أنت غير مسجل في منتديات البوحسن . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           أعوذ بكلمات الله التَّامَّة من غضبه وعقابه، وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأنْ يحضرون           
العودة   منتديات البوحسن > التزكية > رسائل ووصايا في التزكية

رسائل ووصايا في التزكية كلّ ما يختص بعلوم السلوك وآداب القوم وتزكية النفس والتصوف الإسلامي

إضافة رد
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع
قديم 07-09-2011
  #1
عمرالحسني
محب فعال
 الصورة الرمزية عمرالحسني
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
المشاركات: 93
معدل تقييم المستوى: 15
عمرالحسني is on a distinguished road
افتراضي دراسات في التصوف، في الذوق و السكر:

دراسات في التصوف، في الذوق و السكر:

الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ، وبعد
يستمد العبد الذاكر في منازلاته معاني الذكر ، من حضور في بساط المناجاة ، إلى الغيبة في حضرة القرب ، ويرقى بنجواه سرا و علانية في مقامات الأنس بالله ، فإذا به يذوق و يتذوق ويسكر في تلك اللطائف ، تذكره قبل كل شيء بأنه عدم في كون كبير ، وأنه المصطفى في حضرة الأنوار إن عرف معنى عدميته ، ليكون عبدا مطيعا في حضرات ربه.
يسأل الغافل عن الله عن سر وجوده ، فيتخبط و يتيه في أشكاليات يراها عميقة وذات جدوى لكنها في باطن تشكلاتها مجردة دعوى في زحام كبير من الظن و الريبة، فيعتقد أنه لاشيء أمام أسرار الكون ، وقبل الكون ، في السؤال البليد الذي يتشدق به الفلاسفة : مالوجود ؟ وما أبعاد الوجود؟ وما وظيفتي في هذا الوجود.؟ يحلو للعقل المتفلسف هذه الأسئلة المتراكمة، لكن عند المؤمن ،فللجواب عدة أسئلة لكنها وفي المهيع اللاحب سر الفعل و الفاعلية و الإنبساط و الإنقباض ثم نور المعرفة يتلوها السير ، ويرقى في فتحه إلى أن يذوق حلاوة الإيمان ، ويسترشد في صحوه بسكره ليصحو فاعلا خاذما مطيعا.
فما الذوق ؟ وما السكر؟
1.السكر و علاقته مع الصحو:
يقول الأمام القشيري في رسالته عن السكر و علاقته بالصحو ...الصحو رجوع إلى الإحساس بعد الغيبة ، والسكر غيبة بوارد قوي ، والسكر زيادة على الغيبة من وجه ، و ذالك أن صاحب السكر قد يكون مبسوطا إذا لم يكن مستوفيا في سكره ، وقد يسقط إخطار الأشياء عن قلبه في حالة سكره ، وتلك حال المتساكر الذي لم يستوفه الوارد ، فيكون لفجساس فيه مساغ ، وقد يقوى سكره حتى يزيد عن الغيبة ، فربما يكون صاحب السكر أشد غيبة من صاحب الغيبة إذا قوي سكره ، وربما يكون صاحب الغيبة أتم في الغيبة من صاحب السكر إذا كان متساكرا غير مستوف") رسالة القشيري ص 71.
ايكون سكري في محراب ربي مستوفيا لشرط الحب ؟ و للحب شئون وآداب و صفات و سمات .اغرق في معنى الإنية فلا أرى الا وجود الله ، و في أحديته فأتمعن في نفي الشريك فأرى الكون مستمد من الواحد الأحد سر بقاءه ووجوده ، و في قيوميته سبحانه تعالى بي و بمن يحيط بي و قيامه رحمة بالخلق و رفقا بأسباب وجودهم؟
يقول الشيخ عبد السلام ياسين في مسألة السكر روَوْا عن الإمام الشافعي أنَّ السكران بِشُرْب المُسكرِ الذي يقام عليه الحد يُعْرَفُ "إذا اختلط كلامُه المنظومُ، وأفشَى سرَّه المكتومَ". وعرف الإمام أحمد السكران الشارب فقال: "السكران من لم يعرف ثوبَه من ثوب غيره، ونَعْلَه من نعل غيره".
وهذان التعريفان ينطبقان بوجه مجازِيٍّ على السالك في طريق الولاية إذا حصل في حال الفناء "فغاب بموجوده عن وجوده وبمشهوده عن شهوده" كما قرأنا في الفصل قبل هذا. وكما يُذْهِلُ السكرُ الحرامُ الشاربَ الآثمَ عن معرفة ثوبه من ثوب غيره ويختلط نظمُ كلامه ويأخذ في إفشاء أسراره، فكذلك السالك الفاني يُذهِله تجلي الأنوار الالهية عن شعوره بذاته فينطِق بكلام المجانين.
واصطلح الصوفية على كلمة "سكر" فأطلقوها بجانب هذه الحالة المعروفة لديهم، كما أطلقوا اصطلاحات أخرى لا يقبَلها ذوق التقي الورع. وقد شجَبَ هذه المصطلحات المقتبسةَ من حياة الغافلين طائفةٌ من العلماء منهم ابن القيم حيث قال: "ونحن لا نُنْكر المعنى المشارَ إليه بهذا الاسم (السكر). وإنما المنكر تسميَّتُه بهذا الاسم. ولاسيما إذا انضاف إلى ذلك اسم "الشراب"، أو تسمية المعارف بالخمر والواردات بالكؤوس"[1].
لا ينكر ابن القيم كما لا ينكر كل من ذاق الحال والوجد وغلبتهما وخبرَ الأمرَ في الميدان شيئا من أحوال الصادقين. ويتعفف الورع التقي عن استعمال هذه الألفاظ المبتذلة. على أنه لم يكن لهم بُدٌّ من استعمالها ليتفاهموا فيما بينهم. "الاصطلاحات لا مُشاحَّةَ فيها إذا لم تتضمن مفسدة" كما يقول شيخ الإسلام ابن القيم بهذا الصدد.
وينطق سكرانُ الحال، أو المفترِي الدجالُ، بأقاويلَ لا يقبلها الشرعُ فتسمَّى هذه الكلمات شطحا. قال حجة الإسلام الغزالي في تعريف الشطح: "الشطح نَعْنِي به صنفين من الكلام أحدثه بعض الصوفية. أحدُهما الدعاوي الطويلةُ العريضةُ في العشق مع الله تعالى والوصال المُغني عن الأعمال الظاهرة، حتى ينتهِي قوم إلى دعوَى الاتحادِ وارتفاعِ الحجابِ والمشاهدةِ بالرؤية والمشافهة بالخطاب. فيقولون: قيل لنا كذا، وقلنا كذا. ويتشبَّهون بالحلاج الذي صُلِبَ لأجل إطلاقِه كلماتٍ من هذا الجنسِ، ويستشهدون بقوله: أنا الحق، وبما حُكِي عن أبي يزيد البسطامي أنه قال: سبحاني سبحاني.(...)
"الصنف الثاني من الشطح كلماتٌ غير مفهومة، لها ظواهر رَائِقَةٌ، وفيها عبارات هائلة، وليس وراءَها طائل(...) ولا فائدة لهذا الجنس من الكلام إلا أنه يُشَوِّشُ القلوب، ويُدهش العقول، ويحيِّرُ الأذهان"[2].
ويضيف الإمام الغزالي رحمه الله صنفا آخر من الكلام المنكَر الكفريّ يسمِّيه "الطامات". قال: "وأما الطامات فيدخُلُها ما ذكرناه في الشطح وأمرٌ آخر يخصُّها. وهو صرف ألفاظ الشرع عن ظواهرها المفهومة إلى أمور باطنةٍ لا يسبق منها إلى الأفهام فائدةٌ، كَدَأْبِ الباطنيَّة في التأويلات. فإن هذا أيضا حرام وضررُه عظيم(...). وبهذه الوسيلة توصل الباطنية إلى هدم جميع الشريعة بتأويل ظواهرها وتنزيلها على رأيهم(...) حتى إنهم يحرِّفون القرآن من أوله إلى آخره عن ظاهره. وعن تفسيره المنقول عن ابن عباس وسائر العلماء"[3].
إن سألت عن الفائدة من التنقيب عن السكر وشطحه وعن هذيان المجانين وكفريات الزنادقة وطوام الباطنية في كتاب مستقبلي يدعو إلى سلوك جهادي على المنهاج النبوي الصحابي الراشدي أجبتك من وجهين: أحدهما أن تراثَ المتشابه من القول مبثوث في الكتب متداوَل في أيْدي الخاصة والعامة، فمعرفة الحق من الباطل في هذا التراث تتعين. والوجه الثاني أن السالكين المتعرضين لغلبة الحال قد يتشبه بهم الزنادقةُ اليومَ وغدا فينطقون بكلمة أبي يزيد والحلاج، فيتعين أن نعرف من هو مغلوب الحال الذي يُعذَر، ومن هو الدجال الذي يقول بقول الكفر صاحيا حاضرا فيقامُ عليه الحد.
وقد عذَر شيخ الإسلام ابن تيمية أبا يزيد البسطامي ولم يعذِر الحلاج كما لم يعذِره علماء زمانه الذين أفتوا بقتله.
قال شيخ الإسلام: "وقد يقع بعض من غلب عليه الحال في نوع من الحلولِ والاتحاد، فإن الاتحاد فيه حق وباطل. لكن لمَّا ورد عليه ما غيَّب عقله أو أفناه عما سوى محبوبه، ولم يكن ذلك بذنب منه كان معذورا.(...)
"فهذه الحال تعتري كثيرا من أهل المحبة والإرادة في جناب الحق وفي جانبه وإن كان فيها نقص وخطأ فإنه يغيب بمحبوبه عن حبه وعن نفسه، وبمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن عرفانه، وبمشهوده عن شهوده، وبموجوده عن وجوده.
"فلا يشعرُ حينئذ بِالتمييز ولا بوجوده. فقد يقول في هذا الحال: أنا الحق، أو سبحاني، أو ما في الجبة إلا الله ونحو ذلك. وهو سكرانُ بوَجْدِ المحبة الذي هو لذةٌ وسرورٌ بلا تمييز.
قال: "وذلك السكران يُطْوَى ولا يُرْوَى إذا لم يكن سكرُهُ بسببٍ محظور"[4].
وقال: "لكن بعض ذوي الأحوال قد يحصل له في حال الفناء القاصرِ سكرٌ وغيبة عن السِّوَى. والسكر وجْدٌ بلا تمييز. فقد يقول في تلك الحال: سبحاني، أو ما في الجبة إلا الله، أو نحو ذلك من الكلمات التي تُؤْثَرُ عن أبي يزيد البسطامي أو غيره من الأصحاء. وكلمات السكران تُطْوَى ولا تُرْوَى ولا تُؤَدَّى"[5].
قلت: فلَمَّا لم يقدر الحلاج على طيِّها طواه سيف الشرع.
هذه الحال الفنائية القاصرة التي لم يعرفها الصحابة، وحاشاهم من النقص، يسميها مربِّي المريدين المجددُ الكبير الإمام السرهندي: "كفْرُ الطريقة". قال رحمه الله: "ولكفر الطريقة هذا مناسبةٌ تامَّة بكفر الشريعة، وإن كان كافر الشريعة مردودا ومستحقا للعذاب، وكافر الطريقة مقبولا ومستحقا للدرجات. فإن هذا الكفر والاستتار (قلت:كفر لغةً بمعنى ستر) ناشئ من غَلَبة محبةِ المحبوب الحقيقي ونسيان غيره كله(...)"[6].
قال رحمه الله يفصل الدرجات التي يستحقها مستور المحبة "كافر" الطريقة: "وإسلام الطريقة عبارة عن مقام الفرق بعد الجمع (قلت: وهو مقام البقاء) الذي هو مقام التمييز. الحق والخير متميزان هنا من الباطل والشر.
قال: "ولإسلام الطريقة هذا مناسَبَة تامة بإسلام الشريعة. بل إذا بلغ إسلام الشريعة كمالَه تحصُل له نسبة الاتحادِ بهذا الإسلام"[7].
وقال عن الشطحات المعذورة: "وكل من تكلم من المشايخ قدس الله أسرارهم بالشطحات من الكلمات المخالفة لظاهر الشريعة فإنما تكلم من مقام كفر الطريقة الذي هو موطن السكر وعدم التمييز. والأكابرُ الذين تشرفوا بدَوْلة إسلام الحقيقة مُنَزَّهون ومُبَرَّأون من أمثال هذه الكلمات، ومُقْتَدون بالأنبياء، ومتَّبعون لهم ظاهراً وباطناً.
"فالشخص الذي يتكلم بالشطحات، ويكون في مقام الصلح مع الكل، ويظن الجميعَ على صراط مستقيم، ولا يُثْبِتُ التمييزَ بين الحق والخلق، ولا يقول بوجود الاثنينيَّة، إذا وصل هذا الشخص إلى مقام الجمع، وتحقق بكفر الطريقة ونسيَ السوى فهو مقبول، وكلماته ناشئة من السكر، ومصروفةٌ عن الظاهر"[8].
ثم قال عن الزنادقة والمُبْطلين والناطقين بالطوام: "وإن تكلم بهذه الكلمات بدون حصول هذا الحال، وبدون وصولٍ إلى الدرجة الأولى من الكمال، وزعم أنَّ الكل على حق وعلى صراط مستقيم، ولم يميز الباطل من الحق، فهو من الزنادقة والملاحدة الذين مقصودُهم إبطالُ الشريعة، ومطلوبُهم رفعُ دعوة الأنبياء الذين هم رحمة للعالمين، عليهم الصلوات والتحيات(...)
قال: "فهذه الكلمات الخِلافية تصدر من المُحق وتصدر من المُبطل. وهي لِلْمُحِقِّ ماءُ الحياة، وللمبطل سم قاتلٌ.(... ) وهذا المقام مزَلَّةُ الأقدام، قد انحرف فيه جم غفير من أهل الإسلام عن الصراط المستقيم.(...) ومصداقُ امتياز المُحق من المُبطل الاستقامةُ على الشريعة أو عدم الاستقامة عليها. والذي هو مُحق لا يرتكب خلافَ الشريعة مقدارَ شَعْرة مع وجود السكر وعدم التمييز. كان الحلاج، مع صدور "أنا الحق" عنه، يصلِّي كلَّ ليلة في السجن خمسمائة ركعة مع قيد ثَقيلٍ، ولا يأكل الطعامَ الذي مسته يدُ الظَّلَمة"[9].
قال الإمام عبد القادر قدس الله سره: "يا غلام! تفكر في أمرك وحاقِقْ نفسَك ما ليس فيك. ما أنت صادق ولا صِدِّيقٌ ولا محب ولا موافق ولا راض ولا عارف! قد ادعيت المعرفة بالله عز وجل. قل لي! ما علامة معرفته؟ إيش ترى في قلبك من الحُكْم والأنوار؟ ما علامة أولياء الله عز وجل وأبدال أنبيائه؟
"تظن أن كل من ادعى شيئا سُلِّمَ إليه ولا يطالب بالبيِّنة! ولا يُحَكُّ ديناره على المِحَكِّ!
"من جملة صفات العارف بالله عز وجل أنه يصبر على الآفات، ويرضى بجميع أقضية الله عز وجل وأقداره في جميع الأحوال.(...)
"يا محب الحق عز وجل، دُرْ مع قدَرِه حيث دار. وطهر قلبك الذي هو مسكن قرب الحق عز وجل. اكنُسْه عما سواه، واقعد على بابه بسيف التوحيد والإخلاص والصدق. ولا تفتحه لأحد غيره ولا تشغل زاوية من زوايا قلبك بغيره.
"يا لَعّابين ! ما عندي لعب! يا قشورُ! ما عندي سوى اللُّبِّ! عندي إخلاص بلا نفاق، وصدق بلا كذب. الحق عز وجل يريد التقوى والإخلاص من قلوبكم. ما ينظر إلى ظاهر أعمالكم.قال الله عز وجل: )لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ) [10].
قال أبو تراب النّخْشَبِيُّ في علامات المحب الصادق الصديق:
ومـن الدلائـل حـزنُـه ونحـيـبـه جَـوفَ الظـلام فما لَهُ من عـاذِل
ومـن الدلائـل أن تـراه مـسـافـرا نحـو الجهـاد وكلِّ فـعلٍ فاضِـل
ومـن الدلائـل زُهـدُه فيمـا يـرى مـن دار ذل أو نـعـيــم زائـل
ومـن الدلائـل أن تـراه راضِـيـاً بملـيـكـه في كُـل حـكـم نـازل
ومـن الدلائل ضِحْكُه بين الورَى والقلـبُ محـزون كقـلـب الثاكـل

وقال الإمام الجنيد يصف أحوال التكميل والكمال:
سَرَتْ بأُناسٍ في الغيوب قلوبهـم فحلُّـوا بقـرب المـاجـد المتفـضـل
عِراضاً بقـرب الله في ظـل قدسه تجـولُ بهـا أرواحهـم وتَـنَـقَّـلُ
مـواردهم فيها على الـعز والنُّهَى ومصـدرُهم عنهـا لِما هُـو أكـمـل
تروح بِـعِـزٍّ مـفـرَدٍ من صفـاتـه وفي حُلَلِ التوحيد تمشـي وَتَرْفُـل

وقلت:
يَـقِـظٌ حَــاضِـرٌ تَشَّـمَّــرَ لِلـزَّحْــ ــفِ وَصَدِّ الْعِـدَا بِحَدِّ السُّيُـوفِ
مِحْنَــةُ النَّـاسِ أنَّ فِيهمْ ضِعَـافــاً مِنْ جَبَــانٍ وَخَــامِــلٍ وَسَخِيـفِ
مِحْنَةُ السَّالِكِينَ: مِنْهُمْ سُكَــارَى صدَّعُـوا الرَّأسَ بالكَـلاَمِ المُخِيـفِ




[1] مدارج السالكين ج 3 ص 306.
[2] الإحياء ج 1ص 32.
[3] الإحياء ج 1 ص 33.
[4] الفتاوي ج 2 ص 396.
[5] المصدر السابق ص 461.
[6] المكتوبات ج 2 ص 144-145.
[7] المصدر السابق ص 145.
[8] المصدر السابق نفس الصفحة.
[9] المصدر السابق نفس الصفحة.
[10] سورة الفتح الرباني ص 113-114.) كتاب الإحسان.
2.في الذوق و علاقته بالشرب :
للمومن الراضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا بداية ذوقٍ منحه إياها مجرد الرضى والقَبول. ثم يتفاوت المومنون في ذوق الإيمان والإحسان على حسب حبهم لله ورسوله، وذكرهم، وصدقهم، وتجرُّدهِم القلبي من الدنيا، وإقبالهم بالكلية على الله عز وجل، "فلا يحبون شيئا إلا له، ولا يتوكلون إلا عليه، ولا يوالون إلا فيه، ولا يعادون إلا له، ولا يسألون إلا إياه، ولا يرجون إلا إياه، ولا يخافون إلا إياه، يعبدونه ويستغنون له وبه، بحيث يكونون عند الحق بلا خلق، وعند الخلق بلا هوى. قد فنيت عنهم إرادة ما سواه بإرادته، ومحبة ما سواه بمحبته، وخوفُ ما سواه بخوفه، ورجاء ما سواه برجائِه، ودعاء ما سواه بدعائه.
"هو أمر لا يعرفه بالذوق والوجد إلا من له نصيب"[1].
يُكثر شيخ الإسلام ابن تيمية، وأكثر منه ابن القيم، من استعمال لفظ "ذوق"، ومن حصوله للناس بتفاوت، ومن كون إنكار المنكرين لأحوال السالكين ومواجيدهم إنما سببُه عدم ذوقهم لما ذاقوا. وكلمة ذوق كلمة قرآنية حديثية اتخذها الصوفية رضي الله عنهم مصطلحا للإخبار الواسع عن مواجيدَ تتعمق كلما ارتقى السالك في عقبة السير. وذوق الواصلين إلى مراتب الأحوال السَّنِيَّة والتجلِيَّات الربانية يعبر عنه الأستاذ القشيري كما يلي: "من جملة ما يجري في كلامهم (الصوفية) الذوق والشرب. ويعبرون بذلك عما يجدونه من ثمرات التجلي ونتائج الكشوفات وبوادِر الواردات. وأول ذلك الذوق، ثم الشرب، ثم الري. فصفاء معاملاتهم يوجب لهم ذوق المعاني. ووفاء منازلاتهم يوجب لهم الشرب. ودوام مواصلاتهم يقتضي لهم الري.
"فصاحب الذوق متساكر، وصاحب الشرب سكران وصاحب الري صاح. ومن قوِيَ حِسُّهُ تَسَرْمَدَ في شربه"[2].
التجليات ومذاقاتها وشربها وريُّها معية إلهية "لا تدركها العبارة، ولا تنالها الصفة، وإنما تُعلم بالذوق. وهي مَزَلَّةُ أقدامٍ إن لم يصحب العبد فيها تمييزٌ بين القديم والمحدث، بين الرب والعبد، بين الخالق والمخلوق، بين العابد والمعبود(...). والمقصود أنه إن لم يكن مع العبد عقيدة صحيحة وإلا فإذا استولى عليه سلطان الذكر، وغاب بمذكوره عن ذكره وعن نفسه، ولج في باب الحلول والاتحاد ولابد"[3]. وهذا ما عبر عنه الصوفية بالسكر وما يؤثر من كلام سكارى السلوك من شطح، نرجع إلى ذلك في فصل مقبل إن شاء الله.
القلب المنوَّر شاهد عدل تقبل شهادته وفتواه. إنه بمثابة الأعضاء والجلود التي تشهد على أصحابها في الآخرة كما قال الله تعالى: )يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ( (سورة النور، الآية: 24). القلب المفتوح له تجاوز العادة وخرقها وأصبح شأنا من شؤون الآخرة. لتجاوز قلبِ المومن الذائقِ طعمَ الإيمان العادةَ كان له الإشرافُ والإمارةُ على العقل القاصر المسجون في بيتِ العادة والحجاب عما وراء الحس. وكانت له الفتوى في الدقائق التي لا يدركها العقل ولا تنالها الحواس. القلب المومن يسمع ويرى ويذوق ما لطُف من المعاني والحقائق ويُدلي بشهادته.
جاء وابِصَةُ إلى رسول الله يتخطى الناس، فقال له: "اُدْنُ يا وابصة!" فدنا من رسول الله حتى مست ركبتُه ركبتَه. فقال له رسول الله : "يا وابصةُ! أُخْبِرُ ما جئت تسألني عنه أو تسألني؟ فقال: "يا رسول الله! فأخبرني!" قال : "جئت تسألني عن البر والإثم؟" قال: نعم! فجمع رسول الله أصابعَه الثلاث، فجعل ينكُث بها في صدر وابصةَ ويقول: "يا وابصةُ! استفتِ نفسك. البر ما اطمأن إليه القلب، واطمأنت إليه النفس. والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس". رواه الإمام أحمد عن وابصة.
هذا مقام تصدر فيه القلب للفتوى، صدَّره رسول الله وأذِن لَه. أذن له أن يقول كلمته في فهم خاص لرجل في خصوصيات أخلاقه وإدراكه لعموميات البر والإثم. ولا يُستنتجُ من هذا الإذن الشريف أن لقَلبِ وابِصةَ أو لقلب غيره من الأمة أن يشرِّع حدود البر وتخوم الإثم من عنده. إنما يستنتج منه أن البر كما شرعه الله ورسوله، والإثم كما وضع الله عز وجل له حدودا ورسولُه، تطابِقُ معالمهما الفطرة السليمة، فيطمئن القلب السليم للبر، ويحوك الإثم في الصدور ويتردد فيها.
وللقلب فيما عدا الأمر والنهي مسرَح فسيح للتأمل. قال الإمام الغزالي: "فكم من معان دقيقة من أسرار القرآن تخطُر على قلب المتجردين للذكر والفكر، تخلو عنها كتب التفاسير، ولا يطلع عليها أفاضل المفسرين. وإذا انكشف ذلك للمريد المراقب وعرض للمفسرين استحسنوه، وعلموا أن ذلك من تنبيهات القلوب الزكيَّة، وألطاف الله تعالى بالهِمَم العالية المتوجهة إليه. وكذلك في علوم المكاشفة، وأسرار علوم المعاملة، ودقائق خواطر القلوب"[4].
يعني الصوفيةُ بالمعاملات معاملةَ العبد مع ربه في خصوصياتهم القلبية من خشوع وذكر ومناجاة وتوكل وخوف ورجاء. لا المعاملات الفقهية بين الناس التي حددها الشرع.
للقلب الذوق الأعلى وهو لذة العلوم الربانية. قال الإمام الغزالي: "لذة المعرفة أقوى من سائر اللذات، أعني لذة الشهوة والغضب ولذة سائر الحواس الخمس. فإن اللذاتِ مختلفة بالنوع (أعلاها لذة الرياسة). فلذةُ معرفة الله، ومطالعة جمال حضرة الربوبية، والنظرُ إلى أسرار الأمور الإلهية ألذ من الرياسة التي هي أعلى اللذات الغالبة على الخلق. وغاية العبارة عنه أن يقال :فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين. وإنه أعدَّ لهم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وهذا الآن لا يعرفه إلاّ من ذاق اللذتين جميعا. فإنه لا محالة يوثرُ التبتلَ والتفردَ والفكر والذكر، وينغمس في بحار المعرفة، ويترك الرياسة"[5].
للقلب المنوّر أن يتمتع بانكشاف الأسرار وإشعاع الأنوار والالتذاذ بالمعرفة والانغماس في بحارها ما دام في "التبتل والتجرد والتفرد والفكر والذكر". لكن تصرفه في العالم يجب أن ينضبط بضابِط الشرع. العقل هو وزيره اللازم، وخفيرُه الملازم، وإلا تاه القلب في دوامة المواجيد بلا حدود ولا سدود.
رسول الله سيدُ المكاشفين وسيد العالمين، استعمل طاقة القلب وإدراكه في مواطنَ مثل إخباره لوابصة بما يُضمر وابصةُ، لكنه سن للأمة التعامل بالحجة والبرهان والدليل صيانة لحقوق الله وحقوق العباد أن تطير بها العاطفة المجنَّحة في سماء الأوهام. قال : "إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض. فمن قضيت له بحق أخيه شيئا بقوله، فإنما أقطع له بقطعه من النار. فلا يأخذها". رواه الشيخان وأصحاب السنن عن أم سلمة رضي الله عنها، واتخذه الفقهاء أصلا لئلا يفتِيَ القاضي بعلمه واطلاعه، بل بالحجة تدحض الحجة، وبالشهادة يرجحها العقل. وما شاء رسول الله أن يحكم بين الناس بكشفه، ولا أن يقطع رأيا في أمور السلم والحرب دون الشورى.
وأجاد ابن القيم وأحسن، كعادته أحسن الله إليه، حين كتب: "اعلم أولا أن كل حال وذوق وشهود لا يشرق عليه نور العلم المؤيَّد بالدليل فهو من عيش النفس وحظوظها. فلو قُدِّر أن المتكلم إنما تكلم بلسان العلم المجرد، فلا ريب أن ما كشفه العلمُ الصحيح المؤيد بالحجة أنفع من حالٍ يخالف العلمَ والعلمُ يخالفه. وليس من الإنصاف رد العلم الصحيح بمجرد الذوق والحال. وهذا أصل الضلالة ومنه دخل الداخل على كثير من السالكين في تحكيم أذواقهم ومواجيدهم على العلم، فكانت فتنة في الأرض وفساد كبير.(...). فما زكّاه شاهد العلم فهو المقبول، وما جرَّحه شاهد العلم فهو المردود. وهذه وصية أرباب الاستقامة من مشايخ الطريق"[6].
وكتب الإمام حسن البنا نضر الله وجهه في أصوله العشرين تحذيرا من سكرة القلب، حديث الخبير: "وللإيمان الصادق والعبادة الصحيحة والمجاهدة نور وحلاوة يقذفها الله في قلب من يشاء من عباده. ولكن الإلهامَ والخواطرَ والرؤى والكشف ليست من أدلة الأحكام الشرعية. ولا تُعتبر إلا بشرط عدم اصطدامها بأحكام الدين ونصوصه".
وقال الإمام الأعظم الشيخ عبد القادر قدس الله روحه: "يا غلام! ثمَّ أمور باطنة لا تنكشف إلا بعد الوصول إلى الحق عز وجل، والقيام على بابه، ولقاءِ المفردّين والنُوَّابِ، والوقوف هناك. إن صرت إلى باب الحق عز وجل، وأدمت الوقوف مع حسن الأدب والإطراق، فُتح الباب في وجه قلبك، وجذبه من جذب، وقرّبه من قرّب، ونوّمه من نوَّم، وزفَّه من زفّ، وكَحَّله من كَحَّل، وحلاّه من حلى، وفرّحه من فرّح، وآمنه من آمن، وحدثه من حدث، وكلمه من كلم. يا غافلين عن النعيم! أين أنتم! ما أبعد قلوبكم عن الأمر الذي أشير إليه! تظنون أن الأمر سهل، حتى يحصل لكم بالتصنع والتكلف والنفاق!
"يحتاج هذا الأمر إلى الصدق والصبر على مطارق القَدر. إذا كنت غنيا معافى مشغولا بمعصية الحق عز وجل فتبت عن جميع المعاصي والزلات ما ظهر منها وما بطن، وصرت في الصحاري وفي البراري، وطلبت وجه الله عز وجل، جاءك الاختبار، جاءتك البلايا. فتطلب نفسك ما كانت فيه من الدنيا والعافية. فلا تَقْبَل منها، ولا تعطها ذلك.
"فإن صبرت حصل لك ملك الدنيا والآخرة، وإن لم تصبر فاتك ذلك.
"يا تائب! اثبت، وأخلص، قرر مع نفسك انقلاب الأمر ومجيء البلايا. قرر معها أن الحق عز وجل يُسهر ليلها ويُظْمِئ نهارها، ويوقع بينها وبين الأهل والجيران والأصدقاء والمعارف، وأنه يوقع في قلوبهم المقت لها، وأنه لا يقربها أحد منهم ولا يدنو منها.
"أما سمعت قصة أيوب عيه السلام لما أراد الله عز وجل تحقيق محبته واصطفائه، وأن لا يبقى لغيره فيه حظ، كيف أفرده من ماله وأهله وولده وأتباعه، وأقعده في كوخ على مزبلة خارجا عن العمران.(...). انقطعت عنه الأسباب والحول والقُوى، وبقي أسير محبته وقدره وقدرته وإرادته وسابقته. كان أمرُه صبرا، ثم صار عيانا. كان الأول مرا، ثم صار الثاني حُلْوا. طاب له العيش في بلائه كما طاب لإبراهيم عليه السلام في ناره".
قلت: ذاك ابتلاء الله عز وجل لأوليائه في عهد الهروب إلى البراري والصحاري. أما في عهد الجهاد والقومة لإحياء الأمة وبناء وحدتها على منهاج الخلافة النبوية فابتلاء صفوة جند الله الربانيين يكون على صورة الابتلاء المحمدي الصحابي، وسط المجتمع وفي قلب الفتنة وعلى عينها وتحدِّيا لها. والصبر اللازم في السلوك الجهادي أشد لأن الفتنة أشد. لأن القابض على دينه وسط الفتنة كالقابض على الجمر، لا يبلُغ قيظُ أي صحراءَ يسبِّح فيها المتفردون توقُّدَ الفتنة المعاصرة التي يُدعى جند الله لمُغاضبتها ومقاطعتها وتذليلها. وإن للسالكين المجاهدين، من كانت له سابقة، لنعيما ما عرفه الهاربون بدينهم.
قال الإمام الشافعي يميز العلم الرباني عن الوسواس الشيطاني:
كل العلوم سـوى القـرآن مشغلـة إلا الحـديث وعلم الفقه في الدين
العلم ما كان فيه: قـال، حدثنـا وما سوى ذاك وسواس الشياطين

وقال محقق في العلم مدقق:
غمـوض الحـق حين يُذَبُّ عنه يـقـلل نـاصِـرَ الخـصـم المُـحِـقِّ
تضـل عن الدقـيـق فهـوم قـوم فـتـقـضي للمجِـلِّ علـى المـدِق

وقال ذاكر لربه منتظر وعد لقائه والنظر إليه:
ذكـرك لي مـؤنـس يعـارضني يعـدُني عنـك مِـنـك بالظَّـفَـر
فكيـف أنساك يا مَدَى هممي وأنـت مـني بمـوضع النـظـر!

وقال واجد هائم في بيداء الحب الالهي والهٌ:
إذا صـدَّ مـن أهـوى صددت عـن الصد وإن حال عن عهدي أقمتُ على العهـد
فمـا الوجـد إلا أن تـذوب مـن الـوَجـد وتـصـبـح في جَـهـدٍ يـزيـد على الجُهـد

وقال أبو العباس بن عطاء الصوفي:
أجلُّك أن أشكـو الهوى منك إنني أجلك أن تـومـي إلـيـك الأصـابـع
وأصْرِف طـرفي نحـو غيـرك عامدا على أنـه بالـرغـم نـحـوك راجـع

وقلت:
ذَاقَ طَعْمَ الإيمَانِ كُلُّ خَلِيـلٍ حَبَّ مِنْ قَلْبِـهِ وَليـاً مُحِـقّــاً
خُلَّةٌ يَسْـتَقِي بِهَا الخِلُّ حُبّــاً لِلإلــهِ ولِلرَّسُــولِ وَشَــوْقــاً
يَكْرَهُ الكُـفْــرَ أَنْ يَـعُــودَ إِلَيْهِ وَيَدُقُّ جَمَـاجِمَ الظُّلْـمِ دَقّــاً




[1] ابن تيمية في "الفتاوي" ج 10 ص 335.
[2] الرسالة ص 39.
[3] ابن القيم في "الوابل الصيب" ص 62.
[4] الإحياء ج 1 ص 63.
[5] المصدر السابق ص 265.
[6] طريق الهجرتين ص 421.
نسأل الله ان يرحمنا آمين
عمرالحسني غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
دراسات في التصوف : الختم و الكتم عمرالحسني المواضيع الاسلامية 5 11-03-2010 02:56 PM
دراسات في التصوف، في الرحمة و الرأفة عمرالحسني المواضيع الاسلامية 0 10-30-2010 03:13 PM
1.دراسات في التصوف : في الختم و الكتم عمرالحسني المواضيع الاسلامية 0 10-30-2010 03:10 PM
دراسات في التصوف ، في المعرفة : عمرالحسني المواضيع الاسلامية 0 10-30-2010 03:04 PM
دراسات في التصوف عمرالحسني المواضيع الاسلامية 0 10-30-2010 02:57 AM


الساعة الآن 10:36 PM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir