أنت غير مسجل في منتديات البوحسن . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           سبحانك اللهم وبحمد ك وتبارك اسمك وتعالي جدك، ولا إله غيرك           
العودة   منتديات البوحسن > الشريعة الغراء > المواضيع الاسلامية

إضافة رد
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع
قديم 11-03-2014
  #1
عبد القادر الأسود
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبد القادر الأسود
 
تاريخ التسجيل: Feb 2010
المشاركات: 216
معدل تقييم المستوى: 15
عبد القادر الأسود is on a distinguished road
افتراضي فيض العليم ... سورة الأعراف، الآية: 143

وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ
(143)
قولُهُ ـ تبارك وتعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} فلمَّا حلَّ الميعادُ الذي حَدَّدَهُ اللهُ تعالى لِنَبِيِّهِ موسى ـ عليه السلام ـ ليكلِّمَه، وحَضَرَ موسى إلى جَبَلِ الطُورِ بِسيناءَ بعدَ تمامِ الأربعين يوماً، كَلَّمَهُ رَبُّهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ دون واسطةٍ بينَها، كما جَرَتْ العادَةُ في مخاطبة النبيين والمرسلين، أيْ بِوِساطَةِ جِبريلَ، أو غيرِه مِنَ الملائكةِ الكرامِ ـ عليهمُ السلامُ ـ، فَكان يَسْمَعُ ذلِكَ الكَلام مِنْ كُلِّ جِهَةٍ ـ فيما رُوِيَ.
أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ـ رضي الله عنهُ ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمَّا كَلَّمَ موسى يَوْمَ الطُّورِ، كَلَّمَهُ بِكَلامٍ غَيْرِ كَلامِهِ الأَوَّلِ، فَفَزِعَ موسى لِذَلِكَ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، هَذَا كَلامُكَ الَّذِي كَلَّمْتَنِي بِهِ؟ قَالَ: لا يَا موسى، إِنَّمَا كَلَّمْتُكَ بِقُوَّةِ عَشْرَةِ آلافِ لِسَانٍ، وَلِيَ قُوَّةُ الأَلْسِنَةِ كُلِّهَا، وَأَنَا أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى بَني إسرائيلَ، قَالُوا لَهُ: يَا موسى، صِفْ لَنَا كَلامَ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللهُ، لا أَسْتَطِيعُهُ، قَالُوا: فَشَبِّهْ، قَالَ: أَلَمْ تَرَوْا إِلَى أَصْوَاتِ الصَّوَاعِقِ الَّتِي تُقْبِلُ فِي أَحْلا حَلاوَةٍ سَمِعْتُمُوهَا، َإِنَّهُ قَرِيبٌ مِنْهُ وَلَيْسَ بِهِ))، وأَخْرَجَ البَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإيمانِ بِسَنَدٍ ضعيفٍ كذلك، عَنِ الضَحّاكِ، عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ ـ رَضيَ اللهُ عَنْهما ـ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((إنَّ اللهَ ـ تَبَارَكَ وتَعالى ـ ناجى مُوسى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ ـ بمِئَةِ أَلْفِ كَلِمَةٍ وأَرْبَعينَ أَلْف كَلِمَةٍ، وصايا كُلُّها، وكان فيما ناجاهُ أَنْ قالَ لَهُ: يا مُوسَى إنَّهُ لمْ يَتَصَنَّعِ المُتَصَنِّعونَ إليَّ بمثلِ الزُهْدِ في الدُنيا، ولم يَتَقَرَّبِ المُتَقَرِّبون إليَّ بمثلِ الوَرَعِ عمَّا حَرَّمْتُ عليهِم، ولم يَتَعَبَّدْ ليَ المُتَعَبِّدونَ بمثلِ البُكاءِ مِنْ خِيفَتي. قالَ موسى: يا إلَهَ البَرِيَّةِ كُلِّها، و يا مالِكَ يَومِ الدِّينِ، و يا ذا الجَلالِ والإكْرامِ، وما أَعْدَدْتَ لهم، وماذا جَزَيْتَهم؟ قال: أَمَّا الزاهِدونَ في الدُنْيا: فإني أُبِيحُهم جَنَّتي يَتَبَوَّؤنَ فيها حيثُ شاؤوا، وأَمَّا الوَرِعونَ عَمَّا حَرَّمْتُ عليهم: فإنَّه إذا كان يومُ القيامَةِ لم يَبْقَ عبدٌ إلاَّ ناقشْتُهُ الحِسابَ، وفَتَّشْتُهُ عمَّا في يَدَيْهِ، إلاَّ الوَرِعِين: فإني أَسْتَحْييهِم، وإني أُجِلُّهم وأُكْرِمُهم، وأُدْخِلُهمُ الجَنَّةَ بِغَيرِ حِسابٍ، وأَمَّا البَكّاؤونَ مِنْ خِيفَتي: فأولئكَ لهمُ الرَفيقُ الأَعْلى، لا يُشارَكونَ فيهِ)). والرفيقُ الأعلى هُمُ الأنبياءُ ـ عَلَيْهِمُ السَّلامُ ـ فيما ذُكِرَ.
وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ وعَبْدُ الرَّزَّاقِ في تَفْسِيرَيْهِما، عنْ كَعْبِ الأَحْبَارِ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قُولَهُ: (لَمَّا كَلَّمَ اللهُ موسى، كَلَّمَهُ بِالأَلْسِنَةِ كُلِّهَا قَبْلَ لِسَانِهِ، فَطَفِقَ يَقُولُ: أَيْ رَبِّ، وَاللهِ مَا أَفْقَهُ هَذَا، حَتَّى كَلَّمَهُ آخِرَ الأَلْسِنَةِ بِلِسَانِهِ (أَيْ بِلِسانِ مُوسى) بِمِثْلِ صَوْتِهِ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، هَذَا كَلامُكَ؟، فَقَالَ اللهُ: لَوْ كَلَّمْتُكَ كَلامِي لَمْ تَكُ شَيْئًا. قَالَ: أَيْ رَبِّ، هَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ بِشِبْهِ كَلامِكَ، قَالَ: لا، وَأَقْرَبُ خَلْقِي شَبَهًا بِكَلامِي مَا يَسْمَعُ النَّاسُ مِنَ الصَّوَاعِقِ}.
وسماعُ كلامِ القديمِ ـ سُبْحانَه ـ ليسَ مِنْ جِنْسِ سماعِ كلامِ المُحْدَثينَ. فالتَكْليمُ حَقيقَتُهُ النُطْقُ بالألفاظِ المُفيدةِ مَعانيَ، وهذا مُسْتَحيلٌ على اللهِ تَعالى لأنَّ النُطْقَ مِنْ أَعْراضِ الحَوادِثِ، فتَعيَّنَ أَنْ يَكونَ إسنادُ التَكْليمِإلى اللهِ تعالى مِنَ المجازِ للدَلالةِ على مُرادِهِ بألفاظٍ مِنْ لُغَةِ المُخاطَبِ بِكَيْفِيَّةٍ يُوقِنُ المُخاطَبُ بِها أَنَّ ذَلِكَ الكَلامَ مِنْ أَثَرِ قُدْرَةِ اللهِ، فيَجوزُ أََنْ يَخْلُقَ اللهُ الكلامَ في شيءٍ حادِثٍ سمِعَهُ مُوسى، قالَ تعالى في سُورَةِ القَصَصِ: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} الآية: 30، إذاً فقد كانَ الحَرْفُ والصَوْتُ اللَّذانِ سمِعَهُما مُوسى مُنْبَعِثَيْنِ مِنَ الشَجَرَةِ التي كانتْ قُرْبَ نَبيِّ اللهِ مُوسى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ ـ وذَلكَ أَوَّلُ كلامٍ كُلِّمَهُ، ويجوزُ أَنْ يَخْلُقَ اللهُ الكَلامَ مِنَ السَّحابِ، أَوْ مما شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ. والكَلامُ بهذِهِ الكَيْفِيَّةِ كانَ يَسْمَعُهُ مُوسَى حِينَ يَكونُ بَعيداً عَنِ الناسِ في المُناجاةِ أَوْ نحْوِها، وهُوَ أَحَدُ الأَحْوالِ الثَلاثَةِ التي يُكَلِّمُ اللهُ بها أَنْبياءَهُ، قالَ تَعالى في سُورَةِ الشُورى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} الآية: 51، وهذا الكَلامُ حادِثٌ لا مَحَالَةَ، ونِسْبَتُهُ إلى اللهِ تعالى أَنَّهُ صادِرٌ بِكَيْفِيَّةٍ غَيرِ مُعتادَةٍ لا تَكونُ إلاَّ بإرادةِ اللهِ أَنْ يخالِفَ بِهِ المُعتادَ تَشْريفاً لنبيِّه وتَأييداً لَهُ وتَثْبيتاً، وقد كَلَّمَ اللهُ ـ تَعالى ـ نبيَّه محمّداً ـ عليه الصلاةُ والسَّلامُ ـ لَيْلَةَ الإسْراءِ والمِعْراجِ. والأَحاديثُ القُدْسِيَّةُ كُلُّها، أَوْ مُعْظَمَها، ممَّا كَلَّمَ اللهُ بِهِ رسولَنا محمَّداً ـ صلى الله عليه وسلَّم. أَمَّا إرسالُ اللهِ جِبريلَ ـ عليه السلامُ ـ بِكلامٍ إلى أَحَدِ أَنْبِيائِهِ فهيَ كَيْفِيَّةٌ أُخْرى، وذَلكَ بإلْقاءِ الكَلامِ في نَفْسِ المَلَكِ الذي يُبَلِّغُهُ إلى النَبِيِّ بالُّلغَةِ التي يَفْهَمُها ويَتَحَدَّثُ بها، والقرآنُ الكريمُ كلُّهُ مِنْ هذا النَّوعِ ومِنْ هذا القَبيلِ، وقدْ كانَ الوَحْيُ إلى مُوسى بِوِساطَةِ المَلَكِ في أَحوالٍ كَثيرةٍ، وهو الذي يُعَبَّرُ عَنْهُ في التَوراةِ بِ (قالَ اللهُ لموسى).
قولُه: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} أيْ: قَالَ رَبِّ مَكِنِّي مِنْ رُؤْيَتِكَ. فقَدْ اسْتَشْرَفَتْ نَفْسُهُ أَنْ يَجْتَمِعَ لَهُ فَضِيلَتَا تكَليمِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ وَرُؤْيَتِهِ. وسُؤالُهُ هذا تَطَلُّعٌ إلى زِيادَةِ معرِفتِهِ بالجَلالِ الإلهيِّ الأعْظَمِ، لأنَّهُ لمَّا كانَتِ المُواعَدةُ تتضمَّنُ المُلاقاةَ، ولمَّا كانَتِ الملاقاةُ رُؤيةَ الذاتِ وسماعَ الحَديثِ، وسمِعَ الحديثَ، فقَدْ حَصَلَ لِمُوسى أَحَدُ رُكْنَيِ المُلاقاةِ، فأطمَعَهُ ذلك في الرُكْنِ الثاني مِنْها، وهو المُشاهدةُ. وممَّا يُؤذِنُ بِأَنَّ التَكْليمَ هو الذي أَطْمَعَ مُوسى في حُصولِ الرُؤْيَةِ جَعْلُ جملةِ: "وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ" شَرْطاً لِحَرْفِ الشَرْطِ "لمَّا" لأنَّهُ يُدُلُّ على شِدَّةِ الارْتِباطِ بينَ شَرْطِها وجَوابها، فلِذلِكَ يَكْثُرُ أَنْ يَكونَ عِلَّةً في حُصُولِ جَوابها، كما هُوَ في قولِهِ ـ تَعالى ـ في الآيَةِ الثانِيَةِ والعِشرينَ مِنْ هَذِهِ السُّورةِ المُبارَكَةِ: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا}، هذا على اعْتِبارِ "كَلَّمَهُ" عَطْفاً على شَرْطِ "لمّا" ولَيْسَ جَوابَ "لمّا". ولا شَكَّ في أنَّهُ سَأَلَ رُؤيةً تَليقُ بِذَاتِ اللهِ ـ تَعالى ـ كالرُؤْيَةِ الّتي وَعَدَ اللهُ بها عِبادَهُ المؤمنينَ في الآخِرَةِ، وهِي ثابتةٌ في القُرْآنِ الكَريمِ بِقَوْلِهِ ـ تعالى ـ في سُورَةِ القِيامَةِ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)}. كما هِيَ ثابِتَةٌ في الصَّحيحَينِ عَنْ عَدِيٍّ بنِ حاتمٍ الطائيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ ـ أَنَّ النبيَّ ـ صَلّى اللهُ عَليْهِ وسَلَّمَ ـ قال: ((ما مِنْكُمْ أَحَدٌ إلاَّ سَيُكَلِّمُهُ اللهُ يومَ القيامَةِ ليْسَ بَيْنَهُ وبَيْنَهُ حِجابٌ يَحْجُبُهُ، ولا تُرْجُمانٌ يُتَرْجِمُ له ..))، إلى آخر الحَديثِ، فكَانَ مُوسى يَحْسَبُ أَنَّ مِثْلَها ممْكِنٌ في الدُنيا، حتَّى أَعْلَمَهُ اللهُ بأنَّ ذلك غيرُ ممْكِنٍ في الدُنْيا، ولا يَمْتَنِعُ على نَبِيٍّ عَدَمُ العِلْمِ بِتَفاصيلِ الشُؤونِ الإلهيَّةِ قَبْلَ أَنْ يُعَلِّمَها اللهُ لَهُ، ومِنْ قَبْلُ قالَتِ المَلائِكَةُ الكِرامُ: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} سُورَةُ البَقَرَةِ، الآية: 32.
قولُهُ: {قَالَ لَنْ تَرَانِي} أيْ: قَالَ الرَّبُّ ـ سُبْحَانَهُ: إِنَّ ذلِكَ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ، و "لن" لِتَأْكيدِ النَفْيِ في الحالِ والاسْتِقْبالِ، فنَفَتْ رُؤْيَةَ مُوسَى رَبَّهُ في الدُنيا نَفْياً قاطعاً لا مطَمَعَ بَعْدَه للسائلِ بإلحاحٍ أوْ مُراجعَةٍ.فقد أَخْرَجَ الحكيمُ التِرْمِذِيُّ في نَوادِرِ الأُصولِ وأَبو نُعيمٍ في الحلْيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قالَ: تَلا رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسَلَّمَ ـ هَذِهِ الآيَةَ "رَبِّ أَرِني أَنْظُرْ إِلَيْكَ" قالَ: ((قالَ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ: يا موسى إنَّهُ لا يَراني حَيٌّ إلاَّ ماتَ، ولا يابِسٌ إلاَّ تَدَهْدَهَ، ولا رَطْبٌ إلاَّ تَفَرَّقَ، وإنَّما يَراني أَهْلُ الجَنَّةِ الذين لا تَموتُ أَعْيُنُهم ولا تَبْلى أَجْسادُهم)).
قولُهُ: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} لَكِنِ: اسْتِدْراكٌ لِرَفْعِ التَوَهُّمِ بِأَنَّ نَفْيَ الرُؤْيَةِ كانَ بِلا تَعليلٍ ولا إقْناعٍ، أَوْ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ سَبَبَ المَنْعِ هو الغَضَبُ عَليْه، أَوْ أنَّه كان لِمَنْقَصَةٍ في مُوسى، وأَمَرَهُ بالنَظَرِ إلى أَكْبَرِ جَبَلٍ في المَنْطِقَةِ لِيَرى ما سَوْفَ يَحِلُّ بِهِ حين يَتَوَجَّهُ اللهُ إليهِ بِشَيءٌ مِنَ شأنِ الجَلالِ الإلهيِّ. لأَنَّ رُؤْيتَهُ ـ جَلَّ وعَزَّ ـ ممْتَنِعَةٌ شَرْعاً في الدُنْيا لقولِهِ: "لَنْ تَرَانِي" ولقولِهِ ـ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((إنَّكم لَنْ تَرَوْا رَبَّكم حَتى تموتُوا))، صحيح مسلم، وصحيحُ ابْنِ خُزيمة. ولقولِهِ فيما أَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبي ذَرٍّ الغِفارِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قالَ: سَأَلْتُ رسولَ اللهِ ـ صَلى اللهُ عليْه وسَلَّمَ: هَلْ رأَيتَ ربَّكَ؟ قالَ: ((نُورٌ! أَنّى أَراهُ!؟)). أيْ: كَيْفَ أَراهُ وحِجابُهُ نُورٌ، وإلاّ فإنَّهُ ـ سُبحانَه ـ ليسَ كَمِثْلِهِ شَيْء، والنُورُ شَيْءٌ مخْلُوقٌ للهِ ـ سبحانه وتعالى.
وقدْ قدَّمْنا في غيرِ هذا المَوْضِعِ أَنَّ تحقيقَ المَقامِ في رُؤيَةِ اللهِ ـ جّلَّ وعَلا ـ بالأبْصارِ جائزةٌ عَقْلاً في الدنيا والآخِرَةِ، بِدَليلِ أنَّ مُوسى ـ عليْهِ السَّلامُ طَلَبَها فقالَ: "رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ"، لأنَّ موسى لا يجهَلُ المُسْتَحيلَ في حَقِّهِ ـ جَلَّ وعَلا. هذا في الدنيا، أمَّا في الآخرةِ فهي جائزةٌ شَرْعاً وواقعةٌ يَوْمَ القِيامَةِ، فقد تقدَّم تقريرُ ذَلِكَ مِنْ قبلُ.
قولُه: {فَإِنِْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} أي قال له سَأَتَجَلَّى للجبلِ وسأظهرُ لَهُ، فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ، وَلَمْ يَنْدَكَّ وَيَتَهَدَّمْ، فَيُمْكِنُكَ أَنْ تَرانِي. قَالَ مُجَاهِدٌ وغَيْرُهُ: وَلَكِنْ سَأَتَجَلَّى للجَبَلِ الّذي هُوَ أَقْوَى مِنْكَ وأَشَدّ، فإِنِ اسْتَقَرَّ وأَطَاقَ الصَبْرَ لِهَيْبَتي فَسَيُمْكِنُكَ أَنْتَ رُؤْيَتي، وعلى هذا فإنَّما جَعَلَ اللهُ لَهُ الجَبَلَ مِثالاً، وتعليقُ الرُؤْيَةِ على تقديرِ الاسْتِقرارِ مُؤذِنٌ بِعَدَمِها إنْ لم يَسْتَقِرَّ، وفيه إشارة إلى أَنَّ الجَبَلَ مَعَ شِدَّتِهِ وصَلابَتِهِ إذا لم يَسْتَقِرَّ فالآدَمِيُّ مَعَ ضَعْفِ بُنْيَتِهِ أَوْلى بأنْ لا يَسْتَقِرَّ، وفي هذا تَسْكينٌ لِروعِ مُوسى وتخفيفٌ عَنْه.
قولُهُ: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} التَجَلِّي حَقيقةُ الظُهُورِ وإِزالَةُ الحُجُبِ والحَوائِلِ المُعْتادَةِ التي جَعَلَها اللهُ حِجاباً بَيْنَ المَوجوداتِ الأَرْضِيَّةِ وبَينَ قُوى الجَبروتِ التي اسْتَأْثَرَ اللهُ تَعالى بِتَصْريفِها على مَقاديرَ مَضْبُوطَةٍ. وتُنْسَبُ تِلْكَ القُوِى إليْهِ ـ تَعالى ـ لِكونها آثاراً لقُدْرَتِه دونَ وِساطَةٍ، فإذا زَالَتِ الحُجُبُ التي بينَ الأَجْسامِ الأََرْضِيَّةِ وبينَ تِلك القُوى المؤثِّرَةِ تَأْثيراً خارقاً للعادَةِ، اتَّصَلَتِ القُوَّةُ بالجِسْمِ فظْهَرتْ لَها آثارٌ مُناسِبَةٌ لها، وتِلْكَ الإزالةُ هي التي اسْتُعيرَ لها التَجَلِّي المُسْنَدِ إلى اللهِ تَعالى، فلَمَّا اتَّصَلَتْ قُوَّةٌ رَبَّانِيَّةٌ بالجَبَلِ انْدَكَّ. وهُوَ المَعْنى الذي وَضَّحَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ فيما رَواهُ التِرْمِذِيُّ والحاكِمُ وصَحَّحاهُ، ورَواهُ كذلك أَحمدُ وغيرُهم، مِنْ طُرُقٍ عَنْ أَنَس بنِ مالكٍ ـ رضي اللهُ عنه ـ أنَّهُ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ـ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعالى: "فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ" فَوَضَعَ إبهامَهُ قَريباً مِنْ طَرَفِ خُنْصُرِهِ، يُقَلِّلُ مِقْدارَ التَجَلِّي.
وأَخْرجَ أَبو الشَّيْخِ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ عَنِ النَبيِّ ـ صَلّى اللهُ عَليْهِ وسَلَّمَ ـ قالَ: ((لمَّا تجلَّى اللهُ لِمُوسى كانَ يُبْصِرُ دَبيبَ النَمْلَةِ عَلى الصَّفا في اللَّيلةِ الظَلْماءِ مِنْ مَسيرَةِ عَشْرَةِ فَراسِخ).
وأَخْرَجَ هُو وابْنُ أَبي حاتمٍ وابْنُ مَرْدَويْهِ، عنْ أَنَس بْنِ مَالكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ ـ أَنَّ النَبيَّ ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ قالَ: ((لمّا تَجَلَّى اللهُ للجَبَلِ طارَتْ لِعَظَمَتِهِ سِتَّةُ أَجْبُلٍ، فوَقَعَتْ ثَلاثةٌ بالمدينَةِ: أُحُدٌ، ووَرَقانُ، ورَضْوى. وبِمَكَّةَ: حِراء، وثَبير، وثَور)).
وأََخْرَجَ الطَبَرانيُّ في الأوْسَطِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضيَ اللهُ عنهُما ـ أَنَّها سَبْعَةُ جِبالٍ. في الحِجازِ مِنْها خمسةٌ وفي اليَمَنِ إثْنانِ، ففي الحِجاز: أُحُد، وثَبير، وحِراء، وثور، وورقان، وفي اليَمَنِ حَصُور، وصِير)). وأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَويْهِ عَنْ عَلِي بْنِ أَبي طالبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ في قولِه تعالى: "فلمَّا تجلى رَبُّهُ للجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً" قال: اسْمَعَ مُوسَى، قالَ لَهُ: إنّي أَنَا اللهُ، قالَ: وذاكَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، وكان الجَبَلُ بالموقِفِ فانْقَطَعَ على سَبْعِ قِطَعٍ: قِطْعَةٌ سَقَطَتْ بينَ يَدَيْهِ، وهوَ الذي يَقومُ الإِمامُ عِنْدَهُ في المَوْقِفِ يَوْمَ عَرَفَةَ، وبالمدينة ثلاثة: طَيْبَةَ، وأُحُد، ورَضْوى، وطُورُ سِيناءَ بالشَّامِ. وإنَّما سمِّيَ الطُوْرُ: لأنَّهُ طارَ في الهواءِ إلى الشامِ.
قولُه: {جَعَلَهُ دَكًّا} فَلَمَّا تَجَلَّى اللهُ تَعَالَى لِلْجَبَلِ بالمعنى الذي أَوْضَحْناهُ سَوَّاهُ بِالأَرْضِ وَأَصْبَحَ تُراباً، و "دَكّاً" أيْ مَدْكوكاً، والدَكُّ: هو الدَقُّ، وروى الطبريُّ في تفسيرِهِ عَنِ السُدِّيِّ قال: إنَّ مُوسى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ ـ لمَّا كَلَّمَهُ رَبُّهُ، أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إليْهٍ فقال: "رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني"، فَحُفَّ حَوْلَ الجبلِ بملائكة، وحُفَّ حولَ الملائكةِ بِنارٍ، وحُفَّ حولَ النَّارِ بملائكةٍ، وحُفَّ حولَ الملائكةِ بِنارٍ، ثمَّ تجلى رَبُّهُ للجبل. و "خَرَّ مُوسَى صَعِقًا" مِنْ رؤيتِهِ انْدِكاكَ الجَبَلِ فَعَلِمَ أنَّهُ لَوْ تَوَجَّهَ ذلك التَجَلِّي إليْهِ لتَناثَرَ جِسْمُهُ.
قولُه: {وخرَّ موسى صَعِقاً} أَيْ: سَقَطَ على الأَرْضِ مَغْشِيّاً عَلَيْهِ، وَ "صَعِقَ" بمعنى مَصْعوقٍ، فهي وصْفٌ، والصَّعْقُ: فَقْدُ الوَعْيَ، مِنْ صَيْحَةٍ ونحوِها، يُقالُ صَعِقَ الرَّجُلُ صَعْقَةً وتَصْعاقاً، أَيْ غُشِيَ عَلَيْهِ، وأَصْعَقَهُ غَيرُهُ. وصَعِقَ أَيْضاً: ماتَ، لِقَوْلِهِ ـ تَعالى ـ في الآيَةِ الثامِنَةِ والسِتّينَ مِنْ سُورةِ الزُمَر: {ونُفِخَ في الصور فصَعِقَ مَنْ في السموات ومَنْ في الأرضِ إلاَّ مَنْ شَاءَ اللهُ ..}، أيْ ماتَ كلُّ مَنْ في السَمواتِ والأرضِ مِنْ مَخْلوقاتٍ إلاَّ مَنْ اسْتَثْناهُ اللهُُ مِنَ المَوْتِ. والصَّاعْقُةُ، (الصَّعْقَةُ: عَنْد العامَّةِ): هُوَ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمِ الصاعِقَةِ وهي القُطْعَةُ الناريَّةُ التي تَبْلُغُ إلى الأرْضِ مِنْ كَهْرُباءِ البرْقِ، أيْ: نارٌ مُلْتَهِبَةٌ تَنْقَدِحُ مِنِ اصْطِدامِ غَيْمَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيِ الشُحْنَةِ الكَهْرُبائيَّةِ، فإذا أَصابَتْ جِسْماً أَحْرَقَتْهُ، وكذلك إذا مَسَّ سِلْكٌ كَهْربايٌّ سِلْكاً آخَرَ مختلِفَ الشُحْنَةِ. ويُقالُ لِذي الصَّوْتِ الشَديدِ: إنَّهُ صَعِقُ الصَوْتِ، ومِنْهُ فإنّهُ يُقالُ: حمارٌ صَعِقُ الصَوْتِ، أَيْ شَديدُهُ.
قولُهُ: {فَلَمَّا أَفَاقَ} فَلَمَّا أَفَاقَ اسْتَغْفَرَ رَبَّهُ، وَأَعْلَنَ تَوْبَتَهُ مِمَّا كَانَ مِنْهُ مِنْ سُؤالٍ، وَسَبّحَ بِحَمْدِ رَبِّهِ وَنَزَّهَهُ عَمَّا لاَ يَلِيقُ بِجَلاَلِهِ. والإفاقةُ: رُجوعُ الإدْراكِ إلى المَغْشِيِّ عَلَيْهِ، أَوِ النائِمِ، أَوِ السَّكْرانِ، أَوِ المجنونِ، بَعْدَ زَوالِهِ بِغَشْيٍ، أَوْ نَوْمٍ، أَوْ سُكْرٍ، أَوْ تَخَبُّطِ جُنونٍ. ومِنْهُ إِفاقةُ المريضِ، وهيَ رُجوعُ قُوَّتِهِ، وإفاقَةُ الحَلْبِ: وهيَ رجوعُ الدَّرِّ إلى الضَّرْعِ، يُقالُ: استَفِقْ ناقَتَكَ، أَيْ: اتْرُكْها حَتّى يَعودَ لَبَنُها، والفُواقُ ما بَينَ حَلْبَتَيِ الحالِبِ.
قولُهُ: {قَالََ سُبْحَانَكَ} سبحانك: مصدَرٌ جاءَ عِوَضاً عَنْ فِعْلِهِ، أَيْ: أُسَبِّحُكَ، والتَسبيحُ: تنزيه اللهِ ـ جَلَّ ـ عما لا يليقُ بذاتِهِ العليَّةِ مِنْ صِفاتٍ، وهُو هُنا إنشاءُ ثَناءٍ على اللهِ وتَنْزيهٌ، لِمُناسَبَةِ سُؤالِهِ ـ عليهِ السَّلامُ ـ رَبَّهُ ما تَبَيَّنَ لَهْ أَنَّه لا يَليقُ بِهِ أَنْ يَسْألَهُ دُونَ اسْتِئْذانِهِ وتحَقُّقِ إمْكانِهِ، كما قالََ ـ تعالى ـ لِنبيِّهِ نُوحٍ ـ عليه السلامُ ـ مؤدِّباً ومعلِّماً: {فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} سورةُ هودٍ، الآية: 46.
وقولُهُ: {تُبْتُ إِلَيْكَ} تُبْتُ: صِيغَةُ الماضي في زَمَنِ الحالِ مُسْتَعْمَلَةٌ هنا في الإنْشاءِ كَصِيَغِ العُقودِ في قولِهم: بِعْتُكَ واشْتَرَيْتُ منك، وزَوَّجتُكَ وقبلتُ الزواجَ مِنْكَ، وذلك للمُبالَغَةِ في تحقُّقِ العَقدِ وتوكيدِه. وهي هُنا إنْشاءٌ لِتَوْبَةٍ إلى اللهِ مِنَ أَنْ يعَودَ إلى مِثلِ هذا السؤالِ دونَ إذْنٍ مِنْه ـ تبارك وتعالى، وقولُهُ هذا كَقَوْلِ نُوحٍ ـ عليه السلامُ: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} سورة هود، الآية: 47. وهو شأنُ المؤمنِ بالله، فهو دائم الاستغفارِ والتوبة والرجوع إلى الله: {وإِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} سورة النساء، الآية: 17. وتوبة كلٍّ بحَسَبِ مَنْزِلَتِهِ ومَقامِهِ، فتوبةُ الأَنْبِياءِ بحَسَبِ ذُنوبِهِم، وذُنوبُهُم ـ عليهمُ السّلامُ ـ قُرُباتٌ بالنِسْبَةِ إليْنا. وفي هذا المعنى قِيلَ: حَسَنَاتُ الأَبْرارِ ذُنُوبُ المُقَرَّبينَ.
وقولُهُ: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} أَطْلَقَ الأَوَّلَ على المبادِرَ إلى الإيمانِ، وهو مجازٌ شائعٌ، مُكَنّىً بِهِ عَنْ قُوَّةِ إيمانِهِ للمُبالَغَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظيرُهُ في قولِهِ تَعالى: {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} في سورةِ البَقَرَةِ، الآيةِ: 41، أيْ: لا تَكُونُوا المُبادِرينَ بالكُفْرِ. ومِثْلُهُ قَوْلُهُ في سُورَةِ الأَنْعامِ: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} الآيةُ: 163.
قولُهُ تَعالى: {ولمّا جاءَ موسى لِمِيقَاتِنَا} لمّا: هنا ظرفيَّةٌ، واللاّمُ في "لميقاتنا" للاخْتِصاصِ، أَوْ فيها شَيءٌ مِنْهُ، أَيْ كانَ مجيئُه مخْتَصّاً بميقاتِنا الذي حدَّدناهُ لَه، كما هي في قولِهِ تَعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْل} سُورَةِ الإسْراءِ الآية: 78. أو كَقولِهِ تعالى في سُورَةِ الطَّلاق: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} الآية: 1. أو كقولِكَ: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم ـ بِجَيْشِهِ فاتحاً مَكَّةَ لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ رَمَضانَ، وقالَ ابْنُ هِشامٍ: هي بمعنى "عِنْدَ"، ومِنْهُ قولُهُ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم ـ حِينَ سُئِلَ أيُّ الأَعْمالِ أَفْضل؟ فقالَ: ((الصلاةُ لوقتِها)) أَيْ عِنْدَ وقْتِها. ويجوزُ جَعلَ اللامِ للعِلَّةِ، أَيْ جاءَ لأَجْلِ مِيقاتِنا، أيْ لأَجْلِ مُناجاتِنا.
قَوْلُهُ: {أرني أَنْظُرْ إليك} أرني: فعلٌ للطلبِ مُتَعَدٍّ لِمَفْعُولَينِ، فاعلُهُ: أَنْتْ، ومَفعولُهُ الأوَّلُ: ياءُ المُتَكَلِّمِ، ومَفعولُهُ الثاني: محذوفٌ، والجارُّ والمجرورُ في "إليكَ" مُتَعَلِّقٌ بِ "أنظرْ"، الذي هو جوابُ الطلبِ، والتَقديرُ: أَرِني نَفسَكَ أوْ ذاتَكَ المُقَدَّسةَ، وإنَّما حَذْفُه مُبالغةٌ في الأَدَبِ مع ربِّ العِزَّةِ، حيثُ لم يواجِهْهُ بالتَصْريحِ بالمَفعولَ. وأصلُ أَرِني: (أَرْ إني) فنُقِلَتْ حركةُ الهَمْزَةِ.
قولُهُ: {لَن تَرَانِي} لن: لا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِها التَأْبيدُ وإنْ كان بَعْضُهم قد فَهِم ذلك، فلو أنَّنا ذ هَبْنا مَعَ هذا النَّفْيِ مجَرَّداً لَتَضَمَّنَ أَنَّ مُوسى لا يَراهُ أَبَداً، حتى ولا في الآخرةِ، ولكِنَّ الحديثَ الشريفَ المتواترَ وَرَدَ: بأَنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ يَرَوْنَه، وقد تقدَّمَ لنا في تفصيلٌ في هذا. فَكلامُهم بأَنَّ نَفْيَ المُسْتَقبلِ بَعدَها يَعُمُّ جميعَ الأَزْمِنَةِ المُسْتَقْبَلَةِ صَحيحٌ، ولكنْ لِمَدْرَكٍ آخرَ: وهُو أنَّ الفِعْلَ نَكِرةٌ، والنَّكِرَةُ في سِياقِ الَنفْيِ تَعُمُّ. والاسْتِدْراكُ في قولِهِ "ولكن انظرْ" واضحٌ.
قولُه: {وخَرَّ موسى صَعِقاً} والخُرورُ السُّقوطُ، وقيَّدَهُ الرَّاغِبُ بِسُقوطٍ يُسْمَعُ لَهُ خَريرٌ، والخريرُ يُقالُ لِصَوْتِ الماءِ والرّيحِ وغيرِ ذلك ممَّا يَسْقُطُ مِنْ عُلُوٍّ. و "صَعِقاً" حالٌ مُقارَنَةٌ.
قرأَ عامَّةُ أَهْلِ المدينةِ والبَصْرَةِ: {جَعَلَهُ دَكّاً}, مقصورًا بالتنوينِ بمعنى: "دكّ الله الجبل دكًّا" أيْ: فَتَّتَهُ، واعْتِبارًا بِقولِهِ تَعالى في سُورَةِ الفَجْرِ: {كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأرْضُ دَكًّا دَكًّا}، الآية: 21. وقولِه في سورة الحاقَّةِ: {وَحُمِلَتِ الأرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً}، الآية: 14. واسْتَشْهَدَ بعضُهم على ذلك بقولِ حميدٍ الأرقط:
يَدُكُّ أَرْكَانَ الجِبَال هَزَمُهْ .................. تَخْطُر بِالبِيضِ الرِّقَاقِ بُهَمُهْ
وقرأَ الأَخَوانِ: "دَكّاءَ" بالمدِّ على وَزْنِ حَمْراءَ. فقراءتُهما تحتملُ أَنها مأخوذةٌ مِنْ قولهم: ناقةٌ دكَّاء، أَيْ: مُنْبَسِطَةُ السَّنامِ غيرُ مُرْتَفِعَتِهِ. أَوْ مِنْ قولِهِم: أَرْضٌ دَكَّاءَ للنّاشِزَةِ، فَقَدْ جاء أَنَّ الجبلَ لم يَذْهَبْ بالكلِّيَّةِ، بَلْ ذَهَبَ أَعْلاهُ فهذا يُناسِبُه. وكان ممن يقرؤه كذلك، عِكْرِمَةُ، ويقولُ: "دَكَّاءَ مِنَ الدَّكَّاواتِ". وقالَ: لمَّا نَظَرَ اللهُ ـ تَبارَكَ وتَعالى إلى الجَبَلِ صارَ صَحراءَ تُرابًا.
وأَمَّا قِراءةُ الجَماعَةِ فَ "دَكٌّ" مَصْدَرٌ واقعٌ مَوْقِعَ المَفعولِ بِه، أَيْ مَدْكوكاً، أَوْ مُنْدَكّاً، على حَذْفِ مُضافٍ، أيْ: ذا دَكٍّ. والمشهور في نَصْبِهِ على القراءتين: أَنَّهُ مَفْعولٌ ثانٍ لِ "جعل" بمعنى صَيَّرَ. ويرى الأَخْفَشُ أَنَّهُ مصدرٌ على المعنى، إذِ التَقديرُ: دَكَّهُ دَكّاً. وأمَّا على القراءة الأولى فهو مفعولٌ فقط، أي: صَيَّرَهُ مِثْلَ ناقةٍ دَكّاءَ، أَوْ أرضٍ دَكَّاءَ. والدَكُّ والدَقُّ بمعنى كما تقدَّمَ وهو تَفتيتُ الشيءِ وسَحْقُه. وقيلَ: تسويتُه بالأرضِ. وقرأ ابْنُ وَثَّابٍ: "دُكَّا" بِضَمِّ الدَّالِ والقَصْرِ، وهوَ جمعُ دَكَّاءَ بالمَدِّ، كَ "حُمْرِ" في "حمراء" و"غُرٍّ" في غَرَّاءَ، أَيْ جَعَلَهُ قِطَعاً.
__________________
أنا روحٌ تضمّ الكونَ حبّاً
وتُطلقه فيزدهر الوجودُ
عبد القادر الأسود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
فيض العليم ... سورة الأعراف، الآية: 174 عبد القادر الأسود المواضيع الاسلامية 0 12-05-2014 01:28 PM
فيض العليم ... سورة الأعراف، الآية: 98 عبد القادر الأسود المواضيع الاسلامية 0 09-22-2014 03:38 PM
فيض العليم ... سورة الأعراف، الآية: 94 عبد القادر الأسود المواضيع الاسلامية 0 09-19-2014 07:46 AM
فيض العليم ... سورة الأعراف، الآية: 94 عبد القادر الأسود المواضيع الاسلامية 0 09-19-2014 07:41 AM
فيض العليم ... سورة الأعراف، الآية: 96 عبد القادر الأسود المواضيع الاسلامية 0 09-19-2014 07:33 AM


الساعة الآن 05:26 PM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir