سيدنا عثمان - دفع الأخطار الخارجية براً وبحراً
ثالث "الراشدين"
دفع الأخطار الخارجية براً وبحراً
أ .د . قصي الحسين
أتت ولاية عثمان رضي الله عنه في أقسى الظروف التي مرت على المسلمين وذلك لأمرين مهمين: 1- أنه أتى بعد عمر بن الخطاب الذي كانت هيبته تملأ الجزيرة العربية، ويخضع لها سلاطين العصر من الأكاسرة والقياصرة . 2- تسلمه الولاية بعد شيوع مقتل عمر وتلاحق الثورات والفتن وتمرد قبائل الفرس والترك والروم .
وقد كانت محنة كمحنة الردّة في أول ولاية أبي بكر، إذ نقضت دولة الروم صلحها، فأغارت على الاسكندرية براً وبحراً . وأرسلت أساطيلها إلى شواطئ فلسطين، وأطلقت الوعد والوعيد . وسارت زحوف عظيمة من الخزر والأرمن ومن الشعوب الآسيوية والشعوب الأوروبية وشعوب البحر المتوسط، طامعة باقتناص الفرصة الذهبية والانقلاب على العهود التي أبرمت والاقتصاص من المسلمين .
غير أن عثمان، رضي الله عنه، كان كفؤاً لهم بالعزم والرأي والشجاعة والسرعة في تصريف الأمور وتسيير النجدات، وإسناد كل عمل إلى من يحسنه ويسدّ فيه أعظم سداد، وقد نفخ في جنده حمية الإسلام فحفزهم على الانتقال من نصر إلى نصر ومن عزمة إلى عزمة . إنها الحمية التي صحبتهم من بدر إلى القادسية وتبوك وبابليون وظلت صامدة، تنفث في قلوب الرجال الغضبة القوية التي تدكّ عروش الأعداء وتجعلها تتهاوى .
قتال في الجهات الأربع
ومن القادة الشجعان الذين انتدبهم عثمان لتسيير الفتوح في الآفاق، حبيب بن مسلمة الفهري الذي أحسن مقارعة الروم في سواحل سوريا وفلسطين بعد تحرير الداخل . وتعاظمت أعباء الانقلاب على جبهات الفتوح في أوائل أيام عثمان، رضي الله عنه، وكانت هذه الأعباء أشق وأعظم وأخطر مما واجهه المسلمون في زمن أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، وهي بالتالي، كانت أحوج إلى التوجيه الناجز والتصريف الذي لا يغني الإجمال فيه عن التفصيل .
ولهذا أتت سياسة عثمان الرائعة، حسب الأطوار المتجددة والطوارئ والمتقلبة، لامتداد خطوط القتال وتعدد الفتن وتباعد المسافات بين البلدان وتكاثر العناصر والأجناس في جيوش المسلمين .
والحق يقال إن الخليفة الشيخ، كان قد قام بأعبائه الجسام على أحسن ما يمكن، في تلك المحنة الجائحة، مثبتاً بحسن سياسته في إدارة المعركة مع الأعداء في الخارج مهابة الدولة الجديدة ولم يعمل عثمان على إهماد الثورات وحسب، ولم يلجأ إلى قمع الدسائس التي يدسها العدو على المسلمين في الأقاصي وحسب، بل أمر بتقدم جنوده شرقاً إلى الهند والصين، وشمالاً إلى ما وراء بحر الخزر وغرباً إلى أبواب القسطنطينية وتخوم الأندلس وجنوباً إلى السودان وحدود بلاد الحبشة . وكان لا يؤخذ عليه أي تخاذل أو تردد في إنفاذ نجدة أو تسيير مدد أو تدارك خطر في أوانه .
سياسة حكيمة
واتبع عثمان سياسة حكيمة ورشيدة وجريئة في آن، حين عرضت عليه مسالة عسيرة، كان قد أرجأها عمر، رضي الله عنه، وهي غزو قبرص ورودس وجزر بحر الروم، وذلك من أجل ردّ قراصنة البحر عن شواطئ مصر والشام وبلاد المغرب . وقد وجد عثمان أن الزمن قد تغير، وأنه لا بد من أخذ قرار جريء يدفع بالدولة قدماً إلى الأمام . وكان معاوية بن أبي سفيان والي الشام يلح على عثمان بأن يأذن له بركوب البحر إلى الجزر وإنهاء المشكلات التي تعانيها الثغور بسبب خروج القراصنة منها . وقد كتب إلى معاوية يأذن له ويشترط عليه: “ألاّ ينتخب الناس ولا يقترع بينهم، وأن يخيرهم . فمن اختار الغزو طائعاً حمله وأعانه” .
وعلى شرط عثمان، رضي الله عنه، قام القائد العربي البحري عبد الله بن قيس الجاسي، قائد الأسطول بخمسين غزوة بين شاتية وصائغة في البر والبحر، ولم يغرق منهم أحد ولم ينكب . ولقد أدت هذه السياسة من عثمان إلى دفع الأخطار الخارجية وكانت سياسته البحرية تحديداً بعيدة النظر . وفي عهده بدأ العرب بمجاراة البيزنطيين في اصطناع سياسة بحرية دفاعية وهجومية في وقت واحد معاً، وذلك حين عمدوا إلى إنشاء الأساطيل البحرية . حيث أمر عثمان رضي الله عنه واليه معاوية في بلاد الشام أن يستعين بأهل البلاد في الثغور الساحلية ويدخل معهم في طور جديد من التأسيس والبناء، إذ كان لملاحي بلاد الشام تجارب بحرية عظيمة وقديمة . ولعل عثمان في قراره هذا بركوب البحر، قد فتح بلاد المسلمين على الآفاق البعيدة وأخذ يحضهم على دخول عصر العولمة من بابها الواسع، لا من باب الخوف والتردد والتقوقع . وهو الذي كان قد جاب الآفاق زمن الشباب، فما باله لا يفتح الآفاق أمام الشباب العربي في ظل دولته العربية الإسلامية الراشدة والرشيدة؟ ولعلنا لا نخطئ إذا قلنا إن عثمان، رضي الله عنه، كان بمثل هذه السياسة الحكيمة المتميزة التي انفرد بها عن غيره من الخلفاء، يضع قدماً راسخة في التطلع إلى العالم بأسره .