مقاما النبي أيوب الذي صبر على البلاء والصحابي سعد بن عبادة في قرية الشيخ سعد.. اكتشاف مسلة حجرية مصرية تؤرخ لفترة رمسيس الثاني عند دخولهم منطقة حوران.. مياه المغتسل لم تجف وهي غنية بالعناصر المعدنية اللازمة لعلاج أمراض الجلد والمفاصل والروماتيزم



أجمع علماء التفسير والتاريخ وغيرهم على أن مقام النبي أيوب عليه الصلاة والسلام الذي يُضرب المثل بصبره على المرض والبلاء الذي لبث به ثماني عشرة سنة، هو بأرض البثنية من أرض حوران، وبالتحديد في قرية الشيخ سعد في محافظة درعا.

وخلاف ذلك هو ادعاء لا يستند الى دليل تاريخي ثابت أو تفسير صحيح أو مصدر موثوق، حيث أخذت قرية الشيخ سعد اسمها الحالي نسبة الى الصحابي الجليل سعد بن عبادة الذي يوجد مقامه بشكل يلاصق مسجد القرية القديم من جهة الغرب.. وهناك من يعتقد من غير شك أن بشر بن النبي أيوب المسمى (ذو الكفل) هو أحد أبناء النبي أيوب المدفون الى جانب النبي أيوب. ‏

ورغم لما لهذه المقامات من أهميات دينية وأثرية تتحدث عن تاريخ المنطقة وماضيها المجيد وأهمية سياحية، حيث تشدّ إليها الرحال بقصد العبادة والدعاء وطلب المغفرة. إلا أن هذه المقامات المقدّسة يلفّها الإهمال وعدم الاهتمام الناتج عن عدم المعرفة والجهل بأهمية المنطقة، علماً أن الاستمرار بإهمال هذه المقامات يصبّ في خدمة المزوّرين لحقائق التاريخ الذين يحاولون طمس تاريخنا المجيد والنيل من حضارتنا وقطع جذورها الثابتة والأصيلة وختم عقول الأجيال القادمة في عدم اطلاعهم على ماضي منطقتهم والاعتزاز بانتمائهم.




صبر أيوب ‏

كان النبي أيوب عليه الصلاة والسلام عبداً صالحاً كثير المال من سائر صنوفه وأنواعه من الأنعام والعبيد والمواشي والأراضي المتسعة بأرض حوران وكان له أولاد كثيرون وأهلون كثر، فسلب من ذلك جميعه وابتلي في جسده بأنواع البلاء ولم يبق منه عضو سليم سوى قلبه ولسانه يذكر الله عزّ وجل بهما، وهو في ذلك كلّه صابر محتسب ذاكر الله في كل الأوقات. وطال مرضه حتى عافه الجليس وأوحش منه الأنيس، وأخرج من بلده، وألقي على مزبلة خارجها، وانقطع عنه الناس ولم يبق أحد يحنو عليه سوى زوجته، كانت ترعى له حقّه وتعرف قديم إحسانه إليها، وشفقته عليها، فكانت تتردد إليه فتصلح من شأنه وتعينه على قضاء حاجته وتقوم بمصلحته. وضعف حالها وقلّ مالها حتى كانت تخدم الناس بالأجر لتطعمه، وتقوم بأوده، وهي صابرة معه على ما حلّ بهما من فراق المال والولد، وضيق ذات اليد وخدمة الناس بعد السعادة والنعمة. ومكث في بلواه ثماني عشرة سنة، فأوحى الله عزّ وجلّ الى النبي أيوب في مكانه ûاركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب‎ أي اضرب الأرض برجلك، فامتثل ما أُمر به فأنبع الله له عيناً باردة الماء وأمر أن يغتسل فيها ويشرب منها، فأذهب الله عنه ما كان يجده من الألم والأذى والسقم والمرض الذي كان في جسده ظاهراً وباطناً وأبدله الله بعد ذلك كلّه صحة ظاهرة وباطنة وجمالاً تاماً ومالاً كثيراً، حتى صبّ له من المال صباً مطراً عظيماً جراراً من ذهب وأعاد الله الى زوجته شبابها، حتى ولدت ستة وعشرين ولداً ذكراً. وقد ذكر ابن جرير وغيره من علماء التاريخ أن أيوب عليه السلام لما توفي كان عمره ثلاثاً وتسعين سنة. ‏

هذا وقد جعل الله عزّ وجلّ من بلاء النبي أيوب عبرة للصابرين وذكرى للعابدين في كل بلاء نزل بهم وليكون أسوة في الصبر ورجاء الثواب.
والنبي أيوب هو أيوب بن أموص بن تارخ بن روم بن عيص بن اسحق بن ابراهيم الخليل عليهم الصلاة والسلام. ويُذكر انه كان رجلاً طويلاً عظيم الرأس جعد الشعر حسن العينين والخلق قصير العنق غليظ الساقين والساعدين، وكان مكتوب على جبهته (المبتلى الصابر)، وكان تقياً رحيماً بالمساكين يكفل الأرامل والأيتام ويكرم الضيف شاكراً لنعم الله تعالى مؤدياً لحقه. ويعود نسب زوجته الصابرة الفاضلة «رحمة» بنت افراثيم الى ابن يوسف بن يعقوب عليهم الصلاة والسلام. ومن أحاديث النبي أيوب عليه السلام أنه قال: «إن الله يزرع الحكمة بالرحمة في قلب المؤمن الكبير والصغير فمتى نبتت في القلب أظهرها الله تعالى على اللسان وليس تكون الحكمة من قبل السن والشيب ولا طول التجربة، فإذا جعل الله العبد حكيماً في الصبا لم تسقط منزلته عند الحكماء». ‏




قصة (ذو الكفل) ‏

بعد قصة النبي أيوب عليه السلام ذكر الله تعالى في كتابه العزيز في سورة «ص» اسم (ذو الكفل) بشر بن أيوب الصابر وذهب بعض المفسّـرين الى أن الله بعثه رسولاً الى أرض الروم، وكان بشر بن أيوب المسمى (ذو الكفل) مقيماً في الشام حتى مات وكان عمره خمسة وتسعين عاماً، وقد تكفل لبني قومه أن يكفيهم أمرهم ويقضي بينهم بالعدل فسمي (ذو الكفل)، وما يشهر نبوته أنه ذكر في القرآن العظيم بالثناء عليه مقروناً مع السادة الأنبياء أنه نبي وقد زعم آخرون أنه لم يكن نبياً وإنما كان رجلاً صالحاً وحكماً مقسطاً عادلاً، وقد سمّاه الله في سورة «ص» في القرآن الكريم (ذو الكفل) لأنه تكفّل بأمر فوفى به. ‏

الشيخ سعد بن عبادة ‏

شهد الصحابي الجليل سعد بن عبادة مع النبي محمد ے موقعتي بدر والعقبة، وكان يعشي كل ليلة ثمانين من أهل الصفة، وكان مشهوراً بالجود والكرم، وكان له مناد ينادي: على كلّ من أحبّ الشحم واللحم فليأت سعد، وكان يكتب بالعربية ويحسن العوم والرمي فكان يُقال له الكامل، وروى أبو داود من حديث قس بن سعد أن النبي محمد ے قال: «اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة». وخرج سعد من المدينة ولم ينصرف إليها الى أن مات في حوران لسنتين ونصف مضتا من خلافة عمر رضي الله عنه، وذلك سنة خمس عشرة، وقيل سنة أربع عشرة، وقيل انه مات في خلافة أبي بكر سنة إحدى عشرة ولم يختلفوا في أنه وجد ميتاً في مغتسله، وقد اخضر جسده ولم يشعروا بموته حتى سمعوا قائلاً، يقول: دون أن يروا أحداً: قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة، رميناه بسهم فلم يخطئ فؤاده، وقالوا: إن الجن قد قتله. ‏

وكان رضي الله عنه من أشدّ الناس غيرة، ما تزوّج امرأة بكراً ولا طلّق امرأة فتجاسر أحد أن يخطبها بعده، وقد رُوي أنه لما خرج من المدينة قسم ماله بين بنيه فلمّا توفي ولد له ولد فجاء أبو بكر وعمر الى ابنه قيس بن سعد فأمراه أن يدخل هذا معهم فقال: إني لا أغيّر ما صنع سعد، ولكن نصيبي لهذا الولد. والشيخ سعد هو الصحابي الجليل سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن حرام بن خزيمة بن ثعلة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج الأنصاري سيد الخزرج، يُكنى أبا ثابت وأبا قيس وأمه عمرة بنت مسعود. ومقام الصحابي الشيخ سعد يوجد للغرب قليلاً من نبع ماء النبي أيوب عليه السلام بشكل يلاصق الجامع القديم في قرية الشيخ سعد.. ويدخل الزائر من باب في الجهة الشمالية منخفض ينزل له عبر الدرج، ثم بناء طويل شمال جنوب تدعمه وتزينه القناطر العريضة التي تدخل في جسم الجدران، حيث تلاحظ سقف القسم الأول من البناء الشمالي على شكل قبّة، ينتهي في الجنوب بغرفة مربعة يقوم وسطها قبر الصحابي الجليل سعد بن عبادة، سقفها على شكل قبّة حجرية دائرية الشكل، قوامها قطع بازلتية مخلوطة بمونة كلسية تحتوي على عدد من النوافذ والكوات الجدارية، أما أرضيتها فمرصوفة بالحجر المنحوت. ‏

الحمام ودير النبي أيوب ‏

يُروى أن عمرو الغساني قد أقام الدير فوق قبر النبي أيوب، وهناك حجر من سنة 614م فيه كتابة يونانية مسيحية تتضمن ذكراً لوضع ساكف باب مدخل كنيسة دير أيوب واسم رئيس الدير إيليا الذي رفع هذا الساكف، والدير عبارة عن قاعة مربّعة الشكل يتوسطها عمود بيتوني حديث البناء، يوجد في الجهة الشرقية الداخلية لقاعة هذا الدير قبر النبي أيوب عليه السلام وقبر آخر لأحد أبنائه يعتقد أنه بشر المسمى (ذو الكفل)، وتحتوي القاعة على سبع نوافذ متوزعة على كامل أجزاء البناء، ومن الأدلة ما تشير الى أن هذا الدير كان يحوي بداخله على قنطرة حجرية ضخمة تتجه شرق غرب تحمل فوقها كتلة السقف، إلا أن القنطرة اختفت في فترات سابقة واستعيض عنها بسقف اسمنتي يحمله عمود مرتكز وسط البناء. وعلى بعد واحد كيلومتر باتجاه الشمال من مقام النبي أيوب يقع نبع الماء المعروف بحمام النبي أيوب، وقد أُنشئ حول النبع المبارك غرفة مربعة الشكل تقارب أبعادها 4ھ4م وهي ذات جدران ترتفع لحوالي أربعة أمتار، يظهر أن هذه الغرفة قد بنيت في الفترة العثمانية وكان يعلو هذه الغرفة قبّة دائرية مؤلّفة من قطع حجرية بازلتية وكلسية صغيرة الحجم ممزوجة بمونة كلسية، ترتكز الرقبة على ثلاثة مداميك مائلة باتجاه الداخل، قائمة على الزوايا الرئيسة الأربع، وباب الغرفة موجود في جدارها الجنوبي والى الغرب منه ماء النبع ليشكل نهراً صغيراً يتجه للغرب، يقصد النبع الزوار والمرضى من أنحاء القطر كلها للتمتع بجماله والتداوي بخصائصه الطبية البالغة الأهمية، حيث انه غني بالعناصر المعدنية اللازمة لعلاج أمراض الجلد والمفاصل والروماتيزم. ‏


‏ لمحة تاريخية ‏


السيد حسين المشهداوي* مدير آثار درعا قال: عرفت قرية الشيخ سعد في الفترة الكنعانية باسم قرنائيم عشتروت، حيث كانت عاصمة مملكة حوران في الألف الثالثة قبل الميلاد، حيث كانت حوران تُدعى بلاد باشان، فكانت مقر عبادة الآلهة الكنعانية عشتروت. ‏

وفي الألف الثاني قبل الميلاد اجتاحتها الجيوش العيلامية من الشمال ودمّرتها تدميراً كاملاً، كما عرفت باسم دير أيوب كمقر للنبي أيوب والذي وُصف بأنه ملك عشتروت وقرنائيم (عشترة حالياً) وفي الفترة اليونانية عُرفت القرية باسم لاريسا وهو الحي اليوناني الذي يُطلق عليه حالياً اسم الخشعة شمال غرب تل القرية. ‏

وفي الفترة البيزنطية سميت القرية باسم كارنياس، حيث أصبحت أسقفية تابعة الى ميتروبولتانية بصرى، حيث أنشأ فيها الغساسنة ديراً سمّوه دير النبي أيوب وأقاموا حوله سوقاً كبيرة، كانت العرب تؤمّه بعد الانتهاء من مواسم الحج ولمدة 45 يوماً، وقد وجد فوق مدخل الدير لوحة مؤرّخة في العام 569م. وفي الفترة الإسلامية رحل إليها الصحابي الجليل سعد بن عبادة حامل راية الأنصار، وتوفي فيها سنة 14 أو 15 هجرية. ‏

وفي الفترة الأموية اتخذها الخليفة مروان بن محمد سنة 127 هجرية قاعدة لتجهيز جيشه لإخضاع المتمردين على سلطته في الجنوب، كما أقام فيها بعض أعراس أسرته كعرس ابنيه عبدالله وعبيدالله من ابنتي هشام بن عبد الملك، وكما جمع فيها أسرة بني أمية لمبايعة عبدالله لولاية العهد من بعده. ‏

وكشفت ورشات التنقيب التابعة لدائرة آثار درعا مسلة حجرية مصرية عليها نقوش باللغة الهيروغليفية تؤرّخ لفترة رمسيس الثاني في موقع تل قرية الشيخ سعد، وهذا دليل إضافي على حضارة منطقة حوران، وقد تم العثور على المسلة خلال العام الماضي. والمسلة حجرية مصرية عبارة عن نصف تذكاري بارتفاع ثلاثة أمتار وبعرض 120سم تحتوي على نقوش باللغة الهيروغليفية مؤلفة من قطعتين، وقد أقامها المصريون في عهد الملك رمسيس الثاني خلال القرن الثالث عشر قبل الميلاد عند دخولهم منطقة حوران لمقابلة الجيش الحثّي الذي كان يسيطر على شمال سورية ونتج عن ذلك معركة قادش قرب مدينة حمص. وأشار الى هذه المسلة الرحّالة الألماني شوماخر في كتابه عام 1886م وتضمن رسماً لهذا النصب ورسماً لرمسيس الثاني وصورة تمثّل الآلهة بينهما رموز من اللغة الهيروغليفية، ومن خلال هذا الرسم تم التعرّف على هذه الآبدة المهمة التي أظهرت هذا الاكتشاف الأثري الهام. وخلال عامي 1924م و1926 وما بينهما تم اكتشاف منحوتات حجرية غاية في الأهمية في القرية وهي عبارة عن تماثيل لآلهة وفتيان يمتطون الأحصنة في مناسبات احتفالية، ويضمّ المتحف الوطني في دمشق مجموعة كنوز وروائع من قرية الشيخ سعد، كانت قد اكتشفت بفترات مختلفة من القرن الماضي، وهي تشكّل فناً إنسانياً هاماً يجب دراسته ومعرفة تفاصيله. ‏