واجهزته وصورته وماهيته، بارادة قدير مطلق القدرة وبمشيئته واختياره وقصده جل وعلا. وان ذلك المصنوع خاضع لحكم ارادة شاملة كل شئ.
هذا وان دلالة هذا المصنوع الواحد بما لاشك فيه على "الارادة الالهية" تبين ان جميع المصنوعات تشهد شهادة صادقة بليغة لا نهاية لها وبعدد افرادها بقطعية ظاهرة كالشمس والنهار على "الارادة الالهية" الشاملة كل شئ. وانها حجج قاطعة لاحد لها على وجوب وجود قدير مريد.
الشعاع الخامس عشر - ص: 691
ثم ان جميع دلائل "العلم" المذكورة سابقاً هي دلائل "الارادة الالهية" ايضاً، اذ كلاهما يعملان مع "القدرة الالهية" فلاينفك احدهما عن الآخر. فكما ان توافق الاعضاء النوعية والجنسية لافراد كل جنس ونوع يدل على ان صانعها واحد احد كذلك الاختلافات في ملامح وجوهها اختلافاً ذات حكمة تدل دلالة قاطعة على ان ذلك الصانع الواحد الاحد، فاعل مختار، يخلق كل شئ بالارادة والاختيار والمشيئة والقصد.
وهكذا فقد انتهى بيان الترجمة المختصرة للفقرة العربية المذكورة، الدالة دلالة كلية فريدة على "الارادة الالهية".
كنت قد عزمت على كتابة نكات مهمة جداً تخص "الارادة الالهية" كما هي في مسألة "العلم الالهي"، الاّ ان المرض الناشئ من التسمم قد ألحق ارهاقاً بدماغي، فأؤجلها الى وقت آخر بمشيئة الله.
اما الفقرة التي تخص القدرة الالهية فهي:
[الله اكبر من كل شئ قدرة وعلماً اذ هو القدير على كل شئ بقدرة مطلقة محيطة ضرورية ناشئة لازمة ذاتية للذات الاقدسية فمحال تداخل ضدها فلا مراتب فيها فتتساوى بالنسبة اليها الذرات والنجوم والجزء والكل والجزئي والكلي والنواة والشجر والعالم والانسان.. بسر مشاهدة غاية كمال الانتظام، الاتزان، الامتياز، الاتقان المطلقات.. مع السهولة في الكثرة والسرعة والخلطة المطلقة.. وبسر النورانية والشفافية والمقابلة والموازنة والانتظام والامتثال.. وبسر امداد الواحدية ويُسر الوحدة وتجلي الاحدية. وبسر الوجوب والتجرد ومباينة الماهية.. وبسر عدم التقيد وعدم التحيز وعدم التجزي.. وبسر انقلاب العوائق والموانع الى حكم الوسائل المسهلات.. وبسر ان الذرة والجزء والجزئي والنواة والانسان ليست بأقل صنعة وجزالة من النجم والكل والكلي والشجر والعالم، فخالقها هو خالق هذه بالحدس الشهودي.. وبسر ان المحاط والجزئيات كالامثلة المكتوبة المصغرة او كالنقط المحلوبة المعصّرة. فلابدّ ان يكون المحيط والكليات في قبضة خالق المحاط والجزئيات ليدرج مثالَها فيها بموازين علمه او يعصّرها منها بدساتير حكمته..
الشعاع الخامس عشر - ص: 692
وبسر كما ان قرآن العزّة المكتوب على الذرة المسماة بالجوهر الفرد بذرات الاثير ليس باقل جزالة وخارقية صنعةٍ من قرآن العظمة المكتوب على صحيفة السماء بمداد النجوم والشموس، كذلك ان ورد الزهرة ليست بأقل جزالة وصنعة من درّي نجم الزُهرة ولا النملة من الفيلة ولا المكروب من الكركدن ولا النحلة من النخلة بالنسبة الى قدرة خالق الكائنات.فكما ان غاية كمال السرعة والسهولة في ايجاد الاشياء اوقعت اهل الضلالة في التباس التشكيل بالتشكل المستلزم لمحالات غير محدودة تمجّها الاوهام. كذلك اثبتت لاهل الهداية تساوي النجوم مع الذرات بالنسبة الى قدرة خالق الكائنات.جلّ جلاله لا إله إلاّ هو الله اكبر].
قبل الشروع ببيان فحوى مختصر لهذه الفقرة العربية العظيمة التي تخص "القدرة الالهية" والذي هو من قبيل ترجمتها ومضمونها، نبين حقيقة اُخطرت الى القلب وهي:
ان وجود القدرة الالهية اكثر قطعية من وجود الكون، بل ان جميع المخلوقات وكل مخلوق بالذات، كلمات مجسمة لتلك القدرة، تبينها وتظهرها بعين اليقين وهي شهادات بعددها على موصوفها القدير المطلق. فلاداعي اذن الى اثبات تلك القدرة بالحجج والبراهين بل يلزم اثبات حقيقة جليلة تخص القدرة والتي هي اساس مهم في الايمان والحجر الاساس الرصين للحشر والنشور والمدار اللازم لمسائل ايمانية كثيرة وحقائق قرآنية جليلة والدعوى التي تعلنها الآية الكريمة (ما خلقكم ولابعثكم الاّ كنفس واحدة) (لقمان:28) والتي اعيت العقول دونها وظلت في حيرة وعجز، بل ضل قسم منها..
فذلك الاساس وذلك الحجر الزاوية وذلك المدار وتلك الدعوى وتلك الحقيقة هي معنى الآية الكريمة المذكورة.
اي: ايها الجن والانس ان خلقكم جميعاً وبعثكم يوم الحشر يسير على قدرتي يسر ايجاد نفس واحدة، فهو الذي يخلق الربيع بمثل خلقه زهرة واحدة في سهولة ويسر. فلا فرق بالنسبة لتلك القدرة بين الجزئي والكلي والصغير والكبير والقليل والكثير. فهي تجري السيارات بسهولة جريها للذرات.
الشعاع الخامس عشر - ص: 693
فتلك الفقرة العربية المذكورة تبين هذه المسألة الجليلة بحجة قوية قاطعة في تسع مراتب.
ان الفقرة الآتية تشير الى اساس المراتب وتلخص باختصار شديد الفقرة العربية:
[اذ هو القدير على كل شئ بقدرة مطلقة محيطة ضرورية ناشئة لازمة ذاتية للذات الاقدسية فمحال تداخل ضدها فلا مراتب فيها فتتساوى بالنسبة اليها الذرات والنجوم والجزء والكل والجزئي والكلي والنواة والشجر والعالم والانسان].
اي: هو القدير على كل شئ بقدرة محيطة بكل شئ، ولازمة بلزوم ذاتي وواجبة ضرورية ناشئة - كما في علم المنطق - للواجب الوجود، محال انفكاكها ولا يمكن ذلك قطعاً.
فما دامت مثل هذه القدرة لازمة بمثل هذا اللزوم للذات الاقدس، فلاشك ان العجز الذي هو ضد القدرة لايدخلها بأية جهة كانت، فلا يكون عارضاً للذات الاقدس وحيث ان وجود المراتب في شئ، هو بتداخل ضده فيه - فمثلاً: مراتب الحرارة ودرجاتها هي بدخول البرودة، ودرجات الجمال هي بمداخلة القبح - فمحال دنو العجز الذي هو ضده من هذه القدرة الذاتية، فلابد ان لا مراتب في تلك القدرة المطلقة. وحيث لامراتب فيها، تتساوى النجوم والذرات ازاءها، ولافرق بين الجزء والكل والفرد الواحد وجميع نوعه والانسان والكون بالنسبة لتلك القدرة، واحياء نواة واحدة والشجرة الباسقة ونفس واحدة وجميع ذوى الارواح في الحشر سواء إزاء تلك القدرة ويسير عليها. فلا فرق لديها بين الكبير والصغير والقليل والكثير. والشاهد الصادق القاطع على هذه الحقيقة هو ما نشاهده في خلق الاشياء من كمال الصنعة والنظام والميزان والتميز والكثرة في السرعة المطلقة مع السهولة المطلقة واليسر التام. فهذه الحقيقة المذكورة هي مضمون المرتبة الاولى التي هي:
[وبسر مشاهدة غاية كمال الانتظام الاتزان الامتياز الاتقان المطلقات مع السهولة المطلقة في الكثرة والسرعة والخلطة]
الشعاع الخامس عشر - ص: 694
المرتبة الثانية: وهي: [وبسر النورانية والشفافية والمقابلة والموازنة والانتظام والامتثال]
نحيل ايضاح هذه المرتبة وتفاصيلها الى ختام "الكلمة العاشرة" والى "الكلمة التاسعة والعشرين" والى "المكتوب العشرين" ونشير اليها هنا اشارة مختصرة:
نعم، كما ان دخول ضوء الشمس وصورتها - من حيث النورانية - بالقدرة الربانية في سطح البحر وفي حبابه كلها يسير، كدخوله في قطعة زجاجية، كلاهما سواء.كذلك القدرة النورانية لمن هو نور الانوار، فان خلقها للسموات والنجوم وتسييرها يسيرعليها كخلق الذباب والذرات وتسييرها، فلا يصعب عليها شئ.
وكما توجد - بخاصية الشفافية - صورة الشمس المثالية في مرآة صغيرة وفي بؤبؤ العين بالقدرة الالهية، فبالسهولة نفسها يعطي ذلك الضوء وتلك الصور بالأمر الالهي الى جميع الاشياء اللماعة والى جميع القطرات وجميع الذرات الشفافة والى سطح البحار. كذلك فان جلوة القدرة المطلقة وتأثيرها في ايجاد نفس واحدة هو بالسهولة نفسها في خلقها الحيوانات كلها حيث ان وجه الملكوتية والماهية للموصنوعات شفاف ولماع. فلا فرق بالنسبة الى تلك القدرة بين القليل والكثير والصغير والكبير.
وكما اذا وضع جوزتان في كفتي ميزان حساس متقن يكيل الجبال، ثم وضعت نواة صغيرة في احدى الكفتين فانها ترفعها بسهولة الى قمة جبل وتخفض الاخرى الى حضيض الوادي.واذا ما وضع جبلان متساويان بدلاً عن الجوزتين، فان احد الجبلين يرتفع الى السموات وينخفض الاخر الى اعماق الوديان بالسهولة نفسها فيما اذا وضعت في احدى الكفتين نواة صغيرة.كذلك: "الامكان مساوي الطرفين" حسب تعبير علم الكلام، اي ان وجود الاشياء الممكنة والمحتملة - اي غير الواجبة والممتنعة - وعدمها سواء، لافرق بين وجودها وعدمها ان لم يوجد سبب.
ففي هذا الامكان والمساواة بين الوجود والعدم، يتساوى القليل والكثير، الصغير والكبير. وهكذا فالمخلوقات ممكنات، وحيث ان وجودها وعدمها سواء، ضمن دائرة الامكان، فان قدرة الواجب الوجود الازلية المطلقة كما تعطي الوجود لممكن واحد بسهولة ويسر، تلبس كل شئ وجوداً يلائمه مخلة للتوازن بين الوجود والعدم. وتنزع
الشعاع الخامس عشر - ص: 695
عنه لباس الوجود الظاهري ان كانت قد انتهت مهمته، وترسله الى العدم صورة وظاهراً، بل الى الوجود المعنوي في دائرة العلم.
بمعنى ان الاشياء ان اسندت الى القدير المطلق وفوّض امرها اليه سبحانه فان احياء الربيع يسهل كإحياء زهرة واحدة، واحياء الناس جميعاً في الحشر يسهل كإحياء نفس واحدة. بينما اذا اسند خلق الاشياء الى الاسباب فان خلق زهرة واحدة يصعب كصعوبة خلق الربيع كاملاً وخلق ذبابة واحدة كخلق الاحياء بأسرها.
وكذا كما ان سفينة عظيمة وطائرة ضخمة تتحرك بمجرد مس مفتاح فيهما، بسر الانتظام، بسهولة نصب الساعة وتشغيلها. كذلك فان اعطاء كل شئ كلي وجزئي، صغير وكبير قليل وكثير، قالباً معنوياً، ومقداراً خاصاً وحدوداً معينة، بدساتير العلم الازلي، وبقوانين الحكمة السرمدية وبالاصول المعينة والجلوات الكلية للارادة الالهية، يجعل الاشياء كلها ضمن الانتظام العلمي التام وقانون الارادة. فلاشك ان تحريك المنظومة الشمسية بقدرة القدير المطلق وجريها سفينة الارض في مدارها السنوي هي بسهولة جريها الدم وما فيه من كريات حمر وبيض وتدوير ذراتها، جرياً ودوراناً ضمن نظام وحكمة حتى انها تخلق انساناً مع اجهزته الخارقة من قطرة ماء ضمن نظام الكون دون تعب ولانصب.
بمعنى انه اذا اسند ايجاد الكون الى تلك القدرة الازلية المطلقة يكون الامر سهلاً كايجاد انسان واحد، وان لم يسند اليها فان خلق انسان واحد باجهزته العجيبة ومشاعره الدقيقة، يكون مشكلاً وعسيراً كخلق الكون كله.
وكذا كما ان قائداً واحداً بأمره جندياً واحداً بالهجوم يسوقه الى الهجوم، بسر الاطاعة والامتثال وتلقي الاوامر، فانه بالامر نفسه وبالسهولة نفسها يسوق جيشاً عظيماً مطيعاً ايضاً الى الهجوم.
كذلك المصنوعات التي كل منها في كمال الطاعة لقوانين الارادة الالهية لتلقي اشارات الامر الرباني التكويني، وكالجندي المتأهب وكالعبد المأمور في ميل فطري وشوق فطري ضمن دائرة دساتير خط السير الذي عيّنه العلم الازلي والحكمة الازلية، وهو اكثر طاعة وانقياداً للاوامر بألف مرة عن طاعة جنود الجيش، فهذه المصنوعات
الشعاع الخامس عشر - ص: 696
ولاسيما ذوي الحياة منها عندما يتلقى كل منها الامر الرباني: "اخرج من العدم الى الوجود وتقلّد وظيفة" تلبسه القدرة الالهية بسهولة مطلقة وجوداً خاصاً بالشكل الذي عينه العلم وبالصورة التي خصصتها الارادة وتأخذ بيده الى ميدان الوجود.
وكذلك بالسهولة نفسها وبالقوة والقدرة نفسيهما يخلق سبحانه جيش الاحياء في الربيع ويوكل اليه الوظائف.
بمعنى ان كل شئ اذا اسند الى تلك القدرة، فان ايجاد جيوش الذرات كلها وفرق النجوم كلها سهل كسهولة ايجاد ذرة واحدة ونجم واحد، بينما اذا اسند الى الاسباب فان خلق ذرة في بؤبؤ عين كائن حي وفي دماغه - بقابلية لتؤدي الوظائف العجيبة - يكون ذا مشكلات وصعوبة كخلق جميع الحيوانات.

المرتبة الثالثة: وهي: [وبسر امداد الواحدية ويُسر الوحدة وتجلي الاحدية]
سننظر الى مضمونها باشارات قصيرة جداً:
كما ان قائداً عظيماً وسلطاناً مهيباً تسهل ازاءه ادارة امور البلاد الواسعة والامة العظيمة كسهولة ادارة اهالى قرية واحدة، وذلك من حيث وحدة حاكميته وعمل رعيته وفق اوامره وحده. اذ من حيث الواحدية في حكمه تكون افراد الامة كافراد الجيش وسائل للتسهيلات، فتطبق الاوامر والقوانين بيسر وسهولة.
بينما اذا فوضت الامور الى حكام مختلفين، ففضلاً عن سقوطها في هاوية المشاكسات والاضطرابات فان ادارة قرية واحدة بل بيت واحد تكون ذات مشكلات كادارة تلك البلاد الواسعة.
ثم ان كل فرد من افراد تلك الامة المطيعة المرتبطة بقائد واحد، كالجندي يستند الى قوة ذلك القائد ويعتمد على مخازن اعتدته ويستمد من جيشه العظيم، لذا يستطيع ان يأسر ملكاً من الملوك، وينجز اعمالاً هي اضعاف اضعاف ما يؤديه من عمل شخصي. فيكون انتسابه الى ذلك السلطان قوة عظمى لامنتهى لها واقتداراً لاحدود له فيؤدى بها اعمالاً جسيمة جليلة، بينما اذا انقطع ذلك الانتساب، فان
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-06-2011
  #8
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الشعاعات - الشعاع الخامس عشر


الشعاع الخامس عشر - ص: 697
تلك القوة الهائلة تذهب ادراج الرياح، فلايمكن ان يؤدي من الاعمال الاّ بمقدار مافي ساعده من قوة جزئية، وما يحمله على ظهره من اعتدة قليلة وطلقات محدودة.ولو طلب من ذلك الجندي ما يؤديه الجندي المستند المذكور من اعمال للزم وجود قوة جيش كامل في ساعده ومداخر أعتدة السلطان على ظهره!.
كذلك الامر، فان سلطان الازل والابد، الصانع القدير، من حيث واحدية سلطنته وواحدية حاكميته المطلقة يدير الكون بسهولة ادارة مدينة واحدة ويخلق الربيع بسهولة خلق حديقة واحدة، ويحيي جميع الموتى في الحشر بسهولة خلق اوراق اشجار تلك الحديقة وازاهيرها وثمراتها في الربيع المقبل ويخلق الذباب بنظام نسر عظيم في سهولة ويسر، ويجعل انساناً في حكم كون عظيم بسهولة ويسر ايضاً.
بينما اذا اسند الامر الى الاسباب فان خلق جرثومة واحدة يكون صعباً بصعوبة خلق كركدن عظيم وخلق ثمرة من الثمرات بصعوبة خلق شجرة كاملة ذات مشكلات.. بل يلزم ان يُعطى كل ذرة من الذرات العاملة في وظائف عجيبة في حجيرات جسم الكائن الحي بصراً تبصر به كل شئ وعلماً تدرك به كل شئ، لتؤدي تلك الوظائف الحياتية الدقيقة المتقنة.
ثم ان اليسر والسهولة يبلغان في الوحدة بدرجة، بحيث تسهل ورود تجهيزات جيش كامل من يدٍ واحدة من مصنع واحد، كسهولة تجهيز جندي واحد بالمعدات العسكرية، واذا ما تدخلت ايدٍ مختلفة اخرى واُخذ كل جهاز من تلك الاجهزة المتنوعة من مصانع متباينة، فان تجهيز جندي واحد - من حيث الكمية - لايمكن إلاّ بألف مشكلة ومشكلة اذ تصعب الامور الى صعوبة تجهيز الف جندي حيث يتدخل امراء متعددون وضباط عديدون.
ثم ان ادارة الف جندي والآمرية عليهم اذا اسندت الى ضابط واحد، تسهل سهولة ادارة جندي واحد، من جهة، بينما اذا تركت الادارة الى عشرة ضباط او الى الجنود انفسهم، فيحدث كثير من الاختلاطات والفوضى والمشكلات.
الشعاع الخامس عشر - ص: 698
كذلك الامر اذا اسند كل شئ الى الواحد الاحد فانه يسهل كسهولة الشئ الواحد، بينما اذا اسند الى الاسباب فان امر كائن حي واحد يكون صعباً وعسيراً كالارض كلها، بل يكون غير ممكن قطعاً.
بمعنى ان في الوحدة سهولة بدرجة الوجوب واللزوم، وفي الكثرة ومداخلة الايدي تبلغ الصعوبة بدرجة عدم الامكان.
فكما ذكر في "المكتوبات" من كليات رسائل النور انه اذا فوض اختلاف الليل والنهار وحركات النجوم وتحولات الفصول السنوية كالخريف والشتاء والربيع والصيف الى مدبّر واحد وآمر واحد، فان ذلك الآمر الاعظم يأمر الارض التي هي جندي من جنوده ان: قومي، دوري، سيري وهي بدورها تنهض منجذبة بنشوة الامر وتتحرك كالعاشق المولوي حركتين يومية وسنوية وتصبح وسيلة سهلة جداً لتحولات المواسم وحركات النجوم الظاهرية والخيالية، مظهرة السهولة التامة واليسر المتناهي في الوحدة.
ولكن لو ترك الامر - لا الى ذلك الآمر الواحد - بل الى الاسباب والى هوى النجوم ورغباتها، وقيل للارض: قفي لاتجولي، فلربما يحصل وضع الارض في حصول المواسم والليل والنهار بقطع الوف النجوم والشموس التي هي اضخم من الارض بالوف المرات مسافات تبلغ ملايين السنين بل مليارات السنين في كل ليلة وفي كل سنة! اي يكون الامر صعباً ومشكلاً بدرجة المحال وغير الممكن.

المرتبة الثالثة: وهي كلمة "تجلي الاحدية" تشير الى حقيقة في منتهى السعة والعمق والدقة والعظمة، نحيل ايضاحها واثباتها الى رسائل النور مبينين نكتة من نكاتها ضمن تمثيل قصير جداً.
نعم، كما ان الشمس تنور الارض كلها بضيائها، وتصبح مثالاً للواحدية، فهي بوجود صورتها ومثالها بالوانها السبعة وصورتها الذاتية في كل ما يقابلها من شئ شفاف كالمرآة فيها تصبح مثالاً للاحدية.
الشعاع الخامس عشر - ص: 699
فلو كان للشمس علم وقدرة واختيار وكانت للقطع الزجاجية وقطرات الماء والحباب التي تنعكس فيها الشميسات قابليات، لكانت توجد شمس كاملة بقانون الارادة الالهية في كل منها وبجنب كل منها، توجد بصفاتها وبصورتها، من دون ان يعيق او ينقص وجودها في سائر الاماكن عن تصرفها شيئاً، فتكون سبباً لمظاهر كبيرة جداً بأمر القدرة الربانية وتأثيرها وحكمها، فتبين ما في الاحدية من سهولة فوق المعتاد.
كذلك الصانع الجليل فانه باعتبار الواحدية يرى الاشياء كلها وهو رقيب عليها بعلمه وبارادته وبقدرته المحيطة بكل شئ، كما انه من حيث الاحدية وبتجليها موجود جنب كل شئ ولاسيما ذوي الحياة، باسمائه وصفاته الجليلة، بحيث يخلق بسهولة تامة في آن واحد الذبابة في نظام النسر، والانسان في نظام الكون العظيم. فيخلق ذوي الحياة بمعجزات كثيرة وكثيرة بحيث لواجتمعت جميع الاسباب لخلق بلبل واحد اوذبابة واحدة لعجزت. فالذي يخلق بلبلاً هو خالق الطيور لاغيره والذي يخلق انساناً هو خالق الكون لاغيره.

المرتبة الرابعة والخامسة: هما.. [وبسر الوجوب والتجرد ومباينة الماهية، وبسر عدم التقيد وعدم التحيز وعدم التجزي]
ان نقل ما تفيده هاتان المرتبتان الى افهام عامة الناس عسير جداً، لذا نبين فحواهما باختصار مع ذكر بضع نكات قصيرة منهما.
اي: ان قديراً مطلقاً يملك وجوداً هو اقوى وامتن مراتب الوجود وهي مرتبة الوجوب الذي هو ازلي وابدي والمنّزه عن الماديات والمجرد عنها، ويحمل ماهية مقدسة مباينة لجميع الماهيات.. هذا القدير المطلق يسيرٌ ازاء قدرته ادارة النجوم كإدارة الذرات، والحشر الاعظم سهل عليها كالربيع، واحياء الناس جميعاً في الحشر هين عليها كإحياء نفس واحدة.
لان مقدار أنملة من نوع قوى من طبقات الوجود يمسك جبلاً ضخماً لطبقة خفيفة من طبقات الوجود ويديره. فمثلاً المرآة، والقوة الحافظة وهما وجودان خارجيان -
الشعاع الخامس عشر - ص: 700
وهو وجود قوي - يمكنهما ان تضما وتديرا مائة من الجبال والفاً من الكتب من الوجود المثالي والمعنوي الذي هو ضعيف وخفيف.. وهكذا، فكم هو أدنى من حيث القوة الوجود المثالى من وجود خارجي، فان انواع الوجود الحادثة والعارضة للممكنات ايضاً هي ادنى بالوف المرات وأخف من وجود واجب سرمدي ازلي، بحيث ان تجلياً من ذلك الوجود المقدس بمقدار ذرة يدير عالماً من الممكنات.
آسف فان اسباباً ثلاثة شبيهة بالمرض الناشئ من التسمم في الوقت الحاضر، لا تسمح لبيان هذه الحقيقة العظيمة بنكاتها. فاحيلها الى رسائل النور والى وقت آخر بمشيئة الله.

المرتبة السادسة: وهي: [وبسر انقلاب العوائق والموانع الى حكم الوسائل المسهلات].
اي كما انه بقانون من جلوات الارادة الالهية والامر التكويني - والذي تعبّر عنه العلوم الحديثة بالعقدة الحياتية - تسري المواد اللازمة والارزاق بتوجه تلك الارادة والامر من تلك العقدة الحياتية التي هي كمحرك ونابض لها الى ثمرات شجرة عظيمة فاقدة للشعور والى اوراقها وثمراتها، ولاتكون اغصانها المتشعبة ولاجذوعها القوية الصلدة عوائق وموانع دونها، بل تكون وسائل تيسير ووسائط تسهيل. كذلك في خلق الكون وايجاد المخلوقات كلها تدع جميع الموانع الإحجام والممانعة ازاء تجلٍ للارادة الالهية ولتوجه الامر الرباني، وتصبح وسيلة تسهيل وتيسير. فالقدرة السرمدية تخلق الكون ومخلوقات الارض قاطبة بسهولة خلقها تلك الشجرة، لايصعب عليها شئ. فلو لم تسند جميع الخلق الى تلك القدرة فان انشاء تلك الشجرة، الواحدة وادارتها تكون صعبة صعوبة ادارة جميع الاشجار، بل صعوبة خلق الارض وادارتها. لان كل شئ عندئذٍ يكون مانعاً وحائلاً. ولو اجتمعت الاسباب جميعها في هذه الحالة لاتستطيع ان ترسل الارزاق اللازمة من معدة عقدتها الحياتية ومن زمبركها الناشئة من الامر والارادة، وتوصيلها بانتظام الى ثمراتها واوراقها واغصانها. الاّ اذا اسند الى كل جزء من اجزاء الشجرة بل حتى الى كل ذرة من ذراتها بصراً يبصر كل
الشعاع الخامس عشر - ص: 701
الشجرة وكل جزء منها وكل ذرة من ذراتها، وعلماً محيطاً بكل شئ وقدرة قادرة على كل شئ.
وهكذا اصعد، هذه المراتب الخمس وانظر كم في الشرك والكفر من مشكلات ومحالات. واعلم مدى امتناعهما وبعدهما عن معايير العقل والمنطق، ومدى السهولة في طريق الايمان والقرآن بل مدى ما فيها من حق وحقيقة مستساغة بدرجة الوجوب. ومدى معقوليتها وقطعيتها وسهولتها ومقبوليتها بدرجة اللزوم. شاهد هذه الحقيقة وقل: الحمد لله على نعمة الايمان.
(لقد سببت الضغوط والمضايقات تأجيل القسم الباقي من هذه المرتبة العظيمة الى وقت آخر بمشيئة الله).

المرتبة السابعة: وهي: [وبسّر ان الذرة والجزء والجزئي والنواة والانسان ليست بأقل صنعة وجزالة من النجم والكل والكلي والشجر والعالم]

تنبيه
ان اسس حقائق هذه المراتب التسع وكنزها وشمسها هي آيتي سورة الاخلاص: (قل هو الله احد_ الله الصمد) فهي اشارات قصيرة الى لمعات من تجليات سر الاحدية والصمدية.
نلقي نظرة الى فحوى هذه المرتبة السابعة بنكتة او نكتتين محيلين تفاصيلها الى رسائل النور.
وهي تعني ان الذرة التي تؤدي وظائف عجيبة في العين والدماغ ليست بأقل صنعة وابداعاً من النجم، وليس الجزء بأقل جزالة من مجموعه الكل. فمثلاً: ليس الدماغ والعين بأقل اتقاناً وابداعاً، من الانسان. ولا الفرد الجزئي بأقل ابداعاً من النوع عامة، من حيث جمال الاتقان والغرابة في الخلق. ولا الانسان باقل صنعة من جنس
الشعاع الخامس عشر - ص: 702
الحيوان الكلي، من حيث اجهزته العجيبة. ولا البذرة التي هي بمثابة فهرس وبرنامج وقوة حافظة بأقل اتقاناً من شجرتها الباسقة، من حيث كمال الصنع والخزن. ولا الانسان الذي هو كون صغير بأقل ابداعاً من الكون العظيم، من حيث انه في احسن تقويم ويملك اجهزة خارقة جامعة مهيأة للقيام بالوف الوظائف العجيبة.
فالذي يخلق الذرة اذاً لايعجز عن خلق النجم، والذي يخلق اللسان - وهو عضو في الانسان - يخلق الانسان بسهولة ويسر بلاشك. والذي يخلق الانسان في احسن تقويم لاشك انه قادر على خلق الحيوانات كلها بسهولة كاملة، مثلما يخلقها امام أنظارنا. والذي يخلق النواة بماهية فهرس وقائمة مفردات، ودفتر قوانين أمرية، وعقدة حياتية، لاشك هو الذي يكون خالق جميع الاشجار. والذي جعل الانسان اشبه ببذرة معنوية للعالم وثمرة جامعة له ومظهراً لجميع اسمائه الالهية ومرآة لها ومرتبطاً بالكائنات كلها وخليفة للارض، لاشك انه يملك قدرة قادرة على خلق الكون كله وتنسيقه بسهولة خلق الانسان. ولهذا فمن كان خالقاً وصانعاً ورباً للذرة والجزء والجزئي والنواة والانسان فبالبداهة ولاشك انه هوخالق النجوم والانواع والكل والكليات والاشجار وجميع الكائنات وصانعها وربها بالذات، فمحال ان يكون غيره وممتنع قطعاً.

المرتبة الثامنة: [وبسرّ ان المحاط والجزئيات كالامثلة المكتوبة المصغرة او كالنقط المحلوبة المعصرة فلابد ان يكون المحيط والكليات في قبضة خالق المحاط والجزئيات ليدرج مثالها فيها بموازين علمه اويعصرها منها بدساتير حكمته].
اي ان نسبة الجزئيات المحاطة والافراد والنوى والبذور التي تتضمنها الكل والكليات الى الكليّات الكبيرة المحيطة، شبيهة بنماذج مصغرة وامثلة مكتوب فيها ما كتب تماماً في الكل والكليات كتابةً دقيقة تناسب تلك القطع الصغيرة.ولهذا فالكليات المحيطة هي في قبضة خالق تلك الجزئيات وتحت تصرفه بلاشك وذلك ليدرج كتاب ذلك المحيط الكبير بموازين علمه وباقلامه الدقيقة في مئات من القطع والدفاتر الصغيرة.
الشعاع الخامس عشر - ص: 703
ثم ان نسبة الاجزاء والجزئيات المحاطة الى الكليات المحيطة، ومثالهما شبيه بالقطرات المحلوبة او القطرات المعصرة من الكليات المحيطة. فمثلاً نواة البطيخ كأنها قطرة محلوبة من جميع انحاء البطيخ او هي نقطة كتب فيها كتاب البطيخ كاملاً حتى انها تحمل فهرسه وقائمة محتوياته وبرنامجه.
فما دام الامر هكذا، يلزم ان تكون تلك الجزئيات والقطرات والنقاط والافراد بيد صانع ذلك الكل المحيط وتلك الكليات المحيطة، ليعصر تلك الافراد والقطرات والنقط منها بدساتير حكمته الحساسة.
بمعنى ان خالق نواة واحدة وفرد واحد هو خالق ذلك الكل الكبير والكليات وخالق الكليات والاجناس التي تكبرها وتحيط بها ايضاً وليس غيره. ولهذا فخالق نفس واحدة يخلق جميع الناس، والذي يبعث انساناً ميتاً واحداً يبعث الجن والانس والاموات جميعاً في الحشر، وسيبعثهم.
وهكذا شاهد مدى أحقية دعوى (ما خلقكم ولابعثكم الاّ كنفس واحدة) (لقمان: 28) ومدى ثبوتها وقطعيتها، شاهدها باسطع واجلى صورتها.

المرتبة التاسعة:
[وبسرّ كما ان قرآن العزّة المكتوب على الذرة المسماة بالجوهر الفرد بذرات الاثير ليس باقل جزالة وخارقية صنعة من قرآن العظمة المكتوب على صحيفة السماء بمداد النجوم والشموس كذلك ان ورد الزهرة ليست بأقل جزالة وصنعة من درّىّ نجم الزُهرة ولا النملة من الفيلة ولا المكروب من الكركدن ولا النحلة من النخلة بالنسبة الى قدرة خالق الكائنات فكما ان غاية كمال السرعة والسهولة في ايجاد الاشياء اوقعت اهل الضلالة في التباس التشكيل بالتشكل المستلزم لمحالات غير محدودة تمجها الاوهام كذلك اثبتت لأهل الهداية تساوي النجوم مع الذرات بالنسبة الى قدرة خالق الكائنات جلّ جلاله ولا إله إلاّ هو الله اكبر].
الشعاع الخامس عشر - ص: 704
كنت اود ان ابين مضمون هذه المرتبة الاخيرة باسهاب ولكن مع الاسف حال دون ذلك العنت والضيق الناجم من التحكم الاعتباطي، والضعف الذي اعترى جسمي من التسمم فضلاً عن الامراض المؤلمة. لذا اضطررت الى الاكتفاء باشارات قصيرة جداً الى مضمونها.
وهي تعني: كما لو كتب قرآن عظيم في الذرة - التي تطلق عليها في علم الكلام والفلسفة الجوهر الفرد غير القابل للانقسام - بذرات الاثير التي هي اصغر منها، وكتب ايضاً قرآن عظيم آخر في صحائف السموات بالنجوم والشموس، ثم قورن بينهما، فلاشك ان القرآن المكتوب بالجوهر الفرد ليس بأقل جزالة واعجازاً وابداعاً من القرآن العظيم والكبير الذي جمّل وجه السموات، وربما هو اكثر منه جزالة من جهة. كذلك ان ورد الزهرة ليست بأقل جزالة وصنعة من درّيّ نجم الزُهرَة ولا النملة ادنى من الفيل بل المكروب اكثر ابداعاً من الكركدن خلقة والنحلة بفطرتها العجيبة اعجب من النخلة بالنسبة الى قدرة خالق الكائنات. بمعنى ان خالق النحلة يخلق جميع الحيوانات، والذي يبعث نفساً واحدة يجمع الناس على صعيد الحشر ويبعثهم جميعاً، وسيحشرهم حتماً. فلا يصعب على تلك القدرة شئ ، كما تشاهد مئات الوف النماذج من الحشر في كل ربيع امام اعيننا.
ومضمون الجملة العربية الاخيرة وفحواها المختصر هو:
ان اهل الضلالة لجهلهم بالحقائق الثابتة الراسخة للمراتب المذكورة، ولظهور الموجودات الى الوجود في منتهى السرعة والسهولة، فقد التبس عليهم تشكيلها وايجادها بقدرة صانع قدير مطلق القدرة، مع تشكّلها ووجودها بنفسها، فاتحين لانفسهم ابواب خرافات ومحالات غير محدودة تمجّها الاوهام والاذهان.اذ في تلك الحالة - مثلاً - يلزم اعطاء كل ذرة من ذرات كائن حي قدرة قادرة على صنع كل شئ وعلماً وبصراً يبصر كل شئ. اى انهم بعدم قبولهم لإله واحد أحد اضطروا الى قبول آلهة بعدد الذرات حسب مذهبهم، مستحقين الدخول الى اسفل سافلي جهنم.
الشعاع الخامس عشر - ص: 705
اما اهل الهداية فقد منحت الحقائق القوية للمراتب السابقة والحجج الرصينة الى قلوبهم السليمة وعقولهم الصائبة قناعة تامة قاطعة وايماناً قوياً وتصديقاً بعين اليقين، حتى اعتقدوا بلاريب ولاشبهة وبكل اطمئنان قلب انه لا فرق بين النجوم والذرات، واصغر شئ واكبره ازاء القدرة الالهية، حيث نشاهد امامنا هذه المخلوقات العجيبة. فكل صنعة عجيبة منها تصدق دعوى الآية الكريمة (ما خلقكم ولابعثكم الاّ كنفسٍ واحدة) . وتشهد ان حكمها هو عين الحق ومحض الحقيقة. وتقول بلسان الحال: الله اكبر، ونحن بدورنا نقول: الله اكبر بعدد المخلوقات مصدقين حكم هذه الآية الكريمة بكل قوتنا وقناعتنا ونشهد ان حكمها هو عين الحق والحقيقة نفسها بحجج لامنتهى لها.
(سبحانك لاعلم لنا الاّ ما علمتنا انك انت العليم الحكيم)
اللهمّ صلّ وسلم على من ارسلته رحمةً للعالمين
والحمد لله ربّ العالمين
* * *
الشعاع الخامس عشر - ص: 706
بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ
يا الله، يا رحمن، يا رحيم،
يا فرد، يا حي، يا قيوم، يا حكم، يا عدل. يا قدوس
بحق الاسم الاعظم وبحرمة القرآن المعجز البيان وبكرامة الرسول الاعظمص، ادخل الذين قاموا بطبع هذه المجموعة ومعاونيهم الميامين جنة الفردوس والسعادة الابدية.. آمين.
ووفّقهم في خدمة الايمان والقرآن دوماً وابداً.. آمين .
واكتب في صحيفة حسناتهم ألف حسنة لكل حرف من حروف كتاب "المكتوبات".. آمين.
وأحســن الـيهـم الــثبات والـدوام والاخـلاص فـي نشر "رسائل النور.". آمين
يا ارحم الراحمين! آت جميع طلاب النور في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة.. آمين .
واحفظهم من شر شياطين الجن والانس.. آمين.
واعف عن ذنوب هذا العبد العاجز الـضعيف سعيد.. آمين
بإسم جميع طلاب النور
سعيد النورسي
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الشعاعات - الشعاع الثاني عشر عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 1 04-06-2011 03:35 PM
الشعاعات - الشعاع التاسع عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 0 04-06-2011 03:15 PM
الشعاعات - الشعاع السابع عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 8 04-06-2011 03:13 PM
الشعاعات - الشعاع السادس عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 0 04-06-2011 02:55 PM
الشعاعات - الشعاع الخامس عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 0 04-06-2011 02:51 PM


الساعة الآن 01:47 PM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir