أنت غير مسجل في منتديات البوحسن . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعملت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت           

رسائل ووصايا في التزكية كلّ ما يختص بعلوم السلوك وآداب القوم وتزكية النفس والتصوف الإسلامي

 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع
قديم 04-06-2011
  #1
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي الشعاعات - الشعاع الرابع


الشعاع الرابع - ص: 68
الشعاع الرابع

هذا الشعاع هو اللمعة الخامسة من حيث المعنى والرتبة، وهو الشعاع الرابع القيم من حيث الصورة والمقام، للّمعة الحادية والثلاثين من المكتوب الحادي والثلاثين، وهو عبارة عن نكتة مهمة جليلة للآية الكريمة:
(حسبنا الله ونعم الوكيل) (آل عمران: 173).

تنبيه:
ان رسائل النور تخالف الكتب الاخرى، اذ تستهل البحث بشئ من الابهام الذي قد يخفى على القارئ ويغمض عليه، الاّ انها تتوضّح تدريجياً، وتكشف عن معانيها رويداً رويداً، ولاسيما هذه الرسالة. فالمرتبة الاولى منها دقيقة وعميقة غامضة مع انها حقيقة قيمة غالية. وقد برزت هذه المرتبة بصفة خاصة بي شفاءً لأدوائي المتنوعة الغائرة، برزت على صورة محاكمة شعورية في غاية الأهمية، ومعاملة ايمانية في غاية الحيوية ، ومحاورة قلبية في غاية الخفاء. ومن هنا قد لايتمكن ان يتذوقها تذوقاً تاماً ويستشعر بها الاّ من كانت مشاعره متوافقة معي، متجانسة مع مشاعري.
الشعاع الرابع - ص: 69
بسْمِ الله الرّحمنِ الرّحيم
(حَسبُنا الله ونِعمَ الوَكيل)

حينما جرّدني ارباب الدنيا من كل شئ، وقعتُ في خمسة ألوان من الغُربة، وانتابتني خمسة انواع من الامراض الناشئة من الآلام والعنت في زمن الشيخوخة. ولم التفت الى ما في رسائل النور من انوار مسلّية وامدادات مشوّقة - جراء غفلة اورثها الضجر والضيق - وانما نظرت مباشرة الى قلبي وتحسست روحي، فرأيت:
انه يسيطر عليّ عشق في منتهى القوة للبقاء، وتهيمن علىّ محبة شديدة للوجود، ويتحكّم فيّ شوق عظيم للحياة، مع ما يكمن فيّ من عجز لاحدّ له وفقر لانهاية له. غير ان فناءً مهولاً يطفئ ذلك البقاء ويزيله، فقلت - في حالتي هذه - مثلما قال الشاعر المحترق الفؤاد 1:
حكمة الإله تقضي فناء الجسد ، والقلب توّاقٌ الى الابد،
لهف نفسي من بلاءٍ وكمد، حار لقمان في ايجاد الضمد..
فطأطأت رأسي يائساً، واذا بالآية الكريمة (حَسبُنا الله ونِعمَ الوَكيل) تغيثني قائلة:
أقرأني جيداً، بتدبر وامعان.. فقرأتها بدوري خمسمائة مرة في كل يوم. وكتبت تسعاً فقط من انوارها ومراتبها القيمة الغزيرة التي انكشفت لي بعين اليقين، أما تفاصيلها المعروفة بعلم اليقين، لا بعين اليقين، فاحيلها الى رسائل النور.

_____________________
1 المقصود الشاعر نيازي المصري (1618- 1694م) شاعر صوفي تركي ولد في قرية قريبة لولاية "ملاطية". اكمل دراسته في الازهر الشريف فلقب بـ"المصري" له ديوان شعر ومؤلفات منها: رسالة الحسنين، موائد العرفان وعوائد الاحسان، هداية الاخوان. تولى الارشاد في مدارس استانبول العلمية.(انظر: اللمعات - اللمعة/26).

الشعاع الرابع - ص: 70
المرتبة النورية الحسبية الاولى
ان ما فيّ من عشق البقاء، ليس متوجهاً الى بقائي أنا، بل الى وجود ذلك الكامل المطلق والى كماله وبقائه. وذلك لوجود ظلٍ لتجلٍ من تجليات اسمٍ من اسماء الكامل المطلق - ذي الكمال والجمال - في ماهيتي، وهو المحبوب لذاته - اي دون داع ٍ الى سبب - الاّ ان هذه المحبة الفطرية ضلت سبيلها وتاهت بسبب الغفلة، فتشبثت بالظل وعشقت بقاء المرآة.
ولكن ما ان جاءت (حَسبُنا الله ونِعمَ الوَكيل) حتى رفعت الستار. فاحسستُ وشاهدت، وتذوقتُ بحق اليقين: ان لذة البقاء وسعادته، موجودة بنفسها، بل افضل وأكمل منها، في ايماني وإذعاني وإيقاني ببقاء الباقي ذي الكمال، وبأنه ربي وإلهي؛ لأنه ببقائه سبحانه يتحقق لي حقيقة باقية لا تموت، اذ يتقرر بشعور ايماني "أن ماهيتي تكون ظلاً لإسمٍ باقٍ، لإسمٍ سرمدي، فلا تموت".
وكذا تُشبَع بذلك الشعور الايماني - الباعث على وجود الكمال المطلق وهو المحبوب المطلق - المحبةُ الذاتية، الفطرية الشديدة.
وكذا تُعرف بذلك الشعور الايماني - الذي يخص بقاء الباقي السرمدي ووجوده سبحانه - كمالات الكائنات ومزاياها، ومزايا نوع الانسان بالذات وتُكشف عنها، ويُعلم ان الافتتان الفطري بالكمال يُنقذ من آلام غير محدودة، فيتذوق ويتلذذ.
وكذا يتولد بذلك الشعور الايماني انتسابٌ الى ذلك الباقي السرمدي، وتتولد وشائج مع ملكه عامة بالايمان بذلك الانتساب، فينظر المرء - بنور الايمان - الى مُلكٍ غير محدود كنظره الى ملكه، فيستفيد معنىً.
وكذا يتكون بذلك الشعور الايماني وبذلك الانتساب والعلاقة ما يشبه الاتصال والارتباط بجميع الموجودات؛ وفي هذه الحالة يتولد وجودٌ غير محدود - غير وجوده الشخصي الذي يأتي بالدرجة الثانية - من جهة ذلك الشعور الايماني والانتساب والارتباط والعلاقة والاتصال، حتى كأنه وجود كوجوده فيهدأ العشق الفطري تجاه الوجود.
الشعاع الرابع - ص: 71
وكذا تتولد بذلك الشعور الايماني والانتساب والعلاقة والارتباط اخوة مع جميع اهل الكمال والفضل؛ وعندها لا يضيع ولايمحى اولئك الذين لايعدّون ولايحصون من اهل الكمال والفضل، بفضل معرفة وجود الباقي السرمدي وبقائه، فيورث بقاء ما لا يعد من الاحبّة، الذين يرتبط بهم بحب وتقدير واعجاب ودوام كمالهم صاحبَ ذلك الشعور الايماني ذوقاً رفيعاً سامياً.
وكذا رأيتني قادراً على الاحساس بسعادة غير محدودة، ناشئة من سعادة جميع احبائي - الذين اضحي بحياتي وببقائي بكل رضى وسرور من اجل سعادتهم - وذلك بوساطة الشعور الايماني والانتساب والارتباط والعلاقة والاخوة؛ اذ الصديق الرؤوف يسعد بسعادة صديقه الحميم ويتلذذ بها. ولهذا فانه ببقاء الباقي ذي الكمال وبوجوده، ينجو جميع ساداتي وجميع احبابي، وهم الانبياء عليهم السلام والاولياء والاصفياء وفي مقدمتهم الرسول الاكرم صلى الله عليه وسلم وآله واصحابه الكرام ، وينجو جميع احبابي الذين لايحصون، ينجون كلهم من الاعدام الابدي وينالون سعادة سرمدية خالدة، فأحسست هذا بذلك الشعور الايمانى فانعكس عليّ شئ من سعاداتهم وتذوقتها ذوقاً خالصاً، فغمرتني سعادة عظمى، بسبب تلك العلاقة والاخوة والارتباط والمحبة.
وكذا غمرتني سعادة روحية لامنتهى لها بنجاتي من آلام غير محدودة، ناشئة من علاقتي بابناء جنسي، وشفقتي على اقاربي، فقدأحسست بشعور إيماني ان جميع اقاربي نسلاً ونسباً ومعنىً والذين أفديهم بحياتي وبقائي - بفخر واعتزاز فطري - لأجل خلاصهم من المهالك والمخاطر، وفي المقدمة آبائي وامهاتي.. احسست انهم ينجون من الفناء والعدم والاعدام الابدي ومن آلام غير محدودة، وينالون رحمة واسعة مطلقة ببقاء الباقي الحقيقي وبوجوده سبحانه؛ وان رحمة واسعة مطلقة ترعاهم وتحميهم بدلاً من شفقتي الجزئية القاصرة التي لاتأثير لها والتي هي مبعث ألم وغم. فكما تتلذذ الوالدة بلذة ولدها وتذوق الراحة براحته، تلذذتُ انا كذلك وسعدتُ بنجاة جميع اولئك الذين اشفق عليهم، بانضوائهم تحت حماية تلك الرحمة الواسعة، وبتنعمهم في ظلها، وانشرحت فرحاً جذلاً بهذا الشعور، فشكرت الله من الاعماق.
الشعاع الرابع - ص: 72
وكذا علمت بذلك الشعور الايماني نجاة "رسائل النور" التي هي ثمرة حياتي ومبعث سعادتي ووظيفة فطرتي، نجاةً من الفناء والضياع والضمور ومن عدم الجدوى والنفع، وعلمت بذلك الانتساب الايماني، بل شعرت ببقاء تلك الرسائل نضرة طرية، واحسست بنمائها معنىً، بل ببقائها ودوامها وإثمارها ثمرات يانعة. فحصلت لي القناعة التامة أن في هذا لذة معنوية تفوق كثيراً لذة بقائي، ولقد احسست بتلك اللذة احساساً حقاً كاملاً، لأنني آمنت أنه ببقاء الباقي ذي الكمال وبوجوده لاتنقش رسائل النور في ذاكرة الناس وقلوبهم وحدها بل تكون ايضاً موضع مطالعة لمخلوقات غير محدودين من ذوي الشعور والروحانيين. فضلاً عن انها ترتسم في اللوح المحفوظ وفي الالواح المحفوظة - ان كانت موضع رضى الله سبحانه وتعالى - وتتزين بثمرات الأجر والثواب، ولا سيما أن وجودها بآنٍ واحد، وحظوتها بنظر رباني من حيث انتسابها الى القرآن الكريم ونيلها بالقبول النبوي والرضى الإلهي - ان شاء الله - اعظم واجلّ من اعجاب وقدر اهل الدنيا كلهم لها.. وعلمت ان سعادتي هي في خدمة تلك الرسائل للقرآن الكريم. وانني على استعداد كل حين بالتضحية بحياتي وببقائي لإبقاء كل رسالة من تلك الرسائل - التي تثبت الحقائق الايمانية وتدعمها - ولدوامها ولإفادتها الآخرين ولمقبوليتها عند الله. وعندها فهمت - بذلك الانتساب الايماني - ان تلك الرسائل تنال بالبقاء الإلهي تقديراً واعجاباً يفوقان تقدير الناس واعجابهم بها بمائة ضعف. لذا قلت بكل ما املك من قوة: (حَسبُنا الله ونِعمَ الوَكيل).
وكذا علمت بذلك الشعور الايماني ان الايمان ببقاء الباقي ذي الجلال وبوجوده الذي يمنح بقاءاً ابدياً وحياة دائمة وان ثمرات الايمان التي هي الاعمال الصالحة ثمرات باقية لهذه الحياة الفانية،ووسائل لبقاء دائم. فاقنعتُ نفسي ان اكون كالبذرة التي تترك قشرتها لتتحول الى شجرة باسقة مثمرة، اي اقنعتها ان تترك بقائي الدنيوي الشبيه بالقشرة لتعطي ثمرات باقية. فقلت مع نفسي: (حَسبُنا الله ونِعمَ الوَكيل). نعم حسبنا بقاءه سبحانه.
وكذا علمت بعلم اليقين، بذلك الشعور الايماني والانتساب بالعبودية ؛ ان وراء ستار التراب عالم منور، وان الطبقة الترابية الثقيلة التي يرزح تحتها الموتى، سترفع
الشعاع الرابع - ص: 73
عنهم. وان النفق الذي يدخل اليه من باب القبر لايؤدي الى ظلمات العدم كذلك. فقلت من الاعماق:(حَسبُنا الله ونِعمَ الوَكيل).
وكذا احسست احساساً تاماً، وعلمت بحق اليقين، بذلك الشعور الايماني انه في الوقت الذي يتوجه عشق البقاء الشديد جداً في فطرتي الى بقاء الباقي ذي الكمال والى وجوده من جهتين، الاّ انه قد ضلَّ عن محبوبه بسبب ما اسدلته الانانية من استار دونه، فتشبث بالمرآة وافتتن بها، فصار حائراً غوياً. اذ إن ما يهيمن على ماهيتي من ظل اسم للكمال المطلق، المحبوب لذاته، والمحبوب فطرة، والمعبود المعشوق، قد أورث عشق البقاء هذا، الذي هو عميق الغور والراسخ القوي. وبينما الكمال الذاتي الذي هو وحده كاف وواف للعبادة والافتتان، حيث لايدفع لمحبته سبب او غرض، ولايقتضيه شئ دون ذاته، فانه باحسانه وانعامه ثمرات باقية - كالمذكورة آنفاً - والتي تستحق كل منها ان يُضحى لاجلها بالوف من الحياة الدنيوية وبقائها لابحياة واحدة وبقاء واحد، فقد احسست أن ذلك الكمال الذاتي قد رسّخ باحسانه هذا ذلك العشق الفطري وعمّقه اكثر، فلو تيسّر لي لقلت بجميع ذرات وجودى: (حَسْبنا الله ونِعْمَ الوكيل) بل قلته بتلك النية.
ولقد اورثني ذلك الشعور الايماني الذي يتحرى عن بقائه فوجد البقاء الإلهي - كما اشرتُ الى عدد من ثمراته بالفقرات المبتدئة بـ كذا.. كذا..- ومنحنى ذوقاً وشوقاً ملكا عليّ كياني كله واخذا بمجامع روحي، فقلت بكل ما املك من قوة، ومن اعماق قلبي ومع نفسي (حَسبُنا الله ونِعمَ الوَكيل).

المرتبة النورية الحسبية الثانية
انه مع عجزي غير المتناهي الكامن في فطرتي، ومع الشيخوخة المستقرة في كياني، ومع تلك الغربة التي لفّتني، ومع عدم وجود المعين لي، وقد جُردت من كل شئ هاجمني ارباب الدنيا بجواسيسهم وبدسائسهم.. في هذا الوقت بالذات خاطبت قلبي قائلاً:
"ان جيوشاً كثيفة عارمة تهاجم شخصاً واحداً ضعيفاً مريضاً مكبّل اليدين.. أوَ ليس له - اي لي - من نقطة استناد؟".
الشعاع الرابع - ص: 74
فراجعت آية (حَسبُنا الله ونِعمَ الوَكيل) فاعلمتني:
انك تستند بهوية الانتساب الايماني الى سلطان عظيم ذي قدرة مطلقة، بحيث يجهّز بانتظام تام في كل موسم ربيع على سطح الارض جميع جيوش النباتات والحيوانات المتشكلة من اربعمائة الف نوع من الامم والطوائف بالاعتدة والاجهزة اللازمة لها. فيجدد ملابس جيشيه العظيمين وهما الاشجار والطيور ويلبسهما ملابس جديدة، مبدلاً انواطهما وشاراتهما، حتى انه يبدل لباس الجبل ونقاب الصحراء مثلما يبدل فساتين الدجاج اللطيفة واثواب الطيور الجميلة. ويوزع جميع ارزاق الجيش الهائل للاحياء - وفي مقدمتها الانسان - لابشكل ما اكتشفه الانسان المعاصر في الآونة الاخيرة من مستخلصات اللحم والسكر وغيرهما بل بصورة مستخلصات اكمل وافضل بكثير بل تفوقها مائة مرة، فهي مستخلصات جميع انواع الاطعمة، وهي مستخلصات رحمانية تلك التي تسمى البذور والنوى. زد على ذلك فانه يغلف ايضاً تلك المستخلصات بأغلفة قَدَرية تتناسب مع نضجها وانبساطها ونموها، ويحفظها في عُليبات وصنيديقات صغيرة وصغيرة جداً، وهذه الصنيديقات ايضاً تصنع في معمل "ك. ن" بسرعة متناهية جداً وبسهولة مطلقة للغاية وبوفرة هائلة، حتى أن القرآن الكريم يذكر ذلك بقوله تعالى: (فانما يقولُ لهُ كُن فيكون) (البقرة: 117).
وعلى الرغم من ان جميع تلك الخلاصات متشابهة ومتكونة من المواد نفسها وقد لاتفي بحاجة مدينة واحدة، فان الرزاق الكريم يُنضج منها في موسم صيف واحد ما يمكن أن يملأ مدن الارض كافة باطعمة في غاية اللذة والتنوع.
فما دمتَ قد ظفرتَ بنقطة استناد مثل هذه بهوية الانتساب الايماني، يمكنك اذن الاستناد والاعتماد الى قوة عظيمة وقدرة مطلقة، وحقاً لقد كنتُ احسّ بقوة معنوية هائلة كلما كنت أتلقى ذلك الدرس من تلك الآية الكريمة، فكنت اشعر انني املك من الاقتدار الإيماني ما يمكّنني من ان اتحدّى بها جميع اعدائي في العالم وليس الماثلين امامي وحدهم، لذا رددتُ ومن اعماق روحي: (حَسبُنا الله ونِعمَ الوَكيل).
الشعاع الرابع - ص: 75
وراجعت الآية الكريمة نفسها من حيث فقري واحتياجي غير المتناهيين كي انال نقطة استمداد لهما. فقالت لي :
انك منتسب الى مالك كريم بعبوديتك وبمملوكيتك، واسمك مسجّل في دفتر اعاشة المخلوقات، وانه يفرش سفرة نعمه في كل ربيع وصيف ويرفعها بل يبسطها ويطويها اكثر من مائة مرة مزيناً اياها باطعمة متنوعة لذيذة يأتيها من عالم الغيب ومن العدم ومن حيث لايحتسب العبد ومن تراب جامد حتى كأن سني الزمان وايام كل سنة صحون متعاقبة مترادفة لثمرات احسانه واطعمة رحمته ومعرض لمراتب آلاء رزاق رحيم، بمراتب كلية وجزئية. فانت عبدٌ لمثل هذا الغني المطلق. فان كان لك شعور واحساس بهذه العبودية له، فان فقرك الأليم يصبح مدار شهية لذيذة..
وانا بدوري قد أخذت حظي من هذا المعنى من الآية الكريمة. فقلت مع نفسي: نعم.. نعم انه الصدق بعينه.
ورددت متوكلاً على الله: (حَسبُنا الله ونِعمَ الوَكيل).

المرتبة النورية الحسبية الثالثة
حينما اشتد خناق الامراض وألوان الغربة وأنواع الظلم عليّ، وجدت ان علاقاتي تنفصم مع الدنيا، وان الايمان يرشدني بانك مرشح لدنيا اخرى ابدية، وانك مؤهل لمملكة باقية وسعادة دائمة. ففي هذه الاثناء تركتُ كل شئ تقطر منه الحسرة ويجعلني أتأوّه وأتأفف، وابدلته بكل ما يبشّر بالخير والفرح ويجعلني في حمدٍ دائم. ولكن أنّى لهذه الغاية أن تتحقق وهي غاية المنى ومبتغى الخيال وهدف الروح ونتيجة الفطرة، الاّ بقدرة غير محدودة للقدير المطلق، يعرف جميع حركات مخلوقاته وسكناتهم قولاً وفعلاً، بل يعرف جميع احوالهم واعمالهم ويسجلها كذلك. وانّى لها أن تحصل الاّ بعنايته الفائقة غير المحدودة لهذا الانسان الصغير الهزيل المتقلب في العجز المطلق، حتى كرّمه واتخذه خليلاً مخاطباً، واهباً له المقام السامي بين مخلوقاته.
الشعاع الرابع - ص: 76
نعم، حينما كنت أفكر في هاتين النقطتين، اي في فعالية هذه القدرة غير المحدودة، وفي الأهمية الحقيقية التي أولاها البارئ سبحانه لهذا الانسان الذي يبدو حقيراً. أردت ايضاحاً وانكشافاً للايمان بما يُطمئن القلب. فراجعت بدوري تلك الآية الكريمة ايضاً، فقالت لي:
دقق النظر في "نا" التي في "حسبنا"، وانظر مَن هم اولاء ينطقون "حسبنا" معك، سواء ينطقونها بلسان الحال، او بلسان المقال، أنصت اليهم.. نعم، هكذا أمرتني الآية! فنظرت.. فاذا بي أرى طيوراً محلّقة لاتحدّ، وطويرات صغيرة صغيرة جداً كالذباب لاتحصى، وحيوانات وحوينات لاتعد ونباتات لاتنتهي واشجاراً وشجيرات لا آخر لها ولانهاية...
كل ذلك يردد مثلي بلسان الحال معنى (حَسبُنا الله ونِعمَ الوَكيل)، بل يُذكّر الآخرين بها.. ورأيت أن لهم وكيلاً - نِعمَ الوكيل - تكفل بجميع شرائط حياتهم، حتى انه يخلق من البيوض المتشابهة المتركبة من المواد نفسها،ومن النطف المتماثلة، ومن الحبوب الشبيهة بعضها ببعض، مائة الف طراز من الحيوانات ومائة الف شكل من الطيور ومائة الف نوع من النباتات، ومائة الف صنف من الاشجار... يخلقها بلا خطأ وبلا نقص وبلا التباس، يخلقها مزينة جميلة وموزونة منظمة، مع تميّز بعضها عن البعض الآخر واختلاف بعضها عن بعض، يخلقها باستمرار ولاسيما ايام كل ربيع امام اعيننا في منتهى السرعة، وفي منتهى السهولة، وفي منتهى السعة، وفي منتهى الوفرة.. فخلقُ جميع هذه المتشابهات المتوافقات المتداخلات من المخلوقات على النمط نفسه والاشكال عينها، ضمن عظمة هذه القدرة المطلقة وحشمتها، يظهر لنا بوضوح وحدانيته سبحانه وتعالى وأحديته.
وقد افهمتني الآية أنه لايمكن المشاركة ولا المداخلة قطعاً في فعل هذه الربوبية والخلاقية الذي يبرز هذه المعجزات غير المحدودة ..
ثم نظرت الى "انا" الموجود في "نا" حسبنا، اي نظرت الى نفسي وتأملت فيها ورأيت ان الذي خلق الحيوانات من قطرة ماء خلقني ايضاً منها. وبرأني معجزة من معجزاته، وشق سمعي وبصري ووضع دماغاً في رأسي وقلباً في صدري ولساناً في
الشعاع الرابع - ص: 77
فمي بحيث خلق في ذلك الدماغ والقلب واللسان مئات ٍمن الموازين الدقيقة والمقاييس الرقيقة التي تتمكن من أن تزن وتعرف جميع هدايا الرحمن المدّخرة في خزائن الرحمة الإلهية وعطاياه الكريمة، وادرج في تلك الاعضاء الوفاً من الآلات التي تتمكن من أن تفتح كنوزتجليات الاسماء الإلهية التي لا نهاية لها، وأمدّ تلك الآلات والاجهزة معرّفات مُعينة مساعدة بعدد الروائح والطعوم والالوان.
وكذا ادرج سبحانه بكمال الانتظام احاسيس شاعرة وحواس باطنة، ولطائف معنوية رقيقة في منتهى النظام والاتقان، فضلاً عما خلق بكمال الحكمة في وجودي في غاية الكمال والانتظام اجهزةً متقنة وجوارح بديعة وضرورية لحياة الانسان، ليذيقني جميع انواع نعمه وعموم اشكال آلائه ويحسسني بها جميعاً، ويفهّمني ويعرّفني بتجليات اسمائه الحسنى وبمظاهرها المتنوعة، بتلك المشاعر الدقيقة والحواس اللطيفة، ويدفعني الى تذوقها والتلذذ بها.
وعلاوة على انه جعل وجودي - هذا الذي يبدو حقيراً فقيراً تافهاً - كوجود كل مؤمن في أحسن تقويم للكون، ونسخة مصغرة للعالم الاكبر، ومثالاً مصغراً لهذه الدنيا، ومعجزة زاهرة لمصنوعاته سبحانه، وشارياً طالباً لكل نوع من انواع نعمه التي لاتعد ولاتحصى، ومركزاً لقوانين ربوبيته، ووسيلة لتنفيذ اجراءاته واوامره، ونموذجاً لحديقة ازاهير عطايا حكمته ورحمته، والمخاطب المدرك لخطابه السبحاني، فانه سبحانه وهب لي "الحياة" ليجعل الوجود - وهو النعمة الكبرى - كبيراً وكثيراً في وجودي أنا، إذ يمكن لنعمة وجودي هذا ان ينبسط بالحياة بقدر عالم الشهادة.
وكذا منح "الانسانية" ففتحتْ نعمةُ الوجود بتلك الانسانية وبانكشافها طريقَ الاستفادة من تلك الموائد المنصوبة الواسعة في العوالم المادية والمعنوية بمشاعر خاصة بالانسان.
وكذا أنعم عليّ بـ"الاسلام" فتوسعت نعمة الوجود - بذلك الاسلام - سعة عالم الغيب والشهادة.
وكذا أنعم عليّ بالايمان التحقيقي، فغدت نعمة الوجود بذلك الايمان منطوية على نعم الدنيا والآخرة وقادرة على استيعابها.
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
 

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الشعاعات - الشعاع الرابع عشر عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 21 04-06-2011 04:02 PM
الشعاعات - الشعاع التاسع عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 0 04-06-2011 03:15 PM
الشعاعات - الشعاع السابع عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 8 04-06-2011 03:13 PM
الشعاعات - الشعاع السادس عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 0 04-06-2011 02:55 PM
الشعاعات - الشعاع الخامس عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 0 04-06-2011 02:51 PM


الساعة الآن 12:44 AM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir