أنت غير مسجل في منتديات البوحسن . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله           

رسائل ووصايا في التزكية كلّ ما يختص بعلوم السلوك وآداب القوم وتزكية النفس والتصوف الإسلامي

إضافة رد
قديم 02-02-2011
  #11
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

الحقيقة الثامنة
باب الوعد والوعيد
وهو تجلي اسم ((الجميل والجليل))
أمن الممكن لمبدع هذه الموجودات وهو العليم المطلق والقدير المطلق ألاّ يوفي بما أخبر به مكرراً الانبياء عليهم السلام كافة بالتواتر من وعد ووعيد، وشهد به الصدِّيقون والاولياء كافة بالاجماع، مُظهراً عجزاً وجهلاً بذلك؟ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. علماً ان الأمور التي وعد بها، وأوعدها، ليست عسيرة على قدرته قطعاً، بل هي يسيرة وهينة، وسهلة كسهولة اعادة الموجودات التي لا تحصى للربيع السابق بذواتها(1) أو بمثلها(2) في الربيع المقبل. أما الوفاء بالوعد فكما هو ضروري لنا ولكل شئ ضروري كذلك لسلطنة ربوبيته. بعكس اخلاف الوعد فهو مضاد لعزة قدرته، ومنافٍ لإحاطة علمه، حيث لا يتأتى اخلاف الوعد اِلا من الجهل أو العجز.
فيا أيها المنكر! هل تعلم مدى حماقة ما ترتكب من جناية عظمى بكفرك وانكارك! انك تصدّق وهمَك الكاذب وعقلك الهاذي ونفسَك الخدّاعة، وتكذّب مَن لا يضطر الى اخلاف الوعد، ولا الى خلافه ابداً، بل لا يليق الاخلاف بعزته وعظمته قطعاً. واِن جميع الاشياء وجميع المشهودات تشهد على صدقه وأحقيته!!.. انك ترتكب اذن جناية عظمى لا نهاية لها مع صغرك المتناهي، فلا جرم انك تستحق عقاباً عظيماً أبدياً.. ولقياس عِظَم ما يرتكبه الكافر من جناية فقد وَرَد ان ضرس بعض اهل النار كالجبل(3).. ان مَثَلك هو كمثَل ذلك المسافر الذي يغمض عينيه عن نور الشمس ويتبع ما في عقله من خيال، ثم يريد أن ينوّر طريقه المخيف بضياء ما في عقله من بصيص كنور اليراعة!.
فما دام الله سبحانه قد وعد، وهذه الموجودات كلماته الصادقة بالحق، وهذه الحوادث في العالم آياته الناطقة بالصدق، فانه سيوفي بوعده حتماً، وسيفتح محكمة كبرى، وسيهب سعادة عظمى.
الحقيقة التاسعة
باب الإحياء والاماتة
وهو تجلي اسم ((الحي القيوم والمحيي والمميت))
أمن الممكن للذي اظهر قدرتَه باِحياء الأرض الضخمة بعد موتها وجفافها، وبعث اكثر من ثلاثمائة ألف نوع من انوع المخلوقات، مع ان بعث كل نوع عجيب كأعجوبة بعث البشر.. والذي اظهر احاطةَ علمه ضمن ذلك الإحياء بتمييزه كل كائن من بين ذلك الامتزاج والتشابك.. والذي وجّه انظار جميع عباده الى السعادة الأبدية بوعدهم الحشر في جميع أوامره السماوية.. والذي اظهر عظمة ربوبيته بجعله الموجودات متكاتفة مترافقة، فادارها ضمن أمره وارادته، مسخراً أفرادها، معاوناً بعضها بعضاً.. والذي أولى البشر الاهمية القصوى، بجعله أجمع ثمرة في شجرة الكائنات، وألطفها وأشدها رقةً ودلالاً، واكثرها مستجاباً للدعاء، مسخراً له كل شئ، متخذاً اِياه مخاطباً.. أفمن الممكن لمثل هذا القدير الرحيم ولمثل هذا العليم الحكيم الذي أعطى هذه الأهمية للانسان ان لا يأتي بالقيامة؟ ولا يحدث الحشر ولا يبعث البشر، أو يعجز عنه؟ وان يعجز عن فتح أبواب المحكمة الكبرى وخلق الجنة والنار؟!. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
نعم، ان الرب المتصرف في هذا العالم جلّ جلاله يُحدث في هذه الأرض المؤقتة الضيقة في كل عصر وفي كل سنة وفي كل يوم نماذج وأمثلة كثيرة واشارات عديدة للحشر الاكبر. فعلى سبيل المثال:
انه يحشر في بضعة ايام في حشر الربيع ويبعث اكثر من ثلاثمائة ألف نوع من أنواع النباتات والحيوانات من صغير وكبير، فيحيي جذور الاشجار والاعشاب، ويعيد بعض الحيوانات بعينها كما يعيد أمثال بعضها الآخر. ومع أن الفروق المادية بين البُذيرات المتناهية في الصغر جزئية جداً، اِلا أنها تُبعث وتُحيا بكل تميّز، وتشخّص في منتهى السرعة في ستة ايام، أو ستة أسابيع، وفي منتهى السهولة والوفرة، وبانتظام كامل وميزان دقيق، رغم اختلاطها وامتزاجها. فهل يصعب على من يقوم بمثل هذه الاعمال شئ، أو يعجز عن خلق السموات والارض في ستة أيام، أولا يستطيع ان يحشر الانسان بصيحة واحدة؟.. سبحان الله عما يصفون.
فيا ترى ان كان ثمة كاتبٌ ذو خوارق يكتب ثلاثمائة ألف كتاب مُسحت حروفُها ومُسخت، في صحيفة واحدة دون اختلاط ولا سهو ولا نقص، وفي غاية الجمال، ويكتبها جميعاً معاً خلال ساعة واحدة. وقيل لك: ان هذا الكاتب سيكتب من حفظه في دقيقة واحدة كتابك الذي وقع في الماء وهو من تأليفه. فهل يمكنك أن ترد عليه وتقول: لا يستطيع. لا أصدق؟!.. أو أن سلطاناً ذا معجزات يرفع الجبال وينسفها ويغير المدن بكاملها ويحول البحر براً، باشارة منه، اظهاراً لقدرته وجعلها آية للناس.. فبينما ترى منه هذه الاعمال اذا بصخرة عظيمة قد تدحرجت الى وادٍ وسدّت الطريق على ضيوفه، وقيل لك: ان هذا السلطان سيميط حتماً تلك الصخرة من على الطريق ويحطمها مهما كانت كبيرة، حيث لا يمكن ان يدع ضيوفه في الطريق.. كم يكون جوابك هذياناً أو جنوناً اذا ما أجبته بقولك: لا، لا يستطيع أن يفعل؟!!.. أو أن قائداً يمكنه أن يجمع من جديد افراد جيشه الذي شكله بنفسه في يوم واحد. وقيل لك: ان هذا سيجمع افراد تلك الفرق وسينضوي تحت لوائه أولئك الذين سرّحوا وتفرّقوا، بنفخة من بوق، فأجبته: لا، لا اصدق!. عندها تفهم أن جوابك هذا ينبئ عن تصرف جنوني، أيّ جنون!!
فاذا فهمت هذه الأمثلة الثلاثة فتأمل في ذلكم البارئ المصور سبحانه وتعالى الذي يكتب امام انظارنا باحسن صورة واتمها بقلم القدرة والقدر اكثر من ثلاثمائة الف نوع من الانواع على صحيفة الارض، مبدلاً صحيفة الشتاء البيضاء الى الاوراق المتفتحة للربيع والصيف، يكتبها متداخلة دون اختلاط، يكتبها معاً دون مزاحمة ولا التباس، رغم تباين بعضها مع البعض الآخر في التركيب والشكل. فلا يكتب خطأ مطلقاً. أفيمكن ان يُسال الحفيظ الحكيم الذي أدرج خطة روح الشجرة الضخمة ومنهاجها في بذرة متناهية في الصغر محافظاً عليها، كيف سيحافظ على ارواح الاموات؟. أم هل يمكن أن يُسأل القدير ذو الجلال الذي يُجري الارض في دورتها بسرعة فائقة، كيف سيزيلها من على طريق الآخرة، وكيف سيدمّرها؟ أم هل يمكن أن يُسأل ذو الجلال والاكرام الذي أوجد الذرات من العدم ونسّقها بأمر ((كُنْ فَيَكُونُ)) في أجساد جنود الاحياء ، فأنشأ منها الجيوش الهائلة، كيف سيجمع بصيحة واحدة تلك الذرات الاساسية التي تعارفت فيما بينها، وتلك الاجزاء الاساسية التي انضوت تحت لواء فرقة الجسد ونظامه؟
فها أنت ذا ترى بعينيك كم من نماذج وأمثلة وامارات للحشر شبيهة بحشر الربيع، قد أبدعها الباري سبحانه وتعالى في كل موسم، وفي كل عصر، حتى ان تبديل اللّيل والنّهار، وانشاء السحاب الثقال وافناءها من الجو، نماذج للحشر وأمثلة وامارات عليه.
واذا تصورت نفسك قبل ألف سنة مثلاً، وقابلت بين جناحي الزمان الماضي والمستقبل، ترى أمثلة الحشر والقيامة ونماذجها بعدد العصور والايام.
فلو ذهبت الى استبعاد الحشر الجسماني وبعث الاجساد متوهماً انه بعيد عن العقل ، بعد ما شاهدت هذا العدد الهائل من الأمثلة والنماذج، فستعلم انت كذلك مدى حماقة من ينكر الحشر.
تأمل ماذا يقول الدستور الاعظم حول هذه الحقيقة:
] فَانْظُر اِلى آثَارِ رَحْمَتِ الله كَيْفَ يُحْيىِ الاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا اِنَّ ذلِكَ لَمُحيي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ[ (الروم: 50)
الخلاصة: لا شئ يحول دون حدوث الحشر، بل كل شئ يقتضيه ويستدعيه. نعم! ان الذي يحيي هذه الارض الهائلة وهي معرض العجائب ويميتها كأدنى حيوان، والذي جعلها مهداً مريحاً وسفينة جميلة للانسان والحيوان، وجعل الشمس ضياءً وموقداً لهذا المضيف، وجعل الكواكب السيّارة والنجوم اللامعة مساكن طائرات للملائكة.. ان ربوبية خالدة جليلة الى هذا الحدّ، وحاكمية محيطة عظيمة الى هذه الدرجة، لا تستقران ولا تنحصران في أمور الدنيا الفانية الزائلة الواهية السيالة التافهة المتغيرة. فلابد أن هناك داراً اخرى باقية، دائمة، جليلة، عظيمة، مستقرة، تليق به سبحانه فهو يسوقنا الى السعي الدائب لأجل تلك الممالك والديار ويدعونا اليه وينقلنا الى هناك. يشهد على هذا اصحاب الأرواح النيرة، وأقطاب القلوب المنورة، وأرباب العقول النورانية، الذين نفذوا من الظاهر الى الحقيقة، والذين نالوا شرف التقرب اليه سبحانه. فهم يبلغوننا متفقين انه سبحانه قد أعد ثواباً وجزاءاً، وأنه يَعِد وعداً قاطعاً، ويوعد وعيداً جازماً..
فاخلاف الوعد لا يمكن أن يدنو الى جلاله المقدّس، لأنه ذلّة وتذلل. وأما اخلاف الوعيد فهو ناشئ من العفو أو العجز. والحال أن الكفر جناية مطلقة(1) لا يستحق العفو والمغفرة. اما القدير المطلق فهو قدوس منزّه عن العجز، وأما المخبرون والشهود فهم متفقون اتفاقاً كاملاً على اساس هذه المسألة رغم اختلاف مسالكهم ومناهجهم ومشاربهم. فهم من حيث الكثرة بلغوا درجة التواتر، ومن حيث النوعية بلغوا قوة الاجماع، ومن حيث المنزلة فهم نجوم البشرية وهداتها وأعزة القوم وقرة عيون الطوائف. ومن حيث الأهمية فهم في هذه المسألة ((أهل اختصاص وأهل اثبات)). ومن المعلوم ان حكم اثنين من أهل الاختصاص في علم أو صنعة يرجّح على آلاف من غيرهم، وفي الاخبار والرواية يرجح قول اثنين من المثبتين على آلاف من النافين المنكرين، كما في اثبات رؤية هلال رمضان، حيث يرجّح شاهدان مثبتان، بينما يضرب بكلام آلاف من النافين عرض الحائط.
والخلاصة: لا خبر اصدق من هذا في العالم، ولا قضية أصوب منها، ولا حقيقة اظهر منها ولا اوضح.
فالدنيا اذن مزرعة بلا شك، والمحشر بيدر، والجنة والنار مخزنان.
الحقيقة العاشرة
باب الحكمة والعناية والرحمة والعدالة
وهو تجلي اسم ((الحكيم والكريم والعادل والرَّحيم))
أمن الممكن لمالك الملك ذي الجلال الذي أظهر في دار ضيافة الدنيا الفانية هذه، وفي ميدان الامتحان الزائل هذا، وفي معرض الارض المتبدل هذا، هذا القدر من آثار الحكمة الباهرة، وهذا المدى من آثار العناية الظاهرة، وهذه الدرجة من آثار العدالة القاهرة، وهذا الحد من آثار الرحمة الواسعة! ثم لا ينشئ في عالم ملكه وملكوته مساكن دائمة، وسكنة خالدين، ومقامات باقية، ومخلوقات مقيمين. فتذهب هباءاً منثوراً جميع الحقائق الظاهرة لهذه الحكمة، ولهذه العناية، ولهذه العدالة، ولهذه الرحمة؟.
وهل يعقل لحكيم ذي جلال اختار هذا الانسان من بين المخلوقات، وجعله مخاطباً كلياً له، ومرآة جامعة لأسمائه الحسنى، ومقدّراً لما في خزائن رحمته من ينابيع، ومتذوقاً لها ومتعرفاً اليها، والذي عرّف سبحانه ذاته الجليلة له بجميع أسمائه الحسنى، فأحبّه وحبّبه اليه.. أفمن المعقول بعد كل هذا ان لا يُرسل ذلك((الحكيم)) جل وعلا هذا الانسان المسكين الى مملكته الخالدة تلك؟ ولا يسعده في تلك الدار السعيدة بعد أن دعاه اليها؟؟
أم هل يعقل أن يحمّل كل موجود وظائف جمّة - ولو كان بذرة - بثقل الشجرة، ويركّب عليه حِكَماً بعدد أزهارها، ويقلّده مصالح بعدد ثمارها، ثم يجعل غاية وجود تلك الوظائف والحكم والمصالح جميعها مجرّد ذلك الجزء الضئيل المتوجه الى الدنيا. أي يجعل غاية الوجود هي البقاء في الدنيا فقط، الذي لا أهمية له حتى بمثقال حبة من خردل؟ ولا يجعل تلك الوظائف والحِكَم والمصالح بذوراً لعالم المعنى، ولا مزرعة لعالم الآخرة لتثمر غاياتها الحقيقية اللائقة بها.
وهل يعقل ان تذهب جميع هذه المهرجانات الرائعة والاحتفالات العظيمة هباءً بلا غاية، وسدى بلا معنى وعبثاً بلا حكمة؟!
أم هل يعقل ان لا يوجّه كلها الى عالم المعنى وعالم الآخرة لتظهر غاياتُها الأصيلة وأثمارُها الجديرةُ بها؟!
نعم! أمن الممكن ان يظهر كل ذلك خلافاً للحقيقة، خلافاً لأوصافه المقدّسة وأسمائه الحسنى: ((الحكيم، الكريم، العادل، الرحيم)) كلا.. ثم كلا.
أم هل من الممكن أن يكذِّب سبحانه حقائقَ جميع الكائنات الدالة على أوصافه المقدّسة من حكمةٍ وعدلٍٍ وكرمٍ ورحمة، ويردّ شهادة الموجودات جميعاً، ويبطل دلائل المصنوعات جميعاً! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وهل يقبل العقل أن يعطي للانسان اجرة دنيوية زهيدة، زهادة شعرة واحدة، مع انه اناط به وبحواسه مهاماً ووظائف هي بعدد شعرات رأسه؟ فهل يمكن ان يقوم بمثل هذا العمل الذي لا معنى له ولا مغزى خلافاً لعدالته الحقة، ومنافاة لحكمته الحقيقة؟ سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً.
أوَ من الممكن أن يقلّد سبحانه كل ذي حياة، بل كل عضو فيه - كاللسان مثلاً - بل كل مصنوع، من الحِكم والمصالح بعدد أثمار كل شجرة مُظهراً حكمته المطلقة ثم لا يمنح الانسان البقاء والخلود، ولا يهب له السعادة الأبدية التي هي أعظم الحِكَم، وأهم المصالح، وألزم النتائج؟ فيترك البقاء واللقاء والسعادة الابدية التي جعلت الحكمة حكمة، والنعمة نعمةً، والرحمة رحمةً، بل هي مصدر جميع الحكم والمصالح والنعم والرحمة ومنبعها. فهل يمكن ان يتركها ويهملها ويسقط تلك الأمور جميعها الى هاوية العبث المطلق؟ ويضع نفسه - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً - بمنزلة من يبني قصراً عظيماً يضع في كل حجر فيه آلاف النقوش والزخارف، وفي كل زاوية فيه آلاف الزينة والتجميل، وفي كل غرفة فيه آلاف الآلات الثمينة والحاجيات الضرورية.. ثم لا يبني له سقفاً ليحفظه؟! فيتركه ويترك كل شئ للبلى والفساد! حاشَ لله.. ان الخير يصدر من الخيّر المطلق، وان الجمال يصدر من الجميل المطلق، فلن يصدر من الحكيم المطلق العبث البتة.
نعم! ان كل من يمتطي التاريخ ويذهب خيالاً الى جهة الماضي سيرى انه قد ماتت بعدد السنين منازلُ ومعارضُ وميادين وعوالمُ شبيهة بمنزل الدنيا وميدان الابتلاء ومعرض الاشياء في وقتنا الحاضر. فعلى الرغم مما يُرى من اختلاف بعضها عن البعض الآخر صورةً ونوعاً، فانها تتشابه في الانتظام والابداع وابراز قدرة الصانع وحكمته.
وسيرى كذلك - ما لم يفقد بصيرته - ان في تلك المنازل المتبدلة، وفي تلك الميادين الزائلة، وفي تلك المعارض الفانية.. من الأنظمة الباهرة الساطعة للحكمة، والاشارات الجليّة الظاهرة للعناية، والامارات القاهرة المهيمنة للعدالة، والثمار الواسعة للرحمة ما سيدرك يقيناً أنه:
لا يمكن ان تكون حكمةٌ اكملَ من تلك الحكمة المشهودة، ولا يمكن ان تكون عناية أروع من تلك العناية الظاهرة الآثار، ولا يمكن أن تكون عدالة أجلّ من تلك العدالة الواضحة أماراتها. ولا يمكن ان تكون رحمة اشمل من تلك الرحمة الظاهرة الثمار.
واذا أفتُرض المحال، وهو أن السلطان السرمدي - الذي يدير هذه الامور، ويغيّر هؤلاء الضيوف والمستضافات باستـمرار - ليست له منـازل دائمة ولا أماكن راقية سامية ولا مقامات ثابتة ولا مساكن باقية ولا رعايا خالدون، ولا عبادٌ سعداء في مملكته الخالدة. يلزم عندئذٍ انكار الحقائق الاربعة: (الحكمة والعدالة والعناية والرحمة) التي هي عناصر قوية شاملة كالنور، والهواء والماء والتراب، وانكار وجودها الظاهر ظهور تلك العناصر. لانه من المعلوم ان هذه الدنيا وما فيها لا تفي لظهور تلك الحقائق، فلو لم يكن هناك في مكان آخر ما هو اهل لها، فيجب انكار هذه الحكمة الموجودة في كل شئ أمامنا - بجنون من ينكر الشمس الذي يملأ نورها النهار - وانكار هذه العناية التي نشاهدها دائماً في أنفسنا وفي أغلب الاشياء. وانكار هذه العدالة الجلية الظاهرة الامارات(1). وانكار هذه الرحمة التي نراها في كل مكان. وكذلك يلزم ان يعتبر صاحب ما نراه من الاجراءات الحكيمة والافعال الكريمة، والآلاء الرحيمة (حاشَ لله ثم حاشَ لله) لاهياً لاعباً ظالماً غدّاراً تعالىالله عن ذلك علواً كبيراً، وما هذا الاّ انقلاب الحقائق باضدادها، وهو منتهى المحال، حتى السوفسطائيون الذين انكروا وجود انفسهم لم يدنوا الى تصوّر هذا المحال بسهولة.
والخلاصة: أنه ليست هناك علاقة أو مناسبة بين ما يُشاهَد في شؤون العالم من تجمعات واسعة للحياة، وافتراقات سريعة للموت، وتكتلات ضخمة، وتشتتات سريعة، واحتفالات هائلة، وتجليات رائعة.. وبين ما هو معلوم لدينا من نتائج جزئية، وغايات تافهة مؤقتة، وفترة قصيرة تعود الى الدنيا الفانية. لذا فالربط بينهما بعلاقة، أو ايجاد مناسبة، لا ينسجم مع عقل ولا يوافق مع حكمة، اذ يشبه ذلك ربط حِكَم هائلة وغايات عظيمة كالجبل بحصاة صغيرة جداً، وربط غاية تافهة جزئية مؤقتة - بحجم الحصاة - بجبل عظيم!!.
أي اِنّ عدم وجود هذه العلاقة بين هذه الموجودات وشؤونها وبين غاياتها التي تعود الى الدنيا، يشهد شهادة قاطعة، ويدل دلالة واضحة على ان هذه الموجودات متوجهة الى عالم المعنى، حيث تعطي ثمارها اللطيفة اللائقة هناك، وان انظارها متطلعة الى الاسماء الحسنى، وان غاياتها ترنو الى ذلك العالم. ومع ان بذورها مخبوءة تحت تراب الدنيا الاّ ان سنابلها تبرز في عالم المثال. فالانسان - حسب استعداده - يَزرع ويُزرع هنا ويحصد هناك في الآخرة.
نعم! لو نظرت الى وجوه الموجودات المتوجهة الى الاسماء الحسنى والى عالم الآخرة لرأيت:
ان لكل بذرة - وهي معجزة القدرة الإلهية - غايات كبيرة كبر الشجرة.
وان لكل زهرة - وهي كلمة الحكمة(1) - معاني جمّة بمقدار ازهار الشجر.
وان لكل ثمرة - وهي معجزة الصنعة وقصيدة الرحمة - من الحِكَم ما في الشجرة نفسها. أما من جهة كونها أرزاقاً لنا فهي حكمة واحدة من بين الوف الحكم، حيث أنها تنهي مهامها، وتوفي مغزاها فتموت وتدفن في معداتنا.
فما دامت هذه الاشياء الفانية تؤتي ثمارها في غير هذا المكان، وتودع هناك صوراً دائمة، وتعبّر عن معانٍ خالدة، وتؤتي اذكارها وتسابيحها الخالدة السرمدية هناك. فالانسان اذن يصبح انساناً حقاً مادام يتأمل وينظر الى تلك الوجوه المتوجهة نحو الخلود. وعنده يجد سبيلاً من الفاني الى الباقي.
اِذن هناك قصد آخر ضمن هذه الموجودات المحتشدة والمتفرقة التي تسيل في خضم الحياة والموت، حيث ان احوالها تشبه - ولا مؤاخذة في الأمثال - احوالاً وأوضاعاً تُرتّب للتمثيل، فتنفق نفقات باهظة لتهيئة اجتماعات وافتراقات قصيرة، لأجل التقاط الصور وتركيبها لعرضها على الشاشة عرضاً دائماً.
وهكذا فان احدى غايات قضاء الحياة - الشخصية والاجتماعية - في فترة قصيرة في هذه الدنيا هي أخذ الصور وتركيبها، وحفظ نتائج الاعمال، ليحاسب امام الجمع الاكبر، وليعرض امام العرض الاعظم، وليهيأ استعداده ومواهبه للسعادة العظمى. فالحديث الشريف: (الدنيا مزرعة الآخرة)(1) يعبّر عن هذه الحقيقة.
وحيث أن الدنيا موجودة فعلاً، وفيها الآثار الظاهرة للحكمة والعناية والرحمة والعدالة، فالآخرة موجودة حتماً، وثابتة بقطعية ثبوت هذه الدنيا.
ولما كان كل شئ في الدنيا يتطلع من جهة الى ذلك العالم، فالسير اذن والرحلة الى هناك، لذا فان انكار الآخرة هو انكار للدنيا وما فيها.
وكما ان الأجل والقبر ينتظران الانسان، فان الجنة والنار كذلك تنتظرانه وتترصدانه.
الحقيقة الحادية عشرة
باب الانسانية
وهو تجلي اسم ((الحق))
أمن الممكن للحق سبحانه وهو المعبود الحق ان يخلق هذا الانسان ليكون اكرمَ عبدٍ لربوبيته المطلقة، واكثر اهمية لربوبيته العامة للعالمين، واكثر المخاطبين ادراكاً وفهماً لأوامره السبحانية، وفي احسن تقويمٍ حتى اصبح مرآة جامعة لأسمائه الحسنى ولتجلي الاسم الاعظم ولتجلي المرتبة العظمى لكل اسم من هذه الاسماء الحسنى. وليكون أجملَ معجزات القدرة الإلهية، واغناها اجهزةً وموازينَ لمعرفة وتقدير ما في خزائن الرحمة الإلهية من كنوز، واكثرالمخلوقات فاقة وحاجة الى نعمه التي لا تحصى، واكثرها تألماً من الفناء، وأزيدها شوقاً الى البقاء، وأشدها لطافة ورقة وفقراً وحاجة. مع انه من جهة الحياة الدنيا اكثرها تعاسة، ومن جهة الاستعداد الفطري أسماها صورة.. فهل من الممكن ان يخلق المعبود الحق الانسانَ بهذه الماهية ثم لا يبعثه الى ما هو مؤهّل له ومشتاق اليه من دار الخلود؟! فيمحق الحقيقة الانسانية ويعمل ما هو منافٍ كلياً لأحقيته سبحانه؟ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً..
وهل يعقل للحاكم بالحق والرحيم المطلق الذي وهب لهذا الانسان استعداداً فطرياً سامياً يمكّنه من حمل الامانة الكبرى التي أبت السموات والارض والجبال ان يحملنها، أي خَلقَه ليعرف صفات خالقه سبحانه الشاملة المحيطة وشؤونه الكلية وتجلياته المطلقة، بموازينه الجزئية وبمهاراته الضئيلة.. والذي بَرأه بشكل ألطف المخلوقات واعجزها وأضعفها. فسخر له جميعَها من نبات وحيوان، حتى نصبه مشرفاً ومنظماً ومتدخلاً في انماط تسبيحاتها وعباداتها.. والذي جعله نموذجاً - بمقاييس مصغّرة - للاجراءات الإلهية في الكون، ودلاّلاً لاعلان الربوبية المنزهة - فعلاً وقولاً - على الكائنات، حتى منحه منزلة اكرم من منزلة الملائكة، رافعاً اياه الى مرتبة الخلافة.. فهل يمكن ان يهب سبحانه للانسان كل هذه الوظائف ثم لا يَهَبَ له غاياتها ونتائجها وثمارها وهي السعادة الابدية؟ فيرميه الى درك الذلّة والمسكنة والمصيبة والاسقام، ويجعله أتعس مخلوقاته؟ ويجعل هذا العقل الذي هو هدية مباركة نورانية لحكمته سبحانه ووسيلة لمعرفة السعادة آلةَ تعذيبٍ وشؤم، خلافاً لحكمته المطلقة، ومنافاة لرحمته المطلقة؟ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
الخلاصة: كما اننا رأينا في الحكاية أن في هوية الضابط ودفتر خدمته رتبته، ووظيفته ومرتّبه وأفعاله وعتاده، واتضح لدينا أن ذلك الضابط لا يعمل لأجل هذا الميدان المؤقت، بل لما سيرحل اليه من تكريم وإنعام في مملكة مستقرة دائمة.
كذلك فان ما في هوية قلب الانسان من لطائف، وما في دفتر عقله من حواس، وما في فطرته من اجهزة وعتاد متوجهة جميعاً ومعاً الى السعادة الابدية،بل ما مُنحت له الاّ لأجل تلك السعادة الأبدية. وهذا ما يتفق عليه أهل التحقيق والكشف.
فعلى سبيل المثال:
لو قيل لقدرة التخيل في الانسان وهي أحدى وسائل العقل وأحد مصوّريه: ستُمنح لكِ سلطنةَ الدنيا وزينتها مع عمر يزيد على مليون سنة ولكن مصيرك الى الفناء والعدم حتماً. نراها تتأوه وتتحسر. (ان لم يتدخل الوهم وهوى النفس).
أي ان أعظم فانٍ - وهو الدنيا وما فيها - لا يمكنه ان يُشبع اصغر آلة في الانسان وهي الخيال!
يظهر من هذا جلياً ان هذا الانسان الذي له هذا الاستعداد الفطري والذي له آمالٌ تمتد الى الابد، وافكارٌ تحيط بالكون، ورغباتٌ تنتشر في ثنايا انواع السعادة الابدية. هذا الانسان انما خلق للابد وسيرحل اليه حتماً. فليست هذه الدنيا الاّ مستضافاً مؤقتاً، وصالة انتظار الآخرة.
الحقيقة الثانية عشرة
باب الرسالة والتنزيل
وهو تجلي ((بِسْمِ الله الرَّحْمن الرَّحيم))
أمن الممكن لمن أيّد كلامَه جميعُ الأولياء الصالحين المعزّزين بكشفياتهم وكراماتهم، وشهد بصدقه جميعُ العلماء والأصفياء المستندين الى تدقيقاتهم وتحقيقاتهم.. ذلكم هو الرسول الكريم e الذي فتح بما أوتي من قوة طريقَ الآخرة وباب الجنة، مصَّدقاً بألفٍ من معجزاته الثابتة، وبآلاف من آيات القرآن الكريم الثابت اعجازُه بأربعين وجهاً. فهل من الممكن ان تسد اوهامٌ هي أوهى من جناح ذبابة ما فتحه هذا الرسول الكريم e من طريق الآخرة وباب الجنة؟!
***
وهكذا لقد فُهم من الحقائق السابقة ان مسألة الحشر حقيقة راسخة قوية بحيث لا يمكن ان تزحزحها أيّة قوة مهما كانت حتى لو استطاعت أن تزيح الكرة الأرضية وتحطمها، ذلك لان الله سبحانه وتعالى يقرّ تلك الحقيقة بمقتضى اسمائه الحسنى جميعها وصفاته الجليلة كلها. وان رسوله الكريم e يصدّقها بمعجزاته وبراهينه كلها. والقرآن الكريم يثبتها بجميع آياته وحقائقه. والكون يشهد لها بجميع آياته التكوينية وشؤونه الحكيمة.
فهل من المكن يا ترى ان يتفق مع واجب الوجود سبحانه وتعالى جميعُ الموجودات - عدا الكفار - في حقيقة الحشر، ثم تأتي شبهة شيطانية واهية ضعيفة لتزيح هذه الحقيقة الراسخة الشامخة وتزعزعها؟! كلاّ... ثم كلا...
ولا تحسبنّ ان دلائل الحشر منحصرة في ما بحثناه من الحقائق الاثنتي عشرة، بل كما ان القرآن الكريم وحدَه يعلّمنا تلك الحقائق، فانه يشير كذلك بآلاف من الأوجه والامارات القوية الى أن خالقنا سينقلنا من دار الفناء الى دار البقاء.
ولا تحسبنّ كذلك ان دلائل الحشر منحصرة فيما بحثناه من مقتضيات الاسماء الحسنى ((الحكيم، الكريم، الرحيم، العادل، الحفيظ)) بل ان جميعَ الاسماء الحسنى المتجلية في تدبير الكون تقتضي الآخرة وتستلزمها.
ولا تحسب ايضاً ان آيات الكون الدّالة على الحشر هي تلك التي ذكرناها فحسب، بل هناك آفاق وأوجه في اكثر الموجودات تفتح وتتوجه يميناً وشمالاً، فمثلما يدل ويشهد وجه على الصانع سبحانه وتعالى يشير وجه آخر الى الحشر ويومئ اليه.
فمثلاً: ان حسن الصنعة المتقنة في خلق الانسان في احسن تقويم، مثلما هو اشارة الى الصانع سبحانه، فان ما فيه من قابليات وقوى جامعة، التي تزول في مدّة يسيرة، تشير الى الحشر. حتى اذا ما لوحظ وجهٌ واحدٌ فقط بنظرتين، فانه يدل على الصانع والحشر معاً.
فمثلاً: اذا لوحظت ماهيةُ ما هو ظاهرٌ في اغلب الاشياء من تنظيم الحكمة وتزيين العناية وتقدير العدالة ولطافة الرحمة، تبين انه صادرة من يد القدرة لصانع حكيم، كريم، عادل، رحيم. كذلك اذا لوحظت عظمة هذه الصفات الجليلة وقوتها وطلاقتها، مع قصر حياة هذه الموجودات في هذه الدنيا وزهادتها فان الآخرة تتبين من خلالها.
اي ان كل شئ يقرأ ويستقرئ بلسان الحال قائلاً:
امَنْتُ بِالله وَبِالْيَوْم اْلاخِرِ
الخاتمة
ان الحقائق الاثنتي عشرة السابقة يؤيد بعضها البعض الآخر، وتكمل احداها الاخرى وتسندها وتدعمها، فتتبين النتيجة من مجموعها واتحادها معاً. فأي وهم يمكنه ان ينفذ من هذه الاسوار الاثنى عشر الحديد، بل الالماس المنيعة ليزعزع الايمان بالحشر المحصّن بالحصن الحصين؟
فالآية الكريمة ] مَا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ اِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [ (لقمان:28) تفيد ان خلق جميع البشر وحشرهم سهل ويسير على القدرة الإلهية، كخلق انسان واحد وحشره. نعم، وهو هكذا حيث فصلت هذه الحقيقة في بحث ((الحشر)) من رسالة ((نقطة من نور معرفة الله)). اِلا اننا سنشير هنا الى خلاصتها مع ذكر الامثلة، ومن اراد التفصيل فليراجع تلك الرسالة.
فمثلاً: ولله المثل الاعلى- ولا جدال في الأمثال - ان الشمس مثلما تُرسل - ولو ارادياً - ضوءَها بسهولة تامة الى ذرة واحدة، فانها ترسله بالسهولة نفسها الى جميع المواد الشفافة التي لا حصر لها، وذلك بسر ((النورانية)).
وان أخذ بؤبؤ ذرّة شفافة واحدة لصورة الشمس مساوٍ لأخذ سطح البحر الواسع لها، وذلك بسر ((الشفافية)).
وان الطفل مثلما يمكنه ان يحرك دُميَتَه الشبيهة بالسفينة، يمكنه أن يحرّك كذلك السفينة الحقيقية، وذلك بسرّ ((الانتظام)) الذي فيها.
وأن القائد الذي يسيّر الجندي الواحد بامر ((سِر))، يسوق الجيش باكمله بالكلمة نفسها، وذلك بسرّ ((الأمتثال والطاعة)).
ولو افترضنا ميزاناً حساساً جداً في الفضاء، بحيث يتحسس وزن جوزة صغيرة في الوقت الذي يمكن ان توضع في كفتيه شمسان. ووجدت في الكفتين جوزتان أو شمسان، فان الجهد المبذول لرفع احدى الكفتين الى الأعلى والاخرى الى الاسفل هو الجهد نفسه، وذلك بسر ((الموازنة)).
فما دام اكبر شئ يتساوى مع أصغره، وما لا يعــدّ من الاشياء يظهر كالشــئ الواحد في هذه المخلوقات والممكنات الاعتيادية - وهي ناقصة فانية - لما فيها من (النورانية والشفافية والانتظام والامتثال والموازنة) فلابدّ أنه يتساوى أمام القدير المطلق القليل والكثير، والصغير والكبير، وحشرُ فرد واحد وجميع الناس بصيحة واحدة، وذلك بالتجليات ((النورانية)) المطلقة لقدرته الذاتية المطلقة وهي في منتهى الكمال، و ((الشفافية)) و ((النورانية)) في ملكوتية الاشياء، و ((انتظام)) الحكمة والقدرة، و ((امتثال)) الاشياء وطاعتها لأوامره التكوينية امتثالاً كاملاً، وبسر ((موازنة)) الامكان الذي هو تساوي الممكنات في الوجود والعدم.
ثم ان مراتب القوة والضعف لشئ ما عبارة عن تداخل ضده فيه، فدرجات الحرارة - مثلاً - ناتجة من تداخل البرودة، ومراتب الجمال متولدة من تداخل القبح، وطبقات الضوء من دخول الظلام. اِلاّ انّ الشئ ان كان ذاتياً غير عرضي، فلا يمكن لضده أن يدخل فيه، واِلا لزم اجتماع الضدين وهو محال. أي أنه لا مراتب فيما هو ذاتي وأصيل. فما دامت قدرة القدير المطلق ذاتية، وليست عرضية كالممكنات، وهي في كمال المطلق، فمن المحال اذن أن يطرأ عليها العجزُ الذي هو ضده. أي ان خلق الربيع بالنسبة لذي الجلال هيّن كخلق زهرة واحدة، وبعث الناس جميعاً سهل ويسير عليه كبعث فرد منهم، بخلاف ما اذا اُسند الامرُ الى الاسباب المادية، فعندئذٍ يكون خلقُ زهرةٍ واحدة صعباً كخلق الربيع.
***
وكل ما تقدّم من الامثلة والايضاحات - منذ البداية - لصور الحشر وحقائقه ما هي اِلاّ من فيض القرآن الكريم، وما هي اِلا لتهيئة النفس للتسليم والقلب للقبول؛ اذ القول الفصل للقرآن الكريم والكلام كلامه، والقول قوله، فلنستمع اليه.. فلله الحجَّة البالغة...
] فانظر الى آثار رَحمتِ الله كيف يُحيي الأرضَ بعدَ موتِها إنّ ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير[ (الروم: 50)
] قال مَن يحيي العظام وهي رميم ^ قل يحييها الذي انشأها أول مرة وهو بكل خلقٍ عليم[ (يس:78،79)
] يا أيها الناسُ اتقوا ربكمْ ان زلزلة الساعَة شيءٌ عظيمٌ ^ يوم تَرونَها تَذهَل كلّ مرضعةٍ عما أرضعت وتـضعُ كلّ ذات حملٍ حَملها وترى الناسَ سُكارى وما هم بِسُكارى ولكنّ عذاب الله شديدٌ[ (الحج: 1 - 2)
] الله لا اِلهَ الاّ هو ليجمَعَنّكُمْ الى يوم القيامَةِ لا ريبَ فيهِ ومن اصدَقُ من الله حَديثاً[ (النساء:87)
] ان الأبرار لفي نعيم ^ وانّ الفجّارَ لفي جحيم [ (الانفطار: 13 - 14)
] اذا زُلزلت الارض زلزالها ^ وأخرجَتِ الارض اثقالها ^ وقال الانسان ما لها ^ يومئذٍ تحدِّث أخبارَها ^ بأن ربَّك أوحى لها ^ يومئذٍ يصدُرُ النّاسُ اشتاتاً ليروا اعمالهم ^ فمنْ يَعمل مثقال ذرّةٍ خيراً يَرَه ^ ومن يعمل مثقال ذرّةٍ شرّاً يَرَهُ[ (سورة الزلزال)
] القارعة^ ما القارعة ^ وما ادراك ما القارعة ^ يومَ يكونُ الناس كالفراش المبثوث ^ وتكون الجبال كالعِهنِ المنفوش ^ فأما مَن ثقلت موازينُه ^ فهو في عيشةٍ راضيةٍ ^ وأما مَنْ خفَّت موازينُه ^ فأمه هاوية ^ وما ادراك ماهِيَهْ ^ نارٌ حامية[ (سورة القارعة)
] ولله غيبُ السمواتِ والارض وما أمرُ الساعة الاّ كلمحِ البصر أو هو أقرب ان الله على كلٌ شيءٍ قدير[ (النحل:77)
* * *
ولنستمع الى امثال هذه الآيات البينات. ولنقل آمنا وصدقنا:
آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر وبالقدر خيره وشرّه من الله تعالى، والبعث بعد الموت حق، وان الجنة حق، والنار حق، وان الشفاعة حق، وان منكراً ونكيراً حق، وأنَّ الله يبعث من في القبور.
اشهد أن لا اِله اِلاّ الله وأشهد أن محمداً رسول الله.
اللّهم صلّ على ألطف وأشرف واكمل وأجمل ثمرات طوبى رحمتك الذي أرسلته رحمةً للعالمين ووسيلة لوصولنا الى أزين واحسن وأجنى واعلى ثمرات تلك الطوبى المتدلية على دار الاخرة أي الجنّة.
اللّهم أجرنا وأجر والدينا من النار وأدخلنا وأدخل والدينا الجنّة مع الابرار بجاه نبيّك المختار... آمين.
C فيا أيها الأخ القارئ لهذه الرسالة بانصاف! لا تقل لِمَ لا احيط فهماً بهذه الكلمة العاشرة.. لا تَغتَم ولا تتضايق من عدم الاحاطة بها، فان فلاسفة دهاة - امثال ابن سينا - قد قالوا: (الحشر ليس على مقاييس عقلية) اي ((نؤمن به فحسب، اذ لا يمكن سلوك سبيله، وسبر غوره بالعقل)) وكذلك اتفق علماء الاسلام بأن قضية الحشر قضية نقلية، أي ان أدلتها نقلية، ولا يمكن الوصول اليها عقلاً. لذا فان سبيلاً غائراً، وطريقاً عالياً سامياً في الوقت نفسه، لا يمكن ان يكون بسهولة طريق عام يمكن ان يسلكه كل سالك.
ولكن بفيض القرآن الكريم، وبرحمة الخالق الرحيم قد مُنَّ علينا السير في هذا الطريق الرفيع العميق، في هذا العصر الذي تحطم فيه التقليد وفسد الاذعان والتسليم. فما علينا اِلاّ تقديم آلاف الشكر الى البارى عز وجل على احسانه العميم وفضله العظيم، اذ ان هذا القدر يكفي لانقاذ ايماننا وسلامته. فلابد ان نرضى بمقدار فهمنا ونزيده بتكرار المطالعة.
هذا وان أحد اسرار عدم الوصول الى مسألة الحشر عقلاً هو ان الحشر الاعظم هو من تجلي (الاسم الاعظم)، لذا فان رؤية واراءة الافعال العظيمة الصادرة من تجلي الاسم الاعظم، ومن تجلي المرتبة العظمى لكل اسم من الاسماء الحسنى هي التي تجعل اثبات الحشر الاعظم سهلاً هيناً وقاطعاً كاثبات الربيع وثبوته، والذي يؤدي الى الاذعان القطعي والايمان الحقيقي.
وعلى هذه الصورة توضّح الحشر ووُِضِح في هذه (الكلمة العاشرة) بفيض القرآن الكريم. واِلاّ لو اعتمد العقل على مقاييسه الكليلة لظلّ عاجزاً مضطراً الى التقليد.
ذيل رسالة الحشر
القطعة الأولى
من لاحقة الكلمة العاشرة وذيلها المهم
بسم الله الرحمن الرحيم
] فَسُبْحَانَ الله حينَ تُمْسُونَ وَحينَ تُصْبِحُونَ ^ وَلَهُ الْحَمْدُ فىِ السَّمواتِ وَاْلارْضِ وَعَشِيّاً وَحينَ تُظْهِرُونَ ^ يُخرِجُ الحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَىِّ وَيُحْيىِ الارْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذلِكَ تُخْرجونَ ^ وَمِنْ آيَاتِهِ اَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ اِذَآ اَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ^ وَمِنْ آيَاتِه اَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ اَنْفُسِكُمْ اَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا اِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً اِنَّ في ذلِكَ لاياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرونَ ^ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّموَاتِ وَالاَرْضِ وَاْخْتِلافُ اَلْسِنَتِكُمْ وَالْوَانِكُمْ اِنَّ فى ذلِكَ لايَاتٍ لِلْعَالِمينَ ^ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِالّيْلِ والنَّهَارِ وَاْبتغَآؤُكُمْ مِنْ فـَضْلِهِ اِنَّ فى ذلِكَ لاَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ^ وَمِنْ آيَاتِه يُريكُمُ اْلبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعَاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمآءِ مَآءً فَيُحْيى بِهِ اْلاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا اِنَّ فى ذلِكَ لايَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ^ وَمنْ آيَاتِهِ اَنْ تَقُومَ السَّمآءُ وَاْلاَرضُ بِاَمْـرِه ثـُمَّ اِذَا دَعـَاكـُمْ دَعْـوَةً مِنَ الاَرْضِ اِذا اَنْتُـمْ تَخرُجُونَ ^ وَلَهُ مَنْ فىِ السَّمواتِ وَاْلارْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ^ وَهُوَ الَّذى يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَهُوَ اَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمثَلُ الاَعْلى فىِ السَّمواتِ وَالارْضِ وَهُوَ الْعَزيزُ الحَكِيمُ[ (الروم17 - 27)
سنُبيّن في هذا (الشعاع التاسع) برهاناً قوياً، وحجةً كبرى، لما تبينه هذه الآيات الكريمة من محور الايمان وقطبه، وهو الحشر، ومن البراهين السامية المقدسة الدالة عليه.
وانه لعناية ربانية لطيفة ان كتب (سعيد القديم)(1) قبل ثلاثين سنة في ختام مؤلّفه (محاكمات) الذي كتبه مقدمة لتفسير (اشارات الاعجاز في مظان الايجاز) ما يأتي:
المقصد الثاني: سوف يفسر آيتين تبيّنان الحشر وتشيران اليه.
ولكنه ابتدأ بـ: نخو(2) بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيم. وتوقف، ولم تتح له الكتابة.
فألف شكر وشكر للخالق الكريم وبعدد دلائل الحشر واماراته أن وفّقني لبيان ذلك التفسير بعد ثلاثين سنة. فأنعمَ سبحانه وتعالى عليّ بتفسير الآية الاولى:
] فَانْظُر اِلى آثَارِ رَحْمَـتِ الله كَيْفَ يُحْيىِ الاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا اِنَّ ذَلِكَ لَمُحيىِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِِّ شَيءٍْ قَديرٌ[ (الروم: 50)
وذلك بعد نحو عشر سنوات، فأصبحت (الكلمة العاشرة) و (الكلمة التاسعة والعشرين) وهما حجتان ساطعتان قويتان اخرستا المنكرين الجاحدين..
وبعد حوالى عشر سنوات من بيان ذلك الحصن الحصين للحشر، أفاض عليّ سبحانه وتعالى وانعم بتفسير الآيات المتصدرة لهذا الشعاع، فكان هذه الرسالة.
فهذا (الشعاع التاسع) عبارة عن تسعة مقامات سامية مما اشارت اليها الآيات الكريمة مع مقدمة مهمة.
المقدمة
هذه المقدمة نقطتان:سنذكر اولاً وباختصار نتيجة واحدة جامعة من بين النتائج الحياتية والفوائد الروحية لعقيدة الحشر، مبينين مدى ضرورة هذه العقيدة للحياة الانسانية ولاسيما الاجتماعية.
ونورد كذلك حجة كلية واحدة - من بين الحجج العديدة لعقيدة الايمان بالحشر - مبينين ايضاً مدى بداهتها ووضوحها حيث لا يداخلها ريب ولا شبهة.
النقطة الأولى
سنشير الى أربعة أدلة على سبيل المثال وكنموذج قياسي من بين مئات الادلة على أن عقيدة الاخرة هي أس الاساس لحياة الانسان الاجتماعية والفردية، وأساس جميع كمالاته ومُثله وسعادته.
الدليل الأول:
ان الاطفال الذين يمثلون نصف البشرية، لا يمكنهم ان يتحمّلوا تلك الحالات التي تبدو مؤلمةً ومفجعة امامَهم من حالات الموت والوفاة اِلاّ بما يجدونه في انفسهم وكيانهم الرقيق اللطيف من القوة المعنوية الناشئة من ((الايمان بالجنة)). ذلك الايمان الذي يفتح باب الامل المشرق أمام طبائعهم الرقيقة التي لا تتمكن من المقاومة والصمود وتبكي لأدنى سبب. فيتمكنون به من العيش بهناء وفرح وسرور. فيحاور الطفل المؤمن بالجنة نفسه: أن اخي الصغير أو صديقي الحبيب الذي توفي، اصبح الآن طيراً من طيور الجنة، فهو اذن يسرح من الجنة حيث يشاء، ويعيش افضل واهنأ منّا. واِلاّ فلولا هذا الايمان بالجنة لهدم الموتُ الذي يصيب اطفالاً امثاله - وكذلك الكبار - تلــك القــوة المعنــوية لهــؤلاء الذين لا حيــلة لهم ولا قــوة، ولحطـّم نفسياتهم، ولدمّر حياتهم ونغَصها فتبكي عندئذٍ جميع جوارحــهم ولطـائفهم من روح وقلب وعقل مع بكاء عيونهم. فإما أن تموت احاسيسهم وتغلظ مشاعرهم أو يصبحوا كالحيوانات الضالة التعسة.
الدليل الثاني:
اِن الشيوخ الذين هم نصف البشرية، انما يتحملون ويصبرون وهم على شفير القبر بـ ((الايمان بالآخرة)). ولا يجدون الصبر والسلوان من قرب انطفاء شعلة حياتهم العزيزة عليهم، ولا من انغلاق باب دنياهم الحلوة الجميلة في وجوههم اِلاّ في ذلك الايمان. فهؤلاء الشيوخ الذين عادوا كالاطفال واصبحوا مرهفي الحس في أرواحهم وطبائعهم، انما يقابلون ذلك اليأس القاتل الأليم الناشئ من الموت والزوال، ويصبرون عليه بالأمل في الحياة الآخرة. والاّ فلولا هذا الايمان بالآخرة لشعر هؤلاء الآباء والامهات - الذين هم اجدر بالشفقة والرأفة والذين هم في أشد الحاجة الى الاطمئنان والسكينة والحياة الهادئة - ضراماً روحياً واضطراباً نفسياً وقلقاً قلبياً، ولضاقت عليهم الدنيا بما رحبت، ولتحولت سجناً مظلماً رهيباً، ولانقلبت الحياة الى عذاب أليم قاسٍ.
الدليل الثالث:
ان الشباب والمراهقين الذين يمثلون محور الحياة الاجتماعية لا يهدّئ فورة مشاعرهم، ولا يمنعهم من تجاوز الحدود الى الظلم والتخريب، ولا يمنع طيش انفسهم ونزواتها، ولا يؤمّن السير الافضل في علاقاتهم الاجتماعية الاّ الخوف من نار جهنم. فلولا هذا الخوف من عذاب جهنم لقلب هؤلاء المراهقون الطائشون الثملون بأهوائهم الدنيا الى جحيم تتأجج على الضعفاء والعجائز، حيث ((الحُكُم للغالب)) ولحوّلوا الحياة الانسانية السامية الى حياة حيوانية سافلة.
الدليل الرابع:
ان الحياة العائلية هي مركز تجمّع الحياة الدنيوية ولولبها وهي جنة سعادتها وقلعتها الحصينة وملجأها الامين. وان بيت كل فرد هو عالمَه ودنياه الخاصة. فلا سعادة لروح الحياة العائلية اِلاّ بالاحترام المتبادل الجاد والوفاء الخالص بين الجميع، والرأفة الصادقة والرحمة التي تصل الى حد التضحية والايثار. ولا يحصل هذا الاحترام الخالص والرحمة المتبادلة الوفية اِلاّ بالايمان بوجود علاقات صداقة أبدية، ورفقة دائمة، ومعيّة سرمدية، في زمن لا نهاية له، وتحت ظل حياة لا حدود لها، تربطها علاقات أبوّةٍ محترمة مرموقة، واخوةٍ خالصة نقية، وصداقةٍ وفيّة نزيهة، حيث يحدّث الزوجُ نفسه: ((ان زوجتي هذه رفيقة حياتي وصاحبتي في عالم الابد والحياة الخالدة، فلا ضير اِن اصبحت الان دميمة أو عجوزاً، اذ إن لها جمالاً أبدياً سيأتي، لذا فأنا مستعد لتقديم اقصى ما يستوجبه الوفاء والرأفة، وأضحي بكل ما تتطلبه تلك الصداقة الدائمة)).. وهكذا يمكن أن يكنّ هذا الرجل حباً ورحمة لزوجته العجوز كما يكنّه للحور العين. والاّ فان صحبة وصداقة صورية تستغرق ساعة أو ساعتين ومن ثم يعقبها فراق أبدي ومفارقة دائمة لهي صحبة وصداقة ظاهرية لا اساس لها ولا سند. ولا يمكنها ان تعطي الاّ رحمة مجازية، واحتراماً مصطنعاً، وعطفاً حيواني المشاعر، فضلاً عن تدخُل المصالح والشهوات النفسانية وسيطرتها على تلك الرحمة والاحترام فتنقلب عندئذٍ تلك الجنة الدنيوية الى جحيم لا يطاق.
وهكذا فان نتيجة واحدة للايمان بالحشر من بين مئات النتائج التي تتعلق بالحياة الاجتماعية للانسان، وتعود اليها، والتي لها مئات الأوجه والفوائد، اذا ما قيست على تلك الدلائل الاربعة المذكورة آنفاً، يُدرك أن وقوع حقيقة الحشر وتحققها قطعي كقطعية ثبوت حقيقة الانسان السامية وحاجاته الكلية. بل هي اظهر دلالة من حاجة المعدة الى الاطعمة والاغذية، واوضح شهادةً منها. ويمكن ان يقدّر مدى تحققها تحققاً أعمق واكثر اذا ما سلبت الانسانية من هذه الحقيقة، الحشر، حيث تصبح ماهيتها التي هي سامية ومهمة وحيوية بمثابة جيفة نتنة ومأوى الميكروبات والجراثيم.
فليلق السمعَ علماء الاجتماع والسياسة والاخلاق من المعنيين بشؤون الانسان واخلاقه واجتماعه، وليأتوا ويبينوا بماذا سيملأون هذا الفراغ؟ وبماذا سيداوون ويضمدون هذه الجروح الغائرة العميقة؟!
النقطة الثانية
تبين هذه النقطة بايجاز شديد برهاناً واحداً - من بين البراهين التي لا حصر لها - على حقيقة الحشر وهو ناشئ من خلاصة شهادة سائر الاركان الايمانية. وعلى النحو الآتي.
ان جميع المعجزات الدالة على رسالة سيدنا محمد e مع جميع دلائل نبوته وجميع البراهين الدالة على صدقه، تشهد بمجموعها معاً، على حقيقة الحشر، وتدل عليها وتثبتها، لأن دعوته e طوال حياته المباركة قد انصبّت بعد التوحيد على الحشر. وأن جميع معجزاته وحججه الدالة على صدق الانبياء عليهم السلام - وتحمل الآخرين على تصديقهم - تشهد على الحقيقة نفسها، وهي الحشر. وكذا شهادة ((الكتب المنزلة)) التي رقّت الشهادة الصادرة من ((الرسل الكرام)) الى درجة البداهة، تشهدان على الحقيقة نفسها. وعلى النحو الآتي:
فالقرآن الكريم - ذو البيان المعجز - يشهد بجميع معجزاته وحججه وحقائقه - التي تثبت أحقيته - على حدوث الحشر ويثبته، حيث ان ثُلث القرآن بأكمله، وأوائل أغلب السور القصار، آيات جلية على الحشر. أي أن القرآن الكريم ينبئ عن الحقيقة نفسِها بآلاف من آياته الكريمة صراحة أو اشارةً ويثبتها بوضوح، ويظهرها بجلاء. فمثلاً:
] اذا الشمسُ كُوّرت[
] يا ايها الناسُ اتقوا ربَّكم ان زلزلة الساعة شيءٌ عظيم[
] اذا زلزلت الارض زلزالها[
] اذا السماءُ انفطرت[
] اذا السماء انشقت[
] عمّ يتساءلون[
] هل اتاك حديثُ الغاشية[
فيثبت القرآن الكريم بهذه الآيات وأمثالها في مفتتح ما يقارب أربعين سورة ان الحشر لا ريب فيه، وأنه حَدثٌ في غاية الأهمية في الكون، وان حدوثه ضروري جداً ولابد منه، ويبين بالآيات الأخرى دلائل مختلفة مقنعة على تلك الحقيقة.
تُرى ان كان كتاب تثمر اشارةٌ واحدةٌ لآيةٍ من آياتِه تلك الحقائق العلمية والكونية المعروفـة بالعـلـوم الاسـلامية، فكيـف اذن بشهادة آلاف من آيـاته ودلائـله التي تبين الايمان بالحشر كالشمس ساطعة؟ ألا يكون الجحود بهذا الايمان كانكار الشمس بل كانكار الكائنات قاطبة؟! ألا يكون ذلك باطلاً ومحالاً في مائة محال؟!
تُرى هل يمكن ان يوصَم آلاف الوعد والوعيد لكلام سلطان عزيز عظيم بالكذب أو انها بلا حقيقة، في حين قد يخوض الجيش غمار الحرب لئلا تُكذَّب اشارةٌ صادرة من سلطان.
فكيف بالسلطان المعنوي العظيم الذي دام حكمه وهيمنته ثلاثة عشر قرناً دون انقطاع، فربّى ما لا تعد من الارواح والعقول والقلوب والنفوس، وزكّاها وأدارها على الحق والحقيقة، ألا تكفي اشارة واحدة منه لإثبات حقيقة الحشر؟ علماً أن فيه آلاف الصراحة الواضحة المثبتة! أليس الذي لا يدرك هذه الحقيقة الواضحة احمقَ جاهلاً؟ ألا يكون من العدالة المحضة ان تكون النار مثواه؟
ثم ان الصحف السماوية والكتب المقدسة جميعها التي حكَمت كل منها لفترة من العصور والازمنة، قد صدّقت بآلاف من الدلائل دعوى القرآن الكريم في حقيقة الحشر مع ان بيانها لها مختصر وموجز، وذلك بمقتضى زمانها وعصرها، تلك الحقيقة القاطعة التي بيّنها القرآن الكريم الذي ساد حكمه على العصور جميعها، وهيمن على المستقبل كله، بيّنها بجلاء وافاض في ايضاحها.
يُدرج هنا نص ما جاء في آخر رسالة (المناجاة) انسجاماً مع البحث، تلك الحجة القاطعة الملخَّصة للحشر، والناشئة من شهادة سائر الاركان الايمانية ودلائلها على الايمان باليوم الآخر، ولاسيما الايمان بالرسل والكتب، والتي تبدد الاوهام والشكوك، حيث جاءت باسلوب موجز، وعلى صورة مناجاة.
((يا ربي الرحيم.. لقد أدركتُ بتعليم الرسول e وفهمتُ من تدريس القرآن الحكيم، ان الكتبَ المقدسة جميعها، وفي مقدمتها القرآن الكريم، والأنبياءَ عليهم السلام جميعهم، وفي مقدمتهم الرسول الاكرم e ، يدلّون ويشهدون ويشيرون بالاجماع والاتفاق الى ان تجليات الاسماء الحسنى - ذات الجلال والجمال - الظاهرةَ آثارُها في هذه الدنيا، وفي العوالم كافة، ستدوم دواماً اسطعَ وأبهرَ في أبد الآباد.. وان تجلياتها - ذات الرحمة - وآلاءها المــشاهدة نمـاذجــها في هذا العـالم الفاني، ستثمر بابهى نور واعظم تألق، وستبقى دوماً في دار السعادة.. وان اولئك المشتاقين الذين يتــملّونها - في هــذه الحيــاة الدنيا القصــيرة - بلهفــةٍ وشــوق سيرافـقـونـها بالمحبة والودّ، ويصحبونها الى الابد، ويظلون معها خالدين.. وان جميع الانبياء وهم ذوو الارواح النيرة وفي مقدمتهم الرسول الاكرم e ، وجميع الأولياء وهم اقطاب ذوي القلوب المنورة، وجميع الصديقين وهم منابع العقول النافذة النيّرة، كل اولئك يؤمنون ايماناً راسخاً عميقاً بالحشر ويشهدون عليه ويبشرون البشرية بالسعادة الابدية، وينذرون اهل الضلالة بأن مصيرهم النار، ويبشرون أهل الهداية بأن عاقبتهم الجنة، مستندين الى مئات المعجزات الباهرة والآيات القاطعة، والى ما ذكرتَه انت يا ربي مراراً وتكراراً في الصحف السماوية والكتب المقدسة كلها من آلاف الوعد والوعيد. ومعتمدين على عزة جلالك وسلطان ربوبيتك، وشؤونك الجليلة، وصفاتك المقدسة كالقدرة والرحمة والعناية والحكمة والجلال والجمال وبناءً على مشاهداتهم وكشفياتهم غير المعدودة التي تنبئ عن آثار الآخرة ورشحاتها. وبناءً على ايمانهم واعتقادهم الجازم الذي هو بدرجة علم اليقين وعين اليقين.
فيا قدير ويا حكيم ويا رحمن ويا رحيم ويا صادق الوعد الكريم، ويا ذا العزة والعظمة والجلال ويا قهار ذو الجلال. انت مقدّس ومنزّهٌ، وانت متعال عن ان تُوصِم بالكذب كل أوليائك وكل وعودك وصفاتك الجليلة وشؤونك المقدسة.. فتكذّبهم، أو تحجب ما يقتضيه قطعاً سلطان ربوبيتك بعدم استجابتك لتلك الأدعية الصادرة من عبادك الصالحين الذين احببتهم واحبّوك، وحبّبوا انفسهم اليك بالايمان والتصديق والطاعة، فانت منزّه ومتعال مطلق عن أن تصدّق أهل الضلالة والكفر في انكارهم الحشر، اولئك الذين يتجاوزون على عظمتك وكبريائك بكفرهم وعصيانهم وتكذيبهم لك ولوعودك، والذين يستخفّون بعزة جلالك وعظمة ألوهيتك ورأفة ربوبيتك..
فنحن نقدّس بلا حد ولا نهاية عدالتَك وجمالك المطلقين ورحمتك الواسعة وننزّهها من هذا الظلم والقبح غير المتناهي..
ونعتقد ونؤمن بكل ما اوتينا من قوة بأن الآلاف من الرسل والأنبياء الكرام، وبما لا يعدّ ولا يحصى من الاصفياء والأولياء الذين هم المنادون اليك هم شاهدون بحق اليقين وعين اليقين وعلم اليقين على خزائن رحمتك الأخروية وكنوز احساناتك في عالم البقاء، وتجليات اسمائك الحسنى التي تنكشف كلياً في دار السعادة..
ونؤمن ان هذه الشهادة حق وحقيقة، وان اشاراتهم صدق وواقع، وان بشاراتهم صادقة وواقعة.. فهؤلاء جميعاً يؤمنون بأن هذه الحقيقة الكبرى - أي الحشر - شعاع عظيم من اسم ((الحق)) الذي هو مرجع جميع الحقائق وشمسها، فيرشدون عبادك - باذن منك - ضمن دائرة الحق، ويعلمونهم بعين الحقيقة.
فيا ربي! بحق دروس هؤلاء، وبحرمة ارشاداتهم، آتنا ايماناً كاملاً وارزقنا حسن الخاتمة، لنا ولطلاب النور، واجعلنا اهلاً لشفاعتهم... آمين)).
وهكذا فان الدلائل والحجج التي تثبت صدق القرآن الكريم بل جميع الكتب السماوية، وان المعجزات والبراهين التي تثبت نبوة حبيب الله بل الانبياء جميعهم، تثبت بدورها أهم ما يدعون اليه، وهو تحقق الآخرة وتدل عليها. كما ان اغلب الادلة والحجج الشاهدة على وجوب واجب الوجود ووحدته سبحانه، هي بدورها شاهدة على دار السعادة وعالم البقاء التي هي مدار الربوبية والالوهية وأعظم مظهر لهما، وهي شاهدة على وجود تلك الدار وانفتاح أبوابها - كما سيُبين في المقامات الآتية - لأن وجوده سبحانه وتعالى، وصفاته الجليلة، وأغلب اسمائه الحسنى، وشؤونه الحكيمة، وأوصافه المقدسة أمثال الربوبية والالوهية والرحمة والعناية والحكمة والعدالة تقتضي جميعها الآخرة وتلازمها، بل تستلزم وجود عالم البقاء بدرجة الوجوب وتطلب الحشر والنشور للثواب والعقاب بدرجة الضرورة أيضاً.
نعم، ما دام الله موجوداً، وهو واحد، أزلي أبدي، فلابد ان محور سلطان الوهيته وهو الآخرة، موجود ايضاً.. وما دامت الربوبية المطلقة تتجلى في هذه الكائنات ولا سيما في الاحياء وهي ذات جلال وعظمة وحكمة ورأفة ظاهرة واضحة، فلابد أن هناك سعادة أبدية تنفي عن الربوبية المطلقة أيّ ظن بكونها تترك الخلق هملاً دون ثواب، وتبرئ الحكمة من العبث، وتصون الرأفة من الغدر. أي أن تلك الدار موجودة قطعاً ولابد من الدخول فيها.
وما دامت هذه الأنواع من الإنعام والاحسان واللطف والكرم والعناية والرحمة مشاهدة وظاهرة أمام العقول التي لم تنطفئ، وامام القــلوب الـتي لــم تمـت، وتدلّنا على وجوب وجود رب رحمن رحيم وراء الحجاب، فلابد من حياة باقية خالدة، لتنقذ الإنعامَ من الاستهزاء أي يأخذ الانعام مداه، وتصون الاحسان من الخداع ليستوفي حقيقته، وتنقذ العناية من العبث لتـستكمل تحقـقها، وتنجي الرحمــة من النقمة فيتم وجوهها، وتبرىء اللطف والكرم من الاهانة ليفيضا على العباد. نعم، ان الذي يجعل الاحسان احساناً حقاً، والنعمة نعمةً حقاً، هو وجود حياةٍ باقيةٍ خالدةٍ في عالم البقاء والخلود.. نعم، لابد ان يتحقق هذا.
وما دام قلم القدرة الذي يكتب في فصل الربيع وفي صحيفة ضيقة صغيرة، مائة الف كتاب، كتابةً متداخلة بلا خطأ ولا نصب ولا تعب، كما هو واضح جليٌ امام اعيننا. وان صاحب ذلك القلم قد تعهّد ووعد مائة ألف مرة لأكتبنّ كتاباً اسهل من كتاب الربيع المكتوب أمامكم ولأكتبنّه كتابةً خالدة، في مكان اوسع وارحبَ وأجملَ من هذا المكان الضيق المختلط المتداخل.. فهو كتاب لا يفنى ابداً، ولأجعلنكم تقرأونه بحيرة واعجاب!. وانه سبحانه يذكر ذلك الكتاب في جميع أوامره، اي ان اصول ذلك الكتاب قد كُتبت بلا ريب، وستُكتب حواشيه وهوامشه بالحشر والنشور، وستدوّن فيه صحائف اعمال الجميع..
وما دامت هذه الارض قد اصبحت ذات اهمية عظمى من حيث احتواؤها على كثرة المخلوقات، ومئات الالوف من انواع ذوي الحياة والأرواح المختلفة المتبدلة، حتى صارت قلب الكون وخلاصته، ومركزه وزبدته ونتيجته وسبب خلقه. فذُكرت دائماً صنواً للسماوات كما في ] رَبُّ السَّموَاتِ وَالاَرْضِ[ في جميع الأوامر السماوية...
وما دام ابن آدم يحكم في شتى جهات هذه الارض - التي لها هذه الماهيات والخواص - ويتصرف في اغلب مخلوقاتها مسخِّراً اكثر الاحياء له، جاعلاً اكثر المصنوعات تحوم حوله وفق مقاييسه وهواه، وحسب حاجاته الفطرية، وينظمها ويعرضها ويزيّنها، وينسّق الأنواع العجيبة منها في كل مكان بحيث لا يلفت نظر الانس والجن وحدهم، بل يلفت ايضاً نظر أهل السموات والكون قاطبة، بل حتى نظر مالك الكون، فنال الاعجاب والتقدير والاستحسان، وأصبحت له - من هذه الجهة - أهمية عظيمة، وقيمة عالية، فاظهر بما أوتي من علم ومهارة انه هو المقصود من حكمة خلق الكائنات، وأنه هو نتيجتها العظمى وثمرتها النفيسة، ولا غرو فهو خليفة الارض..وحيث أنه يعرض صنائع الخالق البديعة، وينظّمها بشكل جميل جذاب في هذه الدنيا، فقد اُجّل عذابه على عصيانه وكفره، وسُـمح له بالعيش في الدنيا واُمهل ليقوم بهذه المهمة بنجاح..
وما دام لابن آدم - الذي له هذه الماهية والمزايا خلقةً وطبعاً، وله حاجات لا تُحدّ مع ضعفه الشديد، وآلام لا تُعدّ مع عجزه الكامل - ربٌ قدير، له القدرة والرأفة المطلقة مما يجعل هذه الارض الهائلة العظيمة مخزناً عظيماً لأنواع المعادن التي يحتاجها الانسان، ومستودعاً لأنواع الاطعمة الضرورية له، وحانوتاً للأموال المختلفة التي يرغبها، وانه سبحانه ينظر اليه بعين العناية والرأفة ويربيه ويزوده بما يريد...
وما دام الرب سبحانه - كما في هذه الحقيقة - يحبّ الانسان، ويحبّب نفسه اليه، وهو باقٍ، وله عوالم باقية، ويُجري الامور وفق عدالته، ويعمل كل شئ وفق حكمته، وان عظمة سلطان هذا الخالق الأزلي وسرمدية حاكميته لا تحصرهما هذه الدنيا القصيرة، ولا يكفيهما عمر الانسان القصير جداً، ولا عمر هذه الارض المؤقتة الفانية. حيث يظل الانسان دون جزاء في هذه الدنيا لما يرتكبه من وقائع الظلم، وما يقترفه من انكار وكفر وعصيان، تجاه مولاه الذي انعم عليه ورباه برأفة كاملة وشفقة تامة، مما ينافي نظام الكون المنسّق، ويخالف العدالة والموازنة الكاملة التي فيها، ويخالف جماله وحسُنه، اذ يقضي الظالم القاسي حياته براحة، بينما المظلوم البائس يقضيها بشظف من العيش. فلا شك ان ماهية تلك العدالة المطلقة - التي يشاهد آثارها في الكائنات - لا تقبل أبداً، ولا ترضى مطلقاً، عدم بعث الظالمين العتاة مع المظلومين البائسين الذين يتساوون معاً امام الموت.
وما دام مالك الملك قد اختار الارض من الكون، واختار الانسان من الارض، ووهب له مكانة سامية، وأولاه الاهتمام والعناية، واختار الانبياء والأولياء والأصفياء من بين الناس، وهم الذين انسجموا مع المقاصد الربانية، وحبّبوا انفسهم اليه بالايمان والتسليم، وجعلهم أولياءه المحبوبين المخاطبين له، واكرمهم بالمعجزات والتوفيق في الأعمال وأدّب اعداءهم بالصفعات السماوية، واصطفى من بين هؤلاء المحبوبين إمامَهم ورمزَ فخرهم واعتزازهم، ألا وهو محمد صلى الله عليه وسلم . فنوّر بنوره نصف الكرة الأرضية ذات الأهمية، وخُمس البشرية ذوي الأهمية، طوال قرون عدة، حتى كأن الكائنات قد خُلقت لأجله، لبروز غاياتها جمـيعاً به، وظهورهـا بالدين الـذي بُعث به، وانجلائها بالقرآن الـذي اُنزل عليه. فبينما يستــحق أن يكافأ على خدماته الجليلة غير المحدودة بعمرٍ مديد غيـر محدود وهو أهـلٌ له، اِلاّ أنه قضى عمراً قصيراً وهو ثلاث وستون سنة في مجاهدة ونصَب وتعب! فهل يمكن، وهلٌ يعقل مطلقاً، وهل هناك أي احتمال ألاّ يُبـعَث هو وأمــثــاله وأحبـاؤه معاً؟! وألاّ يــكون الآن حياً بروحه؟! وان يفنى نهائياً ويصير الى العدم؟ كلا.. ثم كلا.. وحاشاه ألف ألف مرة. نعم، ان الكون وجميع حقائق العالم يدعو الى بعثه ويريده ويطلب من رب الكون حياتَه.
ولقد بيّنتْ رسالة ((الآية الكبرى)) وهي الشعاع السابع واثبتت بثلاثة وثلاثين اجماعاً عظيماً، كل منه كالجبل الأشم في قوة حجّته، بأن هذا الكون لم يصدر اِلاّ من يد واحدٍ أحد، وليس ملكاً اِلا لواحد احد. فاظهرت التوحيد - بتلك البراهين والمراتب بداهةً - انه محور الكمال الآلهي وقطبه. وبيّنت أنه بالوحدة والأحدية يتحول جميعُ الكون بمثابة جنودٍ مستنفرين لذلك الواحد الاحد، وموظفين مسخّرين له. وبمجئ الآخرة ووجودها تتحقق كمالاته وتصان من السقوط وتسود عدالته المطلقة، وتنجو من الظلم، وتُنزّه حكمته العامة وتبرأ من العبث والسفاهة، وتأخذ رحمتُه الواسعة مداها، وتُنقذ من التعذيب المشين. وتبدو عزته وقدرته المطلقتان وتُنقَذان من العجز الذليل. وتتقدّس كل صفة من صفاته سبحانه وتتجلى منزّهة جليلة.
فلابد ولا ريب مطلقاً أن القيامة ستقوم، وان الحشر والنشور سيحدث، وان أبواب دار الثواب والعقاب ستُفتح، بمقتضى ما في حقائق هذه الفقرات الثمانية المذكورة المبتدئة بـ ((ما دام)) التي هي مسألة دقيقة ونكتة ذات مغزى لطيف من بين مئات النكات الدقيقة للايمان بالله؛ وذلك: كي تتحقق اهمية الارض ومركزيتها، وأهمية الانسانية ومكانتها.. ولكي تتقرر عدالة رب الارض والانسان وحكمته ورحمته وسلطانه.. ولكي ينجو الاولياء والاحبّاء الحقيقيون والمشتاقون الى الرب الباقي من الفناء والاعدام الأبدي.. ولكي يرى اعظمُهم وأحبّهم وأعزّهم ثوابَ عمله، ونتائج خدماته الجليلة التي جعلت الكائنات في امتنان ورضى دائمين.. ولكي يتقدس كمال السلطان السرمدي من النقص والتقصير، وتتنزّه قدرتُه من العجز، وتبرأ حكمتُه من السفاهة، وتتعالى عدالته عن الظلم.
والخلاصة: ما دام الله جل جلاله موجوداً فان الآخرة لا ريب فيها مطلقاً.
وكما تثبت الاركان الايمانية الثلاثة - المذكورة آنفاً - الحشرَ بجميع دلائلها وتشهد عليه. كذلك يستلزم الركنان الايمانيان ((وبملئكته، وبالقدر خيره وشره من الله تعالى)) أيضاً الحشرَ، ويشهدان شهادة قوية على العالم الباقي ويدلان عليه على النحو الآتي:
ان جميع الدلائل والمشاهدات والمكالمات الدالة على وجود الملائكة ووظائف عبوديتهم، هي بدورها دلائل على وجود عالم الأرواح وعالم الغيب وعالم البقاء وعالم الآخرة ودار السعادة والجنة والنار اللتين ستعمران بالجن والانس، لان الملائكة يمكنهم - بإذن إلهي - ان يشاهدوا هذه العوالم ويدخلوها، لذا فالملائكة المقربون يخبرون بالاتفاق - كجبريل عليه السلام الذي قابل البشر - بوجود تلك العوالم المذكورة وتجوالهم فيها. فكما اننا نعلم بديهة وجود قارة امريكا التي لم نرها من كلام القادمين منها، كذلك يكون الايمان بديهة بما اخبرت به الملائكة - وهو بقوة مائة تواتر - عن وجود عالم البقاء ودار الآخرة والجنة والنار... وهكذا نؤمن ونصدق.
وكذلك الدلائل التي تثبت ((الايمان بالقدر)) - كما جاءت في رسالة القدر ((الكلمة السادسة والعشرين)) هي بدورها دلائل على الحشر ونشر الصحف وموازنة الاعمال عند الميزان الاكبر، ذلك لأن ما نراه أمام أعيننا من تدوين مقدّرات كل شئ على ألواح النظام والميزان، وكتابة احداث الحياة ووقائعها لكل ذي حياة في قواه الحافظة، وفي حبوبه ونواه، وفي سائر الالواح المثالية. وتثبيت دفاتر الاعمال لكل ذي روح ولا سيما الانسان، واقرارها في ألواح محفوظة.. كل هذا القدر من القَدَر المحيط، ومن التقدير الحكيم، ومن التدوين الدقيق، ومن الكتابة الأمينة، لا يمكن أن يكون الاّ لأجل محكمة كبرى، ولنيل ثواب وعقاب دائمين. والاّ فلا يبقى مغزى ولا فائدة أبداً، لذلك التدوين المحيط والكتابة التي تسجل وتحفظ أدق الامور. فيقع اذن ما هو خلاف الحكمة والحقيقة. أي اِنْ لم يحدث الحشر فان جميع معاني كتاب الكون الحقة التي كتبت بقلم القَدَر سوف تمسخ وتفسد! وهذا لا يمكن ان يكون مطلقاً، وليس له احتمال ابداً، بل هو محال في محال. كإنكار هذا الكون، بل هو هذيان ليس اِلاّ.
نحصل مما تقدم: ان جميع دلائل اركان الايمان الخمسة هي بدورها دلائل على الحشر ووجوده، وعلى النشور وحدوثه، وعلى وجود الدار الآخرة وانفتاح ابوابها. بل تستدعيه وتشهد عليه، لذا فانه من الوفاق الكامل والانسجام التام ان يبحث ثلث القرآن الكريم المعجز البيان بكامله عن الحشر لما له من الاسس والبراهين التي لا تتزعزع، ويجعله اساساً وركيزة لجميع حقائقه التي يرفعها على ذلك الحجر الاساس.
(انتهت المقدمة)
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-02-2011
  #12
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

القطعة الثانية

من الذيل

هي المقام الاول من تسعة مقامات لطبقات البراهين التسع التي تدور حول الحشر والتي أشارت اليها باعجاز الآية الكريمة الآتية:



] فَسبحانَ الله حين تُمسون وحين تُصبحون ^ وله الحمدُ في السموات والارض وَعَشياً وحين تُظهرون^ يُخرج الحيَّ من الميتِ ويُخرج الميتَ من الحي ويُحيي الارضَ بعد موتها وكذلك تخرجون[ (الروم: 17 - 19)

سيُبيَّن - ان شاء الله - ما اظهرته هذه الآيات الكريمة من البرهان الباهر والحجة القاطعة للحشر(1).

ولقد بيّنت في الخاصة الثامنة والعشرين من الحياة، ان الحياة تثبت اركان الايمان الستة، وتتوجه نحوها وتشير الى تحقيقها.

نعم! فما دامت (الحياة) هي حكمة خلق الكائنات، واهم نتيجتها وجوهرها، فلا تنحصر تلك الحقيقة السامية في هذه الحياة الدنيا الفانية القصيرة الناقصة المؤلمة، بل أن الخواص التسع والعشرين للحياة وعظمة ماهيتها، وما يُفهم من غاية شجرتها ونتيجتها، وثمرتها الجديرة بعظمة تلك الشجرة، ما هي اِلاّ الحياة الأبدية والحياة الآخرة والحياة الحية بحجرها وترابها وشجرها في دار السعادة الخالدة. والاّ يلزم ان تظل شجرة الحياة المجهَّزة بهذه الأجهزة الغزيرة المتنوعة في ذوي الشعور - ولا سيما الانسان - دون ثمر ولا فائدة ولا حقيقة، ولظل الانسان تعساً وشقياً وذليلاً وأحط من العصفور بعشرين درجة، بالنسبة لسعادة الحياة، مع أنه أسمى مخلوق وأكرم ذوي الحياة وارفع من العصفور بعشرين درجة.

بل العقل الذي هو أثمن نعمة يصبح بلاءً ومصيبة على الانسان بتفكره في أحزان الزمان الغابر ومخاوف المستقبل، فيعذّب قلبَه دائماً معكراً صفو لذة واحدة بتسعة آلام!. ولاشك أن هذا باطل مائة في المائة.

فهذه الحياة الدنيا اذن تثبت ركن (الايمان بالآخرة) اثباتاً قاطعاً بما تظهر لنا في كل ربيع اكثر من ثلاثمائة الف نموذج من نماذج الحشر.

فيا ترى هل يمكن لربّ قدير، يهئ ما يلزم حياتك من الحاجات المتعلقة بها جميعاً ويوفر لك اجهزتها كلها سواءٌ في جسمك أو في حديقتك أو في بلدك، ويرسله في وقته المناسب بحكمة وعناية ورحمة، حتى أنه يعلم رغبة معدتك فيما يكفل لك العيش والبقاء، ويسمع ما تهتف به من الدعاء الخاص الجزئي للرزق مبُدياً قبوله لذلك الدعاء بما بثّ من الاطعمة اللذيذة غير المحدودة ليُطمئن تلك المعدة ! فهل يمكن لهذا المدبّر القدير ان لا يعرفك؟ ولا يراك؟ ولا يهئ الاسباب الضرورية لأعظم غاية للانسان وهي الحياة الأبدية؟ ولا يستجيب لأعظم دعاء وأهمه وأعمّه، وهو دعاء البقاء والخلود؟ ولا يقبله بعدم انشائه الحياة الآخرة وايجاد الجنة؟ ولا يسمع دعاء هذا الانسان وهو أسمى مخلوق في الكون بل هو سلطان الارض ونتيجتها.. ذلك الدعاء العام القوي الصادر من الاعماق، والذي يهز العرش والفرش! فهل يمكن ان لا يهتم به اهتمامَه بدعاء المعدة الصغيرة ولا يُرضي هذا الانسان؟ ويعرّض حكمتَه الكاملة ورحمته المطلقة للانكار؟ كلا.. ثم كلا ألف ألف مرة كلا.

وهل يعقل ان يسمع اخفت صوت لأدنى جزء من الحياة فيستمع لشكواه ويسعفه، ويحلم عليه ويربيه بعناية كاملة ورعاية تامة وباهتمام بالغ مسخراً له اكبر مخلوقاته في الكون، ثم لا يسمع صوتاً كهزيم السماء لأعظم حياة وأسماها وألطفها وأدومها؟ وهل يعقل ألاّ يهتم بدعائه المهم وهو دعاء البقاء، وألاّ ينظر الى تضرعه ورجائه وتوسله؟ ويكون كمن يجهز بعناية كاملة جندياً واحداً بالعتاد، ولا يرعى الجيش الجرار الموالي له !! وكمن يرى الذرة ولا يرى الشمس! أو كمن يسمع طنين الذباب ولا يسمع رعود السماء! حاشَ لله مائة ألف مرة حاشَ لله.

وهل يقبل العقل - بوجه من الاوجه - ان القدير الحكيم ذا الرحمة الواسعة وذا المحبة الفائقة وذا الرأفة الشاملة والذي يحب صنعته كثيراً، ويحبّب نفسه بها الى مخلوقاته وهو أشد حباً لمن يحبونه، فهل يعقل ان يُفني حياة مَن هو اكثر حباً له، وهو المحبوب، وأهلٌ للحب، وعابدٌ لخالقه فطرةً؟ ويُفني كذلك لب الحياة وجوهرها وهو الروح، بالموت الأبدي والاعدام النهائي!! ويولّد جفوة بينه وبين محبيه ويؤلمهم أشد الايلام! فيجعل سر رحمته ونور محبته معرّضاً للانكار! حاشَ لله ألف مرة حاش للّه... فالجمال المطلق الذي زيّن بتجليه هذا الكون وجمّله، والرحمة المطلقة التي أبهجت المخلوقات قاطبة وزيّنتها، لاشك انهما منزّهتان ومقدستان بلا نهاية ولا حد عن هذه القساوة وعن هذا القبح المطلق والظلم المطلق.

النتيجة:

ما دامت في الدنيا حياة، فلابد ان الذين يفهمون سر الحياة من البشر، ولا يسيئون استعمال حياتهم، يكونون اهلاً لحياة باقية، في دار باقية وفي جنة باقية... آمنا.

* * *

ثم، ان تلألؤ المواد اللماعة على سطح الارض، وتلمّع الفقاعات والحباب والزبد على سطح البحر، ثم انطفاء ذلك التلألؤ والبريق بزوال الفقاعات ولمعان التي تعقبها كأنها مرايا لشُميسات خيالية يظهر لنا بداهة ان تلك اللمعات ما هي اِلاّ تجلي انعكاس شمسٍ واحدة عالية. وتذكر بمختلف الالسنة وجود الشمس، وتشير اليها بأصابع من نور.. وكذلك الامر في تلألؤ ذوي الحياة على سطح الارض وفي البحر، بالقدرة الإلهية وبتجلّى اسم ((المحيي)) للحي القيوم جلّ جلاله، واختفائها وراء ستار الغيب لفسح المجال للذي يخلفها - بعد أن ردّدت ((يا حي)) - ما هي اِلاّ شهادات واشارات للحياة السرمدية ولوجوب وجود الحي القيوم سبحانه وتعالى.

وكذا، فان جميع الدلائل التي تشهد على العلم الإلهي الذي تُشاهَد آثاره من تنظيم الموجودات، وجميع البراهين التي تثبت القدرة المتصرفة في الكون، وجميع الحجج التي تثبت الارادة والمشيئة المهيمنة على ادارة الكون وتنظيمه، وجميع العلامات والمعجزات التي تثبت الرسالات التي هي مدار الكلام الرباني والوحي الإلهي.. جميع هذه الدلائل التي تشهد وتدلّ على الصفات الإلهية السبع الجليلة، تدل وتشهد أيضاً بالاتفاق على حياة ((الحي القيوم)) سبحانه؛ لأنه لو وجدت الرؤية في شئ فلابد أن له حياة أيضاً، ولو كان له سمع فذلك علامة الحياة، ولو وجد الكلام فهو اشارة الى وجود الحياة، ولو كان هناك الاختيار والارادة فتلك مظاهر الحياة.. وهكذا فان جميع دلائل الصفات الجليلة التي تشاهد آثارها ويُعلم بداهة وجودها الحقيقي، أمثال القدرة المطلقة، والارادة الشاملة، والعلم المحيط، تدل على حياة ((الحي القيوم)) ووجوب وجوده، وتشهد على حياته السرمدية التي نوّرت بشعاعٍ منها جميعَ الكون وأحيَت بتجلٍ منها الدار الآخرة كلها بذراتها معاً..

* * *

والحياة كذلك تنظر وتدل على الركن الايماني (الايمان بالملائكة) وتثبته رمزاً.

اذ ما دامت الحياة هي أهم نتيجةٍ للكون، وان ذوي الحياة لنفاستهم هم اكثر انتشاراً وتكاثراً، وهم الذين يتتابعون الى دار ضيافة الارض قافلة إثر قافلة، فتعمّر بهم وتبتهج. وما دامت الكرة الأرضية هي محط هذا السيل من ذوي الحياة، فتملأ وتخلى بحكمة التجديد والتكاثر باستمرار، ويُخلق في أخس الاشياء والعفونات ذوو حياة بغزارة، حتى اصبحت الكرة الأرضية معرضاً عاماً للاحياء.. وما دام يُخلق بكثرة هائلة على الأرض أصفى خلاصة لترشح الحياة وهو الشعور والعقل والروح اللطيفة ذات الجوهر الثابت، فكأن الأرض تحيا وتتجمل بالحياة والعقل والشعور والارواح.. فلا يمكن ان تكون الاجرام السماوية التي هي اكثر لطافة واكثر نوراً وأعظم أهمية من الارض جامدة بلا حياة وبلا شعور. فالذين سيعمّرون السماوات اذن يعمرونها ويبهجون الشموس والنجوم، ويهبون لها الحيوية، ويمثلون نتيجة خلق السماوات وثمرتها، والذين سيتشرفون بالخطابات السبحانية، هم ذوو شعور وذوو حياة من سكان السموات وأهاليها المتلائمين معها حيث يوجدون هناك بسرّ الحياة، وهم الملائكة.

* * *

وكذلك ينظر سر الحياة وماهيتها ويتوجه الى ((الايمان بالرسل)) ويثبته رمزاً.

نعم! ما دام الكون قد خُلق لأجل الحيـاة، وان الحيــاة هــي اعظـم تجل واكمل نقش وأجمل صنعة للحي القيوم جـلّ جلاله، وما دامت حياته الســرمدية الخـالدة تظهر وتكشف عن نفسها بارسال الرســل وانـزال الكتب. اِذ لو لم تكن هناك ((رسل)) ولا ((كتب)) لما عُرفت تلك الحياة الازلية، فكما ان تكلم الفرد يبين حيويته وحياته كذلك الانبياء والرسل عليهم السلام والكتب المنزلة عليهم، يبـيـنون ويدلون على ذلك المتكلم الحي الذي يأمر وينهى بكلماته وخطاباته من وراء الغيب المحجوب وراء ستار الكون. فلابد ان الحياة التي في الكون تدل دلالة قاطعة على ((الحي الازلي)) سبحانه وتعالى وعلى وجوب وجوده،كما أن شعاعات الحياة الازلية كذلك وتجلياتها تنظر وتتوجه الى مالها ارتباطات وعلاقات معها من اركان الايمان مثل (ارسال الرسل) و (انزال الكتب) وتثبتهما رمزاً، ولا سيما ((الرسالة المحمدية)) و ((الوحي القرآني)). اذ يصح القول: انهما ثابتان قاطعان كقطعية ثبوت الحياة، حيث انهما بمثابة روح الحياة وعقلها.

نعم، كما ان الحياة هي خلاصة مترشحة من هذا الكون، والشعور والحس مترشحان من الحياة، فهما خلاصتها، والعقل مترشح من الشعور والحس، فهو خلاصة الشعور، والروح هي الجوهر الخالص الصافي للحياة، فهي ذاتها الثابتة المستقلة. كذلك الحياة المحمدية - المادية والمعنوية - مترشحة من الحياة ومن روح الكون، فهي خلاصة خلاصتها والرسالة المحمدية مترشحة من حسّ الكون وشعورهِ وعقلِه، فهي اصفى خلاصته، بل ان حياة محمد e - المادية والمعنوية - بشهادة آثارها حياة لحياة الكون، والرسالة المحمدية شعور لشعور الكون ونور له. والوحي القرآني بشهادة حقائقه الحيوية روح لحياة الكون وعقل لشعوره.. أجل ... أجل... أجل.

فاذا ما فارق نور الرسالة المحمدية الكون وغادره، مات الكون وتوفيت الكائنات، واذا ما غاب القرآن وفارق الكون، جنّ جنونه وفقدت الكرة الأرضية صوابها، وزلزل عقلها، وظلت بلا شعور، وأصطدمت باحدى سيارات الفـضاء، وقامت القيامة.

والحـيـاة كـذلك، تنظر الى الركـن الايماني ((الـقـدر)) وتدل عليــه وتثبـته رمــزاً؛ اذ ما دامت الحياة ضياءً لعالم الشهادة وقد استولت عليه وأحاطت به، وهي نتيجة الوجود وغايته، واوسع مرآةٍ لتجليات خالق الكون، وأتم فهرس ونموذج للفعالية الربانية، حتى كأنها بمثابة نوع من خطتها ومنهجها - اذا جاز التشبيه - فلابد أن سر الحياة يقتضي ان يكون عالم الغيب أيضاً - وهو بمعنى الماضي والمستقبل، أي المخلوقات الماضية والقابلة - في نظام وانتظام وان يكون معلوماً ومشــهوداً ومتـعيناً ومتهيأً لإمـتـثـال الأوامر الـتـكوينـية، أي كــأنه في حـياة معنوية. مَثَلُها كمثل تلك

البذرة الاصلية للشجرة وأصولها، والنوى والاثمار التي في منتهاها، التي تتميز بمزايا نوعٍ من الحياة كالشجرة نفسها. بل قد تحمل تلك البذور قوانين حياتية أدق من قوانين حياة الشجرة.

فكما أن البذور والأصول التي خلفها الخريف الماضي، وسيخلفها هذا الربيع تحمل نور الحياة وتسير وفق قوانين حياتية، مثل ما يحمله هذا الربيع من حياة، كذلك شجرة الكائنات، وكلُّ غصنٍ منه وكلُّ فرعٍ، له ماضيه ومستقبله، وله سلسلة مؤلفة من الاطوار والاوضاع، القابلة والماضية، ولكلّ نوعٍ ولكلّ جزء منه وجودٌ متعدد بأطوار مختلفة في العلم الإلهي، مشكلاً بذلك سلسلةَ وجودٍ علمي. والوجود العلمي هذا، الشبيه بالوجود الخارجي هو مظهرٌ لتجلٍ معنوي للحياة العامة، حيث تؤخذ المقدرات الحياتية من تلك الالواح القدرية الحية ذات المغزى العظيم.

نعم، ان امتلاء عالم الارواح - وهو نوع من عالم الغيب - بالارواح التي هي عين الحياة، ومادتها، وجوهرها وذواتها، يستلزم ان يكون الماضي والمستقبل - وهما نوعان من عالم الغيب وقسم ثان منه - متجلّية فيهما الحياة.. وكذا فان الانتظام التام والتناسق الكامل في الوجود العلمي الإلهي لأوضاع ذات معانٍ لطيفة لشئ ما ونتائجَه واطوارَه الحيوية ليبيّن ان له اهلية لنوع من الحياة المعنوية.

نعم، ان مثل هذا التجلي، تجلي الحياة الذي هو ضياء شمس الحياة الازلية لن ينحصر في عالم الشهادة هذا فقط، ولا في هذا الزمان الحاضر، ولا في هذا الوجود الخارجي، بل لابد أن لكل عالم من العوالم مظهراً من مظاهر تجلي ذلك الضياء حسب قابليته. فالكونُ اذن بجميع عوالمه، حيّ ومشع مضئ بذلك التجلي، وِالاّ لأصبح كل من العوالم - كما تراه عين الضلالة - جنازة هائلة مخيفة تحت هذه الدنيا المؤقتة الظاهرة، وعالماً خرباً مظلماً.

وهكذا يُفهم وجهٌ من أوجه الايمان بالقضاء والقدر من سر الحياة ويثبت به ويتضح. أي كما تظهر حيوية عالم الشهادة والموجودات الحاضرة بانتظامها وبنتائجها، كذلك المخلوقات الماضية والآتية التي تعدّ من عالم الغيب لها وجود معنوي، ذو حياة معنى، ولها ثبوت علمي ذو روح بحيث يظهر باسم المقدرات اثر تلك الحياة المعنوية بوساطة لوح القضاء والقدر.

القطعة الثالثة

من الذيل

C سؤال يرد بمناسبة مبحث الحشر:

ان ما ورد في القرآن الكريم مراراً ] اِنْ كَانَتْ اِلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً[ (يس:29)، ] وَمَآ اَمْرُ السَّاعَةِ اِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ [ (النحل:77) يـبين لنا ان الحشر الاعظم سيظهر فجأة الى الوجود، في آن واحد بلا زمان. ولكن العقول الضيقة تطلب امثلة واقعية مشهودة كي تقبل وتذعن لهذا الحدث الخارق جداً والمسألة التي لا مثيل لها.

الجواب: ان في الحشر ثلاث مسائل هي: عودةُ الارواح الى الاجساد، وإحياءُ الاجساد، وانشاء الاجساد وبناؤها.

المسألة الأولى: وهي مجئ الارواح وعودتها الى اجسادها ومثاله هو:

اجتماع الجنود المنتشرين في فترة الاستراحة والمتفرقين في شتى الجهات على الصوت المدوي للبوق العسكري.

نعم، ان الصور الذي هو بوق اسرافيل عليه السلام، ليس قاصراً عن البوق العسكري كما أن طاعة الارواح التي هي في جهة الأبد وعالم الذرات والتي أجابت بـ] قَالُوا:بَلى[ (الاعراف:172) عندما سمعت نداء ] اَلَسْتُ بِرَبِكُم[ (الاعراف: 172) المقبل من اعماق الازل ونظامها يفوق بلاشك أضعاف اضعاف ما عند أفراد الجيش المنظم. وقد اثبتت((الكلمة الثلاثون)) ببراهين دامغة ان الارواح ليست وحدها جيش سبحاني بل جميع الذرات ايضاً جنوده المتأهبون للنفير العام.

المسألة الثانية: وهي إحياء الاجساد. ومثالُه هو:

مثلما يمكن اِنارة مئات الآلاف من المصابيح الكهربائية ليلة مهرجان مدينة عظيمة، من مركز واحد في لحظة واحدة، كأنها بلا زمان. كذلك يمكن انارة مئات الملايين من مصابيح الأحياء وبعثها على سطح الارض من مركز واحد. فما دامت الكهرباء وهي مخلوقة من مخلوقات الله سبحانه وتعالى وخادمة إضاءة في دار ضيافته، لها هذه الخصائص والقدرة على القيام بأعمالها حسب ما تتلقاه من تعليمات وتبليغات ونظام من خالقها، فلابد ان الحشر الاعظم سيحدث كلمح البصر ضمن القوانين المنظمة الإلهية التي يمثلها آلاف الخدم المنوّرِين كالكهرباء.

المسألة الثالثة: وهي انشاء الاجساد فوراً ومثاله هو:

انشاء جميع الاشجار والاوراق التي يزيد عددها ألف مرة على مجموع البشرية، دفعة واحدة في غضون بضعة ايام في الربيع، وبشكل كامل، وبالهيئة نفسها التي كانت عليها في الربيع السابق.. وكذلك ايجاد جميع أزهار الاشجار وثمارها واوراقها بسرعة خاطفة، كما كانت في الربيع الماضي.. وكذلك تنبّه البُذيرات والنوى والبذور وهي لا تحصى ولا تعد والتي هي منشأ ذلك الربيع في آن واحد معاً وانكشافها واحياؤها.. وكذلك نشور الجثث المنتصبة والهياكل العظمية للاشجار، وامتثالها فوراً لأمر ((البعث بعد الموت)) .. وكذلك احياء افراد انواع الحيوانات الدقيقة وطوائفها التي لا حصر لها بمنتهى الدقة والاتقان.. وكذلك حشر أمم الحشرات ولا سيما الذباب (الماثل امام اعيننا والذي يذكرنا بالوضوء والنظافة لقيامه بتنظيف يديه وعيونه وجناحيه باستمرار وملاطفته وجوهنا) الذي يفوق عدد ما ينشر منه في سنة واحدة عدد بنى آدم جميعهم من لدن آدم عليه السلام.. فحشر هذه الحشرة في كل ربيع مع سائر الحشرات الاخرى واحياؤها في بضعة ايام، لا يعطي مثالاً واحداً بل آلاف الامثلة على انشاء الاجساد البشرية فوراً يوم القيامة.

نعم، لما كانت الدنيا هي دار ((الحكمة)) والدار الآخرة هي دار ((القدرة)) فان ايجاد الاشياء في الدنيا صار بشئ من التدريج ومع الزمن. بمقتضى الحكمة الربانية وبموجب اغلب الاسماء الحسنى امثال ((الحكيم، المرتّب، المدبر، المربي)). اما في الاخرة فان ((القدرة)) و ((الرحمة)) تتظاهران اكثر من ((الحكمة)) فلا حاجة الى المادة والمدة والزمن ولا الى الانتظار. فالاشياء تنشأ هناك نشأة آنية. وما يشير اليه القرآن الكريم بـ ] وَمَآ اَمْرُ السَّاعَةِ إلاّ كَلَمْحِ البَصَرِ اَوْ هُوَ اَقْرَبُ[ (النحل:77)، هو ان ما ينشأ هنا من الاشياء في يوم واحد وفي سنة واحدة ينشأ في لمحة واحدة كلمح البصر في الآخرة.

واذا كنت ترغب ان تفهم ان مجئ الحشر أمر قطعي كقطعية مجئ الربيع المقبل وحتميته، فانعم النظر في ((الكلمة العاشرة)) و ((الكلمة التاسعة والعشرين)). وان لم تصدق به كمجئ هذا الربيع، فلك ان تحاسبني حساباً عسيراً.

المسألة الرابعة: وهي موت الدنيا وقيام الساعة، ومثاله:

انه لو اصطدم كوكب سيار او مذنّب بأمر رباني بكرتنا الارضية التي هي دار ضيافتنا، لدمّر مأوانا ومسكننا - أي الارض - كما يُدمّر في دقيقة واحدة قصر بُني في عشر سنوات.

القطعة الرابعة

من الذيل

] قَالَ مَنْ يُحْيىِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَميمٌ ^ قُل يُحْييْهَا الَّذى اَنْشَاَهَآ اَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَليمٌ[ (يس:78ــ 79)

لقد جاء في المثال الثالث في الحقيقة التاسعة للكلمة العاشرة، أنه:

اذا قال لك احدهم ان شخصاً عظيماً في الوقت الذي ينشئ امام انظارنا جيشاً ضخماً في يوم واحد يمكنه ان يجمع فرقة كاملة من الجنود المتفرقين للاستراحة بنفخ من بوق، ويجعلهم ينضوون تحت نظام الفرقة، وقلتَ: لا، لا أصدق ذلك، ألا يكون جوابك وانكارك جنوناً وبلاهة؟ كذلك، فان الذي أوجد اجساد الحيوانات كافة، وذوي الحياة كافة من العدم، تلك الاجساد التي هي كالفرق العسكرية للكائنات الشبيهة بالجيش الضخم ونظّم ذراتها ولطائفها ووضعها في موضعها اللائق، بنظام كامل وميزان حكيم بأمر ((كن فيكون))، وهو الذي يخلق في كل قرن بل في كل ربيع، مئآت الآلاف من انواع ذوي الحياة وطوائفها الشبيهة بالجيش.. فهل يمكن ان يُسأل هذا القدير وهذا العليم كيف سيجمع بصيحة واحدة من بوق اسرافيل جميع الذرات الاساس والاجزاء الاصلية من الجنود المتعارفين تحت لواء فرقة الجسد ونظامها؟! وهل يمكن ان يُستبعد هذا منه؟ أوَ ليس استبعاده بلاهة وجنوناً؟

وكذلك فان القرآن الكريم قد يذكر من افعال الله الدنيوية العجيبة والبديعة كي يعدّ الاذهان للتصديق ويحضر القلوب للايمان بافعاله المعجزة في الآخرة. أو أنه يصوّر الافعال الإلهية العجيبة التي ستحدث في المستقبل والآخرة بشكل نقنع ونطمئن اليه بما نشاهده من نظائرها العديدة. فمثلاً.

] اَوَلَمْ يَرَ الاِنْسانُ اَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَاِذَا هُوَ خَصيمٌ مُبينٌ[ الى آخر سورة (يس).. هنا في قضية الحشر، يثبت القرآن الكريم ويسوق البراهين عليها، بسبع أو ثماني صور مختلفة متنوعة.

انه يقدّم النشأة الاولى اولاً، ويعرضها للانظار قائلاً: انكم ترون نشأتكم من النطفة الى العلقة ومن العلقة الى المضغة ومن المضغة الى خلق الانسان، فكيف تنكرون اذن النشأة الاخرى التي هي مثل هذا بل أهون منه؟.. ثم يشير بـ ] اَلّذى جَعَلَ لكم مِنَ الشَّجَرِ الاَخْـضَرِ نَاراً [ (يس:80) الى تلك الآلاء وذلك الاحسان والانعام الذي انعمه الحق سبحانه على الانسان، فالذي ينعم عليكم مثل هذه النعم، لن يترككم سدى ولاعبثاً، لتدخلوا القبر وتناموا دون قيام.. ثم انه يقول رمزاً : انكم ترون احياء واخضرار الاشجار الميتة، فكيف تستبعدون اكتساب العظام الشبيهة بالحطب للحياة ولا تقيسون عليها؟.. ثم هل يمكن ان يعجز مَن خلق السماوات والارض عن اِحياء الانسان واماتته وهو ثمرة السموات والارض، وهل يمكن لمن يدير أمر الشجرة ويرعاها ان يهمل ثمرتها ويتركها للآخرين؟! فهل تظنون أن يُترك للعبث ((شجرة الخلقة)) التي عجنت جميع اجزائها بالحكمة، ويهمل ثمرتها ونتيجتها؟.. وهكذا فان الذي سيحييكم في الحشر هو مَن بيده مقاليد السموات والارض، وتخضع له الكائنات خضوع الجنود المطيعين لأمره فيسخرهم بأمر((كن فيكون)) تسخيراً كاملاً.. ومَن عنده خلق الربيع يسير وهيّن كخلق زهرة واحدة، وايجاد جميع الحيوانات سهل على قدرته كايجاد ذبابة واحدة. فلا ولن يُسأل للتعجيز صاحب هذه القدرة: ] مَنْ يُحيْىِ الْعِظَامََ[ ؟

ثم انه بعبارة ] فَسُبْحَانَ الَّذى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِ شَيْء[ (يس:83) يبين انه سبحانه بيده مقاليد كل شئ، وعنده مفاتيح كل شئ، يقلب الليل والنهار، والشتاء والصيف بكل سهولة ويسر كأنها صفحات كتاب، والدنيا والآخرة هما عنده كمنزلين يغلق هذا ويفتح ذاك. فما دام الأمر هكذا فان نتيجة جميع الدلائل هي: ] واَلَيْهِ تُرْجَعُونَ[ أي انه يحييكم من القبر، ويسوقكم الى الحشر، ويوفي حسابكم عند ديوانه المقدس.

وهكذا ترى ان هذه الآيات قد هيأت الاذهان، واحضرت القلوب لقبول قضية الحشر، بما أظهرت نظائرها بافعال في الدنيا.

هذا وقد يذكر القرآن ايضاً افعالاً اخروية بشكل يحسس ويشير الى نظائرها الدنيوية، ليمنع الانكار والاستبعاد فمثلاً:



بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيم

] اِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَت^ وَاِذَا النُّجُومُ انْكَـدَرَت^ وَاِذَا الْجِـبَـالُ سُيـِّرَت ^ وَاِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَت ^ وَاِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَت ^ وَاِذَا الْبِحَارُ سُجِرَت^ وَاِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَت ^ وَاِذَا الـمَوْؤُدَةُ سُئِلَت ^ بِاَىِّ ذَنْبٍ قُتِلَت ^ وَاذَِا الصُّحُفُ نُشِرَت^ وَاِذَا السَّمآءُ كُشِطَت ^ وَاِذَا الْجَحيمُ سُعِّرَت^ وَاِذَا الْجَنَّةُ اُزْلِفَت ^ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَآ اَحْـضَرَت[ الى اخر السورة

بِسْم الله الرَّحْمنِ الرَّحيم

] اِذَا السَّمَآءُ اْنفَطَرَت ^ وَاِذَا الْكَواكِبُ اْنَتَثَرَت ^ وَاِذَا البِحَارُ فُجِرَت ^ وَاِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَت^ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَاَخَّرَتْ[ الى آخر السورة

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيم

] اِذَا السَّمَآءُ انْشَقَّت ^ وَاَذِنَتْ لِرَبِهَا وَحُقَّت ^ وَاِذَا الارْضُ مُدَّت ^ وَاَلْقَتْ مَا فِىهَا وَتَخَلَّت ^ وَاَذِنَتْ لِرَبِهَا وَحُقَّتْ [ الى آخر السورة

فترى ان هذه السوّر تذكر الانقلابات العظيمة والتصرفات الربانية الهائلة باسلوب يجعل القلب أسير دهشة هائلة يضيق العقل دونها ويبقى في حيرة. ولكن الانسان ما أن يرى نظائرها في الخريف والربيع اِلاّ ويقبلها بكل سهولة ويسر. ولما كان تفسير السور الثلاث هذه يطول، لذا سنأخذ كلمة واحدة نموذجاً، فمثلاً:

] وَاِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ[ تفيد هذه الآية: ستنشر في الحشر جميع اعمال الفرد مكتوبة على صحيفة. وحيث ان هذه المسألة عجيبة بذاتها فلا يرى العقل اليها سبيلاً، اِلاّ أن السورة كما تشير الى الحشر الربيعي وكما ان للنقاط الاخرى نظائرها وأمثلتها كذلك نظير نشر الصحف ومثالها واضح جلي. فلكل ثمر ولكل عشب ولكل شجر، أعمال وله أفعال وله وظائف وله عبودية وتسبيحات بالشكل الذي تـظهر به الاسماء الإلهية الحسنى، فجميع هذه الاعمال مندرجة مع تاريخ حياته في بذوره ونواه كلها. وستظهر جميعها في ربيع آخر ومكان آخر. أي انه كما يذكر بفصاحة بالغة أعمال أمهاته وأصوله بالصورة والشكل الظاهر، فانه ينشر كذلك صحائف أعماله بنشر الاغصان وتفتح الاوراق والاثمار.

نعم، اِن الذي يفعل هذا أمام أعيننا بكل حكمة وحفظ وتدبير وتربية ولطف هو الذي يقول ] وَاِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ[ .

وهكذا قس النقاط الاخرى على هذا المنوال. وان كانت لديك قوة استنباط فاستنبط.

ولاجل مساعدتك ومعاونتك سنذكر ] اِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ[ ايضاً. فان لفظ ((كُوِّرَتْ)) الذي يرد في هذا الكلام هو بمعنى: لُفّتْ وجُمعتْ، فهو مثال رائع ساطع فوق أنه يومئ الى نظيره ومثيله في الدنيا:

اولاً: ان الله سبحانه وتعالى قد رفع ستائر العدم والاثير والسماء، عن جوهرة الشمس التي تضئ الدنيا كالمصباح، فأخرجها من خزينة رحمته واظهرها الى الدنيا. وسيلفّ تلك الجوهرة بأغلفتها عندما تنتهي هذه الدنيا وتنسد أبوابها.

ثانياً: ان الشمس موظفة ومأمورة بنشر غلالات الضوء في الاسحار ولفّها في الأماسي، وهكذا يتناوب الليل والنهار عل هامة الارض، وهي تجمع متاعها مقللة من تعاملها، أو قد يكون القمر - الى حدٍ ما - نقابا لأخذها وعطائها ذلك. أي كما ان هذه الموظفة تجمع متاعها وتطوي دفاتر اعمالها بهذه الاسباب فلابد من أن يأتي يوم تعفى من مهامها، وتفصل من وظيفتها، حتى ان لم يكن هناك سبب للاعفاء والعزل. ولعلّ توسع ما يشاهده الفلكيون على وجهها من البقعتين الصغيرتين الآن اللتين تتوسعان وتتضخمان رويداً رويداً، تسترجع الشمس - بهذا التوسع - وبأمر رباني ما لفّته ونشرته على رأس الارض باذن إلهي من الضوء، فتلف به نفسها. فيقول ربّ العزة: الى هنا انتهت مهمتك مع الارض، فهيّا الى جهنم لتحرقي الذين عبدوك وأهانوا موظفة مسخرة مثلك وحقروها متهمين اِياها بالخيانة وعدم الوفاء.

بهذا تقرأ الشمسُ الامرَ الرباني ] اِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ[ على وجهها المبقع.

القطعة الخامسة

من الذيل

ان اخبار مائة واربعة وعشرين ألفاً من المصطفين الاخيار وهم الانبياء والمرسلون(1) عليهم الصلاة والسلام - كما نص عليه الحديث - اخباراً بالاجماع والتواتر مستندين الى الشهود عند بعضهم والى حق اليقين عند آخرين، عن وجود الدار الآخرة، واعلانهم بالاجماع ان الناس سيساقون اليها، وان الخالق سبحانه وتعالى سيأتي بالدار الآخرة بلا ريب، مثلما وعد بذلك وعداً قاطعاً.

وان تصديق مائة واربعة وعشرين مليوناً من الأولياء كشفاً وشهوداً ما أخبر به هؤلاء الأنبياء عليهم السلام، وشهادتهم على وجود الآخرة بعلم اليقين دليل قاطع وايّ دليل على وجود الآخرة..

وكذا، فان تجلّيات جميع الأسماء الحسنى لخالق الكون المتجلّية في ارجاء العالم كله، تقتضي بالبداهة وجود عالم آخر خالد، وتدل دلالة واضحة على وجود الآخرة.

وكذا القدرة الإلهية وحكمتها المطلقة، التي لا اسراف فيها ولا عبث، والتي تحيي جنائز الأشجار الميّتة وهياكلها المنتصبة، تحييها وهي لا تعد ولا تحصى على سطح الأرض في كل ربيع، وفي كل سنة، بأمر ((كن فيكون)) وتجعلها علامة على ((البعث بعد الموت)) فتحشر ثلائمائة ألف نوع من طوائف النباتات وأمم الحيوانات وتنشرها، مظهرةً بذلك مئات الالوف من نماذج الحشر والنشور ودلائل وجود الآخرة.

وكذا الرحمة الواسعة التي تديم حياة جميع ذوي الأرواح المحتاجة الى الرزق، وتعيّشها بكمال الرأفة عيشة خارقة للغاية. والعناية الدائمة التي تظهر انواع الزينة والمحاسن بما لا يُعدّ ولا يحصى، في فترة قصيرة جداً في كل ربيع. لا شك أنهما تستلزمان وجود الآخرة بداهة.



وكذا، عشق البقاء، والشوق الى الأبدية وآمال السرمدية المغروزة غرزاً لا انفصام لها في فطرة هذا الانسان الذي هو أكمل ثمرة لهذا الكون، وأحب مخلوق الى خالق الكون، وهو أوثق صلة مع موجودات الكون كله، لا شك انه يشير بالبداهة الى وجود عالم باقٍ بعد هذا العالم الفاني، والى وجود عالم الآخرة ودار السعادة الأبدية.

فجميع هذه الدلائل تثبتبقطعية تامة - الى حدّ يستلزم القبول - وجود الآخرة بمثل بداهة وجود الدنيا(1). فما دام أهم درس يلقننا القرآن ايّاه هو ((الأيمان بالآخرة)) وهذا الدرس رصين ومتين الى هذه الدرجة، وفي ذلك الايمان نور باهر ورجاء شديد وسلوان عظيم ما لو اجتمعت مائة الف شيخوخة في شخص واحد لكفاها ذلك النور، وذلك الرجاء، ذلك السلوان النابع من هذا الايمان؛ لذا علينا نحن الشيوخ ان نفرح بشيخوختنا ونبتهج قائلين:

((الحمد لله على كمال الايمان
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-02-2011
  #13
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

الكلمة الحادية عشرة

بسم الله الرحمن الرحيم

] والشمسِ وضُحاها ^ والقمرِ اذا تلاها ^ والنهارِ اذا جلاّها ^ واليّل اذا يَغْشَاها^ والسماِء ومَا بناها ^ والارضِ وما طَحاها ^ ونفسٍ وما سوَّاها..[ (الشمس:1ـ7)

ايها الأخ ! ان شئت أن تفهم شيئاً من اسرار حكمة العالم وطلسمه، ولغز خلق الانسان، ورموز حقيقة الصلاة، فتأمل معي في هذه الحكاية التمثيلية القصيرة.

كان في زمان ما سلطان له ثروات طائلة وخزائن هائلة تحوي جميع أنواع الجواهر والألماس والزمرد، مع كنوز خفية اخرى عجيبة جداً. وكان صاحب علمٍ واسع جداً، واحاطة تامة، واطلاع شامل على العلوم البديعة التي لاتحد، مع مهارات فائقة وبدائع الصنعة.

وحيث ان كل ذي جمال وكمالٍ يحب أن يشهَد ويُشاهِد جمالَه وكمالَه، كذلك هذا السلطان العظيم، أراد أن يفتح معرضاً هائلاً لعرض مصنوعاته الدقيقة كي يُلفت أنظار رعيته الى أبهة سلطنته، وعظمة ثروته ويُظهِر لهم من خوارق صنعته الدقيقة وعجائب معرفته وغرائبها، ليشاهِد جمالَه وكمالَه المعنويين على وجهين:

الاول: أن يرى بالذات معروضاته بنظره البصير الثاقب الدقيق.

والثاني: ان يراها بنظر غيره.

ولأجل هذه الحكمة بدأ هذا السلطان بتشييد قصر فخم شامخ جداً، وقسّمه بشكل بارع الى منازل ودوائر مزيّناً كلَّ قسمٍ بمرصعات خزائنه المتنوعة، وجمّله بما عملت يداه من ألطف آثار ابداعه وأجملها، ونظّمه ونسقه بأدق دقائق فنون علمه وحكمته، فجهزه وحسّنه بالآثار المعجزة لخوارق علمه.

وبعد أن أتمه وكمله، أقام في القصر موائد فاخرة بهيجة تضم جميع أنواع أطعمته اللذيذة، وأفضل نِعَمه الثمينة، مخصصاً لكل طائفة ما يليق بها ويوافقها من الموائد، فأعدّ بذلك ضيافة فاخرة عامة، مبيناً سخاءاً وابداعاً وكرماً لم يشهد له مثيل، حتى كأن كل مائدة من تلك الموائد قد امتلأت بمئات من لطائف الصنعة الدقيقة وآثارها، بما مَدّ عليها من نِعمٍ غالية لا تحصى.

ثم دعا أهالي أقطار مملكته ورعاياه، للمشاهدة والتنزه والضيافة، وعلّم كبير رُسُل القصر المكرّمين ما في هذا القصر العظيم من حكمٍ رائعة، وما في جوانبه ومشتملاته من معان دقيقة، مخصصاً اياه معلماً رائداً واستاذاً بارعاً على رعيته، ليعلّم الناس عظمة باني القصر وصانع ما فيه من نقوش بديعة موزونة ، ومعرّفاً لكل الداخلين رموزَه وما تعنيه هذه المرصعات المنتظمة والاشارات الدقيقة التي فيه، ومدى دلالتها على عظمة صاحب القصر وكماله الفائق ومهارته الدقيقة. مبيناً لهم أيضاً تعليمات مراسيم التشريفات بما في ذلك آداب الدخول والتجول، وأصول السير وفق ما يرضي السلطان الذي لا يُرى إلاّ من وراء حجاب.

وكان هذا المعلم الخبير يتوسط تلامذته في أوسع دائرة من دوائر القصر الضخم وكان مساعدوه منتشرين في كلٍ من الدوائر الاخرى للقصر.

بدأ المعلم هذا بالقاء توجيهاته الى المشاهدين كافة قائلاً:

((ايها الناس ان سيدنا مليك هذا القصر الواسع البديع، يريد ببنائه هذا وباظهار ما ترونه أمام اعينكم من مظاهر، أن يعرّف نفسه اليكم، فاعرفوه واسعوا لحسن معرفته.

وانه يريد بهذه التزيينات الجمالية، أن يحبب نفسه اليكم، فحببوا أنفسكم اليه، باستحسانكم أعماله وتقديركم لصنعته.

وأنه يتودد اليكم ويريكم محبته بما يسبغه عليكم من آلائه ونعمه وأفضاله فأحبوه بحسن اصغائكم لأوامره وبطاعتكم اياه.

وانه يظهر لكم شفقته ورحمته بهذا الاكرام والاغداق من النعم فعظّموه أنتم بالشكر.

وانه يريد أن يظهر لكم جماله المعنوي بآثار كماله في هذه المصنوعات الجميلة الكاملة فأظهروا أنتم شوقكم ولهفتكم للقائه ورؤيته، ونيل رضاه.

وانه يريد منكم أن تعرفوا أنه السلطان المتفرد بالحاكمية والاستقلال، بما ترون من شعاره الخاص، وخاتمه المخصص، وطرته التي لاتقلد على جميع المصنوعات.. فكل شئ له، وخاص به، صدر من يد قدرته. فعليكم أن تدركوا جيداً، ان لا سلطان ولا حاكم إلاّ هو.فهو السلطان الواحد الأحد الذي لا نظير له ولا مثيل..)).

كان هذا المعلم الكبير يخاطب الداخلين للقصر والمتفرجين، بامثال هذا الكلام الذي يناسب مقام السلطان وعظمته واحسانه.

ثم انقسم الداخلون الى فريقين:

الفريق الاول:

وهم ذوو العقول النيرة، والقلوب الصافية المطمئنة، المدركون قدر أنفسهم، فحيثما يتجولون ـــ في آفاق هذا القصر العظيم - ويسرحون بنظرهم الى عجائبه يقولون: لابد أن في هذا شأناً عظيماً !! ولابد أن وراءه غاية سامية!.. فعلِموا أن ليس هناك عبث، وليس هو بلعب، ولا بلهو صبياني.. ومن حيرتهم بدأوا يقولون:

يا تُرى أين يكمن حل لغز القصر، وما الحكمة في ما شاهدناه ونشاهده؟!

وبينما هم يتأملون ويتحاورون في الامر، اذا بهم يسمعون صوت خطبة الاستاذ العارف وبياناته الرائعة، فعرفوا ان لديه مفاتيح جميع الاسرار وحل جميع الالغاز، فأقبلوا اليه مسرعين:

- السلام عليكم أيها الاستاذ.. ان مثل هذا القصر الباذخ ينبغي أن يكون له عرّيفاً صادقاً مدققاً اميناً مثلك، فالرجاء أن تعلّمنا مما علّمك سيدُنا العظيم.

فذكَّرهم الاستاذ بخطبته المذكورة آنفاً، فاستمعوا اليه خاشعين، وتقبّلوا كلامه بكل رضى واطمئنان، فغنموا أيمّا غنيمة، اذ عملوا ضمن مرضاة سلطانهم، فرضي عنهم السلطان بما أبدوا من رضى وسرور لأوامره. فدعاهم الى قصر أعظم وأرقى لايكاد يوصف، وأكرمهم بسعادة دائمة، بما يليق بالمالك الجواد الكريم، وتلائم هؤلاء الضيوف الكرام المتأدبين، وحريّ بهؤلاء المطيعين المنقادين للاوامر.

أما الفريق الآخر:

وهم الذين قد فسدت عقولهم، وانطفأت جذوة قلوبهم، فما أن دخلوا القصر، حتى غلبتْ عليهم شهواتُهم، فلم يعودوا يلتفتون إلا لما تشتهيه أنفسُهم من الاطعمة اللذيذة، صارفين أبصارهم عن جميع تلك المحاسن، سادّين آذانهم عن جميع تلك الارشادات الصادرة من ذلك المعلم العظيم، وتوجيهات تلاميذه.. فأقبلوا على المأكولات بشراهة ونهم، كالحيوانات، فأطبقت عليهم الغفلة والنوم وغشيهم السُكرُ، حتى فقدوا أنفسهم لكثرة ما أفرطوا في شرب ما لم يؤذن لهم به فازعجوا الضيوف الآخرين بجنونهم وعربدتهم. فأساءوا الادب مع قوانين السلطان المعظم وانظمته، لذا أخذهم جنوده وساقوهم الى سجن رهيب لينالوا عقابهم الحق، جزاءً وفاقاً على ما عملوا من سوء الخُلق.

فيا من ينصت معي الى هذه الحكاية؛ لابد انك قد فهمت ان ذلك السلطان قد بنى هذا القصر الشامخ لأجل تلك المقاصد المذكورة، فحصول تلك المقاصد يتوقف على أمرين:

احدهما:

وجود ذلك المعلم الاستاذ الذي شاهدناه وسمعنا خطابه، اذ لولاه لذهبت تلك المقاصد هباءاً منثوراً، كالكتاب المبهم الذي لا يُفهم معناه، ولا يبينه استاذ، فيظل مجرد أوراق لا معنى لها!..

ثانيهما:

إصغاء الناس الى كلام ذلك المعلم، وتقبّلهم له.

بمعنى ان وجود الاستاذ مدعاة لوجود القصر. واستماع الناس اليه سبب لبقاء القصر، لذا يصح القول: لم يكن السلطان العظيم ليبني هذا القصر لولا هذا الاستاذ. وكذا يصح القول: حينما يصبح الناس لا يصغون اليه ولا يلقون بالاً الى كلامه، فسيغير السلطان هذا القصر ويبدله.

الى هنا انتهت القصة يا صديقي. فان كنت قد فهمت سر الحكاية، فانظر من خلالها الى وجه الحقيقة:

ان ذلك القصر هو هذا العالم، المسقف بهذه السماء المتلألئة بالنجوم المتبسمة، والمفروش بهذه الارض المزيّنة من الشرق الى الغرب بالازهار المتجددة كل يوم.

وذلك السلطان العظيم، هو الله تعالى سلطان الأزل والابد الملك القدوس ذو الجلال والاكرام الذي ] تسبّح له السمواتُ السبعُ والارضُ ومَن فيهن..[ حيث أن ] كلٌ قد علم صلاتَه وتسبيحَه[ (النور: 41) وهو القدير ] الذي خلقَ السمواتِ والأرض في ستة ايام ثم استوى على العرش يُغشي الليلَ النهارَ يَطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخّرات بأمره[ (الاعراف: 54).

أما منازل ذلك القصر فهي ثمانية عشر الفاً من العوالم التي تزينت كل منها وانتظمت بما يلائمها من مخلوقات.. اما الصنائع الغريبة في ذلك القصر فهي معجزات القدرة الإلهية الظاهرة في عالمنا لكل ذي بصر وبصيرة.. وما تراه من الاطعمة اللذيذة التي فيه، هي علامات الرحمة الالهية من الاثمار والفواكه البديعة التي تشاهد بكل وضوح في جميع مواسم السنة وخاصة في الصيف وبالأخص في بساتين (بارلا)(1).

ومطبخ هذا القصر هو سطح الارض وقلبها الذي يتّقد ناراً.

وما رأيته في الحكاية من الجواهر في تلك الكنوز الخفية، هي في الواقع امثلة لتجليات الاسماء الحسنى المقدسة.

وما رأيناه من النقوش ورموزها، هي هذه المخلوقات المزينِّة للعالم وهي نقوش موزونة لقلم القدرة الالهية الدالة على اسماء القدير ذي الجلال.

اما ذلك المعلم الاستاذ فهو سيدنا، وسيد الكونين محمد e ، ومساعدوه هم الانبياء عليهم السلام. وتلاميذه هم الاولياء الصالحون، والعلماء الاصفياء.

أما خدام السلطان العظيم فهم اشارة الى الملائكة عليهم السلام في هذا العالم.

وأما جميع من دُعُوا الى دار ضيافة الدنيا فهم اشارة الى الانس والجن وما يخدم الانسان من حيوانات وأنعام.

أما الفريقان:

فالأول: هم اهل الايمان الذين يتتلمذون على مائدة القرآن الكريم الذي يفسّر آيات كتاب الكون.

والآخر: هم اهل الكفر والطغيان الصمّ البكم الضالون الذين اتبعوا اهواءهم والشيطان، فما عرفوا من الحياة إلاّ ظاهرها، فهم كالأنعام بل هم اضل سبيلاً.

أما الفريق الأول الذين هم الابرار السعداء؛ فقد انصتوا الى المعلم العظيم والاستاذ الجليل ذي الحقيقتين؛ اذ هو عبد، وهو رسول؛ فمن حيث العبودية يعرِّف ربَّه ويوصفه بما يليق به من اوصاف الجلال، فهو اذاً في حكم ممثلٍ عن أمته لدى الحضرة الالهية.. ومن حيث الرسالة يبلّغ احكام ربّه الى الجن والانس كافة بالقرآن العظيم.

فهذه الجماعة السعيدة بعدما اصغوا الى ذلك الرسول الكريم e وانصاعوا لأوامر القرآن الحكيم، اذا بهم يرون أنفسهم قد قُلِّدوا مهمات لطيفة تترقى ضمن مقامات سامية كثيرة، تلك هي الصلاة، فهرس انواع العبادات.

نعم! لقد شاهدوا بوضوح تفاصيل فريضة الصلاة وارتقوا في مقاماتها الرفيعة التي تشير اليها اذكارُها وحركاتُها المتنوعة، على النحو الآتي:

اولاً: بمشاهدتهم الآثار الربانية المبثوثة في الكون، وجدوا انفسهم في مقام المشاهدين محاسن عظمة الربوبية، بمعاملة غيابية، فأدّوا وظيفة التكبير والتسبيح، قائلين: الله اكبر.

ثانياً: وبظهورهم في مقام الدعاة والأدلاّء الى بدائع صنائعه سبحانه وآثاره الساطعة، التي هي جلوات اسمائه الحسنى، أدّوا وظيفة التقديس والتحميد بقولهم: سبحان الله والحمد لله.

ثالثاً: وفي مقام ادراك النعم المدخرة في خزائن الرحمة الالهية وتذوقها بحواسَ ظاهرة وباطنة شرعوا بوظيفة الشكر والحمد.

رابعاً: وفي مقام معرفة جواهر كنوز الاسماء الحسنى وتقديرها حق قدرها بموازين الاجهزة المعنوية المودعة فيهم، بدأوا بوظيفة التنزيه والثناء.

خامساً: وفي مقام مطالعة الرسائل الربانية المسطرّة بقلم قدرته تعالى على صحيفة القَدَر، باشروا بوظيفة التفكر والاعجاب والاستحسان.

سادساً: وفي مقام التنزيه بإمتاع النظر الى دقة اللطف في خلق الاشياء، ورقة الجمال في اتقانها، دخلوا وظيفة المحبة والشوق الى جمال الفاطر الجليل والصانع الجميل.

وهكذا.. بعد أداء هذه الوظائف في المقامات السابقة، والقيام بالعبادة اللازمة

بمعاملة غيابية، لدى مشاهدة المخلوقات، ارتقوا الى درجة النظر الى معاملة الصانع الحكيم وشهودها ومعاملة افعاله معاملةً حضورية، وذلك أنهم:

قابلوا أولاً تعريفَ الخالق الجليل نفسَه لذوي الشعور بمعجزات صنعته، قابلوه بمعرفةٍ ملؤها العَجب والحيرة قائلين: سبحانك ما عرفناك حق معرفتك يا معروف بمعجزات جميع مخلوقاتك.

ثم استجابوا لتحبّب ذلك الرحمن بثمرات رحمته سبحانه، بمحبةٍ وهيام مرددين : إياك نعبد واياك نستعين.

ثم لَبّوا ترحمّ ذلك المنعم الحقيقي بنِعَمه الطيبة واظهار رأفته عليهم، بالشكر والحمد، وبقولهم: سبحانك ما شكرناك حق شكرك يا مشكورُ بألسنة احوالٍ فصيحة تنطق بها جميع احساناتك المبثوثة في الكون، وتعلن الحمدَ والثناء اعلاناتُ نِعَمِك المعدّة في سوق العالم والمنثورة على الارض كافة. فجميع الثمرات المنضّدة لرحمتك الواسعة، وجميع الأغذية الموزونة لنعمك العميمة، توفي شكرها بشهادتها على جُودك وكرمك لدى انظار المخلوقات.

ثم قابلوا اظهار كبرياء جماله وجلاله وكماله سبحانه في مرايا الموجودات المتبدلة على وجه الكون، بقولهم: الله اكبر، وركعوا في عجز مكلّل بالتعظيم، وهَوَوا الى السجود في محبة مفعمة بالذل والفناء لله، وفي غمرة إعجاب وتعظيم وإجلال.

ثم اجابوا اظهار ذلك الغني المطلق سبحانه ثروتَه التي لا تنفد ورحمته التي وسعت كل شئ، بالدعاء الملح والسؤال الجاد، باظهار فقرهم وحاجتهم قائلين: اياك نستعين.

ثم استقبلوا عرضَ ذلك الخالق الجليل للطائف صنائعه وروائع بدائعه ونشره لها في معارضَ أمام انظار الأنام، بالاعجاب والتقدير اللازمين، قائلين: ما شاء الله، تبارك الله، ما اجمل خلقَ هذا.. شاهدين مستحسنين لها، هاتفين: هلموا لمشاهدة هذه البدائع، حيّ على الفلاح.. اشهدوها وكونوا شهداء عليها.

ثم اجابوا اعلان ذلك السلطان العظيم - سلطان الازل والابد - لربوبية سلطنته في الكون كله، واظهاره وحدانيته للوجود كافة، بقولهم: سمعنا واطعنا.. فَسمعوا، وانقادوا واطاعوا.

ثم استجابوا لإظهار رب العالمين اُلوهيته الجليلة، بخلاصة عبودية تنمّ عن ضعفهم الكامن في عجزهم، وفقرهم المندمج في حاجاتهم.. تلك هي الصلاة.

وهكذا بمثل هذه الوظائف المتنوعة للعبودية، ادّوا فريضة عمرهم ومهمة حياتهم في هذا المسجد الاكبر المسمى بدار الدنيا، حتى اتخذوا صورة أحسن تقويم، واعتلوا مرتبةً تفوق جميع المخلوقات قاطبة، اذ أصبحوا خلفاء أمناء في الارض، بما اُودع فيهم من الايمان والأمانة..

وبعد انتهاء مدة الامتحان والخروج من قبضة الاختبار يدعوهم ربهم الكريم الى السعادة الابدية والنعيم المقيم ثواباً لإيمانهم، ويرزقهم الدخول الى دار السلام جزاء اسلامهم، ويكرمهم - وقد اكرمهم - بنعمٍ لا عين رأت ولا اُذن سمعت ولا خطرت على قلب بشر، اذ المشاهد المشتاق لجمال سرمدي والعاشق الذي يعكسه كالمرآة، لابد ان يظل باقياً ويمضي الى الابد.

هذه هي عقبى تلاميذ القرآن.. اللّهمّ اجعلنا منهم!.

أما الفريق الآخر وهم الفجار والاشرار فما ان دخلوا بسن البلوغ قصر هذا العالم الاّ وقابلوا بالكفر دلائل الوحدانية كلها، وبالكفران الآلاء التي تُسبغ عليهم، واتهموا الموجودات كلها بالتفاهة وحقّروها بالعبثية ورفضوا تجليات الاسماء الإلهية على الموجودات كلها، فارتكبوا جريمة كبرى في مدة قصيرة، مما استحقوا عذاباً خالداً.

نعم، ان الانسان لم يُوهَب له رأس مال العمر، ولم يودَع فيه أجهزة انسانية راقية إلاّ ليؤهله ذلك على تأدية الوظائف الجليلة المذكورة.

فيا نفسي الحائرة ويا صديقي المغرم بالهوى!

أتحسبون أن ((مهمة حياتكم)) محصورة في تلبية متطلبات النفس الامارة بالسوء ورعايتها بوسائل الحضارة اشباعاً لشهوة البطن والفرج؟ أم تظنون أن الغاية من درج ما اُودع فيكم من لطائف معنوية رقيقة، وآلات وأعضاء حساسة، وجوارح وأجهزة بديعة، ومشاعر وحواس متجسسة، انما هي لمجرد استعمالها لإشباع حاجات سفلية لرغبات النفس الدنيئة في هذه الحياة الفانية؟ حاشَ وكلا!!

بل إن خلق تلك اللطائف والحواس والمشاعر في وجودكم وادراجَها في فطرتكم انما يستند الى أساسين اثنين:

الاول: أن تجعلكم تستشعرون بالشكر تجاه كل نوع من أنواع النعم التي أسبغها عليكم المنعم سبحانه. أي عليكم الشعور بها والقيام بشكره تعالى وعبادته.

الثاني: أن تجعلكم تعرفون أقسام تجليات الاسماء الحسنى التي تعم الوجود كله، معرفتها وتذوقها فرداً فرداً.أي عليكم الايمان بتلك الاسماء ومعرفتها معرفة ذوقية خالصة.

وعلى هذين الاساسين تنمو الكمالات الانسانية، وبهما يغدو الانسان انساناً حقاً.

فانظر الآن - من خلال هذا المثال - لتعرف ان الانسان بخلاف الحيوان لم يزوّد بالاجهزة لكسب هذه الحياة الدنيا فقط:

أعطى سيدٌ خادمَه عشرين ليرة ليشتري بها بدلة لنفسه، من قماش معين. فراح الخادم واشتراها من أجود أنواع الاقمشة ولبسها. ثم أعطى السيد نفسه خادماً آخر ألف ليرة ولكن وضع في جيبه ورقة تعليمات وأرسله للتجارة.

فكل مَن يملك مسكة من العقل يدرك يقيناً أن هذا المبلغ ليس لشراء بدلة، اذ قد اشتراها الخادم الاول بعشرين ليرة!

فلو لم يقرأ هذا الثاني ماكُتب له في الورقة، وأعطى كل ما لديه الى صاحب حانوتٍ واشترى منه بدلة - تقليداً لصديقه الآخر - ومن أردأ أنواع البدلات، ألا يكون قد ارتكب حماقة متناهية، ينبغي تأديبه بعنف وعقابه عقاباً رادعاً؟

فيا صديقي الحميم، ويا نفسي الامارة بالسوء!

استجمعوا عقولكم، ولا تهدروا رأس مال عمركم، ولا تبددوا طاقات حياتكم واستعداداتها لهذه الدنيا الفانية الزائلة، وفي سبيل لذة مادية ومتاع حيواني.. فالعاقبة وخيمة، اذ تُردّون الى دَرَكةٍ أدنى من أخس حيوان، علماً أن رأس مالكم أثمن من أرقى حيوان!

فيا نفسي الغافلة!

ان كنت تريدين أن تفهمي شيئاً من: غاية حياتك، ماهية حياتك، صورة حياتك، سر حقيقة حياتك، كمال سعادة حياتك.. فانظري الى مجمل ((غايات حياتك)) فانها تسعة أمور:

أولها: القيام بالشكر الكلي، ووزن النِعم المدخرة في خزائن الرحمة الإلهية بموازين الحواس المغروزة في جسمك.

ثانيها: فتح الكنوز المخفية للاسماء الالهية الحسنى بمفاتيح الاجهزة المودعة في فطرتك، ومعرفة الله جل وعلا بتلك الاسماء الحسنى.

ثالثها: اعلان ما ركّبت فيك الاسماء الحسنى من لطائف تجلياتها وبدائع صنعتها، واظهار تلك اللطائف البديعة أمام أنظار المخلوقات بعلمٍ وشعور، وبجوانب حياتك كافة في معرض الدنيا هذه.

رابعها: اظهار عبوديتك أمام عظمة ربوبية خالقك، بلسان الحال والمقال.

خامسها: التجمل بمزايا اللطائف الانسانية التي وهبتْها لك تجليات الاسماء، وابرازها أمام نظر الشاهد الازلي جل وعلا.. مثلك في هذا كمثل الجندي الذي يتقلد الشارات المتنوعة التي منحها السلطان في مناسبات رسمية، ويعرضها أمام نظره ليُظهر آثار تكرّمه عليه وعنايته به.

سادسها: شهود مظاهر الحياة لذوي الحياة، شهود علمٍ وبصيرة، اذ هي تحياتُها ودلالاتها بحياتها على بارئها سبحانه.. ورؤية تسبيحاتها لخالقها، رؤيةً بتفكرٍ وعبرة، اذ هي رموز حياتها.. وعرض عبادتها الى واهب الحياة سبحانه والشهادة عليها، اذ هي غايةُ حياتها ونتيجتها.

سابعها: معرفة الصفات المطلقة للخالق الجليل، وشؤونه الحكيمة، ووزنها بما وهب لحياتك من علم جزئي وقدرة جزئية وارادة جزئية، أي بجعلها نماذج مصغرة ووحدة قياسية لمعرفة تلك الصفات المطلقة الجليلة.

فمثلاً: كما انك قد شيدت هذه الدار بنظام كامل، بقدرتك الجزئية وارادتك الجزئية، وعلمك الجزئي، كذلك عليك أن تعلم - بنسبة عظمة بناء قصر العالم ونظامه المتقن - أن بنّاءه قدير، عليم، حكيم، مدبِّر.

ثامنها: فهم الاقوال الصادرة من كل موجود في العالم وادراك كلماته المعنوية - كل حسب لسانه الخاص - فيما يخص وحدانية خالقه وربوبية مبدعه.

تاسعها: ادراك درجات القدرة الإلهية والثروة الربانية المطلقتين، بموازين العجز والضعف والفقر والحاجة المنـطـوية في نفـسك، اذ كما تُدرك أنـواع الاطعـمة ودرجاتها ولذاتها، بدرجات الجوع وبمقدار الاحتياج اليها، كذلك عليك فهم درجات القدرة الإلهية وثروتها المطلقتين بعجزك وفقرك غير المتناهيين.

فهذه الامور التسعة وأمثالها هي مجمل ((غايات حياتك)).

أما ((ماهية حياتك الذاتية)) فمجملها هو:

انها فهرس الغرائب التي تخص الاسماء الإلهية الحسنى..

ومقياس مصغر لمعرفة الشؤون الالهية وصفاتها الجليلة..

وميزان للعوالم التي في الكون..

ولائحة لمندرجات هذا العالم الكبير..

وخريطة لهذا الكون الواسع ..

وفذلكة لكتاب الكون الكبير..

ومجموعة مفاتيح تفتح كنوز القدرة الإلهية الخفية..

وأحسن تقويمٍ للكمالات المبثوثة في الموجودات، والمنشورة على الاوقات والازمان..

فهذه وامثالها هي ((ماهية حياتك)).

وإليك الآن ((صورة حياتك)) وطرز وظيفتها، وهي: إن حياتك كلمة حكيمة مكتوبة بقلم القدرة الإلهية .. وهي مقالة بليغة تدل على الاسماء الحسنى المشهودة والمسموعة ..فهذه وامثالها هي صورة حياتك.

أما ((حقيقة حياتك)) وسرّها فهي:

انها مرآة لتجلي الاحدية، وجلوة الصمدية، أي أن حياتك كالمرآة تنعكس عليها تجلي الذات الأحد الصمد تجلياً جامعاً، وكأن حياتك نقطةٌ مركزيةٌ لجمع أنواع تجليات الاسماء الإلهية المتجلية على العالم أجمع.

أما ((كمال سعادة حياتك)) فهو:

الشعور بما يتجلى من أنوار التجليات الإلهية في مرآة حياتك وحبها، واظهار الشوق اليها، وأنت مالكٌ للشعور، ثم الفناء في محبتها، وترسيخ تلك الانوار المنعكسة وتمكينها في بؤبؤ عين قلبك.

ولأجل هذا قيل بالفارسية هذا المعنى للحديث النبوي القدسي الذي رفعك الى اعلى عليين:

من نكنجم درسموات وزمين

أز عجب كنجم بقلب مؤمنين(1)

فيا نفسي!

ان حياتك التي تتوجه الى مثل هذه الغايات المثلى، وهي الجامعة لمثل هذه الخزائن القيّمة.. هل يليق عقلاً وانصافاً ان تُصرف في حظوظ تافهة، تلبية لرغبات النفس الامارة، واستمتاعاً بلذائذ دنيوية فانية، فتهدر وتضيّع بعد ذلك.

فان كنت راغبة في عدم ضياعها سدىً، ففكّري وتدبّري في القَسَم وجواب القَسَم في سورة ((الشمس)) ثم اعملي مع تذكر الحكاية التمثيلية المذكورة في المقدمة، التي ترمز الى تلك السورة.

بسم الله الرحمن الرحيم

] والشمس وضُحاها^ والقمر اذا تلاها^ والنهار اذا جلاها^ واليل اذا يغشاها^ والسمآء وما بناها^ والارض وما طحاها^ ونفسٍ وما سوّاها^ فألهمها فجورها وتقواها^ قد افلح من زكاها^ وقد خاب من دساها[ .

اللهم صلّ وسلم على شمس سماء الرسالة وقمر برج النبوة، وعلى آله واصحابه نجوم الهداية.

وارحمنا وارحم المؤمنين والمؤمنات.

آمين آمين آمين.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-02-2011
  #14
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

الكلمة الثانية عشرة

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] ومَن يؤتَ الحكمة فقد اوتي خيراً كثيراً[ (البقرة: 269)

هذه الكلمة تشير الى موازنة اجمالية بين حكمة القرآن الكريم المقدسة وحكمة الفلسفة، وتشير أيضاً الى خلاصة مختصرة لما تلقنه حكمة القرآن من تربية الانسان في حياتيه الشخصية والاجتماعية فضلاً عن انها تضم اشارة الى جهة ترجح القرآن الكريم وأفضليته على سائر الكلام الإلهي وسموه على الاقوال قاطبة. بمعنى أن هناك أربعة أسس في هذه الكلمة:

C الاساس الاول:

من خلال منظار هذه الحكاية التمثيلية أنظر الى الفروق بين حكمة القرآن الكريم وحكمة العلوم:

اراد حاكم عظيم ذو تقوى وصلاح وذو مهارة وابداع أن يكتب القرآن الحكيم كتابة تليق بقدسية معانيه الجليلة وتناسب اعجازه البديع في كلماته، فأراد أن يُلبِس القرآن الكريم ما يناسب اعجازه السامي من ثوب قشيب خارق مثله.

فطفق بكتابة القرآن، وهو مصور مبدع، كتابة عجيبة جداً مستعملاً جميع أنواع الجواهر النفيسة والاحجار الكريمة ليشير بها الى تنوع حقائقه العظيمة فكتب بعض حروفه المجسمة بالالماس والزمرد وقسماً منها باللؤلؤ والمرجان وطائفة منها بالجوهر

والعقيق ونوعاً منها بالذهب والفضة، حتى أضفى جمالاً رائعاً وحسناً جالباً للانظار يعجب بها كل من يراها سواء أعلم القراءة أم جهلها. فالجميع يقفون أمام هذه الكتابة البديعة مبهوتين يغمرهم التبجيل والاعجاب، ولا سيما أهل الحقيقة الذين بدأوا ينظرون اليها نظرة اعجاب وتقدير أشد، لما يعلمون أن الجمال الباهر هذا يشف عما تحته من جمال المعاني وهو في منتهى السطوع واللمعان وغاية اللذة والذوق.

ثم عرض ذلك الحاكم العظيم، هذا القرآن البديع الكتابة، الرائع الجمال، على فيلسوف أجنبي وعلى عالم مسلم. وأمرهما:

((ليكتب كل منكما كتاباً حول حكمة هذا القرآن!)) ملمحاً الى اختبارهما ليكافئهما.

كتب الفيلسوف كتاباً. وكتب العالم المسلم كتاباً. كان كتاب الفيلسوف يبحث عن نقوش الحروف وجمالها، وعلاقة بعضها ببعض، وأوضاع كل منها، وخواص جواهرها وميزاتها وصفاتها فحسب. ولم يتعرض في كتابه الى معاني ذلك القرآن العظيم قط، إذ إنه جاهل باللغة العربية جهلاً مطبقاً، بل لم يدرك أن ذلك القرآن البديع هو كتاب عظيم تنم حروفه عن معان جليلة، وانما حصر نظره في روعة حروفه وجمالها الخارق. ومع هذا فهو مهندس بارع، ومصور فنان، وكيميائي حاذق، وصائغ ماهر، لذا فقد كتب كتابه هذا وفق ما يتقنه من مهارات ويجيده من فنون.

أما العالم المسلم، فما أن نظر الى تلك الكتابة البديعة حتى علم أنه: كتاب مبين وقرآن حكيم. فلم يصرف اهتمامه الى زينته الظاهرة، ولا أشغل نفسه بزخارف حروفه البديعة، وانما توجه كليا ًـ وهو التواق للحق ـ الى ما هو أسمى وأثمن وألطف وأشرف وأنفع وأشمل مما انشغل به الفيلسوف الاجنبي بملايين الاضعاف، فبحث عما تحت تلك النقوش الجميلة من حقائق سامية جليلة وأسرار نيرة بديعة فكتب كتابه تفسيراً قيماً لهذا القرآن الحكيم، فأجاد وأتقن.

قدّم كلٌ منهما ما كتبه الى الحاكم العظيم. تناول الحاكم أولاً مؤلَّف الفيلسوف ونظر اليه ملياً. فرأى أن ذلك المعجب بنفسه والمقدس للطبيعة، لم يكتب حكمةً حقيقية قط، مع أنه بذل كل ما في طوقه، إذ لم يفهم معاني ذلك الكتاب، بل ربما زاغ واختلط عليه الامر، وأظهر عدم توقير واجلال لذلك القرآن، حيث أنه لم يكترث بمعانيه السامية، وظن أنه مجرد نقوش جميلة وحروف بديعة، فبخس حق القرآن وازدراه من حيث المعنى. لذا رد الحاكم الحكيم مؤلَّف ذلك الفيلسوف وضربه على وجهه وطرده من ديوانه.

ثم أخذ مؤلَّف العالم المسلم المحقق المدقق، فرأى أنه تفسير قيم جداً، بالغ النفع. فبارك عمله، وقدر جهده، وهنّأه عليه وقال: هذه هي الحكمة حقاً، وانما يطلق اسم العالم والحكيم حقاً على صاحب هذا المؤلَّف، وليس الآخر إلاّْ فنان صنَّاع قد أفرط وتجاوز حدّه. وعلى اثره كافأ ذلك العالم المسلم وأجزل ثوابه، آمراًَ أن تمنح عشر ليرات ذهبية لكل حرف من حروف كتابه.

فاذا فهمت - يا أخي - أبعاد هذه الحكاية التمثيلية، فانظر الى وجه الحقيقة:

فذلك القرآن الجميل الزاهي، هو هذا الكون البديع.. وذلك الحاكم المهيب هو سلطان الازل والابد سبحانه. والرجلان: الاول - أي ذلك الاجنبي - هو علم الفلسفة وحكماؤها. والاخر: هو القرآن الكريم وتلاميذه.

نعم، ان القرآن الكريم ((المقروء)) هو أعظم تفسير وأسماه، وأبلغ ترجمان وأعلاه لهذا الكون البديع، الذي هو قرآن آخر عظيم ((منظور)).

نعم! ان ذلك الفرقان الحكيم هو الذي يرشد الجن والانس الى الآيات الكونية التي سطَّرها قلمُ القدرة الإلهية على صحائف الكون الواسع ودبجها على أوراق الازمنة والعصور. وهو الذي ينظر الى الموجودات - التي كل منها حرف ذو مغزى - بالمعنى الحرفي، أي ينظر اليها من حيث دلالتها على الصانع الجليل. فيقول: ما أحسنَ خلقه! ما أجملَ خلقه! ما أعظم دلالته على جمال المبدع الجليل. وهكذا يكشف أمام الانظار الجمالَ الحقيقي للكائنات.

أما ما يسمونه بعلم الحكمة وهي الفلسفة، فقد غرقت في تزيينات حروف الموجودات، وظلّت مبهوتة أمام علاقات بعضها ببعض، حتى ضلت عن الحقيقة. فبينما كان عليها أن تنظر الى كتاب الكون نظرتها الى الحروف - الدالة على كاتبها - فقد نظرت اليها بالمعنى الاسمي، أي أن الموجودات قائمة بذاتها، وبدأت تتحدث عنها علـى هـذه الصــورة فتـقول: ما أجمل هذا! بـدلاً من:ما أجمـل خـلـق هذا، سالبة بهذا القول الجمال الحقيقي للشئ. فأهانت باسنادها الجمال الى الشئ نفسه جميع الموجودات حتى جعلت الكائنات شاكية عليها يوم القيامة..

نعم! ان الفلسفة الملحدة انما هي سفسطة لا حقيقة لها وتحقير للكون واهانة له.

C الاساس الثاني:

للوصول الى مدى الفرق بين التربية الاخلاقية التي يربي بها القرآن الكريم تلاميذه، والدرس الذي تلقنه حكمة الفلسفة، نرى أن نضع تلميذيهما في الموازنة:

فالتلميذ المخلص للفلسفة ((فرعون)) ولكنه فرعون ذليل، اذ يعبد أخس شئ لأجل منفعته، ويتخذ كل ما ينفعه رباً له.

ثم أن ذلك التلميذ الجاحد ((متمرد وعنود)) ولكنه متمرد مسكين يرضى لنفسه منتهى الذل في سبيل الحصول على لذة، وهو عنود دنئ اذ يتذلل ويخنع لاشخاص هم كالشياطين، بل يقبّل أقدامهم!

ثم أن ذلك التلميذ الملحد ((مغرور، جبار)) ولكنه جبار عاجز لشعوره بمنتهى العجز في ذاته، حيث لا يجد في قلبه من يستند اليه.

ثم أن ذلك التلميذ ((نفعي ومصلحي)) لا يرى إلاّ ذاته. فغاية همته تلبية رغبات النفس والبطن والفرج، وهو ((دسّاس مكّار)) يتحرى عن مصالحه الشخصية ضمن مصالح الامة.

بينما تلميذ القرآن المخلص هو ((عبد)) ولكنه عبد عزيز لا يستذل لشئ حتى لأعظم مخلوق، ولا يرضى حتى بالجنة، تلك النعمة العظمى غاية لعبوديته لله.

ثم أنه تلميذ ((متواضع، ليّن هيّن)) ولكنه لا يتذلل بارادته لغير فاطره الجليل ولغير أمره وإذنه.

ثم أنه ((فقير وضعيف)) موقن بفقره وضعفه، ولكنه مستغنٍ عن كل شئ بما ادخره له مالكُه الكريم من خزائن لا تنفد في الآخرة. وهو ((قوي)) لاستناده الى قوة سيده المطـلقة.

ثم أنه لا يعمل إلاّ لوجه الله، بل لا يسعى إلاّ ضمن رضاه بلوغاً الى الفضائل ونشرها.

وهكذا تفهم التربية التي تربي بها الحكمتان، لدى المقارنة بين تلميذيهما.

C الاساس الثالث:

أما ما تعطيه حكمة الفلسفة وحكمة القرآن من تربية للمجتمع الانساني فهي:

أن حكمة الفلسفة ترى ((القوة)) نقطة الاستناد في الحياة الاجتماعية.

وتهدف إلى ((المنفعة)) في كل شئ.

وتتخذ ((الصراع)) دستوراً للحياة.

وتلتزم ((بالعنصرية والقومية السلبية)) رابطة للجماعات.

أما ثمراتها فهي اشباع رغبات الاهواء والميول النفسية التي من شأنها تأجيج جموح النفس واثارة الهوى.

ومن المعلوم أن شأن ((القوة)) هو ((الإعتداء)).. وشأن ((المنفعة)) هو ((التزاحم)) اذ لا تفي لتغطية حاجات الجميع وتلبية رغباتهم.. وشأن ((الصراع)) هو ((النزاع والجدال)).. وشأن ((العنصرية)) هو ((الإعتداء)) اذ تكبر بابتلاع غيرها وتتوسع على حساب العناصر الاخرى.

ومن هنا تلمس لِمَ سُلبت سعادةُ البشرية، من جراء اللهاث وراء هذه الحكمة.

أما حكمة القرآن الكريم، فهي تقبل ((الحق)) نقطة استناد في الحياة الاجتماعية، بدلاً من ((القوة)).. وتجعل ((رضى الله سبحانه)) ونيل الفضائل هو الغاية، بدلاً من ((المنفعة)).. وتتخذ دستور ((التعاون)) أساساً في الحياة، بدلاً من دستور ((الصراع)) .. وتلتزم برابطة ((الدين)) والصنف(1) والوطن لربط فئات الجماعات بدلاً من العنصرية والقومية السلبية.. وتجعل غاياتها الحد من تجاوز النفس الامارة ودفع الروح الى معالي الامور، واشباع مشاعرها السامية لسوق الانسان نحو الكمال والمثل الانسانية.

ان شأن (الحق) هو (الاتفاق).. وشأن (الفضيلة) هو (التساند).. وشأن دستور (التعاون) هو (اغاثة كل للاخر).. وشأن (الدين) هو (الاخوة والتكاتف).. وشأن (إلجام النفس) وكبح جماحها وأطلاق الروح وحثها نحو الكمال هو (سعادة الدارين).

C الاساس الرابع:

اذا أردت أن تفهم كيف يسمو القرآن على سائر الكلمات الإلهية وتعرف مدى تفوّقه على جميع الكلام. فانظر وتأمل في هذين المثالين:

المثال الاول: أن للسطان نوعين من المكالمة، وطرازين من الخطاب والكلام:

الاول: مكالمة خاصة بوساطة هاتف خاص مع أحد رعاياه من العوام، في أمر جزئي يعود الى حاجة خاصة به.

والآخر: مكالمة باسم السلطنة العظمى، وبعنوان الخلافة الكبرى وبعزة الحاكمية العامة، بقصد نشر أوامره السلطانية في الآفاق، فهي مكالمة يجريها مع أحد مبعوثيه أو مع أحد كبار موظيفه.. فهي مكالمة بأمر عظيم يهم الجميع.

المثال الثاني: رجل يمسك مرآة تجاه الشمس، فالمرآة تلتقط - حسب سعتها - نوراً وضياء يحمل الالوان السبعة في الشمس. فيكون الرجل ذا علاقة مع الشمس بنسبة تلك المرآة، ويمكنه أن يستفيد منها فيما اذا وجهها الى غرفته المظلمة، أو الى مشتله الخاص الصغير المسقف، بيد أن استفادته من الضوء تنحصر بمقدار قابلية المرآة على ما تعكسه من نور الشمس وليست بمقدار عِظمَ الشمس.

بينما رجل آخر يترك المرآة، ويجابه الشمس مباشرة، ويشاهد هيبتها ويدرك عظمتها، ثم يصعد على جبل عال جداً وينظر الى شعشعة سلطانها الواسع المهيب ويقابلها بالذات دون حجاب ثم يرجع ويفتح من بيته الصغير ومن مشتله المسقف الخاص نوافذ واسعة نحو الشمس، واجداً سبلاً الى الشمس التي هي في أعالي السماء ثم يجري حواراً مع الضياء الدائم للشمس الحقيقية. فيناجي الشمس بلسان حاله ويحاورها بهذه المحاورة المكللة بالشكر والامتنان فيقول: (إيه يا شمس! يا من تربعت على عرش جمال العالم! يا لطيفة السماء وزهراءها! يا من أضفيت على الارض بهجة ونوراً، ومنحت الازهار ابتسامة وسروراً،فلقد منحت الدفء والنور معاً لبيتي ومشتلي الصغير كما وهبت للعالم أجمع الدفء والنور).

بينما صاحب المرآة السابق لا يستطيع أن يناجي الشمس ويحاورها بهذا الاسلوب، اذ إن آثار ضوء الشمس محددة بحدود المرآة وقيودها، وهي محصورة بحسب قابلية تلك المرآة واستيعابها للضوء.

وبعد.. فانظر من خلال منظار هذين المثالين الى القرآن الكريم لتشاهد اعجازه، وتدرك قدسيته وسموه.

أجل ان القرآن الكريم يقول:

] ولو أنّ ما في الارضِ مِن شجرةٍ أقلامٌ والبحُر يمدّه من بعدهِ سبعةُ أبحرٍ ما نفدتْ كلمات الله، ان الله عزيز حكيم [ (لقمان:27) .

وهكذا فان منح القرآن الكريم اعلى مقام من بين الكلمات جميعاً، تلك الكلمات التي لا تحدها حدود، مردّه أن القرآن قد نزل من الاسم الاعظم ومن أعظم مرتبة من مراتب كل اسم من الاسماء الحسنى، فهو كلام الله، بوصفه رب العالمين، وهو أمره بوصفه إله الموجودات، وهو خطابُه بوصفه خالق السموات والارض، وهو مكالمةٌ سامية بصفة الربوبية المطلقة، وهو خطابُه الازلي باسم السلطنة الإلهية العظمى. وهو سجلُ الالتفات والتكريم الرحماني نابع من رحمته الواسعة المحيطة بكل شئ. وهو مجموعة رسائل ربانية تبين عظمة الالوهية، اذ في بدايات بعضها رموز وشفرات. وهو الكتاب المقدس الذي ينثر الحكمة.

ولأجل هذه الاسرار اُطلق على القرآن الكريم ما هو أهله ولائق به اسم (كلام الله).

أما سائر الكلمات الإلهية: فان قسماً منها كلام نابع باعتبار خاص، وبعنوان جزئي، وبتجل جزئي لاسم خصوصي، وبربوبية خاصة، وسلطان خاص، ورحمة خصوصية. فدرجات هذه الكلمات مختلفة متفاوتة من حيث الخاص والكلي، فأكثر الإلهامات من هذا القسم إلاّ أن درجاتها متفاوتة جداً.

فمثلاً: ان ابسطها واكثرها جزئية هي إلهام الحيوانات، ثم إلهام عوام الناس، ثم إلهام عوام الملائكة، ثم إلهام الاولياء، ثم إلهام كبار الملائكة.

ومن هذا السر نرى ان ولياً يقول: ((حدّثنى قلبي عن ربي)) أي: بهاتف قلبه. ومن دون وسـاطة مَلَك، فهو لا يقول: حدّثني رب العـالمـين. أو نراه يقـول: ان قلـبـي عـرشٌ ومرآة عاكسة لتجليات ربـي. ولا يقـول: عـرش رب العـالمين؛ لأنه يمـكن ان ينال حظاً من الخطاب الرباني وفق استعداداته وحسب درجة قابلياته وبنسبة رفع ما يقارب سبعين الف حجاب.

نعم! انه بمقدار علو كلام السلطان الصادر من حيث السلطنة وسموه على مكالمته الجزئية مع أحد رعاياه من العوام، وبمقدار ما يفوق الاستفادة من فيض تجلي الضوء من الشمس التي هي في السماء على استفادة فيضها من المرآة، يمكن فهم سمو القرآن الكريم على جميع الكلام الإلهي والكتب السماوية.

فالكتب المقدسة والصحف السماوية تأتي بالدرجة الثانية بعد القرآن الكريم في درجة العلو والسمو. كل له درجته وتفوقه، كل له حظه من ذلك السر للتفوق، فلو اجتمع جميع الكلام الطيب الجميل للانس والجن - الذي لم يترشح عن القرآن الكريم - فانه لا يمكن أن يكون نظيراً قط للقرآن الكريم ولا يمكن أن يدنو الى أن يكون مثله.

واذا كنت تريد أن تفهم شيئاً من أن القرآن الكريم قد نزل من الاسم الاعظم ومن المرتبة العظمى لكل اسم من الاسماء الحسنى فتدبّر في (آية الكرسي) وكذا الآيات الكريمة التالية وتأمل في معانيها الشاملة العامة السامية:

] وعندَه مفاتِحُ الغَيب[ (الانعام :59)

] قل اللّهم مالكَ الملك[ (آل عمران :26)

] يُغشي الليلَ النهار يطلُبُه حثيثاً والشمسَ والقمرَ والنجومَ مسخراتٍ بأمره[ (الاعراف:54)

] يا أرض ابلعي ماءك ويا سماءُ أقلعي[ (هود:44)

] تسبح له السمواتُ السبعُ والارضُ ومَن فيهن[ (الاسراء:44)

] ما خَلْقُكُم ولا بَعثُكُم إلاّ كَنفسٍ واحدة[ (لقمان:28)

] إنّا عرضنا الأمانةَ على السمواتِ والارض والجبال[ (الاحزاب:72)

] يومَ نطوي السماءَ كطيّ السّجلِ للكتب[ (الانبياء:104)

] وما قدروا الله حقّ قدرِه والارضُ جميعاً قـبـضتُه يومَ القيامة[ (الزمر:67)

] لو أنزلنا هذا القرآن على جبلٍ لرأيته..[ (الحشر:21)

وأمثالها من الآيات الجليلة، ثم دقق النظر في السور المبتدئة بـ ] الحمد لله[ و] تسبح..[ . لترى شعاع هذا السر العظيم ثم أنظر الى السور المستهلة بـ] الم[ و] ألر[ ، و] حم[ لتفهم أهمية القرآن لدى رب العالمين.

واذا فهمت السر اللطيف لهذا الاساس الرابع، تستطيع أن تفهم: السر في أن أكثر الوحي النازل الى الانبياء انما هو بوساطة ملك، أما الالهام فبلا وساطة.

وتفهم السر في أن أعظم ولي من الاولياء لا يبلغ أي نبي كان من الانبياء. وتفهم السر الكامن في عظمة القرآن وعزته القدسية وعلو اعجازه.. وتفهم سر لزوم المعراج وحكمة ضرورته، أي تفهم السر في رحلته e الى السموات العلا والى سدرة المنتهى حتى كان قاب قوسين أو أدنى ومن ثم مناجاته معه سبحانه، مع أنه جل جلاله ] أقرب اليه من حبل الوريد[ ثم عودته بطرف العين الى مكانه.

أجل! ان شق القمر كما أنه معجزة لاثبات الرسالة، أظهرت نبوته الى الجن والانس. كذلك المعراج هو معجزة عبوديته e أظهرت محبوبيته الى الارواح والملائكة.

اللّهم صل وسلم عليه وعلى آله، كما يليق برحمتك وبحرمته

آمــــين
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-02-2011
  #15
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

الكلمة الثالثة عشرة

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] ونُنـزّل من القرآنِ ما هو شِفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين[ (الاسراء: 82)

] وما علّمناه الشِعْرَ وَمَا يَنْبَغي لهُ[ (يس:69)

اذا اردتَ أن تعقد موازنة ومقارنة بين حكمة القرآن الحكيم والعلوم الفلسفية، واردت أن تعرف ما يمكن ان يُستخلص من كل منهما من دروس العبرة والعظة، ورمتَ أن تلمس ما ينطويان عليه من علوم.. فامعن النظر وتأمل فيما يأتي:

ان القرآن الكريم، ببياناته القوية النافذة، انما يمزّق غطاء الاُلفة وستار العادة الملقى على موجودات الكون قاطبة، والتي لا تُذكر الاّ انها عادية مألوفة مع انها خوارق قدرةٍ بديعة ومعجزاتها العظيمة. فيكشف القرآن بتمزيقه ذلك الغطاء حقائق عجيبة لذوي الشعور، ويُلفت انظارهم الى ما فيها من دروس بليغة للاعتبار والعظة، فاتحاً كنزاً لا يفنى للعلوم امام العقول.

اما حكمة الفلسفة، فهي تخفي جميع معجزات القدرة الإلهية وتسترها تحت غطاء الاُلفة والعادة، فتجاوزها دون اكتراث. بل تتجاهلها دون مبالاة بها، فلا تعرض امام انظار ذوي الشعور الا افراداً نادرة شذّت عن تناسق الخلقة، وتردّت عن كمال الفطرة السليمة مدّعية انها نماذج حكمةٍ ذات عبرة.

فمثلاً: ان الانسان السوي الذي هو في احسن تقويم جامعٍ لمعجزات القدرة الإلهية، تنظر اليه حكمةُ الفلسفة نظرها الى شئ عادي مألوف، بينما تلفت الانظار الى ذلك الانسان المشوّه الذي شذّ عن كمال الخلقة، كأن يكون له ثلاثة ارجل أو رأسين مثلاً، فتثير حوله نظر العبرة والاستغراب.

ومثلاً: ان اعاشة جميع الصغار من خزائن الغيب اعاشةً في منتهى الانتظام التي تمثل ألطف معجزة من معجزات رحمته تعالى واعمّها في الوجود، تنظر اليها حكمة الفلسفة أمراً مألوفاً عادياً، فتسترها بستار الكفران، بينما تلفت الانظار الى اعاشة حشرة شذت عن النظام ونأت عن طائفتها وظلت وحيدة في الغربة فريدة في اعماق البحر، فبدأت تقتات على ورق نبات اخضر هناك حتى انها لتثير اشجان الصيادين الى ما يتجلى منها من لطف وكرم بل تدفعهم الى البكاء والحزن(1).

فشاهد في ضوء هذه الامثلة ثروة القرآن الطائلة وغناه الواسع في معرفة الله في ميدان العلم والحكمة.. وافلاس الفلسفة وفقرها المدقع في دروس العبرة والعلم بمعرفة الصانع الجليل.

ولأجل هذا السر فالقرآن الكريم الذي هو جامع لحقائق باهرة ساطعة لا نهاية لها، مستغنٍ عن خيالات الشعر.. وثمة سبب آخر لتنزه القرآن عن الشعر هو ان القرآن مع انه في اتم نظام خارق واكمل انتظام معجز ويفسّر - باساليبه المنتظمة - تناسق الصنعة الإلهية في الكون نراه غير منظوم، فكل آية من نجوم آياته لا تتقيد بنظام الوزن، لذا تصبح كأنها مركز لأكثر الآيات وشقيقتها. اذ تمثل خيوط العلاقة بين الآيات المترابطة في المعنى دائرة واسعة. فكأن كل آيةٍ حرةٍ - غير مقيدة بنظام الوزن - تملك عيوناً باصرة الى اكثر الآيات، ووجوهاً متوجهة اليها.

ومن هذا نجد في القرآن الكريم آلافاً من القرائين حتى أنه يهب لكل ذي مشرب قرآناً منه. فسورة الاخلاص - مثلاً - تشتمل على خزينة عظيمة لعلم التوحيد، تضم ستاً وثلاثين سورة اخلاصٍ، تتكون من تراكيب جملها الست ذات العلاقات المترابطة بعضها ببعض، كما وضّح ذلك في الكلمة الخامسة والعشرين.

نعم! ان عدم الانتظام الظاهر في نجوم السماء، يجعل كل نجم منها غير مقيـد وكأنها مركز لاكثر النجوم ضمن دائرة محيطها. فتمد خيوط العلاقات وخطوط الاواصر الى كل منها اشارة الى العلاقات الخفية فيما بين الموجودات قاطبة. وكأن كل نجمة - كنجوم الآيات الكريمة - تملك عيوناً باصرة الى النجوم كافة ووجوهاً متوجهة اليها جميعاً .

فشاهد كمال الانتظام في عدم الانتظام. واعتبر! واعلم من هذا سراً من أسرار الآية الكريمة ] وما علّمناه الشعر وما ينبغي له[ (يس:69)

واعلم ايضاً حكمةً اخرى لـ] وما ينبغي له[ مما يأتي:

ان شأن الشعر هو تجميل الحقائق الصغيرة الخامدة، وتزيينها بالخيال البراق، وجعلها مقبولة تجلب الاعجاب.. بينما حقائق القرآن من العظمة والسمو والجاذبية بحيث تبقى اعظم الخيالات واسطعها قاصرة دونها، وخافته امامها.

فمثلاً:قوله تعالى ] يومَ نطوي السماءَ كطي السّجل للكتب[ (الانبياء104) ] يُغشي الليلَ النهار يطلبُه حثيثاً[ (الاعراف:54) ] ان كانت الاّ صيحةً واحدةً فاذا هم جميعٌ لدينا مُحـضَرون[ (يس:53). وامثالها من الحقائق التي لا حدّ لها في القرآن الكريم شاهدات على ذلك.

اذا شئت ان تشاهد وتتذوق كيف تنشر كلُ آية من القرآن الكريم نورَ اعجازها وهدايتها وتبدّد ظلمات الكفر كالنجم الثاقب؛ تصوَّر نفسَك في ذلك العصر الجاهلي وفي صحراء تلك البداوة والجهل. فبينا تجد كل شئ قد اسدل عليه ستار الغفلة وغشيه ظلام الجهل ولفّ بغلاف الجمود والطبيعة، اذا بك تشاهد وقد دّبت الحياة في تلك الموجودات الهامدة أو الميتة في اذهان السامعين فتنهض مسبّحةً ذاكرةً الله بصدى قوله تعالى ] يسبّح لله ما في السموات وما في الارض الملكِ القدوسِ العزيزِ الحكيم[ (الجمعة:1) وما شابهها من الآيات الجليلة.

ثم ان وجه السماء المظلمة التي تستعر فيها نجومٌ جامدة، تتحول في نظر السامعين،بصدى قوله تعالى ] تسبّح له السمواتُ السبعُ والارضُ[ (الاسراء:44) الى فمٍ ذاكرٍ لله، كل نجم يرسل شعاع الحقيقة ويبث حكمة حكيمة بليغة.

وكذا وجه الارض التي تضم المخلوقات الضعيفة العاجزة تتحول بذلك الصدى السماوي الى رأس عظيم، والبر والبحر لسانين يلهجان بالتسبيح والتقديس وجميع النباتات والحيوانات كلمات ذاكرة مسبّحة؛ حتى لكأن الأرض كلها تنبض بالحياة.

وهكذا بانتقالك الشعوري الى ذلك العصر تتذوق دقائق الاعجاز في تلك الآية الكريمة. وبخلاف ذلك تُحرَم من تذوق تلك الدقائق اللطيفة في الآية الكريمة.

نعم! انك اذا نظرت الى الآيات الكريمة من خلال وضعك الحاضر الذي استنار بنور القرآن منذ ذلك العصر حتى غدا معروفاً، واضاءته سائر العلوم الاسلامية، حتى وضحت بشمس القرآن. أي اذا نظرت الى الآيات من خلال ستار الأُلفة، فانك بلا شك لا ترى رؤية حقيقية مدى الجمال المعجز في كل آية، وكيف انها تبدد الظلمات الدامسة بنورها الوهاج. ومن بعد ذلك لا تتذوق وجه اعجاز القرآن من بين وجوهه الكثيرة.

واذا اردت مشاهدة اعظم درجة لأعجاز القرآن الكثيرة، فاستمع الى هذا المثال وتأمل فيه: لنفرض شجرة عجيبة في منتهى العلو والغرابة وفي غاية الانتشار والسعة؛ قد اُسدل عليها غطاء الغيب، فاستترت طي طبقات الغيب.

فمن المعلوم أن هناك توازناً وتناسباً وعلاقاتِ ارتباط بين اغصان الشجرة وثمراتها واوراقها وازاهيرها - كما هو موجود بين اعضاء جسم الانسان - فكل جزء من اجزائها يأخذ شكلاً معيناً وصورة معينة حسب ماهية تلك الشجرة.

فاذا قام احدٌ - من قِبل تلك الشجرة التي لم تُشاهَد قط ولا تُشاهد - ورسم على شاشةٍ صورةً لكل عضو من اعضاء تلك الشجرة، وحدّ له، بأن وضع خطوطاً تمثل العلاقات بين اغصانها وثمراتها واوراقها، وملأ ما بين مبدئها ومنتهاها - البعيدين عن بعضهما بما لايحد - بصورٍ وخطوط تمثل اشكال اعضائها تماماً وتبرز صورها كاملة.. فلا يبقى ادنى شك في أن ذلك الرسام يشاهد تلك الشجرة الغيبية بنظره المطلع على الغيب ويحيط به علماً، ومن بعد ذلك يصوّرها.

فالقرآن المبين - كهذا المثال - ايضاً فان بياناته المعجزة التي تخص حقيقة الموجودات (تلك الحقيقة التي تعود الى شجرة الخلق الممتدة من بدء الدنيا الى نهاية الآخرة والمنتشرة من الفرش الى العرش ومن الذرات الى الشموس) قد حافظت - تلك البيانات الفرقانية - على الموازنة والتناسب واعطت لكل عضو من الاعضاء ولكل ثمرة من الثمرات صورة تليق بها بحيث خَلُص العلماء المحققون - لدى اجراء تحقيقاتهم وابحاثهم - الى الانبهار والإنشداه قائلين: ما شاء الله.. بارك الله. ان الذي يحل طلسم الكون ويكشف معمّى الخلق انما هو أنت وحدك ايها القرآن الحكيم!

فلنـمـثل - ولله المثل الاعلى - الاســمـاء الالهــيـة وصفاتها الجليـلة والشــؤون الربانية وافعالها الحكيمة كأنها شجرة طوبى من نور تمتد دائرة عظمتها من الازل الى الابد، وتسع حدود كبريائها الفضاء المطلق غير المحدود وتحيط به. ويمتد مدى

اجراءاتها من حدود ] فالق الحب والنوى[ (الانعام:95) ] ويحوُل بين المرء وقلبه[ (الانفال:24) ] وهو الذي يصوركم في الارحام كيف يشاء[ (آل عمران:6) الى ] خلق السموات والارض في ستة أيام[ (هود:7) والى ] والسموات مطويات بيمينه[ (الزمر:67) ] وسخر الشمس والقمر[ فنرى ان القرآن الكريم يبين تلك الحقيقة النورانية بجميع فروعها واغصانها وبجميع غاياتها وثمراتها بياناً في منتهى التوافق والانسجام بحيث لا تعيق حقيقةٌ حقيقةً اخرى ولا يفسد حكمُ حقيقةٍ حُكْماً لأُخرى، ولا تستوحش حقيقة من غيرها. وعلى هذه الصورة المتجانسة المتناسقة بيّنَ القرآن الكريم حقائق الاسماء الإلهية والصفات الجليلة والشؤون الربانية والافعال الحكيمة بياناً معجزاً بحيث جعل جميع أهل الكشف والحقيقة وجميع اولي المعرفة والحكمة الذين يجولون في عالم الملكوت، يصّدقونه قائلين امام جمال بيانه المعجز والاعجابُ يغمرهم: ((سبحان الله! ما اصوبَ هذا! وما اكثر انسجامه وتوافقه وتطابقه مع الحقيقة وما اجمله وأليقه)).

فلو اخذنا مثلاً اركانَ الايمان الستة التي تتوجه الى جميع دائرة الموجودات المختلفة ودائرة الوجوب الإلهي والتي تعد غصناً من تلكما الشجرتين العظميين، يصورها القرآن الكريم بجميع فروعها واغصانها وثمراتها وازاهيرها مراعياً في تصويره انسجاماً بديعاً بين ثمراتها وازاهيرها معّرفاً طرز التناسب في منتهى التوازن والاتساق بحيث يجعل عقل الانسان عاجزاً عن ادراك ابعاده ومبهوتاً أمام حسن جماله.

ثم ان الاسلام الذي هو فرع من غصن الايمان، أبدع القرآن الكريم واتى بالرائع المعجب في تصوير ادق فروع اركانه الخمسة وحافظ على جمال التناسب وكمال التوازن فيما بينها، بل حافظ على ابسط ادابها ومنتهى غاياتها واعمق حِكَمها واصغر فوائدها وثمراتها وابهر دليل على ذلك هوكمال انتظام الشريعة العظمى النابعة من نصوصذلك القرآن الجامع ومن اشاراته ورموزه..

فكمال انتظام هذه الشريعة الغراء وجمال توازنها الدقيق وحسن تناسب احكامها ورصانتها كل منها شاهِدُ عدلٍ لا يجرح وبرهان قاطع باهر لا يدنو منه الريب ابداً على أحقية القرآن الكريم بمعنى ان البيانات القرآنية لا يمكن ان تستند الى علم جزئي لبشر، ولا سيما إنسان اميّ، بل لابد ان تستند الى علم واسع محيط بكل شئ والبصير بجميع الاشياء معاً..

فهو كلام ذات الله الجليل البصير بالازل والابد معاً والشاهد بجميع الحقائق في آن واحد. ومما يشير الى هذه الحقيقة الآية الكريمة:

] الحمد لله الذي انزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً[ (الكهف:1)



اللهم يا منـزِّل القرآن! بحق القرآن وبحقّ من اُنزل عليه القرآن

نوّر قلوبنا وقبورنا بنور الايمان والقرآن

آمين يا مستعان!!

المقام الثاني

من الكلمة الثالثة عشرة

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

[ حوار مع عدد من الشباب الذين تتجاذبهم الاغراءات والأهواء ولكنهم لم يفقدوا بعدُ صوابهم ]

طلب عدد من الشباب ان تعينهم (رسائل النور) وتمدّ لهم يد النجدة سائلين:

كيف يمكننا أن ننقذ آخرتنا ازاء ما يحيط بنا في زماننا هذا من فتنة الاغراء وجاذبية الهوى وخداع اللهو؟

فأجبتهم باسم شخصية (رسائل النور) المعنوية قائلاً:

القبر ماثل أمام الجميع! لا يمكن أن ينكره أحد. كلُّنا سندخله لا مناص! والدخول فيه بثلاثة طرق لا غيرها:

الطريق الاول: يؤدي الى أن القبر باب ينفتح للمؤمنين الى رياض جميلة وعالمٍ رحب فسيح أفضلَ وأجملَ من هذه الدنيا.

الطريق الثاني: يوصل الى أن القبر باب لسجن دائم للمتمادين في الضلالة والغي - مع ايمانهم بالآخرة - فهم يعامَلون بجنس ما كانوا يعتقدونه ويرون الوجود والحياة من خلاله؛ فيُعزَلون عن جميع أحبتهم في هذا السجن الانفرادي، لعدم عملهم بما كانوا يعتقدونه.

الطريق الثالث: ينساق اليه مَن لا يؤمن بالآخرة من أرباب الضلالة، فاذا القبر بابٌ الى العدم المحض واعدامٌ نهائي له. والقبر في نظره مشنقة تُفنيه وتُفني معه جميعَ أحبته. فهذا هو جزاء جحوده بالآخرة.

هذان الشقان بديهيان، لا يحتاجان الى دليل، اذ يمكن مشاهدتهما رأي العين.

فما دام الاجلُ مستوراً عنا بستار الغيب، والموتُ يمكنه أن يدركنا في كل حين، يضرب عنق الانسان دون تمييز بين الشاب والشيخ، فلا شك أن الانسان الضعيف الذي يرى هذه القضية المذهلة أمام عينيه، في كل وقت، سوف يتحرى عما ينجيه من ذلك الاعدام، ويبحث عما يحوّل له بابَ القبر من ظلمة قاتمة الى نور ساطع ينفتح الى عالم خالد ورياض مونقة في عالم النور والسعادة الخالدة.. ولا ريب أن هذه المسألة هي القضية الكبرى لدى الانسان، بل هي أعظم و أجلّ من الدنيا كلها.

ان ظهور هذه الحقيقة، حقيقة الموت والقبر، بالطرق الثلاثة المتقدمة، ينبئ بها مائة وأربعة وعشرون ألفاً من المخبرين الصادقين، وهم الانبياء الكرام عليهم السلام الحاملون لواء تصديقهم الذي هو معجزاتهم الباهرة.. وينبىء بها مائة وأربعة وعشرون مليوناً من الاولياء الصالحين، يصدّقون ما أخبر به أولئك الانبياء الكرام، ويشهدون لهم على الحقيقة نفسها بالكشف والذوق والشهود.. وينبئ بها ما لا يعد ولا يحصى من العلماء المحققين، يثبتون ما أخبر به أولئك الانبياء والاولياء بأدلتهم العقلية القاطعة البالغة درجة علم اليقين(1)، وبما يصل الى تسع وتسعين بالمئة من الثبوت والجزم.. فالجميع يقررون:

أن النجاة من الاعدام الابدي، والخلاص من السجن الانفرادي، وتحويل الموت الى سعادة أبدية، انما تكون بالايمان بالله وطاعته ليس الاّ.

نعم! لو سار أحدُهم في طريقٍ غيرَ مكترث بقول مخبر عن وجود خطر مهلك، ولو باحتمال واحد من المائة، أليس ما يحيط به من قلق وخوف عما يتصوره ويتوقعه من مخاطر كافياً لقطع شهيته عن الطعام؟ فكيف اذن بإخبار مئات الآلاف من الصادقين المصدّقين، إخباراً يبلغ صدقُهم مائة في المائة، واتفاقهم جميعاً على أن الضلالة والجحود يدفعان الانسان الى مشنقة القبر وسجنه الانفرادي الابدي - كما هو ماثل امامكم - وان الايمان والعبادة بيقين مائة في المائة، كفيلان برفع أعواد المشنقة واغلاق باب السجن الانفرادي، وتحويل القبر الى باب يُفتح الى قصور مزيّنة عامرة بالسعادة الدائمة، وكنوز مليئة لا تنضب.. علماً أنهم مع أخبارهم هذا يدلون على اماراتها ويظهرون آثارها.

والآن أوجه اليكم هذا السؤال:

- تُرى ما موقف الانسان البائس، ولا سيما المسلم، ازاء هذه المسألة الجسيمة الرهيبة؟ هل يمكن أن تزيل سلطنةُ الدنيا كلها مع ما فيها من متع ولذائذ، ما يعانيه الانسان من اضطراب وقلق في انتظار دوره في كل لحظة للدخول الى القبر، إن كان فاقداً للايمان والعبادة؟.

ثم أن الشيخوخة والمرض والبلاء، وما يحدث من وفيات هنا وهناك، تقطّر ذلك الألم المرير الى نفس كل انسان، وتُنذره دوماً بمصيره المحتوم. فلا جرم أن أولئك الضالين وأرباب السفاهة والمجون سيتأجج في قلوبهم جحيمٌ معنوي، يعذبهم بلظاه حتى لو تمتعوا بمباهج الدنيا ولذائذها، بيد أن الغفلة وحدها هي التي تحول دون استشعارهم ذلك العذاب الاليم.

فما دام أهل الايمان والطاعة يرون القبر الماثل أمامَهم باباً الى رياض سعادة دائمة ونعيم مقيم، بما مُنحوا من القدر الالهي من وثيقة تُكسبهم كنوزاً لا تفنى بشهادة الايمان، فان كلاً منهم سيشعر لذة عميقة حقيقية راسخة، ونشوة روحية لدى انتظاره كل لحظة مَن يناديه قائلاً: تعال خذ بطاقتك! بحيث أن تلك النشوة الروحية لو تجسمت لاصبحت بمثابة جنة معنوية خاصة بذلك المؤمن، بمثل ما تتحول البذرة وتتجسم شجرةً وارفة.

ولما كان الامر هكذا، فالذي يدَع تلك المتعة الروحية الخالصة لأجل لذة مؤقتة غير مشروعة منغصة بالآلام - كالعسل المسموم - بدافع من طيش الشباب وسفاهته، سينحط الى مستوى أدنى بكثير من مستوى الحيوان.. بل لا يبلغ أن يكون حتى بمثل الملاحدة الاجانب أيضاً؛ لان مَن ينكر منهم رسولَنا الكريم صلى الله عليه وسلم فقد يؤمن برسل آخرين، وإن لم يؤمن بالرسل كلهم، فقد يؤمن بوجوده تعالى. وإن لم يؤمن بالله، فقد تكون له من الخصال الحميدة ما يريه الكمالات. بينما المسلم لم يعرف الرسل الكرام ولا آمن بربه ولا عرف الكمالات الانسانية الا بوساطة هذا النبي الكريم e لذا مَن يترك منهم التأدب بتربيته المباركة ويحل ربقته عن أوامره فلا يعترف بنبي آخر، بل يجحد حتى بالله سبحانه وتعالى. ولا يستطيع أن يحافظ على أسس الكمالات الانسانية في روحه؛ ذلك لان أصول الدين وأسس التربية التي جاء بها الرسول الكريم e هي من الرسوخ والكمال ما لا يمكن أن يحرز نوراً ولا كمالاً قط مَن يَدَعها ويتركها، بل يُحكَم عليه بالتردي والسقوط المطلق، اذ هو e خاتم النبيين وسيد الانبياء والمرسلين، وإمام البشرية بأكملها، في الحقائق كلها، بل هو مدار فخرها واعتزازها، كما أثبت ذلك اثباتاً رائعاً على مدى أربعة عشر قرناً.

فيا مَن فُتنتم بزهرة الحياة الدنيا ومتاعها، ويا مَن يبذلون قصارى جهدهم لضمان الحياة والمستقبل بالقلق عليهما! أيها البائسون!

ان كنتم ترومون التمتع بلذة الدنيا والتنعم بسعادتها وراحتها، فاللذائذ المشروعة تُغنيكم عن كل شئ، فهي كافية ووافية لتلبية رغباتكم وتطمين أهوائكم. ولقد أدركتم - مما بيناه آنفاً - أن كل لذة ومتعة خارج نطاق الشرع فيها ألف ألمٍ وألم، اذ لو أمكن عرض ما سيقع من أحداث مقبلة بعد خمسين سنة مثلاً، على شاشة الآن مثلما تُعرض الاحداث الماضية عليها لبكى أربابُ الغفلة والسفاهة بكاءً مراً أليماً على ما يضحكون له الآن.

فمن كان يريد السرور الخالص الدائم والفرح المقيم في الدنيا والآخرة، عليه أن يقتدي بما في نطاق الايمان من تربية محمد e .

حوار مع فريق من الشباب

جاءني - ذات يوم - فريق من الشباب، يتدفقون نضارة وذكاءً، طالبين تنبيهات قوية وارشادات قويمة تقيهم من شرورٍ تتطاير من متطلبات الحياة ومن فتوة الشباب ومن الاهواء المحيطة بهم.

فقلت لهم بمثل ما قلته لأولئك الذين طلبوا العون من رسائل النور:

اعلموا ان ما تتمتعون به من ربيع العمر ونضارة الحياة ذاهب لا محالة، فان لم تلزموا انفسكم بالبقاء ضمن الحدود الشرعية، فسيضيع ذلك الشباب ويذهب هباءً منثوراً، ويجرّ عليكم في الدنيا وفي القبر وفي الآخرة بلايا ومصائب وآلاماً تفوق كثيراً ملذات الدنيا التي أذاقكم اياها.. ولكن لو صرفتم ربيع عمركم في عفة النفس وفي صون الشرف وفي طاعة ربكم بتربيته على الاسلام، اداءاً لشكر الله تعالى على ما أنعم عليكم من نعمة الفتوة والشباب، فسيبقى ويدوم ذلك العهد معنىً، وسيكون لكم وسيلة للفوز بشباب دائم خالد في الجنة الخالدة.

فالحياة، ان كانت خالية من الايمان، او فَقَد الايمانُ تأثيره فيها لكثرة المعاصي، فانها مع متاعها ولذتها الظاهرية القصيرة جداً تذيق الآلام والاحزان والهموم اضعافَ اضعافِ تلك المتع والملذات، ذلك لأن الانسان - بما مُنح من عقل وفكر - ذو علاقة فطرية وثيقة بالماضي والمستقبل فضلاً عما هو عليه من زمان حاضر حتى انه يتمكن من ان يذوق لذائذ تلك الازمنة ويشعر بآلامها، خلافاً للحيوان الذي لا تعكر صفو لذته الحاضرة الاحزانُ الواردة من الماضي ولا المخاوف المتوقعة في المستقبل، حيث لم يمنح الفكر.

ومن هنا فالانسان الذي تردّى في الضلالة واطبقت عليه الغفلة تفسد متعتُه الحاضرة بما يردُه من احزان من الماضي، وما يرده من اضطرابٍ من القلق على المستقبل. فتتكدر حياتُه الحاضرة بالآلام والاوهام، سيما الملذات غير المشروعة، فهي في حكم العسل المسموم تماماً.

اي ان الانسان هو أدنى بمائة مرة من الحيوان من حيث التمتع بملذات الحياة. بل ان حياة ارباب الضلالة والغفلة، بل وجودهم وعالَمهم، ما هو الاّ يومهم الحاضر، حيث ان الازمنة الماضية كلها وما فيها من الكائنات معدومة، ميتة، بسبب ضلالتهم، فترِدهم من هناك حوالك الظلمات..!

أما الازمنة المقبلة فهي ايضاً معدومة بالنسبة اليهم، وذلك لعدم ايمانهم بالغيب. فتملأ الفراقات الابدية التي لا تنقطع حياتهم بظلمات قاتمة، ما داموا يملكون العقل جاحدين بالبعث والنشور.

ولكن اذا ما اصبح الايمانُ حياةً للحياة، وشعّ فيها من نوره، استنارت الازمنة الماضية واستضاءت الازمنة المقبلة، وتجدان البقاء وتمدان روح المؤمن وقلبه من زاوية الايمان، باذواق معنوية سامية وانوار وجودية باقية، بمثل ما يمدّهما الزمن الحاضر.

هذه الحقيقة موضحة توضيحاً وافياً في ((الرجاء السابع)) من رسالة ((الشيوخ)) فليراجع.

هكذا الحياة.. فان كنتم تريدون ان تستمتعوا بالحياة وتلتذوا بها فاحيوا حياتكم بالايمان وزيّنوها باداء الفرائض، وحافظوا عليها باجتناب المعاصي.

أما حقيقة الموت التي تُطلعنا على اهوالها، الوفياتُ التي نشاهدها كل يوم، في كل مكان، فسأبينها لكم في مثال، مثلما بينتها لشبان آخرين من امثالكم

تصوروا ههنا - مثلاً - اعواداً نُصبت امامكم للمشنقة، وبجانبها دائرة توزع جوائز سخية كبرى للمحظوظين.. ونحن الاشخاص العشرة هنا سنُدعى الى هناك طوعاً أو كرهاً. ولكن لأن زمان الاستدعاء مخفي عنّا، فنحنُ في كل دقيقة بانتظار مَن يقول لكلٍ منا: تعال.. تسلّم قرار اعدامك، واصعد المشنقة!. أو يقول: تعال خذ بطاقة تربحك ملايين الليرات الذهبية.!

وبينا نحن واقفون منتظرون، اذا بشخصين حضرا لدى الباب. احدهما اِمرأة جميلة لعوب شبه عارية تحمل في يدها قطعة من الحلوى، تقدّمها الينا تبدو أنها شهية، ولكنها مسمومة في حقيقتها.

أما الآخر فهو رجل وقور كيّس - ليس خباً ولا غرّاً - دخل على اثر تلك المرأة وقال: لقد أتيتكم بطلسم عجيب، وجئتكم بدرس بليغ، اذا قرأتم الدرس ولم تأكلوا من تلك الحلوى، تنجون من المشـنـقة، وتـتـسلـمون - بهذا الطلسـم - بطاقة تلك الجائزة الثمينة.. فها انتم اولاء ترون بأم اعينكم ان مَن يأكل تلك الحلوى، يتلوى من آلام البطن حتى يصعد المشنقة.

أما الفائزون ببطاقة الجائزة، فمع انهم محجوبون عنّا، ويبدون انهم يصعدون منصّة المشنقة الاّ ان اكثر من ملايين الشهود يخبرون بأنهم لم يُشنَقوا، وانما اتخذوا اعواد المشنقة سلماً للاجتياز بسهولة ويسر الى دائرة الجوائز.

فهيا انظروا من النوافذ، لتروا كيف ان كبار المسؤولين المشرفين على توزيع تلك الجوائز ينادون بأعلى صوتهم قائلين:

ان اصحاب ذلك الطلسم العجيب قد فازوا ببطاقة الجوائز.. اعلموا هذا يقيناً كما رأيتم بعين اليقين اولئك الذاهبين الى المشنقة، فلا يساورنكم الشك في هذا، فهو واضح وضوح الشمس في رابعة النهار.

وهكذا على غرار هذا المثال:

فان متع الشباب وملذاته المحظورة شرعاً كالعسل المسموم.. وغدا الموت لدى الذي فقد بطاقة الإيمان التي تربحه السعادة الأبدية كأنه مشنقة، فينتظر جلاد الأجل الذي يمكن ان يحضر كل لحظة - لخفاء وقته عنا - ليقطع الاعناق دون تمييز بين شاب وشيخ.. فيرديه الى حفرة القبر الذي هو باب لظلمات أبدية كما هو في ظاهره..

ولكن اذا ما أعرض الشاب عن تلك الملذات المحظورة، الشبيهة بالعسل المسموم وضرب عنها صفحاً، وبادر الى الحصول على ذلك الطلسم القرآني وهو الإيمان واداء الفرائض، فان مائة واربعة وعشرين الفاً من الانبياء عليهم السلام، وما لا يعد ولا يحصى من الأولياء الصالحين والعلماء العاملين يخبرون ويبشّرون بالاتفاق مظهرين آثار ما يخبرون عنه بأن المؤمن سيفوز ببطاقة تكسبه كنوز السعادة الأبدية.

حاصل الكلام: ان الشباب سيذهب حتماً وسيزول لا محالة. فان كان قد قضي في سبيل الملذات ونشوة الطيش والغرور، فسيورث آلاف البلايا والآلام والمصائب الموجعة سواءً في الدنيا أو الآخرة.

وان كنتم ترومون أن تفهموا بأن أمثال هؤلاء الشباب سيؤول حالُهم في غالب الأمر الى المستشفيات، بسبب تصرفاتهم الطائشة واسرافاتهم وتعرضهم لأمراض نفسية.. أو الى السجون واماكن الاهانة والتحقير، بسبب نزواتهم وغرورهم.. أو الى الملاهي والخمارات بسبب ضيق صدورهم من الآلام والاضطرابات المعنوية والنفسية التي تنتابهم.. نعم.. اِن شئتم أن تتيقنوا من هذه النتائج فأسألوا المستشفيات والسجون والمقابر.. فستسمعون بلاشك من لسان حال المستشفيات الأنات والآهات والحسرات المنبعثة من امراض نجمت من نزوات الشباب واسرافهم في امرهم.. وستسمعون ايضاً من السجون صيحات الأسى واصوات الندم وزفرات الحسرات يطلقها اولئك الشبان الاشقياء الذين انساقوا وراء طيشهم، وغرورهم فتلقوا صفعة التأديب لخروجهم على الاوامر الشرعية، وستعلمون ايضاً ان اكثر ما يعذّب المرء في قبره - ذلك العالم البرزخي الذي لا تهدأ ابوابُه عن الانفتاح والانغلاق لكثرة الداخلين فيه - ما هو الاّ بما كسبت يداه من تصرفات سيئة في سني شبابه، كما هو ثابت بمشاهدات اهل كشف القبور، وشهادة جميع اهل الحقيقة والعلم وتصديقهم.

واسألوا اِن شئتم الشيوخ والمرضى الذين يمثلون غالبية البشرية، فستسمعون ان أكثريتهم المطلقة يقولون:

((وا أسفى على ما فات! لقد ضيعنا ربيع شبابنا في امور تافهة، بل في امور ضارة! فإياكم إياكم ان تعيدوا سيرتنا، وحذار حذار ان تفعلوا مثلنا!)).

ذلك لأن الذي يقاسي سنواتٍ من الغم والهم في الدنيا، والعذاب في البرزخ، ونار سَقَر في الآخرة، لأجل تمتع لا يدوم خمس أو عشر سنوات من عمر الشباب بملذات محظورة.. غيرجدير بالاشفاق، مع أنه في أشد الحالات استدراراً للشفقة والرثاء، لأن الذي يرضى بالضرر وينساق اليه طوعاً، لا يستحق الإشفاق عليه ولا النظر الى حاله بعين الرحمة، وفق القاعدة الحكيمة:((الراضي بالضرر لا يُنظر له)).

حفظنا الله واِياكم من فتنة هذا الزمان المغرية ونجانا من شرورها..

آمـين

[ حاشية المقام الثاني من الكلمة الثالثة عشرة ]

باسمه سبحانه

ان المسجونين هم في امسّ الحاجة الى ما في رسائل النور من سلوان حقيقي وعزاء خالص. ولا سيما أولئك الشبان الذين تلقوا صفعات التأديب ولطمات التأنيب بنزواتهم واهوائهم. فقضوا نضارة عمرهم في السجن، فحاجة هؤلاء الى النور كحاجتهم الى الخبز.

ان عروق الشباب تنبض لهوى المشاعر، وتستجيب لها اكثر مما تستجيب للعقل وترضخ له. وسَورات الهوى - كما هو معلوم - لا تبصر العقبى، فتفضل درهماً من لذة حاضرة عاجلة على طنٍ من لذة آجلة، فيُقدم الشاب بدافع الهوى على قتل انسان برئ للتلذذ بدقيقة واحدة من لذة الانتقام، ثم يقاسي من جرائها ثمانية آلاف ساعة من آلام السجن.. والشاب ينساق الى التمتع لساعة واحدة في اللهو والعبث - في قضية تخص الشرف - ثم يتجرع من ورائها آلام ألوف الأيام من سجن وخوف وتوجس من العدو المتربص به.. وهكذا تضيع منه سعادة العمر بين قلق واضطراب وخوف وآلام.

وعلى غرار هذا يقع الشباب المساكين في ورطات ومشاكل عويصة كثيرة حتى تحوّل ألطف أيام حياتهم واحلاها الى أمرّ الايام وأقساها، وفي حالة يرثى لها. ولا سيما بعد ان هبت عواصف هوجاء من الشمال تحمل فتناً مدمرة لهذا العصر؛ اذ تستبيح لهوى الشباب الذي لا يرى العقبى أعراضَ النساء والعذارى الفاتنات وتدفعهم الى الاختلاط الماجن البذئ، فضلاً عن إباحتها أموال الأغنياء لفقراء سفهاء.

ان فرائص البشرية كلها لترتعد أمام هذه الجرائم المنكرة التي تُرتكب بحقها.

فعلى الشباب المسلم في هذا العصر العصيب ان يشمّروا عن ساعد الجد لينقذوا الموقف، ويسلّوا السيوف الالماسية لحجج ((رسائل النور)) وبراهينها الدامغة - التي في رسالة ((الثمرة)) و((مرشد الشباب)) وامثالهما - ويدافعوا عن أنفسهم، ويصدّوا هذا الهـجـوم الكاسـح الـذي شُنّ عليهـم من جـهتـين.. والاّ فسيضيع مستــقبل الشـباب في العالم، وتذهب حياته السعيدة، ويفقد تنعّمه في الآخرة، فتنقلب كلها الى آلامٍ وعذاب؛ اذ سيكون نزيل المستشفيات، بما كَسبت يداه من اسراف وسفاهة.. ونزيل السجون، بطيشه وغيّه.. وسيبكي أيام شيخوخته بكاءً مراً ويزفر زفرات ملؤها الحسرات والآلام.

ولكن اذا ما صان نفسه بتربية القرآن، ووقاها بحقائق ((رسائل النور)) فسيكون شاباً رائداً حقاً، وانساناً كاملاً، ومسلماً صادقاً سعيداً، وسلطاناً على سائر المخلوقات.

نعم، ان الشاب اذا دفع ساعة واحدة من اربع وعشرين ساعة من يومه في السجن الى اقامة الفرائض، وتاب عن سيئاته ومعاصيه التي دفَعَتْه الى السجن، وتجنب الخطايا والذنوب مثلما يجنّبه السجن اِياها.. فانه سيعود بفوائد جمة الى حياته والى مستقبله والى بلاده والى أمته والى احبّائه واقاربه، فضلاً عن انه يكسب شباباً خالداً في النعيم المقيم بدلاً من هذا الذي لا يدوم خمس عشرة سنة.

هذه الحقيقة يبشرّ بها ويخبر عنها عن يقين جازم جميع الكتب السماوية وفي مقدمتها القرآن الكريم.

نعم! اذا ما شكر الشاب على نعمة الشباب - ذلك العهد الجميل الطيب - بالاستقامة على الصراط السوي، واداء العبادات، فان تلك النعمة المهداة تزداد ولا تنقص، وتبقى من دون زوال، وتصبح أكثر متعة وبهجة.. واِلاّ فانها تكون بلاء ومصيبة مؤلمة ومغمورة بالغم والحزن والمضايقات المزعجة حتى تذهب هباء فيكون عهد الشباب وبالاً على نفسه وأقاربه وعلى بلاده وأمته.

هذا وان كل ساعة من ساعات المسجون الذي حكم عليه ظلماً تكون كعبادة يومٍ كامل له، ان كان مؤدياً للفرائض، ويكون السجن بحقه موضع انزواء واعتزال من الناس كما كان الزهاد والعباد ينزوون في الكهوف والمغارات ويتفرغون للعبادة. أي يمكن ان يكون هو مثل اولئك الزهاد.

وستكون كل ساعة من ساعاته ان كان فقيراً ومريضاً وشيخاً متعلقاً قلبه بحقائق الايمان وقد أناب الى الله وادّى الفـرائض، في حـكم عبـادة عشـرين ساعة له، ويتحول السجن بحقه مدرسـة تربوية ارشادية، وموضع تحابب ومـكان تـعاطف، حيث يقضي أيامه مع زملائه في راحة فضلاً عن راحته وتوجه الانظار اليه بالرحمة، بل لعله يفضل بقاءه في السجن على حريته في الخارج التي تنثال عليه الذنوب والخطايا من كل جانب، ويأنس بما يتلقى من دروس التربية والتزكية فيه. وحينما يغادره لا يغادره قاتلاً ولا حريصاً على أخذ الثأر، وانما يخرج رجلاً صالحاً تائباً الى الله، قد غنم تجارب حياتية غزيرة. فيصبح عضواً نافعاً للبلاد والعباد، حتى حدا الامر بجماعة كانوا معنا في سجن ((دنيزلي)) الى القول، بعدما أخذوا دروساً ايمانية في سمو الاخلاق ولو لفترة وجيزة من رسائل النور:

((لو تلقى هؤلاء دروس الايمان من رسائل النور في خمسة اسابيع، فانه اجدى لاصلاحهم من القائهم في السجن خمس عشرة سنة)).

فما دام الموت لا يفنى من الوجود، والأجل مستور عنا بستار الغيب، ويمكنه ان يحلّ بنا في كل وقت.. وان القبر لا يُغلق بابه.. وان البشرية تغيب وراءه قافلة اِثر قافلة.. وان الموت نفسه بحق المؤمنين ما هو الاّ تذكرة تسريح واعفاء من الاعدام الأبدي - كما وضّح ذلك بالحقيقة القرآنية - وانه بحق الضالين السفهاء اعدام أبدي كما يشاهدونه أمامهم؛ اذ هو فراق أبدي عن جميع أحبتهم وأقاربهم بل الموجودات قاطبة.. فلابد ولا شك بان أسعد انسان هو مَن يشكر ربه صابراً محتسباً في سجنه مستغلاً وقته أفضل استغلال، ساعياً لخدمة القرآن والإيمان مسترشداً برسائل النور.

ايها الانسان المبتلى بالملذات والمتع!

لقد علمتُ يقيناً طوال خمس وسبعين سنة من العمر، وبالوف التجارب التي كسبتها في حياتي، ومثلها من الحوادث التي مرت عليّ أن الذوق الحقيقي، واللذة التي لا يشوبها ألم، والفرح الذي لا يكدّره حزن، والسعادة التامة في الحياة انما هي في الايمان، وفي نطاق حقائقه ليس الاّ. ومن دونه فان لذةً دنيوية واحدة تحمل آلاماً كثيرة كثيرة. واذ تقدم اليك الدنيا لذة بقدر ما في حبة عنب تصفعك بعشر صفعات مؤلمات، سالبةً لذة الحياة ومتاعها.

أيها المساكين المبتلون بمصيبة السجن!

ما دامت دنياكم حزينة باكية، وان حياتكم قــد تعــكرت بالآلام والمصـائب، فابذلوا ما في وسعكم كيلا تبكي آخرتكم، ولتفرح وتحلو وتسعد حياتكم الأبدية.

فاغتنموا يا اخوتي هذه الفرصة، اذ كما ان مرابطة ساعة واحدة أمام العدو ضمن ظروف شاقة يمكن ان تتحول الى سنة من العبادة، فان كل ساعة من ساعاتكم التي تقاسونها في السجن تتحول الى ساعات كثيرة هناك اذا ما أديتم الفرائض، وعندها تتحول المشقات والمصاعب الى رحمات وغفران.

u u u
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-02-2011
  #16
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

باسمه سبحانه

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ابداً دائماً.

أيها الاخوة الاعزاء الأوفياء!

لقد رأيت انوار سلوان ثلاثة، أبينها في نقاط ثلاث للذين ابتلوا بالسجن ومن يقوم بنظارتهم ورعايتهم ومن يعينهم في أعمالهم وارزاقهم.

النقطة الأولى:

ان كل يوم من أيام العمر التي تمضي في السجن، يمكن ان يُكسِب المرء ثواب عبادة عشرة أيام، ويمكن ان يحوّل ساعاته الفانية - من حيث النتيجة - الى ساعات باقية خالدة.. بل يمكن ان يكون قضاء بضع سنين في السجن وسيلة نجاة من سجن أبدي لملايين السنين.

فهذا الربح العظيم مشروط لأهل الإيمان باداء الفرائض والتوبة الى الله من الذنوب والمعاصي التي دفعته الى السجن، والتوجه اليه تعالى بالشكر صابراً محتسباً. علماً ان السجن نفسه يحول بينه وبين كثير من الذنوب.

النقطة الثانية:

ان زوال الألم لذةٌ، كما ان زوال اللذة ألمٌ.

نعم! ان كل من يفكر في الأيام التي قضاها بالهناء والفرح يشعر في روحه حسرة وأسفاً عليها، حتى ينطلق لسانه بكلمات الحسرات: اواه.. آه.. بينما اذا تفكر في الأيام التي مرت بالمصائب والبلايا فانه يشعر في روحه وقلبه فرحاً وبهجة من زوالها حتى ينطلق لسانه بـ: الحمد لله والشكر له، فقد ولّت البلايا تاركة ثوابها. فينشرح صدره ويرتاح.

أي أن ألماً موقتاً لساعة من الزمان يترك لذة معنوية في الروح، بينما لذة موقتة لساعة من الزمان تترك ألماً معنوياً في الروح، خلافاً لذلك.

فما دامت الحقيقة هذه، وساعات المصائب التي ولّت مع آلامها أصبحت في عداد المعدوم، وان أيام البلايا لم تأت بعدُ، فهي ايضاً في حكم المعدوم.. وانه لا ألم من غير شئ.. ولا يرد من العدم ألمٌ.. فمن البلاهة اذن اظهار الجزع ونفاد الصبر الآن، من ساعات آلامٍ ولّت، ومن آلامٍ لم تأتِ بعدُ، علماً انها جميعاً في عداد المعدوم. ومن الحماقة أيضاً اظهار الشكوى من الله وترك النفس الأمارة المقصّرة من المحاسبة، ومن بعد ذلك قضاء الوقت بالحسرات والزفرات. أوَليس من يفعل هذا أشد بلاهة ممن يداوم على الأكل والشرب طوال اليوم خشية أن يجوع أو يعطش بعد أيام؟

نعم! ان الانسان اِن لم يشتت قوة صبره يميناً وشمالاً - الى الماضي والمستقبل - وسدّدها الى اليوم الذي هو فيه، فانها كافية لتحل له حبال المضايقات.

حتى انني أذكر ـ ولا أشكو – ان ما مرّ عليّ في هذه المدرسة اليوسفية الثالثة(1) في غضون أيام قلائل من المضايقات المادية والمعنوية لم أرها طوال حياتي، ولا سيما حرماني من القيام بخدمة النور مع ما فيّ من أمراض. وبينما كان قلبي وروحي يعتصران معاً من الضيق واليأس اذا بالعناية الإلهية تمدني بالحقيقة السابقة، فانشرح صدري ايّما انشراح وولت تلك المضايقات فرضيت بالسجن وآلامه والمرض وأوجاعه. اذ مَن كان مثلي على شفير القبر يعدّ ربحاً عظيماً له أن تتحول ساعة من ساعاته التي يمكن ان تمر بغفلة الى عشر ساعات من العبادة... فشكرت الله كثيراً.

النقطة الثالثة:

ان القيام بمعاونة المسجونين بشفقة ورأفة واعطاءهم ارزاقهم التي يحتاجون اليها وضماد جراحاتهم المعنوية ببلسم التسلي والعزاء، مع انه عمـل بسيـط الاّ أنه يحمل في طياته ثواباً جزيلاً وأجراً عظيماً. حيث أن تسليم ارزاقهم التي تُرسل اليهم من الخارج يكون بحكم صَدقة، وتكتب في سجل حسنات كل مَن قام بهذا العمل، سواءاً الذين أتوا بها من الخارج أو الحراس أو المراقبون الذين عاونوهم، ولا سيما ان كان المسجون شيخاً كبيراً أو مريضاً أو غريباً عن بلده أو فقيراً معدماً، فان ثواب تلك الصدقة المعنوية يزداد كثيراً.

وهذا الربح العظيم مشروط باداء الفرائض من الصلوات لتصبح تلك الخدمة لوجه الله.. مع شرط آخر هو ان تكون الخدمة مقرونة بالشفقة والرحمة والمحبة من دون ان يحمّل شيئاً من المنة.

u u u

باسمه سبحانه

] وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ[

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أبداً دائماً.

يا اخوتي في الدين ويا زملائي في السجن!.

لقد اُخطر لقلبي ان أبين لكم حقيقة مهمة، تنقذكم باذن الله من عذاب الدنيا والآخرة وهي كما أوضحها بمثال:

ان أحداً قد قتل شقيق شخص آخر أو أحد أقربائه. فهذا القتل الناجم من لذة غرور الانتقام التي لا تستغرق دقيقة واحدة تورثه مقاساة ملايين الدقائق من ضيق القلب وآلام السجن. وفي الوقت نفسه يظل اقرباء المقتول أيضاً في قلق دائم وتحين الفرص لأخذ الثأر، كلما فكروا بالقاتل ورأوا ذويه. فتضيع منهم لذة العمر ومتعة الحياة بما يكابدون من عذاب الخوف والقلق والحقد والغضب.

ولا علاج لهذا الأمر ولا دواء له الاّ الصلح والمصالحة بينهما، وذلك الذي يأمر به القرآن الكريم، ويدعو اليه الحق والحقيقة، وفيه مصلحة الطرفين، وتقتضيه الانسانية، ويحث عليه الاسلام.

نعم، ان المصلحة والحقيقة في الصلح، والصلح خير؛ لأن الأجل واحد لا يتغير، فذلك المقتول على كل حال ما كان ليظل على قيد الحياة ما دام أجله قد جاء. اما ذلك القاتل فقد أصبح وسيلة لذلك القضاء الإلهي، فإن لم يحل بينهما الصلحُ فسيظلان يعانيان الخوف وعذاب الانتقام مدة مديدة؛ لذا يأمر الاسلام بعدم هجر المسلم أخاه فوق ثلاثة أيام. فان لم يكن ذلك القتل قد نجم من عداء أصيل ومن حقد دفين، وكان أحد المنافقين سبباً في اشعال نار الفتنة، فيلزم الصلح فوراً، لأنه لولا الصلح لعظمت تلك المصيبة الجزئية ودامت، بينما اذا ما تصالح الطرفان وتاب القاتل عن ذنبه، واستمر على الدعاء للمقتول، فان الطرفين يكسبان الكثير، حيث يدب الحب والتآلف بينهما، فيصفح هذا عن عدوه ويعفو عنه واجداً أمامه اخوة اتقياء أبراراً بدلاً من شقيق واحد راحل، ويستسلمان معاً لقضاء الله وقدره، ولا سيما الذين استمعوا الى دروس النور، فهم مدعوون لهجر كل ما يفسد بين اثنين، اذ الأخوة التي تربطهم ضمن نطاق النور، والمصلحة العامة، وراحة البال وسلامة الصدر التي يستوجبها الإيمان.. تقتضي كلها نبذ الخلافات واحلال الوفاق والوئام. ولقد حصل هذا فعلاً بين مسجونين يعادي بعضهم بعضاً في سجن ((دنيزلي)) فاصبحوا بفضل الله أخوة متحابين بعد ان تلقوا دروساً من رسائل النور، بل غدوا سبباً من أسباب براءتنا، حتى لم يجد الملحدون والسفهاء من الناس بداً أمام هذا التحابب الاخروي، فقالوا مضطرين: ما شاء الله.. بارك الله!! وهكذا انشرحت صدور السجناء جميعاً وتنفسوا الصعداء بفضل الله.اذ إني أرى هنا مدى الظلم الواقع على المسجونين، حيث يشدد الخناق على مائة منهم بجريرة شخص واحد، حتى انهم لا يخرجون معه الى فناء السجن في أوقات الراحة.. ألا ان المؤمن الغيور لا تسعه شهامته ان يؤذي المؤمن قط، فكيف يسبب له الأذى لمنفعته الجزئية الخاصة، فلابد ان يسارع الى التوبة والإنابة الى الله حالما يشعر بخطئه وتسبّبه في أذى المؤمن.

u u u



باسمه سبحانه

] وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ[

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أبداً دائماً

اخوتي المسجونين الاعزاء الجدد والقدامى!

لقد بت على قناعة تامة من ان العناية الإلهية هي التي ألقت بنا الى ههنا وذلك لأجلكم أنتم، أي ان مجيئنا الى هنا انما هو لبث السلوان والعزاء الذي تحمله رسائل النور اليكم.. وتخفيف مضايقات السجن عنكم بحقائق الإيمان.. وصونكم من كثير من بلايا الدنيا ولأوائها.. وانتشال حياتكم المليئة بالأحزان والهموم من العبثية وعدم الجدوى.. وانقاذ آخرتكم من ان تكون كدنياكم حزينة باكية.

فما دامت الحقيقة هي هذه، فعليكم ان تكونوا اخوة متحابين كطلاب النور وكأولئك الذين كانوا معنا في سجن ((دنيزلي)).

فها أنتم اولاء ترون الحراس الذين يحرصون على القيام بخدماتكم يعانون الكثير من المشقات في التفتيش، بل حتى انهم يفتشون طعامكم لئلا تكون فيه آلة جارحة، ليحولوا دون تجاوز بعضكم على بعض، وكأنكم وحوش مفترسة ينقضُّ الواحد على الآخر ليقتله، فضلاً عن انكم لا تستمتعون بالفرص التي تتاح لكم للتفسح والراحة خوفاً من نشوب العراك فيما بينكم.

ألا فقولوا مع هؤلاء الأخوة حديثي العهد بالسجن الذين يحملون مثلكم بطولة فطرية وشهامة وغيرة.

قولوا أمام الهيئة ببطولة معنوية عظيمة في هذا الوقت:

((ليست الآلات الجارحة البسيطة، بل لو سلمتم الى أيدينا أسلحة نارية فلا نتعدى على أصدقائنا وأحبابنا هؤلاء الذين نكبوا معنا، حتى لو كان بيننا عداء أصيل سابق. فقد عفونا عنهم جميعاً، وسنبذل ما في وسعنا الاّ نجرح شعورهم ونكسر خاطرهم، هذا هو قرارنا الذي اتخذناه بارشاد القرآن الكريم وبأمر اخوة الإسلام وبمقتضى مصلحتنا جميعاً)).

وهكذا تحوّلون هذا السجن الى مدرسة طيبة مباركة.

[ ذيل المقام الثاني من الكلمة الثالثة عشرة ]

مسألة مهمة تخطرت في ليلة القدر

هذه حقيقة واسعة جداً وطويلة في الوقت نفسه، خطرت على القلب ليلة القدر سأحاول ان أشير اليها اشارة مختصرة جداً، كالآتي:

أولاً:

لقد قاست البشرية من ويلات هذه الحرب العالمية الأخيرة ايّ مقاساة، اذ رأت أشد أنواع الظلم وأقسى أنواع الاستبداد والتحكم، مع الدمار الظالم المريع في الارض كافة، فقد نكبت مئات الابرياء بجريرة شخص واحد، ووقع المغلوبون على أمرهم في بؤس وشقاء مريرين، وبات الغالبون في عذاب وجداني أليم لعجزهم عن اصلاح دمارهم الفظيع وخشيتهم من ان يعجزوا عن الحفاظ على سيادتهم. وظهر للناس بجلاء تام؛ ان الحياة الدنيا فانية لا ريب فيها، وان زخارف المدنية خادعة ومخدّرة لا تجدي شيئاً، وتلطخت البشرية بدماء الطعنات القوية التي نزلت بالذات الانسانية وبالاستعدادات الرفيعة في فطرتها.. وظهر للعيان تحطم الغفلة والضلالة والطبيعة الجامدة الصماء تحت ضربات سيف القرآن الالماسي.. وافتضحت الصورة الحقيقة للسياسة الدولية الشوهاء الغدارة والتي هي أوسع ستار واكثفه لإغفال الناس واضلالهم واشده خنقاً وخداعاً لروحهم.

فلاشك ان فطرة البشرية - بعد وضوح هذه الأمور - ستبحث عن معشوقها ((الحقيقي)) وهو الحياة الباقية الخالدة وتسعى اليها بكل قواها - وقد بدت اماراتها في شمال العالم وغربه وفي أمريكا - وستعلم جيداً ان الحياة الدنيا التي تتعشقها عشقاً ((مجازياً)) دميمة شوهاء، فانية زائلة.

ولا ريب انها ستبحث عن القرآن الكريم الذي له في كل عصر ثلاثمائة مليونٍ من العاملين له المتتلمذين عليه منذ ألف وثلاثمائة وستين سنة.. والذي يصدق كل حكم من احكامه ودعاويه ملايين من أرباب الحقيقة.. والذي يحـتفظ بمكانـته المقـدسة في قلوب ملايـين الحــفاظ فــي كــل دقيقـة.. والـذي يرشـــد البشرية بألسـنـتــهم، ويبشرها باسلوبه المعجز بالحياة الباقية والسعادة الدائمـة، مضمداً بها جراحــاتها الغائرة، بل يبشر بها بألوف آياته القوية الشديدة المكررة، بل قد يخبر عنها صراحة أو اشارة بعشرات الألوف من المرات، ناصباً عليها ما لايعد من الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة والحجج الثابتة.

فان لم تفقد البشرية صوابها كلياً ولم تقم عليها قيامة - مادية أو معنوية - فستبحث حتماً عن القرآن الكريم المعجز البيان كما حدث في قارات العالم كله ودولها العظمى، وحدث فعلاً في السويد والنرويج وفنلندا، ومثلما يسعى لقبوله خطباء مشهورون من انكلترا وتقوم بالبحث عنه جمعية تتحرى الدين الحق وهي ذات شأن في أمريكا.. ولابد انهم بعد ان يدركوا حقائقه سيعتصمون به ويلتفون حوله بكل مهجهم وارواحهم. ذلك لأنه ليس من نظير للقرآن في معالجة هذه الحقيقة، ولن يكون، ولا يمكن ان يسد مسدّ هذه المعجزة الكبرى شئ قطعاً.

ثانياً:

ان رسائل النور قد أظهرت خدماتها كسيف ألماسي قاطع بيد هذه المعجزة الكبرى، حتى ألزمت الحجة أعداءها العنيدين وألجأتهم الى الاستسلام، وانها تقوم بوظيفتها بين يدي هذه الخزينة القرآنية من حيث كونها معجزةً لمعانيه المعجزة على نحو تستطيع ان تنور القلب والروح والمشاعر، مناولةً كلاً منها علاجاتها الناجعة، ولا غرو فهي الداعية الى هذا القرآن العظيم والمستفيضة منه وحده ولا ترجع الاّ اليه.

وانها اذ تقوم بمهمتها خير قيام، انتصرت في الوقت نفسه على الدعايات المغرضة الظالمة التي يشيعها أعداؤها، وقضت على أشد الزنادقة تعنتاً، ودكّت أقوى قلاع الضلالة التي تحتمي بها وهي (الطبيعة) برسالة (الطبيعة)، كما بددت الغفلة وأظهرت نور التوحيد في أوسع ميادين العلوم الحديثة وأشد الظلمات الخانقة للغفلة بالمسألة السادسة (للثمرة) وبالحجج الأولى والثانية والثالثة.. والثامنة من رسالة (عصا موسى).

ومن هنا فانه من الضروري لنا - وأكثر ضرورة للأمة - ان يفتح طلاب النور - في حدود القدرات المتاحة - في كل مكان مدارس نورية صغيرة بعدما سمحت الدولة - في الوقت الحاضر - بفتح مدارس خاصة لتدريس الدين(1).

صحيح ان كل قارئ للرسائل يستطيع ان يستفيد منها شيئاً لنفسه الاّ انه لا يستطيع ان يستوعب كل مسألة من مسائلها؛ ذلك لانها ايضاح لحقائق الإيمان. فهي دروس علمية، ومعرفة إلهية، وسكينة للقلب وعبادة لله في الوقت نفسه(1).

ان النتائج التي كان يمكن الحصول عليها في المدارس الدينية طوال خمس أو عشر سنوات يمكن الحصول عليها في مدارس النور في خمسة أو عشرة أسابيع بإذن الله، بل ضمنت تلك النتائج في العشرين سنة التي خلت والحمدلله.

ثم بات من المسلّم به فائدة هذه الرسائل الداعية الى القرآن والتي هي لمعات من أنواره الباهرة، لحياة الأمة ولأمن البلاد، وحتى لحياتها السياسية فضلاً عن حياتها الأخروية، فمن الضروري اذن للدولة الاّ تتعرض لها بسوء بل تسعى جادة الى نشرها وتشجع الناس على قراءتها.. ليكون عملها هذا كفّارة عما اقترفت من سيئآت فاحشة سابقة وسداً منيعاً في وجه ما سيقبل من ويلات ومصائب وفوضى وارهاب.

المسألة السادسة

من رسالة الثمرة



هذه المسألة اشارة مختصرة الى برهان واحد فقـط من بين ألوف البراهين الكلية حول (الايمان بالله) والذي تم ايضاحه مع حججه القاطعة في عدة مواضع من رسائل النور.

جاءني فريق من طلاب الثانوية في ((قسطموني))(1) قائلين:

((عرّفنا بخالقنا، فان مدرسينا لا يذكرون الله لنا!)).

فقلت لهم:

((ان كل علم من العلوم التي تقرأونها يبحث عن الله دوماً، ويعرّف بالخالق الكريم بلغته الخاصة. فاصغوا الى تلك العلوم دون المدرسين)).

فمثلاً: لو كانت هناك صيدلية ضخمة، في كل قنينة من قنانيها أدوية ومستحضرات حيوية، وضِعت فيها بموازين حساسة، وبمقادير دقيقة؛ فكما أنها ترينا ان وراءها صيدليا حكيماً، وكيميائياً ماهراً، كذلك صيدلية الكرة الأرضية التي تضم اكثر من أربعمائة ألف نوع من الأحياء نباتاً وحيواناً، وكل واحد منها في الحقيقة بمثابة زجاجة مستحضرات كيمياوية دقيقة، وقنينة مخاليط حيوية عجيبة. فهذه الصيدلية الكبرى تُري حتى للعميان صيدليّها الحكيم ذا الجلال، وتعرّف خالقها الكريم سبحانه بدرجة كمالها وانتظامها وعظمتها، قياساً على تلك الصيدلية التي في السوق، وفق مقاييس علم الطب الذي تقرأونه.

ومثلاً: كما أن مصنعاً خارقاً عجيـباً ينسـج ألوفاً من أنـواع المنســوجات المتنوعة، والأقمشة المختلفة، من مادة بسيطة جداً، يرينا بلا شك ان وراءه مهندساً ميكانيكياً ماهراً، ويعرّفه لنا؛ كذلك هذه الماكنة الربانية السيارة المسماة بالكرة الارضية، وهذا المصنع الإلهي الذي فيه مئات الآلاف من مصانع رئيسية، وفي كل منها مئات الآلاف من المصانع المتقنة، يعرّف لنا بلا شك صانعَه، ومالكَه، وفق مقاييس علم المكائن الذي تقرأونه، يعرّفه بدرجة كمال هذا المصنع الآلهي، وعظمته قياساً على ذلك المصنع الانساني.

C ومثلاً: كما ان حانوتاً أو مخزناً للأعاشة والارزاق، ومحلاً عظيماً للأغذية والمواد، احضر فيه - من كل جانب - ألف نوع من المواد الغذائية، وميّز كل نوع عن الآخر، وصفف في محله الخاص به، يرينا ان له مالكاً ومدبراً؛ كذلك هذا المخزن الرحماني للاعاشة الذي يسيح في كل سنة مسافة اربعة وعشرين ألف سنة، في نظام دقيق متقن، والذي يضم في ثناياه مئات الآلاف من اصناف المخلوقات التي يحتاج كل منها الى نوع خاص من الغذاء. والذي يمر على الفصول الاربعة فيأتي بالربيع كشاحنة محمولة بآلاف الانواع من مختلف الأطعمة، فيأتي بها الى الخلق المساكين الذين نفد قوتُهم في الشتاء. تلك هي الكرة الأرضية، والسفينة السبحانية التي تضم آلاف الانواع من البضائع والاجهزة ومعلبات الغذاء. فهذا المخزن والحانوت الرباني، يُري - وفق مقاييس علم الاعاشة والتجارة الذي تقرأونه - صاحبَه ومالكَه ومتصرفَه بدرجة عظمة هذا المخزن، قياساً على ذلك المخزن المصنوع من قبل الانسان، ويعرّفه لنا، ويحببه الينا.

C ومثلاً: لو أن جيشاً عظيماً يضم تحت لوائه أربعمائة ألف نوع من الشعوب والأمم، لكل جنس طعامه المستقل عن الآخر، وما يستعمله من سلاح يغاير سلاح الآخر، وما يرتديه من ملابس تختلف عن ألبسة الآخر، ونمط تدريباته وتعليماته يباين الآخر، ومدة عمله وفترة رخصه هي غير المدة للآخر.. فقائد هذا الجيش الذي يزوّدهم وحده بالأرزاق المختلفة، والاسلحة المتـباينة، والألبــسة المتغــايرة، دون نسيان أي منها ولا التباس ولا حيرة، لهو قائد ذو خوارق بلا ريب، فكما ان هذا المعسكر العجيب يرينا بداهة ذلك القائد الخارق، بل يحببه الينا بكل تقدير واعجاب؛ كذلك معسكر الأرض؛ ففي كل ربيع يجنّد مجدداً جيشاً سبحانياً عظيماً مكوناً من اربعمائة ألف نوع من شعوب النبـاتات وأمم الحيوانات، ويمنح لكل نوع ألبسته وأرزاقه واسلحته وتدريبه ورخصه الخاصة به، من لدن قائد عظيم واحد أحد جل وعلا، بلا نسيان لأحد ولا اختلاط ولا تحير وفي منتهى الكمال وغاية الأنتظام.. فهذا المعسكر الشاسع الواسع للربيع الممتد على سطح الأرض يُري - لأولي الالباب والبصائر - حاكم الأرض حسب العلوم العسكرية وربّها ومدبرها، وقائدها الأقدس الاجلّ، ويعرّفه لهم، بدرجة كمال هذا المعسكر المهيب، ومدى عظمته، قياساً الى ذلك المعسكر المذكور، بل يحبب مليكه سبحانه بالتحميد والتقديس والتسبيح.

C ومثلاً: هب ان ملايين المصابيح الكهربائية تتجول في مدينة عجيبة دون نفاد للوقود ولا انطفاء؛ ألا تُري - باعجاب وتقديرــ أن هناك مهندساً حاذقاً، وكهربائياً بارعاً لمصنع الكهرباء، ولتلك المصابيح؟.. فمصابيح النجوم المتدلية من سقف قصر الأرض وهي اكبر من الكرة الأرضية نفسها بألوف المرات حسب علم الفلك وتسير أسرع من انطلاق القذيفة، من دون ان تخل بنظامها، او تتصادم مع بعضها مطلقاً ومن دون انطفاء، ولا نفاد وقود وفق ما تقرأونه في علم الفلك.. هذه المصابيح تشير باصابع من نور الى قدرة خالقها غير المحدودة . فشمسنا مثلاً وهي اكبر بمليون مرة من كرتنا الأرضية، وأقدم منها بمليون سنة، ما هي الا مصباح دائم، وموقد مستمر لدار ضيافة الرحمن. فلأجل ادامة اتقادها واشتعالها وتسجيرها كل يوم يلزم وقوداً بقدر بحار الأرض، وفحماً بقدر جبالها، وحطباً بقدر اضعاف اضعاف حجم الأرض، ولكن الذي يشعلها - ويشعل جميع النجوم الاخرى أمثالها - بلا وقود ولا فحم ولا زيت ودون انطفاء ويسيّرها بسرعة عظيمة معاً دون اصطدام، انما هي قدرة لا نهاية لها وسلطنة عظيمة لا حدود لها.. فهذا الكون العظيم وما فيه من مصابيح مضيئة، وقناديل متدلية يبين بوضوح - وفق مقاييس علم الكهرباء الذي قرأتموه أو ستقرأونه - سلطان هذا المعرض العظيم والمهرجان الكبير، ويعرّف منوّره ومدبّره البديع وصانعه الجليل، بشهادة هذه النجوم المتلألئة، ويحببه الى الجميع بالتحميد والتسبيح والتقديس بل يسوقهم الى عبادته سبحانه.

C ومثلاً: لو كان هناك كتاب، كتب في كل سطر منه كتاب بخط دقيق وكُتب في كل كلمة من كلماته سورة قرآنية، وكانت جميع مسائله ذات مغزى ومعنى عميق، وكلها يؤيد بعضـها البعض، فهـذا الكتاب العجــيـب يبين بلاشـــك مهارة كاتبه الفائقة، وقدرة مؤلفه الكاملة. أي أن مثل هذا الكتاب يعرّف كاتبه ومصنّفه تعــريفاً يضــاهــي وضوح النـهــار، ويبين كمـالَه وقـدرتَه، ويثـيـر مـن الاعجـاب والتقدير لدى الناظرين اليه ما لا يملكون معه الا ترديد: تبارك الله،سبحان الله،ما شاء الله! من كلمات الاستحسان والاعجاب؛ كذلك هذا الكتاب الكبير للكون الذي يُكتب في صحيفة واحدة منه، وهي سطح الارض، ويُكتب في ملزمة واحدة منه، وهي الربيع، ثلثمائة ألف نوع من الكتب المختلفة، وهي طوائف الحيوانات وأجناس النباتات، كل منها بمثابة كتاب.. يُكتب كل ذلك معاً ومتداخلاً بعضها ببعض بلا اختلاط ولا خطأ ولا نسيان، وفي منتهى الانتظام والكمال بل يُكتب في كل كلمة منه كالشجرة، قصيدة كاملة رائعة، وفي كل نقطة منه كالبذرة، فهرس كتاب كامل. فكما ان هذا مشاهد وماثل أمامنا، ويُرينا بالتأكيد ان وراءه قلماً سيالاً يسطر، فلكم اذن ان تقدروا مدى دلالة كتاب الكون الكبير العظيم الذي في كل كلمة منه معان جمة وحكم شتى، ومدى دلالة هذا القرآن الاكبر المجسم وهو العالم، على بارئه سبحانه وعلى كاتبه جل وعلا، قياساً الى ذلك الكتاب المذكور في المثال. وذلك بمقتضى ما تقرأونه من علم حكمة الاشياء او فن القراءة والكتابة، وتناوله بمقياس اكبر، وبالنظرة الواسعة الى هذا الكون الكبير. بل تفهمون كيف يعرّف الخالقَ العظيم بـ ((الله اكبر)) وكيف يعلّم التقديس بـ ((سبحان الله)) وكيف يحبّب الله سبحانه الينا بثناء ((الحمدلله)).

وهكذا فان كل علم من العلوم العديدة جداً، يدل على خالق الكون ذي الجلال - قياساً على ما سبق - ويعرّفه لنا سبحانه باسمائه الحسنى، ويعلّمه ايانا بصفاته الجليلة وكمالاته. وذلك بما يملك من مقاييس واسعة، ومرايا خاصة، وعيون حادة باصرة، ونظرات ذات عبرة.

فقلت لأولئك الطلبة الشباب: ان حكمة تكرار القرآن الكريم من: ] خَلَق السموات والأرض[ و] ربّ السموات والأرض[ انما هي لأجل الارشاد الى هذه الحقيقة المذكورة، وتلقين هذا البرهان الباهر للتوحيد، ولأجل تعريفنا بخالقنا العظيم سبحانه.

فقالوا: شكراً لربنا الخالق بغير حد، على هذا الدرس الذي هو الحقيقة السامية عينها، فجزاك الله عنا خير الجزاء ورضي عنك.

قلت: ان الانسان ماكنة حيوية، يتألم بآلاف الانواع من الآلام، ويتلذذ بآلاف الأنواع من اللذائذ، ومع أنه في منتهى العجز، فان له من الأعداء ما لا يحد سواء الماديين أو المعنويين، ومع أنه في غاية الفقر فان له رغبات باطنة وظاهرة لا تحصر، فهو مخلوق مسكين يتجّرع آلام صفعات الزوال والفراق باستمرار.. فرغم كل هذا، فانه يجد بانتسابه الى السلطان ذي الجلال بالايمان والعبودية، مستنداً قوياً، ومرتكزاً عظيماً يحتمي اليه في دفع أعدائه كافة، ويجد فيه كذلك مدار استمداد يستغيث به لقضاء حاجاته وتلبية رغباته وآماله كافة، فكما ينتسب كلٌ الى سيده ويفخر بشرف انتسابه اليه، ويعتز بمكانة منزلته لديه، كذلك فان انتساب الانسان بالايمان الى القدير الذي لا نهاية لقدرته، والى السلطان الرحيم ذي الرحمة الواسعة، ودخوله في عبوديته، بالطاعة والشكران، يبدّل الأجل والموت من الاعدام الأبدي الى تذكرة مرور ورخصة الى العالم الباقي!. فلكم ان تقدّروا كم يكون هذا الانسان متلذذاً بحلاوة العبودية بين يدي سيده، وممتناً بالايمان الذي يجده في قلبه، وسعيداً بأنوار الاسلام، ومفتخراً بسيّده القدير الرحيم شاكراً له نعمة الايمان والاسلام.

ومثلما قلت ذلك لاخواني الطلبة، اقول كذلك للمسجونين:

ان من عرف الله واطاعه سعيدٌ ولو كان في غياهب السجن، ومن غفل عنه ونسيه شقي ولو كان في قصور مشيدة. فلقد صرخ مظلوم ذات يوم بوجه الظالمين وهو يعتلي منصة الاعدام فرحاً جذلاً وقائلاً:

انني لا انتهى الى الفناء ولا اُعدم، بل اُسرح من سجن الدنيا طليقاً الى السعادة الابدية، ولكني اراكم انتم محكومين عليكم بالاعدام الابدي لما ترون الموت فناء وعدماً. فانا اذن قد اخذت ثأرى منكم. فسلّم روحه وهو قرير العين يردد: لا اله الاّ الله.

] سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنآ اِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا انّكَ اَنْتَ العَليمُ الحَكيمُ[

نكتة توحيدية في لفظ ((هو))

باسمه سبحانه

] وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ[

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ابداً دائماً

اخوتي الاعزاء الأوفياء:

لقد شاهدت ـ مشاهدة آنية ـ خلال سياحة فكرية خيالية، لدى مطالعة صحيفة الهواء من حيث جهته المادية فقط، نكتةً توحيدية ظريفة تولدت من لفظ ((هو)) الموجود في ] لا إله اِلاّ هو[ وفي ] قل هو الله أحد[ ورأيت فيها ان سبيل الايمان سهل ويسير الى حد الوجوب بينما سبيل الشرك والضلالة فيه من المحالات والمعضلات الى حد الامتناع.

سأبين باشارة في منتهى الاختصار تلك النكتة الظريفة الواسعة الطويلة.

نعم! ان حفنة من تراب، يمكن ان تكون موضع استنبات مئات من النباتات المزهرة اِنْ وضعتْ فيها متعاقبةً. فاِن اُحيل هذا الامر الى الطبيعة والأسباب يلزم؛ اِما ان تكون في تلك الحفنة من التراب مئات من المصانع المصغرة المعنوية، بل بعدد الأزهار.. أو ان كل ذرة من ذرات تلك الحفنة من التراب تعلم بناء تلك الأزهار المتنوعة وتركيبها بخصائصها المتنوعة واجهزتها الحيوية، اي لها علم محيط وقدرة مطلقة بما يشبه علم الآله وقدرته!!.

وكذلك الهواء الذي هو عرش من عروش الأمر والارادة الإلهية، فلكل جزء منه، من نسيم وريح، بل حتى للهواء الموجود في جزء من نَفَس الانسان الضَئيل عندما ينطق كلمة ((هو)) وظائف لا تعد ولا تحصى.

فلو اُسندت هذه الوظائف الى الطبيعة والمصادفة والاسباب؛ فإما أنه أي الهواء يحمل بمقياس مصغر مـراكز بــث واستقــبـال لجميع ما فـي العالم من اصـوات ومكالمات في التلغراف والتلفون والراديو مع ما لا يحد من انواع الاصوات للكلام والمحادثات، وان يكون له القدرة على القيام بتلك الـوظـائف جميـعها في وقت واحد.. أو أن ذلك الجزء من الهواء الموجود في كلمة ((هو))، وكل جزء من اجزائه وكل ذرة من ذراته، لها شخصيات معنوية، وقابليات بعدد كل مَن يتكلم بالتلفونات وجميع مَن يبث من البرقيات المتنوعة وجميع مَن يذيع كلاماً من الراديوات، وان تعلم لغاتهم ولهجاتهم جميعاً، وتعلّمه في الوقت نفسه الى الذرات الاخرى، وتنشره وتبثه. حيث ان قسماً من ذلك الوضع مشهود أمامنا، وان اجزاء الهواء كلها تحمل تلك القابلية.. اذاً فليس هناك محال واحد في طريق الكفر من الماديين الطبيعيين بل محالات واضحة جلية ومعضلات واشكالات بعدد ذرات الهواء.

ولكن ان اُسند الأمر الى الصانع الجليل، فان الهواء يصبح بجميع ذراته جندياً مستعداً لتلقي الأوامر. فعنئذٍ تقوم ذراتُه باداء وظائفها الكلية المتنوعة والتي لا تحد باذن خالقها وبقوته وبانتسابها واستنادها اليه سبحانه، وبتجلي قدرة صانعها تجلياً آنياً ــ بسرعة البرق ــ وبسهولة قيام ذرة واحدة بوظيفة من وظائفها وبيُسر تلفظ كلمة "هو" وتموج الهواء فيها. اي يكون الهواء صحيفة واسعة للكتابات المنسقة البديعة التي لا تحصر لقلم القدرة الإلهية، وتكون ذراته بدايات ذلك القلم، وتصبح وظائف الذرات كذلك نقاط قلم القَدَر، لذا يكون الأمر سهلاً كسهولة حركة ذرة واحدة.

رأيت هذه الحقيقة بوضوح تام وبتفصيل كامل وبعين اليقين عندما كنت اشاهد عالم الهواء واطالع صحـيفـته فـي سيـاحتي الفـكرية وتأمـلي في ] لا إله الاّ هو[ و ] قل هو الله أحد[ وعلمت بعلم اليقين ان في الهواء الموجود في لفظ ((هو)) برهاناً ساطعاً للوحدانية مثلما ان في معناه وفي اشارته تجليا للأحدية في غاية النورانية وحجة توحيدية في غاية القوة، حيث فيها قرينة الاشارة المطلقة المبهمة لضمير ((هو)) اي: الى مَن يعود؟ فعرفت عندئذٍ لماذا يكرر القرآن الكريم واهل الذكر هذه الكلمة عند مقام التوحيد.

نعم! لو أراد شخص ان يضع نقطة معينة ـ مثلاً ـ على ورقة بيضاء في مكان معين، فان الامر سهل، ولكن لو طُلب منه وضع نقاط عدة في مواضع عدة في آن واحد فالأمر يستشكل عليه ويختلط. كذلك يرزح كائن صغير تحت ثقل قيامه بعدة وظائف في وقت واحد. لذا فالمفروض أن يختلط النظام ويتبعثر عند خروج كلمات كثيرة في وقت واحد من الفم ودخولها الاذن معاً..

ولكني شاهدت بعين اليقين، وبدلالة لفظ ((هو)) هذا الذي اصبح مفتاحاً وبمثابة بوصلة، ان نقاطاً مختلفة تعد بالالوف وحروفاً وكلماتٍ توضع ـ أو يمكن ان توضع ـ على كل جزء من اجزاء الهواء الذي اسيح فيه فكراً بل يمكن ان توضع كلها على عاتق ذرة واحدة من دون ان يحدث اختلاط او تشابك أو ينفسخ النظام، علماً ان تلك الذرة تقوم بوظائف اخرى كثيرة جداً في الوقت نفسه، فلا يلتبس عليها شئ، وتحمل اثقالاً هائلة جداً من دون ان تبدي ضعفاً او تكاسلاً، فلا نراها قاصرة عن اداء وظائفها المتنوعة واحتفاظها بالنظام؛ اذ ترد الى تلك الذرات الوف الالوف من الكلمات المختلفة في انماط مختلفة واصوات مختلفة، وتخرج منها ايضاً في غاية النظام مثلما دخلت، دون اختلاط أو امتزاج ودون ان يفسد احداها الاخرى. فكأن تلك الذرات تملك آذاناً صاغية صغيرة على قدّها، وألسنة دقيقة تناسبها فتدخل تلك الكلمات تلك الآذان وتخرج من ألسنتها الصغيرة تلك.. فمع كل هذه الامور العجيبة فان كل ذرة ـ وكل جـزء من الهواء ـ تتـجــول بحـريـة تامـة ذاكرةً خالقها بلسان الحال وفي نشوة الجذب والوجد قائلة: ] لا إله الاّ هو[ و ] قل هو الله أحد[ بلسان الحقيقة المذكورة آنفاً وشهادتها.

وحينما تحدث العواصف القوية وتدّوي اهازيج الرعد، ويتلمع الفضاء بسنا البرق، يتحول الهواء الى امواج ضخمة متلاطمة.. بيد ان الذرات لا تفقد نظامها ولا تتعثر في اداء وظائفها فلا يمنعها شغل عن شغل.. هكذا شاهدت هذه الحقيقة بعين اليقين.

اذن، فإما ان تكون كل ذرة ـ وكل جزء من الهواء ـ صاحبة علم مطلق وحكمة مطلقة وارادة مطلقة وقوة مطلقة وقدرة مطلقة وهيمنة كاملة على جميع الذرات.. كي تتمكن من القيام باداء هذه الوظائف المتنوعة على وجهها.. وما هذا الاّ محالات ومحالات بعدد الذرات وباطل بطلاناً مطلقاً. بل حتى لا يذكره اي شيطان كان..

لذا فان البداهة تقتضي، بل هو بحق اليقين وعين اليقين وعلم اليقين: أن صحيفة الهواء هذه انما هي صحيفة متبدلة يكتب الخالقُ فيها بعلمه المطلق ما يشاء بقلم قُدرته وقَدَره الذي يحركه بحكمته المطلقة، وهي بمثابة لوحة محوٍ واثبات في عالم التغيّر والتّبدل للشؤون المسطّرة في اللوح المحفوظ.

فكما ان الهواء يدل على تجلي الوحدانية بهذه الامور العجيبة المذكورة آنفاً، وذلك لدى اداء وظيفة واحدة من وظائفها وهي نقل الاصوات، ويبين في الوقت نفسه بياناً واضحاً محالات الضلالة التي لا تحصر، كذلك فهو يقوم بوظائف في غاية الاهمية وفي غاية النظام ومن دون اختلاط أو تشابك أو التباس كنقل المواد اللطيفة مثل الكهرباء والجاذبية والدافعة والضوء.. وفي الوقت نفسه يدخل الى مداخل النباتات والحيوانات بالتنفس مؤدياً هناك مهماته الحياتية باتقان، وفي الوقت عينه يقوم بنقل حبوب اللقاح ـ أي وظيفة تلقيح النباتات ـ وهكذا امثال هذه الوظائف الاساسية لإدامة الحياة؛ مما يثبت يقيناً ان الهواء عرش عظيم يأتمر بالأمر الإلهي وارادته الجليلة. ويثبت ايضاً بعين اليقين ان لا احتمال قطعاً لتدخل المصادفة العشواء والاسباب السائبة التائهة والمواد العاجزة الجامدة الجاهلة في الكتابة البديعة لهذه الصحيفة الهوائية وفي اداء وظائفها الدقيقة. فاقتنعْتُ بهذا قناعة تامة بعين اليقين وعرفتُ ان كـل ذرة وكل جزء من الـهواء تقول بلســان حالها : ] قل هو الله أحد[ و ] لا إله الاّ هو[ .

ومثلما شاهدت هذه الامور العجيبة في الجهة المادية من الهواء بهذا المفتاح، اعني مفتاح ((هو)) فعنصر الهواء برمته اصبح ايضاً كلفظ ((هو)) مفتاحاً لعالم المثال وعالم المعنى؛ اذ قد علمتُ ان عالم المثال كآلة تصوير عظيمة جداً تلتقط صوراً لا تعد ولا تحصى للحوادث الجارية في الدنيا، تلتقطها في آن واحد بلا اختلاط ولا التباس حتى غدا هذا العالم يضم مشاهد عظيمة وواسعة اُخروية تسع الوف الوف الدُنى تعرض اوضاع حالات فانية لموجودات فانية وتظهر ثمار حياتها العابرة في مشاهد ولوحات خالدة تعرض امام اصحاب الجنة والسعادة الأبدية في معارض سرمدية مذكّرةً اياهم بحوادث الدنيا وذكرياتهم الجميلة الماضية فيها.

فالحجة القاطعة على وجود اللوح المحفوظ وعالم المثال ونموذجها المصغر هو ما في رأس الانسان من قوة حافظة وما يملك من قوة خيال، فمع انهما لا تشغلان حجم حبة من خردل الاّ انهما تقومان بوظائفهما على اتم وجه بلا اختلاط ولا التباس وفي انتظام كامل واتقان تام، حتى كأنهما يحتفظان بمكتبة ضخمة جداً من المعلومات والوثائق. مما يثبت لنا أن تينك القوتين نموذجان للوح المحفوظ وعالم المثال.

وهكذا لقد عُلم بعلم اليقين القاطع ان الهواء والماء ولا سيما سائل النطف، واللذان يفوقان الترابَ في الدلالة على الله ــ الذي اوردناه في مستهل البحث ـ صحيفتان واسعتان يكتب فيهما قلمُ القدر والحكمة كتابة حكيمة بليغة، ويجريان فيهما الارادة وقلم القدر والقدرة. وان مداخلة المصادفة العشواء والقوة العمياء والطبيعة الصماء والاسباب التائهة الجامدة في تلك الكتابة الحكيمة محال في مائة محال وغير ممكن قطعاً.



(لم تُكتَّب بقية البحث في الوقت الحاضر)

الف الف تحية وسلام الى الجميع
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-02-2011
  #17
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

باسمه سبحانه

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ابداً دائماً.

أيها الاخوة الاعزاء الأوفياء!

لقد رأيت انوار سلوان ثلاثة، أبينها في نقاط ثلاث للذين ابتلوا بالسجن ومن يقوم بنظارتهم ورعايتهم ومن يعينهم في أعمالهم وارزاقهم.

النقطة الأولى:

ان كل يوم من أيام العمر التي تمضي في السجن، يمكن ان يُكسِب المرء ثواب عبادة عشرة أيام، ويمكن ان يحوّل ساعاته الفانية - من حيث النتيجة - الى ساعات باقية خالدة.. بل يمكن ان يكون قضاء بضع سنين في السجن وسيلة نجاة من سجن أبدي لملايين السنين.

فهذا الربح العظيم مشروط لأهل الإيمان باداء الفرائض والتوبة الى الله من الذنوب والمعاصي التي دفعته الى السجن، والتوجه اليه تعالى بالشكر صابراً محتسباً. علماً ان السجن نفسه يحول بينه وبين كثير من الذنوب.

النقطة الثانية:

ان زوال الألم لذةٌ، كما ان زوال اللذة ألمٌ.

نعم! ان كل من يفكر في الأيام التي قضاها بالهناء والفرح يشعر في روحه حسرة وأسفاً عليها، حتى ينطلق لسانه بكلمات الحسرات: اواه.. آه.. بينما اذا تفكر في الأيام التي مرت بالمصائب والبلايا فانه يشعر في روحه وقلبه فرحاً وبهجة من زوالها حتى ينطلق لسانه بـ: الحمد لله والشكر له، فقد ولّت البلايا تاركة ثوابها. فينشرح صدره ويرتاح.

أي أن ألماً موقتاً لساعة من الزمان يترك لذة معنوية في الروح، بينما لذة موقتة لساعة من الزمان تترك ألماً معنوياً في الروح، خلافاً لذلك.

فما دامت الحقيقة هذه، وساعات المصائب التي ولّت مع آلامها أصبحت في عداد المعدوم، وان أيام البلايا لم تأت بعدُ، فهي ايضاً في حكم المعدوم.. وانه لا ألم من غير شئ.. ولا يرد من العدم ألمٌ.. فمن البلاهة اذن اظهار الجزع ونفاد الصبر الآن، من ساعات آلامٍ ولّت، ومن آلامٍ لم تأتِ بعدُ، علماً انها جميعاً في عداد المعدوم. ومن الحماقة أيضاً اظهار الشكوى من الله وترك النفس الأمارة المقصّرة من المحاسبة، ومن بعد ذلك قضاء الوقت بالحسرات والزفرات. أوَليس من يفعل هذا أشد بلاهة ممن يداوم على الأكل والشرب طوال اليوم خشية أن يجوع أو يعطش بعد أيام؟

نعم! ان الانسان اِن لم يشتت قوة صبره يميناً وشمالاً - الى الماضي والمستقبل - وسدّدها الى اليوم الذي هو فيه، فانها كافية لتحل له حبال المضايقات.

حتى انني أذكر ـ ولا أشكو – ان ما مرّ عليّ في هذه المدرسة اليوسفية الثالثة(1) في غضون أيام قلائل من المضايقات المادية والمعنوية لم أرها طوال حياتي، ولا سيما حرماني من القيام بخدمة النور مع ما فيّ من أمراض. وبينما كان قلبي وروحي يعتصران معاً من الضيق واليأس اذا بالعناية الإلهية تمدني بالحقيقة السابقة، فانشرح صدري ايّما انشراح وولت تلك المضايقات فرضيت بالسجن وآلامه والمرض وأوجاعه. اذ مَن كان مثلي على شفير القبر يعدّ ربحاً عظيماً له أن تتحول ساعة من ساعاته التي يمكن ان تمر بغفلة الى عشر ساعات من العبادة... فشكرت الله كثيراً.

النقطة الثالثة:

ان القيام بمعاونة المسجونين بشفقة ورأفة واعطاءهم ارزاقهم التي يحتاجون اليها وضماد جراحاتهم المعنوية ببلسم التسلي والعزاء، مع انه عمـل بسيـط الاّ أنه يحمل في طياته ثواباً جزيلاً وأجراً عظيماً. حيث أن تسليم ارزاقهم التي تُرسل اليهم من الخارج يكون بحكم صَدقة، وتكتب في سجل حسنات كل مَن قام بهذا العمل، سواءاً الذين أتوا بها من الخارج أو الحراس أو المراقبون الذين عاونوهم، ولا سيما ان كان المسجون شيخاً كبيراً أو مريضاً أو غريباً عن بلده أو فقيراً معدماً، فان ثواب تلك الصدقة المعنوية يزداد كثيراً.

وهذا الربح العظيم مشروط باداء الفرائض من الصلوات لتصبح تلك الخدمة لوجه الله.. مع شرط آخر هو ان تكون الخدمة مقرونة بالشفقة والرحمة والمحبة من دون ان يحمّل شيئاً من المنة.

u u u

باسمه سبحانه

] وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ[

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أبداً دائماً.

يا اخوتي في الدين ويا زملائي في السجن!.

لقد اُخطر لقلبي ان أبين لكم حقيقة مهمة، تنقذكم باذن الله من عذاب الدنيا والآخرة وهي كما أوضحها بمثال:

ان أحداً قد قتل شقيق شخص آخر أو أحد أقربائه. فهذا القتل الناجم من لذة غرور الانتقام التي لا تستغرق دقيقة واحدة تورثه مقاساة ملايين الدقائق من ضيق القلب وآلام السجن. وفي الوقت نفسه يظل اقرباء المقتول أيضاً في قلق دائم وتحين الفرص لأخذ الثأر، كلما فكروا بالقاتل ورأوا ذويه. فتضيع منهم لذة العمر ومتعة الحياة بما يكابدون من عذاب الخوف والقلق والحقد والغضب.

ولا علاج لهذا الأمر ولا دواء له الاّ الصلح والمصالحة بينهما، وذلك الذي يأمر به القرآن الكريم، ويدعو اليه الحق والحقيقة، وفيه مصلحة الطرفين، وتقتضيه الانسانية، ويحث عليه الاسلام.

نعم، ان المصلحة والحقيقة في الصلح، والصلح خير؛ لأن الأجل واحد لا يتغير، فذلك المقتول على كل حال ما كان ليظل على قيد الحياة ما دام أجله قد جاء. اما ذلك القاتل فقد أصبح وسيلة لذلك القضاء الإلهي، فإن لم يحل بينهما الصلحُ فسيظلان يعانيان الخوف وعذاب الانتقام مدة مديدة؛ لذا يأمر الاسلام بعدم هجر المسلم أخاه فوق ثلاثة أيام. فان لم يكن ذلك القتل قد نجم من عداء أصيل ومن حقد دفين، وكان أحد المنافقين سبباً في اشعال نار الفتنة، فيلزم الصلح فوراً، لأنه لولا الصلح لعظمت تلك المصيبة الجزئية ودامت، بينما اذا ما تصالح الطرفان وتاب القاتل عن ذنبه، واستمر على الدعاء للمقتول، فان الطرفين يكسبان الكثير، حيث يدب الحب والتآلف بينهما، فيصفح هذا عن عدوه ويعفو عنه واجداً أمامه اخوة اتقياء أبراراً بدلاً من شقيق واحد راحل، ويستسلمان معاً لقضاء الله وقدره، ولا سيما الذين استمعوا الى دروس النور، فهم مدعوون لهجر كل ما يفسد بين اثنين، اذ الأخوة التي تربطهم ضمن نطاق النور، والمصلحة العامة، وراحة البال وسلامة الصدر التي يستوجبها الإيمان.. تقتضي كلها نبذ الخلافات واحلال الوفاق والوئام. ولقد حصل هذا فعلاً بين مسجونين يعادي بعضهم بعضاً في سجن ((دنيزلي)) فاصبحوا بفضل الله أخوة متحابين بعد ان تلقوا دروساً من رسائل النور، بل غدوا سبباً من أسباب براءتنا، حتى لم يجد الملحدون والسفهاء من الناس بداً أمام هذا التحابب الاخروي، فقالوا مضطرين: ما شاء الله.. بارك الله!! وهكذا انشرحت صدور السجناء جميعاً وتنفسوا الصعداء بفضل الله.اذ إني أرى هنا مدى الظلم الواقع على المسجونين، حيث يشدد الخناق على مائة منهم بجريرة شخص واحد، حتى انهم لا يخرجون معه الى فناء السجن في أوقات الراحة.. ألا ان المؤمن الغيور لا تسعه شهامته ان يؤذي المؤمن قط، فكيف يسبب له الأذى لمنفعته الجزئية الخاصة، فلابد ان يسارع الى التوبة والإنابة الى الله حالما يشعر بخطئه وتسبّبه في أذى المؤمن.

u u u



باسمه سبحانه

] وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ[

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أبداً دائماً

اخوتي المسجونين الاعزاء الجدد والقدامى!

لقد بت على قناعة تامة من ان العناية الإلهية هي التي ألقت بنا الى ههنا وذلك لأجلكم أنتم، أي ان مجيئنا الى هنا انما هو لبث السلوان والعزاء الذي تحمله رسائل النور اليكم.. وتخفيف مضايقات السجن عنكم بحقائق الإيمان.. وصونكم من كثير من بلايا الدنيا ولأوائها.. وانتشال حياتكم المليئة بالأحزان والهموم من العبثية وعدم الجدوى.. وانقاذ آخرتكم من ان تكون كدنياكم حزينة باكية.

فما دامت الحقيقة هي هذه، فعليكم ان تكونوا اخوة متحابين كطلاب النور وكأولئك الذين كانوا معنا في سجن ((دنيزلي)).

فها أنتم اولاء ترون الحراس الذين يحرصون على القيام بخدماتكم يعانون الكثير من المشقات في التفتيش، بل حتى انهم يفتشون طعامكم لئلا تكون فيه آلة جارحة، ليحولوا دون تجاوز بعضكم على بعض، وكأنكم وحوش مفترسة ينقضُّ الواحد على الآخر ليقتله، فضلاً عن انكم لا تستمتعون بالفرص التي تتاح لكم للتفسح والراحة خوفاً من نشوب العراك فيما بينكم.

ألا فقولوا مع هؤلاء الأخوة حديثي العهد بالسجن الذين يحملون مثلكم بطولة فطرية وشهامة وغيرة.

قولوا أمام الهيئة ببطولة معنوية عظيمة في هذا الوقت:

((ليست الآلات الجارحة البسيطة، بل لو سلمتم الى أيدينا أسلحة نارية فلا نتعدى على أصدقائنا وأحبابنا هؤلاء الذين نكبوا معنا، حتى لو كان بيننا عداء أصيل سابق. فقد عفونا عنهم جميعاً، وسنبذل ما في وسعنا الاّ نجرح شعورهم ونكسر خاطرهم، هذا هو قرارنا الذي اتخذناه بارشاد القرآن الكريم وبأمر اخوة الإسلام وبمقتضى مصلحتنا جميعاً)).

وهكذا تحوّلون هذا السجن الى مدرسة طيبة مباركة.

[ ذيل المقام الثاني من الكلمة الثالثة عشرة ]

مسألة مهمة تخطرت في ليلة القدر

هذه حقيقة واسعة جداً وطويلة في الوقت نفسه، خطرت على القلب ليلة القدر سأحاول ان أشير اليها اشارة مختصرة جداً، كالآتي:

أولاً:

لقد قاست البشرية من ويلات هذه الحرب العالمية الأخيرة ايّ مقاساة، اذ رأت أشد أنواع الظلم وأقسى أنواع الاستبداد والتحكم، مع الدمار الظالم المريع في الارض كافة، فقد نكبت مئات الابرياء بجريرة شخص واحد، ووقع المغلوبون على أمرهم في بؤس وشقاء مريرين، وبات الغالبون في عذاب وجداني أليم لعجزهم عن اصلاح دمارهم الفظيع وخشيتهم من ان يعجزوا عن الحفاظ على سيادتهم. وظهر للناس بجلاء تام؛ ان الحياة الدنيا فانية لا ريب فيها، وان زخارف المدنية خادعة ومخدّرة لا تجدي شيئاً، وتلطخت البشرية بدماء الطعنات القوية التي نزلت بالذات الانسانية وبالاستعدادات الرفيعة في فطرتها.. وظهر للعيان تحطم الغفلة والضلالة والطبيعة الجامدة الصماء تحت ضربات سيف القرآن الالماسي.. وافتضحت الصورة الحقيقة للسياسة الدولية الشوهاء الغدارة والتي هي أوسع ستار واكثفه لإغفال الناس واضلالهم واشده خنقاً وخداعاً لروحهم.

فلاشك ان فطرة البشرية - بعد وضوح هذه الأمور - ستبحث عن معشوقها ((الحقيقي)) وهو الحياة الباقية الخالدة وتسعى اليها بكل قواها - وقد بدت اماراتها في شمال العالم وغربه وفي أمريكا - وستعلم جيداً ان الحياة الدنيا التي تتعشقها عشقاً ((مجازياً)) دميمة شوهاء، فانية زائلة.

ولا ريب انها ستبحث عن القرآن الكريم الذي له في كل عصر ثلاثمائة مليونٍ من العاملين له المتتلمذين عليه منذ ألف وثلاثمائة وستين سنة.. والذي يصدق كل حكم من احكامه ودعاويه ملايين من أرباب الحقيقة.. والذي يحـتفظ بمكانـته المقـدسة في قلوب ملايـين الحــفاظ فــي كــل دقيقـة.. والـذي يرشـــد البشرية بألسـنـتــهم، ويبشرها باسلوبه المعجز بالحياة الباقية والسعادة الدائمـة، مضمداً بها جراحــاتها الغائرة، بل يبشر بها بألوف آياته القوية الشديدة المكررة، بل قد يخبر عنها صراحة أو اشارة بعشرات الألوف من المرات، ناصباً عليها ما لايعد من الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة والحجج الثابتة.

فان لم تفقد البشرية صوابها كلياً ولم تقم عليها قيامة - مادية أو معنوية - فستبحث حتماً عن القرآن الكريم المعجز البيان كما حدث في قارات العالم كله ودولها العظمى، وحدث فعلاً في السويد والنرويج وفنلندا، ومثلما يسعى لقبوله خطباء مشهورون من انكلترا وتقوم بالبحث عنه جمعية تتحرى الدين الحق وهي ذات شأن في أمريكا.. ولابد انهم بعد ان يدركوا حقائقه سيعتصمون به ويلتفون حوله بكل مهجهم وارواحهم. ذلك لأنه ليس من نظير للقرآن في معالجة هذه الحقيقة، ولن يكون، ولا يمكن ان يسد مسدّ هذه المعجزة الكبرى شئ قطعاً.

ثانياً:

ان رسائل النور قد أظهرت خدماتها كسيف ألماسي قاطع بيد هذه المعجزة الكبرى، حتى ألزمت الحجة أعداءها العنيدين وألجأتهم الى الاستسلام، وانها تقوم بوظيفتها بين يدي هذه الخزينة القرآنية من حيث كونها معجزةً لمعانيه المعجزة على نحو تستطيع ان تنور القلب والروح والمشاعر، مناولةً كلاً منها علاجاتها الناجعة، ولا غرو فهي الداعية الى هذا القرآن العظيم والمستفيضة منه وحده ولا ترجع الاّ اليه.

وانها اذ تقوم بمهمتها خير قيام، انتصرت في الوقت نفسه على الدعايات المغرضة الظالمة التي يشيعها أعداؤها، وقضت على أشد الزنادقة تعنتاً، ودكّت أقوى قلاع الضلالة التي تحتمي بها وهي (الطبيعة) برسالة (الطبيعة)، كما بددت الغفلة وأظهرت نور التوحيد في أوسع ميادين العلوم الحديثة وأشد الظلمات الخانقة للغفلة بالمسألة السادسة (للثمرة) وبالحجج الأولى والثانية والثالثة.. والثامنة من رسالة (عصا موسى).

ومن هنا فانه من الضروري لنا - وأكثر ضرورة للأمة - ان يفتح طلاب النور - في حدود القدرات المتاحة - في كل مكان مدارس نورية صغيرة بعدما سمحت الدولة - في الوقت الحاضر - بفتح مدارس خاصة لتدريس الدين(1).

صحيح ان كل قارئ للرسائل يستطيع ان يستفيد منها شيئاً لنفسه الاّ انه لا يستطيع ان يستوعب كل مسألة من مسائلها؛ ذلك لانها ايضاح لحقائق الإيمان. فهي دروس علمية، ومعرفة إلهية، وسكينة للقلب وعبادة لله في الوقت نفسه(1).

ان النتائج التي كان يمكن الحصول عليها في المدارس الدينية طوال خمس أو عشر سنوات يمكن الحصول عليها في مدارس النور في خمسة أو عشرة أسابيع بإذن الله، بل ضمنت تلك النتائج في العشرين سنة التي خلت والحمدلله.

ثم بات من المسلّم به فائدة هذه الرسائل الداعية الى القرآن والتي هي لمعات من أنواره الباهرة، لحياة الأمة ولأمن البلاد، وحتى لحياتها السياسية فضلاً عن حياتها الأخروية، فمن الضروري اذن للدولة الاّ تتعرض لها بسوء بل تسعى جادة الى نشرها وتشجع الناس على قراءتها.. ليكون عملها هذا كفّارة عما اقترفت من سيئآت فاحشة سابقة وسداً منيعاً في وجه ما سيقبل من ويلات ومصائب وفوضى وارهاب.

المسألة السادسة

من رسالة الثمرة



هذه المسألة اشارة مختصرة الى برهان واحد فقـط من بين ألوف البراهين الكلية حول (الايمان بالله) والذي تم ايضاحه مع حججه القاطعة في عدة مواضع من رسائل النور.

جاءني فريق من طلاب الثانوية في ((قسطموني))(1) قائلين:

((عرّفنا بخالقنا، فان مدرسينا لا يذكرون الله لنا!)).

فقلت لهم:

((ان كل علم من العلوم التي تقرأونها يبحث عن الله دوماً، ويعرّف بالخالق الكريم بلغته الخاصة. فاصغوا الى تلك العلوم دون المدرسين)).

فمثلاً: لو كانت هناك صيدلية ضخمة، في كل قنينة من قنانيها أدوية ومستحضرات حيوية، وضِعت فيها بموازين حساسة، وبمقادير دقيقة؛ فكما أنها ترينا ان وراءها صيدليا حكيماً، وكيميائياً ماهراً، كذلك صيدلية الكرة الأرضية التي تضم اكثر من أربعمائة ألف نوع من الأحياء نباتاً وحيواناً، وكل واحد منها في الحقيقة بمثابة زجاجة مستحضرات كيمياوية دقيقة، وقنينة مخاليط حيوية عجيبة. فهذه الصيدلية الكبرى تُري حتى للعميان صيدليّها الحكيم ذا الجلال، وتعرّف خالقها الكريم سبحانه بدرجة كمالها وانتظامها وعظمتها، قياساً على تلك الصيدلية التي في السوق، وفق مقاييس علم الطب الذي تقرأونه.

ومثلاً: كما أن مصنعاً خارقاً عجيـباً ينسـج ألوفاً من أنـواع المنســوجات المتنوعة، والأقمشة المختلفة، من مادة بسيطة جداً، يرينا بلا شك ان وراءه مهندساً ميكانيكياً ماهراً، ويعرّفه لنا؛ كذلك هذه الماكنة الربانية السيارة المسماة بالكرة الارضية، وهذا المصنع الإلهي الذي فيه مئات الآلاف من مصانع رئيسية، وفي كل منها مئات الآلاف من المصانع المتقنة، يعرّف لنا بلا شك صانعَه، ومالكَه، وفق مقاييس علم المكائن الذي تقرأونه، يعرّفه بدرجة كمال هذا المصنع الآلهي، وعظمته قياساً على ذلك المصنع الانساني.

C ومثلاً: كما ان حانوتاً أو مخزناً للأعاشة والارزاق، ومحلاً عظيماً للأغذية والمواد، احضر فيه - من كل جانب - ألف نوع من المواد الغذائية، وميّز كل نوع عن الآخر، وصفف في محله الخاص به، يرينا ان له مالكاً ومدبراً؛ كذلك هذا المخزن الرحماني للاعاشة الذي يسيح في كل سنة مسافة اربعة وعشرين ألف سنة، في نظام دقيق متقن، والذي يضم في ثناياه مئات الآلاف من اصناف المخلوقات التي يحتاج كل منها الى نوع خاص من الغذاء. والذي يمر على الفصول الاربعة فيأتي بالربيع كشاحنة محمولة بآلاف الانواع من مختلف الأطعمة، فيأتي بها الى الخلق المساكين الذين نفد قوتُهم في الشتاء. تلك هي الكرة الأرضية، والسفينة السبحانية التي تضم آلاف الانواع من البضائع والاجهزة ومعلبات الغذاء. فهذا المخزن والحانوت الرباني، يُري - وفق مقاييس علم الاعاشة والتجارة الذي تقرأونه - صاحبَه ومالكَه ومتصرفَه بدرجة عظمة هذا المخزن، قياساً على ذلك المخزن المصنوع من قبل الانسان، ويعرّفه لنا، ويحببه الينا.

C ومثلاً: لو أن جيشاً عظيماً يضم تحت لوائه أربعمائة ألف نوع من الشعوب والأمم، لكل جنس طعامه المستقل عن الآخر، وما يستعمله من سلاح يغاير سلاح الآخر، وما يرتديه من ملابس تختلف عن ألبسة الآخر، ونمط تدريباته وتعليماته يباين الآخر، ومدة عمله وفترة رخصه هي غير المدة للآخر.. فقائد هذا الجيش الذي يزوّدهم وحده بالأرزاق المختلفة، والاسلحة المتـباينة، والألبــسة المتغــايرة، دون نسيان أي منها ولا التباس ولا حيرة، لهو قائد ذو خوارق بلا ريب، فكما ان هذا المعسكر العجيب يرينا بداهة ذلك القائد الخارق، بل يحببه الينا بكل تقدير واعجاب؛ كذلك معسكر الأرض؛ ففي كل ربيع يجنّد مجدداً جيشاً سبحانياً عظيماً مكوناً من اربعمائة ألف نوع من شعوب النبـاتات وأمم الحيوانات، ويمنح لكل نوع ألبسته وأرزاقه واسلحته وتدريبه ورخصه الخاصة به، من لدن قائد عظيم واحد أحد جل وعلا، بلا نسيان لأحد ولا اختلاط ولا تحير وفي منتهى الكمال وغاية الأنتظام.. فهذا المعسكر الشاسع الواسع للربيع الممتد على سطح الأرض يُري - لأولي الالباب والبصائر - حاكم الأرض حسب العلوم العسكرية وربّها ومدبرها، وقائدها الأقدس الاجلّ، ويعرّفه لهم، بدرجة كمال هذا المعسكر المهيب، ومدى عظمته، قياساً الى ذلك المعسكر المذكور، بل يحبب مليكه سبحانه بالتحميد والتقديس والتسبيح.

C ومثلاً: هب ان ملايين المصابيح الكهربائية تتجول في مدينة عجيبة دون نفاد للوقود ولا انطفاء؛ ألا تُري - باعجاب وتقديرــ أن هناك مهندساً حاذقاً، وكهربائياً بارعاً لمصنع الكهرباء، ولتلك المصابيح؟.. فمصابيح النجوم المتدلية من سقف قصر الأرض وهي اكبر من الكرة الأرضية نفسها بألوف المرات حسب علم الفلك وتسير أسرع من انطلاق القذيفة، من دون ان تخل بنظامها، او تتصادم مع بعضها مطلقاً ومن دون انطفاء، ولا نفاد وقود وفق ما تقرأونه في علم الفلك.. هذه المصابيح تشير باصابع من نور الى قدرة خالقها غير المحدودة . فشمسنا مثلاً وهي اكبر بمليون مرة من كرتنا الأرضية، وأقدم منها بمليون سنة، ما هي الا مصباح دائم، وموقد مستمر لدار ضيافة الرحمن. فلأجل ادامة اتقادها واشتعالها وتسجيرها كل يوم يلزم وقوداً بقدر بحار الأرض، وفحماً بقدر جبالها، وحطباً بقدر اضعاف اضعاف حجم الأرض، ولكن الذي يشعلها - ويشعل جميع النجوم الاخرى أمثالها - بلا وقود ولا فحم ولا زيت ودون انطفاء ويسيّرها بسرعة عظيمة معاً دون اصطدام، انما هي قدرة لا نهاية لها وسلطنة عظيمة لا حدود لها.. فهذا الكون العظيم وما فيه من مصابيح مضيئة، وقناديل متدلية يبين بوضوح - وفق مقاييس علم الكهرباء الذي قرأتموه أو ستقرأونه - سلطان هذا المعرض العظيم والمهرجان الكبير، ويعرّف منوّره ومدبّره البديع وصانعه الجليل، بشهادة هذه النجوم المتلألئة، ويحببه الى الجميع بالتحميد والتسبيح والتقديس بل يسوقهم الى عبادته سبحانه.

C ومثلاً: لو كان هناك كتاب، كتب في كل سطر منه كتاب بخط دقيق وكُتب في كل كلمة من كلماته سورة قرآنية، وكانت جميع مسائله ذات مغزى ومعنى عميق، وكلها يؤيد بعضـها البعض، فهـذا الكتاب العجــيـب يبين بلاشـــك مهارة كاتبه الفائقة، وقدرة مؤلفه الكاملة. أي أن مثل هذا الكتاب يعرّف كاتبه ومصنّفه تعــريفاً يضــاهــي وضوح النـهــار، ويبين كمـالَه وقـدرتَه، ويثـيـر مـن الاعجـاب والتقدير لدى الناظرين اليه ما لا يملكون معه الا ترديد: تبارك الله،سبحان الله،ما شاء الله! من كلمات الاستحسان والاعجاب؛ كذلك هذا الكتاب الكبير للكون الذي يُكتب في صحيفة واحدة منه، وهي سطح الارض، ويُكتب في ملزمة واحدة منه، وهي الربيع، ثلثمائة ألف نوع من الكتب المختلفة، وهي طوائف الحيوانات وأجناس النباتات، كل منها بمثابة كتاب.. يُكتب كل ذلك معاً ومتداخلاً بعضها ببعض بلا اختلاط ولا خطأ ولا نسيان، وفي منتهى الانتظام والكمال بل يُكتب في كل كلمة منه كالشجرة، قصيدة كاملة رائعة، وفي كل نقطة منه كالبذرة، فهرس كتاب كامل. فكما ان هذا مشاهد وماثل أمامنا، ويُرينا بالتأكيد ان وراءه قلماً سيالاً يسطر، فلكم اذن ان تقدروا مدى دلالة كتاب الكون الكبير العظيم الذي في كل كلمة منه معان جمة وحكم شتى، ومدى دلالة هذا القرآن الاكبر المجسم وهو العالم، على بارئه سبحانه وعلى كاتبه جل وعلا، قياساً الى ذلك الكتاب المذكور في المثال. وذلك بمقتضى ما تقرأونه من علم حكمة الاشياء او فن القراءة والكتابة، وتناوله بمقياس اكبر، وبالنظرة الواسعة الى هذا الكون الكبير. بل تفهمون كيف يعرّف الخالقَ العظيم بـ ((الله اكبر)) وكيف يعلّم التقديس بـ ((سبحان الله)) وكيف يحبّب الله سبحانه الينا بثناء ((الحمدلله)).

وهكذا فان كل علم من العلوم العديدة جداً، يدل على خالق الكون ذي الجلال - قياساً على ما سبق - ويعرّفه لنا سبحانه باسمائه الحسنى، ويعلّمه ايانا بصفاته الجليلة وكمالاته. وذلك بما يملك من مقاييس واسعة، ومرايا خاصة، وعيون حادة باصرة، ونظرات ذات عبرة.

فقلت لأولئك الطلبة الشباب: ان حكمة تكرار القرآن الكريم من: ] خَلَق السموات والأرض[ و] ربّ السموات والأرض[ انما هي لأجل الارشاد الى هذه الحقيقة المذكورة، وتلقين هذا البرهان الباهر للتوحيد، ولأجل تعريفنا بخالقنا العظيم سبحانه.

فقالوا: شكراً لربنا الخالق بغير حد، على هذا الدرس الذي هو الحقيقة السامية عينها، فجزاك الله عنا خير الجزاء ورضي عنك.

قلت: ان الانسان ماكنة حيوية، يتألم بآلاف الانواع من الآلام، ويتلذذ بآلاف الأنواع من اللذائذ، ومع أنه في منتهى العجز، فان له من الأعداء ما لا يحد سواء الماديين أو المعنويين، ومع أنه في غاية الفقر فان له رغبات باطنة وظاهرة لا تحصر، فهو مخلوق مسكين يتجّرع آلام صفعات الزوال والفراق باستمرار.. فرغم كل هذا، فانه يجد بانتسابه الى السلطان ذي الجلال بالايمان والعبودية، مستنداً قوياً، ومرتكزاً عظيماً يحتمي اليه في دفع أعدائه كافة، ويجد فيه كذلك مدار استمداد يستغيث به لقضاء حاجاته وتلبية رغباته وآماله كافة، فكما ينتسب كلٌ الى سيده ويفخر بشرف انتسابه اليه، ويعتز بمكانة منزلته لديه، كذلك فان انتساب الانسان بالايمان الى القدير الذي لا نهاية لقدرته، والى السلطان الرحيم ذي الرحمة الواسعة، ودخوله في عبوديته، بالطاعة والشكران، يبدّل الأجل والموت من الاعدام الأبدي الى تذكرة مرور ورخصة الى العالم الباقي!. فلكم ان تقدّروا كم يكون هذا الانسان متلذذاً بحلاوة العبودية بين يدي سيده، وممتناً بالايمان الذي يجده في قلبه، وسعيداً بأنوار الاسلام، ومفتخراً بسيّده القدير الرحيم شاكراً له نعمة الايمان والاسلام.

ومثلما قلت ذلك لاخواني الطلبة، اقول كذلك للمسجونين:

ان من عرف الله واطاعه سعيدٌ ولو كان في غياهب السجن، ومن غفل عنه ونسيه شقي ولو كان في قصور مشيدة. فلقد صرخ مظلوم ذات يوم بوجه الظالمين وهو يعتلي منصة الاعدام فرحاً جذلاً وقائلاً:

انني لا انتهى الى الفناء ولا اُعدم، بل اُسرح من سجن الدنيا طليقاً الى السعادة الابدية، ولكني اراكم انتم محكومين عليكم بالاعدام الابدي لما ترون الموت فناء وعدماً. فانا اذن قد اخذت ثأرى منكم. فسلّم روحه وهو قرير العين يردد: لا اله الاّ الله.

] سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنآ اِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا انّكَ اَنْتَ العَليمُ الحَكيمُ[

نكتة توحيدية في لفظ ((هو))

باسمه سبحانه

] وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ[

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ابداً دائماً

اخوتي الاعزاء الأوفياء:

لقد شاهدت ـ مشاهدة آنية ـ خلال سياحة فكرية خيالية، لدى مطالعة صحيفة الهواء من حيث جهته المادية فقط، نكتةً توحيدية ظريفة تولدت من لفظ ((هو)) الموجود في ] لا إله اِلاّ هو[ وفي ] قل هو الله أحد[ ورأيت فيها ان سبيل الايمان سهل ويسير الى حد الوجوب بينما سبيل الشرك والضلالة فيه من المحالات والمعضلات الى حد الامتناع.

سأبين باشارة في منتهى الاختصار تلك النكتة الظريفة الواسعة الطويلة.

نعم! ان حفنة من تراب، يمكن ان تكون موضع استنبات مئات من النباتات المزهرة اِنْ وضعتْ فيها متعاقبةً. فاِن اُحيل هذا الامر الى الطبيعة والأسباب يلزم؛ اِما ان تكون في تلك الحفنة من التراب مئات من المصانع المصغرة المعنوية، بل بعدد الأزهار.. أو ان كل ذرة من ذرات تلك الحفنة من التراب تعلم بناء تلك الأزهار المتنوعة وتركيبها بخصائصها المتنوعة واجهزتها الحيوية، اي لها علم محيط وقدرة مطلقة بما يشبه علم الآله وقدرته!!.

وكذلك الهواء الذي هو عرش من عروش الأمر والارادة الإلهية، فلكل جزء منه، من نسيم وريح، بل حتى للهواء الموجود في جزء من نَفَس الانسان الضَئيل عندما ينطق كلمة ((هو)) وظائف لا تعد ولا تحصى.

فلو اُسندت هذه الوظائف الى الطبيعة والمصادفة والاسباب؛ فإما أنه أي الهواء يحمل بمقياس مصغر مـراكز بــث واستقــبـال لجميع ما فـي العالم من اصـوات ومكالمات في التلغراف والتلفون والراديو مع ما لا يحد من انواع الاصوات للكلام والمحادثات، وان يكون له القدرة على القيام بتلك الـوظـائف جميـعها في وقت واحد.. أو أن ذلك الجزء من الهواء الموجود في كلمة ((هو))، وكل جزء من اجزائه وكل ذرة من ذراته، لها شخصيات معنوية، وقابليات بعدد كل مَن يتكلم بالتلفونات وجميع مَن يبث من البرقيات المتنوعة وجميع مَن يذيع كلاماً من الراديوات، وان تعلم لغاتهم ولهجاتهم جميعاً، وتعلّمه في الوقت نفسه الى الذرات الاخرى، وتنشره وتبثه. حيث ان قسماً من ذلك الوضع مشهود أمامنا، وان اجزاء الهواء كلها تحمل تلك القابلية.. اذاً فليس هناك محال واحد في طريق الكفر من الماديين الطبيعيين بل محالات واضحة جلية ومعضلات واشكالات بعدد ذرات الهواء.

ولكن ان اُسند الأمر الى الصانع الجليل، فان الهواء يصبح بجميع ذراته جندياً مستعداً لتلقي الأوامر. فعنئذٍ تقوم ذراتُه باداء وظائفها الكلية المتنوعة والتي لا تحد باذن خالقها وبقوته وبانتسابها واستنادها اليه سبحانه، وبتجلي قدرة صانعها تجلياً آنياً ــ بسرعة البرق ــ وبسهولة قيام ذرة واحدة بوظيفة من وظائفها وبيُسر تلفظ كلمة "هو" وتموج الهواء فيها. اي يكون الهواء صحيفة واسعة للكتابات المنسقة البديعة التي لا تحصر لقلم القدرة الإلهية، وتكون ذراته بدايات ذلك القلم، وتصبح وظائف الذرات كذلك نقاط قلم القَدَر، لذا يكون الأمر سهلاً كسهولة حركة ذرة واحدة.

رأيت هذه الحقيقة بوضوح تام وبتفصيل كامل وبعين اليقين عندما كنت اشاهد عالم الهواء واطالع صحـيفـته فـي سيـاحتي الفـكرية وتأمـلي في ] لا إله الاّ هو[ و ] قل هو الله أحد[ وعلمت بعلم اليقين ان في الهواء الموجود في لفظ ((هو)) برهاناً ساطعاً للوحدانية مثلما ان في معناه وفي اشارته تجليا للأحدية في غاية النورانية وحجة توحيدية في غاية القوة، حيث فيها قرينة الاشارة المطلقة المبهمة لضمير ((هو)) اي: الى مَن يعود؟ فعرفت عندئذٍ لماذا يكرر القرآن الكريم واهل الذكر هذه الكلمة عند مقام التوحيد.

نعم! لو أراد شخص ان يضع نقطة معينة ـ مثلاً ـ على ورقة بيضاء في مكان معين، فان الامر سهل، ولكن لو طُلب منه وضع نقاط عدة في مواضع عدة في آن واحد فالأمر يستشكل عليه ويختلط. كذلك يرزح كائن صغير تحت ثقل قيامه بعدة وظائف في وقت واحد. لذا فالمفروض أن يختلط النظام ويتبعثر عند خروج كلمات كثيرة في وقت واحد من الفم ودخولها الاذن معاً..

ولكني شاهدت بعين اليقين، وبدلالة لفظ ((هو)) هذا الذي اصبح مفتاحاً وبمثابة بوصلة، ان نقاطاً مختلفة تعد بالالوف وحروفاً وكلماتٍ توضع ـ أو يمكن ان توضع ـ على كل جزء من اجزاء الهواء الذي اسيح فيه فكراً بل يمكن ان توضع كلها على عاتق ذرة واحدة من دون ان يحدث اختلاط او تشابك أو ينفسخ النظام، علماً ان تلك الذرة تقوم بوظائف اخرى كثيرة جداً في الوقت نفسه، فلا يلتبس عليها شئ، وتحمل اثقالاً هائلة جداً من دون ان تبدي ضعفاً او تكاسلاً، فلا نراها قاصرة عن اداء وظائفها المتنوعة واحتفاظها بالنظام؛ اذ ترد الى تلك الذرات الوف الالوف من الكلمات المختلفة في انماط مختلفة واصوات مختلفة، وتخرج منها ايضاً في غاية النظام مثلما دخلت، دون اختلاط أو امتزاج ودون ان يفسد احداها الاخرى. فكأن تلك الذرات تملك آذاناً صاغية صغيرة على قدّها، وألسنة دقيقة تناسبها فتدخل تلك الكلمات تلك الآذان وتخرج من ألسنتها الصغيرة تلك.. فمع كل هذه الامور العجيبة فان كل ذرة ـ وكل جـزء من الهواء ـ تتـجــول بحـريـة تامـة ذاكرةً خالقها بلسان الحال وفي نشوة الجذب والوجد قائلة: ] لا إله الاّ هو[ و ] قل هو الله أحد[ بلسان الحقيقة المذكورة آنفاً وشهادتها.

وحينما تحدث العواصف القوية وتدّوي اهازيج الرعد، ويتلمع الفضاء بسنا البرق، يتحول الهواء الى امواج ضخمة متلاطمة.. بيد ان الذرات لا تفقد نظامها ولا تتعثر في اداء وظائفها فلا يمنعها شغل عن شغل.. هكذا شاهدت هذه الحقيقة بعين اليقين.

اذن، فإما ان تكون كل ذرة ـ وكل جزء من الهواء ـ صاحبة علم مطلق وحكمة مطلقة وارادة مطلقة وقوة مطلقة وقدرة مطلقة وهيمنة كاملة على جميع الذرات.. كي تتمكن من القيام باداء هذه الوظائف المتنوعة على وجهها.. وما هذا الاّ محالات ومحالات بعدد الذرات وباطل بطلاناً مطلقاً. بل حتى لا يذكره اي شيطان كان..

لذا فان البداهة تقتضي، بل هو بحق اليقين وعين اليقين وعلم اليقين: أن صحيفة الهواء هذه انما هي صحيفة متبدلة يكتب الخالقُ فيها بعلمه المطلق ما يشاء بقلم قُدرته وقَدَره الذي يحركه بحكمته المطلقة، وهي بمثابة لوحة محوٍ واثبات في عالم التغيّر والتّبدل للشؤون المسطّرة في اللوح المحفوظ.

فكما ان الهواء يدل على تجلي الوحدانية بهذه الامور العجيبة المذكورة آنفاً، وذلك لدى اداء وظيفة واحدة من وظائفها وهي نقل الاصوات، ويبين في الوقت نفسه بياناً واضحاً محالات الضلالة التي لا تحصر، كذلك فهو يقوم بوظائف في غاية الاهمية وفي غاية النظام ومن دون اختلاط أو تشابك أو التباس كنقل المواد اللطيفة مثل الكهرباء والجاذبية والدافعة والضوء.. وفي الوقت نفسه يدخل الى مداخل النباتات والحيوانات بالتنفس مؤدياً هناك مهماته الحياتية باتقان، وفي الوقت عينه يقوم بنقل حبوب اللقاح ـ أي وظيفة تلقيح النباتات ـ وهكذا امثال هذه الوظائف الاساسية لإدامة الحياة؛ مما يثبت يقيناً ان الهواء عرش عظيم يأتمر بالأمر الإلهي وارادته الجليلة. ويثبت ايضاً بعين اليقين ان لا احتمال قطعاً لتدخل المصادفة العشواء والاسباب السائبة التائهة والمواد العاجزة الجامدة الجاهلة في الكتابة البديعة لهذه الصحيفة الهوائية وفي اداء وظائفها الدقيقة. فاقتنعْتُ بهذا قناعة تامة بعين اليقين وعرفتُ ان كـل ذرة وكل جزء من الـهواء تقول بلســان حالها : ] قل هو الله أحد[ و ] لا إله الاّ هو[ .

ومثلما شاهدت هذه الامور العجيبة في الجهة المادية من الهواء بهذا المفتاح، اعني مفتاح ((هو)) فعنصر الهواء برمته اصبح ايضاً كلفظ ((هو)) مفتاحاً لعالم المثال وعالم المعنى؛ اذ قد علمتُ ان عالم المثال كآلة تصوير عظيمة جداً تلتقط صوراً لا تعد ولا تحصى للحوادث الجارية في الدنيا، تلتقطها في آن واحد بلا اختلاط ولا التباس حتى غدا هذا العالم يضم مشاهد عظيمة وواسعة اُخروية تسع الوف الوف الدُنى تعرض اوضاع حالات فانية لموجودات فانية وتظهر ثمار حياتها العابرة في مشاهد ولوحات خالدة تعرض امام اصحاب الجنة والسعادة الأبدية في معارض سرمدية مذكّرةً اياهم بحوادث الدنيا وذكرياتهم الجميلة الماضية فيها.

فالحجة القاطعة على وجود اللوح المحفوظ وعالم المثال ونموذجها المصغر هو ما في رأس الانسان من قوة حافظة وما يملك من قوة خيال، فمع انهما لا تشغلان حجم حبة من خردل الاّ انهما تقومان بوظائفهما على اتم وجه بلا اختلاط ولا التباس وفي انتظام كامل واتقان تام، حتى كأنهما يحتفظان بمكتبة ضخمة جداً من المعلومات والوثائق. مما يثبت لنا أن تينك القوتين نموذجان للوح المحفوظ وعالم المثال.

وهكذا لقد عُلم بعلم اليقين القاطع ان الهواء والماء ولا سيما سائل النطف، واللذان يفوقان الترابَ في الدلالة على الله ــ الذي اوردناه في مستهل البحث ـ صحيفتان واسعتان يكتب فيهما قلمُ القدر والحكمة كتابة حكيمة بليغة، ويجريان فيهما الارادة وقلم القدر والقدرة. وان مداخلة المصادفة العشواء والقوة العمياء والطبيعة الصماء والاسباب التائهة الجامدة في تلك الكتابة الحكيمة محال في مائة محال وغير ممكن قطعاً.



(لم تُكتَّب بقية البحث في الوقت الحاضر)

الف الف تحية وسلام الى الجميع
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-02-2011
  #18
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

الكلمة الرابعة عشرة

بسم الله الرحمن الرحيم

] الر كتابٌ اُحكمت آياتُه ثم فُصّلت من لدُن حكيمٍ خبير[ (هود: 1)

سنشير الى نظائر قسم من الحقائق السامية الرفيعة للقرآن الحكيم، ولمفسّره الحقيقي الحديث الشريف، وذلك لتكون بمثابة درجات سلّم للصعود الى تلك الحقائق، لكي تُسعف القلوب التي ينقصها التسليم والانقياد. وفي خاتمة الكلمة سيُبيّن درسٌ للعبرة وسرٌ من اسرار العناية الإلهية.

ونكتفي هنا بذكر نماذج لخمس مسائل فحسب من تلك الحقائق الجليلة، حيث ان النظائر التي تخص الحشر والقيامة قد ذكرت في (الكلمة العاشرة) ولا سيما في (الحقيقة التاسعة) منها ولا داعي للتكرار.

اولاها:

مثال: قوله تعالى: ] خَلقَ السموات والارضَ في ستة ايام[ (الاعراف: 54)

هذه الآية الكريمة تشير الى أن دنيا الانسان وعالم الحيوان يعيشان ستة ايام من الايام القرآنية التي هي زمن مديد ولربما هو كألف سنة أو كخمسين الف سنة. فلأجل الاطمئنان القلبي والاقتناع التام بهذه الحقيقة السامية نبين للانظار ما يخلقه الفاطر الجليل من عوالم سيالة وكائنات سيارة ودنىً عابرة، في كل يوم، في كل سنة، في كل عصر، الذي هو بحكم يوم واحد.

حقاً كأن الدنى ضيوف عابرة ايضاً كالناس. فيمتلئ العالم بأمر الفاطر الجليل كل موسم ويُخلى.

ثانيتها:

مثال: قوله تعالى ] ولا رطبٍ ولا يابسٍ إلاّ في كتابٍ مبين[ (الانعام: 59)

] وكلَّ شيء أحصيناه في إمام مبين[ (يس: 12)

] لا يَعزُبُ عنه مثقالُ ذرةٍ في السموات ولا في الارض ولا أصغرُ من ذلك ولا أكبرُ إلاّ في كتاب مبين[ (سبأ: 3)

وامثالها من الآيات الكريمة التي تفيد:

ان الاشياء جميعها وباحوالها كلها، مكتوبة، قبل وجودها وبعد وجودها، وبعد ذهابها من الوجود.

نبين أمام الانظار ما يأتي ليصل القلب الى الاطمئنان:

ان البارئ المصور الجليل سبحانه يدرج فهارس وجود ما لا يحد من المخلوقات المنسقة وتواريخ حياتها ودساتير اعمالها، يدرجها درجاً معنوياً محافظاً عليها في بذور ونوى واصول تلك المخلوقات، على الرغم من تبديلها في كل موسم، على صحيفة الارض كافة، ولا سيما في الربيع. كما انه سبحانه يدرجها بقلم القدر نفسه درجاً معنوياً بعد زوال تلك المخلوقات في ثمراتها وفي بذيراتها الدقيقة، حتى انه سبحانه يكتب كل ما هو رطب ويابس من مخلوقات الربيع السابق في بذورها المحدودة الصلبة كتابة في غاية الاتقان ويحافظ عليها في منتهى الانتظام. حتى لكأن الربيع بمثابة زهرة واحدة وهي في منتهى التناسق والابداع، تضعها يد الجميل الجليل على هامة الارض ثم يقطفها منها.

ولما كانت الحقيقة هي هذه، أليس من العجب أن يضل الانسان اعجب ضلالة، وهي اطلاقه اسم الطبيعة على هذه الكتابة الفطرية، وهذه الصورة البديعة، وهذه الحكمة المنفعلة المسطرة على وجه الارض كافة والتي هي انعكاس لتجلٍ من تجليات ما سُطّر في اللوح المحفوظ الذي هو صحيفة قلم القدر الإلهي! أليس من العجب أن يعتقد الانسان بالطبيعة وانها مؤثرة ومصدر فاعل؟

اين الحقيقة الجلية مما يظنه اهل الغفلة؟. اين الثرى من الثريا؟

ثالثتها:

ان المخبر الصادق e قد صوّر ـ مثلاً ـ الملائكة الموكلين بحمل العرش، وكذا حمَلة الارض والسموات، أو ملائكة آخرين، بأن للملك اربعين ألف رأس، في كل رأس اربعون الف لسان، كل لسان يسبح باربعين ألف نوع من انواع التسبيحات.

هذه الحقيقة الرفيعة في امثال هذه الاحاديث الشريفة تعبّر عن انتظام العبادة وكليتها وشمولها لدى الملائكة، فلأجل الصعود الى هذه الحقيقة السامية نبين امام الشهود الآيات الكريمة التالية وندعو الى التدبّر فيها، وهي:

] تسبّح له السمواتُ السبع والارضُ ومَن فيهن[ (الاسراء: 44)

] إنّا سخّرنا الجبالَ معه يسبّحنَ بالعشيّ والإشراق[ (ص: 18)

] إنّا عَرَضنا الامانةَ على السموات والارض والجبال.. [ (الاحزاب: 72)

وامثالها من الآيات الجليلة التي تصرّح:

ان لأضخم الموجودات واكثرها سعة وشمولاً تسبيحاً خاصاً منسجماً مع عظمته وكليته، والأمر واضح ومشاهد؛ اذ السموات الشاسعة مسبّحة لله.. وكلماتها التسبيحية هي الشموس والاقمار والنجوم، كما أن الارض الطائرة في جو السماء مسبحةٌ حامدةٌ لله، والفاظها التحميدية هي الحيوانات والنباتات والاشجار.

بمعنى أن لكل شجرة ولكل نجم، تسبيحاته الجزئية الخاصة به، مثلما أن للارض برمتها تسبيحاتها الخاصة بها. فهي تسبيحات كلية تضم تسبيحات كل جزء وقطعة منها بل كل وادٍ وجبل وكل بحر وبر فيها. فكما ان للارض تسبيحاتها باجزائها وكليتها كذلك للسموات والابراج والافلاك تسبيحاتها الكلية.

فهذه الارض التي لها الوف الرؤوس، ومئات الالوف من الألسنة لكل رأس، لاشك ان لها ملكاً موكلاً بها يناسبها، يترجم ازاهير تسبيحات كل لسان وثمرات تحميداته التي تربو على مائة الف نمط من انماط التسبيح والتحميد، يترجمها ويبينها في عالم المثال، ويمثلها ويعلن عنها في عالم الارواح.

اذ لو دخلت اشياء متعددة في صورة جماعة أومجموعة، لتشكلت لها شخصية معنوية، واذا امتزجت تلك المجموعة واتحدت، تكون لها شخصية معنوية تمثلها، ونوع من روحها المعنوية، وملك موكل يؤدي وظيفتها التسبيحية.

فانظر مثلاً الى هذه الشجرة المنتصبة امام غرفتنا، وهي شجرة الدُلب ذات الاغصان الثلاثة، فهي تمثل كلمة عظيمة ينطق بها لسان هذا الجبل الموجود في فم (بارلا) ألا ترى كم من مئات ألسنة الاغصان لكل رأس من رؤوس الشجرة الثلاثة، وكم من مئات ثمرات الكلمات الموزونة المنتظمة في كل لسان؟ وكم من مئات حروف البذيرات المجنحة في كل ثمرة من الثمرات؟ ألا يسبّح كلٌ من تلك الرؤوس والألسنة لمالك الملك الذي له امر كن فيكون؟ الاّ يسبّح بكلام فصيح، وبثناء بليغ واضح، حتى انك تشاهد تسبيحاتها وتسمعها؟!

فالملك الموكل عليها ايضاً يمثل تلك التسبيحات في عالم المعنى بألسنةٍ متعددة.

بل الحكمة تقتضي ان يكون الأمر هكذا!

رابعتها:

قوله تعالى مثلاً

] انما أمرُه اذا أراد شيئاً ان يقولَ له كُن فيكون[ (يس: 82)

] وما أمرُ الساعة اِلاّ كلمحِ البصر[ (النحل: 77)

] ونحن اقربُ اليه من حبل الوريد[ (ق: 16)

] تعرُج الملائكةُ والروحُ اليه في يومٍ كان مقداره خمسين ألفَ سنة[ (المعارج: 4)

وأمثال هذه الآيات الكريمة التي تعبّر عن الحقيقة السامية الآتية وهي:

ان الله سبحانه وتعالى، القدير على كل شئ، يخلق الاشياء بسهولة مطلقة في سرعة مطلقة دون اية معالجة أو مباشرة، حتى تبدو الاشياء كأنها توجد بمجرد الأمر.

ثم ان ذلك الصانع الجليل قريب جداً الى المصنوعات، بينما المصنوعات بعيدة عنه غاية البعد.

ثم انه سبحانه مع كبريائه المطلق، لايدع احقر الاشياء واكثرها جزئية وخسّة خارج اتقانه!

هذه الحقيقة القرآنية يشهد لها جريان الانتظام الاكمل في الموجودات وبسهولة مطلقة. كما ان التمثيل الآتي بيّن سرّ حكمتها:

فمثلاً (وَلله اْلمَثَلُ الاَعْلى) ان الوظائف التي قلّدها الأمر الرباني والتسخير الإلهي للشمس ـ التي تمثل مرآة كثيفة لإسم النور من الاسماء الحسنى ـ تقرّب هذه الحقيقة الى الفهم وذلك:

انه مع علو الشمس ورفعتها، قريبة جداً من المواد الشفافة واللامعة، بل انها اقرب الى ذوات تلك الاشياء من انفسها. وعلى الرغم من ان الشمس تجعل الاشياء تتأثر بها بجلواتها وبضوئها وبجهات اخرى شبيهة بالتصرف فيها، الاّ ان تلك المواد الشفافة بعيدة عنها بالوف السنين، فلا تستطيع ان تؤثر فيها قطعاً، بل لا يمكنها ادعاء القرب منها.

وكذا يفهم من رؤية انعكاس ضوء الشمس وما يشبه صورتها من كل ذرة شفافة حسب قابليتها ولونها، ان الشمس كأنها حاضرة في كل ذرة منها وناظرة اينما بلغت اشعتها.

وكذا فان نفوذ اشعة الشمس وشمولها واحاطتها تزداد بعظم نورانيتها. فعظمة النورانية هي التي تضم كل شئ داخل احاطتها الشاملة حتى لا يستطيع شئٌ مهما صغر أن يختبئ عنها او يهرب منها. أي ان عظمة كبريائها لا ترمي الى الخارج حتى الاشياء الصغيرة الجزئية، بل العكس هو الصحيح انها تضم جميعها ـ بسر النورانية ـ ضمن دائرة احاطتها.

فلو فرضنا الشمس ـ فرضاً محالاً ـ انها فاعلة مختارة فيما نالت من وظائف وجلوات، فاننا نستطيع ان نتصور ان افعالها تسري ـ بإذن إلهي ـ في منتهى السهولة ومنتهى السرعة ومنتهى السعة والشمول، ابتداءً من الذرات الى القطرات والى وجه البحر والى الكواكب السيارة. فتكون الذرة والكوكب السيار سيّان تجاه امرها. اذ الفيض الذي تبثه الى سطح البحر تعطيه بانتظام كامل ايضاً للذرة الواحدة حسب قابليتها.

فهذه الشمس التي هي فقاعة صغيرة جداً مضيئة لماعة على سطح بحر السماء، وهي مرآة صغيرة كثيفة تعكس تجلي اسم النور للقدير على كل شئ.. هذه الشمس تبين نماذج الاسس الثلاثة لهذه الحقيقة القرآنية. اذ لاشك أن ضوء الشمس وحرارتها كثيفة كثافة التراب بالنسبة لعلم وقدرة مَن هو نور النور ومنوِّر النور ومقدِّر النور.

فذلك الجميل الجليل اذن قريب الى كل شئ قرباً مطلقاً بعلمه وقدرته، وهو حاضر عنده وناظر اليه، بينما الاشياء بعيدة عنه بعداً مطلقاً.

وانه يتصرف في الاشياء بلا تكلف ولا معالجة وفي سهولة مطلقة بحيث يفهم انه يأمر ـ مجرد الأمر ـ والاشياء توجد بيسر وسرعة مطلقتين.

وانه ليس هناك شئ، مهما كان جزئياً أو كلياً، صغيراً أو كبيراً خارج دائرة قدرته، وبعيداً عن احاطة كبريائه جل جلاله.

هكذا نفهم، وهكذا نؤمن ايماناً يقيناً وبدرجة الشهود، بل ينبغي أن نؤمن هكذا.

خامستها:

ان امثال الآيات الكريمة التالية تبين عظمته سبحانه وتعالى وكبرياءه المطلقين: فأبتداءً من قوله تعالى: ] وما قدروا الله حقّ قَدرهِ والارضُ جميعاً قبـضتُه يومَ القيامة والسمواتُ مطويّاتٌ بيمينه[ (الزمر: 67) الـى قوله تعـالى ] واعلَموا أن الله يحُولُ بين المرء وقلبه[ (الانفال: 24) ومن قوله تعالى الله ] خالقُ كلّ شــيءٍ وهـو عـلى كل شـيء وكيـل[ (الزمر: 62) الى قـوله تعالى ] يعلمُ ما يُسرّون وما يُعلنون[ (البقرة: 77) ومن قوله تعالى ] خَلَقَ السموات والارض[ (الاعراف:54) الى قوله تعالى ] خَلَقَكُم وما تَعملون [ (الصافات: 96). ومن قوله تعالى ] ما شـاءَ الله لا قوة اِلاّ بالله[ (الكهف:39) الى قـوله تعـالى ] وما تشاؤون اِلاّ أن يشاء الله[ (الانسان: 30) هذه الآيات الجليلة تبـين احاطة حدود عظمة ربوبيته سبحانه وكبرياء الوهيته بكل شئ.. هذا السلطان الجليل، سلطان الازل والابد يهدد بشدة ويعنّف ويزجر ويتوعد هذا الانسان الذي هو في منتهى العجز ومنتهى الضعف ومنتهى الفقر، والذي لا يملك الاّ جزءاً ضئيلاً من ارادة اختيارية وكسباً فقط، فلا قدرة له على الايجاد قطعاً. والسؤال الوارد هو: ما اساس الحكمة التي تبنى عليها تلك الزواجر والتهديدات المرعبة والشكاوى القرآنية الصادرة من عظمته الجليلة تجاه هذا الانسان الضعيف، وكيف يتم الانسجام والتوفيق بينهما؟.

اقول: لأجل البلوغ الى الاطمئنان القلبي، انظر الى هذه الحقيقة العميقة جداً والرفيعة جداً في الوقت نفسه من زاوية المثالين الآتيين:

المثال الاول:

بستان عظيم جداً يحوى مالا يعد ولا يحصى من الاثمار اليانعة والازاهير الجميلة، عُيّن عدد كبير من العاملين والموظفين للقيام بخدمات تلك الحديقة الزاهرة. اِلاّ ان المكلّف بفتح المنفذ الذي يجري منه الماء للشرب وسقي البستان، تكاسل عن اداء مهمته ولم يفتح المنفذ، فلم يجر الماء. بمعنى انه أخل بكل ما في البستان أو سبّب في جفافه!

وعندها فان لجميع العاملين في البستان حق الشكوى من ذلك العامل المتقاعس عن العمل، فضلاً عن شكاوى ما ابدعه الرب الجليل والخالق الكريم وما هو تحت نظر شهوده العظيم، بل حتى للتراب والهواء والضياء حق الشكوى من ذلك العامل الكسلان، لما سبّب من بوار مهماتهم وعقم خدماتهم او اخلال بها في الأقل!

المثال الثاني:

سفينة عظيمة للسلطان. إن ترك فيها عاملٌ بسيط وظيفته الجزئية، فسيؤدي تركه هذا الى اخلال نتائج اعمال جميع العاملين في السفينة واهدارها. لأجل ذلك فان صاحب السفينة، وهو السلطان العظيم، سيهدد ذلك المقصّر تهديداً شديداً باسم جميع العاملين في السفينة. في حين لا يقدر ذلك المقصّر على القول: مَن انا حتى استحق كل هذا التهديد المروّع، وما عملي الاّ اهمال تافه جزئى!

ذلك لان عدماً واحداً يؤدي الى ما لا يتناهى من انواع العدم، بينما الوجود يثمر ثمرات حسب نوعه. لأن وجود الشئ يتوقف على وجود جميع الاسباب والشروط، بينما انعدام ذلك الشئ وانتفاؤه من حيث النتيجة انما هو بانتفاء شرط واحد فقط وبانعدام جزء منه.

ومن هنا غدا ((التخريب أسهل من التعمير)) دستوراً متعارفاً لدى الناس. ولما كانت اسس الكفر والضلال والطغيان والمعصية، انكاراً ورفضاً وتركاً للعمل وعدم قبول، فصورتها الظاهرية مهما بدت ايجابية وذات وجود، الاّ انها في حقيقتها انتفاء وعدم، لذا فهي جناية سارية.

فهذه الامور مثلما تخل بنتائج اعمال الموجودات كافة، فانها تسدل ستاراً أمام التجليات الجمالية للاسماء الحسنى وتحجبها عن الانظار.

وهكذا فالموجودات لها حق الشكوى بلا حدود، وان سلطانها الجليل يهدّد باسمها هذا الانسان العاصي ويزجره اشد الزجر. وهذا هو عين الحكمة، لأن ذلك العاصي يستحق بلا ريب ذلك التهديد الرهيب كما يستحق أنواعاً من الوعيد المرعب.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-02-2011
  #19
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

خاتمة

بسم الله الرحمن الرحيم

] وما الحياةُ الدنيا الاّ متاعُ الغُرور[ (آل عمران: 185)

(درس للعبرة وصفعة قوية على رأس الغفلة)

يا نفسي!.. ايتها السادرة في الغفلة!

يا من ترين هذه الحياة حلوة لذيذة فتطلبين الدنيا وتنسين الآخرة.. هل تدرين بمَ تشبهين؟ انك لتشبهين النعامة.. تلك التي ترى الصياد فلا تستطيع الطيران، بل تقحم رأسها في الرمال تاركة جسمها الضخم في الخارج ظناً منها ان الصياد لا يراها.إلا أن الصياد يرى، ولكنها هي وحدها التي اطبقت جفنيها تحت الرمال فلم تعد ترى!

فيا نفسي!

انظري الى هذا المثال وتأملي فيه، كيف ان حصر النظر كله في الدنيا يحوّل اللذة الحلوة الى ألم مرير!.

هب أنه في هذه القرية (بارلا) رجلان اثنان: أحدهما قد رحل تسعة وتسعون بالمائة من أحبته الى استانبول وهم يعيشون هناك عيشة طيبة جميلة، ولم يبق منهم هنا سوى شخص واحد فقط وهو أيضاً في طريقه الى الالتحاق بهم، لذا فان هذا الرجل مشتاق الى استانبول أشد الاشتياق بل يفكر بها، ويرغب في ان يلتقي الأحباب دائماً. فلو قيل له في أي وقت من الاوقات: ((هيا اذهب الى هناك)) فانه سيذهب فرحاً باسماً..

أما الرجل الثاني فقد رحل من احبته تسعة وتسعون بالمائة، ويظن ان بعضهم فني، ومنهم مَن انزوى في أماكن لا ترى. فهلكوا وتفرقوا حسب ظنه. فهذا الرجل المسكين ذو داء عضال يبحث عن أنيس وعن سلوان حتى عند سائح واحد، بدلاً من اولئك جميعاً، ويريد ان يغطي به على ألم الفراق الشديد.

فيا نفسي!

ان أحبتك كلهم، وعلى رأسهم وفي مقدمتهم (حبيب الله) e ، هم الآن في الطرف الآخر من القبر. فلم يبق هنا الاّ واحد أو اثنان وهم ايضاً متأهبون للرحيل.

فلا تديرنّ رأسك جفلة من الموت، خائفة من القبر، بل حدّقي في القبر وانظري الى حفرته بشهامة واستمعي الى ما يطلب. وابتسمي بوجه الموت برجولة، وانظري ماذا يريد؟ واياك ان تغفلي فتكوني أشبه بالرجل الثاني!.

يا نفسي!

لا تقولي ابداً بأن الزمان قد تغيّر، وان العصر قد تبدّل، وان الناس قد انغمسوا في الدنيا وافتتنوا بحياتها، فهم سكارى بهموم العيش.. ذلك لأن الموت لا يتغير، وان الفراق لا ينقلب الى بقاء فلا يتغير ايضاً، وان العجز الانساني والفقر البشري هما ايضاً لا يتغيران بل يزدادان، وان رحلة البشرية لا تنقطع، بل تحث السير وتمضي. ثم لا تقولي كذلك: ((أنا مثل كل الناس)). ذلك لأن ما من أحدٍ من الناس يصاحبك الاّ الى عتبة باب القبر .. لا غير.

ولو ذهبت تنشدين السلوان فيما يقال عن مشاركة الآخرين معك في المصيبة ومعيتهم لك، فان هذا ايضاً لا حقيقة له ولا أساس مطلقاً في الطرف الآخر من القبر!.

ولا تظني نفسك سارحة مفلوتة الزمام، ذلك لأنك اذا ما نظرت الى دار ضيافة الدنيا هذه نظر الحكمة والروية.. فلن تجدي شيئاً بلا نظام ولا غاية، فكيف تبقين اذن وحدك بلا نظام ولا غاية؟! فحتى الحوادث الكونية والوقائع الشبيهة بالزلازل ليست ألعوبة بيد الصدفة.

فمثلاً: في الوقت الذي تشاهدين فيه بأن الأرض قد ألبست حللاً مزركشة بعضها فوق بعض مكتنفة بعضها البعض الآخر من انواع النباتات والحيوانات في منتهى النظام وفي غاية النقش والجمال، وترينها مجهّزة كلها من قمة الرأس الى أخمص القدم بالحكم، ومزينة بالغايات. وفي الوقت الذي تدور بما يشبه جذبة حب وشوق مولوية(1) بكمال الدقة والنظام ضمن غايات سامية.. ففي الوقت الذي تشهدين هذا، وتعلمين ذلك فكيف يسوغ اذن أن تكون الزلزلة الشبيهة بهزّ عطف كرة الارض(1) مظهرة بها عدم رضاها عن ثقل الضيق المعنوي الناشئ من اعمال البشر، ولا سيما أهل الايمان منهم، كيف يمكن أن تكون تلك الحادثة المليئة بالموت، بلا قصد ولا غاية كما نشره ملحد ظناً منه أنها مجرد مصادفة، مرتكباً بذلك خطأ فاحشاً ومقترفاً ظلماً قبيحاً؟ اذ صيّر جميع ما فقده المصابون من أموال وارواح هباء منثوراً قاذفاً بهم في يأس أليم. والحال أن مثل هذه الحوادث تدّخر دائماً أموال أهل الايمان، محولة اِياها بأمر الحكيم الرحيم، الى صَدَقة لهم. وهي كفّارة لذنوب ناشئة من كفران النعم.

فلسوف يأتي ذلك اليوم الذي تجد الارض المسخرة وجهها دميمة قبيحة بما لطخ زينتها شركُ اعمال البشر ولوّثها كفرانه، فتمسح عندئذٍ وجهها بزلزلة عظيمة بأمر الخالق، وتطهّره مفرغةً أهل الشرك بأمر الله في جهنم، وداعيةً أهل الشكر: ((هيا تفضلوا الى الجنة)).

ذيل

الكلمة الرابعة عشرة



بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] اذا زُلْزلت الأرضُ زلزالَها ^ وأخرجَت الأرضُ أثقالها ^ وقال الانسانُ ما لَها^ يومئذٍ تُـحدّثُ أخبارهَا ^ بأن ربَّك أوحى لها…[ الى اخر السورة

هذه السورة الجليلة تبين بياناً قاطعاً؛ ان الأرض في حركاتها وزلزالها وحتى في اهتزازاتها أحياناً، انما هي تحت أمر الله ووحيه.

)لقد وردت الى القلب أجوبة ـ بمعاونة تنبيه معنوي ـ عن بضعة أسئلة تدور حول الزلزال الذي حدث حالياً، ورغم اني عزمت على كتابة تلك الأجوبة كتابة مفصلة عدة مرات، فلم يؤذن لي ، لذا ستكتب مختصرة ومجملة).

C السؤال الأول:

لقد أذاقت هذه الزلزلة العظيمة الناس مصيبةً معنوية أدهى من مصيبتها المادية الفجيعة، تلك هي الخوف والهلع واليأس والقنوط التي استولت على النفوس، حيث انها استمرت ودامت حتى سلبت راحة اغلب الناس ليلاً. وعمّ القلق والاضطراب أغلب مناطق البلاد.. تُرى ما منشأ هذا العذاب الأليم وما سببه؟

بمعاونة تنبيه معنوي كذلك كان الجواب هو الآتي:

ان مما يُقترف في أرجاء هذه البلاد ـ التي كانت مركزاً طيباً للاسلام ـ من مجون وعربدة جهاراً نهاراً، وفي شهر مبارك جليل كشهر رمضان، واثناء اقامة صلوات التراويح، واسماع الناس اغانٍ مثيرة باصوات نساء، واحياناً من الراديو وغيرها.. قد ولّد إذاقة عذاب الخوف والهلع هذا.

C السؤال الثاني:

لماذا لا ينزل هذا العذاب الرباني والتأديب الإلهي ببلاد الكفر والالحاد وينزل بهؤلاء المساكين المسلمين الضعفاء؟.

الجواب: مثلما تحال الجرائم الكبيرة الى محاكم جزاء كبرى، وتُعهد اليها عقوبتها بالتأخير، بينما تحسم الجنايات الصغيرة والجَنح في مراكز الأقضية والنواحي، كذلك فان القسم الأعظم من عقوبات أهل الكفر وجرائم كفرهم وإلحادهم يؤجل الى المحكمة الكبرى في الحشر الأعظم، بينما يعاقب أهل الايمان على قسم من خطيئاتهم في هذه الدنيا، وذلك بمقتضى حكمة ربانية مهمة(1).

C السؤال الثالث:

لماذا تعم هذه المصيبة البلاد كلها، علماً انها مصيبة ناجمة من اخطاء يرتكبها بعض الناس؟

الجواب: ان أغلب الناس يكونون مشتركين مع اولئك القلة الظلمة، إما مشاركة فعلية، أو التحاقاً بصفوفهم أو التزاماً باوامرهم، أي يكونون معهم معنىً، مما يُكسب المصيبة صفة العمومية، اذ تعم المصيبة بمعاصي الأكثرية.

C السؤال الرابع:

ما دامت هذه الزلزلة قد نشأت من اقتراف الخطايا والمفاسد، ووقعت كفّارة للذنوب، فلماذا تصيب الأبرياء اذن، ويحترقون بلظاها وهم لم يقربوا الخطايا والذنوب، وكيف تسمح العدالة الربانية بهذا؟

وكذلك بمعاونة تنبيه معنوي كان الجواب هو الآتي:

ان هذه المسألة متعلقة بسر القدر الإلهي، لذا نحيلها الى ((رسالة القدر)) ونكتفي بالآتي:

قال تعالى ] واتقوا فتنةً لا تُصيبنَّ الذين ظَلَموا منكم خاصّة[ (الانفال:25) وسرّ هذه الآية ما يأتي:

ان هذه الدنيا دار امتحان واختبار، ودار مجاهدة وتكليف، والاختبار والتكليف يقتضيان ان تظل الحقائق مستورة ومخفية، كي تحصل المنافسة والمسابقة، وليسمو الصديقون بالمجاهدة الى أعلى عليين مع أبي بكر الصديق، وليتردى الكذابون الى أسفل سافلين مع مسيلمة الكذاب.

فلو سلم الابرياء من المصيبة ولم يمسّهم سوء ولا أذى، لأصبح الايمان بديهياً، أي لاستسلم الكفار والمؤمنون معاً على حد سواء، ولأنتفى التكليف وانسدّ بابه، ولم تبق حاجة الى الرقي والسمو في مراتب الايمان.

C فما دامت المصيبة تصيب كلاً من الظالمين والمظـلومين معاً، وفق الحكمة الإلهية، فما نصيب اولئك المظلومين من العدالة الإلهية ورحمتها الواسعة؟.

الجواب: ان هناك تجلياً للرحمة في ثنايا ذلك الغضب والبلاء، لأن اموال اولئك الابرياء الفانية ستخلد لهم في الآخرة، وتدّخر صدقة لهم، أما حياتهم الفانية فتتحول الى حياة باقية بما تكسب نوعاً من الشهادة، أي ان تلك المصيبة والبلاء بالنسبة لأولئك الأبرياء نوعٌ من رحمة إلهية ضمن عذاب أليم موقت، حيث تمنح لهم بمشقة وعذاب مؤقتين، وقليلين نسبياً، غنيمة دائمة وعظيمة.

C السؤال الخامس:

ان الله سبحانه وتعالى، وهو العادل الرحيم، والقدير الحكيم، لا يجازي الذنوب الخاصة بعقوبات خاصة، وانما يسلط عنصراً جسيماً كالأرض، للتأديب والعقاب. فهل هذا يوافق شمول قدرته وجمال رحمته سبحانه؟.

الجواب: لقد اعطى القدير الجليل كلَّ عنصرٍ من العناصر وظائف كثيرة، ويُنشئ على كلٍ من تلك الوظائف نتائج كثيرة. فلو ظهرت نتيجة واحدة قبيحة ـ أي شر ومصيبة وبلاء ـ من عنصر من العناصر في وظيفة من وظائفه الكثيرة، فان سائر النتائج المترتبة على ذلك العنصر، تجعل هذه النتيجة الوخيمة في حكم الحسن والجميل، لأنها جميلة وحسنة اذ لو مُنع ذلك العنصر الغاضب على الانسان من تلك الوظيفة للحيلولة دون مجئ تلك النتيجة الوحيدة البشعة للوجود لتُركت اذن خيرات كثيرة بعدد النتائج الخيرة المترتبة على سائر وظائف ذلك العنصر. أي تحصل شرور كثيرة بعدد تلك النتائج الخيرة، حيث ان عدم القيام بخير ضروري، انما هو شر كما هو معلوم. كل ذلك للحيولة دون مجئ شر واحد! وما هذا الاّ منافاةٌ للحكمة. وهو قبح واضح، ومجافاة للحقيقة، وقصور مشين. بينما الحكمة والقدرة والحقيقة منزّهة عن كل نقص وقصور.

ولما كان قسم من المفاسد هو عصياناً شاملاً وتعدّياً فاضحاً على حقوق كثير من المخلوقات واهانة لها واستخفاف بها حتى يستدعي غـضب العناصر ولا سيــما الارض، فيثير غيظها، فلاشك أن الايعاز الى عنصر عظيم بأن يؤدب اولئك العصاة، اظهاراً لبشاعة عصيانهم وجسامة جنايتهم، انما هو عين الحكمة والعدالة، وعين الرحمة للمظلومين في الوقت نفسه.

C السؤال السادس:

يشيع الغافلون في الأوساط، ان الزلزلة ما هي الاّ نتيجة انقلابات المعادن واضطراباتها في جوف الأرض، فينظرون اليها نظر حادثة نجمت من غير قصد، ونتيجة مصادفة وأمور طبيعية، ولا يرون الاسباب المعنوية لهذه الحادثة ولا نتائجها، كي يفيقوا من غفلتهم وينتبهوا من رقدتهم. فهل من حقيقة لما يستندون اليه؟

الجواب: لا حقيقة له غير الضلال، لاننا نشاهد ان كل نوع من الآف أنواع الأحياء التي تزيد على خمسين مليوناً على الكرة الأرضية، يلبس أقمصته المزركشة المنسقة ويبدّلها كل سنة، بل لا يبقى جناح واحد وهو عضو واحد من مئات اعضاء الذباب الذي لا يعد ولا يحصى، لا يبقى هذا العضو هملاً ولا سدىً بل ينال نور القصد والارادة والحكمة. مما يدل على ان الافعال والأحوال الجليلة للكرة الأرضية الضخمة ـ التي هي مهد ما لا يحد من ذوي المشاعر وحضارتهم ومرجعهم ومأواهم ـ لا تبقى خارج الارادة والأختيار والقصد الإلهي، بل لا يبقى اي شئ خارجها، جزئياً كان ام كلياً.

ولكن القدير المطلق قد جعل الاسباب الظاهرة ستائر أمام تصرفاته بمقتضى حكمته المطلقة، اذ حالما تتوجه ارادته الى احداث الزلزلة، يأمر ـ أحياناً ـ معدناً من المعادن بالاضطراب والحركة، فيوقده ويشعله.

هب ان الزلزال نشأ فرضاً من حدوث انقلابات المعادن واضطراباتها، فلا يحدث أيضاً الاّ بأمر إلهي ووفق حكمته لا غير.

اذ كيف أنه من البلاهة والجنون، وضياع جسيم لحق المقتول، الاّ يؤخذ القاتل بنظر الاعتبار ويُحصر النظر في البارود المشتعل في طلقة بندقيته،كذلك فان الحماقة الاشنع منها الانسياق الى الطبيعة ونسيان الأمر الإلهي باشعال القنبلة المدخرة في جوف الارض بحكمته وارادته، تلك المأمورة المسخرة والسفينة والطائرة للقدير الجليل، فيأمرها سبحانه بالانفلاق إيقاظاً للغافلين وتنبيهاً للطغاة.



[ تتمة السؤال السادس وحاشيته ]

ان اهل الضلال والالحاد، يبدون تمرداً غريباً، وحماقة عجيبة الى درجة تجعل الانسان نادماً على انسانيته، وذلك في سبيل الحفاظ على مسلكهم المعوق لصحوة الايمان. فمثلاً:

ان العصيان الظالم المظلم، الذي اقترفه البشر في الآونة الاخيرة، والذي عم العالم وشمله، حتى اغضب العناصر الكلية. بل تجلت ربوبية خالق الارض والسموات بصفة رب العالمين وحاكم الاكوان ـ لا بصفة ربوبية جزئية خاصة ـ في العالم اجمع، وفي دائرة كلية واسعة، فصفع رب العالمين البشرية ببلايا وآفات عامة مرعبة كالحرب العالمية والزلازل والسيول العارمة والرياح الهوج والصواعق المحرقة والطوفانات المدمرة. كل ذلك ايقاظاً لهذا الانسان السادر في غفلته، وسوقاً له ليتخلى عن غروره وطغيانه الرهيب. ولتعريفه بربه الجليل الذي يعرض عنه. فاظهر سبحانه حكمته وقدرته وعدالته وقيوميته وإرادته وحاكميته اظهاراً جلياً. ولكن على الرغم من هذا فان شياطين حمقى ممن هم في صور اناسي، يتمردون في وجه تلك الاشارات الربانية الكلية والتربية الإلهية العامة للبشرية، تمرداً ببلاهة مشينة، اذ يقولون: انها عوامل طبيعية، انها انفجار مواد واخلاط معادن، انها مصادفات ليس الا، فقد تصادمت حرارة الشمس والكهرباء فاحدثت توقفاً في المكائن في امريكا لمدة خمس ساعات واحمرّ الجو في (قسطموني) حتى كأنه يلتهب.! الى آخر هذه الهذيانات التي لا معنى لها.

فالجهل المريع الناشئ من الضلال، والتمرد المقيت المتولد من الزندقة، يحولان دون ادراكهم ماهية الاسباب، التي هي حُجب وستائر (امام القدرة الإلهية) ليس الاّ.

اذ ترى احدهم ـ من جهله ـ يبرز اسباباً ظاهرية، ويقول: هذه الشجرة الضخمة للصنوبر ـ مثلاً ـ قد انشأتها هذه البذرة. منكراً معجزة صانعها الجليل. علماً انه لو احيلت الى الاسباب لما كفت مائة من المصانع لتكوين تلك الشجرة.

فابراز اسباب ظاهرية ـ مثل هذه ـ انما هو تهوين من شأن عظمة فعل الربوبية الجليلة المفعمة بالحكمة والاختيار.

وترى آخر يطلق اسماً علمياً على حقيقة مهمة يقصر العقل عن ادراك مداها وعمقها. فكأن تلك الحقيقة قد عرفت وعُلمت بمجرد وضع اسم عليها. وغدت مألوفة معتادة، لا حكمة فيها ولا معنى!

فتأمل في هذه البلاهة والحماقة التي لا منتهى لهما! اذ الحقيقة التي لا تسع مائة صحيفة لبيان حكمتها وتعريفها، كأن وضع هذا العنوان عليها جعلها معروفة مألوفة! وقولهم: هذا الشئ من هذا. وهذه الحادثة من مادة الشمس التي اصطدمت بالكهرباء.. جعل ذلك الشئ معروفاً وتلك الحادثة مفهومة!!

بل يظهر احدهم جهلاً اشد من جهل ابي جهل، اذ يسند حادثة ربوبية مقصودة خاصة، يرجعها الى احد قوانين الفطرة، وكأن القانون هو الفاعل! فيقطع بهذا الاسناد نسبة تلك الحادثة الى الارادة الإلهية الكلية واختياره المطلق وحاكميته النافذة والتي تمثلها سننه الجارية في الوجود.. ثم تراه يحيل تلك الحادثة الى المصادفة والطبيعة! فيكون كالابله العنيد الذي يحيل الانتصار الذي يحرزه جندي او فرقة، في الحرب، على نظام الجندية وقانون العسكرية، ويقطعه عن قائد الجيش، وسلطان الدولة، والافعال الجارية المقصودة.

ولننظر الى حماقتهم الفاضحة بهذا المثال:

اذا ما صنع صناع ماهر مائة اوقية من مختلف الاطعمة، ومائة ذراع من مختلف الاقمشة، من قطعة صغيرة من خشب لا يتجاوز حجمها قلامة اظفر. وقال احدهم ان هذه الاعمال الخارقة قامت بها تلك القطعة الخشبية التافهة! ألا يرتكب حماقة عجيبة؟ فهذا شبيه بمن يبرز بذرة صلدة وينكر خوارق صنع الصانع الحكيم في خلق الشجرة، بل يحط من قيمة تلك الامور المعجزة باحالتها الى مصادفة عشواء او عوامل طبيعية!

والامر كذلك في هذا...

C السؤال السابع:

كيف يفهم بان هذه الحادثة الأرضية متوجهة بالذات الى مسلمي هذه البلاد، أي انها تستهدفهم؟ ولماذا تقع بكثرة في جهات "أزمير" و"ارزنجان".

الجواب: ان هناك امارات كثيرة على ان هذه الحادثة استهدفت أهل الإيمان، اذ وقوعها في قارس الشتاء وفي ظلمة الليل، وفي شدة البرد، وخاصة في هذه البلاد التي لا تحترم شهر رمضان، واستمرارها الناشئ من عدم اتعاظ الناس منها، ولإيقاظ الغافلين من رقدتهم بخفة.. وامثالها من الأمارات تدل على ان هذه الحادثة استهدفت اهل الايمان، وانها تتوجه اليهم وتزلزلهم بالذات لتدفعهم الى اقامة الصلاة والدعاء والتضرع اليه سبحانه.

اما شدة هزّتها في أرزنجان المنكوبة، فلها وجهان:

الأول: انها عجّلت بهم تكفيراً عن خطاياهم الطفيفة.

الثاني: يحتمل انها ضربت صفعتها أولاً في تلك الأماكن،حيث أسس أهل الزندقة مركزاً قوياً لنشاطاتهم منتهزين الفرصة من قلة عدد حماة الاسلام الأقوياء وحفظة الايمان الاصلاء، أو لكونهم مغلوبين على أمرهم.

لايعلم الغيب الاّ الله.

] سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-02-2011
  #20
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

الكلمة الخامسة عشرة

بسم الله الرحمن الرحيم

] ولقد زيّنا السماءَ الدنيا بمصابيحَ وجعلناها رُجوماً للشياطين[ (الملك: 5)

يا من تعلّم في المدارس الحديثة مسائل فاقدة للروح في علم الفلك، فضاق ذهنه، وانحدر عقله الى عينه حتى استعصى عليه استيعاب السر العظيم لهذه الآية الجليلة. اعلم ان للصعود الى سماء هذه الآية الكريمة سُلّما ذا سبع درجات ومراتب، هيا نصعد اليها معاً.

C المرتبة الاولى:

ان الحقيقة والحكمة تقتضيان ان يكون للسماء أهلون يناسبونها ـ كما هو الحال في الارض ـ ويسمى في الشريعة اولئك الاجناس المختلفة الملائكة والروحانيات.

نعم! الحقيقة تقتضي هكذا، اذ ان ملء الارض، مع صغرها وحقارتها بالنسبة الى السماء، بذوي حياة وادراك، واعمارها حيناً بعد حين بذوي ادارك آخرين بعد اخلائها من السابقين يشير، بل يصرّح، بامتلاء السموات ذات البروج المشيدة، تلك القصور المزينة، بذوي ادراك وشعور. فهؤلاء كالجن والانس، مشاهدو قصر هذا العالم، مطالعو كتاب الكون، ادلاّء الى عظمة الربوبية ومنادون اليها؛ لأن تزيين العالم وتجميله بما لا يعد ولا يحصى من التزيينات والمحاسن والنقوش البديعة، يقتضي بداهة، جلب انظار متفكرين مستحسنين ومقدّرين معجبين، اذ لا يُظَهر الحسن الاّ لعاشق، كما لايعطى الطعام الا لجائع، مع ان الانس والجن لا يستطيعان القيام الاّ بواحد من مليون من هذه الوظائف غير المحدودة فضلاً عن الاشراف المهيب والعبودية الواسعة. بمعنى ان هذه الوظائف المتنوعة غير المتناهية وهذه العبادة التي لا نهاية لها تحتاج الى ما لا يعد من انواع الملائكة واجناس الروحانيات. وكذا، بناء على اشارة بعض الروايات والآثار، وبمقتضى حكمة انتظام العالم يصح القول:

ان قسماً من الاجسام السيارة ابتداءً من الكواكب السيارة وانتهاء بالقطرات الدقيقة، مراكب لقسم من الملائكة، فهم يركبون تلك الاجسام ـ بإذن إلهي ـ ويتجولون في عالم الشهادة ويتفرجون عليه.

ويصح القول ايضاً: ان قسماً من الاجسام الحيوانية ابتداءً من طيور الجنة الموصوفة بـ (طير خضر) ـ كما ورد في الحديث الشريف(1) ـ وانتهاء بالذباب والبعوض في الارض، طيارات لجنس من الارواح، تدخل تلك الارواح في اجوافها باسم الله ((الحق)) وتشاهد عالم الجسمانيات، وتطل من نوافذ حواس تلك المخلوقات مشاهدة معجزات الفطرة الجسمانية.

فالخالق الكريم الذي يخلق باستمرار من التراب الكثيف والماء العكر مخلوقات ذوات ادراك منورة، وحياة نورانية لطيفة، لا ريب أن له مخلوقات ذوات ادراك وشعور يخلقها من بحر النور بل من بحر الظلمات، مما هو أليق للروح والحياة وأنسب لهما.بل هي موجودة بكثرة هائلة.

فان شئت فراجع رسالة (نقطة من نور معرفة الله جل جلاله) و (الكلمة التاسعة والعشرين) فيما يخص اثبات وجود الملائكة والروحانيات. فقد اثبتنا وجودهم اثباتاً جازماً قاطعاً.

C المرتبة الثانية:

ان الارض والسموات ذات علاقة بعضها ببعض، كعلاقة مملكتين لدولة واحدة، فبينهما ارتباط وثيق ومعاملات مهمة، فما هو ضروري للارض من الضياء والحرارة والبركة والرحمة وما شابهها تأتي كلها من السماء الى الارض، اي تُرسل من هناك.

كذلك فباجماع جميع الاديان السماوية المستندة الى الوحي الإلهي، وبالتواتر الحاصل من شهود جميع اهل الكشف، ان الملائكة والروحانيات يأتون من السماء الى الارض. فبالحدس القطعي ـ اقرب الى الاستشعار والاحساس ـ ان لسكنة الارض طريقاً يصعدون بها الى السماء. اذ كما يرنـو عـقـل كـل فـرد وخيـاله ونظره الى السماء في كل حين، كذلك ارواح الانبياء والاولياء الذين خفّوا بوضع اثقالهم، وارواح الاموات الذين خلعوا أجسادهم يصعدون باذن إلهي الى السماء. وحيث ان الذين خفّوا ولطفوا يذهبون الى هناك، فلابد ان الذين يلبسون جسداً مثالياً، واللطيفين الخفيفين لطافة الروح وخفتها من سكنة الارض والهواء يمكنهم الذهاب الى السماء.

C المرتبة الثالثة:

ان سكون السماء وسكوتها وانتظامها واطرادها ووسعتها ونورانيتها يدل على ان أهلها ليسوا كأهل الارض، بل كل اهل السماء مطيعون يفعلون ما يؤمَرون، فليس هناك ما يوجب المزاحمة والاختلافات لأن المملكة واسعة فسيحة جداً، وهم مفطورون على الصفاء والنقاء، معصومون لا ذنب لهم، ومقامهم ثابت بخلاف الارض التي فيها اجتماع الاضداد واختلاط الاشرار بالابرار مما ولّد الاختلافات المؤدية الى الاضطرابات والقلاقل والمشاجرات. وانفتح بذلك باب الامتحان والمسابقة وظهرت مراتب الرقي ودركات التدني.

وحكمة هذه الحقيقة هي:

ان الانسان هو الثمرة النهائية لشجرة الخلقة، ومن المعلوم ان الثمرة هي أبعد اجزاء الشجرة واجمعها وألطفها، لذا فالانسان هو ثمرة العالم واجمع وابدع مصنوعات القدرة الربانية واكثرها عجزاً وضعفاً ولطفاً.

ومن هنا فان مهد هذا الانسان ومسكنه وهو الارض كفء للسماء معنىً وصنعةً. ومع صغر الارض وحقارتها بالنسبة الى السماء فهي قلب الكون ومركزه.. ومشهر جميع معجزات الصنعة الربانية.. ومظهر جميع تجليات الاسماء الحسنى وبؤرتها.. ومعكس الفعاليات الربانية المطلقة ومحشرها وسوق عرض المخلوقات الإلهية بجود مطلق، ولاسيما عرضها لكثرة كاثرة من النباتات والحيوانات.. وهي نموذج مصغر لما يعرض في عوالم الاخرة من مصنوعات.. و مصنع يعمل بسرعة فائقة لانتاج المنسوجات الابدية والمناظر السرمدية المتبدلة بسرعة.. وهي مزرعة ضيقة مؤقتة لإستنبات بذور البساتين الدائمة الخالدة.

ومن هذه العظمة المعنوية للارض(1) واهميتها من حيث الصنعة، جعلها القرآن الكريم كفؤاً للسموات وعدلاً لها، مع انها بالنسبة للسموات كالثمرة الصغيرة بشجرتها الضخمة، فيجعلها في كفة والسموات في كفة اخرى، فيكرر الآية الكريمة ] رب السموات والارض[ .

ثم ان تحول الارض السريع، وتغيّرها الدائم ـ بناء على هذه الحكم المذكورة ـ يقتضي ان تطرأ على اهليها ايضاً تحولات مماثلة لها.

وكذا ان الارض مع محدوديتها، نالت من تجليات القدرة الإلهية المطلقة، وذلك بعدم تحديد قوى اهليها ذوي الشأن وهما الجن والانس؛ بحدّ فطري او قدٍّ خلقي كما هو في سائر ذوي الحياة. لذا غدت الارض معرضاً لرقي لا نهاية له ولتدنٍ لاغاية له. فابتداءً من الانبياء والاولياء وانتهاء بالنماردة الطغاة والشياطين ميدان واسع جداً للامتحان والاختبار.

ولما كان الأمر هكذا فان الشياطين المتفرعنة ستقذف السماء واهلها بشراراتها غير المحدودة.

C المرتبة الرابعة:

ان لرب العالمين وخالقها ومدبّر امرها ذي الجلال والاكرام، اسماء حسنى كثيرة، متغايرة احكامها، متفاوتة عناوينها. فالاسم والعنوان والصفة التي تقتضي ارسال الملائكة للقتال في صف الصحابة الكرام مع الرسول e لدى محاربة الكفار، هو الاسم نفسه والعنوان نفسه والصفة نفسها التي تقتضي ان تكون هناك محاربة بين الملائكة والشياطين، وان تكون هناك مبارزة بين السماويين الاخيار والارضيين الاشرار.

ان القدير الجليل المالك لأرواح الكفار وانفاسهم ونفوسهم في قبضة قدرته لا يفنيهم بأمر منه، ولا بصيحة، بل يفتح ميدان امتحان ومبارزة، بعنوان الربوبية العامة، وباسمائه الحسنى ((الحكيم ، المدبّر)).

فمثلاً (ولا مشاحة في الامثال): نرى أن السلطان له عناوين مختلفة واسماء متنوعة حسب دوائر حكومته، فالدائرة العدلية تعرفه باسم ((الحاكم العادل)) والدائرة العسكرية تعرفه باسم ((القائد العام)) بينما دائرة المشيخة تذكره باسم ((الخليفة)) والدائرة الرسمية تعرفه باسم ((السلطان)) والاهلون المطيعون للسلطان يذكرونه باسم ((السلطان الرحيم)) بينما العصاة يقولون انه ((الحاكم القهار)). وقس على هذا، فان ذلك السلطان الجليل المالك لناصية الاهلين كافة، لا يعدم بامرٍ منه شخصاً عاجزاً عاصياً ذليلاً، بل يسوقه الى المحكمة باسم الحاكم العادل، ثم ان ذلك السلطان الجليل لا يلتفت التفاتة تكريم الى احدٍ من موظفيه الجديرين بها حسب علمه به ولا يكرمه بهاتفه الخاص. بل يفتح ميدان مسابقة، ويهئ له استقبالاً رسمياً، يأمر وزيره ويدعو الاهلين الى مشاهدة المسابقة، ثم يكافئ ذلك الموظف بعنوان هيئة الدولة وادارة الحكومة. فيعلن مكافأته في ذلك الميدان نظير استقامته، اي يكرمه ويتفضل عليه امام جموع غفيرة من اشخاص سامين، بعد امتحان مهيب، لإثبات جدارته امامهم.

وهكذا (وَلله اْلمَثَلُ الاَعْلى) فلله سبحانه وتعالى اسماء حسنى كثيرة، وله شؤون وعناوين كثيرة جداً، وله تجليات جلالية وظواهر جمالية. فالاسم والعنوان والشأن الذي يقتضي وجود النور والظلام، والصيف والشتاء، والجنة والنار، يقتضي شمول قانون المبارزة نوعاً ما وتعميمه ايضاً كقانون التناسل وقانون المسابقة وقانون التعاون كامثاله من القوانين العامة الشاملة اي يقتضي شمول قانون المبارزة ابتداءً من المبارزة بين الالهامات والوساوس الدائرة حول القلب وانتهاء الى المبارزة الحاصلة بين الملائكة والشياطين في آفاق السموات.

C المرتبة الخامسة:

لما كان هناك ذهاب من الارض الى السماء والعودة منها، فالنزول من السماء والصعود اليها وارد ايضاً، بل اللوازم والضروريات الارضية تُرسل من هناك.

وحيث ان الارواح الطيبة تنطلق الى السماء من الارض، فلابد أن تتشبث الارواح الخبيثة وتحاول تقليد الطيبين منها في الذهاب الى السموات، وذلك للطافتها وخفتها، ولابد الاّ يقبلها اهل السماء، بل يطردونها لما في طبعها من شؤم وشر.

ثم لابد من وجود علامة على هذه المعاملة المهمة وهذه المبارزة المعنوية في عالم الشهادة، لأن عظمة الربوبية تقتضي ان تضع اشارة على التصرفات الغيبية الإلهية المهمة وعلامة عليها ليبصرها ذوو الادراك والشعور ولاسيما الانسان الحامل لاجلّ وظيفة وهي المشاهدة والشهادة والدعوة والاشراف. فكما انه سبحانه قد جعل المطر اشارة الى معجزات الربيع، وجعل الاسباب الظاهرة علامة على خوارق صنعته، جاعلاً اهل عالم الشهادة شاهدين عليها، فلا ريب أنه يجلب انظار جميع اهل السماء واهل الارض الى ذلك المشهد العظيم العجيب. فيظهر تلك السماء العظيمة كالقلعة الحصينة التي زينت بروجها بحراس مصطفين حولها، أو كالمدنية العامرة التي تشوق اهل الفكر الى التأمل فيها.

فما دام اعلان هذه المبارزة الرفيعة ضرورية تقتضيها الحكمة، فلابد من وجود اشارة عليها. بينما لا تشاهد اية حادثة كانت ضمن الحادثات الجوية والسماوية تلائم هذا الاعلان وتناسبه. فان ما ذكرناه اذن هو أنسب علامة عليها، لان الحادثات النجمية، من رمي الشهب الشبيه برمي المجانيق، واطلاق طلقات التنوير من القلاع العالية وبروجها الحصينة، مما يفهم بداهةً مدى مناسبتها وملاءمتها برجم الشياطين بالشهب، مع انه لا تعرف لهذه الحادثة ـ رجم الشياطين ـ غير هذه الحكمة، ولا تعرف لها غاية تناسبها غير التي ذكرناها، فضلاً عن أن رجم الشياطين حادثة مشهورة منذ زمن سيدنا آدم عليه السلام ومشهودة لدى اهل الحقيقة، خلاف الحادثات الاخرى.

C المرتبة السادسة:

لما كان الانس والجن يحملان استعداداً لا نهاية له للشر والجحود، فهما قادران على تمرد وطغيان لا نهاية لهما، لذا يزجر القرآن الكريم ببلاغته المعجزة، وباساليب باهرة سامية ويضرب الامثال الرفيعة القيمة ويذكر مسائل دقيقة، يزجر بها الانس والجن من الطغيان والعصيان زجراً عنيفاً يهزّ الكون كله.

فمثلاً قوله تعالى:

] يا معْشَرَ الجنّ والإنس ان استطعتُم أن تنفُذُوا من أقطار السمواتِ والارض فانفذوا لا تنفذون إلاّ بسلطان ^ فبأى آلاء ربكما تكذّبان ^ يُرسَل عليكُما شواظٌ من نارٍ ونحاسٌ فلا تنتصران [ (الرحمن: 33ـ 35).

تأمل النذير العظيم والتهديد المريع والزجر العنيف في هذه الآية، وكيف تكسر تمرد الجن والانس ببلاغة معجزة، معلنة عجزهما، مبينة مدى ما فيهما من ضعف امام عظمة سلطانه وسعة ربوبيته جلّ وعلا. فكأن الآية الكريمة، وكذا الآية الاخرى ] وجعلناها رجوماً للشياطين[ (الملك:5) تخاطبان هكذا:

ايها الانس والجان، ايها المغرورون المتمردون، المتوحلون بعجزهم وضعفهم! ايها المعاندون الجامحون المتمرغون في فقرهم وضعفهم انكم إن لم تطيعوا أوامري، فهيا اخرجوا من حدود ملكي وسلطاني إن استطعتم! فكيف تتجرأون اذن على عصيان أوامر سلطان عظيم؛ النجوم والاقمار والشموس في قبضته، تأتمر بأوامره، كأنها جنود متأهبون.. فأنتم بطغيانكم هذا إنما تبارزون حاكماً عظيماً جليلاً له جنود مطيعون مهيبون يستطيعون ان يرجموا بقذائف كالجبال، حتى شياطينكم لو تحملت.. وانتم بكفرانكم هذا إنما تتمردون في مملكة مالك عظيم جليل، له جنود عظام يستطيعون ان يقصفوا اعداءً كفرة ـ ولو كانوا في ضخامة الارض والجبال ـ بقذائف ملتهبة وشظايا من لهيب كامثال الأرض والجبال، فيمزقونكم ويشتتونكم!. فكيف بمخلوقات ضعيفة امثالكم؟.. وانتم تخالفون قانوناً صارماً يرتبط به من له القدرة ـ باذن الله ـ ان يمطر عليكم قذائف وراجمات امثال النجوم.

نعم ان في القرآن الكريم تحشيدات ذات اهمية بالغة، فهي ليست ناتجة من قوة الاعداء، بل من اسباب اخرى كاظهار عظمة الالوهية وفضح العدو وشناعته.

ثم احياناً تحشّد الآية الكريمة اعظم الاسباب واقواها لأصغر شئ واضعفه، وتقرن بينهما دون تجاوزٍ للضعيف، وذلك اظهاراً لكمال الانتظام وغاية العدل ونهاية العلم وقوة الحكمة. فقوله تعالى ] وان تظاهرا عليه فان الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير[ (التحريم:4).

يبين مدى الاحترام اللائق الذي حظي به النبي الكريم e ، ومدى الرحمة الواسعة التي تشمل حقوق الزوجات.

فهذه الحشود انما تفيد افادة رحيمة في اظهار عظمة النبي e وعلو مكانته عند الله وبيان اهمية شكوى زوجتين ضعيفتين ومدى الرعاية لحقوقهما.

C المرتبة السابعة:

تتباين النجوم فيما بينها تبايناً كبيراً، كما هو الحال في الملائكة والاسماك، فمنها في غاية الصغر ومنها في غاية الكبر، حتى اُطلق على كل ما يلمع في وجه السماء بالنجم.

وهكذا فنوع من انواع اجناس النجوم هو لتزيين وجه السماء اللطيف، وكأن الفاطر الجليل والصانع الجميل قد خلقها كالثمار النيرة لتلك الشجرة، اوكالاسماك المسبّحة لله لذلك البحر الواسع. وكالالوف من المنازل لملائكته، وخلق ايضاً نوعاً صغيراً من النجوم اداةً لرجم الشياطين.

فالشهب التي تُرسل لرجم الشياطين تحمل ثلاثة معانٍ:

المعنى الاول:

انه رمز وعلامة على جريان قانون المبارزة في اوسع دائرة من دوائر الوجود.

المعنى الثاني:

ان في السموات حراساً يقظين واهلين مطيعين، فهذه الشهب اشارة واعلان عن امتعاض جنود الله من اختلاط الارضيين الشريرين بهم واستراق السمع اليهم.

المعنى الثالث:

ان هذه الشهب وكأنها مجانيق وقذائف تنوير هي لإرهاب جواسيس الشياطين الذين يسترقون السمع والذين يمثلون المساوئ الارضيةأسوأ تمثيل، وطردهم من ابواب السماء وذلك لئلا يلوثوا السماء الطاهرة التي هي سكنى الطاهرين، وليحولوا بينهم وبين القيام بالتجسس لحساب النفوس الخبيثة.

ايها الفلكي المعتمد على عقله القاصر، الذي لا يتجاوز نوره نور اليراعة! ويا من يغمض عينه عن نور شمس القرآن المبين!

تأمل في هذه الحقائق التي تشير اليها هذه المراتب السبع، تأملها دفعة واحدة، أبصر، دع عنك بصيص عقلك، وشاهد معنى الآية الكريمة في نور اعجازها الواضح وضوح النهار، وخذ نجم حقيقة واحدة من سماء تلك الآية الكريمة واقذف بها الشيطان القابع في ذهنك وارجمه بها! ونحن كذلك نفعل هذا. ولنقل معاً:

] رب اعوذ بك من همزات الشياطين[ .

.. فللّه الحجة البالغة والحكمة القاطعة.

] سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[ (1)]
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
عاتب نفسك بهذه الكلمات هبة الله المواضيع الاسلامية 5 09-01-2010 11:05 PM
عاتب نفسك بهذه الكلمات عبدالرحمن الحسيني السِــيرْ وتـراجم أعــلام الإســـلام 1 06-21-2010 01:11 PM
كلمات فوق الكلمات عبدالقادر حمود القسم العام 8 01-09-2009 01:58 PM
كلمات ليست كا الكلمات بنت الاسلام القسم العام 11 10-27-2008 10:48 AM


الساعة الآن 04:51 PM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir