أنت غير مسجل في منتديات البوحسن . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           اللهم إني أسألك علماً نافعاً ، ورزقاً طيباً ، وعملاً متقبلاً           
العودة   منتديات البوحسن > التزكية > رسائل ووصايا في التزكية

رسائل ووصايا في التزكية كلّ ما يختص بعلوم السلوك وآداب القوم وتزكية النفس والتصوف الإسلامي

إضافة رد
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع
قديم 03-23-2011
  #1
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي المثنوي العربي النوري - المقدمات والتقديم


كليات رسائل النور
6
المثنوي العربي النوري
تأليف
بديع الزمان سعيد النّورسي
تحقيق
إحسان قاسم الصالحي
***
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تقديم
العالم الفاضل محمد فتح الله كولن
ترجمة: اورخان محمد علي
انني سعيد جداً لإتاحة الفرصة لي لكتابة كلمة تعريف لـ ”المثنوي العربي النوري” لبديع الزمان سعيد النورسي. فمن الواجب دراسة هذه الشخصية السامقة دراسة جدية وواسعة وتعريفها وتقديمها الى الانسانية جمعاء. ذلك لان “بديع الزمان سعيد النورسي” يقف في مقدمة صفوف مفكري هذا القرن من الذين قدموا وبشكل مؤثر ونقي ودون شوائب، العقيدة التي يعتنقها العالم الاسلامي وحياته الروحية العريضة، ومعاييره المعنوية الواسعة. ونحن لا نعتقد باننا نستطيع فهمه او فهم أفكاره ان اقتربنا منه ومن افكاره بشكل عاطفي، فمثل هذا الاسلوب لن يكون اسلوباً جدياً في فهم المسائل التي طرحها والتي دافع عنها طوال حياته دفاع الابطال، فقد كان طوال حياته انساناً يعيش تحت ظل الكتاب والسنة ويحلق باجنحة المنطق والتجربة، ومع عمق عالمه العاطفي، وقلبه المشبوب بالعشق الالهي فقد ظل على الدوام رجل عقل ومنطق.
لقد قيل وكتب الشئ الكثير حتى الآن عن سمو افكاره وعن فهمه لطبيعة عصره، وبساطته وروحه الانسانية الواسعة، وعن وفائه وارتباطه باصدقائه وعن عفته وتواضعه وزهده واستغنائه عن الجميع. ويمكننا ان نقول بان كل وصف من هذه الاوصاف المذكورة اعلاه يمكن ان يكون موضوع كتاب مستقل، وهي اوصاف طالما اهتم بها في كتبه وأكد عليها. ثم ان هناك العديد من الشهود الاحياء وهم طلابه الذين سعدوا بالعيش بقربه وتعرفوا على عمق عالمه الروحي وسعته.
ومع ان مظهره الخارجي كان متواضعاً جداً في غاية البساطة الا انه كان صاحب تفكير عميق وصاحب حركة نشطة وقوية قل نظيره. فقد قام باحتضان الانسانية كلها متناولاً مشاكلها الحيوية، ومتحدياً الكفر والضلال ومعلناً الحرب على الاستبداد وعلى الدكتاتورية، مسترخصاً روحه في سبيل وفائه وخلقه الشجاع، وكان استقباله الموت ببشاشة وبابتسام سلوكاً اعتيادياً عنده.
وبجانب مشاعره الانسانية الغنية فقد بقي في دعوته مرتبطاً بالكتاب والسنة مع الأخذ برقبة العقل والمنطق. لذا فقد تجلى في مظهره وسلوكه جانبان:
جانب العاطفةالمشبوبة الى درجة الوجد والعشق وصفة الرجولة والشجاعة.. ثم جانب رجل الفكر صاحب العقلية الفذة الذي يسبق معاصريه بنظراته الثاقبة وبخططه ومشاريعه الكبيرة.
ان فهم سعيد النورسي وفهم دعوته من هذه الزاوية يفيدنا في فهم معنى العصر الذي نعيش فيه.
وعلى الرغم من قيام البعض بتناسي هذا فان الحقيقة هي: ان سعيد النورسي عُد من افضل مفكري وكتاب جيله وعصره، واستطاع ان يكون قائداً للجماهير ومتحدثاً باسمها، ولكنه لم يُعجب بنفسه، ولم يهتم بالمظاهر. وبذل كل جهوده للابتعاد عن الشهرة والصيت لذا فالقول المأثور عنه “الشهرة عين الرياء وموت للقلب” ليس الا حكمة ذهبية واحدة من بين حكمه العديدة في هذا الموضوع.
لقد استطاع سعيد النورسي ان يكون - مع بضعة آخرين - في رأس قائمة الكُتاب والمفكرين في طول العالم الاسلامي وعرضه في القرن العشرين، وان تكون كتبه مقروءة بشوق وبحب من قبل مختلف المستويات وان يكون من الشخصيات التاريخية التي لا تبلى مع الزمن ولا تُنسى مع الايام.
ان جميع كتب بديع الزمان ومؤلفاته محصول لجهد فكري كبير في تفسير وتناول بعض الامور - المفتوحة للتفسير - من زاوية العصر الذي ولد فيه. وتستطيع ان تقرأ وتسمع في كتبه صرخات ألم الاناضول والعالم الاسلامي وأنينهما وكذلك اصوات البشائر وزغاريد امل الاناضول والعالم الاسلامي... صحيح انه ولد في قرية نائية من قرى احدى الولايات الشرقية في تركيا الا انه احس دائماً انه ابن الاناضول، واحس بنبض مشاعرنا كابن مرموق من ابناء اسطنبول، ولكنه في جميع الاحوال كان يضم البلاد كلها الى صدره بكل حنان وعطف ومحبة.
عاش بديع الزمان في فترة عاصفة سادت فيها الفلسفة المادية وانتشرت فيها الشيوعية انتشار النار في الهشيم... فترة ادلهمت فيها الخطوب وحَلُكَ فيها الظلام... في هذه الفترة العصيبة قام بديع الزمان بكتبه ومؤلفاته بنفخ روح الامل والايمان في انسان عصرنا المضطرب، وبارشاده الى طرق الايمان والامل. ونفخ في الجماهير في كل مكان زاره روح البعث بعد الموت والحركة بعد الجمود.
لقد راى بثاقب بصره ان اهم مشكلة يجب تناولها وحلها هي مشكلة الفوضى النابعة من الكفر والالحاد، لذا قضى حياته كلها وهو يؤكد لانسان عصرنا ضرورة معالجة هذا الداء، وصرف جهداً يفوق طاقة البشر في هذا الخصوص، فقد كان على وعي كامل بالمسؤولية الملقاة على عاتقه في هذا العالم الذي وجده يتلوى امامه من آلام الأزمات الخانقة والمشاكل المزمنة... وعندما تصدى لحمل هذا العبء الذي تشفق الجبال من حمله، تصدى لذلك بكل تواضع وحياء، ولكن بكل ثقة وبكل اطمئنان ايضاً بقدرة الله المطلقة وغناه اللامحدود.
أجل!... لقد عاش في الوقت الذي اصبح فيه العلم والفلسفة أداة لدفع الناس نحو الالحاد، وفي الوقت الذي تم فيه غسل الادمغة بالشيوعية، والذي كان يُنفى” فيه ويُهجّر من يرفع صوته ضد هذه السلبيات، من مدينة لمدينة ومن بلدة الى اخرى، إذ عاش الوطن فترة تهجير مخجلة. والاغرب من هذا ان كل هذه العمليات كانت تحدث باسم المدنية والمعاصرة... في اثناء تلك الايام السوداء التي انقلبت فيها المفاهيم حتى اصبحت الحركة الفوضوية حركة واسعة منتشرة تحمل سحراً وجاذبية... في تلك الايام انتصب بديع الزمان أمامنا يسلط الضوء على دخائل انفسنا وكأنه طبيب حاذق... يُرينا سجون أنفسنا... واغلال ارواحنا... جرائمنا وجناياتنا... قيامنا بأسر انفسنا بانفسنا... يسلط الضوء على الجوانب الانسانية الهامدة في اعماق ارواحنا وفي عوالم ضمائرنا... فأثار في قلوبنا الشوق الى السمو وبعث فيها نبض الحياة ودفق الامل... واوضح امام جميع الانظار ان في اعماقنا علاقة وصلة مع العوالم الاخرى وارتباطاً بها، ووهب لنا كل ثمرات المدارس والتكايا والزوايا وحلقات العلم والدراسة.
اجل! ففي عهد كانت الامة فيه تتقلب ألماً من السقوط ومن الضحالة الفكرية، والتي اصبحت فيه الآلام الاجتماعية عقدة مستعصية وظهرت كل يوم مئات من الحوادث المفزعة في كل ناحية من انحاء البلاد، وتهدمت كل المعايير والمفاهيم الاسلامية والملية واصبحت انقاضاً فوق انقاض... في مثل هذا العهد المظلم العاصف كان بديع الزمان يفكر ويبحث عن الحلول ويشخص الامراض ثم يكتب الوصفات لها كاي طبيب حاذق. لقد راى الاجيال البائسة وهي تئن تحت ثقل البلايا الهائلة التي افرزتها الاعوام الطويلة المظلمة، وكيف انها تاهت وظلت سبيلها في اودية الضلالة ودروب الالحاد. وكيف انها كلما ارادت الخلاص والنجاة انغرست في ازمات اسوأ وغرقت في مشاكل افظع... راى هذا واحس بآلام هذه الاجيال في أعماق روحه، فعاش حياته وهو في انفعال وفوران روحي يفكر ويبحث على الدوام ليقدم حلولاً بديلة للدولة وللمجتمع، وينبه هذه الامة البائسة ويذكّرها، انها وان كانت الآن تعيسة الحظ الا انها امة عريقة في المجد وغنية بالبطولات.
قام بديع الزمان منذ عهد الدولة العثمانية بالتجوال في معظم ارجاء البلاد... من مدنها الكبيرة الى قراها الصغيرة... ومن المناطق المزدحمة بالسكان الى المناطق النائية... راى الجهل ضارباً اطنابه في كل مكان، وراى الناس يتجرعون آلام الفقر... رآهم شيعاً واحزاباً يأكل بعضهم بعضاً... ارتعش فزعاً مما رآه، ولانه كان رجل فكر ونظر ثاقب ادرك طبيعة عصره وفهمها بعمق، لذا حاول ان يبث في الجماهير آنذاك روح العلم، واهتم باسباب المشاكل الاقتصادية وعوامل الفقر والحاجة، وبحث عن حلول لاسباب فرقة امتنا وعن علاج لخلافاتها، واكد دائماً على ضرورة الوحدة والاتفاق، وكان مع هذه الامة على الدوام، ولم يدعها وحيدة في تلك الايام العصيبة لحظة واحدة. وفي كل مكان وطئته قدماه كان يهتف بملء فيه: “ان لم تُعالج الآن هذه المشاكل المتداخلة بعضها في البعض الآخر، وان لم تُضمد هذه الجروح بايدٍ متخصصة ماهرة، فان امراضنا ستزمن وتستعصي على العلاج، لذا لابد من تشخيص كل مشاكلنا العلمية والاجتماعية والادارية، وتحليل كل عللنا المادية والمعنوية لوصف العلاج الشافي لها، اذ لابد من ايقاف هذه المشاكل وانهاء هذه العلل التي تقوض بنيتنا وتهدد بقاءنا وتهز قواعد واسس وجودنا”.
كان بديع الزمان يرى ان منبع جميع الشرور والسيئات آنذاك - كما هي الآن - هو الجهل والفقر والتشتت والاختلاف. أجل! لقد كان الجهل هو العامل الاول في الضائقات الاجتماعية والدافع الاول لبؤس الامة. ونعني بالجهل هنا الجهل بالله وعدم معرفة النبي “ص” وعدم المبالاة بالدين وعدم مشاهدة قوانا المادية والمعنوية والتاريخية... مثل هذا الجهل كان من اكبر المصائب والبلايا المسلطة على رؤوسنا، لذا صرف بديع الزمان عمره في محاربة هذه الجرثومة القاتلة، اذ راى انه مالم تجهز الجماهير بالعلم والمعرفة، وما لم يتعود المجتمع على التفكير المنظم، وما لم تُجابه تيارات الافكار المنحرفة فمن العبث الامل في خلاص هذه الامة.
... أجل! أليس الجهل هو السبب في انفصام الكون عن القرآن وانفصام القرآن عن الكون؟... انفصما فاصبح احدهما يتيماً في سجون الارواح المتعصبة التي لا تفهم اسرار الوجود ولا تدرك سر الاشياء والحوادث. وتحول الآخر الى حالة فوضى في يد اجهل الجهال الذين يبحثون عن كل شئ في المادة ولا يرون غيرها، وانطمست أعينهم وعميت عن رؤية المعاني.. ثم ألم يكن الجهل هو السبب في انسحاق هذه الامة تحت وطأة الفقر والحاجة على الرغم من اراضيها الخصبة وانهارها الفياضة وسهولها ومراعيها؟ أليس الجهل هو الذي جعلنا فقراء معدمين ومديونين بديون قاصمة للظهر مع وجود كل هذه المعادن النفيسة غير المستغلة تحت الارض في كل ارجاء بلادنا، ومع وجود كل اسباب الغنى والثروة سواءً منها المدفونة تحت الارض او الموجودة منها فوق سطحها؟
اجل! فمنذ اعوام طويلة كانت هذه المصيبة التي اذلت امتنا هي السبب في ان عمالنا وفلاحينا على الرغم من بذلهم كل طاقاتهم لا يحصلون على المقابل الحقيقي لجهودهم ولا على بركة هذ الشئ القليل في ايديهم وتمضي حياتهم في ضنك وفي ضيق ولا يعرفون طعماً للسعادة.
وكان من نتيجة هذا الجهل، وكذلك من نتيجة الفرقة - النابعة ايضاً من الجهل - اننا ابتلينا في اطراف عديدة من هذه الدنيا بصنوف من الظلم والذل والهوان والعلل، فسالت الدماء واغتصبت الاعراض، ومع ذلك فقد فشلنا - في هذه الدنيا التي تتقلب فيها اوضاع التوازن الدولي - ان نخلص انفسنا من قبضة الخلاف والانقسام والتشتت لكي نوقف هذه المآسي والفواجع، ولا نستطيع مدّ يد العون الى العالم الاسلامي ولا نستطيع الارتفاع الى مستوى العصر في حل مشاكله المستمرة في التفاقم والتي تجره الى مهاوٍ خطرة ومزالق رهيبة. وبينما تتلوى الامة جميعها في شباك هذه الامراض والعلل المهلكة، نرى ان قسماً من الذين سكرت وثملت ارواحهم وانبهرت ابصارهم بتقدم الغرب المادي الظاهري بدلاً من ملء ادمغتهم بالعلوم وقلوبهم بالحقائق الدينية للوصول الى الغنى المادي والمعنوي فانهم فضلوا التعامي عن كل قيمنا الدينية والملية الحيوية التي هي مصادر قوتنا وعوامل منعتنا وتناسوها، وفضلوا السير في طريق التقليد الاعمى الذي يسلب الشعب وجماهير الامة كل سجية دينية او ملية، ومن كل وعي بالتاريخ ومن كل فضيلة وميزة اخلاقية. وفي نظري ان هذا الطريق الذي سُلك بهدف انقاذ الامة كان طريقاً خاطئاً وضاراً وفتح في صدر الامة وروحها جروحاً لا تلتئم.
ففي الحالة الاولى عاش انساننا لسنوات طويلة في كابوس مرعب، وفي الحالة الثانية خسرنا كل فضائلنا الملية واصالتنا الروحية ومصادر قوتنا الدافعة.
تصدى بديع الزمان منذ بداية حياته وحتى انتقاله في مدينة “اورفة” الى الرفيق الاعلى لكلا هذين الفريقين ولطرق سلوكهم ومعالجتهم للامور، ولكل النتائج الوخيمة التي افرزتها طرق المعالجة الخاطئة هذه، وفتح بمبضع الطبيب الجراح قيح وصديد قرن كامل، وشخص المصائب والبلايا التي انتجها هذا القيح وهذا الصديد، ثم اشار الى الدواء الناجع والعلاج الشافي لينقذ انسان هذه الامة من السقوط والضياع. لقد ظل بديع الزمان اميناً طوال حياته لمبادئه هذه التي كرر بكل اخلاص وتفانٍ ووفاء ذكرها وتقديمها على الدوام.
ان ادخال افكار جديدة وترسيخها في ذاكرة المجتمع وفي فكرها امر شاق ومهمة صعبة كصعوبة قلع الافكار والمبادئ والقيم المتوارثة - صحيحة كانت ام خاطئة - من الماضي التي ترسخت في داخل المجتمع حتى اصبحت تجرى في عروقه مجرى الدم. ولاشك ان الجماهير بقيت تحت تأثير مثل هذه الافكار المنتقلة اليها من الماضي - سواءً أكانت هذه الافكار صالحة ام طالحة - حيث ادّت هذه الافكار والاراء دوراً مهماً في تشكيل حياتها الاجتماعية والفردية وتوجيهها، واصبحت هذه الجماهير تشعر بالنفور من كل فكر لا يتماشى” مع هذه الافكار المعتادة ولا يتلائم مع المشاعر والعواطف العامة، وتحاول الابتعاد عنها. ان مثل هذا الشعور ومثل هذا التصرف يكون خاطئاً في بعض الاحيان. ذلك لانه في حالة تبني الجماهير لافكار خاطئة وعادات سيئة وتقاليد ضارة وتجذّر هذه الافكار والعادات والتقاليد في بنيتها وتسللها الى مختلف جوانب حياتها فان من الضروري التصدي لهذه الافكار المنحرفة والقناعات الخاطئة ومحاربتها وتصفيتها من الاذهان وتخليتها من القلوب وتحليتها بالخصال الحميدة لكي تستطيع الامة السير بأمان وثقة نحو المستقبل.
لقد حمل بديع الزمان هذه الافكار منذ شبابه المبكر. وعدّ اخفاء اي حقيقة في هذا الموضوع - مهما كانت صغيرة او جزئية - خيانة لامته ولابناء امته. لذا وقف امام كل الافكار وكل القرارات الخاطئة رافعاً يديه الى اعلى مشيراً بهما اشارة التحذير وهاتفاً بكل قوته: “احذروا!... هذا طريق مسدود”.
كانت فطرته حساسة جداً ضد ما يناقض القيم الدينية، مع نظرة بعيدة المدى وهمة عالية لا توجد الا عند اولي العزم من الرجال. فصاحب قلب شجاع مثله، ما كان ليستطيع ألاّ يحرك ساكناً وهو يشاهد اضمحلال امة عريقة مجيدة وذوبانها، لذا لم يدخر وسعاً في توجيه الانظار الى عيوبنا كأمة والى اعمق اسباب الهلاك والاضمحلال وأدقها، لتقوم الامة بمحاسبة نفسها ومحاكمة ذاتها. لقد ذكّرها مراراً وتكراراً بعوامل الانقراض والفناء وقدم اليها وصفات النجاة والخلاص دون ان يخفي عنها امرّ الحقائق واكثرها ايلاماً للنفس، ودون ان يتردد في هذا اي تردد، لذا فقد واجه القناعات الخاطئة والافكار المتعفنة وناضل طوال حياته ضد كل الموانع التي تمنع انتشار انوار الحقيقة.
في تلك الايام الحالكة السواد التي لم يكن هناك من يتجرأ على التفوه باي شي حول الحقائق الدينية، قام هو بايقاظ الجماهير التي اريد تخديرها وتنويمها فأعلن الحرب على الجهل والفقر والفرقة، وهز اركان الاوهام الكثيرة المختلفة التي احاطت بالمجتمع، فكما أعلن حرباً ضروسة ضد الالحاد وانكار الخالق، فقد اغرق الاباطيل والخرافات في تناقضاتها وسد الابواب امامها. وبشجاعة منقطعة النظير قام بتشريح مشاكلنا وعللنا المزمنة منذ عدة عصور وقدم طرق علاجها والشفاء منها.
ولقد قام بعملية كيّ للرياء وللمظاهر الكاذبة المستشرية عندنا منذ ما يقارب مئتي سنة ذلك لان “آخر الدواء الكيّ”. وذكر اموراً جديدة وجدت صداها في النفوس بدءً من رجال قصر السلطان وانتهاءً الى رؤساء العشائر في الولايات الشرقية، ومن منتسبي المشيخة الاسلامية الى رئاسة اركان حرب القوات المسلحة، فجمع انظار جميع طبقات الشعب اليه، ومع انه كان يتجنب الظهور والشهرة بطبيعته، الا ان طبيعة الامور كانت تؤدي الى هذه النتيجة.
نبه بديع الزمان جميع مستويات الشعب وطبقاته بان عليها اولاً كسر اغلال روحها قبل ان تجرد السيف من الغمد للجهاد، وبشر الشباب ببعث جديد للحياة فدلهم على الطرق المؤدية للفكر الاسلامي. ومما لاشك فيه انه كان يخشى من تمزق الوطن من الناحية الجغرافية وانقسامه وتقلصه خشية شديدة ولكنه كان يخشى اكثر من العوامل التي تودي الى هذه النتيجة المفجعة بضمور الافكار وسفالة الروح والتقليد الاعمى للغرب.
دعا بديع الزمان الى القراءة والمطالعة والتفكر والى السعي والحركة لينقذ افراد الامة من ضنك العزلة وليشكل مجتمعاً سليماً معافىً وامة متينة البنية، وأكد على التعليم الذي رآه ضرورة قصوى لرفع الوطن وانسان هذا الوطن الى الذروة التي اشار اليها... فدعا الى طبع الكتب ونشرها، والى نشر المعارف بكل اشكالها في كل مكان والى نشر التعليم والتربية، اذ كان يرى اشتراك المساجد والمدارس الدينية ومعسكرات الجنود والسجون وكافة مرافق المجتمع في تعبئة عامة للتعليم، فبالمعارف وحدها يمكن تحقيق الوحدة العقلية والفكرية، إذ كان يرى ان العقول ان لم تتآلف مع بعضها اولاً فلا يمكنها ان تقطع معاً شوطاً كبيراً في الطريق. ويجب ان تتحد الضمائر والمشاعر اولاً لكي تتحد القلوب والايدي فيما بعد. والطريق الى مثل هذه الوحدة يكون بتناول الحياة حسب مبادئ الدين وقيمه، وحسب الكتاب والسنة وطريق السلف الصالح واجتهادهم، على ان تفسر الامور الجديدة والمستحدثة حسب ادراك العصر وضرورته.
اجل!... لابد ان يتعرف الانسان على ما جلبه العصر من المعاني والتفسيرات وان يؤسس السلام معها. فان انزوينا وتقوقعنا على انفسنا في الوقت الذي تنطلق فيه الدنيا في طريقها وفي سبيلها فان هذا يعني الموت بالنسبة الينا. فمن اراد عيش الحياة الحالية فان عليه ان يجد الطريقة التي يستطيع بها تأسيس التناغم والملائمة بين شلالات الحياة المنطلقة وبين ارادته وسعيه. والا فان مقاومة تيار الكون العام لا يؤدي الا الى تلف المقاوم وفنائه.
لو ان بديع الزمان حظي بدعم بضع مئات من المثقفين وهو ينشر رسائله في ارجاء البلاد ووجد منهم سنداً لأفكاره فلربما كنا من اغنى الامم واكثرها مدنية، ومن اقدرها على حل المشاكل التي تعرض لها، ولكنا دخلنا المرحلة الحالية منذ ذلك الوقت، اي منذ بداية القرن العشرين، ولما جابهتنا المشاكل الحالية العديدة. ومع كل هذا فنحن نحمل املاً كبيراً، لاننا نرى ان الذين ينظرون الى امتنا وكأنها فقدت كل جذورها المعنوية هم على خطأ كبير... صحيح اننا تأخرنا مثل غيرنا من الامم الاخرى وضعفنا إذ ليس في وسع احد إنكار هذا، ولكن ليس في وسع احد ايضاً ان ينفي قدرتنا على النهوض ومتابعة التقدم مرة ثانية، فلقد بدت انوار اليقظة والانتباه تلتمع في ارواحنا كأمة بدلاً من روح الكسل والخمود، إذ بدأ دفء الحياة ونبض النشاط والحيوية يتسلل الى ارواحنا التي كانت قد ضعفت نتيجة الميل الى الكسل والاخلاد الى الارض، اذن فلا شك ان ايام الربيع المشرقة الخضراء على الابواب. غير اننا في انتظار ابطال من امثال “الخضر” ليفرش سجادة الصلاة على سفوحنا وامثال “الياس” لينشر شراعه نحو الافاق البعيدة دون خوف أو وجل... كان بديع الزمان معْلَما في هذا الامر.
يقال “لا خيار للعبقرية” اي ان العبقري لا يقول: “ساعمل هذا ولا اعمل ذاك” ولا يصدر حكما ان “نعمل كذا لانه مفيد ولا نعمل ذاك لانه ضار” ذلك لان الشخص العبقري يملك موهبة الهية وقوة دافعة ذاتية “لدنية” وشوقاً يستطيع بها معرفة كل الحاجات الظاهرة او الباطنة، الروحية منها والاجتماعية وان يحتضنها، ويتصدى بقوة وطاقة متعددة الأوجه التي خزنها في روحه لحمل عبء وظائف عديدة. فهو بهذه الاوصاف شخص خارق بطبيعته وفطرته. والذين دققوا شخصية بديع الزمان والكتب التي تركها وراءه يرون اجتماع جميع عناصر العبقرية وصفاتها فيه، فهو اعتباراً من سنوات شبابه التي قدم فيها للناس حوله كتبه الاولى التي تعد من اولى علامات عبقريته ووصولاً الى كتب مرحلة النضوج والتكامل والتي قضاها في المحاكم والسجون والمنفى... في كل هذه الكتب نرى انه حافظ على مستوى القمة والذروة وتحدث دائماً حديث شخص عبقري ذي قابليات غير اعتيادية.
كان كتاب “المثنوي” من اوائل كتبه: لذا نجد وجود جذور افكاره هنا، فكل فكرة في هذا الكتاب - التي كانت مثل جنين او برعم او وريقة او نبتة صغيرة او كقطرة من قطرات فكره النير - اصبحت فيما بعد نهراً متدفقاً وشلالاً هادراً او بستاناً عبق الارجاء بالورود او كغابة سامقة الاشجار ملتفة الاغصان والاوراق، حركت الجوانب الايمانية والفكرية والمشاعر الرقيقة لاصدقائه وأثارتها، وقذفت في قلوب اعدائه الرعب والفزع.
من اوائل انفاسه التي نفخها في ارواحنا فاثارتها والى قلوبنا فرسمت فيها معاني جديدة ملونة وبراقة وحفرت فيها خطوطاً مضيئة، نقدم بعض الامثلة بمثابة قطرة من بحر او لمعة من شمس او مسحة من عالم الوجود انعكست في مشاعرنا ووجدت هناك صداها:
ان اكبر حقيقة في الدنيا، في راى بديع الزمان - وفي رأى كل المفكرين المسلمين - هي حقيقة الايمان وحقيقة التوحيد. فالوجود كله - في منظومة تفكير بديع الزمان - ليس الا مثل آلة نسيج تنسج حقيقة التوحيد. وتنقش المعاني الالهية نقشة نقشة وزخرفة زخرفه، وتنسج لوحات بديعة. ان الاحساس بكون هذه الحقيقة ذات ماهية شاملة تستوعب الغاية الالهية وتتداخل ضمن ادق الفروع واصغرها، وتفسيرها حسب المعرفة الالهية، ليس الا ظهور لحقيقة التوحيد، وهو مفهوم التوحيد لدى العامة قبل الدخول في التفاصيل المؤدية الى اليقين.
اجل! “انّ التوحيد توحيدان:
الاول: توحيد عامي يقول: “لاشريك له، ليست هذه الكائنات لغيره” فيمكن تداخل الغفلات بل الضلالات في افكار صاحبه.
والثاني: توحيد حقيقي يقول: “هو الله وحدَه له الملك، وله الكون، له كل شئ””.
واصحاب مثل هذا الايمان يملكون عقيدة راسخة لا تهتز، إذ يرون سكة الله سبحانه وتعالى فوق كل شئ، ويقرأون ختمه على جبين كل شئ.
وقد تناول بديع الزمان هذا الموضوع فيما بعد بشكل مفصل في المقام الثاني من الكلمة العشرين، وقدمه في قالب وفي شكل درس توحيد كامل يشبع حاجة كل انسان مهما كان مستواه الثقافي والعقلي.
ومن اهم المواضيع التي اهتم بها بديع الزمان هو شرحه كيف ان الايمان يُعد منشوراً يحلل الابعاد الحقيقية لماهية الوجود والانسان، فهو يرى ان الكون اصبح بفضل الايمان كتاباً يمكن قراءته ومعرضاً يمكن مشاهدته، اما الانسان فهو لب هذا العالم وجوهره حيث “تحولت حركات الكائنات وتنوعاتها وتغيراتها من العبثية والمهملية وملعبة التصادف الى صيرورتها مكتوبات ربانية وصحائف آيات تكوينية ومرايا اسماءٍ إلهية، حتى ترقى العالمُ وصار كتاب الحكمة الصمدانية.
وانظر الى الانسان كيف ترقى من حضيض الحيوانية العاجزة الفقيرة الذليلة الى اوج الخلافة، بقوة ضعفه، وقدرة عجزه، وسَوق فقره، وشوق فاقته، وشوكة عبوديته، وشعلة قلبه وحشمة ايمان عقله. ثم انظر كيف صارت اسبابُ سقوطه من العجز والفقر والعقل اسبابَ صعوده”.
كما تم شرح هذا الموضوع وتفصيله في النقطة الاولى والثانية في الكلمة الثالثة والعشرين من رسائل النور ليناسب فهم واستيعاب كل إنسان في مختلف المستويات.
ويرى بديع الزمان ايضاً بان المسائل المتعلقة بحقيقة الايمان وان بدت مختلفة الواحدة عن الاخرى - ان نظرنا اليها من زوايا مختلفة - الا انها مرتبطة الواحدة بالاخرى ارتباطاً وثيقاً وهى بمثابة اوجه متعددة لحقيقة واحدة “اعلم! ان بين الايمان بالله والايمان بالنبيّ والايمان بالحشر والتصديق بوجود الكائنات تلازماً قطعياً وارتباطاً للتلازم في نفس الامر بين وجوب الالوهية وثبوت الرسالة ووجود الآخرة وشهود الكائنات بدون غفلة” وفي فترة رسائل النور الخصبة نرى في المسألة التاسعة للشعاع الحادي عشر بحثاً اصيلاً ومهماً جداً حول ترابط أركان الايمان وتلازمها فيما بينها.
من اهم الملاحظات التي قدمها بديع الزمان هي ان من يعمل في ساحة الفلسفة والعلوم العقلية دون ان يفتح نوافذ نفسه على عالم الروح والقلب لن يكون الا فيروساً ينقل الامراض، ولن يكون هو نفسه الا علامة من علامات المرض والسقم.
“قد شاهدتُ ازدياد العلم الفلسفي في أزديادِ المرض، كما رأيت ازدياد المرض في ازدياد العلم العقلي. فالامراض المعنوية توصِلُ الى علوم عقلية، كما ان العلوم العقلية تولّد امراضاً قلبية”.
واليكم تشخيصاً وملاحظة أصيلة وقيّمة اخرى لبديع الزمان. اذ يقول بان مراعاة الاسباب مع كونها من ضمن مسؤوليات الانسان الا ان من الضلالة الواضحة والانحراف البين اعطاء تأثير حقيقي لها، فبعد مراعاة الاسباب يجب العلم ان النتائج تأتي من قبل الله تعالى.
“ان التعلق بالاسباب سببُ الذلّة والاهانة. ألا ترى ان الكلب قد اشتهر بعَشرِ صفاتٍ حسنة، حتى صارت صداقتهُ ووفاؤه تُضربُ بهما الامثال؟!.. فمن شأنه ان يكون بين الناس مباركاً. ففضلاً من المباركية ينزل على رأس المسكين من طرف الانسان ضربةُ الاهانة بالتنجيس؛ مع ان الدجاجة والبقر حتى السنّور، الذين ليس فيهم حسّ شكرانٍ وصداقةٍ في مقابلة احسانِ البشر، يُشرَّفون بين الناس بالمباركية. اقول - بشرط ان لاينكسر قلب الكلب ولايصير غيبةً - إن سببه: أن الكلب بسبب مرض الحرص اهتم بالسبب الظاهري، بدرجةٍ أغفَلته بجهةٍ عن المُنعمِ الحقيقي، فتوهَّم الواسطة مؤثرةً. فذاق جزاءَ غفلته بالتنجيس، فَتَطهّر.. وأكل ضربَ الاهانة كفارةً للغفلة، فانتَبه!. اما سائر الحيوانات المباركة فلا يعرفون الوسائط ولا يقيمون لها وزناً، او يقيمون لها وزناً خفيفاً. مثلاً: ان السنّور يتضرع حتى يأخذ الاحسان، فاذا اخذ فكأنه لايعرفك ولاتعرفه. ولايحس في نفسه شكراناً لك. بل انما يشكر المنعم الحقيقي بـ: يارحيم.. يارحيم.. يارحيم.. فقط؛ اذ الفطرة تعرف صانعَها وتعبدهُ شعورياً وغير شعوري..”
ثم نراه يتناول هذا الموضوع من زاوية مختلفة في الغصن الاول من الكلمة الرابعة والعشرين، وهو تناول لطيف يقدم لافكارنا وعواطفنا ملاحظات مهمة.
من المواضيع التي وقف عندها الاستاذ باصرار وباهتمام موضوع اتباع السنة النبوية السنية في جميع مسالك الحياة ومظاهرها، فهو - مثله في ذلك مثل جميع علماء اهل السنة والجماعة - يرى في الرسول “ص” مرشداً لا يضل ولا يُضِل، ويرى في السنة النبوية الطريق الوحيد الى سعادة الدنيا والآخرة، لذا فهو يدعونا على الدوام للتمسك بها والعض عليها بالنواجذ.
أجل! ان كل رحلة حياة لم تسترشد بالسنة النبوية تشبه الوقوع في دوامة نهر، فمع ان الشخص الواقع فيها يبدو وكأنه يسبح ويقطع مسافة الا انه في الحقيقة واقع في دوامة مهلكة “اعلم! اني شاهدت في سيري في الظلمات، السنن السنية نجوماًَ ومصابيح، كل سنة، وكل حدّ شرعي يتلمع بين مالا يحصر من الطرق المظلمة المضلة، وبالانحراف عن السنة يصير المرء لعبة الشياطين، ومركب الاوهام، ومعرض الاهوال، ومطية الاثقال - امثال الجبال - التي تحملها السنةُ عنه لو اتبعها.
وشاهدت السنن كالحبال المتدلية من السماء، من استمسك ولو بجزئي استصعد واستسعد، ورأيت من خالفها واعتمد على العقل الدائر بين الناس، كمن يريد أن يبلغ اسباب السماوات بالوسائل الارضية فيتحمق كما تحمّق فرعون بـ”يا هامان ابن لي صرحاً””
ومن ارائه الأصيلة فيما يتعلق بعلاقاتنا مع الدنيا وزاوية نظرتنا اليها هي عدم وجود ما يدعو الى كرهها، بل يقول ان من الواجب حبها حيث يورد الاسس التي يقيم عليها هذا الحب وهي: “ان الدنيا لها وجوه ثلاثة: وجه: ينظر الى اسماء الله.
ووجه: هو مزرعة الآخرة.. فهذان الوجهان حَسنان.
والوجه الثالث: الدنيا في ذاتها بالمعنى الاسمي، مدار للهوسات الانسانية ومطالب الحياة الفانية”.
وبعد صفحات يتناول هذا الموضوع من زاوية اخرى ويعبر عنه بهذه الكلمات “يرجع الى الحي من ثمرات الحياة وغاياتها بمقدار درجة مالكية الحي للحياة وتصرفه الحقيقي فيها. ثم سائر الثمرات والغايات راجعة الى المحيي جل جلاله بالمظهرية لتجليات اسمائه، وباظهار الوان وانواع جلوات رحمته في جنته في الحياة الاخروية التي هي ثمرات بذور هذه الحياة الدنيوية وهكذا..
اذ كما ان الشخص الموظف لأن يجس ويضع اصبعه عند اللزوم على الجهازات التي تتحرك بها السفينة العظيمة للسلطان، لايرجع اليه من فوائد السفينة الا بمقدار علاقته وخدمته، اي من الالوف واحداً.. كذلك درجة تصرّف كل حي في سفينة وجوده. بل هناك يمكن ان يستحق من الالوف واحداً، لكن لايستحق بالذات هنا من ملايين ملايين واحداً ايضاً..”
وقناعة اخرى له... فهو يقول انه يجب عدم النظر الى الاشخاص من وراء منظار مكبر اي عدم اعطاء صورة لاي انسان اكبر من حقيقته، فهذا ظلم اولاً وخطوة اولى نحو الوثنية ثانياً، والمرء الذي يخطو هذه الخطوة الاولى قد لا يستطيع فيما بعد التراجع عنها “ان من اشد ظلم البشر اعطاء ثمرات مساعي الجماعة لشخصٍ، وتوهم صدورها منه، فيتولد من هذا الظلم شركٌ خفيٌ؛ اذ توهّم صدور محصّل كسب الجماعة، وأثَر جُزئهم الاختياري من شخصٍ، لايمكن الاّ بتصور ذلك الشخص ذا قدرة خارقة ترقت الى درجة الايجاد، وما آلهة اليونانيين والوثنيين، الاّ تولدت من امثال هذه التصورات الظالمة الشيطانية..”
وتشخيص آخر له، إذ يقول ان عداء الكفار للمسلمين هو من موجبات الكفر، وهذا العداء يرجع الى عهود ما قبل التاريخ. لذا فليس في الامكان إرضاء الكفار. اما الاستفادة منهم فمن رابع المستحيلات “ان الكفار لاسيما الاوربائيون ولاسيما شياطين في انكلترة واباليس الفرنك، اعداءٌ الدّاء، وخصماء معاندون ابداً للمسلمين واهل القرآن.. بسر: ان القرآن حَكَم على مُنكر القرآن والاسلام وعلى آبائهم واجدادهم بالاعدام الابدي، فهم محكومون بالاعدام ابداً، والحبس في جهنم سرمداً بنصوص ذلك القرآن الحكيم. فيا اهل القرآن كيف توالون مَن لايمكن ان يوالوكم او يحبوكم ابداً؟..”
ثم نراه يبدي لنا هذه الاراء في مواضيع متفرقة: ان الايمان منبع سري للطاقة وللقوة، والذي يملك في يده هذا المنبع يستطيع حجز العوالم ويستطيع ان يسحر كل شئ ويربطه به.... أجل! “مَن كان لله تعالى كان له كل شئ، ومَن لم يكن له كان عليه كل شئ، والكون له بترك الكل له والاذعان بأن الكلّ مالُه.. وهو الذي فطرك بصورة احاطت بك دوائرُ متداخلة من الحاجات وجهّزك في اصغرها التي نصف قطرها مدّ يدك باقتدار واختيار. وجهّزك في البواقي التي وُسعت بعضها كما بين الازل والابد والفرش والعرش بالدعاء فقط.. وفي التنزيل قُل مَا يَعبؤا بِكُم ربي لَولاَ دُعاؤكم فالصبي ينادي ابويه فيما لاتصل يدهُ اليه؛ فالعبد يدعو ربَّه فيما عجز عنه”.
ان فخر الكائنات وخاتم الرسل “ص” هو اساس الوجود وخلاصته وخميرته، فليس هناك موضع في الكون يخلو من حقيقة نوره. فمثله كمثل نواة بذرة شجرة باسقة تضم كل خصائص تلك الشجرة. فنوره اساس للوجود ومرآة تجليات الاول والآخر. أجل! “انه بينما ترى العالم كتاباً كبيراً ترى نور محمد “عليه الصلاة والسلام” مداد قلم الكاتب.. وبينما ترى العالَم يلبس صورةَ الشجرة ترى نورَه “عليه الصلاة والسلام” نواتها أولاً، وثمرتها ثانياً.. وبينما ترى العالم يلبس جسم الحيوان ترى نوره “عليه الصلاة والسلام” روحه.. وبينما ترى العالم تحوّل انساناً كبيراً ترى نوره “عليه الصلاة والسلام” عقله.. وبينما ترى العالم حديقةً مزهرةً ترى نوره “عليه الصلاة والسلام” عندليبه.. وبينما ترى العالم قصراً مزيناً عالياً ذا سرادقات تتظاهر فيها شعشعة سلطنة سلطان الازل وخوارق حشمته، ومحاسن تجليات جماله، ونقوش خوارق صنعته، اذاً ترى نوره “عليه الصلاة والسلام” نظّاراً يرى لنفسه أولاً، ثم ينادي بيا ايها الناس تعالوا الى هذه المناظر النزيهة، وحَيهلوا على مالَكُم فيه شئ من المحبة والحيرة والتنزه والتقدير، والتنور والتفكر ومالايحد من المطالب العالية. ويريها الناس، ويشاهِد ويشهَد لهم.. يتحير ويُحيِّرهم.. يُحب ويُحبِّبُ مالِكه اليهم.. يستضيئ ويُضئ لهم.. يستفيض ويفيض عليهم..”
ويتناول الاساس الثالث للكلمة الحادية والثلاثين وكذلك الذيل الثاني للكلمة العاشرة هذا الموضوع القيم بعمق وبشكل غني وثري ويبسطه أمام اعين وبصائر قلوبنا.
والاستاذ بديع الزمان يرى ان ماهية طبيعة الانسان لها وجهان: وجه صنم خادع من جهة، ومنشور حافل بالاسرار يعكس الحقيقة اللانهائية وأثر صانعه وخالقه. أجل فالذي له استعداد معنوي وقابلية روحية، والذي استطاع ان يمسك بزاوية النظر الصحيحة يدرك ان الانسان صنعة مزخرفة ومنشور بلوري وهو كتاب لا يضل قارؤه، وخطيب بليغ ومنبع نور يضئ ما وراء استار الاشياء ويكشفها. وهو يسوق ملاحظاته هذه بالكلمات التالية التي تبدو وكأنها أنشودة رائعة:
“ان هذه ثلاثون سنة لي مجادلة مع طاغوتين وهما: “انا” في الانسان، و”الطبيعة” في العالم..
اما هذا، فرأيته مرآةً ظلياً حرفياً. لكن نظر الانسانُ اليه نظراً اسمياً قصدياً بالاصالة، فتفرعن عليه وتَنَمرَدَ.
واما هذه، فرأيتها صنعة الهيّة وصبغة رحمانية.. لكن نظرَ البشرُ اليها بنظر الغفلة فتحولت لهم “طبيعة” فتألّهتْ عند مادييهم. فأنشأتْ كفران النِعَم المنجرّ الى الكفر.
فللّه الشكر والحمد وبتوفيق الاحد الصمد وبفيض القرآن المجيد انتجت المجادلة قتل الطاغوتين وكسر الصنمين”.
وفي عهد تكامل رسائل النور نجد هذا الموضوع الحافل بالاسرار مشروحاً بشكل مفصل وواسع وغني في المقصد الاول من الكلمة الثلاثين، وكذلك في اللمعة الثالثة والعشرين، حيث يهدم اركان فكرة عبادة الطبيعة ويقوضها من اساسها ويقتلعها من جذورها.
في منظومة فكر بديع الزمان نجد ان الذنوب والمعاصي عنده بمثابة المرشدين والدالين على طريق الكفر، ففي المواضع التي يكثر فيها هؤلاء يتجه شراع الفكر نحو الفسق وتحيط الأخطار بالايمان. أجل! “ان في ماهية المعصية - لاسيما اذا استمرت وكثرت - بذر الكفر.. اذ المعصية تولد الُفةً معها وابتلاء بها، بل تصير داءً، دواؤها الدائمى نفسها، فيتعذر تركُها. فيتمنى صاحبُها عدَم عقابٍ عليها، ويتحرى بلا شعور ما يدل على عدم العذاب، فتستمر هذه الحال حتى تنجر الى انكار العذاب وردّ دار العقاب”.
وفي عهد توسع وتطور مؤلفاته نجد هذا الموضوع في النكتة الاولى من اللمعة الثانية حيث يقول بان المعاصي تشكل مصائد وشباك طريق الكفر... وهذه ملاحظة أصيلة في الحقيقة.
لقد كان الاشتغال بالقرآن الكريم والتعمق في فهمه الشغل الشاغل لهذه العقلية النيرة، فاعتباراً من “اشارات الاعجاز” الى “المثنوي” الى الكلمات المختلفة في كتابه “الكلمات” ولا سيما الكلمة الخامسة والعشرون نراه يتنفس القرآن في كل كلمة ويأتي بتفاسير جديدة وأصيلة وعميقة، ثم يعرض هذه المعاني الالهية المستنزلة الى مستوى المدارك الانسانية امام العيون الباحثة والقلوب الظمأى” للحقائق فيثير وجداننا بافكاره الذهبية التي تعكس ارتفاع هذه المعاني الى ذروة المدارك الانسانية “انه جمع السلاسة الرائقة، والسلامة الفائقة، والتساند المتين، والتناسب الرصين، والتعاون بين الجمل وهيئاتها، والتجاوب بين الآيات ومقاصدها بشهادة علم البيان وعلم المعاني مع انه نزل في عشرين سنة منجماً لمواقع الحاجات نزولاً متفرقاً متقاطعاً بتلائمٍ كأنه نزل دفعةً.. ولاسباب نزولٍ مختلفة متباينة مع كمال التساند، كأن السبب واحدٌ.. وجاء جواباً لاسئلة مكررة متفاوتة، مع نهاية الامتزاج والاتحاد، كأن السؤال واحدٌ.. وجاء بياناً لحادثات احكامٍ متعددة متغايرة، مع كمال الانتظام كأن الحادثة واحدة.. ونزل متضمناً لتنزلات إلهية في اساليب تناسب افهام المخاطبين، لاسيما، المنزَل عليه “عليه السلام” بحالات في التلقي متنوعة متخالفة، مع غاية التماثل والسلاسة، كأن الحالة واحدة.. وجاء متكلماً متوجهاً الى اصناف مخاطبين متعددة متباعدة، مع سهولة البيان وجزالة النظام ووضوح الافهام كأن المخاطب واحد، بحيث يظن كلُ صنف كأنه المخاطب بالاصالة.. ونزل مهدياً وموصلاً لغايات ارشادية متدرجة متفاوتة، مع كمال الاستقامة والنظام والموازنة كأن المقصد واحد؛ تدور تلك المقاصد والغايات على الاقطاب الاربعة: وهي “التوحيد، والنبوة، والحشر، والعدالة”. فبسر امتلائه من التوحيد، التأم وامتزج وانتظم واتحد.
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 03-23-2011
  #2
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: المثنوي العربي النوري - المقدمات والتقديم

ومن كان له عين في بصيرته، يرى في التنزيل عيناً ترى كل الكون، كصحيفة مبصرة واضحة.. وقد جاء مكرراً ليقرّر.. ومردّداً ليحقق قصصاً واحكاماً. مع انه لايُملُّ تكرارهُ، ولايُزيل عَوْدهُ ذَوْقَه ولايُسئمُ تردادهُ. كلما كرّر حقّق وقرّر، بل ما كررته تحلو وتفوحُ انفاسُ الرحمن منه “ان المسك ماكررته يتضوّع”. وكلما استعدتَه استَلذْتَه؛ ان كان لك ذوق سليم بقلب غير سقيم. والسر فيه: انه قُوتٌ وغذاءٌ للقلوب، وقوة وشفاء للارواح. والقوت لايُملُّ تكرارهُ.. فمألوفه آأنس وألذ، خلاف التفكّه الذي لذتُه في تجدده، وسآمتهُ في تكرره”.
ويصل تحليل هذا الموضوع في الكلمة الخامسة والعشرين الى مرتبة جذابة وساحرة، فما كان هنا قطرة يصبح هناك بحراً واسعاً، وما كان هنا نبتة صغيرة يصبح هناك غابة كثيفة.
وبعد هذا التذكير القصير في “ المثنوي”... بعد صفحات قليلة فقط نراه يعرض علينا موضوعاً قرآنياً غاية في الروعة عرضاً موجزاً.
“انك اذا استمعت القرآن فألبس لكلّ نغمةٍ من نغماتهِ المتطوّرة على الحُجُب، والمتنوعة في المراتب الارشادية، والمنصبغة بحسيات الوسائط، من جبرائيل عليه السلام الى من تسمع منه، مايناسبها.
فلك ان تَمُرّ بسمعك من القارئ في مجلسك الى الاستماع من النبيِّ “ص” الذي يقرأُه في ذروة شاهق النبوة في مجلس الارض على ابنائها من بني آدم وغيرهم.
ولك ايضاً ان تستمع من جبرائيل وهو يخاطب النبيَّ في الافق الاعلى “عليهما الصلاة والسلام”.
ولك ان تستمع من خلف سبعين الف حجابٍ من المتكلم الأزلي، وهو يتكلم مع النبي في قاب قوسين او ادنى. فألبسْ ان استطعتَ لكلٍّ ما يليقُ به!..”
وكتاب “المثنوي” يعد في الحقيقة معرضاً لمواضيع واسعة جليلة، وفهرساً لها... يمكن ان يؤلف حول كل واحد منها كتاباً خاصاً... هذه المواضيع التي تناولها بالشرح والتفصيل فيما بعد في رسائل النور في مختلف اجزائها.
فما اهم وما اعظم تلك الحقائق التي تناولها تحت عنوان “زهرة” باختصار وضمها فيما بعد الى رسائل النور!.
ورسالة “ذرة” تعد مثل نبتة صغيرة للتقوى والعمل الصالح. فهناك يتم استجواب رغباتنا ومشاعرنا الدنيوية، وتُنفخ فكرة التوحيد لاذهاننا ويُعرض الايمان الشامل المترامي الاطراف امام الانظار.
اما رسالة “شمة” فتمس القلوب مثل طيف رقيق، حيث تعرض امام الانظار ان غنى الايات وعمق معانيها لا يمكن مقارنتها بالشعر، وتقف امام غايات خلق اعضاء الانسان فيكشف بعض الاستار عن العيون ويزيل الألفة التي تكدر البصائر وتضعفها.
وفي الرسالة العاشرة يأخذ بيدنا الى سفوح معاني القضاء والقدر والعطاء الالهي ليمس قلوبنا بمعاني الايات القرآنية واسرارها، ومن ثم يجد مقدمة لكي يعرض على الباحث عن الحقيقة اليوم طريقاً مختلفاً لكي يوصله الى الحق... يعرض هذا بينما هو يحول انظارنا الى افق عجزنا وفقرنا. وبعد خطوتين فقط وتحت عنوان آخر يسترعي انتباهنا الى ان الانسان يختلف في خلقه عن جميع الاحياء الاخرى حيث يؤكد ويذكّر أنه فهرس للوجود باجمعه، ومن ثم نراه يعود الى الادعية التي تناولها بالتحليل فيما بعد في كليات رسائل النور مرات عديدة، فيفرج بين الابواب السرية لقبول الادعية والاستجابة لها فيثير في قلوبنا الرغبة والشوق للمناجاة. وفي موضع آخر نراه يقيم التوازن بين “التحدث بالنعمة” و “الغرور”.
وبعنوان “شعلة” نسيح معه في المعاني الواسعة للفظ الجلالة “الله” الذي هو اسم ذات له، فيهز قلوبنا بانفعال معرفة ذات طعم آخر لم نتذوقها من قبل.
ثم سرعان ما يفتح فقرة حول الادعية فينبه قُرّاءه بان ايفاء الوظائف الدينية بهمة عاليه يُعَدّ دعاءً فعلياً.
ثم يعود فيوجه الانظار الى أهمية التربة وكيف ان الدنيا تعد كقلب للعالم وينهي ملاحظاته بعد ذلك بشرح حديث “اقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد”.
وتحت عنوان “نقطة” يضيف الاستاذ بديع الزمان دليل الضمير الانساني - الذي يعده نقطة تماس بين عالم الغيب وعالم الشهادة - الى الأدلة الرئيسية الثلاثة حول الذات الالهية التي كثيراً ما وقف عندها في رسائل النور، ففرج بذلك فرجة في باب وقف عنده الكثير من المفكرين وارباب القلوب من المتصوفة وهم على درب السير في مدارج السلوك.
وهو يؤكد على استحالة التطور اذ ذكر منذ البداية ان الطفرات لا يمكن ان تفسر شيئاً ولا ان تكون كافية لاي تطور وذلك في وقت مبكر وقبل ان ينتبه الكثيرون الى هذه الحقيقة، وذكر ان من المستحيل الانتقال من نوع الى نوع آخر في عالم الاحياء. لذا فقد قال بشكل مجمل وبشكل مطلق “لا” لنظرية التطور مستنداً في ذلك الى اساس فكري سليم.
ان جهود الاستاذ المدقق احسان قاسم الصالحي المشكورة في تهيئة الطبعة العربية للمثنوي - مثلما هيأ من قبل ترجمة كليات رسائل النور - فوق كل تقدير، وهي بلاشك افضل بكثير من مثل هذه المقدمات التي حررناها والتي لا تخلو من العيوب والقصور.
والحقيقة ان الجهود المباركة للاستاذ احسان قاسم لم تقتصر - كما فعلنا نحن - على جزء من كليات رسائل النور وبشكل مجمل، بل شملت كل رسائل النور.
وكان من المفروض ان تكون كل مسألة من المسائل التي عرضتها هذه الرسائل موضوعاً لرسالة دكتوراه تراعي كل الاسس العلمية الموجودة في المستويات الاكاديمية الغربية. وهذا الامر مهم من ناحية ظهور القيمة الحقيقية لرسائل النور على المستوى الاكاديمي. وكذلك من ناحية كونها جهوداً في مستوى الجهود التي بذلها الاستاذ احسان قاسم.
صحيح ان العديد من اصدقائنا الشباب قدموا دراسات واطروحات ماجستير ودكتوراه حول رسائل النور ولكن لم تكن أيّا منها كافية لاعطاء القيمة الحقيقية لذلك العملاق بابراز مستوى فكره الرفيع.
وكل ما نتمناه هو تأسيس معهد يأخذ على عاتقه القيام بهذه المهمة في اقرب فرصة.

المثنوي العربي النوري - ص: 1
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مقدمة المحقق
الحمد لله والصلاة والسلام على رسولنا محمد ومن والاه، وبعد..
ان مما دفعني الى القيام بتحقيق هذا الكتاب بهذا النمط من التحقيق المتواضع هو:
اولاً: حاجتى الماسة الى من يرشدنى الى دروب النفس الامارة بالسوء، ويكشف لي عن دقائق مسالكها و خبايا دسائسها، ويضع امامي علاج امراضها المتنوعة، ومن ثم يأخذ بيدي الى منابع الايمان في رياض الكون الفسيح لأنهل منها ما أنهل حتى يرتوي القلب ويشبع العقل وتنبسط الروح.. بمعنى انني قمت بهذا التحقيق لنفسي قبل كل احد.
ثانياً: وجدت ان كثيراً من الباحثين والمفكرين يرومون الوصول الى اصول فكر الاستاذ النورسي، ويهمهم ان يوغلوا معه في اعماق تجاربه مع النفس، وان يرافقوه في سريان روحه في ارجاء الكائنات، ويعملوا فكرهم في ما نصبه من موازين علمية ومعايير منطقية ومناهج فطرية؛ فاردت ان اضع بين يدي هؤلاء الافاضل هذا السفر النفيس من مؤلفات الاستاذ الذي عدّه مشتل رسائل النور وغراسها حيث فيه خلاصة افكاره، بل ان اغلب ما ازهر من افكاره - في رسائل النور - بذوره كامنة في هذا الكتاب.
ولما كان الغوص في هذه الامواج الزاخرة من الافكار و الخواطر والمسائل و اخراج لآلئها الثمينة ودررها النفيسة ليس في طوقي، فاكتفيت بهذا التحقيق، ليجد اولئك الكرام بين يديهم نسخة كاملة من الكتاب، فيبذلوا فيه جهدهم لعل المولى القدير يقيض منهم من يضطلع للقيام بتلك المهمة التي اعجز عنها، فيسدّ جوعة الروح وهزال الفكر التي يعانى منها الكثيرون.. بمعنى انني قمت بهذا التحقيق لهؤلاء الاكارم.


المثنوي العربي النوري - ص: 2
ثالثاً: ان كل مسلم بل كل انسان يشعر في قرارة نفسه انه بحاجة الى تربية روحه و تزكية نفسه وتنمية عقله وتوسيع آفاق خياله، فتراه يتلمس مبتغاه من مظانه من الكتب.. فاردت ان اضع هذا الكتاب القيم امام كل مسلم، بل كل انسان ليرى نمطاً جديداً وفريداً من اساليب التزكية والتربية، قلما يجده في كتاب آخر؛ حيث انه يمزج ادق الموازين العقلية والمقاييس المنطقية بأرفع الاشواق القلبية واسطع التفجرات الروحية ضمن امثلة ملموسة تكاد لا تخفى على احد، آخذاً بيد القارئ برفق، متجولاً معه في ميادين النفس والافاق، مبيناً له ما توصل اليه من نتائج يقينية، بعد تجارب حقيقية خاض غمارها تحت ارشاد القرآن الكريم.. بمعنى انني اردت ان ابيّن بهذا التحقيق هذا المنهج القرآني الفريد لكل مسلم، بل لكل انسان.
قبل كل ذلك وبعده؛ فان قطرة من عمل خالص لوجه الله أعظم من بحر من الاعمال المشوبة، فأملي بالله عظيم ان يتقبل هذا التحقيق المتواضع خالصاً لوجهه الكريم، واتضرع اليه تعالى ان يهئ في مقبل الايام من يوفي حق هذا الكتاب من الشرح والبيان ليعم النفع ويجزل الثواب.
***
ولقد سار التحقيق هذا وفق الخطوات الآتية:
1- المقابلة بين النسخ المتوفرة لديّ وهى:
أ- الطبعة الاولى من الكتاب، المطبوع في استانبول سنة 1340 - 1341 هـ (1922م) وقد رمزت اليها بـ (ط1)
ب - نسخة خطية "بالرونيو" بخط "احمد نظيف" احد طلبة الاستاذ النورسي، مصحح من قبل الاستاذ نفسه، حيث كتب في الختام دعاءً رقيقاً للكاتب و مساعديه.
ج - مخطوط بخط "جيلان جالشقان" الذي خدم الاستاذ النورسي وهو مازال شاباً ولازمه حتى وفاته. و المخطوط مصحح من قبل الاستاذ نفسه.


المثنوي العربي النوري - ص: 3
د - الطبعة الاخيرة من الكتاب، المطبوع في مطبعة النور سنة 1985م في آنقرة، و تتميز هذه الطبعة بتصحيح كثير من أخطاء الطبعة الأولى، ولكن ما زالت فيها اخطاء مطبعية كثيرة، فعالجتُ تلك الاخطاء و اعتبرت هذه الطبعة هي المعول عليها في التحقيق.
هـ - الترجمة التركية للكتاب، وقد قام بها شقيق الاستاذ النورسي: الملا عبدالمجيد، وطبعَتْها "دار سوزلر" في استانبول سنة 1976 وقد رمزت اليها بـ (ت).
و- مخطوط الترجمة التركية بخط "علي الصغير" أحد طلبة الاستاذ والذي كان يلقّبه بـ "ذى الروح العظيمة" وقد سجل له دعاءً لطيفاً في الختام، والمخطوط هذا بالحروف العربية بخلاف المطبوع الذي هو بالحروف اللاتينية.
2- وضع بعض الفقرات، وافادات المرام التي لا توجد الاّ في (ط1) في الهامش مع الاشارة الى مواضعها.
3 - استخراج الآيات الكريمة من القرآن الكريم ووضع اسم السورة ورقم الآية.
4 - تخريج الاحاديث الشريفة الواردة على الاغلب بالمعنى، اعتماداً على كتب موثوقة وبمعاونة الاخ الكريم "فلاح عبدالرحمن" جزاه الله خيراً.
5 - استخراج الامثال الواردة من كتاب "مجمع الامثال للميداني"
6 - رسم املاء الكتاب حسب قواعد الاملاء الشائع اليوم، حيث كان رسم الاملاء في النسخ الاصلية والمطبوعة على الرسم القديم. مثل: الصلوة. الحيوة.
7 - درج معانى بعض الكلمات في الهامش باختصار شديد؛ اذ قد صعب عليّ معاني بعض الكلمات، مما دفعني الى مراجعة قواميس اللغة وبخاصة: المحيط للفيروزابادي، ومختار الصحاح للرازي.
8 - القيام بترجمة كل ما ورد في الكتاب بالتركية من عبارات وفقرات ورسائل. الخّصها بالآتي:
أ- مقدمة الكتاب، حيث قد كتبها الاستاذ النورسي سنة (1954) اي بعد


المثنوي العربي النوري - ص: 4
ما يقارب اكثر من ثلاثين سنة على تأليفه، وقد قام أخوه عبد المجيد بترجمة هذه المقدمة الى اللغة العربية، فأعدتُ النظر فيها لتكون اكثر مشابهة بالنص.
ب - البيان الذي اُلقي في مجلس الامة التركي.
ج - رسالة "نقطة من نور معرفة الله جلّ جلاله" كاملة .
د- بعض الهوامش او المقدمات المقتضبة التي وردت، وقد وضعتها بين قوسين مركنين [ ] لتمييزها عن الاصل العربي.
اما الفقرات التي وردت في الكتاب باللغة الفارسية فقد تفضل بترجمتها مشكوراً الاخ الكريم (فاروق رسول يحيى) الذي وفقه الله تعالى بترجمة ونشر العديد من رسائل النور باللغة الكردية. وقد حصرنا هذه الفقرات المترجمة عن الفارسية بين قوسين مركنين مزدوجين [[]].
9- الاشارة في الهوامش الى تلك المسائل التي وضّحها المؤلف - فيما بعد - في رسائل النور والتي وفقنا المولى الكريم الى ترجمتها.
10- توضيح بعض العبارات او الجمل في ضوء ما جاء في الترجمة التركية للكتاب والاشارة اليها بـ (ت ورقم الصفحة) في الهامش.
11- تشكيل بعض الكلمات، ووضع علامات الترقيم لإزالة اللبس.
12- وضع تراجم لقسم من الاعلام الواردة في الكتاب.
13-تعريف بعض المصطلحات، مع ترك الكثير منها، حيث الكتاب نفسه كفيل بشرحه، وبخاصة اذا استعين "بالفهرس التحليلي".
14- وضع فهارس عامة و تحليلية للموضوعات والاعلام والاماكن وغيرها تسهيلاً للقارئ الكريم.
15 - واخيراً نشر رسالة "نور من انوار نجوم القرآن" لأول مرة بألحاقها بهذا المجلد"المثنوى" لشدة الترابط والتشابه في مباحثهما. وذلك بعد اجراء التحقيق على مخطوطها الوحيد المكتوب بخط "الحافظ توفيق الشامي" احد طلاب الاستاذ النورسى في منفاه "بارلا". علماً ان المخطوط صحح من قبل المؤلف.
***


المثنوي العربي النوري - ص: 5
وبعد القيام بهذه الخطوات وفي اثنائها، لفتت نظري مسائل نحوية لغوية لا تستقيم مع ما تعلمناه في دراستنا المدرسية. فألجأتني الى البحث عنها في بطون الكتب القديمة المعتمدة كالمغني والاشموني، والاستفسار عنها ممن لهم الباع الطويل في معرفة دقائق اللغة، فأرشدوني الى ما فيه الصواب، جزاهم الله خيراً، حتى أطمأن القلب الى ان ما كتبه الاستاذ النورسي هو الصحيح أو فيه الجواز. وأن ما ألفناه ودرسناه من قواعد اللغة لا يرقى ليكون محكاً في مثل هذه المسائل.
وأرى من الأفضل تلخيص عدد من تلك المسائل التي ربما تلفت نظر القارئ الكريم ايضاً مع أنها لا تخفى عليه . وهي:
1- ايثاره استعمال جمع العقلاء لغير العاقل؛ اشارة الى ان كل جزء من أجزاء العالم حيّ عاقل يسّبح لله، وعملاً بما في الآية الكريمة
(رأيتهمُ لي ساجدين).
2 - تغليب التذكير على التأنيث، ولا سيما في الافعال المتقدمة على الفاعل المؤنث المجازي بخلاف المتأخرة عن الفاعل.
3 - استعماله الوجوه المختلفة للكلمات التي يجوز فيها التذكير والتأنيث، كالروح. وربما يستغرب القارئ من ايراد كلمة "النفس" أحياناً بصيغة التذكير، الاّ ان استغرابه يزول بمجرد قراءة العبارات التي تليها، حيث يجد ان المقصود منها "أنا" اي ذات الانسان.
وامثالها من الامور التي لم نألفها. ولا يخفى ان لهذه الوجوه تخريجاتها اللغوية وشواهدها التي تسندها الاّ اننا لم نوردها في مواضعها لئلا نشغل القارئ الكريم عن الهدف الاساس من الكتاب.
5 - كلمة "الذات" الدالة على الله سبحانه ترد بصيغة التذكير فمثلاً: الذات الأقدس، اذ جعلها اسماً للحقيقة من كل شئ فزال عنه التأنيث.
6- الاكثار من استعمال جمع المؤنث السالم، حتى في بعض الجموع، مثل: لوازمات، شؤونات، نواتات...
7 - لقد تخللت الجمل كلمات تركية، استعملها الاستاذ لزيادة الايضاح - أو قالها اثناء التدريس - وهي موضوعة بين قوسين () للتمييز، ويعقبها على الاغلب


المثنوي العربي النوري - ص: 6
معناها بالعربية. فمثلاً: ان هذا (التمل جوروك) الاساس فاسد.. او (شمندوفر) القطار.. (فابريقة) المعمل.
8 - استعماله كلمة "غير" معرّفة بـ "ألـ" مما لا تُستعمل في الاسلوب الحديث 1 وقد بعث اليّ العالم الجليل "عمر الريشاوي" رسالة يوضح فيها هذه المسألة أدرج هنا ملخصها لإزالة اللبس:
(اننا اذا أردنا كلمة "غير" صفةً للمعرفة، فلا نملك سوى اختيار أحد الطريقين:
أ- تحليتها بـ "ألـ" لتصبح معرفة وتصلحُ بالتالي صفة للمعرفة كما هو مقرر نحوياً.
ب- أضافتها الى المعرفة.
ولما كان الطريق الثاني لا يحقق هدفنا، إذ باضافتها الى المعرفة لا تصبح معرفة، تعيّن اتخاذ الطريق الاول وهو تحليتها بـ "ألـ" ولا محيد عن ذلك، هذه من ناحية القواعد النحوية، واما من حيث الاستعمال، فتبدو ندرة استعمالها مع "ألـ" او لا نجدها الاّ في كلام المجدّدين.
والخلاصة: ان الكاتب او المتحدث يجب عليه رعاية احد الامرين:
اما رعاية ناحية الاستعمال واضافتها الى المعرفة وقبول التأويل؛ وهو ان هذه الكلمة عوملت معاملة المعرفة، كما في قوله تعالى:
(غير المغضوب عليهم) و (لا يستوى القاعدون من المؤمنين غيرُ اُولي الضرر)
واما مراعاة ناحية القواعد وهو تحليتها بـ "ألـ" لأن المقام - وهو كون الاسم صفة للمعرفة - يقتضي ذلك نحوياً).
ثم أبدى الاخ الكريم ملاحظة مهمة وهي:
اولاً: ان المشكلة التي اصبحت مثار البحث حالة واحدة وهي كون "غير" صفة للمعرفة، اما حالاته الاخرى: فاعلاً او مجروراً او مضافاً او صفة للنكرة او حالاً او بدلاً او غير ذلك من الحالات الاعرابية الاخرى فلا اتصور اية مشكلة فيها نحوية او استعمالية.
_____________________
1 وقد اشرنا الى هذا ايضاً في المجلد الخامس من كليات رسائل النور (اشارات الاعجاز) ص35 فمن شاء فليراجعه.

عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 03-23-2011
  #3
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: المثنوي العربي النوري - المقدمات والتقديم



المثنوي العربي النوري - ص: 7
ثانياً: قرر المجمع اللغوي المنعقد في القاهرة في دورته الخامسة والثلاثين في شهر شباط 1969 بقبول الرأي القائل:
"ان كلمة "غير" الواقعة بين متضادين تكتسب التعريف من المضاف اليه المعرفة. ويصحّ في هذه الصورة التي تقع بين متضادين، وليست مضافة ان تقترن بـ "ألـ" فتستفيد التعريف"..) اهـ..
***
وربّ سؤال يرد للخاطر:
لماذا ألّف الاستاذ النورسي هذه الرسائل باللغة العربية، والمخاطبون لا يتقنونها، علماً انه كتب "رسائل النور" بالتركية؟.
فالجواب - والله أعلم -:
ان اللغة العربية كانت هي لغة العلم في تلك الفترة (اي الى منتصف العشرينات) وقبل استبدال الحروف العربية، رغم ان المحادثات الجارية بين الناس كانت بالتركية..
ثم ان هذه الرسائل العربية بحد ذاتها: أصول و قواعد، و مناهج، و موازين مستلهمة من نور القران الكريم، خاطب بها الاستاذ النورسي نفسَه أولاً، وألزمها الحجة حتى ارغمها على التسليم، فهي أعلم بلغته و تعابيره. ومما يثبت ما نذهب اليه هو ان الاستاذ النورسي قد صبّ هذه المعاني ووسّع منها وكشف عن دقائقها في الرسائل التي الّفها بالتركية - فيما بعد 1927م - تلك هي رسائل النور التي غدت موضع استفادة العالم و المتعلم و الكبير والصغير. فادّت مهمتها المرجوة في حفظ الايمان تجاه تيار الكفر والطغيان.
أما ما يرد من سؤال حول تسمية الكتاب. اي: لماذا سّماه الاستاذ المؤلف بـ "المثنوي" الذي يعني في الشعر ابيات مثنى مثنى، علماً ان الكتاب ليس ديواناً للشعر؟.
فالجواب: لقد سمّى الاستاذ النورسي هذه الرسائل بـ "الرسائل العربية" او "المجموعة العربية" وقد كُتب على مجلد الطبعة الاولى: "قطرات من فيوضات


المثنوي العربي النوري - ص: 8
الفرقان الحكيم". ولكن لان فعل هذه الرسائل في القلب والعقل والروح والنفس يشبه فعل المثنوي لجلال الدين الرومي المشهور والمتداول بين اوساط الناس ولا سيما في تركيا، وان عمله في تجديد الايمان وترسيخه في القلب وبعثه الروح الخامد في النفوس يشبه "المثنوي الرومي" فقد سماه الاستاذ النورسي بـ "المثنوي". ولأجل تمييزه عن "المثنوي الرومي" الذي كُتب بالفارسية سماه: "المثنوي العربي". ولانه اساسٌ لرسائل النور وغراس لأفكارها ومسائلها أضيف اليه "النوري" فاصبح الكتاب يحمل عنوان : "المثنوي العربي النوري"
ومما يجدر الإشارة اليه ان الكتاب مع أنه جامع لكثير من أساليب البيان وأنماط الإستعارة وانواع التشبيه والجناس والطباق وغيرها من أساليب البلاغة، فان كل قارئ - مهما كان تذوقه البلاغي - يظل مشدوداً مع بلاغة المعنى وجمال المغزى أكثر من انشداده مع بلاغة المبنى وجمال اللفظ؛ اذ ان عمق المعاني وسعة الأفكار ودقة المسائل التي يطرقها تجعل القارئ يقول: حقاً "ان الكلام البليغ هو ما أستفاد منه العقل والوجدان معاً".
هذا ولقد أغنانا الأستاذ نفسه عن تقديم أي كلام حول سبب تأليفه للكتاب وفترة تأليفه له، حيث سجل ذلك في مقدمته البديعة، وفي افادات المرام مستهل كل رسالة.
والله نسأل ان يوفقنا الى حسن القصد وصحة الفهم وصواب القول وسداد العمل.. وصلّ اللهمّ على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.
احسان قاسم الصالحي


المثنوي العربي النوري - ص: 9
المدخل
الاستاذ أديب إبراهيم الدباغ
لا جدال في أنّ "النفس البشرية" طاقة عظمى من طاقات البناء والاعمار، ومصدر خصب من مصادر الحق والعدل والخير والجمال في هذا العالم إذا مازكت وصفت وغدت موصولة الاسباب بفاطرها وموجدها، لأن صلتها بالله، واستمساكها بأسباب أنواره، يجعلها موضع نظره، ومَنْ كَان موضع نظر الله تعالى افيضَ عليه من صفات جماله وكماله ما يستطيع بها أن يمحق ظلام الدنيا وشرورها.. وهى - أي النفس - قوة تدميرية عمياء، وطاقة هدم مرعبة، اذا ما نجمت فيها جرثومة التمرد والنزق والجموح، وعصفت بها رياح الهوى الهوج المحركة لنيران رغباتها المجنونة، وشهواتها العارمة، فتحرق هذه النار كل سبب يصلها بالله تعالى، فلا تلبث - بعد ذلك - أن تتنكر لخالقها وبارئها، وتنزع الى عصيانه، وترغب في الانفلات من مسؤوليات الايمان، وتكاليف الاسلام.
و"النورسي" - رحمه الله - إنما يرصد هذه النفس الضالة التي قد غلبت عليها رعونتها، وركبتها حماقتها، فتنشط في البحث عمّن يسليها ويلهيها، وينسيها مَنْ تكون...؟ ولِمَ كانت…؟ وما واجبها...؟ وما مسؤولياتها...؟ ويأسف لها وهي تتصامم عمّن يريد لها الصحو المسؤول، واليقظة البصيرة، ويطلب لها التعلم والمعرفة، ويأخذ بيدها للأرتقاء والسمو، ويشرفها بمعرفة الله ويتوّجها بتاج طاعته، ويلبسها حلل معرفته.. ويرى أنها - إذا زاد ارتكاسها وفاض بها غرورها - قد تتوهم نفسها قطب العالم ومحور الوجود، فتقيس كل شئ بمقاييسها، وتزنه بموازينها، لظنها أنها منبع كل حق، ومصدر كل صواب.. وقد تتمادى في هذا الغرور الاحمق حتى لتنازع "الرّبوبية" سلطانها، وتنسب لنفسها من صفات الألوهيه ما تشاء ويشاء لها الهوى.


المثنوي العربي النوري - ص: 10
وتتفاوت "النفوس" في أسباب تعرضها لمخاطر هدا التورم الخبيث، والانتفاخ المرضي المخيف، فيغدو البعض أشدّ عتواً، وأصعب توعراً، واكثر استعصاءً وتمرداً على حقوق الربوبية، ومستلزمات العبودية من البعض الآخر. وبسبب هذا التورم الذي يتسلل الى مخ النفس، فيشل وعيها، ويفقدها صوابها، ويُعمّي عليها حقيقة حجمها، وتبيان موقعها الصحيح من الله.. وبسبب غياب "العقل الايماني" الذي يبصرها بحقيقتها، ويمنعها من الجموح والشطط، فهي غالباً ما تنساق مع الوهم، فتتخيل استطالة حجمها، وتضخم جرمها، وتحسب الكون قاصراً عن احتوائها، والأرض عاجزةً عن حمل عظمتها.. ومن هنا.. من عدم تحديد مكان "النفس" من الله، ومن تجاوزها حدود وظائفها في هذا العالم تنجم جميع شرور العالم وآثامه، وتنبعث جميع الآمه وأحزانه ومآسيه، ومصداق ذلك ما يحدثنا به التاريخ من مدّعي "الالوهية" و"الربوبية" من الملوك والاباطرة والفراعين، وغيرهم على اختلاف مدّعياتهم الباطلة، وما خلفوه وراءهم من جروح والآم في حياة الشعوب والحضارات.
وخشية من وقوع "النفوس" فريسة هذا التورم البشع المخيف، وحرصاً من "الاسلام" على ان تظل "نفس" المسلم صحيحة تستمتع بالسلامة والعافية، فقد حثّ القرآن على مجاهدة نزق النفس، وحذّر من تمردها وعصيانها لخالقها، واعتبر مجاهدتها واجباً ايمانياً لا يقل أهميةً عن واجب مجاهدة العدو، بل يزيد عليه، لان العدو الذي يريد الشَّر بالبلاد والعباد بيّنٌ ظاهر للعيان بسلاحه وعدّته وعدده، نواجهه ونحن نرى ونسمع، فيجتمع عليه كياننا كله، وتتهافت عليه حواسُنا جميعاً، وتتعاون على قهره طاقاتُنا بأسرها.
أما "النفس العاصية لله" فهي عدو خفي لا نراه ولا نحس بعداوته، لانها تسري في وجودنا كله، وتجري منا مجرى الدم، ولا يجتمع عليه وجودنا كله لانها جزء من هذا الوجود، فضلاً عن أننا لا نعرف متى تهاجمنا ؟ ومن أي ثغرة تتسلل الى مقاتلنا؟ وأي سلاح رهيب من أسلحتها تجربه فينا؟ لذا يتعين علينا أن نبقى حذرين دائمي الحذر، متيقظين دائمي التيقظ، نرصد حركاتها، ونراقب مناوراتها، ونأخذ


المثنوي العربي النوري - ص: 11
منها زمام المبادرة، فنلجمها قبل ان تجمح بنا، ونأخذ بخطامها قبل أن تهيج علينا وتلقي بنا تحت أقدام طغيانها فلا تفلتنا حتى تسحق منا الروح والقلب والعقل.
***
وقد عانى "النورسي" من نفسه الشئ الكثير، فهي نفس جموح، وعرة المراس، صعبة الترويض، عصية على الاقتناع، تأبى ان تسلس له القياد ما لم يأتها على الرأي الذي يراه بالدليل القاطع لكل شك، والبرهان المبدد لكل ريب. لذا فقد كان همه الأعظم إقناعها بالرأي الذي يراه، والفكر الذي يخلص اليه.. فهو في كل ما كتب ولاسيما في "المثنوي" إنما كان يكتب لنفسه بهذا القصد ولهذا الغرض، وكأنّ نفسه - لشدة جموحها ونفورها من الفكر التقليدي - قد آثرت الانفصال عنه، والانسلاخ منه، فصار لها كيان مستقل، وشخصية مناوئة، تقف ازاءه، وترصد فكره، ولا تنفك تحاوره وتلح عليه في الحوار، وتسأله وتلح عليه في السؤال، حتى تضطره للاجابة عليها بحشد هائل من الأدلة والبراهين التي تقنعها وتطمئنها، وتلزمها الحجة والتسليم. وفي معرض وصفه لهذه المعاناة مع نفسه يقول "النورسي":
"ان هذه ثلاثون سنة لي مجادلة مع طاغوتين وهما :(أنا) في الانسان، و(الطبيعة) في العالم" 1.
والمأساة الأخرى التى ظلّتْ تؤرّق "النورسي" طوال حياته، وتنغر في ضميره، انما هي سقوط الملايين من البشر في هذا العصر في حبائل "الطبيعة " وانحباس أرواحهم في اقفاصها، وتعبدّهم - كما يتعبد الوثنيون - لنواميسها وسننها، فنسبوا لهذه النواميس والسنن ما ينسبه المؤمنون الى الله تعالى من صفات الخلق والايجاد والقدرة والعلم والحكمة والقصد والاختيار، وبذلك حجبت "الطبيعة" المخلوقة، بصفاتها الاعتبارية غير الذاتية، الانسان الوثنى عن "الخالق" الحقِ، وامتصت إيمانه، وأنشبت أظفار الجحود الحاد في روحه، وحولت قلبه الخصب الى جفاف كجفاف رمال الصحراء، فاستُثني - بهذا الإنحراف الأخرق عن الله - استثناءً شاذاً من بين التوافق الكوني العظيم الذي تندرج الاشياء جميعاً فيه، وتتآلف معه في وحدة كونية نابضة بالمعرفة والمحبة لله، فاذا به - على الرغم من كل منجزاته الحضارية المبهجة - ينوح
_____________________
1 رسالة "حبة من نواتات ثمرة من ثمرات جنان القرآن"


عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 03-23-2011
  #4
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: المثنوي العربي النوري - المقدمات والتقديم

المثنوي العربي النوري - ص: 12
نوحاً مريراً على شقائه الروحي كنواح النغم الحزين المنفرد بحزنه من بين منظومة اللحن الضاحك البهيج.
وكما حاور "النورسي" جموح النفس، وناقش نزقها وتمردها، وردّ على اعتراضاتها حتى راضت وقنعت واطمأنت، فانه كذلك ناقش المؤلهين للطبيعة، واستعرض مقولاتهم، ثم ردّ عليها واحدةً تلو الأخرى، وخلص في خاتمة المطاف إلى خطل راي مَنْ ينسب اليها الحياة والخلق والايجاد من دون الله تعالى..
ولما كانت "نفسه" دائمة الحضور معه، قائمة بين جنبيه، تناقش فكره الايماني، وجهاً لوجه، وتلقي باعتراضاتها حوله، لذا فإنّ "النورسي" كتب ما كتب بقصد ترويض هذه النفس الجموح الثائرة على كل فكر تقليدي، وبنية تبديد شكوكها، وقهر عنادها، وإقناعها بصحة أفكاره، ومصداقية قناعاته.
ومن هنا فليس غريباً ان يكتنف بعض افكاره في "المثنوي" شئ من الغموض غير المقصود، لانه لم يكن مقصوداً من كتاباته سوى نفسه، فلربما كفاه السطر والسطران لتفهم عنه نفسُه، وتعرف مراده، ولا تكفيه الصفحة والصفحتان ليفهم عنه القارئ بعض مراده. 1
ومن حق القارئ الذي يقرأ هذا الكلام أن يسأل نفسه:
اذا كان مقصود "النورسي" فيما كتب في هذا الكتاب "نفْسَهُ" فما جدوى نشره، وإغراء الآخرين بقراءته؟ وهو لم يُكْتَبْ لهم أصلاً، ولم يُصْنّف لأجلهم؟
وللجواب على هذا السؤال نقول:
ان "النفس الإنسانية" هي واحدة في جوهرها، وواحدة في أسباب صحتها ومرضها، كالجسد تماماً، فاذا كانت الأمراض التي يمكن أن تصيب جسد "زيد" هي نفسها التي يمكن أن تصيب جسد "عمرو" وان ما يفيد "زيداً" من دواء يفيد "عمرواً" أيضاً، فكذلك فإن أمراض "النفس" هي واحدة لدى جميع البشر مع بعض الفروقات بين نفس ونفس. فالعلاج الذي استعمله "النورسي" لنفسه قد يفيد أى انسان آخر يعاني ما كان يعانيه "النورسي" من نفسه، وهو يقول بهذا الصدد:
_____________________
1 افادة مرام رسالة "شمة" و "نقطة"



المثنوي العربي النوري - ص: 13
"ولا تخف من تمرد النفس، لأن نفسي الأمارة المتمردة المتجبرة انقادت، وذللت تحت سطوة ما في هذه الرسالة من الحقائق، بل شيطاني الرجيم أفحم وانخنس.. كن مَنْ شئت، فلا نفسُك أطغى واعصى من نفسي، ولا شيطانُك أغوى واشقى من شيطاني". 1
فضلاَ عن التجارب الذاتية التي تخوضها النفوس العظيمة، هي رصيد جديد يضاف الى رصيد الإنسانية ويثري معرفتها بشؤون الروح والوجدان، ويمنح أفرادها ما يفيد في اجتياز قلقهم الروحي بنجاح، وتخطي عواصف شكوكهم بسلام، وقد اعتاد البشر - منذ أقدم العصور - أن يفيد بعضهم من تجارب البعض الآخر، ولولا هذه السنّة الحسنة التي درج عليها الناس لما وصلت البشرية الى هذا الصرح الهائل العظيم من المعارف والعلوم والأفكار.
ونكاد نلمس بين سطور "المثنوي" غبار الصراع الدؤوب الذي خاضه "النورسي" بشجاعته ضد تمردات نفسه وجنوحاتها قبل ان تسلس له القياد، وتسلم له الزمام، حتى اننا لنتعاطف معه، ونأسى من أجله ونحن ننظر بعين الخيال الى ما عاناه هذا الرجل من عذاب قبل ان يحقق انتصاره النهائي على الجانب المستعصي من نفسه..
وما من أحد من المؤمنين إلاّ وله مع نفسه العصية مواقف او بعض مواقف - كالتي كانت للنورسي مع نفسه - مع اختلاف درجات التوتر والقلق والصراع ضعفاً وقوةً، وقلة وكثرةً، في الأشخاص، تبعاً لدرجات إيمانهم ويقينهم؛ لذا فما من أحد إلاّ وله في تجربة "النورسي" ما يفيده بدرجة أو باخرى.. واذا ما فاتنا النزر اليسير من علاجات "النورسي" لنفسه، بسبب بعض الغموض في بعض وصفاته، الاّ أننا سنفيد - بلا ريب - من الشئ الكثير منها، وكما يقول:
"لا تقل: اذا لم ادرِ الكل لا اريد الكل.. فاذا كنت في بستان أتترك الثمرات ان لم تأكل كلها" 2
فَرُبّ زهرة تقطفها من حديقة "المثنوي" تغنيك بشذاها وجمالها عن عشرات الأزهار، ورُبّ فاكهة تنالها يدك تعطيك مذاق مائة فاكهة وفاكهة.
_____________________
1 انظر: تنبيه، اخطار، اعتذار.
2 افادة مرام "شمة من نسيم هداية القرآن"




المثنوي العربي النوري - ص: 14
فالمثنوي.. كتاب فريد في مصداقيته، قد سجل فيه "النورسي" بأمانة وعفوية وصدق سيرة نفسه وما كان يعتورها من قلق واطمئنان، وينتابها من صحة وسقام، ويتناوشها من شك ويقين، من دون زيادة أو نقصان، حتى إنه ليترك نفسه تنساب - على سجيتها - مع انسياب قلمه، فلا يجري على كلامه في بداهته الأولى أيّ تبديل او تعديل، حفاظاً على براءة عفويته، وخوفاً من أن يدخل على كلامه مايخدش صدقه، ويمسُّ بكارة معانيه 1..
وما يتكرر في أول كل خاطرة من خواطر "المثنوي" من "اعلم" فالمقصود: "اعلم يا سعيد". أو "إعلمي"، فالمقصود: "إعلمي يا نفسي" فبسر قوة الصدق الذي يشيع في ثنايا الكتاب - لأنه ليس بعد الصدق مع النفس من صدق - وبسرّ قوة الروح المسكوب في كلماته - لأنه ليس من روح أقوى من روح عجنته المعاناة، وانضجته نار التجربة - يمكن لأي انسان الإفادة من تجربة هذا الكتاب في ترويض نفسه، والتحرر من رهقها، وكذلك تنقية مداركه العقلية من مفاهيمها الخاطئة عن ربوبية "الطبيعة" و"اُلوهية" ماديتها. فبإنهدام هذين الوثنين النفس والطبيعة وتحرر الإنسان من طغيان سطوتهما عليه، ينفسح له المجال واسعاً لميلاد ذاته الحرة من جديد، وانتفاضها من بين أنقاض عالمه المتهدم مفعمةً بالعافية، طافحةً بالحيوية، فلا تلبث حتى تسرع في استرداد وعيها الأعمّ الأشمل، وإدراكها الأصح الأصوب، فترى - بصفاء نظرها وسريرتها - أنّ كل موجود - بحد ذاته - حرفٌ ضائع لا معنى له ما لم يعطه اسم "الله" الأعظم معناه بالانتساب اليه، ويسبغ عليه مغزاه على قدر ارتباطه به وفهمه عنه..
فالكائنات والموجودات - بما فيها الإنسان - حروف خاوية حائرة تجوب كتاب العالم، فلا تقرُّ او تجد لها مكاناً فوق سطور هذا الكتاب الكبير ما لم تستمد معانيها من اسماء الله الحسنى، وما لم يمسها مدد من أمدادها، وينسكب فيها مِدَادٌ من مِدَادِ بحار القُدرة.. فلا شئ موجود على الحقيقة ما لم يعطه الله شيئيته، ويمنحه كيانه، ويقدّر وجوده. فاذا وصل الانسان الى هذه النقطة من الادراك، ولاسيما بعد عظيم المعاناة، فقد وصل الى "التوحيد" الخالص، وتشرب جوهر الإيمان والاسلام، وعرف جدوى الوجود ومعناه..
_____________________
1 انظر افادات المرام ولا سيما افادة مرام "حبة".



المثنوي العربي النوري - ص: 15
وهذا هو ما يرمي "المثنوي" ويهدف الى تحقيقه في نفس صاحبه أولاً، وفي نفس كل قارئ من بعده.
***
والتوحيد الخالص من شوائب الشك، والذي يشكل لبَّ الايمان، وجوهر عقيدة الاسلام، هو في "المثنوي" ليس أمراً تقريرياً، ولا معنىً تلقينياً، ولا عقيدة تقليدية، ولا كلاماً محفوظاً مردداً يردده المسلم بلسان جاف، وقلب بارد، ووعي ذاهل، كما هو مشاهد اليوم لدى الكثير من المسلمين.. فلا غرو إذا ما عجزت "كلمة التوحيد" اليوم - وقد خالطها هذا القصور المعيب - أن تخرق أبواب الروح، وتلج الى أعماق الفؤاد، لتطلق قوى المسلم، وتفجر طاقات كيانه الروحي الذي اصابه الضمور وغدا عاجزاً عن ممارسة أي نشاط يمكن أن يزيد في نموه، ويقوي فيه بصيرة الكشف الذكي عن "علوم التوحيد" العظيمة في مظانها الأصلية من نفس الكون والانسان.
فالتوحيد الذي يدعونا اليه "المثنوي" ليس تقريرياً، ولا تلقينياً، ولا تقليدياً، ولا ترديدياً، بل استكشافياً.. فيه ما في الاستكشاف من متعة ومغامرة ومعاناة، فهو يأخذنا - عبر خواطره - في جولة استكشافية في أغوار النفس الانسانية، ويدور بنا في أنسجة الروح والفكر والضمير، ثم يزيح التراب عن ذاكرة الكون المؤودة تحت ركام علوم العصر، ويستنطقها لتحدثنا عن بصمات "التوحيد"، وتدلنا على آيات الاله الواحد الذي لا يقبل الشريك.. ولا يتركنا الا ونحن قد اكتشفنا "التوحيد" والتقيناه في أشد الأشياء الكونية والنفسية بداهةً، فينبثق في صميم افئدتنا إنبثاقاً، وينغرس بشكل عفوي في أعماق أرواحنا وضمائرنا، فيهز هذا التوحيد الاستكشافي أعماق النفس، ويفعم الذهن بطاقات الذكاء، ويشدُّ في الوجدان أجهزة التلقي عن الكون والحياة، فيستمر المسلم كشافاً رائداً لأعمق الحقائق - في الكون والانسان - في ديمومة لا تتوقف حتى تتوقف حياته.. فيزيد فهماً، ويتسع وعياً ويخصب وجوداً وحياةً.
والايمان بالله واحداً أحداً فرداً صمداً هو أحد المحاور الثلاثة - بعد النفس والطبيعة - الذي يدور حوله "النورسي" في أفكاره وخواطره المسجلة على


المثنوي العربي النوري - ص: 16
صفحات "المثنوي". وهو يرى ان العقل المسلم ينبغي ان يكون قرآني التصور لمفاهيم التوحيد، ولصفات الكمال والجلال والجمال التي يتصف بها الله سبحانه وتعالى. وأن هذا "العقل" الذي تشكل المفاهيم القرآنية تصوراته عن الألوهية والربوبية.. لا يمكن أن يرقى الى قمته عقلٌ كائناً ما كان ما دام محجوباً عن القرآن.
و"النورسي" وان لم يكن قد استعرض تصورات العقليين للألوهية والربوبية، وتصورات غيرهم من أصحاب الأديان والمذاهب والنحَل الاّ أننا نحسُّ من خلال كلامه عن أسماء الله تعالى وصفاته، وكأنه يردّ - ضمناً - على هذه التصورات المنحرفة، ويفندها الواحدة تلو الأخرى.
ففى كلامه كما سيلمس القارئ بنفسه ردّ ضمني على مَنْ يزعم - من العقليين - بأن الله تعالى خلق العالم وفرغ من خلقه، ولا شأن له به بعد ذلك..
وردٌّ على مَنْ يدّعي عدم علم الله بالجزئيات - تعالى عن هذا علواً كبيراً..
وردّ على مَنْ يؤمن بالله ولكنه يتردد ويتلجلج في ايمانه بالملائكة والكتب والرسل والقدر، واليوم الآخر، والنشر والحشر، والجنة والنار.. الى آخر تلك التصورات السقيمة المجانبة للحق، والمجافية لما أثبته القرآن وجاءت به السنة المطهرة..
إنَّ الآية القرآنية
(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَئٌ وَهو السّمِيعُ البصِيرُ) (الشورى: 11) قد أوفَتْ وكفت وردّت على تصورات العقول البشرية - بقصورها ومحدوديتها - لله سبحانه وتعالى، وأزرت بقياساتها الفاسدة ابتداءً من تصورات أدنى الوثنيين عقولاً، ومروراً بأكبر عقل من عقول فلاسفة الإغريق، وانتهاءً بآخر ما وصل اليه العقل الرياضي والعلمي الحديث.. والآية - بحد ذاتها - إشارة الى أن المسألة أجلّ وأعظم من أن تترك للأمزجة والخيالات والعقول القاصرة لكي تخوض فيها وترى فيها رأيها من غير هدىٍّ يهديها من الله الذي هو أعلم بنفسه، وأعلم بخلقه، وقدرات عقولهم عن الفهم عنه، وادراك ما هوفي مكنتهم من معاني أسمائه وصفاته.
***
و"النورسي" يرى في "الاسماء والصفات" حلاً للغز العالم، وجواباً على أسئلة كثيرة ربما كان أهمها وأعظمها على الأطلاق هو السؤال الذي حار فيه أكبر العقول


المثنوي العربي النوري - ص: 17
من فلاسفة هذا العصر وفلاسفة كل العصور السابقة، وهو: لماذا مُنِِِحْنَا منحة الخلق..؟ وأعطينا فرصة الوجود..؟ وهذا العالم ما حكمة وجوده..؟ وما مغزى انبعاثه عن العدم..؟ الى آخر هذه الأسئلة التي ما زالت مثار اهتمام العقول الحائرة من بني البشر.
و"النورسي" في خواطره عن صفات الله الجمالية يلتقي الحل، ويقع على الأجابات المقنعة، فهو يرى ان الرسام حين يرسم أجمل لوحاته - ولا مشاحة في المثال - إنما يعبر عن فيض الجمال الذي يغمر نفسه، وهو يفعل ذلك ليرى جمال نفسه في لوحاته وليُرِيَ هذا الجمال للآخرين ممّنْ يملكون القدرة على تذوقه وفهمه والتأثر به.. فكم يكون موقفنا سخيفاً وغير منطقي لو توجهنا بالسؤال لهذا الفنان قائلين: ماذا تفعل..؟ وما الذي يحملك على مسك فرشاتك لترسم هذه اللوحة..؟ وما سرّ ذلك ؟ وما حكمته؟ أليس التوجه بمثل هذا السؤال عبثاً لا معنى له؟ الا يدل على قصور عقولنا؟ وسذاجة أفهامنا؟
فكذلك (ولله المثل الأعلى) فان الصفات الجمالية والكمالية وصفات القدرة التي يدور غالب أفكار "المثنوي" وخواطره حولها، هذه الصفات التي وصف الله - جلّ شأنه - بها نفسه ومنها: (الخالق، الباريء، المصور، الرحمن، الرحيم، اللطيف، الودود، الرزاق، الكريم، القادر، العليم..) الى آخر هذه الصفات لا بد لها من التجلي بمعانيها الجمالية والكمالية في الخلق والايجاد، وان ترتسم صورتها في مرآة العالم والوجود، وتنسكب بمحاسنها وألوانها على صور الكائنات والموجودات، ليراها مَنْ وصف نفسه بـ: "أحسن الخالقين"، وليريها للإنسان في خفايا نفسه، وفيما يحيط به من موجودات. فيرى - هذا الانسان - ويتأمل ويعتبر، ويشهد ويشغف، ويعجب ويشدَه، ثم لا يقف عند هذا بل يمر سريعاً من الرسم الى الرّسام، ومن النقش الى النقاش، ومن الظل الى الأصل، وبذلك - أي بهذا الانتقال السريع - يصبح الانسان جديراً بالفهم عن الله سبحانه وتعالى، الذي قدّر ان يكون محط عنايته، وخليفته في أرضه.. وهي بلا شك ستبلغ - أي هذه الصفات الجمالية والكمالية - مداها الأعظم والأشمل والأوفى من الجمال والكمال في حياة الانسان


المثنوي العربي النوري - ص: 18
الأخرى، وعمره الثاني في كنف الرحمن وفي جنته التي هي أروع لوحاته جمالاً وحسناً وكمالاً وقدرة..
وكما أنّ اللوحة الفنية العظيمة لرسام عبقري، لا يقدر على تذوق محاسنها، وترشف روح الجمال فيها، الاّ مَنْ كان له إلمام ببعض قواعد الرسم، ممّن رهُف حسُّه، ورقّ شعوره، وملك نفساً نقيةً صافية، وقلباً سريع الحساسية بلمحات الحسن والجمال، فكذلك فإن "الجنة" - ولا مشاحة في المثال مرة أخرى - هذه اللوحة المعجزة والتي رسمتها يد القدرة بألوان اللطف والرحمة الإلهيين، لابُدّ والاّ يزاح عنها الستار الاّ لمَنْ يمتلك رصيداً جمالياً في روحه وبدنه، واستعداداً ذوقياً يهئ له سبل الاستمتاع بهذا الجمال الذي لا عين رأت مثله، ولا أذن سمعت وصفه، ولا خطر على قلب بشر، كما جاء وصفه - بهذا المعنى - في الحديث الشريف .
ولذا فقد كرّس "النورسي" جملةً عظيمة من خواطره في "المثنوي" لتشويق الانسان، وترغيبه بالجنة، ولفت نظر النفس الى محاسنها، وتمهيد سبل معرفتها، والوصول اليها، وذلك بتهيئة أحاسيسه الذوقية والجمالية وإرهافها - وهو بعد في الدنيا - وتنقية حواس الروح والبدن من الشوائب والأكدار، وتطهير الضمير والوجدان من قبح الرذائل والآثام، وبهذا تجمل "النفس" فيشتاق جمالها الى جمال الجنة فيتناغمان ويتجاذبان ثم اذا قضي الأجل يلتقيان، فيندغمان ويتذاوبان في حرارة الاشتياق وبهجة اللقاء.
والآخرة بأحداثها وأهوالها، ونشرها وحشرها وجنتها ونارها، ليست -عند النورسي - قضية هامشية تحتل هامش ذهنه، وفضول وقته، وبقايا همّه - كما هي اليوم لدى الغالبية العظمى من الناس - وانما هي شهود دائم، وحضور قائم، ووجود شاخص، لا يبرح فكره، ولا يغادر وجدانه، يراها بنظر بصيرته كما يرى الأشياء بنظر عينه، وتتحسسه روحه كما يتحسس كل مشهود ومعلوم، وينفعل كيانه بها إنفعال منْ يَبْدَهُه الشئ العظيم والخطير، فيستهوِله ويتعظمه، ويخافه ويرجوه، ويرغب به، ويرهب منه.. فما دام الذي بين الانسان وبين أن تقوم قيامته، وتحل آخرته، هو أن يأتي زمن موته، وهو زمن مجهول قدرُهُ، محجوب سرّ قدومه، مكتوم وقت نزوله، ولكنه آت لا ريب فيه، لذا فالآخرة - بهذا الاعتبار - هي غائبة حاضرة، بعيدة


المثنوي العربي النوري - ص: 19
قريبة، مجهولة معلومة، مستورة مكشوفة.. هكذا يتحدث عنها "النورسي" - مستعيناً بما يرمز اليها من شؤون الدنيا - ويصف قيامتها وحشرها ونارها وجنتها وصف مَنْ يراها ويسمعها، ويغشاهُ وقتها وزمانها، وما لم يكن الشلل الروحي قد استفحل دبيبه في كيان المرء، وما لم يكن قد سرى خدَره المتيبسَ الى أمداء عميقة وسحيقة فيه، بحيث لم يعد يجدي فيه أي علاج.. فأغلب الظن ان "المثنوي" قادر باذن الله - بما تفيض به كلماته من بداهة الصدق المقنع - على تحرير هذا المرء من أصفاد شلله، وقادر على إجراء ذلك التمسيد المنشط للذرات الباردة المتيبسة في وجدان هذا المرء، وبعث الدفء والحركة والأحساس بالعافية في كيانه كله، فلا يلبث أن يندفع - في فورة عافيته - مخترقاً شغاف الأوهام بسنى النور الذي أشرقت شمسُه في فؤاده، ومبدداً دياجي الأباطيل ببوارق الحق الذي سطع ضوءُه في افاق عقله.
وتجربة "النورسي" في مثنويه تعلمنا بان "الحقيقة الدينية" - كأية حقيقة وجودية أخرى بل أكثرها علواً وشرفاً - لا يمكن ان تفصح عن نفسها، وتكشف عن سرها الاّ اذا بحث عنها وجهد في استكشافها الكيان البشري برمته، أي: بنزاهة الفكر، وإخلاص الضمير، وطهارة الروح والبدن، لان كل هذه الجوانب - التي منها يتكون الكيان البشري ويستقيم أمره - لها مجساتها الخاصة التي بها تجس جانباً من جوانب الحقيقة وتتلمسها متلذذةً بهذا التلمس والتحسس. وبمجموع هذه المجسات المتساندة والمتعاونة في الكيان البشري، وبالجوارح جميعاً - المادية والمعنوية - يمكن الاحاطة بالحقيقة الدينية والتقاطها وجعلها تسفر عن نفسها كأنصع وأجمل ما تكون، لتنال كل جارحة منها حظها، وتترشف منها ما يلائم مزاجها، ويرضي حاسة ذوقها، ولعلّ في إسراء الرسول صلى الله عليه وسلم وفي معراجه الى الملكوت الأعلى بكيانه البشري كله - لا بجزء من هذا الكيان - إيماء الى ان المعارف الدينية والتعبدية لا يمكن للمرء ان يستكمل جميع ما يتقطر منها من حلاوة ولذة الا باستخدام جميع أحاسيس كيانه الروحية منها والمادية. فكما ان آلام هذا الكيان ليست واحدة، فألم العين ليس كألم الأذن، وألم الأذن غير ألم الضرس، وأوجاع النفس غير أوجاع البدن، فكذلك فان مباهج هذا الكيان وأفراحه وأذواقه ليست واحدة على التحقيق..

عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 03-23-2011
  #5
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: المثنوي العربي النوري - المقدمات والتقديم


المثنوي العربي النوري - ص: 20
فالصلاة مثلاً - وهي معراج المسلم خمس أوقات في اليوم - تصبح - في الأداء الأمثل - موضع مذاقات الذات البشرية بأسرها؛ فكراً وروحاً وبدناً، ومن هنا جاء قوله صلى الله عليه وسلم: (يا بلال أقم الصلاة أرِحْنَا بها) 1. وقس على هذا جميع العبادات والمعارف الايمانية الأخرى التي استعرضها "النورسي" في كتابه هذا، مبيناً ضرورتها للإنسان كضرورة الماء والهواء، بل أعظم منهما ضرورة، فهو - اي النورسي - لشدة احترامه للإنسان فانه يحاور - في مثنويه - الكيان الإنساني بأسره وبجميع لطائفه أسوةً بمنهج القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وهو يقرر بأن أية معرفة إيمانية لا يكون من همها إشباع لطائف الانسان جميعاً، تبقى ناقصة ومبتورة أمام المعرفة الجامعة الكاملة المستقاة من القرآن الكريم مباشرةً من قبل مَنْ هم ورثة الانبياء حقاً وصدقاً.
وحتى "القدر" الذي يقدّر مقادير الخلق، ويعين وظائف الموجودات، ويرسم لكل كائن في هذا العالم المدى الذي يمضي اليه، والبعد الذي يصل عنده ويؤشر له نقطة البداية التي ينطلق منها، ونقطة النهاية التي يقف عندها، ثم يربط الموجودات بعضها ببعض، ويسنّ لها سنن التعاون والتساند فيما بينها، فما يبدو - للوهلة الاولى - وكأنه صراع من أجل البقاء بين بعض أنواعها، هو في النظرة العميقة الشاملة وفي المحصلة النهائية، وما يفضي اليه هذا الصراع من غايات ومقاصد، يصب في تيار التعاون والتساند ويثري الحياة، ويسهم في دفعها نحو الهدف الذي يريده منها خالق الحياة..
أقول: ان القدر، بهذا المفهوم الذي يطرحه "النورسي" في جملة من خواطره في "المثنوي" - وان كان فوقياً وغيبياً - إلاّ أنه لا ينزل بالانسان هكذا فجأة وعلى غير انتظار، ولا يلطم أحداً الاّ تأديباً له وتعليماً، أوتنبيهاً وتذكيراً ولا يُرَبّتُ على ظهر أحد غير جدير برحمته، وبلمسات لطفه وودّه، وهو ليس من همه أبداً أن يقف في طريق الانسان، ويدخل معه في صراع فلا يفلته حتى يصرعه.. فلو استعرض كلّ منا شريط حياته لشعر وكأنّ ما وقع له من أحداث أو أقدار - في سني عمره كله - لم
_____________________
1 رواه ابو داود عن سالم ابن ابي الجعد. قال: قال رجل ليتني صليت فاسترحت فكأنهم عابوا ذلك عليه، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: »يا بلال اقم الصلاة ارحنا بها « ولأبي داود رواية اخرى مشابهة عن محمد الحنفية (كشف الخفاء 1/ 108 باختصار)



المثنوي العربي النوري - ص: 21
تقع اعتباطاً، ولم تحدث لغير ما مغزى ويتيقن بانّ كل شئ حدث له وكأنه كان ينبغي أن يحدث على الشكل الذي حدث به وبالطريقة عينها التي حدث بها، وأنه النتيجة المتوقعة لسلسلة من المقدمات التي سبقته فلا تقبل نتيجة سواها، فالأحداث أو الأقدار - تأنيساً لبني البشر - لا تأتي مغايرة لمن تقع لهم، بل تأتي شبيهة بهم وبأعمالهم، وبما ينطوي عليه كيانهم البشري من أصول البطولة أو الخسة، ومن جذور النقاء أو الدنس. وصدق الله العظيم حيث يقول: (قُلْ كُلٌ يَعْمَلُ عَلى شَاكِلَتِهِ) (الاسراء: 84) فعلى شاكلة هذه الأعمال، وبسببها وعلى قدْرِها يقع القدر، وينفذ القضاء.
وبعد:
ويجدر بي ان أشير الى ان الجديد في هذا الكتاب هو قدرة "النورسي" الفذة على صياغة القضايا الايمانية والبرهنة على صدقها واحقيتها بأسلوب هومزيج من عقل المفكر، وقلب الشاعر.. ولكي اعطي صورة قربية عن هذا الاسلوب للقارئ الكريم اقول:
ان النورسي نفس شاعرة، وروح لهيف،وقلب مشتاق، ووجدان رقيق مرهف، وبصيرة نفاذة مذواق، وبصر لمّاح رصّاد لا تفوته بارقة من بوارق الجمال الكوني، ولا تفلت منه سانحة من سوانحه. وطائر عجيب يلقط لآلئ الحسن من فوق جيد الوجود. وظامئ عطش يترشف زلال الجمال من رضاب ثغور الأكوان.. ومع كونه يملك كل صفات "الشاعر العظيم" الاّ أنه لم يقل شعراً، أعني انه لم ينظم شعراً كما ينظم الشعراء، ولكن ما قاله في "المثنوي" رغم انه يحمل ميزات "النثر" ومقوماته شكلاً وقالباً، الاّ أنه شاعري الروح والنفس وجداني الانسياب، رشيق في صوره وأخيلته، مع عمق أفكاره ودقيق معانيه!.


المثنوي العربي النوري - ص: 29
مقدمة المؤلف
للمجموعة العربية لفظاً والمثنوي حكماً
ترجمة: الملا عبدالمجيد النورسي
"تتضمن خمس نقاط"1
النقطة الاولى:
كان سعيد القديم - قبل حوالي خمسين سنة - لزيادة اشتغاله بالعلوم العقلية والفلسفية يتحرى مسلكاً ومدخلاً للوصول الى حقيقة الحقائق، داخلاً في عداد الجامعين بين الطريقة والحقيقة. وكان لايقنع ولايكتفي بالحركة القلبية وحدها - كاكثر اهل الطريقة - بل جهد كل الجهد اولاً لانقاذ عقله وفكره من بعض الاسقام التي اورثتها إيّاه مداومة النظر في كتب الفلاسفة.
ثم اراد - بعد أن تخلّص من هذه الاسقام - ان يقتدي ببعض عظماء اهل الحقيقة، المتوجهين الى الحقيقة بالعقل والقلب، فرأى ان لكلٍ من اولئك العظماء خاصيّة جاذبة خاصة به،فحار في ترجيح بعضهم على بعض.

_____________________
1 لدى مقابلة هذه الترجمة مع الاصل التركي وجدتها وافية بالغرض الاّ ما استوجب من تغيير طفيف في بعض العبارات واضافة اخرى لتكون اكثر مشابهة بالنص التركي .



المثنوي العربي النوري - ص: 30
فخطر على قلب ذلك السعيد القديم الممخض بالجروح - ما في مكتوبات "الامام الرباني" من أمره له غيباً: "وحِّد القبلة" 1 اي ان الاستاذ الحقيقي انما هو القرآن ليس إلاّ، وان توحيد القبلة انما يكون باستاذية القرآن فقط، فشرع بارشاد من ذلك الاستاذ القدسي بالسلوك بروحه وقلبه على أغرب وجه، واضطرته نفسه الامارة بشكوكها وشبهاتها الى المجاهدة المعنوية والعلمية.
وخلال سلوكه ذلك المسلك ومعاناته في دفع الشكوك، قطع المقامات، وطالع مافيها، لا كما يفعله اهل الاستغراق مع غض الابصار، بل كما فعله الامام الغزالي 2 والامام الرباني وجلال الدين الرومي 3، مع فتح أبصار القلب والروح

_____________________
1 الامام الرباني: هو احمد بن عبد الاحد السرهندي الفاروقي (971- 1034هـ) الملقب بحق "مجدد الالف الثاني " برع في علوم عصره، وجمع معها تربية الروح وتهذيب النفس والاخلاص لله وحضور القلب، رفض المناصب التي عرضت عليه، قاوم فتنة "الملك اكبر " التي كادت ان تمحق الاسلام. وفّقه المولى العزيز الى صرف الدولة المغولية القوية من الالحاد والبرهمية الى احتضان الاسلام بما بث من نظام البيعة والاخوة والارشاد بين الناس، طهر معين التصوف من الاكدار، تنامت دعوته في القارة الهندية حتى ظهر من ثمارها الملك الصالح "اورنك زيب " فانتصر المسلمون في زمانه وهان الكفار. انتشرت طريقته "النقشبندية " في ارجاء العالم الاسلامي بوساطة العلامة خالد الشهرزوري المشهور بمولانا خالد (1192 - 1243هـ). له مؤلفات عديدة اشهرها "مكتوبات " ترجمها الى العربية محمد مراد في مجلدين، وسمّاها "الدرر المكنونات " والعبارة المذكورة في المكتوب الخامس والسبعين من المجلد الاول، وهي: ".. ولكن لابد من ان تراعي شرطاً واحداً وهو: توحيد قبلة التوجه... ".
2 الامام الغزالي: (450 - 505 هـ) ابو حامد محمد بن محمد بن محمد بن احمد الغزالي، فقيه ومتكلم وفيلسوف وصوفي ومصلح ديني واجتماعي، وصاحب رسالة روحية، كان لها اثرها في الحياة الاسلامية. ولد بطوس من اعمال خراسان، ودرس علوم الفقهاء وعلم الكلام على امام الحرمين، وعلوم الفلاسفة وبخاصة الفارابي وابن سينا وعلوم الباطنية، فلم يجد في هذه العلوم مايشبع حاجة عقله الى اليقين ولا ما يرضي رغبة قلبه في السعادة واشتغل بالتدريس في المدرسة النظامية وارتحل الى بلاد كثيرة منها دمشق وبيت المقدس والقاهرة والاسكندرية ومكة والمدينة. ومن مصنفاته (احياء علوم الدين) و (تهافت الفلاسفة) و (المنقذ من الضلال).
3 مولانا الرومي: (604- 672هـ)(1207- 1273م) عالم بفقه الحنفية والخلاف وانواع العلوم، ثم متصوف صاحب (المثنوي) المشهور بالفارسية المستغني عن التعريف في ستة وعشرين الف بيت، وصاحب الطريقة المولوية. ولد في بلخ (بفارس) استقر في (قونية) سنة 623هـ عرف بالبراعة في الفقه وغيره من العلوم الاسلامية، فتولى التدريس بقونية في اربع مدارس بعد وفاة ابيه سنة 628هـ من مؤلفاته: ديوان كبير، فيه مافيه، مكتوبات.



المثنوي العربي النوري - ص: 31
والعقل، فسار فيها - اي في المقامات - ورأى مافيها بتلك الابصار كلها، منفتحةً من غير غضٍ ولاغمض.
فحمداً لله على ان وُفِّق على جمع الطريقة مع الحقيقة بفيض القرآن وارشاده، حتى بيّن برسائل النور التي ألفها "سعيد الجديد" حقيقة:
وفي كل شئ له آية تدل على أنه واحد 1
النقطة الثانية:لقد كان في سياحته وسلوكه ذلك السلوك في تلك المقامات، ساعياً بالقلب تحت نظارة العقل، وبالعقل في حماية القلب كالامام الغزالي والامام الرباني وجلال الدين الرومي. فبادر الى ضماد جراحات قلبه وروحه، وخلّص نفسه من الوساوس والاوهام. وبخلاصه منها انقلب سعيد القديم الى سعيد الجديد، فألّف بالعربية ماهو بحكم المثنوي الشريف - الذي هو أصلاً بالفارسية - رسائل عدة في أوجز العبارات. وكلما سنحت له الفرصة أقدم على طبعها، وهي: "قطرة، حباب، حبة، زهرة، ذرة، شمة، شعلة، ودروس اخرى" مع رسالتين بالتركية وهما: لمعات ونقطة. وبيّن ذلك المسلك في غضون نصف قرن من الزمان في "رسائل النور" التي لم تقتصر على جهاد النفس والشيطان، بل اصبحت شبيهة بمجموعة كلية واسعة من "المثنوي" تنقذ الحيارى المحتاجين وتنتشل المنساقين الى الضلالة من اهل الفلسفة.النقطة الثالثة:
ان المناظرة الجارية بين ذينك السعيدين - سعيد القديم والجديد - كانت دافعة للشيطان، قاهرةً للنفس، حتى غدت "رسائل النور" طبيبة حاذقة لذوي الجراحات من طلاب الحقيقة، واصبحت مُلزمةً ومُسكتةً لأهل الالحاد والضلالة.
فتبيَّن ان هذا "المثنوي العربي" كان نواة لرسائل النور، وغرساً لها، يُخلِّص الناس من شبهات الشياطين من الانس والجن.. ولايخفى أن تلك المعلومات في حكم المشهودات، وأن يقين العلم كعين اليقين، يورث القناعة ويوجب الاطمئنان التام.

_____________________
1 لابى العتاهية في ديوانه وينسب الى علي كرم الله وجهه ونسبه ابن كثير في تفسيره الى ابن المعتز.



المثنوي العربي النوري - ص: 32
النقطة الرابعة:لما كان اكثر اشتغال سعيد القديم بعلمَي الحكمة والحقيقة ويناظر عظماء العلماء ويناقشهم في أدق المسائل واعمقها، ويراعي درجة أفهام طلابه القدامى المطلعين على العلوم الشرعية العالية، فضلا عن انه يشير الى ترقياته الفكرية وفيوضاته القلبية، بأدق العبارات واقصر الجمل التي لايفهمها الاّ هو؛ لذا قد لا يدرك قسم منها - بعد جهد جهيد - إلاّ الراسخون في العلم.
فلو كانت تلك الخواطر القلبية مبيّنة بعبارات سهلة مفصلة وموضحة بايضاح يقربها الى الافهام لكان ذلك "المثنوي العربي" معينا تاماً لرسائل النور ومعاوناً لها في وظيفتها.
فتبيّن أن "المثنوي العربي" - وهو مشتل رسائل النور وغراسها - قد سعى كالطرق الخفية الى المعرفة الالهية، في تطهير الانفس والداخل من الانسان، فوفّق الى فتح الطريق من الروح والقلب.
بينما "رسائل النور" - التي هي بستانه اليانع - قد فتحت طريقاً واسعاً الى معرفة الله، بتوجهها الى الآفاق الكونية - كالطرق الجهرية - فضلا عن جهادها في الانفس، حتى وكأنها عصا موسى - عليه السلام - اينما ضربتْ فجّرت الماء الزلال.
وكذا فان "رسائل النور" ليس مسلكها مسلك العلماء والحكماء، بل هو مسلكٌ مقتَبسٌ من الإعجاز المعنوي للقرآن يُخرج زلال معرفة الله من كل شئ، فيستفيد السالك في "رسائل النور" في لحظةٍ مالا يستفيده سالكو سائر المسالك في سنة..
وذلك سرٌ من اسرار القرآن يعطيه الله من يشاء من العباد ويدفع به هجوم اهل العناد.


المثنوي العربي النوري - ص: 33
النقطة الخامسة:انك ترى في ثاني "المثنوي" اعني تلك المجموعة العربية، من المسائل والحقائق الدقيقة التي من شأنها أن يكون كلٌ منها موضوعاً لرسالة.. قد ذُكرتْ ضمن الفاظٍ ضيقة لاتَسعها، وفي سطور معدودة لاتستوعبها.. وافردت تلك المسائل بذكر: اعلم.. اعلم في اوائلها. فلاتظنن ان المسائل التي كل منها موضوعٌ لرسالة ومشيرٌ الى حقائق متخالفة بعضها عن بعض كلها من فن واحد، او عائد الى مقام واحد، او كاشف عن جواهر صَدفٍ واحد، قائلاً في نفسك: ان ذكر "اعلم" وتكراره في رؤوس هذه المسائل مما لافائدة له ولاطائل تحته؛ لأن كلاً منه عنوان وفهرس لرسالة وحقائق، وتكراره انما هو للاشارة الى مابين تلك المسائل من المغايرة.
فعلى القراء الكرام ان يضعوا هذه النقاط المذكورة آنفاً نصب اعينهم كيلا يبادروا الى الاعتراض 1.
سعيد النورسي

_____________________
1 قد ترجم المترجم مقدمة هذا ( المثنوي) قرب صاحب "المثنوي الاول " - جلال الدين الرومي - في مدينة قونية في تركيا. وهذا ليس من التصادف ، بل فيه اشارة وحكمة لا اقدر ان اعبر عنها.(عبدالمجيد)



المثنوي العربي النوري - ص: 34
تنبيه
إخطار
إعتذار
!
اعلم!ان هذه الرسالة نوعُ تفسيرٍ شهودي لبعض الآيات القرآنية. وما فيها من المسائل، ازاهيرٌ اقتطفت من جنّات الفرقان الحكيم، فلايوحشك مافي عباراتها من الاشكال والاجمال والايجـــاز، فكرر مطالعتها حتى ينفتح لك سـر تكرار القــرآن؛ امثـــال (لَهُ مُلكُ السّمــواتِ والارض).
ولاتخف من تمرد النفس؛ لأن نفسي الأمارة المتمردة المتجبرة انقادتْ وذلّلت تحت سطوة مافي هذه الرسالة من الحقائق! بل شيطاني الرجيم أفحم وانخنس.
كُن مَن شئت، فلانفسُك اطغى واعصى من نفسي، ولاشيطانُك اغوى واشقى من شيطاني.
ايها القارئ!
لاتحسبَنّ براهين التوحيد ومظاهره في (الباب الاول) 1 يغني بعضها عن بعضٍ.. مطلقاً. اذ شاهدتُ الاحتياج الى كل واحدٍ في مقام مخصوص، اذ قد تلجئ الحركة الجهادية الى موقع لابد للخلاص من فتح بابٍ في ذلك الموقع؛ إذ لا يتيّسر في ذلك الآن التحول الى الابواب الاُخر المفتوحة.

_____________________
1 جاء هذا التنبيه في (الطبعة الاولى) مقدمة لرسالة "قطرة من بحر التوحيد " الاّ ان اهميته جعلته يتصدر المجموعة العربية كاملة .



المثنوي العربي النوري - ص: 35
وكذا لاتظنن أني باختياري أشكلتُ عليك عبارة هذه الرسالة؛ اذ هذه الرسالة مكالمات فجائية مع نفسي في وقتٍ مدهش. والكلمات انما تولدتْ في اثناء مجادلة هائلة كإعصار يتصارع فيها الانوارُ مع النيران، يتدحرج رأسي في آن واحد من الأوج الى الحضيض، ومن الحضيض الى الأوج، من الثرى الى الثريا؛ اذ سلكتُ طريقاً غير مسلوك، في برزخٍ بين العقل والقلب، ودار عقلي من دهشة السقوط والصعود. فكلما صادفتُ نوراً نصبتُ عليه علامة لأتذكّره بها. وكثيراً ما أضع كلمةً على مالايمكن لي التعبير عنه، للإخطار والتذكير، لا للدلالة.. فكثيراً مانصبتُ كلمة واحدة على نور عظيم..
ثم شاهدت أن اولئك الانوار الذين يمدونني في بطون ارض الظلمات ماهم الاّ شعاعات شمس القرآن تمثلوا لي مصابيح..
اللهم اجعل القرآن نوراً لعقولنا، وقلوبنا، وارواحنا ومرشداً لأنفسنا.. آمين
يامن نظر في كتابي! ان استفدت منه شيئاً
لابد أن تفيدني فاتحةً او دعاءً خالصاً في سبيل الله.
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
المثنوي العربي النوري - شُعْلَةٌ عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 2 03-23-2011 08:21 PM
المثنوي العربي النوري - قطعة من شمة عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 4 03-23-2011 08:14 PM
المثنوي العربي النوري - شَمَّةٌ عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 1 03-23-2011 08:07 PM
المثنوي العربي النوري - ذرة عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 1 03-23-2011 08:04 PM
المثنوي العربي النوري - حبة عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 3 03-23-2011 07:55 PM


الساعة الآن 02:31 AM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir