أنت غير مسجل في منتديات البوحسن . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله           

إضافة رد
قديم 04-09-2012
  #1
admin
مدير عام
 الصورة الرمزية admin
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: uae
المشاركات: 717
معدل تقييم المستوى: 10
admin تم تعطيل التقييم
افتراضي معارك الشام

خالد بن الوليد في الشام

فلما سمع أبو بكر ذلك علم أن أبا عبيدة لين العريكة لا يصلح لقتال الروم وعول أن يكتب إلى خالد بن الوليد ليوليه على جيوش المسلمين وقتال الروم قال: واستشار المسلمين في ذلك فقالوا: الرأي ما تراه، وكتب كتاباً يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عتيق بن أبي قحافة إلى خالد بن الوليد سلام عليك: أما بعد فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وإني قد وليتك على جيوش المسلمين وأمرتك بقتال الروم وأن تسارع إلى مرضاة الله عز وجل وقتال أعداء الله، وكن ممن يجاهد في الله حق جهاده ثم كتب "يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم" الصف: 10، الآية وقد جعلتك الأمير على أبي عبيدة ومن معه. وبعث الكتاب مع نجم بن مقدم الكناني فركب على مطيته وتوجه إلى العراق فرأى خالداً رضي الله عنه قد أشرف على فتح القادسية فدفع إليه الكتاب فلما قرأه قال: السمع والطاعة لله ولخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ارتحل ليلاً وأخذ طريقة عن اليمين وكتب كتاباً إلى أبي عبيدة يخبره بعزله وبسيره إلى الشام، وقد ولاني أبو بكر على جيوش المسلمين فلا تبرح من مكانك حتى أقدم عليك والسلام. وبعث الكتاب مع عامر بن الطفيل رضي الله عنه، وكان أحد أبطال المسلمين فأخذه وتوجه يطلب الشام.
وأما خالد فلما وصل إلى أرض السماوة قال: أيها الناس إن هذه الأرض لا تدخلونها إلا بالماء الكثير لأنها قليلة الماء ونحن في جيش عظيم والماء معكم قليل فكيف يكون الأمر? فقال له رافع بن عميرة الطائي رضي الله عنه: أيها الأمير إني أشير عليك بما تصنع، فقال: يا رافع أرشدك الله بما نصنع ووفقك الله مولانا جل وعلا للخير، قال: فأخذ رافع ثلاثين جملاً وعطشها سبعة أيام ثم أوردها الماء فلما رويت حزم أفواهها، ثم ركبوا المطايا وجنبوا الخيول وساروا فكانوا كلما نزلوا منزلاً اخذوا عشرة من الإبل يشقون بطونها ويأخذون ما يجدون من الماء في بطونها فيجعلونه في حياض الادم، فإذا برد سقوه للخيل وأكلوا اللحم ولم يزالوا كذلك حتى تمت الإبل وفرغ الماء وقطعوا مرحلتين بلا ماء وأشرف خالد ومن معه على الهلاك. فقال خالد لرافع بن عميرة: يا رافع قد أشرفنا على الهلاك والتلف أتعرف لنا ماء ننزل فيه.
قال الواقدي: وكان رافع رمدت عيناه. فقال: أيها الأمير أتاني رمد كما ترى، ولكن إذا أشرفتم على أرض سهلة فأعلموني. قال: فلما أشرفوا عليها أعلموا رافعاً بذلك. قال: فرفع طرف عمامته عن عينيه، وسار على راحلته يضرب يميناً وشمالاً والناس من ورائه إلى أن أقبل على شجرة من الأراك فكبر وكبر المسلمون، ثم قال:احفروا هنا. قال: فحفرت العرب وإذ الماء قد طلع كالبحر، فنزل الناس عليه وشكروا الله تعالى وأثنوا عليه وعلى رافع خيراً، ثم وردوا الماء وسقوا خيلهم وإبلهم، ثم جذوا في طلب من انقطع من المسلمين ومعهم القرب بالماء. قال: فسقوهم فارتجعت قوتهم. ثم لحقوا بالجيش وأراحوا أنفسهم، ثم في ثاني يوم جدوا في المسير إلى أن بقي بينهم وبين أركة مرحلة واحدة، فبينما هم كذلك إذ أشرفوا على حلة عامرة وأغنام وإبل قد سدت الفضاء والمستوي، فأسرع المسلمون إلى الحلة وإذا براع يشرب الخمر وإلى جانبه رجل من العرب مشدود. قال: فتبينه المسلمون وإذا هو عامر بن الطفيل الذي أرسله خالد. قال: فأقبل خالد بن الوليد مسرعاً حتى وقف عليه، فلما رآه تبسم وقال: يا ابن الطفيل كيف كان سبب أسرك. قال عامر: أيها الأمير إني أشرفت على هؤلاء القوم في هذه الحلة وقد أصابني الحر والعطش فملت إلى هذا الوادي ليسقيني من اللبن فوجدته يشرب خمراً. فقلت له: يا عدو الله أتشرب الخمر وهي محرمة. فقال لي: يا مولاي إنها ليست بخمر وإنما هي ماء زلال، فأنزل كي تراه واستنشق ما في الجفنة فإن كان خمراً فافعل ما بدا لك، فلما سمعت كلامه أنخت المطية ونزلت عن كورها وجلست على ركبتي في الجفنة وإذا أنا بالعبد قد طلبني بعصا كانت إلى جانبه وضربني على رأسي فشجني شجة موضحة، فانقلبت على جانبي فأسرع العبد إلي وشدني كتافاً وأوثقني رباط وقال لي: أظنك من أصحاب محمد بن عبد الله ولست أدعك من بين يدي أو يقدم سيدي من عند الملك. فقلت له: ومن سيدك من العرب? فقال: القداح بن وائلة وإني عند هذا العبد كلما شرب الخمر أحضرني كما ترى وألقى علي فضلة من كأسه. قال: فلما سمع خالد بن الوليد كلام عامر بن الطفيل اشتد به الغضب ومال على العبد وضرب ضربة هائلة فجندله صريعاً ونهب المسلمون المال والأغنام والإبل وقلعوا الحلة بما فيها وأطلق عامراً وقال له: أين رسالتي يا عامر? فقال: يا مولاي هي في طرف عمامتي لم يعلم بها العبد. فقال خالد: انطلق بها يا عامر على بركة الله تعالى. قال: فركب عامر وسار يطلب الشام وارتحل خالد من موضعه ذلك فنزل بأركة وهي رأس الأمانة لمن يخرج من العراق، وكانت الروم تمسك بها القوافل وكان عليها بطريق من قبل الملك فأغار خالد عليها وأخذ ما كان فيها وتحصن أهلها بحصنها وكان يسكن فيها حكيم من حكماء الروم وقد طالع الكتب القديمة والملاحم، فلما رأى المسلمين وجيشهم انتقع لونه وقال: اقترب الوقت وحق ديني. فقال أهل أركة: وكيف ذلك. قال: إن عندي ملحمة فيها ذكر هؤلاء القوم، وإن أول راية تشرف من خيلهم هي الراية المنصورة وقد دنا هلاك الروم، فانظروا إن كانت رايتهم سوداء وأميرهم عريض اللحية طويل ضخم بعيد ما بين المنكبين واسع الهيكل في وجهه أثر جدري لهو صاحب جيشهم في الشام وعلى يديه يكون الفتح.

قال: فنظر القوم وإذا الراية على رأس خالد وهي كما قال حكيمهم. قال: واجتمعوا على بطريقهم وقالوا له: أنت تعلم أن الحكيم سمعان لا ينطق إلا بالحق والحكمة وقد قال كذا وكذا. والذي وصفه لنا رأيناه عياناً ونرى من الرأي أن نعقد بيننا وبين العرب صلحاً ونأمن على حريمنا وأنفسنا. فلما سمع ذلك بطريقهم قال: أخروني إلى غد لأرى من الرأي. قال: فانصرفوا من عنده وبات البطريق يحدث نفسه ويدبر أمره وكان عارفاً عاقلاً خبيراً بالأمور، وقال: إن أنا خالفتهم خفت أن يسلموني للعرب، وقد تحقق أن روبيس سار بجيش عظيم فهزمهم العرب ولم يزل يراود نفسه إلى أن أصبح الصباح فدعا قومه. وقال: على ماذا عولتم? قالوا: عولنا على أننا نقيم الصلح بيننا وبين العرب. فقال البطريق: أنا واحد منكم مهما فعلتم لا أخالفكم. قال: فخرج مشايخ أركة إلى خالد وكلموه في الصلح، فأجابهم إلى الصلح وألان الكلام لهم وتلقاهم بالرحب والسعة ليسمع بذلك أهل السخنة ويبلغ الخبر لأهل قدمة، وكان الوالي عليهم بطريق اسمه كوكب، فجمع رعيته وقال لهم: بلغني عن هؤلاء العرب أنهم فتحوا أركة والسخنة وأن قومنا يتحدثون بعدلهم وحسن سيرتهم وأنهم لا يطلبون الفساد وهذا حصن مانع لا سبيل لأحد علينا، ولكن نخاف على نخلنا وزرعنا، وما يضرنا أن نصالح العرب، فإن كان قومنا هم الغالبين فسخنا صلحهم، وإن كان العرب ظافرين كنا آمنين. قال: ففرح قومه بذلك وهيئوا العلوفة والضيافة حتى خرج خالد. رضي الله عنه من أركة ونزل عليهم فخرجوا إليه بالخدمة وصالحهم على ثلثمائة أوقية من الذهب وكتب لهم كتاباً بالصلح، ثم ارتحل عنها إلى حوران وبلغ عامر بن الطفيل كتاب خالد إلى أبي عبيدة، فلما قرأه تبسم وقال: السمع والطاعة لله تعالى ولخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أعلم المسلمين بعزله وولاية خالد بن الوليد، وكان أبو عبيدة وجه شرحبيل بن حسنة كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بصرى في أربعة آلاف فارس. قال: فسار على فنائها، وكان على بصرى بطريق عظيم الشأن والقدر عند الملك وعند الروم اسمه روماس، وكان قرأ الكتب السالفة والأخبار الماضية، وكان يجتمع إليه الروم من أقصى بلادها ينظرون إلى عظيم خلقته ويسمعون ألفاظ حكمته، وكانت آهلة بالخلق عامرة بالناس، وكان فيها ألف فارس، وكان العرب يقصدونها ببضائعهم وتجارتهم من أقصى اليمين وبلاد الحجاز، فإذا كان في أيام الموسم ينصب لبطريقهم كرسي ليجلس عليه ويجتمع الناس إليه، ويستفيدون من علمه وحكمته، فبينما هم قد اجتمعوا إليه وقعت الضجة بقدوم شرحبيل بن حسنة وعسكره فبادر إلى جواده فركبه وصاح في قومه فأجابوه وقال: لا تتحدثوا حتى نسمع كلام القوم وما عندهم، ثم سار حتى قرب من شرحبيل بن حسنة وجيشه، ونادى: معشر المسلمين أنا روماس وإني أريد صاحبكم. قال: فخرج إليه شرحبيل، فلما قرب منه قال البطريق: من أنتم. قال شرحبيل: من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم النبي الأمي القرشي الهاشمي المنعوت في التوراة والإنجيل فقال روماس: ما فعل الله به.

فقال شرحبيل: قبضه الله إليه. فقال البطريق: فمن ولي الأمر بعده. قال: عتيق بن أبي قحافة بن بكر بن تيم بن مرة. فقال روماس: وحق ديني لقد أعلم بأنكم على الحق ولا بد لكم أن تملكوا الشام والعراق وأنا أشفق عليكم إذ أنتم في جمع يسير ونحن في جمع كثير، ولكن ارجعوا إلى بلادكم فإنا لا نتعرض لكم. واعلم يا أخا العرب أن بكر هو صاحبي ورفيقي ولو كان حاضراً ما قاتلني. فقال شرحبيل: لو كنت ولده أو ابن عمه لما عفا عنه إلا أن يكون من أهل ملته، وليس له من الأمر شيء لأنه مكلف، وقد أمره الله أن يجاهدكم ولسنا نبرح عنكم إلا بإحدى ثلاث: إما أن تدخلوا في ديننا أو تؤدوا الجزية، أو السيف. فقال روماس: وحق ما أعتقده من ديني: لو كان الأمر إلي أقاتلكم لأني أعلم أنكم على حق، وهؤلاء طواغية الروم وقوم مجتمعون، وإني أريد أن أرجع إليهم وأنظر ما عندهم. فقال شرحبيل: ارجع إليهم فلا بد لكم بما ذكرت. قال: فعاد روماس إلى قومه وجمعهم، وقال: يا أهل دين النصرانية وبني ماء المعمودية الذي كنتم تعتقدونه في كتبكم من الخروج من بلادكم ودياركم ونهب أموالكم قد قرب وهذا وقته وزمانه ولستم بأعظم جيشاً من روبيس سار إلى شرذمة من العرب بأرض فلسطين. فقتل وقتل من معه وانهزم الباقون، ولقد بلغني أن رجلاً منهم قد خرج أرض السماوة صوب العراق اسمه خالد بن الوليد وقد فتح أركة والسخنة وتدمر وحوران، وهو عن قريب يحضر إليكم، والصواب أن تؤدوا الجزية عن يد إلى هؤلاء العرب وينصرفون عنكم. قال: فلما سمع قومه ذلك غضبوا وشوشوا وهموا بقتله. فقال روماس: يا قوم إنما أردت أن أختبركم، وأرى حمية دينكم والآن دونكم والقوم وأنا أولكم. قال: فرجعت الروم إلى عددها وعديدها وتظاهروا بالدروع البيض وقادوا الجنائب وتهيئوا للحملة. فلما رأى شرحبيل بن حسنة ذلك وعظ أصحابه. وقال: اعلموا رحمكم الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الجنة تحت ظلال السيوف" وأحب ما قرب إلى الله قطرة دم في سبيل الله أو دمعة جرت في جوف الليل من خشية الله?. قال الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون" آل عمران: 102، ثم حمل وحمل المسلمون على جيش بصرى. قال عبد الله بن عدي: واجتمع علينا العدو وطمعوا فينا، وحملوا علينا في اثني عشر ألف فارس من الروم، ونحن فيهم كالشامة البيضاء في جلد البعير الأسود وصبرنا لهم صبر الكرام، ولم يزل القتال بيننا وبينهم إلى أن توسطت الشمس في قبة الفلك، وقد طمع العدو فينا، فرأيت شرحبيل بن حسنة قد رفع يده إلى السماء وهو يقول: يا حي يا قيوم يا بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام، اللهم انصرنا على القوم الكافرين. قال: فوالله ما استتم شرحبيل كلامه ودعاءه حتى جاء النصر من عند الله العزيز الحكيم، وذلك أن القوم داروا بنا فرأينا غبرة قد أشرفت علينا من صوب حوران. فلما قربت لنا رأينا تحتها سوابق الخيل، فلاحت لنا الأعلام الإسلامية والرايات المحمدية، وقد سبق إلينا فارسان: أحدهما ينادي ويزعق: يا شرحبيل يا ابن حسنة أبشر بالنصر لدين الله، أنا الفارس الصنديد والبطل المجيد، أنا خالد بن الوليد، والآخر يزعق ويقول: أنا عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وأشرفت العساكر من كل جانب. قال: وأشرفت راية العقاب يحملها رافع بن عميرة الطائي. قال: حدثنا سالم بن عدي عن ورقاء بن حسان العامري عن مسيرة بن مسروق العبسي. قال:


والله لقد خمدت أصوات الروم عند زعقة خالد رضي الله عنه، وأقبل المسلمون يسلم بعضهم على بعض، وأقبل شرحبيل بن حسنة إلى خالد بن الوليد، وسلم عليه. فقال خالد: يا شرحبيل أما علمت أن هذه مينا الشام والعراق، وفيها عساكر الروم وبطارقتهم. فكيف غررت بنفسك وبمن معك من المسلمين. قال: كله بأمر أبي عبيدة. فقال خالد: أما أبو عبيدة فإنه رجل خالص النية، وليس عنده غائلة الحرب ولا يعلم بمواقعها، ثم أمر الناس بالراحة فنزلوا وارتاحوا من أوزارهم. فلما كان في اليوم الثاني زحفت جيوش بصرى على المسلمين فقال خالد: إن الروم زحفوا لعلمهم بتعبنا وتعب خيولنا فاركبوا بارك الله فيكم، واحملوا على بركة الله تعالى. قال: فركب المسلمون، وأخذوا أهبتهم للحرب فجعل في الميمنة رافع بن عمير الطائي، وجعل في الميسرة ضرار بن الأزور وكان غلافاً فاتكاً في الحرب، وجعل على الدرك عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، ثم قسم جيش الزحف فجعل على شطره المسيب بن نجيبة الفزاري، وعلى الشطر الآخر مذعور بن غانم الأشعري، وأمرهم أن يزفوا الخيل إذا حملت. قال: وبقي خالد في الوسط وهو يعظ الناس ويوصيهم، وقد عزموا على الحملة، وإذا بصفوف الروم قد انشقت وخرج من وسطها فارس عظيم الخلقة كثير الزينة يلمع ما عليه من الذهب الأحمر والياقوت. فلما توسط الجمعين نادى بلسان عربي كأنه بدوي: يا معشر العرب لا يبرز لي إلا أميركم، فأنا صاحب بصرى. قال: فخرج إليه خالد رضي الله عنه كالأسد الضرغام وقرب منه. فقال له البطريق: أنت أمير القوم. قال: كذلك يزعمون أني أميرهم ما دمت على طاعة الله ورسوله، فإن عصيته فلا إمارة لي عليهم. قال البطريق: إني رجل عاقل من عقلاء الروم وملوكهم وإن الحق لا يخفى عن ذي بصيرة، واعلم أني قرأت الكتب السابقة، والأخبار الماضية، فوجدت أن الله تعالى يبعث قرشياً واسمه محمد بن عبد الله. قال خالد: والله نبينا. قال: أنزل عليه الكتاب? قال: نعم القرآن. قال روماس البطريق: أحرم عليكم فيه الخمر. قال خالد: نعم من شربها حددناه، ومن زنى جلدناه، وإن كان محصناً رجمناه. قال: أفرضت عليكم الصلوات. قال: نعم خمس صلوات في اليوم والليلة. قال: أفرض عليكم الجهاد? قال خالد: ولولا ذلك ما جئناكم نبغي قتالكم. قال روماس: والله إني لأعلم أنكم على الحق وإني أحبكم وحذرت قومي منكم وإني خائف منكم، فأبوا. فقال خالد: فقل أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله يكون لك ما لنا وعليك ما علينا. فقال: إني أسلمت وأخاف أن يعجل هؤلاء بقتلي: وسبي حريمي، ولكن أنا أسير إلى قومي وأرغبهم فلعل الله أن يهديهم. فقال خالد: وإن رجعت إلى قومك بغير قتال يكون بيني وبينك خفت عليك، ولكن احمل علي حتى لا يتهموك وبعد ذلك أطلب قومك. فحمل بعضهم على بعض، وأرى خالد الفريقين أبواباً من الحرب حتى أبهر روماس. فقال لخالد: شدد علي الحملة حتى يرى الديرجان فإني خائف عليك من بطريق بعث به الملك يقال له الديرجان. فقال خالد: ينصرنا الله عليه، ثم شدد على روماس الحملة حتى إنه انهزم من بين يديه إلى قومه. فلما وصل إلى قومه قال: ما الذي رأيت من العرب? قال: إن العرب أجلاد ما لكم بقتالهم طاقة ولا بد لهم أن يملكوا الشام، وما تحت سريري هذا فادخلوا تحت طاعتهم وكونوا مثل أركة والسخنة قال: فلما سمعوا كلامه زجروه وأرادوا قتله، وقالوا له: ادخل المدينة والزم قصرك ودعنا لقتال العرب، فانصرف روماس، وقال: لعل الله ينصر خالداً. ثم إن أهل بصرى ولوا عليهم الديرجان، وقالوا: إذا فرغنا من المسلمين سرنا معك إلى الملك، ونسأله أن ينزع روماس ويوليك علينا. قال الديرجان: وما الذي تريدون. قالوا: نحمل ونطلب قتال العرب. قال: فخرج الديرجان وطلب خالداً.
فقال عبد الرحمن لخالد: يا أمير أنا أخرج إليه. فقال: دونك يا ابن الصديق، فخرج عبد الرحمن وحمل على الديرجان، فما لبثوا غير ساعة، وقد أحس الديرجان من نفسه بالتقصير فولى منهزماً وراح إلى قومه. فلما رأوا ذلك منه نزل الرعب في قلوبهم وعلم خالد ما عند القوم من الفزع فحمل وحمل عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وحمل المسلمون. فلما نظر أهل بصرى إلى حملة المسلمين حملوا وتلاقى الفريقيان، وضجت الرهبان بكلمة كفرهم. فقال شرحبيل بن حسنة: اللهم إن هؤلاء الأنجاس يبتهلون بكلمة كفرهم ويدعون معك إلها آخر لا إله إلا أنت ونحن نبتهل إليك بلا إله إلا أنت، وأن محمداً عبدك ورسولك، إلا ما نصرت هذا الدين على أعدائك المشركين، ثم حملوا حملة واحدة، فلم يكن للروم ثبات مع العرب، فولى المشركون الأدبار، وركنوا إلى الفرار. فلما حطوا داخل المدينة أغلقوا الأبواب وتحصنوا بالأسوار، ورفعوا الصلبان، وعولوا أن يكتبوا للملك ليمدهم بالخيل والرجال. قال عبد الله بن رافع: فلما تحصنوا رجعنا عنهم وافتقدنا أصحابنا فوجدنا قد قتل منا مائة وثلاثون فارساً، وقتل من الأعيان بدريان. قال: وغنم المسلمون الأموال، وصلى خالد على الشهداء، وأمر بدفنهم. فلما كان الليل تولى الحرس عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ومعمر بن راشد ومائة من جيش الزحف. فبينما هم يدورون حول العسكر، وإذا بروماس صاحب بصرى قد أقبل عليهم. وقال لهم: أين خالد بن الوليد فأخذوه وأتوا به إلى خالد. فلما رآه رحب به. فقال: أيها الأمير بعد أن فارقتك طردني قومي، وقالوا: الزم قصرك وإلا قتلناك فلزمت قصري، وهو ملاصق للسور ولما وقع لهم ما وقع وانهزموا تحصنوا. فلما جن الليل أمرت غلماني بحفر السور وفتحوا فيه باباً فأتيتك فأرسل معي من تعتمد عليه من أصحابك تستلمون المدينة. فلما سمع خالد هذا الكلام أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يأخذ مائة من المسلمين ويسيروا مع روماس. قال ضرار بن الأزور: وكنت ممن دخل المدينة. فلما صرنا في قصر روماس فتح لنا خزانة السلاح، فلبسنا من سلاحهم وقسمنا أربعة أقسام، كل جانب خمسة وعشرون رجلاً. وقال لنا عبد الرحمن: إذا سمعتم التكبير فكبروا. فلما سرنا حيث أمرنا أخذنا أنفسنا بالحملة على القوم.
قال الواقدي: بلغني ممن أثق به من الرواة أن عبد الرحمن لما فارق أصحابه لبس سلاحه وسار هو وروماس يطلبون الدرج الذي عليه الديرجان، وسار معهم ضرار ورافع وشرحبيل بن حسنة. فلما قرب عبد الرحمن من الدرج الذي فيه الديرجان، قال الديرجان: من أنتم? فقال: أنا روماس. فقال: لا أهلاً ولا مرحباً بك، ومن الذي معك? قال: معي صديق لك ومشتاق إلى رؤياك، قال: ويحك، ومن هو يا روماس. قال: هذا ابن أبي بكر الصديق. فلما سمع الديرجان ذلك هم أن يقتله فلم تطاوعه نفسه فحمل عليه عبد الرحمن، وهز سيفه في وجهه وضربه على عاتقه فتجندل صريعاً يخور في دمه، وعجل الله بروحه إلى النار. قال: وكثر عبد الرحمن فأجابه روماس وسمع أصحابه التكبير فكبروا من جوانب بصرى. قال: وأجابتهم الأحجار والأشجار. قال: وكبر المسلمون من جوانب بصرى ووضعوا السيف في الروم، وسمع خالد التكبير فصرخوا، وإذا بغلمان روماس وأولاده قد فتحوا لهم الأبواب فعبر خالد ومن معه من المسلمين. فلما نظر أهل بصرى إلى الأبواب، وقد فتحت بالسيف قهراً ضجوا بأجمعهم يقولون: الأمان الأمان. فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: ارفعوا السيف عنهم، وأقام خالد إلى الصباح واجتمع إليه أهلها. وقالوا: يا أيها الأمير لو صالحناك ما جرى شيء من ذلك، ولكن نسألك بالذي أيدك ونصرك ما الذي فتح لك أبواب مدينتنا. فاستحى خالد رضي الله عنه أن يقول، فوثب روماس، وقال: أنا فعلت ذلك يا أعداء الله وأعداء رسوله، وما فعلته إلا ابتغاء مرضاة الله وجهاداً فيكم. فقالوا: أولست منا? فقال: اللهم لا تجعلني منهم، رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبالكعبة قبلة وبالقرآن إماماً، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. قال: ففرح خالد بذلك. وأما أهل بصرى فغضبوا وأضمروا له شراً، وعلم بذلك روماس. فقال لخالد: أنا لا أريد المقام عندهم، وإني أسير معك حيث سرت. فإذا فتح الله على يديك الشام وصار لكم الأمر ردوني إليها لأن الوطن عزيز.
قال الواقدي: حدثني معمر بن سالم عن جده قال: كان روماس يجاهد معنا جهاداً حسناً حتى فتح الله على أيدينا الشام، فكان أبو عبيدة يكاتب به عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أيامه فولاه على بصرى فلم يلبث إلا يسيراً حتى توفي رحمه الله، وخلف عقباً يذكر به، قال: وأمر خالد رجالاً يعينونه على إخراج رحله وماله من المدينة ففعلوا ذلك، وإذا بزوجته تخاصمه وتطلب فراقه. فقال لها المسلمون: ما الذي تريدين? قالت: أريد أمير جيشكم يحكم بيننا فجاءوا بها إلى خالد، فقالت له: أنا أستغيث بك من روماس. فقال لها خالد: وكيف ذلك? فقالت: إني كنت البارحة نائمة إذ رأيت شخصاً ما رأيت منه أحسن منه وجهاً كأن البدر يطلع من بين عينيه، وكأنه يقول: إن المدينة فتحت على يد هؤلاء القوم والشام والعراق. فقلت له: ومن أنت يا سيدي?. قال: محمد رسول الله، ثم دعاني إلى الإسلام فأسلمت، ثم علمني سورتين من القرآن. قال: فحدث الترجمان خالد بما كان منها. فقال: إن هذا لعجيب، ثم قال خالد للترجمان: قل لها أن تقرأ السورتين فقرأت الفاتحة، وقل هو الله أحد، ثم جددت إسلامها على يد خالد بن الوليد، وقالت: يا أيها الأمير إما أن يسلم روماس وإلا يتركني أعيش بين المسلمين. قال: فضحك خالد من قولها، وقال: سبحان الله الذي وفقهما جميعاً. ثم قال للترجمان: قل لها إن روماس أسلم قبلها ففرحت بذلك. ثم إن خالداً أحضر أهل بصرى وقررهم على أداء الجزية وولى عليهم من اتفق رأيه عليه. ثم كتب إلى أبي عبيدة كتاباً يبشره بالفتح، ويقول له: يا صاحب رسول الله قد ارتحلنا إلى دمشق فألحقنا إليها. ثم كتب كتاباً آخر إلى أبي بكر الصديق يخبره برحيله، ويقول له: يوم كتبت إليك هذا الكتاب ارتحلت إلى دمشق فادع لنا بالنصر والسلام عليك ومن معك ورحمة الله وبركاته. ثم بعث الكتابين كلاهما، ثم ارتحل خالد إلى نحو دمشق حتى أشرف على موضع يقال له الثنية فوقف هناك وركز راية العقاب فسميت بذلك ثنية العقاب. ثم ارتحل منها إلى الدير المعروف الآن بدير خالد، وكان أهل السواد قد التجئوا إلى دمشق، وقد اجتمعت خلائق وأمم لا تحصى من الرجال. وأما أصحاب الخيل فكانوا اثني عشر ألفاً، وقد زينوا أسوارهم بالطوارق والبيارق والصلبان، وأقام خالد على الدير ينتظر قدوم المسلمين.
قال الواقدي: ووصلت الأخبار إلى الملك هرقل وما فتح خالد من الشام، وكيف قدم على دمشق فغضب وجمع البطارقة وقال: يا بني الأصفر، لقد قلت لكم وحذرتكم فأبيتم وهؤلاء العرب قد فتحوا أركة وتدمر والسخنة وبصرى، وقد توجهوا إلى الربوة ففتحوها فواكرباه لأن دمشق جنة الشام وقد سارت إليها الجيوش وهم أضعاف العرب، ثم قال: أيكم يتوجه إلى قتال العرب ويكفيني أمرهم، فإن هزمهم أعطيته ما فتحوه ملكاً. فقال بطريق من البطارقة اسمه كلوس بن حنا، وكان من فرسانهم، وقد عرفت شجاعته في عساكر الروم والفرس: أيها الملك أنا أكفيك وأردهم على أعقابهم منهزمين. قال: فلما سمع الملك قوله سلم إليه صليبا من الذهب وقدمه على خمسة آلاف فارس، وقال له: قدم صليبك أمامك فإنه ينصرك. قال: فأخذه كلوس وسار من يومه من أنطاكية إلى أن وصل حمص فوجدها مزينة بالسلاح، فلما بلغ أهلها قدومه خرجوا إلى لقائه، وقد خرجت القسس والرهبان واستقبلوه ودعوا له بالنصر وأقام بحمص يوماً وليلة، ثم أرتحل إلى مدينة بعلبك فخرج إليه النساء لاطمات الخدود وقلن: أيها السيد إن العرب فتحوا أركة وحوران وبصرى، فقال لهن: كيف قدرت العرب على حوران وبصرى?. فقلن: أيها السيد إن الذين ذكرتهم لم يبرحوا من أماكنهم، وإن هذا الرجل قد أقبل من العراق، وهو الذي فتح أركة. فقال: وما اسمه. قلن: خالد بن الوليد. قال: في كم يكون من العساكر. قلن: في ألف وخمسمائة فارس. فقال: وحق المسيح لأجعلن رأسه على رأس سناني. ثم رحل فلم ينزل إلا بدمشق، وكان واليها بطريقاً من قبل الملك هرقل اسمه عزازير، فلما قدم كلوس اجتمع عليه عزازير وأصحابه وقرأوا عليهم منشور الملك، ثم قال لهم: أتريدون أن أقاتل عدوكم وأصده عن بلادكم. قالوا: نعم فقال: أخرجوا عزازير عنكم حتى أكون وحدي في هذا الأمر. فقالوا: أيها السيد وكيف ينبغي أن يخرج صاحبنا من بلدنا، وهذا العدو قاصد إلينا. قال: فغضب عزازير في وجه كلوس من كلامه، وقد اتفق رأيهم على أن كل واحد يقاتل العرب يوماً فثبتت عداوة عزازير في قلب كلوس.
قال الواقدي: ولقد بلغني أنهم كانوا يخرجون كل يوم من باب الجابية مقدار فرسخ ينظرون قدوم أبي عبيدة بن الجراح فلم يشعروا حتى قدم إليهم خالد بن الوليد من نحو الثنية، قال: حدثنا يسار بن محمد. قال: أخبرنا رفاعة بن مسلم. قال: كنت في جيش خالد بن الوليد لما نزل على الدير المعروف به، وإذا بجيش الروم قد زحف علينا وهو كالجراد المنتشر، فلما نظر خالد ذلك تدرع بدرع مسلمة، ثم صرخ في وجه المسلمين. وقال: هذا يوم ما بعده يوم، وهذا العدو قد زحف بخيله فدونكم والجهاد فانصروا الله ينصركم وكونوا ممن باع نفسه لله عز وجل وكأنكم بإخوانكم المسلمين قدموا عليكم مع أبي عبيدة بن الجراح، ثم بعد ذلك استقبل الجيش وصرخ بملء رأسه فأرعب المشركين من صرخته وحمل شرحبيل بن حسنة وعبد الرحمن بن أبي بكر وضرار بن الأزور، ومذ حمل ضرار لم يول عنهم بل قتل من الميمنة خمسة فرسان ومن الميسرة كذلك. ثم حمل ثاني مرة فقتل منهم ستة فرسان، ولولا سهام القوم لما رد عن قتالهم فشكره خالد بن الوليد وقال لعبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه: احمل بارك الله فيك. قال: فحمل عبد الرحمن وفعل كما فعل ضرار بن الأزور وقاتل قتالاً شديداً. ثم حمل من بعده خالد بن الوليد ورفع رمحه ورأى العسكر من أمور الحرب حتى جزع الروم من شجاعته. فلما نظر إليه البطريق كلوس علم أنه أمير الجيش وعلم أنه يقصده فتأخر كلوس إلى ورائه من مخافته. فلما نظر خالد إلى قهقرة كلوس إلى ورائه حمل عليه ليرده فوقعت عليه البطارقة ورموه بالسهام فلم يلتفت إليهم خالد، ولم يعبأ بهم ولم يرجع حتى قتل عشرين. ثم انثنى بجواده بين الصفين وجال بجواده بين الفريقين وطلب البراز فلم يجبه أحد، وقالوا: أخرجوا غيره منكم. فقال: ويلكم ها أنا رجل واحد من العرب وكلنا في الحرب سواء فما منهم من فهم كلامه، فأقبل عزازير على كلوس، وقال: أليس الملك قد قدمك على جيشه وبعثك إلى قتال العرب فدونك حام عن بلدك ورعيتك.
فقال كلوس: أنت أحق مني بذلك لأنك أقدم مني، وقد عزمت أنك لا تخرج إلا بإذن الملك هرقل فما بالك لا تخرج إلى قتال أمير العرب. فقال لهما العساكر: تقارعا فمن وقعت عليه القرعة فلينزل إلى قتال أمير العرب. فقال كلوس: لا بل نحمل جميعاً فهو أهيب لنا، قال: وخاف كلوس أن يبلغ الملك ذلك فيطرده من عنده أو يقتله. قال: فتقارعا فوقعت القرعة على كلوس. فقال عزازير: اخرج وبين شجاعتك، فقال كلوس لأصحابه: أريد أن تكون همتكم عندي، فإن رأيتم مني تقصيراً فاحملوا وخلصوني. فقال أصحابه: هذا كلام عاجز لا يفلح أبداً، فقال: يا قوم إن الرجل بدوي ولغته غير لغتي فخرج معه رجل اسمه جرجيس، وقال له: أنا أترجم لك فسار معه. فقال كلوس: اعلم يا جرجيس أن هذا رجل ذو شجاعة فإن رأيته غلبني فاحمل أنت عليه حتى نقضي يومنا معه، ويخرج له غدا عزازير فيقتله ونستريح منه وأتخذك أنا صديقي. فقال له: ما أنا أهل حرب، وإنما أخوفه بالكلام. قال: فسكت وسارا حتى قربا من خالد فنظر إليهما. قال: فهم أن يخرج إليهما رافع بن عميرة فصاح فيه خالد، وقال: مكانك لا تبرح فإني كفء لهما، فلما دنوا من خالد. قال كلوس لصاحبه: قل له من أنت وما تريد وخوفه من سطواتنا فقرب جرجيس من خالد، وقال له: يا أخا العرب أنا أضرب لك مثلاً إن مثلكم ومثلنا كمثل رجل له غنم فسلمها إلى راع وكان الراعي قليل الجرأة على الوحوش فأقبل عليه سبع عظيم فجعل يلتقط منه كل ليلة رأساً إلى أن انقضت الأغنام والسبع ضار عليها ولم يجد له مانعاً عنها. فلما نظر صاحب الغنم ما حل بغنمه علم أنه لم يؤت إلا من الراعي فانتدب لغنمه غلاماً نجيباً فسقمه الغنم فكان كل ليلة يكثر الطوفان حول الغنم. فبينما الغلام كذلك إذ أقبل عليه السبع على عادته الأصلية واخترق الغنم فهجم الغلام على السبع وبيده منجل فضربه فقتله، ولم يقرب الغنم وحش بعدها وكذلك أنتم نتهاون بأمركم لأنه ما كان أضعف منكم لأنكم جياع مساكين ضعفاء وتعودتم أكل الذرة والشعير ومص النوى. فلما خرجتم إلى بلادنا وأكلتم طعامنا وفعلتم ما فعلتم، وقد بعث لكم الملك رجالاً لا تقاس بالرجال ولا تكترث بالأبطال ولا سيما هذا الرجل الذي بجانبي فاحذر منه أن ينزل بك ما أنزل الغلام بالأسد، وقد سألني أن أخرج إليك وأتلطف بك في الكلام فأخبرني ما الذي تريد قبل أن يهجم عليك هذا الفارس. فلما سمع خالد منه ذلك، قال: يا عدو الله والله لا نحسبكم عندنا في الحرب إلا كقابض الطير بشبكة، وقد قبضها يميناً وشمالاً فلم يخرج إلا ما انفلت منه. وأما ما ذكرت من بلادنا وأنها بلاد قحط وجوع فالأمر كذلك إلا أن الله تعالى أبدلنا ما هو خير منه، فأبدلنا بدل الذرة الحنطة والفواكه والسمن والعسل. وهنا كله قد رضيه لنا ربنا ووعدنا به على لسان نبيه وأما قولك: ما الذي تريدونه منا. فنريد منكم إحدى ثلاث خصال إما أن تدخلوا في ديننا أو تؤدوا الجزية، أو القتال. وأما قولك: إن هذا الرجل الذليل الذي هو عندكم مسكين فهو عندنا أقل القليل وإن يكن هو ركن الملك فأنا ركن الإسلام. أنا الفارس الصنديد، أنا خالد بن الوليد. أنا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.



معارك الشام

قال الواقدي رحمه الله تعالى: فلما سمع جرجيس كلام خالد تأخر إلى ورائه وقد تغير لونه، فقال له كلوس: يا ويلك رأيتك في بدايتك تهيم كالسبع فما لك قد تأخرت? فقال: وحق المسيح ما أعلم أنه الفارس الجحجاح وبطلهم الفصاح، هذا صاحب القوم الذي ملأ الشام شراً. فقال كلوس: يا جرجيس اسأله أن يؤخر الحرب بيننا إلى غد فالتفت إلى خالد، وقال له: يا سيد قومك هذا صاحبي يريد أن يرجع إلى قومه ليشاورهم. فقال خالد: ويحك أتريد أن تخدعني بالكلام وأقبل برمحه في وجه جرجيس. فلما نظر جرجيس ذلك انعقد لسانه وولى هارباً. فلما رأى خالد ذلك طلب كلوس وحمل عليه وتطاعنا واحترز البطريق من طعنات خالد، فلما نظر خالد احتراز البطريق حط يده في أطواقه وجذبه فقلعه من سرجه. فلما نظر المسلمون فعل خالد كبروا بأجمعهم وتسابق الفرسان إلى خالد، فلما قربوا منه رمى لهم البطريق، وقال أوثقوه كتافاً فصار يبربر بلسانه فأتى المسلمون بروماس صاحب بصرى، وقالوا له: اسمع ماذا يقول? فقال لهم: يقول لكم لا تقتلوني فأني أجبت صاحبكم في المال والجزية. فقال خالد: استوثقوا منه ثم نزل عن جواده وركب جواداً أهداه له صاحب تدمر وعزم أن يهجم على الروم. فقال ضرار بن الأزور: أيها الأمير دعني أنا أحمل على القوم حتى تستريح أنت. فقال: يا ضرار: الراحة في الجنة غداً، ثم عول خالد على الحملة فصاح به البطريق كلوس، وقال: وحق دينك ونبيك إلا ما رجعت إلي حتى أخاطبك فرجع خالد إليه، وقال لروماس: اسأله ما يريد. فقال: أعلمه أني صاحب الملك، وقد بعثني إليكم في خمسة آلاف فارس لأردكم عن بلده وأهله ورعيته، وقد تحاججت أنا وعزازير متولي دمشق وقدم إلي معه كذا وكذا، وأنا أسألك بحق دينك إذا خرج إليك فاقتله، وإن لم يخرج إليك فاستدعه واقتله فإنه رأس القوم. فإن قتلته فقد ملكت دمشق. فقال خالد لروماس: قل له إنا لا نبقي عليك ولا عليه ولا على من أشرك بالله تعالى. ثم إنه بعد ذلك الكلام حمل، وهو ينشد ويقول:

لك الحمد مولانا على كل نـعـمة


وشكراً لما أوليت من سابغ النعـم


مننت علينا بعد كـفـر وظـلـمة


وأنقذتنا من حندس الظلم والظلـم


وأكرمتنا بالهاشـمـي مـحـمـد


وكشفت عنا ما نلاقي من الغمـم


فتمم إله العرش ما قـد تـرومـه


وعجل لأهل الشرك بالبؤس والنقم


وألقهم ربي سريعـاً بـبـغـيهـم


بحق نبي سيد العرب والعـجـم


قال الواقدي: نقد بلغني ممن أثق به أنه لما ولى جرجيس هارباً من بين يدي خالد إلى أصحابه رأوه يرتعد من الفزع. فقالوا له: ما وراءك. فقال: يا قوم ورائي الموت الذي لا يقاتل، والليث الذي لا ينازل، وهو أمير القوم، وقد آلى على نفسه أن يطلبنا أينما كنا، وما خلصت روحي إلا بالجهد فصالحوا الرجل قبل أن يحمل عليكم بأصحابه فلا يبقي منكم أحداً، فقالوا له: ما يكفيك أنك انهزمت، وقد هموا بقتله، فبينما هم كذلك إذ أقبل أصحاب كلوس على عزازير وهم خمسة آلاف وصاحوا به وقالوا له: ما أنت عند الملك أعز من صاحبنا، وقد كان بيننا وبينك شرك فاخرج أنت إلى خالد واقتله أو أسره وخلص لنا صاحبنا وإلا وحق المسيح والمذبح والذبيح شننا عليك الحرب فقال عزازير، وقد رجع به مكره ودهاؤه: يا ويلكم أتظنون أني جزعت من الخروج إلى هذا البدوي من أول مرة، ولكني ما تأخرت عن الخروج إليه وتقاعدت عن قتاله حتى يتبين عجز صاحبكم وسوف ينظر الفريقان أينا أفرس وأشجع وأثبت في مقام القتال إذا نحن تشابكنا بالنصال. ثم إنه في الحال ترجل عن جواده ولبس لامته وركب جواداً يصلح للجولان، وخرج إلى قتال سيدنا خالد بن الوليد، الفارس الصنديد رضي الله عنه، فلما قرب منه قال: يا أخا العرب ادن مني حتى أسألك وكان الملعون يعرف العربية، فلما سمع خالد ذلك قال: يا عدو الله ادن أنت على أم رأسك، ثم هم أن يحمل عليه. فقال: على رسلك يا أخا العرب أنا أدنو منك فعلم خالد أن الخوف داخله فأمسك عنه حتى قرب منه. فقال: يا أخا العرب ما حملك أن تحمل أنت بنفسك.. أما تخشى الهلاك فلو قتلت بقيت أصحابك بلا مقدم. فقال خالد: يا عدو الله قد رأيت ما فعل الرجلان من أصحابي لو تركتهم لهزموا أصحابك بعون الله تعالى، وإنما معي رجال، وأي رجال يرون الموت مغنماً والحياة مغرماً، ثم قال له خالد: من أنت. فقال: أو ما سمعت باسمي أنا فارس الشام أنا قاتل الروم والفرس أنا كاسر عساكر الترك. فقال خالد: ما اسمك? فقال: أنا الذي تسميت باسم ملك الموت اسمي عزرائيل.
قال الواقدي: فضحك خالد من كلامه، وقال: يا عدو الله تخوفني أن الذي تسميت باسمه هو طالبك ومشتاق إليك ليرديك إلى الهاوية. فقال له البطريق: ما فعلت بأسيرك كلوس?. فقال: هو موثق بالقيود والأغلال. فقال له عزازير: وما منعك من قتله، وهو داهية من دواهي الروم. فقال خالد: منعني من ذلك أني أريد قتلكم جميعاً، فقال عزازير: هل لك أن تأخذ ألف مثقال من الذهب وعشرة أثواب من الديباج وخمسة رؤوس من الخيل وتقتله وتأتيني برأسه. فقال له خالد: هذه ديته فما الذي تعطيني أنت عن نفسك. قال: فغضب عدو الله من ذلك، وقال: ما الذي تأخذ مني. قال: الجزية وأنت صاغر ذليل. فقال عزازير: كلما زدنا في كرامتكم زدتم في إهانتنا فخذ الآن لنفسك الحذر فإني قاتلك ولا أبالي، فلما سمع خالد كلام عزرائيل حمل عليه حملة عظيمة كأنه شعلة نار فاستقبله البطريق، وقد أخذ حذره وكان عزازير ممن يعرف بالشجاعة في بلاد الشام فلما نظر خالد إلى عدو الله أظهر شجاعته وبراعته تبسم. فقال عزازير: وحق المسيح لو أردت الوصول إليك لقدرت على ذلك ولكنني أبقيت عليك لأني أريد أن أستأسرك ليعلم الناس أنك أسيري، وبعد ذلك أطلق سبيلك على شرط أنك ترحل من بلادنا وتسلم لنا ما أخذت من بلاد الشام، فلما سمع خالد كلام عزازير قال له: يا عدو الله قد داخلك الطمع فينا، وهذه العصابة قد ملكوا تدمر وحوران وبصرى وهم ممن باعوا أنفسهم بالجنة، واختاروا دار البقاء على دار الفناء، وستعلم أينا من يملك صاحبه ويذل جانبه، ثم إن خالداً أرى البطريق أبواب الحرب. قال: فندم عزازير على ما كان منه من الكلام، وقال: يا أخا العرب أما تعرف الملاعبة. فقال خالد: ملاعبتي الضرب في طاعة الرب، ثم إن الملعون هاجم خالداً ولوح إليه بسيفه وضربه به فلم يقطع شيئاً فذهل عدو الله من جولان خالد وثباته، وعلم أنه لا يقدر عليه ولا على ملاقاته فولى هارباً، وكان جواده أسبق من جواد خالد. قال عامر بن الطفيل رضي الله عنه: وكنت يوم حرب دمشق في القلب وشاهدنا ما جرى بين خالد وعزازير لما ولى هارباً وقصر جواد خالد عن طلبه فوقع في قلبي الطع، وقال: كأن البدوي خاف مني وما لي إلا أن أقف حتى يمحقني وآخذه أسيراً ولعل المسيح ينصرني عليه، فلما وقع ذلك في نفسه وقف حتى لحق به خالد، وقد جلل فرسه العرق، فلما قرب منه صاح عزازير، وقال: يا عربي لا تظن أني هارب خوفاً منك، وإنما أبقيت عليك خوفاً على شبابك فارحم نفسك، وإن أردت الموت أسوقه إليك أنا قابض الأرواح أنا ملك الموت، فعدما ذلك ترتجل عن جواده وسحب السيف وسار إليه كأنه الأسد الضاري.
فلما نظر عزازير إلى ذلك وإلى ترجل خالد زاد طمعه فيه وحام حوله وهم إليه يريد أن يعلو رأسه بالسيف فزاغ خالد عنها وصاح فيه وضرب قوائم فرسه بضربة عظيمة فقطعها فسقط عدو الله على الأرض ثم ولى هارباً يريد أصحابه فسبقه خالد. وقال: يا عدو الله إن الذي تسميت باسمه قد غضب عليك واشتاق إليك وها هو قد أقبل عليك يقبض روحك ليؤديك إلى جهنم، ثم هجم عليه وهم أن يجلد به الأرض ونظرت الروم إلى صاحبها، وهو في يد خالد فهموا أن يحملوا على خالد ويخلصوه من يده إذ قد أقبلت جيوش المسلمين، وأبطال الموحدين مع الأمير أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه كان قد سار من بصرى فوجده، وقد أخذ عزازير في تلك الساعة، فلما نظرت عساكر دمشق إلى جيوش المسلمين قد أقبلت داخلهم الجزع والفزع فوقفوا عن الحملة. قال: حدثني عمر بن قيس عن شعيب عن عبد الله عن هلال القشعمي قال: لما قدم الأمير أبو عبيدة سأل عن خالد فقالوا: إنه في ميدان الحرب، وقد أسر بطريق الروم فدنا أبو عبيدة إليه وهم أن يترجل فأقسم عليه خالد أن لا يفعل وأقبل عليه وصافحه، وكان أبو عبيدة يحب خالداً لمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال أبو عبيدة لخالد: يا أبا سليمان لقد شرحت بكتاب أبي بكر الصديق حين قدمك علي وأمرك علي وما حقدت في قلبي عليك لأني أعلم مواقفك في الحرب. فقال خالد: والله لا فعلت أمراً إلا بمشورتك ووالله لولأ أمر الإمام طاعة ما فعلت ذلك أبداً لأنك أقدم مني في دين الإسلام وأنا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت قال فيك: أبو عبيدة أمين هذه الأمة فشكره أبو عبيدة وقدم لخالد جواده فركبه، وقال خالد لأبي عبيدة: اعلم أيها الأمير أن القوم قد خذلوا ووقع الرعب في قلوبهم، وأهينوا بأخذ كلوس وعزازير قال: وسار مع أبي عبيدة يحدثه بما صار من البطريقين، وكيف نصره الله عليهما إلى أن أتيا الدير فنزلا هناك، وأقبل المسلمون يسلم بعضهم على بعض. فلما كان الغد ركب الناس وتزينت المواكب وزحف أهل دمشق للقتال وقد أمروا عليهم صهر الملك هرقل، ولما أقبلوا قال خالد لأبي عبيدة: إن القوم قد انخذلوا ووقع الرعب في قلوبهم فاحمل بنا على القوم. قال أبو عبيدة: افعل قال: فحمل خالد وحمل أبو عبيدة وحمل المسلمون على عساكر الروم حملة عظيمة وكبروا بأجمعهم فارتجت الأرض من تكبيرهم ووقع القتل في الروم، وجاهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جهاداً عظيماً، وذهلت منهم الكفار. قال عامر بن الطفيل: لقد كان الواحد منا يهزم من الروم العشرة والمائة. قال: فما لبثوا معنا ساعة واحدة حتى ولوا الأدبار، وركنوا إلى الفرار، وأقبلنا نقتل فيهم من الدير إلى الباب الشرقي. فلما نظر أهل دمشق إلى انهزام جيشهم أغلقوا الأبواب في وجه من بقي منهم. قال قيس بن هبيرة رضي الله عنه: فمنهم من قتلناه، ومنهم من أسرناه، فلما رجع خالد عنهم قال لأبي عبيدة: إن من الرأي أن أنزل أنا على الباب الشرقي وتنزل أنت على باب الجابية. فقال أبو عبيدة: هنا هو الرأي السديد.
قال: حدثنا سهل بن عبد الله عن أويس بن الخطاب أن الذي قدم مع الأمير أبي عبيدة من المسلمين من أهل الحجاز واليمن وحضرموت وساحل عمان والطائف وما حول مكة كان سبعة وثلاثين ألف فارس من الشجعان، وكان مع عمرو بن العاص تسعة آلاف فارس، والذين قدم بهم خالد بن الوليد رضي الله عنه من العراق ألف فارس وخمسمائة فارس فكان جملة ذلك سبعة وأربعين ألفاً وخمسمائة غير ما جهز عمر بن الخطاب في خلافته، وسنذكر ذلك إذا وصلنا إليه إن شاء الله تعالى، هذا وإن خالداً نزل بنصف المسلمين على الباب الشرقي ونزل أبو عبيدة بالنصف الثاني على باب الجابية. فلما نظر أهل دمشق إلى ذلك نزل الرعب في قلوبهم، ثم إن خالداً أحضر البطريقين بين يديه وهما كلوس وعزازير فعرض عليهما الإسلام فأبيا فأمر ضرار بن الأزور أن يضرب عنقيهما ففعل. قال: فلما نظر أهل دمشق ما فعلوا بالبطريقين كتبوا إلى الملك كتاباً يخبرونه بما جرى على كلوس وعزازير، وقد نزلت العرب على الباب الشرقي وباب الجابية، وقد نزلوا بشبانهم وأولادهم وقد قطعوا أرض البلقاء وأرض السواد ووصفوا له ما ملك العرب من البلاد فأدركنا وإلا سلمنا إليهم البلد، ثم سلموا الكتاب إلى رجل منهم وأعطوه أوفى أجرة وأدلوه بالحبل من أعلى الأسوار في ظلمة الاعتكار.
قال الواقدي: وإن الرجل وصل إلى الملك هرقل، وهو بأرض أنطاكية فاستأذن عليه فأمر له بالدخول، فلما دخل سلم الكتاب إليه. فلما قرأه الملك رماه من يده وبكى، ثم إنه جمع البطارقة. وقال لهم: يا بني الأصفر لقد حذرتكم من هؤلاء العرب، وأخبرتكم أنهم سوف يملكون ما تحت سريري هذا فاتخذتم كلامي هزوا وأردتم قتلي وهؤلاء العرب خرجوا من بلاد الجدب والقحط وأكل الذرة والشعير إلى بلاد خصبة كثيرة الأشجار والثمار والفواكه فاستحسنوا ما نظروه من بلادنا وخصبنا وليس يزجرهم شيء لما هم فيه من العزم والقوة وشدة الحرب ولولا أنه عار علي لتركت الشام ورحلت إلى القسطنطينية العظمى، ولكن ها أنا أخرج إليهم وأقاتلهم عن أهلي وديني. فقالوا: أيها الملك ما بلغ من شأن العرب أن تخرج إليهم بنفسك وقعودك أهيب قال الملك هرقل: نبعث إليهم، قالوا: عليك أيها الملك بوردان صاحب حمص لأنه ليس فينا مثله في القوة وملاقاة الرجال، ولقد بين لنا شجاعته في عساكر الفرس لما قصدونا. قال: فأمر الملك بإحضماره، فلما حضر وردان قال له الملك: إنما قدمتك لأنك سيفي القاطع وسندي المانع فاخرج من وقتك وساعتك ولا تتأخر، فقد قدمتك على اثني عشر ألفاً، فإذا وصلت إلى بعلبك فانفذ إلى من بأجنادين بأن يتفرقوا في أرض البلقاء وجبال السواد فيكونوا هناك ولا تتركوا أحدا من العرب يلحق بأصحابه، يعني عمرو بن العاص رضي الله عنه، فقال وردان: السمع والطاعة لك أيها الملك وسوف يبلغك الخبر أني لا أعود إلا برأس خالد بن الوليد ومن معه اهزمهم جميعاً وبعد ذلك أدخل الحجاز ولا أخرج حتى أهدم الكعبة ومكة والمدينة. قال: فلما سمع الملك هرقل قوله قال: وحق الإنجيل لن فعلت ذلك ووفيت بقولك لأعطينك ما فتحوه حرثاً وخراجاً وكتبت كتاب العهد أنك الملك من بعدي، ثم سوره وتوجه وأعطاه صليباً من الذهب وفي جوانبه أربع يواقيت لا قيمة لها، وقال: إذا لاقيت العرب فقدمه أمامك فهو ينصرك، قال: فلما تسلم وردان الصليب من وقته دخل الكنيسة وانغمر في ماء المعمودية وبخروه ببخور الكنائس وصلى عليه الرهبان وخرج من وقته فضرب خيامه خارج المدينة. قال: وأخذت الروم على أنفسهم بالرحيل، فلما تكاملوا ركب الملك هرقل وسار لوداعهم وصحبته أرباب دولته فوصل معهم إلى جسر الحديد بها فودعه الملك وسار إلى أن وصل إلى حماة فنزل بها وأنفذ من وقته كتاباً إلى من بأجنادين من جيوش الروم يأمرهم ليتفرقوا في سائر الطرقات ليمنحوا عمرو بن العاص ومن معه أن يصلوا إلى خالد، فلما سار الرسول بالكتاب جمع وردان إليه البطارقة وقال لهم: إني أريد أن أسير على حين غفلة على طريق مارس حتى أكبس على القوم ولا ينجو منهم أحد، فلما كان الليل رحل على طريق وادي الحياة.
قال: حدثني شداد بن أوس قال: لما دخل خالد بن الوليد رضي الله عنه بعد قتل البطريقين أمر المسلمين أن يزحفوا إلى دمشق. قال: فزحف منا الرجال من العرب وبأيديهم الحجف يتلقون بها الحجارة والسهام، فلما نظر أهل دمشق إلينا، ونحن قد زحفنا إليهم رمونا بالسهام والحجارة من أعلى الأسوار، وضيقنا عليهم في الحصار، وأيقن القوم بالدمار. قال شداد بن أوس: فأقمنا على حصارهم عشرين يوماً، فلما كان بعد ذلك جاءنا ناوي بن مرة وأخبرنا عن جموع الروم بأجنادين وكثرة عددهم فركب خالد نحو باب المدينة الجابية إلى أبي عبيدة يخبره بذلك ويستشيره وقال: يا أمين الأمة إني رأيت أن ترحل من دمشق إلى أجنادين، ونلقى من هناك من الروم، فإذا نصرنا الله عليهم عدنا إلى قتال هؤلاء القوم. قال أبو عبيدة: ليس هذا برأي قال خالد: ولم ذلك? قال أبو عبيدة: إذا رحلنا يخرج أهل المدينة فيملكون مواضعنا، فلما سمع خالد ذلك من أبي عبيدة. قال: يا أمين الأمة إني أعرف رجلاً لا يخاف الموت خبيراً بلقاء الرجال قد مات أبوه وجده في القتال. قال: ومن هنا الرجل يا أبا سليمان. قال: هو ضرار بن الأزور بن طارق. قال أبو عبيدة: والله لقد صدقت ووصفت رجلاً باذلاً معروفاً فافعل. قال: فرجع خالد إلى بابه واستدعى بضرار بن الأزور فجاء إليه وسلم عليه. فقال: يا ابن الأزور إني أريد أن أقدمك على خمسة آلاف قد باعوا أنفسهم لله عز وجل واختاروا دار البقاء والآخرة على الأولى، وتسيروا إلى لقاء هؤلاء القوم الذين وردوا علينا، فإن رأيت لك فيهم طمعاً فقاتلهم، وإن رأيت أنك لا تقدر عليهم فابعث إلينا رسولك. فقال ضرار بن الأزور: وافرحتاه، والله يا ابن الوليد ما دخل قلبي مسرة أعظم من هذه فاتركني أسير وحدي. قال خالد: لعمري إنك ضرار، ولكن لا تلق نفسك إلى الهلاك وسر بما ندب معك من المسلمين. قال فقام ضرار رضي الله عنه مسرعاً فقال خالد: ارفق بنفسك حتى يجتمع عليك الجيش فقال: والله لا وقفت ومن علم الله فيه خيراً أدركني ثم ركب ضرار وأسرع إلى أن وصل إلى بيت لهيا، وهو الموضع الذي كان يصنع فيه الأصنام فوقف هناك حتى لحق به أصحابه. فلما تكاملوا نظر ضرار، وإذا بجيش الروم ينحدر كأنه الجراد المنتشر وهم غائصون في الدروع وقد أشرقت الشمس على لاماتهم وطوارقهم.
فلما نظر إليهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لضرار: أما والله إن هذا الجيش عرمرم والصواب أننا نرجع. فقال ضرار: والله لا زلت أضرب بسيفي في سبيل الله وأتبع من أناب إلى الله ولا يراني الله مهزوماً، ولا أولي الدبر لأن الله تعالى يقول "فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله" الأنفال: 16، وتكلم رافع بن عميرة الطائي وقال: يا قوم وما الخيفة من هؤلاء العلوج? أما نصركم الله في مواطن كثيرة والنصر مقرون مع الصبر ولم تزل طائفتنا تلقى الجموع الكثيرة والجموع اليسيرة فاتبعوا سبيل المؤمنين وتضرعوا إلى رب العالمين وقولوا كما قال قوم طالوت عند لقائهم جالوت "ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين" البقرة: 250. فلما سمع ضرار كلامهم وأنهم اشتروا الآخرة على الأولى كمن بهم عند بيت لهيا وأخفى أمره وجلس عاري الجسد بسراويله على فرس له عربي بغير سلاح وبيده قناة كاملة الطول وهو يوصي القوم.
قال الواقدي: هكذا حدثني تميم بن أوس عن جده عمرو بن دارم. قال: كنت لوم بيت لهيا ممن صحب ضرار بن الأزور رضي الله عنه وهو بهذه الصفة رغبة منه في الشهادة. فلما قارب العدو كان أول من برز وكبر ضرار بن الأوزر قبل فأجابه المسلمون بتكبيرة واحدة رعبت منها قلوب المشركين وفاجؤهم بالجملة ونظروا إلى ضرار بن الأوزر وهو في أول القوم وهو في حالته التي وصفناها فهالهم أمره، وكان وردان في المقدمة والأعلام والصلبان مشتبكة على رأسه. قال: فما طلب ضرار غيره لأنه علم أنه صاحبهم فحمل عليه غير مكترث به وطعن فارساً كان في يده العلم فتجندل من على فرسه قتيلاً، ثم إنه طعن آخر في الميمنة فأرداه وحمل يريد القلب، وكان قد عاين وردان والصليب على رأسه يحمله فارس من الروم والجواهر تلمع من أربع جوانبه فعارضه ضرار وطعن حامله طعنة عظيمة فخرج السنان يلمع من خاصرته. قال فسقط الصليب منكساً إلى الأرض. فلما نظر وردان إلى الصليب أيقن بالهلاك، وهم أن يترجل لأخذه أو يميل في ركابه ليأخذه فما وجد لذلك سبيلاً لما قد أحدق به وترتجل عليه قوم من المسلمين ليأخذوه وقد اشتغل كل عن نفسه ونظر ضرار إلى من ترجل لأخذ الصليب. فقال: معاشر المسلمين إن الصليب لي دونكم وأنا صاحبه فلا تطمعوا فإني إليه راجع إذا فرغت من كلب الروم. قال فسمع ذلك وردان وكان يعرف العربية فعطف من القلب يريد الهرب. فقالت البطارقة: إلى أين أيها السيد أتفر من الشيطان فما رأينا أدنى من منظره ولا أهول من مخبره، ونظر إليه ضرار وقد عطف راجعاً فعلم أنه قد عزم على الهرب فصاح بقومه ثم اقتحم في أثره ومد رمحه وهمز جواده فتصارخت به الروم وعطفت عليه المواكب من كل جانب فأنشد يقول:

الموت حق أين لي منه المفـر



وجنة الفردوس خير المستقـر



هذا قتالي فاشهدوا يا من حضر



وكل هذا في رضا رب البشر


ثم اخترق القوم وحمل عليهم وحمل المسلمون في أثره فأحدقوا بهم من كل مكان، ونظروا إلى ضرار وقد قصده وردان صاحب حمص عندما علم أنه اخترق القوم فمد إليه رمحه وقد أحدقت به بطارقته وضرار يمانع عن نفسه يميناً وشمالاً فما طعن أحداً إلا أباده إلى أن قتل من القوم خلقاً كثيراً، وهو يصرخ بقومه: ويقول "إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص" الصف: 4، قال: وأكبت عليه جيوش الروم من كل جانب ومكان واشتعل الحرب بينهم ووصل همدان بن وردان إلى ضرار بن الأزور ورماه بسهم. فأصاب عضده الأيمن فوصل السهم إليه فأوهنه وأحس ضرار بالألم فحمل على همدان وصمصم عليه برمحه وطعنه. فأصاب بالطعنة فؤاده فوصل السنان إلى ظهره فجذب الرمح منه فلم يخرج، وإذا به قد اشتبك في عظم ظهره فخرج الرمح من غير سنان فطمعوا فيه وحملوا عليه وأخذوه أسيراً،
__________________
اللهم يا من جعلت الصلاة على النبي قربة من القربات نتقرب اليك
بكل صلاة صليت عليه من اول النشأة الى ما لا نهاية الكمالات
admin غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-09-2012
  #2
admin
مدير عام
 الصورة الرمزية admin
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: uae
المشاركات: 717
معدل تقييم المستوى: 10
admin تم تعطيل التقييم
افتراضي رد: معارك الشام

فنظر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ضرار وهو أسير فعظم الأمر عليهم وقاتلوا قتالاً شديداً ليخلصوه فما وجدوا إلى ذلك سبيلاً وأرادوا الهرب. فقال رافع بن عميرة الطائي: يا أهل القران إلى أين تريدون? أما علمتم أن من ولى ظهره لعدوه فقد باء بغضب من الله، وإن الجنة لها أبواب لا تفتح إلا للمجاهدين، الصبر الصبر، الجنة الجنة، يا أهل الكتاب كروا على الكفار عناد الصلبان، وها أنا معكم في أوائلكم، فإن كان صاحبكم أسر أو قتل فإن الله حي لا يموت، وهو يراكم بعينه التي لا تنام، فرجعوا وحملوا معه...
قال: ووصل الخبر إلى خالد أن ضرار قد أسر بيد الروم، وأنه قتل من الروم خلقاً كثيراً فعظم ذلك على خالد، وقال: في كم العدو? قالوا: في اثني عشر ألف فارس. فقال: والله ما ظننت إلا أنهم في عدد يسير، ولقد غررت بقومي، ثم سأل عن مقدمهم من يكون? فقيل وردان صاحب حمص، وقد قتل ضرار ولده همدان، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ثم أرسل إلى أبي عبيدة يستشيره فبعث إليه أبو عبيدة يقول له: اترك على الباب الشرقي من تثق به وسر إليهم فإنك تطحنهم بإذن الله تعالى. فلما وصل الجواب إلى خالد قال: والله ما أنا ممن يبخل بنفسه في سبيل الله ثم أوقف بالمكان ميسرة بن مسروق العبسي رضي الله عنه ومعه ألف فارس، وقال له: أحذر أن تنفذ من مكانك. فقال ميسرة: حباً وكرامة، وعطف خالد بالناس، وقال لهم: أطلقوا الأعنة وقوموا الأسنة فإذا أشرفتم على العدو فاحملوا حملة واحدة ليخلص فيها ضرار إن شاء الله تعالى إن كانوا أبقوا عليه، والله إن كانوا عجلوا عليه لنأخذن بثأره إن شاء تعالى وأرجو أن لا يفجعنا به، ثم تقدم أمام القوم وجعل يقول:
الـيوم فـاز فـيه مـن صـدق
لا أرهب الموت إذا الموت طرق
لأروين الرمح من ذوي الحـدق
لأهتكن البيض هتكـاً والـدرق
عسى أرى غداً مقام من صـدق
في جنة الخلد وألقى من سـبـق
خولة بنت الأزور
فبينما خالد يترنم بهذه الأبيات، إذ نظر إلى فارس على فرس طويل وبيده رمح طويل وهو لا يبين منه إلا الحدق والفروسية تلوح من شمائله وعليه ثياب سود وقد تظاهر بها من فوق لامته وقد خرم وسطه بعمامة خضراء وسحبها على صدره ومن ورائه وقد سبق أمام الناس كأنه نار، فلما نظره خالد قال: ليت شعري من هذا الفارس وايم الله إنه لفارس شجاع، ثم اتبعه خالد والناس، وكان هذا الفارس أسبق الناس إلى المشركين. قال وكان رافع بن عمير الطائي رضي الله عنه في قتال المشركين وقد صبر لهم هو ومن معه إذ نظر خالداً ولد أنجده هو ومن معه من المسلمين، ونظر إلى الفارس الذي وصفناه وقد حمل على عساكر الروم كأنه النار المحرقة فزعزع كتائبهم وحطم مواكبهم، ثم غاب في وسطهم فما كانت إلا جولة الجائل حتى خرج وسنانه ملطخ بالدماء جمن الروم، وقد قتل رجالاً وجندل أبطالاً وقد عرض نفسه للهلاك، ثم اخترق القوم غير مكترث بهم ولا خائف وعطف على كراديس الروم في الناس وكثر قلقهم عليه، فأما رافع بن عميرة ومن معه فما ظنوا إلا أنه خالد وقالوا: ما هذه الحملات إلا لخالد فهم على ذلك إذ أشرف عليهم رضي الله عنه وهو في كبكبة من الخيل، فقال رافع بن عميرة: من الفارس الذي تقدم أمامك فلقد بذل نفسه ومهجته. فقال خالد: والله إنني أشد إنكاراً منكم له ولقد أعجبني ما. ظهر منه ومن شمائله. فقال رافع: أيها الأمير إنه منغمس في عسكر الروم يطعن يميناً وشمالاً.
فقال خالد: معاشر المسلمين احملوا بأجمعكم وساعدوا المحامي عن دين الله. قال فأطلقوا الأعنة وقوموا الأسنة والتصق بعضهم ببعض وخالد أمامهم إذ نظر إلى الفارس وقد خرج من القلب كأنه شعلة نار والخيل في أثره، وكلما لحقت به الروم لوى عليهم وجندل، فعند ذلك حمل خالد ومن معه ووصل الفارس المذكور إلى جيش المسلمين. قال فتأملوه فرأوه قد تخضب بالدماء فصاح خالد والمسلمون: لله درك من فارس بذل مهجته في سبيل الله وأظهر شجاعته على الأعداء، اكشف لنا عن لثامك. قال فمال عنهم ولم يخاطبهم وانغمس في الروم فتصايحت به الروم من كل جانب وكذلك المسلمون، وقالوا: أيها الرجل الكريم، أميرك يخاطبك وأنت تعوض عنه اكشف عن اسمك وحسبك لتزداد تعظيماً فلم يرد عليهم جواباً، فلما بعد عن خالد سار إليه بنفسه وقال له: ويحك لقد شغلت قلوب الناس وقلبي بفعلك، من أنت. قال فلما لج عليه خالد خاطبه الفارس من تحت لثامه بلسان التأنيث، وقال: إنني يا أمير لم أعرض عنك إلا حياء منك لأنك أمير جليل وأنا من ذوات الخدور وبنات الستور، وإنما حملني على ذلك أني محرقة الكبد زائدة الكمد. فقال لها: من أنت. قالت: أنا خولة بنت الأزور المأسور بيد المشركين أخي وهو ضرار وإني كنت مع بنات العرب وقد أتاني الساعي بأن ضرار أسير فركبت وفعلت ما فعلت. قال خالد: نحمل بأجمعنا ونرجو من الله أن نصل إلى أخيك فنفكه. قال عامر بن الطفيل: كنت عن يمين خالد بن الوليد حين حملوا وحملت خولة أمامه وحمل المسلمون وعظم على الروم ما نزل بهم من خولة بنت الأزور وقالوا: إن كان القوم كلهم مثل هذا الفارس فما لنا بهم من طاقة. ولما حمل خالد ومن معه إذا بالروم قد اضطربت جيوشهم ونظر وردان إليهم. فقال لهم: اثبتوا للقوم فإذا رأوا ثباتكم ولوا عنكم ويخرج أهل دمشق يعينونكم على قتالهم. قال فثبت المسلمون لقتال الروم وحمل خالد بالناس حملة منكرة وفرق القوم يميناً وشمالاً وقصد خالد مكان صاحبهم وردان عند اشتباك الأعلام والصلبان وإذا حوله أصحاب الحديد والزرد النضيد وهم محدقون به، فحمل خالد عليهم حملة منكرة واشتبك المسلمون بقتال الروم وكل فرقة مشغولة بقتال صاحبها. وأما خولة بنت الأزور فإنها جعلت تجول يميناً وشمالاً وهي لا تطلب إلا أخاها وهي لا ترى له أثراً ولا وقفت له على خبر إلى وقت الظهر وافترق القوم بعضهم عن بعض وقد أظهر الله المسلمين على الكافرين وقتلوا منهم مقتلة عظيمة. قال وتراجعت كل فرقة إلى مكانها وقد كمدت أفئدة الروم ما ظهر لهم من المسلمين وقد هموا بالهزيمة وما يمسكهم إلا الخوف من صاحبهم وردان، فلما رجع القوم إلى مكانهم أقبلت خولة بنت الأزور على المسلمين وجعلت تسألهم رجلاً رجلاً عن أخيها فلم تر من المسلمين من يخبرهما أنه نظره أو رآه أسيراً أو قتيلاً، فلما يئست منه بكت بكاءاً شديداً وجعلت تقول: يا ابن أمي ليت شعري في أي البيداء طرحوك أم بأي سنان طعنوك أم بالحسام قتلوك، يا أخي أختك لك الفداء لو أني أراك أنقذتك من أيدي الأعداء، ليت شعري أترى أني أراك بعدها أبداً، فقد تركت يا ابن أمي في قلب أختك جمرة لا يخمد لهيبها ولا يطفأ، ليت شعري لحقت بأبيك المقتول بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فعليك مني السلام إلى يوم اللقاء. قال فبكى الناس من قولها وبكى خالد وهم أن يعاود بالحملة إذ نظر إلى كردوس من الروم قد خرج من ميمنة العقبان فتأهب الناس لحربهم وتقدم خالد وحوله أبطال المسلمين. فلما قربوا من القوم رموا رماحهم من أيديهم والسيوف وترجلوا ونادوا بالأمان. فقال خالد: اقبلوا أمانهم وائتوني بهم فأتوا إليه. فقال خالد: من أنتم. فقالوا: نحن من جند هذا الرجل وردان ومقامنا بحمص وقد تحقق عندنا أنه ما يطيقكم ولا يستطيع حربكم فأعطونا الأمان واجعلونا من جملة من صالحتم من سائر المدن حتى نؤدي لكم المال الذي أردتم في كل سنة، فكل من في حمص يرضى بقولنا.
فقال خالد: إذا وصلت إلى بلادكم يكون الصلح إن شاء الله تعالى إن كان لكم فيه أرب، ولكن نحن ههنا لا نصالحكم ولكن كونوا معنا إلى أن يقضي الله ما هو قاض، ثم إن خالداً قال لهم: هل عندكم علم عن صاحبنا الذي قتل ابن صاحبكم? قالوا: لعله عاري الجسد الذي قتل منا مقتلة عظيمة وفجع صاحبنا في ولده. قال خالد: عنه سألتكم. قالوا: بعثه وردان عندنا أسيراً على بغل. ووكل به مائة فارس وأنفذه إلى حمص ليرسله إلى الملك ويخبره بما فعل. قال ففرح خالد بقولهم، ثم دعا برافع بن عميرة الطائي وقال: يا رافع ما أعلم أحداً أخبر منكم بالمسالك وأنت الذي قطعت بنا المفازة من أرض السماوة وأعطشت الإبل وأوردتها الماء وأوردتنا أركة وما وطئها جيش قبلنا لمفازتها، وأنت أوحد أهل الأرض في الحيل والتدبير فخذ معك من أحببت واقبع أثر القوم فلعلك أن تلحق بهم وتخلص صاحبنا من أيديهم، فلئن فعلت ذلك لتكونن الفرحة الكبرى. فقال رافع بن عميرة: حباً وكرامة، ثم إنه في الحال انتخب مائة فارس شداداً من المسلمين وعزم على المسير فأتت البشارة إلى خولة بمسير رافع بن عميرة ومن معه في طلب أخيها ضرار فتهلل وجهها فرحاً وأسرعت إلى لبس سلاحها وركبت جوادها وأتت إلى خالد بن الوليد، ثم قالت له: أيها الأمير سألتك بالطاهر المطهر محمد سيد البشر إلا ما سرحتني مع من سرحت فلعلي أن أكون مشاهدة لهم. فقال خالد لرافع: أنت تعلم شجاعتها فخذها معك. فقال له رافع: السمع والطاعة، وارتحل رافع ومن معه، وسارت خولة في أثر القوم ولم تختلط بهم، وسار إلى أن قرب من سليمة. قال فنظر رافع فلم يجد للقوم أثراً. فقال لأصحابه: أبشروا فإن القوم لم يصلوا إلى ههنا، ثم إنه كمن بهم في وادي الحياة، فبينما هم كامنون إذا بغبرة قد لاحت. فقال رافع لأصحابه: أيقظوا خواطركم وانتبهوا، فأيقظ القوم هممهم وبقوا في انتظار العدو وإذا بهم قد أتوا وهم محدقون بضرار، فلما رأى رافع ذلك كبر وكبر المسلمون معه وحملوا عليهم فلم يكن غير ساعة حتى خلص الله ضراراً وقتلوهم جميعاً وأخذوا سلبهم. قال وإذا بعساكر الروم قد أقبلت منهزمة وأولهم لا يلتفت إلى آخرهم، فعلم رافع أن القوم انهزموا فأقبل يلتقطهم بمن معه. قال وكان خالد لما أرسل رافع بن عميرة في طلب ضرار ليخلصه ومعه المائة فارس صدم وردان صدمة من يحب الشهادة ويبتغي دار السعادة وصدم المسلمون الروم، فما لبثوا أن ولوا الأدبار وركنوا إلى الفرار وكان أولهم وردان واتبعهم المسلمون وأخذوا أسلابهم وأموالهم ولم يزالوا في طلبهم إلى وادي الحياة، فاجتمع المسلمون برافع بن عميرة الطائي وضرار بن الأزور وسلموا عليهم وفرحوا بضرار رضي الله عنه وهنأوه بالسلامة. قال وأثنى خالد على رافع خيراً ورجعوا إلى دمشق وفرح المسلمون بالنصر واتصل الخبر إلى الملك هرقل وأن وردان قد انهزم وقتل ولده همدان. قال فأيقن بزوال ملكه من الشام فكتب إلى وردان كتاباً يقول فيه: أما بعد فإني قد بلغني جياع الأكباد عراة الأجساد قد هزموك وقتلوا ولدك رحمه المسيح ورحمك، ولولا أني أعلم أنك فارس الحرب ومجيد الطعن والضرب وليس النصر آتيك لحل عليك سخطي والآن مضى ما مضى، وقد بعثت إلى أجنادين تسعين ألفاً، وقد أمرتك عليهم فسر نحوهم وانجد أهل دمشق وأنفذ بعضهم ليمنعوا من في فلسطين من العرب وحل بينهم وبين أصحابهم وانصر دينك وصاحبك. قال وأنفذ إليه الكتاب مع خيل البريد، فلما ورد عليه الكتاب وقرأه سرى عنه بعض ما كان يجده وأخذ الأهبة إلى أجنادين فسار فوجد الروم قد تجمعوا وأظهروا العدد والزرد وخرجوا إلى لقائه وسلموا عليه وتقدموا بين يديه وعزوه في ولده، فلما استقر قراره قرأ عليهم منشور الملك فأجابوا بالسمع والطاعة وأخفوا على أنفسهم.
قال: حدثني روح بن طريف قال: كنت مع خالد بن الوليد على باب شرقي حين رجعنا من هزيمة وردان وإذ قد ورد علينا عباد بن سعد الحضرمي، وكان قد بعثه شرحبيل بن حسنة كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم من بصرى يعلم خالداً بمسير الروم إليه من أجنادين في تسعين ألف فارس فخذ أهبتك للقائهم. قال: فلما سمع خالد ذلك ركب إلى أبي عبيدة وقال له: يا أمين الأمة هذا عباد بن سعد الحضرمي قد بعث به شرحبيل بن حسنة يخبر أن طاغية الروم هرقل قد ولى وردان على من تجمع بأجنادين من الروم وهم تسعون ألفاً فما ترى من الرأي يا رسول الله. فقال أبو عبيدة: اعلم يا أبا سليمان أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متفرقون مثل شرحبيل بأرض حسنة بأرض بصرى، ومعاذ بن جبل بحوران، وبزيد بن أبي سفيان بالبلقاء، والنعمان بن المغيرة بأرض تدمر وأركة، وعمرو بن العاص بأرض فلسطين، والصواب أن تكتب إليهم ليقصدونا حتى نقصد العدو ومن الله نطلب المعونة والنصر. قال فكتب خالد إلى عمرو بن العاص كتاباً يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد فإن إخوانكم المسلمين قد عولوا على المسير إلى أجنادين فإن هناك تسعين ألفاً من الروم يريدون المسير إلينا "يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون" الصف: 8، فإذا وصل إليك كتابي هذا فاقدم علينا بمن معك إلى أجنادين تجدنا هناك إن شاء الله تعالى والسلام عليك وعلى من معك من المسلمين ورحمة الله وبركاته، وكتب نسخة الكتاب إلى جميع الأمراء الذين ذكرناهم ثم أمر الناس بالرحيل فرفعت القباب والهوادج على ظهور الجمال وساقوا الغنائم والأموال. فقال خالد لأبي عبيدة: قد رأيت رأياً أن أكون على الساقة مع الغنائم والأموال والبنين والولدان وكن أنت على المقدمة مع خاصة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال أبو عبيدة: بل أكون أنا على الساقة وأنت على المقدمة مع الجيش. فإن وصل إليك جيش الروم مع وردان يجدوك على أهبة فتمنعهم من الوصول إلى الحريم والأولاد فلا يصلون إلينا إلا وأنت قتلت فيهم وإلا كنت أنا ومن معي غنيمة لهم إذا كنت أنا في المقدمة. فقال خالد: لست أخالفك فيما ذكرت. ثم إن خالداً قال: أيها الناس إنكم سائرون إلى جيش عظيم فأيقظوا هممكم، وإن الله وعدكم النصر وقرأ عليهم قوله تعالى: "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين" البقرة: 249،.
ثم إن خالداً أخذ الجيش وسار في المقدمة وبقي أبو عبيدة في ألف من المسلمين، ونظر إلى ذلك أهل دمشق فعطفوا عليهم وأقبلوا بسيوفهم وهم يظنون أنهم منهزمون لأجل ما بلغهم من الجيش العظيم الذي هو بأجنادين. فقال لهم عقلاوهم: إن كانوا سائرين على طريق بعلبك فإنهم يريدون فتحها وفتح حمص، وإن كانوا على طريق مرج راهط فالقوم لا شك هاربون إلى الحجاز ويتركون ما أخذوا من البلاد. قال وكان بدمشق بطريق يقال له بولص وكان عظيماً عند النصرانية، وكان إذا قدم على الملك يعظمه، وكان الملعون فارساً وذلك أنهم كان عندهم شجرة فرماها بسهم فغاص السهم في الشجرة من قوة ساعده. ثم إن من عجبه كتب عليها: إن كل من يدعي الشجاعة فليرم بسهمه إلى جانب سهمي، وكان قد شاع ذكره بذلك ولم يحضر قتال المسلمين منذ دخلوا دمشق، فلما اجتمعوا عليه قال لهم بولص: ما الذي حل بكم. فأعلموه بما جرى عليهم من المسلمين وقالوا له: إن كنت تريد حياة الأبد عند الملك وعند المسيح وعند أهل دين النصرانية فدونك والمسلمين فاخرج إليهم وأخطف كل من تخلف منهم، وإن رأيت لنا فيهم مطمعاً قاتلناهم. فقال بولص: إنما كان سبب تخلفي عن نصرتكم لأنكم قليلو الهمة لقتال عدوكم فتخلفت عنكم والآن لا حاجة لي في قتال العرب.
فقالوا: وحق المسيح والإنجيل الصحيح لئن سرت في مقدمتنا لنثبتن معك وما منا من يولي عنك وقد حكمناك فيمن ينهزم أن تضرب عنقه ولا يعارضك في ذلك أحد. قال فلما استوثق منهم دخل إلى منزله ولبس لامته. فقالت له زوجته: إلى أين عزمت. قال: أخرج في أثر العرب فقد ولآني أهل دمشق عليهم. فقالت: لا تفعل والزم بيتك ولا تطلب ما ليس لك به حاجة فإني رأيت لك في المنام رؤيا. فقال لها: وما الذي رأيت. قالت: رأيتك كأنك قابض قوسك وأنت ترمي طيوراً وقد سقط بعضها على بعض، ثم عادت صاعدة فبينما أنا متعجبة إذ أقبلت نحوك سحابة من الجو فانقضت عليك من الهواء وعلى من معك فجعلت تضرب هاماتهم ثم وتيتم هاربين، ورأيتها لا تضرب أحداً إلا صرعته ثم إني انتبهت وأنا مذعورة باكية العين عليك. فقال لها: ومع ذلك رأيتني فيمن صرع. قالت: نعم وقد صرعك فارس عظيم. قال: فلطم وجهها وقال: لا بشرك المسيح بخير لقد دخل رعب العرب في قلبك حتى صرت تحلمين بهم في النوم فلا بد أن اجعل لك أميرهم خادماً وأجعل أصحابه رعاة الغنم والخنازير. فقالت له زوجته: افعل ما تريد فقد نصحتك. قال فلم يلتفت إلى كلامها وخرج من عندها وركب وسار معه من كان في دمشق من الروم،، فعرضهم فإذا هم ستة آلاف فارس وعشرة آلاف راجل من أهل النجدة والحمية وسار يطلب القوم.
معركة حول دمشق
وكان حنا أسد في المقدمة وأبو عبيدة يمشي مع الأموال والأغنام والجمال إذ نظر رجل من أصحابه، وهو يتأمل الغبرة من ورائهم، فسأله أبو عبيدة عن ذلك فقال: أظنها غبرة القوم. فقال أبو عبيدة: إن أهل الشام قد طمعوا فينا، وهذا العدو قاصد إلينا. قال فما استتم كلامه حتى بدت الخيل كأنها السيل وبولص في أوائلهم. فلما نظر إلى أبي عبيدة قصد ومعه الفرسان وأخوه بطرس قصد الحريم والمال فاقتطعوا منها قطعة. فلما احتوى عليها رجع بها بطرس نحو دمشق. فلما بعد جلس هناك لينظر ما يكون من أمر أخيه. وأما أبو عبيدة فإنه لما نظر إلى ما فاجأه من الروم. قال: والله لقد كان الصواب مع خالد لما قال دعني في الساقة فلم أدعه وإنه قد وصل إليه بولص وقصده والأعلام والصلبان على رأسه مشتبكة والنساء يولولن والصبيان يصيحون والألف من المسلمين قد اشتغلوا بالقتال وقد قصد عدو الله بولص أبا عبيدة واشتد بينهم الحرب ووقع القتال من أصحابه والروم وارتفعت الغبرة عليهم وهم في كر وفر على أرض سحوراً. قال وقد بلى أبو عبيدة بالقتال وصبر صبر الكرام، قال سهيل بن صباح، وكان تحتي جواد محجل من خيل اليمن شهدت عليه اليمامة فقومت السنان وأطلقت العنان فخرج كأنه الريح العاصف، فما كان غير بعيد حتى لحقت بخالد بن الوليد والمسلمين فأقبلت إليهم صارخاً وقلت: أيها الأمير أدرك الأموال والحريم. فقال خالد: ما وراءك يا ابن الصباح? فقلت: أيها الأمير إلحق أبا عبيدة والحريم فإن نفير دمشق قد لحق بهم، وقد اقتطعوا قطعة من النسوان والولدان وقد بلى أبو عبيدة بما لا طاقة لنا به. قال فلما سمع خالد ذلك الكلام من سهل بن صباح قال: إنما لله وإنا إليه راجعون، قد قلت لأبي عبيدة دعني أكون على الساقة، فما طاوعني ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، ثم أمر رافع بن عميرة على ألف من الخيل. وقال له: كن في المقدمة وأمر عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق على ألفين. وقال له: أدرك العدو وسار خالد في أثره ببقية الجيش.
قال: فبينما أبو عبيدة في القتال مع بولص لعنه الله إذ تلاحقت به جيوش المسلمين وحملوا على أعداء الله وداروا بهم من كل مكان، فعند ذلك تنكست الصلبان، وأيقن الروم بالهوان، وتقدم الأمير ضرار بن الأزور كأنه شعله نار وقصد نحو بولص. فلما رآه عدو الله تبلبل خاطره ووقعت الرعدة في فرائصه، وقال لأبي عبيدة: يا عربي وحق دينك إلا ما قلت لهذا الشيطان يبعد عني وكان بولص قد سمع به ورآه من سور دمشق وما صنع بعسكر كلوس عزازير وسمع بفعاله في بيت لفيا، فلما رآه مقبلاً إليه عرفه. فقال لأبي عبيدة: قل لهذا الشيطان لا يقربني فسمعه ضرار رضي الله عنه فقال له: أنا شيطان إن قصرت عن طلبك، ثم إنه فاجأه وطعنه، فلما رأى بولص أن اللعنة واصلة إليه رمى نفسه عن جواده وطلب الهرب نحو أصحابه فسار ضرار في طلبه. وقال له: أين تروح من الشيطان وهو في طلبك? ولحقه وهم أن يعلوه بسيفه. فقال بولص: يا بدوي إبق علي ففي بقائي بقاء أولادكم وأموالكم. قال فلما سمع ضرار قوله أمسك عن قتله وأخذه أسير، هذا والمسلمون قد قتلوا من الروم مقتلة عظيمة.
قال: حدثني أسلم بن مالك اليربوعي عن أبي رفاعة بن قيس. قال: كنت يوم وقعة سحوراً مع المسلمين وكنت في خيل عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه. قال فسرنا بالروم من كل جانب وبدلنا أسيافنا في القوم، وكانوا ستة كتائب في كل كتيبة ألف فارس قال رفاعة بن قيس: فوالله لقد حملنا يوم فتح دمشق وأنه ما رجع منهم فوق المائة ووجه خبر لضرار أن خولة مع النسوان المأسورات فعظم ذلك عليه وأقبل على خالد وأعلمه بذلك، فقال له خالد: لا تجزع، لقد أسرنا منهم خلقاً كثيراً، وقد أسرت أنت بولص صاحبهم وسوف نخلص من أسر من حريمنا ولا بد لنا من دمشق في طلبهم، ثم أمر خالد أن يسيروا بالناس على مهل حتى ننظر ما يكون من أمر حريمنا. ثم إنه سار في ألف فارس جريدة وبعث العسكر كله إلى أبي عبيدة مخافة أن يلحقهم وردان بجيوشه فسار القوم وتوجه خالد بمن معه في طلب المأسورات، وقد قدم أمامه رافع بن عميرة الطائي وميسرة بن مسروق العبسي وضرار بن الأزور.
قال: حدثني سعيد بن عمر عن سنان بن عامر اليربوعي، قال: سمعت حبيب بن مصعب يقول: لما اقتطعوا من ذكرنا من نساء العرب سار بهم بطرس أخو بولص إلى أن نزل بهم إلى النهر الذي ذكرناه، ثم قال بطرس: أنا لا أبرح من ههنا حتى أنظر ما يكون من أمر أخي، ثم إنه عرض عليه النساء المأسورات فلم يعجبه منهن إلا خولة بنت الأزور أخت ضرار. قال بطرس: هذه لي وأنا لها لا يعارضني فيها أحد، فقال له أصحابه: هي لك وأنت لها. قال وكل من سبق إلى واحدة يقول هي لي حتى قسموا الغنيمة على ذلك، ووقفوا ينتظرون ما يكون من أمر بولص وأصحابه، وكان في النساء عجائز من حمير وتبع من نسل العمالقة والتتابعة وكن قد اعتدن ركوب الخيل فقالت لهن خولة بنت الأزور: يا بنات حمير بقية تبع أترضين بأنفسكن علوج الروم، ويكون أولادكن عبيداً لأهل الشرك، فأين شجاعتكن وبراعتكن التي نتحدث بها عنكن في أحياء العرب ومحاضر الحضر ولا أراكن إلا بمعزل عن ذلك، وإني أرى التقل عليكن أهون من هذه المصائب وما نزل بكن من خدمة الروم الكلاب.
فقالت عفرة بنت غفار الحميرية: صدقت، ووالله يا بنت الأزور نحن في الشجاعة كما ذكرت، وفي البراعة كما وصفت، لنا المشاهد العظام والمواقف الجسام، ووالله لقد اعتدنا ركوب الخيل وهجوم الليل غير أن السيف يحسن فعله في مثل هذا الوقت، وإنما دهمنا العدو على حين غفلة، وما نحن إلا كالغنم، فقالت خولة: يا بنات التبابعة والعمالقة خذوا أعمدة الخيام وأوتاد الأطناب ونحمل بها على هؤلاء اللئام فلعل الله ينصرنا عليهم أو نستريح من معرة العرب، فقالت عفرة بنت غفار والله ما دعوت إلا ما هو أحب إلينا مما ذكرت، ثم تناولت كل واحدة عموداً من أعمدة الخيام وصحن صيحة واحدة وألقت خولة على عاتقها عمود الخيمة وسعت من ورائها عفرة وأم أبان بنت عتبة وسلمة بنت زارع ولبنى بنت حازم ومزروعة بنت عملوق وسلمة بنت النعمان، ومثل هؤلاء رضي الله عنهن. فقالت لهن خولة: لا ينفك بعضكن عن بعض، وكن كالحلقة الدائرة ولا تتفرقن فتملكن فيقع بكن التشتيت وحطمن رماح القوم واكسرن سيوفهم. قال فهجمت خولة أمامهن، فأول ما ضربت رجلاً من القوم على هامته بالعمود فتجندل صريعاً والتفت الروم ينظرون ما الخبر، فإذا هم بالنسوة، وقد أقبلن والعمد بأيديهن فصاح بطريق: يا ويلكن ما هذا، فقالت عفرة: هذه فعالنا فلنضربن القوم بهذه الأعمدة ولا بد من قطع أعماركم وانصرام آجالكم يا أهل الكفر. قال فجاء بطرس، وقال: تفرقوا عن النسوة ولا تبذلوا فيهن السيوف ولا أحد منكم يقتل واحدة منهن وخذوهن أسارى ومن وقع منكم بصاحبتي فلا ينلها بمكروه، فتفرق القوم عليهن وحدقوا بهن من كل جانب وراموا الوصول إليهن فلم يجدوا إلى ذلك سبيلاً ولم تزل النساء لا يدنو إليهن أحد من الروم إلا ضربن قوائم فرسه فإذا تنكس عن جواده بادرت النساء بالأعمدة فيقتلنه ويأخذن سلاحه..
قال الواقدي: ولقد بلغني أن النسوة قتلن ثلاثين فارساً من الروم، فلما نظر بطرس إلى ذلك غضب غضباً شديداً وترتجل وترجلت أصحابه نحو النساء، والنساء يحرض بعضهن بعضاً ويقلن متن كراماً ولا تمتن لئاماً، وأظهر بطرس رأسه وتلهفه عندما نظر إلى فعلهن، ونظر إلى خولة بنت الأزور، وهي تجول كالأسد وتقول:
نحن بنات قبـع وحـمـير
وضربنا في القوم ليس ينكر
لأننا في الحرب نار تسعـر
اليوم تسقون العذاب الأكبر
قال: فلما سمع بطرس ذلك من قولها، ورأى حسنها وجمالها، قال لها: يا عربية أقصري عن فعالك فإني مكرمك بكل ما يسرك أما ترضين أن أكون أنا مولاك وأنا الذي تهابني أهل النصرانية ولي ضياع ورساتيق وأموال ومواش ومنزلة عند الملك هرقل، وجميع ما أنا فيه مردود إليك، أما ترضين أن تكوني سيدة أهل دمشق فلا تقتلي نفسك، فقالت له: يا ملعون ويا ابن ألف ملعون والله لئن ظفرت بك لأقطعن رأسك والله ما أرضى بك أن ترعى لي الإبل فكيف أرضاك أن تكون لي كفؤا. قال فلما سمع كلامها حرض أصحابه على القتال، وقال: أترون عاراً أكبر من هذا في بلاد الشام أن النسوة غلبنكم فاتقوا غضب الملك، قال فافترق القوم وحملوا حملة عظيمة وصبر النساء لهم صبر الكرام، فبينما هم على ذلك إذ أقبل خالد بن الوليد رضي الله عنه ومن معه من المسلمين، ونظروا إلى الغبار وبريق السيوف، فقال لأصحابه: من يأتيني بخبر القوم فقال رافع بن عميرة الطائي: أنا آتيك به قال ثم أطلق جواده حتى أشرف على النسوة وهن يقاتلن قتال الموت. قال: فرجع وأخبر خالداً بما رأى، فقال خالد: لا أعجب من ذلك إنهن من بنات العمالقة ونسل التبابعة، وما بينهن وبين تبع إلا قرن واحد، وتبع بن بكر بن حسان الذي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ظهوره، وشهد له بالرسالة قبل أن يبعث، وقال:
شهدت بأحمد أنه رسـول
من الله بارئ كل النسـم
وأمته سميت في الزبـور
بأمة أحمد خـير الأمـم
فلو مد عمري إلى عصره
لكنت وزيراً له وابن عم
بطولة النساء
قال الواقدي: قال خالد: لا تعجب يا رافع واعلم أن هؤلاء النسوة لهن الحروب المذكورات والمواقف المشهورات، وإن يكن فعلهن ما ذكرت، فلقد سدن على نساء العرب إلى آخر الأبد وأزلن عنهن العار فتهللت وجوه الناس فرحاً ووثب ضرار بن الأزور عندما سمع كلام رافع. فقال خالد: مهلاً يا ضرار ولا تعجل فإنه من تأنى نال ما تمنى فقال ضرار: أيها الأمير لا صبر لي عن نصرة بنت أبي وأمي فقال خالد: قد قرب الفرج إن شاء الله تعالى، ثم إن خالداً وثب ووثب أصحابه، وقال: معاشر الناس إذا وصلتم إلى القوم فتفرقوا عليهم وأحدقوا بهم فعسى أن يخلص حريمنا، فقالوا: حباً وكرامة. ثم تقدم خالد. قال فبينما القوم في قتال شديد مع النسوة إذ أشرفت عليهم المواكب والكتائب والأعلام والرايات، فصاحت خولة: يا بنات التبابعة، قد جاءكم الفرج ورب الكعبة. ونظر بطرس إلى الكتائب المحمدية، وقد أشرفت فخفق فؤاده وارتعدت فرائصه وأقبل القوم ينظر بعضهم بعضاً. قال فصاح بطرس: يا معاشر النسوة إن الشفقة والرحمة قد دخلت في قلبي، لأن لنا أخوات وبنات وأمهات، وقد وهبتكن للصليب. فإذا قدم رجالكن فأخبرنهم بذلك. ثم عطف يريد الهرب إذ نظر إلى فارسين، قد خرجا من قلب العسكر أحدهما قد تكمى في سلاحه والآخر عاري الجسد، وقد أطلقا عنانهما كأنهما أسدان. وكانا خالداً وضراراً، فلما رأت خولة أخاها قالت له: إلى أين يا ابن أمي أقبل. فصاح بها بطرس: انطلقي إلى أخيك، فقد وهبتك له. ثم ولى يطلب الهرب. فقالت له خولة، وهي تهزأ به: ليس هذا من شيم الكرام تظهر لنا المحبة والقرب. ثم تظهر الساعة الجفاء والتباعد وخطت نحوه. فقال: قد زال عني ما كنت أجد من محبتك. فقالت له خولة: لا بد لي منك على كل حال. ثم أسرعت إليه، وقد قصده ضرار. فقال له بطوس: خذ أختك عني فهي مباركة عليك، وهي هدية مني إليك. فقال له الأمير ضرار: قد قبلت هديتك وشكرتها وإني لا أجد لك على ذلك إلا سنان رمحي فخذ هذه مني إليك. ثم حمل عليه ضرار، وهو يقول "وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها" النساء: 86، ثم همهم إليه بالطعنة ووصلت إليه خولة فضربت قوائم فرسه فكبا به الجواد ووقع عدو الله إلى الأرض فأدركه ضرار قبل سقوطه وطعنه في خاصرته فأطلع السنان من الجانب الآخر فتجندل صريعاً إلى الأرض لصاح به خالد: لله درك يا ضرار هذه طعنة لا يخيب طاعنها.
ثم حملوا في أعراض القوم وجميع المسلمين معهم فما كانت إلا جولة جائل حتى قتل من الروم ثلاثة آلاف رجل. قال حامد بن عامر اليربوعي: لقد عمدت لضرار بن الأزور في ذلك اليوم ثلاثين قتيلاً وقتلت خولة خمس وعفراء بنت غفار الحميرية أربعة. قال وانهزم بقية القوم، ولم يزالوا في أدبارهم والمسلمون على أثرهم إلى أن وصلوا إلى دمشق فلم يخرج إليهم أحد بل زاد فزعهم واشتد الأمر عليهم ورجع المسلمون وجمعوا الغنائم والخيل والسلاح والأموال، ثم قال خالد: الحقوا بأبي عبيدة لئلا يكون وردان وجيوشه قد لحقوا به، فسار ضرار والقوم، وقيل: جعل ضرار رأس البطريق على سنان رمحه، ولم يزل القوم سائرين إلى أن لحقوا بأبي عبيدة في مرج الصفر، وقد تخفف أبو عبيدة حتى أشرف المسلمون عليه، فكبر وكبر خالد بن الوليد رضي الله عنه ومعه المسلمون. فلما اجتمع الناس سلم بعضهم على بعض ورأوا المأسورات وقد خلصن، وأخبر خالد أبا عبيدة بما فعلت خولة وعفرة وغيرهن من الصحابة فاستبشر بنصر الله وعلموا أن الشام لهم. ثم دعا خالد ببولص، فقال له: أسلم وإلا فعلت بك كما فعلت بأخيك. فقال له: وما الذي صنعت بأخي? قال: قتلته، وهذه رأسه ورماها ضرار قدامه. فلما رأى أخيه بكى، وقال له: لا بقاء لي بعده حيا فألحقوني به، قال فقام إليه المسيب بن يحيى الفزاري رضي الله عنه فضرب عنقه بأمر خالد ثم رحل القوم.
قال الواقدي: حدثنا سعيد بن مالك. قال: لما بعث خالد الكتب إلى شرحبيل بن حسنة كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى يزيد بن أبي سفيان وإلى عمرو بن العاص قرأ كل واحد من الأمراء كتابه. قال فساروا بأجمعهم إلى أجنادين لعون إخوانهم وجاءوا بعددهم وعديدهم. قال سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت في خيل معاذ بن جبل، فلما أشرفنا بأجمعنا على أجنادين كنا كلنا على سيارة واحدة في يوم واحد، وذلك في شهر صفر سنة 20 من الهجرة وتبادر المسلمون يسلم بعضهم على بعض، قال ورأينا جيوش الروم في عدد لا يحصى. فلما أشرفنا عليهم أظهروا لنا زينتهم وعددهم واصطفوا مواكب وكتائب ومدوا صفوفهم، فكانوا ستين صفاً في كل صف ألف فارس، قال الضحاك بن عروة: والله لقد دخلنا العراق ورأينا جنود كسرى فما رأينا أكثر من جنود الروم ولا أكثر من عددهم وسلاحهم. قال فنزلنا بإزائهم. قال فلما كان من الغد بادرت الروم نحونا. قال الضحاك: فلما رأيناهم، وقد ركبوا أخذنا على أنفسنا وتأهبنا، وأن خالداً ركب، وجعل يتخلل الصفوف: ويقول: اعلموا أنكم لستم ترون للروم جيشاً مثل هذا اليوم، فإن هزمهم الله على أيديكم فما يقوم لهم بعدها قائمة أبداً فأصدقوا في الجهاد وعليكم بنصر دينكم وإياكم أن تولوا الأدبار فيعقبكم ذلك دخول النار وأقرنوا المواكب ومكنوا المضارب ولا تحملوا حتى آمركم بالحملة وأيقظوا هممكم.
قال الواقدي: ولقد بلغني ممن أثق به أن وردان لما رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجمعوا وعولوا على حربهم جمع إليه الملوك والبطارقة وقال لهم: يا بني الأصفر اعلموا أن الملك يعول عليكم، وإذا انكسرتم لا تقوم لكم بعدها قائمة أبداً وتملك العرب بلادكم وتسبي حريمكم فعليكم بالصبر ولتكن حملتكم واحدة ولا تتفرقوا واعلموا أن كل ثلاثة منا بواحد منهم واستعينوا بالصليب ينصركم، فهذا ما كان من هؤلاء. وأما خالد رضي الله عنه فإنه مشى على أصحابه وقال: معاشر المسلمين من فيكما يحذر لنا القوم وينفرهم. فقال ضرار بن الأزور: أنا أيها الأمير. فقال خالد: أنت لها والله، ولكن يا ضرار إذا أشرفت على القوم فإياك أن تحمل نفسك ما لا تطيق، وأن تغزر بنفسك وتحمل على القوم فما أمرك الله بذلك، فقد قال الله تعالى: "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" البقرة: 195، قال فأطلق ضرار عنان جواده حتى أشرف على جيش الروم فرأى أثاثهم وخيامهم وشعاع البيض والطوارق والرايات كأجنحة الطيور، قال وكان وردان ينظر نحو جيش المسلمين إذ نظر إلى ضرار، وهو مشرف على القوم، فقال للبطارقة: إني أرى فارساً قد أقبل ولست أشك أنه طليعة القوم فأيكم يأتيني به فانتدب من القوم ثلاثين فارساً طلبوا ضراراً، كلما نظر إليهم ضرار ولى من بين أيديهما فتبعوه وظنوا أنه قد انهزم، وإنما أراد بذلك أن يبعدهم عن أصحابهم، فلما بعدوا علم أنه تمكن منهم فلوى رأس جواده إليهما وصوب السنان عليهم، فأول من طعن فارساً من القوم أرداه وثنى على الآخر فأعدمه الحياة وصال فيهم صولة الأسد على الغنم ودخل رعبه في قلوبهم فولوا منهزمين فتبعهم، وهو يصرع منهم فارساً بعد فارس إلى أن صرع منهم تسعة عشر فارساً.
فلما رأوا ذلك وقرب هو من جيوش الروم لوى راجعاً إلى خالد ومعه أسلابهم وخيولهم وأعلمه بما كان، فقال له خالد: ألم أقل لك لا تغزر بنفسك ولا تحمل عليهم، فقال: إن القوم طلبوني فخفت أن يراني الله منهزماً فجاهدت بإخلاص ولا جرم أن الله ينصرنا عليهم والله لولا خوفي من ملامك لأحملن على الجميع. واعلم أن القوم غنيمة لنا. قال فرتب خالد عسكره ميمنة وميسرة وقلباً وجناحين فجعل في القلب معاذ بن جبل وفي الميمنة عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وفي الميسرة سعيد بن عامر وفي الجناح الأيسر شرحبيل بن حسنة، وفي الساقة يزيد بن أبي سفيان في أربعة آلاف فارس حول الحريم والبنات والأولاد، ثم التفت إلى النسوة وهن عفراء بنت غفار الحميرية وأم أبان ابنة عتبة وكانت عروساً قد تزوج بها في هذا اليوم أبان بن سعيد بن العاص والخضاب في يدها والعطر في رأسها، وخولة بنت الأزور ومزروعة بنت عملوق وسلمة بنت زارع وغيرهن من النسوة ممن عرفن بالشجاعة والبراعة.
فقال لهن خالد: يا بنات العمالقة وبقية التبابعة قد فعلتن فعلاً أرضيتن به الله تعالى والمسلمين، وقد بقي لكن الذكر الجميل، وهذه أبواب الجنة قد فتحت لكن، وأبواب النار قد أغلقت عنكن وفتحت لأعدائكن، واعلمن أني أثق بكن. فإن حملت طائفة من الروم عليكن فقاتلن عن أنفسكن، وإن رأيتن أحداً من المسلمين قد ولى هارباً فدونكن وإياه بالأعمدة وأرمين بولده وقلن له: أين تولي عن أهلك ومالك وولدك وحريمك فإنكن ترضين بذلك الله تعالى. فقالت عفراء بنت غفار: أيها الأمير والله لا يفرحنا إلا أن نموت أمامك، فلنضربن وجوه الروم ولنقاتلن إلى أن لا تبقى لنا عين تطرف، والله ما نبالي إذا رمينا الروم كله قال فجزاهن خيراً. ثم عاد إلى الصفوف فجعل يطوف بينهم بفرسه، ويحرض الناس على القتال، وهو ينادي برفيع صوته: يا معاشر المسلمين: انصروا الله ينصركم، وقاتلوا في سبيل الله واحتسبوا نفوسكم في سبيل الله ولا تحملوا حتى آمركم بالحملة، ولتكن السهام إذا خرجت من كباد القسي كأنها من قوس واحدة. فإذا تلاصقت السهام رشقاً كالجراد لم يخل أن يكون منها سهم صائب، "واصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون" آل عمران: 200، واعلموا أنكم لم تلقوا بعد هذا عدوا مثله، وأن هذه الفئة جملتهم وأبطالهم وملوكهم فجردوا السيوف وأوتروا القسي وفوقوا السهام. ثم إن خالداً أقبل ووقف في القلب مع عمرو بن العاص وعبد الله بن عمر وقيس بن هبيرة ورافع بن عميرة وذي الكلاع الحميري وربيعة بن عامر ونظائرهم. قال فلما نظر وردان إلى جيش المسلمين قد زحف، زحفوا وكانوا ملء تلك الأرض في الطول والعرض من كثرتهم فترامى الجمعان وتلاقى الفريقان، وقد أظهر أعداء الله الصلبان والأعلام، ورفع المسلمون أصواتهم بالتهليل والتكبير والصلاة والسلام على البشير النذير.
فلما قرب القوم بعضهم من بعض خرج من علوج الروم شيخ كبير وعليه قلنسوة سوداء. فلما قرب من المسلمين نادى بلسان عربي: أيكم المقدم فليخاطبني وليخرج إلي وعليه أمان. قال فخر إليه خالد بن الوليد. فقال له القس: أنت أمير القوم. فقال خالد: كذلك يزعمون ما دمت على طاعة الله وسنة رسوله، وإن أنا غيرت أو بذلت فلا إمارة لي عليهم ولا طاعة. قال القس: بهذا نصرتم علينا، ثم قال: اعلم أنك توسطت بلاداً ما جسر ملك من الملوك أن يتعرض لها ولا يدخلها، وأن الفرس دخلوها ورجعوا خائبين، وأن التبابعة أتوها وأفنوا أنفسهم عليها وما بلغوا ما أرادوا، ولكنكم أنتم نصرتم علينا وإن النصر لا يدوم لكم وصاحبي وردان قد أشفق عليكم وقد بعثني إليكم وقال: إنه يعطي كل واحد منكم ديناراً وثوباً وعمامة ولك أنت مائة ديناراً ومائة ثوب ومائة عمامة وارحل عنا بجيشكم فإن جيشنا على عدد الذر ولا تظن أن هؤلاء مثل من لقيت من جموعنا، فإن الملك ما أنفذ في هذا الجيش إلا عظماء البطارقة والأساقفة. قال خالد: والله ما نرجع إلا بإحدى ثلاث خصال: إما أن تدخلوا في ديننا، أو تؤدوا الجزية، أو القتال. وأما ما ذكرت من أنكم عدد الذر فإن الله تعالى قد وعدنا النصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وأنزل ذلك في كتابه العزيز. وأما ما ذكرت من أن صاحبكم يعطي كل واحد منا ديناراً وعمامة وثوباً فعن قريب إن شاء الله نرى ثيابكم وبلادكم وعمائمكم كل ذلك في ملكنا وبأيدينا. فقال الراهب: إني راجع إلى صاحبي أخبره بجوابك، ثم لوى راجعاً وأخبر وردان بما كان من جواب خالد. فقال وردان: أيظن أننا مثل من لقيه من قبل وإنما هؤلاء لحقهم الطمع إذ تقاصرنا عن قتالهم والملك قد أرسل إليهم أكابر البطارقة وما بيننا وبينهم إلا جولة الجائل ثم نتركهم صرعى، ثم رتب أصحابه وزحف وقدم أمامه الرجالة صفا أمام القوم والخيالة وبأيديهم المزاريق والقسي. قال فصاح معاذ بن جبل: معاشر الناس إن الجنة قد زخرفت لكم والنار قد فتحت لأعدائكم والملائكة عليكم قد أقبلت والحور العين قد تزينت للقائكم فابشروا بالجنة السرمدية، ثم قرأ "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة" التوبة: 111، بارك الله فيكم الحملة. فقال خالد: مهلا يا معاذ حتى أوصي الناس، ومشى في الصفوف ورتبها وقال: اعلموا أن هؤلاء أضعافكم فطاولوهم إلى وقت العصر، فإنها ساعة نرزق فيها النصر، وإياكم أن تولوا الأدبار فيراكم الله منهزمين، ازحفوا على بركة الله تعالى.
فلما تقارب الجمعان رمت الأروام سهامهم رمية واحدة. قال فقتلوا رجالاً وجرحوا أناساً، وخالد قد منع الناس من الحملة. فقال ضرار بن الأزور: وما لنا والوقوف والحق سبحانه وتعالى قد تجلى علينا، والله ما يظن أعداء الله إلا أننا قد فشلنا عنهم وجزعنا، فأمرنا بالحملة حتى نحمل معك. قال: فأنت لها يا ضرار، فخرج ضرار بن الأزور، وقال: والله ما من شيء أشهى إلى قلبي من ذلك. ثم حمل ضرار وقد تدرع بدرع كان لبطرس أخي بولص، وألقى الزرد على وجهه وركب جواده، وكان عليه يومئذ جبتان من جلود الفيلة كان قد أخذهما أيضاً من بطرس، وقد أخفى نفسه عن الروم بلباسه ذلك، وقد أطلق عنانه وقوم سنانه وحمل في صفوف الروم فرشقوه بالسهام فلم يصل إليه منهم أذى، وهو يخترق صفوفهم، فما كان قدر ساعة حتى قتل من الروم عشرين فارساً ومثلها رجالة. قال عنان بن عوف النجبي: كنت ممن يعد قتلى ضرار بن الأزور، وكنت كلما قتل فارساً من الروم أعده، فكان جملة قتل ضرار في حملته هذه فرساناً ورجالاً ثلاثين فارساً.
قال عمر بن سالم: هكذا حدثني نوفل بن زياد. ثم إنه رمى البيضة عن رأسه والزرد عن وجهه ونادى بأعلى صوته: أنا الموت الأصفر، أنا ضرار بن الأزور، أنا صاحبكم، أنا قاتل همدان بن وردان، أنا البلاء المسقط عليكم وعلى من أشرك بالرحمن. قال فلما سمعت الروم كلامه عرفوه وتقهقروا إلى ورائهم. قال فطمع فيهم وحمل على أثرهم، فعند ذلك انطبقت عليهم الروم. فقال وردان: من هذا البدوي، فقالوا: أيها الملك هذا الذي بقي طول عمره عاري الجسد، ومرة برمح ومرة بنبل. فلما سمع ذلك وبذكر ضرار بن الأزور تنفس الصعداء وقال: هذا قاتل ولدي، ولقد اشتهيت من يأخذ منه بثأري وله مني ما يريد. قال فبرز إليه بطريق، وكان صاحب طبرية، وقال لوردان: أنا آخذ لك بالثأر، ثم لوى عنانه وحمل على ضرار فجالا أكثر من ساعة، ثم طعنه ضرار طعنة صادقة خرق بها كبد عدو الله فتجندل صريعاً، فقال وردان لهم: ما أتى به ولو أتى به عينا ما صدقته، فإن هذا لا تطيق الإنس أن تقاتله، وأنا ما أرى لهذا غيري، ثم ترجل وغير لامته وألقى عليه درعاً، وجعل على رأسه التاج وركب جواداً من الخيول العربية وهم أن يخرج إلى ضرار بن الأزور، فتقدم إليه بطريق اسمه اصطفان، وهو صاحب عمان. قال وباس ركاب وردان وقال: أيها السيد إن آخذ بثأرك من هذا الذميم أو أسرته لك أتزوجني ابنتك? فقال له وردان: هي لك وأشهد عليه من حضر من ملوك الشام. فلما سمع اصطفان بذلك خرج كأنه شعلة نار وحمل على ضرار وقال له: ويلك قد نزل بك ما لا قدرة لك به. قال فلم يدر ضرار ما يقول غير أنه أخذ حذره منه، وقد أخرج اصطفان صليباً من الذهب، وجعله في عنقه في سلسلة من الفضة وجعل يقتله ويرفعه على رأسه فعلم ضرار أنه يستنصر به عليه، فقال ضرار رضي الله عنه: إن كنت تستنصر علي به فأنا استنصر بالقريب المجيب الذي هو ممن دعاه قريب. ثم حمل عليه وأرباً الناس أبواباً من الحرب حتى ضج الناس من قتالهما، فصاح خالد: يا ابن الأزور ما هذا التكاسل والتغافل والجنة قد فتحت لك والنار قد فتحت لأعدائك، وإياك الكسل فإن الله عز وجل يعينك قال فأيقظ ضرار نفسه وانقض من سرجه وحمل على خصمه وتصايحت الروم بصاحبها تشجعه وكلاهما في ضرب عظيم، ولد حميت الشمس وتعب الجوادان. فأشار البطريق إلى ضرار أن ترجل حمى نتقابل، فهم ضرار أن يترجل شفقة على الجواد، وإذا بصفوف الروم قد خرجت ورجل يقود جنيباً أمامهم، وكان ذلك كلام البطريق، فلما نظر إليه ضرار صاح في جواده، وقال له: اجلد معي ساعة وإلا شكوتك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فحمحم الجواد وشمر أجنحته جرياً واستقبل ضرار غلام البطريق بطعنه فقتله وأخذ الجنيب فركبه وأطلق جواده نحو عساكر المسلمين فتناولوه وعاد ضرار نحو البطريق. فلما رآه أقبل إليه بعد ما قتل غلامه وركب جواده أيقن عدو الله بالهلاك وعلم أنه إن ولى قتله بلا محالة، وأن وقف أهلكه. فلما نظر ضرار إلى عدو الله علم ما عنده فهجم عليه إذ نظر إلى الروم وقد خرج منهم كردوس، وذلك أن وردان لما نظر إلى صاحبه وقد أشرف على الموت علم انه إن لم يدركه هلك، فقال لقومه. يا قوم إن هذا الشيطان قد أكل من كبدي قطعة، وإذا لم أقتله قتلت نفسي ولا بد لي من الخروج إليه. قال فخرج في عشرة من البطارقة وهم مدرعون، وفي أرجلهم أخفاف من الحديد وسواعد من الحديد، وبأيديهم أعمدة من الحديد ووردان قد لبس لامته وعلى رأسه تاج عظيم فخرجوا ووردان أمامهم كأنه شعلة نار ونظر أصطفان إلى من خرج فصرخ بضرار فلم يلتفت إلى من خرج إليه إلا أنه تأهب. فبينما هم كذلك إذ نظر خالد إلى القوم وخروجهم ونظر إلى التاج، وهو يلمع على رأس صاحبهم. فقال: إن التاج لا يكون إلا على رأس الملك ولا شك أنه صاحب القوم قد خرج إلى صاحبنا فما الذي يقعدنا عن نصرته? ثم قال لأصحابه: لا يخرج إلا عشرة حتى نساوي القوم، فخرج خالد في عشرة من أصحابه وأطلقوا الأعنة وقوموا الأسنة، قال ووصل الروم إلى ضرار فاستقبلهم بقلب أقوى من الحجر الجلمود، قال فناداه خالد: أبشر يا ضرار. فقد أسعدك الجبار ولا تجزع من الكفار، فقال ضرار رضي الله عنه: ما أقرب النصر من الله، وجاء خالد ومن معه والتقت الرجال بالرجال وانفرد كل واحد بصاحبه وطلب خالد وردان، ولم يبرح ضرار عن خصمه اصطفان، وقد كل ساعة وارتعدت فرائصه عندما نظر إلى خالد ومن معه، فنظر يميناً وشمالاً ليطلب الهرب فعلم ضرار منه ذلك فهجم عليه بسنانه، فلما أيقن بالموت ألقى نفسه إلى الأرض وولى هارباً فبادر إليه ضرار وألقى نفسه عن جواده وطلب عدو الله حتى لحقه وتقابضا على وجه الأرض، وكان عدو الله كالصخر الجلمود، وكان ضرار نحيف الجسم غير أن الله تعالى أعطاه قوة الإيمان. فلما طال بهم العراك ضرب بيده إلى مراق بطنه وقلعه من الأرض بحيلة وجلد به الأرض فصاح عدو الله وجعل يستنجد بوردان وقال بالرومية: أيها السيد انجدني مما أنا فيه فقد هلكت، فصاح وردان: يا ويلك ومن ينقذني أنا من هؤلاء السباع الكاسرة، فسمع خالد ذلك فسمع فيه وحمل على وردان وهم ضرار بخصمه ونظر إليهما الفريقان، وأقبل صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرار فلم يمهل على خصمه دون أن برك على صدره وذبحه مثل البعير، وكل واحد مشتغل عن نصرة صاحبه. قال فأخذ ضرار رأس عدو الله وهو ملطخ بالدماء وركب جواده وحملت الروم على المسلمين ونادى سعيد بن زيد: يا معشر الناس اذكروا الوقوف بين يدي الله الملك الجبار فإياكم أن تولوا الأدبار فتستوجبوا دخول النار، يا أهل الإيمان يا حملة القرآن اصبروا. قال فزاد الناس بقوله نشاطاً وتزاحم الفريقان. قال: وجاء وقت العصر فافترقوا وقد قتل من الروم ثلاثة آلاف وعشرة من ملوكهم، ومنهم رومان صاحب الأميرة، ودمر صاحب نوى، وكوكب صاحب أرض البلقاء، ولاوي بن حنا صاحب غزة. قال ثم افترق القوم ورجع وردان إلى مكانه وقد امتلأ قلبه رعباً مما ظهر له من المسلمين من شدة صبرهم وقتالهم. فجمع البطارقة وقال لهم: يا أهل دين النصرانية ما تقولون في هؤلاء العرب فإني أراهم غالبين علينا وقد رأيت أسيافهم قاطعة وخيلهم صابرة وسواعدكم بليدة، وإن القوم أطوع منكم لربكم وما خذلتم إلا بالظلم والجور والغدر، وما مرادي منكم إلا أن تتوبوا إلى ربكم، فإن فعلتم ذلك رجوت لكم النصر من عدوكم، وإن لم تفعلوا ذلك فأذنوا بحرب من المسيح وبهلاك أنفسكم، فإن الله عاقبكم أشد عقوبة إذ سلط عليكم أقواماً لا نفكر بهم ولا نعدهم، لأن أكثرهم جياع وعبيد وعراة ومساكين أخرجهم إلينا قحط الحجاز وجوعه وشدة الضرر والبلاء، والآن قد أكلوا من خبز بلادنا وفواكه أرضنا وأكلوا العسل والتين والعنب، وأعظم ذلك سبي نسائكم وأموالكم.
قال الواقدي: فلما سمع القوم ذلك بكوا وقالوا: نقتل عن آخرنا ولا يصل إلينا هؤلاء القوم وإنا نرى أن نقاتلهم بالرماح. قال فلما سمع وردان ذلك منهم صاح بالبطارقة وقال لهم: ما عندكم من الرأي?. فقال رجل منهم: يا وردان اعلم أنك قد بليت بقوم لا تقوم لقتالهم، وقد رأيت الواحد منهم يحمل على عسكرنا ولا يبالي من أحد ولا يرجع حتى يقتل منهم، وقد قال لهم نبيهم إن من قتل منكم صار إلى الجنة. ومن قتل من الروم صار إلى النار، والموت والحياة عندهم سواء وما أرى لكم من القوم مطمعاً إلا أن نتحيل على صاحبهم فنقتله فإن قتلتموه ينهزم القوم وإنك لا تصل إليه إلا بحيلة توقعه فيها. فقال وردان: وأي حيلة ندخل بها على القوم والحيل والخداع والمكر منهم..
فقال له البطريق: أنا أقول لك شيئاً إن صنعته وصلت به إلى أمير العرب من حيث لا يصل إليك شيء ولا أذى، وذلك أنك تنتخب عشرة من الفرسان من ذوي الشدة والبأس ويكمنون في مكمن من جهة العسكر قبل خروجك إليه وبعد ذلك تخرج إليه وتشاغله بالحديث ثم اهجم عليه وأخرج قومك يبادرون من المكمن ويقطعونه إرباً إرباً وتستريح منه وبعد ذلك تتفرق أصحابه ولا يجتمع منهم أحد. قال فلما سمع وردان ذلك من البطريق فرح فرحاً عظيماً. وقال: ما هذا إلا رأي سديد فنعم ما أشرت به وقد أصبت فيما ذكرت غير أن هذا الأمر يعمل في جنح الليل ولا يأتي الصباح إلا وقد فرغنا مما نريد، ثم إن وردان دعا برجل من العرب المتنصرة اسمه داود وكان في سكنه. وقال له: يا داود أنا أعلم أنك فصيح اللسان وإني أريد أن تخرج إلى هؤلاء العرب وتسألهم أن يقطعوا الحرب بيننا وبينهم، وقل لهم لا يخرجون لنا بكرة النهار حتى أخرج بنفسي إليهم منفرداً عن قومي ولعلنا نصطلح مع العرب. فقال داود: ويحك وتخالف أمر الملك هرقل فيما أمرك به من الحرب وتصطلح أنت والعرب فإن الملك ينسبك إلى الجزع والفزع وما كنت بالذي أخاطب العرب في ذلك أبداً فيبلغ الملك أني كنت السبب في ذلك فيقتلني. فقال له وردان: يا ويلك إنما دبرت حيلة على أمير العرب حتى أصل بها إليه فأقتله وتتفرق هؤلاء العرب عنا ثم إنه حدثه بما عزم عليه من المكر بخالد بن الوليد. فقال لوردان: إن الباغي مخول في كل فعل فالق الجمع بالجمع واترك ما عزمت عليه، فقال وردان وقد غضب: ويلك أنت تعاندني فيما أمرتك به دع عنك المحاججة. فقال: حباً وكرامة، ثم إنه مضى وقال في نفسه: إن وردان قد عزم أن يلحق بولده، ثم أقبل حتى إنه وقف قريباً من المسلمين ونادى برفيع صوته، وقال: يا معاشر العرب حسبكم من القتل وسفك الدماء فإن الله تعالى يسألكم عن سفكها، وأريد أن يخرج إلي أمير العرب حتى أخاطبه بما أرسلت به. قال فما استتم كلامه حتى خرج إليه خالد رضي الله عنه وهو كأنه شعلة نار.
فلما نظر إليه داود النصراني قال له: يا عربي على رسلك فما خرجت أحارب ولا أنا من رجال الحرب وما أنا إلا رسول. فلما سمع خالد مقالته قرب منه. وقال: أذكر مسألتك واستعمل الصدق تنج فمن صدق نجا ومن كذب هلك، فقال: صدقت يا عربي، إن أميرنا وردان كاره سفك الدماء، وقد رأى شدتكم ولا يريد حربكم، وقد نظر إلى من قتل من جماعته فكره أن يحاربكم، وقد رأى أن يدفع لكم مالاً ويحقن به دماء الناس لكن بشرط أن يكون بينك وبينه كتاب وتشهد عليك كبراء قومك أنك لا تتعرض له ولا لأحد من أصحابه ولا لحصن من حصونه، فإن فعلت ذلك وثق بقولك وهو يسألك أن تقطع الحرب بقية يومك، فإذا أصبحت فاخرج بنفسك ولا يكن معك أحد ويخرج هو أيضاً منفرداً فننظر ما تتفقان عليه عسى أن تحقنا دماء الناس بيننا وبينكم. قال فلما سمع خالد ما نطق به داود قال له: إن كان ما أخبر به صاحبكم يريد به حيلة أو مكيدة فنحن والله جرثومة الخداع وما مثلنا يأتي بحيلة ولا بخديعة، فإن كان ذلك ضميره واعتقاده فما هو إلا قرب أجله وانقطاع عمره وهلاك جموعكم والانفصال بيننا وبينكم، وإن كان ذلك حقاً من قوله فلست أصالحه إلا إذا أدى الجزية عن جماعته. وأما المال فلست براغب فيه إلا على ما ذكرته لكم وعن قريب نأخذ أموالكم ونملك بلادكم. فقال داود وقد عظم عليه كلام خالد: ما يكون الأمر إلا كما ذكرت فإذا توافقتم كان الانفصال بيننا، وها أنا راجع فأذكر له ما ذكرت ثم لوى راجعاً وقد امتلأ قلبه رعباً من خالد وفزع منه فزعاً شديداً، ثم قال في نفسه: صدق والله أمير العرب وأنا أعلم والله أن وردان أول مقتول ونحن من بعده وما لي إلا أن أصدق أمير العرب وآخذ لي ولأهلي منه أماناً، ثم رجع إلى خالد وقال له: يا أمير إني قد أضمرت على سر وأريد أن أبديه لك لأني أعلم أن البلاد لكم، إن وردان قد نوى على شيء، فقال خالد: وما هو? فقال: خذ لنفسك الحذر وكن مستيقظاً فإنه قد أضمر لك كيداً، ثم أخبره بالقصة من أولها إلى آخرها، ثم قال لخالد: أريد منك الأمان لي ولأهلي. فقال خالد: الأمان لك ولأهلك ولأولادك إن أنت لم تخبر القوم ولم تغدر قال داود: لو أردت أن أغدر لما حدثتك. فقال خالد: وأين كمين القوم.. قال: عند كثيب عن يمين عسكرهم، ثم إنه خلاه ورجع وأعلم وردان ففرح وقال: الآن أرجو أن يظفرني الصليب بهم، ثم إنه دعا بعشرة من الأبطال، وقال لهم: امضوا رجالة وأكمنوا وأمرهم أن يفعلوا ما دبروه. وأما خالد فإنه رجع فلقيه أمين الأمة أبو عبيدة فرآه ضاحكاً. فقال: يا أبا سليمان أضحك الله سنك ما الخبر? فحدثه بما جرى. فقال أبو عبيدة: على ماذا عزمت? قال: عزمت أن أخرج إلى القوم وحدي. فقال: يا أبا سليمان لعمرك إنك لكفء ولكن ما أمرك الله أن تلقي بنفسك إلى التهلكة والله تعالى يقول: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم" الأنفال: 60، وقد أعد لك عشرة، وهو حادي عشر وما آمن عليك من اللعين ولكن اندب له رجالة كما ندب لك رجالة ويكمنون قريباً من القوم، فإذا صرخ اللعين بقومه فاصرخ أنت بقومك ونكون نحن متأهبين على خيولنا، فإذا فرغت من عدو الله حملنا جميعاً ونرجو من الله النصر، ثم قال: والمسلمون هم رافع بن عميرة الطائي، ومعاذ بن جبل، وضرار بن الأزور، وسعيد بن زيد، وقيس بن هبيرة، وميسرة بن مسروق العبسي، وعدي بن حاتم حتى استتم العشرة وأخبرهم خالد بما قد عزم عليه الروم من الحيلة والمكيدة التي قد دبرها وردان. وقال: اخرجوا رجالة بحيث لا يدري بكم أحد حتى إنكم تأتون الكثيب الذي عن يمين العسكر فأكمنوا هناك، فإذا صرخت بكم فبادروا وانفروا للقوم كل واحد لواحد واتركوني لعدو الله فإنني إن شاء الله تعالى كفء له فقال ضرار: أيها الأمير أخاف أن يكثر عليك الجمع الكثير فلا نأمن أن يصلوا بشرهم إليك، وقد كنت أدبر لك حيلة أننا نسير من وقتنا هذا إلى مكمن القوم فإذا وجدناهم رقوداً قتلناهم وفرغنا منهم قبل الصباح ونكمن نحن في مواضعهم فإذا خلوت أنت بعدو الله خرجنا عليكم بغير مقالة.
فقال خالد: افعل يا أبا الأزور ما ذكرت إن وجدت إلى ذلك سبيلاً وخذ معك هؤلاء الذين ندبتهم وأنت الأمير عليهم، وأرجو أن الله يبلغك ما تطلبه، وخرج هو وأصحابه في جنح الليل رجالة وبأيديهم أسلحتهم وودعوا الناس، وكان وقت خروجهم قد مضى ثلث الليل، ثم سار ضرار حتى وصل الكثيب فأوقف أصحابه وقال: على رسلكم حتى أستخبر لكم خبر القوم. فلما أشرف عليهم من بعيد سمع غطيطهم وهم نيام سكرى غرقوا في النوم لما نالهم من التعب والنصب وقد أمنوا من أحد ينظرهم. فقال ضرار في نفسه: إن أنا دنوت من القوم لأقتلهم خشيت أن يوقظ بعضهم بعضاً. قال فرجع إلى أصحابه وقال لهم: أبشروا فقد أتاكم الله بما تريدون، وأذهب عنكم ما تحذرون، فجردوا سيوفكم وسيروا إلى القوم فاقتلوهم كيف شئتم، ثم تقدم ضرار أمامهم وهم في أثره إلى أن وصل بهم إليهم فوجدهم نياماً كل واحد منهم سلاحه عند رأسه فانفرد كل واحد منهم بواحد، فلم يلبثوا إلا وقد فرغوا منهم عن آخرهم وأخذ كل واحد سلاح غريمه وأخذوا كل ما معهم من الزاد وغيره، فقال لهم ضراراً: أبشروا فإن هذا أول النصر إن شاء الله تعالى، وأقبلوا بقية ليلتهم يصلون ويدعون الله أن ينصرهم على عدوهم ولم يزل كل واحد منم في مصلاه إلى أن أضاء الفجر فصلوا صلاة الفجر. فلما فرغوا من الصلاة لبس كل واحد ثياب غريمه ولباسه وغيبوا القتلى مخافة أن يرسل إليهم وردان خبراً..
معركة أجنادين
قال الواقدي: فلما أصبح الصباح صلى خالد بالناس ورتب أصحابه لأهبة الحرب، فبينما هم كذلك إذ خرج من القلب فارس وقال: يا معاشر العرب أريد أميركم ليخرج إلى صاحبنا وردان لننظر ما يتفقان عليه من أمر الجيشين وحقق الدماء بينهما. قال فخرج إليه خالد بن الوليد. فقال له الفارس: إن وردان يريد أن تنتظره حتى تتكلم معه. فقال خالد: السمع والطاعة ارجع وأخبره، فعند ذلك خرج وردان وقد تزين بقلادة جوهر وعلى رأسه تاج. فقال خالد عندما رآه: هذه غنيمة للمسلمين إن شاء الله تعالى. قال فلما نظر عدو الله إلى خالد ترجل عن جواده وكذلك خالد وجلس كلاهما، وقد جعل عدو الله سيفه على فخذه فقال له خالد: قل ما تشاء، واستعمل الصدق والزم طريق الحق، وأعلم أنك جالس بين يدي رجل لا يعرف الحيل. فقل: ما تريد. فقال وردان: يا خالد اذكر لي ما الذي تريدون وقرب الأمر بيني وبينكم، فإن كنت تطلب منا شيئاً فلا نبخل به عليك صدقة منا عليكم لأننا ليس عندنا أمة أضعف منكم، وقد علمنا أنكم كنتم في بلاد قحط وجوع تموتون جوعاً فاقنع منا بالقليل وارحل عنا. فلما سمع منه خالد هذا الكلام قال له: يا كلب الروم إن الله عز وجل أغنانا عن صدقاتكم وأموالكم وجعل أموالكم نتقاسمهما بيننا وأحل لنا نساءكم وأولادكم إلا أن تقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، وإن أبيتم فالحرب بيننا وبينكم، أو الجزية عند يد وأنتم صاغرون، وبالله أقسم إن الحرب أشهى لنا من الصلح. وأما قولك يا عدو الله لم تكن أمة أضعف منا عندكم فأنتم عندنا بمنزلة الكلاب? وإن الواحد منا يلقي ألفاً منكم بعون الله تعالى وما هذا خطاب من يطلب الصلح، فإن كنت ترجو أن تصل إلي بانفرادي عن قومي وقومك فدونك وما تريد.
قال: فلما سمع وردان مقالات خالد وثب من مكانه من غير أن يجرد سيفه وتشابكا وتقابضا وتعانقا. قال: فصاح عدو الله عندما وثق من خالد وقال لأصحابه: بادروا الآن الصليب قد مكنني من أمير العرب، فما استتم كلامه حتى بادر إليه الصحابة كأنهم عقبان يتقدمهم ضرار بن الأزور، وقد رموا النشاب عنهم وجردوا سيوفهم وضرار عاري الجسد بسراويله قابض على سيفه وهو يزأر كالأسد وأصحابه من ورائه فالتفت عدو الله ونظر إلى القوم وهم يتسابقون إليه وهو يظن أنهم قومه حتى أنهم وصلوا إليه ونظر في أوائلهم ضرار بن الأزور. فقال لخالد: سألتك بحق معبودك أن تقتلني أنت بيدك ولا تدع هذا الشيطان يقتلني. فقال خالد: هو قاتلك لا محالة فهز ضرار سيفه وقال: يا عدو الله أين خديعتك من خديعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال خالد: اصبر يا ضرار حتى آمرك بقتله، ثم وصل إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهزوا سيوفهم في وجهه ومرادهم أن يقتلوه ونظر عدو الله إلى ما دهمه فوقع إلى الأرض وهو يشير بإصبعه الأمان الأمان. فقال خالد: يا عدو الله لا نعطي الأمان إلا لأهل الأمان وأنت أظهرت لنا المكر والخديعة "والله خير الماكرين" آل عمران: 54، فلما سمع ضرار كلام خالد لم يمهله دون أن ضربه على عاتقه فخرج السيف يلمع من علائقه، ثم أخذ التاج من على رأسه. وقال: من سبق إلى شيء كان أولى به ولقد أدركته سيوف المجاهدين فقطعوه إرباً إرباً وتبادروا إلى سيفه فأخذوه، ثم إن خالداً قال لأصحابه: إني أريد أن تحملوا على الروم لأنهم مشتاقون إلى أصحابهم. قال فأخذوا رأس عدو الله وردان وتوجهوا نحو عسكر الروم. فلما وصل خالد الصفوف نادى: يا أعداء الله هذا رأس صاحبكم وردان.. أنا خالد بن الوليد أنا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إنه رمى الرأس وحمل عليهم وحمل المسلمون. فلما رأى الروم رأس وردان ولوا الأدبار وركنوا إلى الفرار، ولم يزل السيف يعمل فيهم من وقت الصباح إلى الغروب. قال عامر بن الطفيل الدوسي: كنت مع أبي عبيدة ونحن نتبع المنهزمين إلى طريق غزة إذ أشرف علينا خيل فظننا أنها نجدة من عند الملك هرقل فأخفنا على أنفسنا وإذا بالغبرة قد قربت منا، فإذا هي عسكر قد أرسلها أبو بكر الصديق، وما رأوا أحداً من المنهزمين إلا قتلوه ونهبوا جميع ما معه.
قال الواقدي: وكان الروم بأجنادين تسعين ألفاً فقتل منهم في ذلك اليوم خمسون ألفاً وتفرق من بقي منهم، فمنهم من انهزم إلى دمشق، ومنهم من انهزم إلى قيسارية وغنم المسلمون غنيمة لم يغنم مثلها وأخذوا منهم صلبان الذهب والفضة، فجمع خالد ذلك كله مع تاج وردان إلى وقت القسمة وقال خالد: لست أقسم عليكم شيئاً إلا بعد فتح دمشق إن شاء الله تعالى، وكانت الوقعة بأجنادين لليلة ست خلت من جمادى الأول سنة ثلاث عشرة من الهجرة النبوية، وذلك قبل وفاة أبي بكر بثلاث وعشرين ليلة، ثم إن خالداً رضي الله عنه كتب كتاباً إلى أبي بكر يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من خالد بن الوليد المخزومي إلى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، سلام عليك. أما بعد فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأزيد حمداً وشكراً على المسلمين ودماراً على المتكبرين المشركين وانصداع بيعتهم، وإنا لقينا جموعهم بأجنادين وقد رفعوا صلبانهم وتقاسموا بدينهم أن لا يفروا ولا ينهزموا... فخرجنا إليهم واستعنا بالله عز وجل متوكلين على الله خالقنا فرزقنا الله الصبر والنصر، وكتب الله على أعدائنا القهر فقاتلناهم في كل واد وسبسب، وجملة من أحصيناهم ممن قتل من المشركون خمسون ألفاً وقتل من المسلمين في اليوم الأول والثاني أربعمائة وخمسون رجلاً ختم الله لهم بالشهادة منهم عشرون رجلاً من الأنصار ومن أهل مكة ثلاثون رجلاً ومن حمير عشرون والباقي من أخلاط الناس، ويوم كتبت لك الكتاب كان يوم الخميس لليلتين خلتا من جمادى الآخر، ونحن راجعون إلى دمشق إن شاء الله تعالى فادع لنا بالنصر والسلام عليك وعلى جميع المسلمين ورحمة الله وبركاته، وطوى الكتاب وسلمه إلى عبد الرحمن بن حميد وأمره بالمسير إلى المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة وأتم السلام، وسار خالد بالمسلمين طالب دمشق.
قال الواقدي رحمة الله عليه: ولقد بلغني أن أبا بكر الصديق كان يخرج كل يوم بعد صلاة الفجر إذ أقبل عبد الرحمن بن حميد. فلما رآه تسابقت إليه أصحابه وقالوا له: من أين أقبلت? قال: من الشام وإن الله قد نصر المسلمين فسجد أبو بكر الصديق لله شكراً، وأقبل عبد الرحمن ابن حميد إلى أبي بكر وقال: يا خليفة رسول الله ارفع رأسك فقد أقر الله عينك بالمسلمين فرفع أبو بكر رأسه وقرأ الكتاب سراً، فلما فهم ما فيه قرأه على المسلمين جهراً، فتزاحم الناس يسمعون قراءة الكتاب، فشاع الخبر في المدينة فهرعت الناس من كل مكان، فقرأه أبو بكر ثاني مرة وتسامع الناس من أهل مكة والحجاز واليمن بما فتح الله على أيدي المسلمين وما ملكوا من أموال الروم فتسابقوا بالخروج إلى الشام ورغبوا في الثواب والأجر، وأقبل إلى المدينة من أهل مكة وأكابرهم بالخيل والرماح وفي أوائلهم أبو سفيان والغيداق بن وائل، وأقبلوا يستأذنون أبا بكر في الخروج إلى الشام فكره عمر بن الخطاب خروجهم إلى الشام وقال لأبي بكر: لا تأذن للقوم فإن في قلوبهم حقائد وضغائن، والحمد لله الذي كانت كلمته هي العليا وكلمتهم هي السفلى وهم على كفرهم وأرادوا أن يطفوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره، ونحن مع ذلك نقول: ليس مع الله غالب. فلما أن أعز الله لديننا ونصر شريعتنا أسلموا خوفاً من السيف فلما سمعوا أن جند الله قد نصروا على الروم أتونا لنبعث بهم إلى الأعداء ليقاسموا السابقين الأولين، والصواب أن لا نقربهم. فقال أبو بكر: لا أخالف لك قولاً ولا أعصي لك أمراً. قال وبلغ أهل مكة ما تكلم به عمر بن الخطاب فأقبلوا جمعهم إلى أبي بكر الصديق في المسجد فوجدوا حوله جماعة من المسلمين وهم يتذاكرون ما فتح الله على المسلمين وعمر بن الخطاب عن يساره وعلي بن أبي طالب عن يمينه والناس حوله، فأقبلت قريش إلى أبي بكر فسلموا عليه وجلسوا بين يديه وتشاوروا فيمن يكون أولهم كلاماً? فكان أول من تكلم أبو سفيان بن حرب فأقبل على عمر بن الخطاب وقال: يا عمر كنت لنا مبغضاً في الجاهلية، فلما هدانا الله تعالى إلى الإسلام هدمنا ما كان في قلوبنا لأن الإيمان يهدم الشرك وأنت بعد اليوم تبغضنا فما هذه العداوة يا ابن الخطاب قديماً وحديثاً? أما آن لك أن تغسل ما بقلبك من الحقد والتنافر، وإنا لنعلم أنك أفضل منا وأسبق في الإيمان والجهاد، ونحن عارفون بمرتبتكم غير منكرين. قال: فسكت عمر رضي الله عنه واستحى من هذا الكلام. فقال أبو سفيان: إني أشهدكم أني قد حبست نفسي في سبيل الله وكذلك تكلم سادات مكة. فقال أبو بكر اللهم بلغهم أفضل ما يؤملون، واجزهم بأحسن ما يعملون وارزقهم النصر على عدوهم ولا تمكن عدوهم فيهم "إنك على كل شيء قدير" آل عمران: 26،.
قال الواقدي: فما تقدمت أيام قلائل حتى جاء جمع من اليمن وعليهم عمرو بن معد يكرب الزبيدي رضي الله عنه يريد الشام فما لبثوا حتى أقبل مالك بن الأشتر النخعي رضي الله عنه فنزل عند الإمام علي رضي الله عنه بأهله، وكان مالك يحب سيدنا علياً، وقد شهد معه الوقائع وخاض المعامع في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد عوم على الخروج مع الناس إلى الشام.
كتاب أبو بكر إلى خالد
قال الواقدي: واجتمع بالمدينة نحو تسعة آلاف، فلما تم أمرهم كتب أبو بكر كتاباً إلى خالد بن الوليد يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من أبي بكر خليفة رسول الله إلى خالد بن الوليد ومن معه عن المسلمين. أما بعد فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأوصيكم وآمركم بتقوى الله في السر والعلانية، وقد فرحت بما أفاء الله على المسلمين من النصر وهلاك الكافرين وأخبرك أن تنزل إلى دمشق إلى أن يأذن الله بفتحها على يدك فإذا تم لك ذلك فسر إلى حمص وأنطاكية والسلام عليك وعلى من معك من المسلمين ورحمة الله وبركاته، وقد تقدم إليك أبطال اليمن وأبطال مكة ويكفيك ابن معد يكرب الزبيدي ومالك بن الأشتر وانزل على المدينة العظمى أنطاكية، فإن بها الملك هرقل فإن صالحك فصالحه وإن حاربك فحاربه ولا تدخل الدروب، وأقول هذا وإن الأجل قد قرب ثم كتب "كل نفس ذائقة الموت" آل عمران: 185، ثم ختم الكتاب وطواه ودفعه إلى عبد الرحمن، وقال له: أنت كنت الرسول من الشام وأنت ترد الجواب فأخذه عبد الرحمن وسار على مطيته يطوي المنازل والمناهل إلى أن وصل إلى دمشق.
قال: حدثني نافع بن عميرة قال: لما بعث خالد بن الوليد الكتاب إلى أبي بكر الصديق ارتحل يريد دمشق، وكان أهلها قد سمعوا بقتل بطريقهم وأبطالهم وانهزام جيوشهم ومن أرسلهم الملك بأجنادين فخافوا وتحصنوا بدمشق وأعدوا آلة الحصار ورفعوا السيوف والطوارق وعلوا على الأسوار ونشروا الأعلام والصلبان، فلما أخذوا على أنفسهم أشرف عليهم الأمير خالد بن الوليد والجيش قد زاد عمرو بن العاص في تسعة آلاف ويزيد بن أبي سفيان في ألفين وشرحبيل بن حسنة وعامر بن ربيعة في ألفين، وأقبل السواد من ورائهم معاذ بن جبل في ألفين، فلما رأى أهل دمشق عسكر المسلمين مثل البحر الزاخر أيقنوا بالهلاك، وأقبل خالد في جيش الزحف فنزل على الدير المعروف به، وبينه وبين المدينة أقل من ميل، فلما نزل هناك دعا بالأمراء فأحضرهم، فقال لأبي عبيدة: أنت تعلم ما ظهر لنا من غدر هؤلاء القوم عند انصرافنا عنهم وخروجهم في أثرنا فامض بمن معك من أصحابك وانزل بهم على باب الجابية ولا تسمح للقوم بالأمان فيأخذوك بمكرهم ولتكن متباعداً عن الباب وابعث إليهم فوجاً بعد فوج، واجعل قتال الناس دولاً ولا يضق صدرك من كثرة المقام ولا تبرح من مكانك واحفر من القوم الكافرين. فقال أبو عبيدة: حباً وكرامة، ثم إنه خرج حتى نزل بباب الجابية ونصب له بيتاً من الشعر بالبعد من الباب.
حول دمشق
قال الواقدي: حدثني مسلمة بن عوف عن سالم بن عبد الله عن حجاج الأنصاري. قال: قلت لجدي رفاعة بن عاصم، وكان ممن قاتل بدمشق، وكان في خيل أبي عبيدة فقلت: يا جداه ما منع أبا عبيدة أن ينصب له قبة من بعض قبب الروم مما أخذه من أجنادين ومن بصرى، فقد كان عندهم ألوف من ذلك، فقال: يا بني منعهم من ذلك التواضع ولم يتنافسوا في زينة الدنيا وملكها حتى ينظروا الروم أنهم لا يقاتلون طلباً للملك، وإنما يقاتلون رجاء ثواب الله تعالى وطلب الآخرة ونصرة للدين ولقد كنا ننزل فننصب خيامنا وخيام الروم بالبعد. قال: فلما نزل أبو عبيدة على باب الجابية أمر أصحابه بالقتال. ثم إن خالداً استدعى بيزيد بن أبي سفيان، وقال له: يا يزيد خذ صاحبك وانزل على الباب الصغير واحفظ قومك، وإن خرج إليك أحد لا يكون لك به طاقة فابعث إلي حتى أنجدك إن شاء الله تعالى. ثم استدعى بشرحبيل بن حسنة كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: انزل على باب توما. ثم توجه بقومه واستدعى بعمرو بن العاص وأمره أن يسير إلى باب الفراديس. ثم استدعي بعده بقيس بن هبيرة، وقال له: أذهب بقومك إلى باب الفرج. ثم نزل خالد إلى الباب الشرقي. ودعا بضرار بن الأزور رضي الله عنه وضم إليه ألفي فارس، وقال له تطوف حول المدينة بعسكرك، وإن دهمك أمر أو لاحت لك عيون القوم فأرسل إلينا. قال ثم سار ضرار واتبعه قومه وبقي خالد على الباب الشرقي. ثم قدم عبد الرحمن بن حميد من المدينة بكتاب أبي بكر الصديق رضي الله عنه وعدل إلى ناحية خالد بن الوليد على الباب الشرقي وقد تقدم للقتال طائفة من أصحابه مع رافع بن عميرة. فلما رفع إليه الكتاب فرح بعد أن قرأه على المسلمين واستبشر بقدوم عمرو بن معد يكرب الزبيدي وأبي سفيان بن حرب. قال وشاع الخبر عند جميع الناس وبعث خالد كتاب أبي بكر إلى كل باب فقرئ على الناس وبات الناس متأهبين للحرب يتحارسون إلى الصباح وضرار يطوف حولهم ولا يقف في مكان واحد مخافة أن يكبس بهم العدو.
__________________
اللهم يا من جعلت الصلاة على النبي قربة من القربات نتقرب اليك
بكل صلاة صليت عليه من اول النشأة الى ما لا نهاية الكمالات

التعديل الأخير تم بواسطة عبدالقادر حمود ; 04-09-2012 الساعة 10:29 PM
admin غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-09-2012
  #3
admin
مدير عام
 الصورة الرمزية admin
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: uae
المشاركات: 717
معدل تقييم المستوى: 10
admin تم تعطيل التقييم
افتراضي رد: معارك الشام

قال الواقدي: ولقد بلغني أن أهل دمشق اجتمعوا إلى كبارهم من البلد وتشاوروا فيما بينهم. فقال بعضهم: ما لنا إلا الصلح ونعطي العرب جميع ما طلبوه منا، وقال آخرون: ما نحن بأكثر من جموع أجنادين. فقال لهم بطريق من الروم: اطلبوا لنا صهر الملك توما نتشاور في هذا الأمر لنسمع ما يقول في نطلب منه أن يكشف عنا ما نحن فيه فإما أن يصالحهم، وإما أن يحامي عنا. قال فمضى القوم إلى توما وعليه رجال موكلون بالسلاح، فأقالوا لهم: ما الذي تريدون? فقالوا: نريد صهر الملك توما نشاوره في هذا الأمر. قال فأفنوا لهم فدخلوا عليه وقتلوا الأرض بين يديه. فقال لهم: ما التي تريدون? فقالوا: أيها السيد انظر ما نزل ببلادنا، وقد جاءنا ما لا طاقة لنا به. في ما أن نصالح العرب على ما طلبوا. وإما أن نرسل إلى الملك فينجدنا أو يمانع عنا فقد أشرفنا على الهلاك، فلما سمع ذلك منهم تبسم ضاحكاً وقال: يا ويلكم أطمعتم العرب فيكم وحق رأس الملك ما أرى القوم أهلاً للقتال ولا هم خاطرون لي على بال فلو فتح لهم الباب ما جسروا أن يدخلوا. فقالوا: أيها السيد إن أكبرهم وأصغرهم يقاتل العشرة والمائة وصاحبهم داهية لا تطاق. فإن كافي ولا بد فاخرج بنا لقتالهم، فقال لهم توما: إنكم أكثر منهم ومدينتنا حصينة ولكم مثل هذا العدد والسلاح، وأما القوم فهم حفاة عراة، فقالوا له: أيها السيد إن معهم من عددنا وأسلحتنا كثيراً مما أخذوه من واقعة فلسطين ومما أخذوه من بصرى ومن يوم لقائهم بكلوس وعزازير ومما أخذوه عن أجنادين، وأيضاً إن نبيهم قال لهم: إن من قتل منا صار إلى الجنة فلأجل ذلك يبقون عراة الأجساد ليصلوا إلى ما قال لهم نبيهم. قال فضحك عن مولهم، وقال لهم: لأجل ذلك أطمعتم العرب فينا ولو صدقتم في الحرب والصدام لقتلتموهم لأنكم أضعافهم مراراً.
فقالوا: أيها السيد اكفنا مؤونتهم كيف شئت، واعلم أنك إن لم تمنعهم عنا فتحنا لهم الأبواب وصالحناهم. فلما سمع توما كلامهم فكر طويلاً وخشي أن يفعل القوم ذلك. فقال: أنا أصرف عنكم هؤلاء العرب، اقتل أميرهم وأريد منكم أن تقاتلوا معي. قالوا: نحن معك وبين يديك نقاتل حتى نهلك عن آخرنا. فقال لهم: باكروا القوم بالقتال فانصرفوا عنه وهم له شاكرون ولأمره منتظرون، وباتوا بقية ليلتهم على الحصن وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواضعهم ولهم ضجة بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير، وخالد بن الوليد عند الدير ومعه النساء والعيال والأموال والغنائم التي غنموها من أعدائهم، ورافع بن عميرة على الباب الشرقي في عسكر الزحف وغيرهم ولم يزل الناس في الحرس إلي أن برق الصباح وصلى كل أمير بمن معه من قومه وصلى أبو عبيدة بمن معه. ثم أمر أصحابه بالزحف، وقال لهم: لا تخلوا عن القتال واركبوا الخيل.
حدثني رفاعة بن قيس، قال: سألت والذي قيسا، وكان ممن حضر فتوح دمشق الشام فقلت له: أكنتم تقاتلون في دمشق خيالة أو رجالة يوم حصار المسلمين، قال: ما كان أحد منا فارساً إلا زهاء ألفي فارس مع ضرار بن الأزور، وهو يطوف بهم حول العسكر وحول المدينة وكلما أتى باباً من الأبواب وقف عنده وحرض أهله على القتال، وهو يقول صبراً صبراً لأعداء الله. قال وأقبل توما صهر الملك هرقل من بابه الذي يدعى باسمه، وكان عندهم عابداً راهباً ولم يكن في بلاد الشرك أعبد منه ولا أزهد في دينهم وكان معظماً عند الروم فخرج ذلك اليوم من قصره والصليب الأعظم على رأسه وعلا به فوق البرج وأوقف البطارقة حوله والإنجيل تحمله ذوو المعرفة قال ونصبوه بالقرب من الصليب ورفع القوم أصواتهم، وتقدم توما ووضع يده على أسطر من الإنجيل. وقال: اللهم إن كنا على الحق فانصرنا ولا تسلمنا لأعدائنا واخذل الظالم منا فإنك به عليم اللهم إننا نتقرب إليك بالصليب ومن صلب على دينه، وأظهر الآيات الربانية والأفعال اللاهوتية انصرنا على هؤلاء الظالمين. قال وأمن الناس على دعائه. قال رفاعة بن قيس: هكذا حدثني شرحبيل بن حسنة كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي فسر لنا هذا الكلام روماس صاحب بصرى، وكان في جيش شرحبيل بن حسنة يقاتل على باب توما، وكلما قال الروم شيئاً بلغتهم فسره لنا. قال ونهض شرحبيل وقصد الباب بحملته، وقد عظم عليه قول توما اللعين، وقال له: يا لعين لقد كذبت إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب أحياه متى شاء ورفعه متى شاء. ثم إن روماس ناوشه بالقتال، فقاتل توما قتالاً شديداً وهشم الناس بالحجارة ورمى النشاب رمياً متداركاً فجرح رجالاً، وكان ممن جرح أبان بن سعيد بن العاص أصابته نشابة، وكانت مسمومة فأحس بلهيب السم في بدنه فتأخر وحمله إخوانه إلى أن أتوا به إلى العسكر فأرادوا حل العمامة. فقال: لا تحلوها فان حللتم جرحي تبعتها روحي أما والله لقد رزقني الله ما كنت أتمناه. قال فلم يسمعوا قوله وحلوا عمامته. فلما حلوها شخص إلى السماء وصار يشير بإصبعيه أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله هنا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون، فما استتمها حتى توفي إلى رحمة الله تعالى.
بطولة المرأة
وكانت زوجته بنت عمه، وكان قد تزوجها بأجنادين، وكانت قريبة العهد من العرس ولم يكن الخضاب ذهب من يدها، ولا العطر من رأسها، وكانت من المترجلات البازلات من أهل بيت الشجاعة والبراعة، فلما سمعت بموت بعلها أتته تتعثر في أذيالها إلى أن وقعت عليه، فلما نظرته صبرت واحتسبت، ولم يسمع منها غير قولها هنئت بما أعطيت ومضيت إلى جوار ربك الذي جمع بيننا ثم فرق، ولأجهدن حتى ألحق بك فإني لمتشوقة إليك، حرام علي أن يمسني بعدك أحد وإني قد حبست نفسي في سبيل الله عسى أن ألحق بك وأرجو أن يكون ذلك عاجلاً، ثم حفر له? دفن مكانه فقبره معروف، وصلى عليه خالد بن الوليد، فلما غيب في التراب لم تقف على قبره دون أن أتت إلى سلاحه ولحقت الجيش من غير أن تعلم خالداً بذلك، وقالت: على أي باب قتل بعلي? فقيل لها: على باب توما والذي قتله هو صهر الملك، قال فسارت إلى أصحاب شرحبيل بن حسنة فاختلطت بهم، وقاتلت مع الناس قتالاً لم ير مثله، وكانت أرمى الناس بالنبل، وكان قد جعل لها قوس وكنانة. قال شرحبيل بن حسنة: رأيت يوم حصار دمشق رجلاً على باب توما يحمل الصليب وهو أمام توما، وهو يشير إليه القهم انصر هذا الصليب ومن لاذ به، اللهم أظهر له نصرته وأعل درجته، قال شرحبيل بن حسنة: وأنا دائماً أنظر إليه إذ رمته زوجة أبان بنبلة فلم تخطئ رميتها، وإذا بالصليب قد سقط من يده وهوى إلينا وكأني أنظر لمعان الجوهر من جوانبه فما فينا إلا من بادر إليه ليأخذه وقد استتر بالدرق وتزاحم بعضنا على بعض كل منا يسبق إليه ليأخذه ونظر عدو الله توما إلى ذلك من تنكس الصليب الأعظم وإهوائه إلى المسلمين، فعند ذلك كفر وعظم عليه الأمر، وقال: يبلغ الملك أن الصليب الأعظم أخذ مني وملكته العرب، لا كان ذلك أبداً ثم إنه حزم وسطه وأخذ سيفه، وقال: من شاء منكم فليتبعني ومن شاء فليقعد فلا بد لي من القوم عسى أن أشفي صدري، ثم انحدر مسرعاً وأمر بفتح الباب، وكان هو أول مبادر. فلما نظرت الروم إلى ذلك لم يكن فيهم إلا من انحدر في أثره لما يعلمون من شجاعته وخرجوا كالجراد المنتشر. هذا والمسلمون محيطون بالصليب، فلما خرج الروم ووقع صياحهم حذر الناس بعضهم بعضاً، فلما نظر المسلمون إلى الروم سلموا الصليب إلى شرحبيل بن حسنة وانفردوا لأعدائهم وحملوا في أعراضهم وأخذهم النشاب والحجارة ومن كل مكان من أعلى الباب، فصاح شرحبيل بن حسنة: معاشر المسلمين تقهقروا إلى ورائكم لتأمنوا النشاب من أعداء الله العالين على الباب، قال فتقهقر الناس إلى ورائهم إلى أن أمنوا من ضرب النشاب فاتبعهم عدو الله توما، وهو يضرب يميناً وشمالاً وحوله أبطال المشركين من قومه، وهو يهدر كالجمل. فلما نظر شرحبيل بن حسنة ذلك صرخ بقومه، وقال: معاشر الناس كونوا آيسين من آجالكم طالبين جنة ربكم وأرضوا خالقكم بفعلكم. فإنه لا يرضى منكم بالفرار ولا أن تولوا الأدبار فاحملوا عليهم واقربوا إليهم بارك الله فيكم، قال فحمل الناس حملة منكرة واختلط الناس بعضهم ببعض وعملت بينهم السيوف وتراموا بالنبل، وتسامع أهل دمشق أن توما خرج إلى العرب من بابه وأن صليبه الأعظم سقط إليهم من كف حامله فجعلوا يهرعون إلى أن تزايد أمرهم وجعل عدو الله ينظر يميناً وشمالاً وينظر الصليب فحانت منه التفاتة فنظر فرآه مع شرحبيل بن حسنة، فلما نظر إليه لم يكن له صبر دون أن حمل وصاح: هات الصليب لا أثم لك، فقد لحقتك بوائقه.
قال: ونظر شرحبيل بن حسنة إلى عدو الله، وهو مقبل فرمى الصليب من يده وصادمه. فلما رأى عدو الله الصليب مرمياً على الأرض صرخ بأصحابه صرخة هائلة ونظرت زوجة أبان بن سعيد إلى حملة عدو الله على شرحبيل. فمالت: من هذا? قيل: هو صهر الملك، وهو قاتل بعلك أبان بن سعيد، فلما سمعت ذلك منهم حملت حملة منكرة إلى أن قاربته ورمته بنبلة، وكان الروم أرهبوها فلم تلتفت إليهم دون أن حققت نبلتها على صاحبها، وقالت: بسم الله وبركة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أطلقتها، وكان عدو الله واصلاً إلى شرحبيل إذ جاءته النبلة فأصابت عينه اليمنى فسكنت النبلة فيها فتقهقر إلى ورائه صارخاً وهمت بأن ترميه بأخرى فتبادرت إليها الرجال واستتروا بالطوارق وتبادر إليها قوم من المسلمين يحامون عنها، فلما أمنت من شر الأعداء أخذت ترمي بالنبل. ثم إنها رمت علجاً من الروم فأصابت صدره فسقط هاوياً إلى الأرض، وكان عدو الله أول من تقهقر ذلك اليوم هارباً من شدة حرارة النبلة وصرخ صرخة عظيمة إلى أن دخل الباب ونظر شرحبيل إلى ذلك فصرخ بأصحابه: يا ويلكم دونكم وكلب الروم احملوا على الكلاب عسى أن تحركوا عدو الله. قال فحمل الناس على الروم إلى أن أوصلوهم إلى الباب فحماهم قومهم من أعلى الباب بالحجارة والنشاب. قال فتراجع الناس إلى مواضعهم، وقد قتلوا من الروم مقتلة عظيمة وأخذوا أسلابهم وأموالهم وصليبهم، ودخل عدو الله توما إلى المدينة وأغلقوا الأبواب وجاء الحكماء يعالجون في قلع النبلة من عينه فلم تطلع فجذبوها فلم تنجذب، وهو يضج بالصراخ فلما طال على القوم ذلك ولم يجدوا حيلة في إخراجها نشروها وبقي النصل في عينه ولم تزل في مكانها وسألوه المسير إلى منزله فأبى وجلس داخل الباب إلى أن سكن ما به وخف عنه الألم، فقالوا له: عد إلى منزلك بقية ليلتك، فقد نكبنا في يومنا هذا نكبتين نكبة الصليب ونكبة عينك كل هذا مما وصل إلينا من النبال، وقد علمنا أن القوم لا يصطل لهم بنار، وقد سألناك أن نصالح القوم على ما طلبوه منا، قال فغضب توما من قولهم، وقال: يا ويلكم يؤخذ الصليب الأعظم وأصاب بعيني وأغفل عن هذا ويبلغ الملك عني ذلك فينسبني للوهن والعجز ولا بد من طلبهم على كل حال وآخذ صليبي وآخذ في عيني ألف عين منهم وسأوقع حيلة أصل بها إلى كبيرهم وآخذ جميع ما غنموه وبعد ذلك أسير إلى صاحبهم الذي هو في الحجاز وأقطع آثاره وأخرب دياره وأهدم مساكنه، وأجعل بلده مسكناً للوحوش. ثم إن الملعون سار إلى أعلى السور، وهو معصوب العين وصار يحرض الناس لكي يزيل عن قلوبهم الرعب وأقبل يقول لهم: لا تفزعوا ولا تجزعوا مما ظهر لكم من العرب ولا بد للصليب أن يرميهم وأنا الضامن لكم. قال فثبت القوم من قومه وحاربوا حرباً شديداً وبعث شرحبيل بن حسنة إلى خالد بن الوليد يخبره بما صنع مع القوم. فقال الرسول: إن عدو الله توما قد ظهر لنا منه ما لم يكن في الحساب ونطلب منك رجالاً لأن الحرب عندنا أكثر من كل باب، فلما سمع خالد ذلك الخبر حمد الله، وقال: كيف أخذتم الصليب من الروم. فقال الرسول: كان يحمل صليب الروم رجل وهو أمام توما صهر الملك فرمته زوجة أبان بنبلة فوقع الصليب إلينا وخرج عدو الله فرمته زوجة أبان بنبلة فاشتبكت في عين توما اليمنى.
فقال خالد: إن توما عند الملك معظم وهو الذي يمنعهم عن الصلح ونرجو من الله أن يكفينا شره. ثم قال للرسول: عد إلى شرحبيل وقل له كن حافظاً ما أمرتك به فكل فرقة مشغولة عنك ولم تؤت من قبلهم وأنا بالقرب منك، وهذا ضرار بن الأزور يطوف حول المدينة وكل وقت عندك. قال فرجع الرسول فأخبره بذلك فصبر وقاتل بقية يومه ووصل الخبر إلى أبي عبيدة بما نزل بشرحبيل بن حسنة من توما وبما غنم من صليبه فسر بذلك، قال: ولما أصبح الصباح بعث توما إلى أكابر دمشق وأبطالهم. فلما حضروا بين يديه قال لهم: يا أهل دين النصرانية إنه قد طاف عليكم قوم لا أمان لهم ولا عهد لهم وقد أتوا يسكنون بلادكم فكيف صبركم على ذلك وعلى هتك الحريم وسبي الأولاد وتكون نساؤكم جواري لهم وأولادكم عبيداً لهم وما وقع الصليب إلا غضباً عليكم مما أضمرتم لهذا الدين من مصالحة المسلمين وإذلالكم للصليب وأنا قد خرجت ولولا أني أصبت بعيني لما عدت حتى أفرغ منهم ولا بد من أخذ ثأري وأن أقلع ألف عين من العرب ثم لا بد أن أصل إلى الصليب وأطالبهم به عن قريب. فلما سمعوا كلامه قالوا له: ها نحن بين يديك وقد رضينا بما رضيت لنفسك، فإن أمرتنا بالخروج خرجنا معك وإن أمرتنا بالقتال قاتلنا، فقال توما: اعلموا أن من خاض الحروب لم يخف من شيء وإني قد عزمت على أن أهجم هذه الليلة وأكبسهم في أماكنهم فإن الليل مهيب وأنتم أخبر بالبلد من غيركم فلا يبقى الليلة منكم أحد حتى يتأهب للحرب ويخرج من الباب وأرجو أن لا أعود حتى تنقضي الأشغال فإذا فرغت من القوم أخذت أميرهم أسيراً وأحمله إلى الملك يأمر فيه بأمره، فقالوا: حباً وكرامة فعند ذلك فرق القوم على الباب الشرقي فرقة وعلى باب الجابية فرقة وعلى كل باب جماعة، وقال لهم: لا تجزعوا، فإن أمير القوم متباعد عنكم وليس هناك إلا الأراذل والموالي فاطحنوهم طحن الحصيد. قال ودعا بفرقة أخرى إلى باب الفراديس إلى عمرو بن العاص وخرج توما من بابه وأخذ معه أبطال القوم ولم يترك بطلاً يعرف بالشجاعة إلا أخذه معه ورتب على الباب ناقوساً، وقال لهم: إذا سمعتم الناقوس فهي العلامة التي بيننا فافتحوا الأبواب واخرجوا مسرعين إلى أعدائكم ولا تجدوا رجالاً نياماً إلا وتضعون السيف فيهم. فإن فعلتم ذلك فرقتم جمعهم في هذه الليلة وانكسروا كسرة لا يجبرون بعدها أبداً، قال ففرح القوم بذلك وخرجوا إلى حيث أمرهم وقعدت كل فرقة على بابها وأقاموا ينتظرون صوت الناقوس ليبادروا إلى المسلمين، قال ودعا توما برجل من الروم، وقال له: خذ ناقوساً واعل به على الباب فإذا رأيتنا قد فتحنا الباب فاضرب الناقوس ضربة خفيفة يسمعها قومنا، وقد سار توما بقطعة من جيشه عليهم الدروع وبأيديهم السيوف وتوما في أوائلهم وبيده صفيحة هندية وألقى على رأسه بيضة كسروية كان هرقل قد أهداها له، وكانت لا تعمل فيها السيوف القواطع حتى وصل إلى الباب، ثم وقف حتى تكامل القوم، فلما نظر إليهم قال يا قوم إذا فتحنا لكم الباب فأسرعوا إلى عدوكم وجدوا في سعيكم إلى أن تصلوا إلى القوم، فإذا وصلتم إليهم فاحملوا ومكنوا السيوف فيهم ومن صاح منهم بالأمان فلا تبقوا عليه إلا أن يكون أمير القوم ومن أبصر منكم الصليب فليأخذه فقالوا: حباً وكرامة.
القتال من فوق الأسوار
ثم أمر رجلاً من أصحابه أن يسير إلى الذي بيده الناقوس ويأمره أن يضربه ضربة خفيفة ثم فتح الباب وتبادر الرجال إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في غفلة مما دبر القوم لهم إلا أنهم في يقظة، فلما سمعوا الصوت أيقظ بعضهم بعضاً وتواثبت الرجال من أماكنهم كالأسود الضارية فلم يصل إليهم العدو إلا وهم على حذر وحملوا عليهم وهم في غير ترتيب فتقاتل القوم في جنح الظلام وعمل السيف وسمع خالد بن الوليد فقام ذاهل العقل مما سمع من الزعقات فصاح: واغوثاه واسلاماه كيد قومي ورب الكعبة، اللهم انظر لهم بعينك التي لا تنام وانصرهم يا أرحم الراحمين. وسار خالد ومن معه وهم أربعمائة فارس من أصحابه، وهو بغير درع قد لبس ثوب كتان من عمل الشام مكشوف الرأس. ثم جد في السير والأربعمائة فارس معه كأنهم الليوث العوابس إلى أن وصلوا إلى الباب الشرقي وإذا بالفرقة التي هناك قد هاجمت أصحاب رافع بن عميرة الطائي. قال: وأصوات المسلمين عالية بالتهليل والتكبير، والقوم من أعلى الأسوار قد أشرفوا وتصايحوا عندما استيقظ لهم المسلمون فحمل خالد بن الوليد على الروم ونادى برفع صوته أبشروا يا معشر المسلمين أتاكم الغوث من رب العالمين، أنا الفارس الصنديد، أنا خالد بن الوليد وحمل في أوساط الناس بمن معه فجندل أبطالاً وقتل رجالاً، وهو مع ذلك مشتغل القلب على أبي عبيدة والمسلمين الذين على الأبواب وهو يسمع أصواتهم وزعقاتهم، قال وتصايح الروم والنصارى واليهود.
قال سنان بن عوف: قلت لابن عمي قيس: هل كانت اليهود تقاتلكم? قال: نعم يقاتلوننا من أعلى الأسوار ويرمون بالسهام وخشي خالد على شرحبيل بن حسنة مما وصل إليه من عدو الله توما لأنه ملازم الباب. وقال ولقي شرحبيل بن حسنة من عدو الله توما أمراً عظيماً لم يلق أحد مثله وذلك أنه هجم عليه توما في تلك الليلة، وكان أول من وصل إلى المسلمين عدو الله توما قال: فصبروا له صبر الكرام وقاتل عدو الله قتالاً شديداً وهو ينادي: أين أميركم الذميم الذي أصابني أنا ركن الملك الرحيم، أنا ناصر الصليب. قال: فلما سمع شرحبيل صوته قصد جهته، وقد جرح رجالاً من المسلمين، وقال: ها أنا صاحبك وغريمك، أنا مبيد جمعكم وآخذ صليبكم، أنا كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم فعطف عليه توما عطفة الأسد ورأى من شرحبيل بن حسنة أمراً هائلاً ولم يزالوا كذلك إلى أن زال من الليل شطره وكل قرن مع قرنه وكانت زوجة أبان مع شرحبيل وكانت في تلك الليلة أحسن الناس صبراً ورمت بنبالها، وكانت لا تقع نبلة من نبالها إلا في رجل من المشركين إلى أن قتلت من الروم مقتلة عظيمة بالنبال والروم يتحايدون عنها إلى أن لاح رجل من الروم فرمته بنبلة فبقيت معلقة في نحره. قال فصرخ بالروم فهاجموها وأخذوها أسيرة ومات عدو الله الذي رمته. قال: ولقي شرحبيل من الروم ما لا يلقاه أحد وإنه ضرب توما ضربة هائلة فتلقاها الملعون بدرقته فانكسر سيف شرحبيل فطمع عدو الله فيه وحمل عليه وظن أنه يأخذه أسيراً وإذا بفارسين قد أشرفا من ورائهما مع كبكبة من الفرسان فهجموا على الروم ونظروا وإذا بزوجة أبان قد خلصت وهجمت على الروم وهتفت فلحقها فارسان فبرز لهما عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأبان بن عثمان بن عفان رضي الله عنه فقتلا الرجلين ورجع عدو الله توما هارباً إلى المدينة.
قال: حدثني تميم بن عدي، وكان ممن شهد الفتوحات. قال: كنت في خيمة أبي عبيدة وذلك أن أبا عبيدة كان يصلي فيها إذ سمع الصياح. فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم لبس سلاحه ورتب قومه ودنا من القوم فنظر إليهم وهم في المعمعة والحرب وعدل عنهم ميسرة وميمنة إلى أن جاوزهم وعطف نحو الباب وكبر وكبر المسلمون، فلما سمع المشركون تكبيرهم ظنوا أن المسلمين قد دهموهم من ورائهم في جمع كثير فولوا راجعين فتلقاهم أبو عبيدة وقومه وأخذوا عليهم المجاز وبذل أبو عبيدة السيف فيهم.
قال الواقدي: ولقد بلغني أنه ما سلم من الروم تلك الليلة أحد من الذين هم غرماء أبي عبيدة ولقد قتلوا عن آخرهم فبينما هم في القتال إذ أشرف عليهم ضرار بن الأزور، وهم ملطخ بالدماء. فقال له خالد: ما وراءك يا ضرار. فقال: أبشر أيها الأمير ما جنتك حتى قتلت في ليلتي هذه مائة وخمسين رجلاً وقتل قومي ما لا يعد ولا يحصى، وقد كفيتكم مؤنة من خرج من الباب الصغير إلى يزيد بن أبي سفيان، ثم عطفت إلى سائر الأبواب فقتلت خلقاً كثيراً قال فسر بذلك خالد بن الوليد، ثم ساروا جميعاً حتى أتوا شرحبيل بن حسنة وشكروا فعله وكانت ليلة مقمرة ولم يلق مثلها الناس فقتلوا في تلك الليلة ألوفاً من الروم قال فاجتمع كبار أهل دمشق إلى توما وقالوا له: أيها السيد إنا قد نصحناك فلم تسمع لقولنا وقد قتل منا أكثر الناس وهذا أمير لا يطاق، يعني خالد بن الوليد فصالح فهو أصلح لك ولنا وإن لم تصالح صالحنا وأنت وشأنك. فقال: يا قوم أمهلوني حتى أكتب إلى الملك واعلمه بما نزل بنا، فكتب من وقته وساعته كتاباً يقول فيه: إلى الملك الرحيم من صهرك توما، أما بعد فإن العرب محدثون بنا كإحداث البياض بسواد العين، وقد قتلوا أهل أجنادين ورجعوا إلينا وقد قتلوا منا مقتلة عظيمة، وقد خرجت إليهم وأصيبت عيني، وقد عزمت على الصلح ودفع الجزية للعرب فإما أن تسير بنفسك، وإما أن ترسل لنا عسكراً تنجدنا بهم، وإما أن تأمرنا بالصلح مع القوم، فقد تزايد الأمر علينا ثم طوى الكتاب وختمه وبعث به قبل الصباح...
فلما أصبح الصباح باكرهم المسلمون بالقتال... وبعث خالد لكل أمير أن يزحف من مكانه فركب أبو عبيدة ووقع القتال واشتد الأمر على أهل دمشق فبعثوا لخالد أن أمهلنا فأبى إلا القتال ولم يزل كذلك إلى أن ضاق بهم الحصار وهم ينتظرون أمر الملك واجتمع أهل البلد وقالوا لبعضهم: ما لنا صبر على ما نحن فيه من الأمر وإن هؤلاء إن قاتلناهم نصروا علينا وإن تركناهم أضر بنا الحصار فاطلبوا من القوم صلحاً على ما طلبوه منكم، فقال لهم شيخ كبير من الروم وقد قرأ الكتب السالفة: يا قوم والله إني أعلم أنه لو أتى الملك في جيشه جميعاً لما منعوا عنكم هؤلاء لما قرأت في الكتاب إن صاحبهم محمداً خاتم المرسلين سيظهر دينه على كل دين فأطيعوا القوم وأعطوهم ما طلبوا منكم فهو أوفق لكم، فلما سمع القوم مقالات الشيخ ركنوا إليه لما يعلمون من علمه ومعرفته بالأخبار والملاحم. فقالوا: كيف الرأي عندك? فنحن نعلم أن هذا الأمير الذي على باب شرقي رجل سقاك للدماء. فقال لهم: إن أردتم تقارب الأمر فامضوا إلى الذي على باب الجابية، وليتكلم رجل يعرف بالعربية، ويقول بصوت رفيع، يا معاشر العرب الأمان حتى ننزل إليكم ونتكلم مع صاحبكم. قال أبو هريرة رضي الله عنه: وكان أبو عبيدة قد أنفذ رجالاً من المسلمين مكثوا بالقرب من الباب مخافة الكبسة مثل الليلة التي خلت، وكانت النوبة تلك الليلة لبني دوس والأمير عليها عامر بن الطفيل الدوسي. قال فبينما نحن جلوس في مواضعنا من الباب إذ سمعنا أصوات القوم وهم ينادون قال أبو هريرة، فلما سمعت بادرت إلى أبي عبيدة قال وبشرته بذلك فاستبشر وقال: امض وكلم القوم وقل لهم لكم الأمان، قال فأتيت القوم وبشرتهم بالأمان فقالوا: من أنت. فقلت: أنا أبو هريرة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو أن عبيداً أعطوكم الأمان والذمام ونحن في الجاهلية لما غدرنا فكيف وقد هدانا الله إلى دين الإسلام. قال فنزل القوم وفتحوا الباب وإذ هم مائة رجل من كبرائهم وعلمائهم فلما قربوا من عسكر أبي عبيدة تبادر إليهم المسلمون وأزالوا عنهم الصلبان إلى أن وصلوا خيمة أبي عبيدة فرحب بهم وأجلسهم وقال: إن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أتاكم عزيز قوم فأكرموه" وتكلموا في أمر الصلح وقالوا: إنا نريد منكم أن تتركوا كنائسنا ولا تنقضوا علينا منها كنيسة وهي الجامع الآن بدمشق، فقال لهم أبو عبيدة: جميع الكنائس لا يؤمر بهدمها قال: وكان في دمشق كنائس واحدة تسمى كنيسة مريم وكنيسة حنا وكنيسة سوق الليل وكنيسة إنذار، وهي عند دار عبد الرحمن ذرة فكتب لهم أبو عبيدة كتاب الصلح والأمان ولم يسم فيه اسمه ولا أثبت شهوداً وذلك، لأنه لم يكن أمير المؤمنين، فلما كتب لهم الكتاب تسلموه منه وقالوا له: قم معنا إلى البلد. قال: فقام أبو عبيدة وركب معه أبو هريرة ومعاذ بن جبل ونعيم بن عمرو وعبد الله بن عمرو الدوسي وذو الكلاع الحميري وحسان بن النعمان وجرير بن نوفل الحميري وسيف بن سلمة ومعمر بن خليفة وربيعة بن مالك والمغيرة بن شعبة وأبو لبابة بن المنذر وعوف بن ساعدة، وعامر بن قيس، وعبادة بن عتيبة، وبشر بن عامر، وعبد الله بن قرط الأسدي وجملتهم خمسة وثلاثون صحابياً من أعيان الصحابة رضي الله عنهم، وخمسة وستون من أخلاط الناس فلما ركبوا وتقدموا نحو الباب. قال أبو عبيدة: أريد منكم رهائن حتى ندخل معكم فأتوه برهائن، وقيل إن أبا عبيدة رأى في منامه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: تفتح المدينة إن شاء الله تعالى في هذه الليلة، فقلت: يا رسول الله أراك على عجل قال: لأحضر جنازة أبي بكر الصديق. قال: فاستيقظت من المنام.
قال الواقدي: وقد بلغني أن أبا عبيدة لما دخل دمشق بأصحابه سارت القسس والرهبان بين يديه على مسرح الشعر وقد رفعوا الإنجيل والمباخر بالند والعود، ودخل أبو عبيدة من باب الجابية ولم يعلم خالد بن الوليد بذلك لأنه شد عليهم بالقتال. قال وكان هناك قسيس من قسس الروم اسمه يونس بن مرقص وكانت داره ملاصقة للسور مما يلي باب شرقي الذي عنده خالد وكان عنده ملاحم دانيال عليه السلام وكان فيها: إن الله تعالى يفتح البلاد على يد الصحابة ويعلو دينهم على كل دين، فلما كانت تلك الليلة نقب يونس من داره وحفر موضعاً وخرج على حين غفلة من أهله وأولاده وقصد خالداً وحدثه أنه خرج من داره وحفر موضعاً والآن أريد أماناً لي ولأهلي ولأولادي قال فأخذ خالد عهده على ذلك وأنفذ معه مائة رجل من المسلمين أكثرهم من حمير، وقال لهم: إذا وصلتم المدينة فارفعوا أصواتكم بأجمعكم واقصدوا الباب واكسروا الأقفال وأزيلوا السلاسل حتى تدخلوا إن شاء الله تعالى. قال ففعل القوم ما أمرهم به خالد رضي الله عنه وساروا ومضى أمامهم يونس بن مرقص حتى دخل بهم من حيث خرج. فلما حطوا في داره تدرعوا واحترسوا ثم خرجوا وقصدوا الباب وأعلنوا بالتكبير. قال فلما سمع المشركون التكبير ذهلوا وعلموا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حطوا معهم في المدينة، وان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قصدوا الباب وكسروا الأقفال وقطعوا السلاسل، ودخل خالد بن الوليد ومن معه من المسلمين ووضعوا السيف في الروم وهم مختلفون بين يديه إلى أن وصل إلى كنيسة مريم وخالد بن الوليد يأسر ويقتل.
قال الواقدي: والتقى الجمعان عند الكنيسة جيش خالد وجيش أبي عبيدة وأصحابه سائرون والرهبان سائرون بين أيديهم وما أحد من أصحاب أبي عبيدة جرد سيفه، فلما نظر خالد إليهم ورأى أن لا أحد منهم جرد سيفه بهت وجعل ينظر إليهم متعجباً. قال فنظر إليه أبو عبيدة وعرف في وجهه الإنكار. فقال: أبا سليمان قد فتح الله على يدي المدينة صلخاً وكفى الله المؤمنين القتال.
قال الواقدي: ما خاطب أبو عبيدة خالداً يوم الفتح دمشق إلا بالإمارة. فقال: أيها الأمير قد تم الصلح. فقال خالد: وما الصلح. لا أصلح الله بالهم وأنى لهم الصلح وقد فتحتها بالسيف، وقد خضبت سيوف المسلمين من دمائهم وأخذت الأولاد عبيداً وقد نهبت الأموال. فقال أبو عبيدة: أيها الأمير اعلم أني ما دخلتها إلا بالصلح. فقال له خالد بن الوليد: إنك لم تزل مغفلاً وأنا ما دخلتها إلا بالسيف عنوة وما بقي لهم حماية فكيف صالحتهم. قال أبو عبيدة: اتق الله أيها الأمير، والله لقد صالحت القوم ونفذ السهم بما هو فيه وكتبت لهم الكتاب وهو مع القوم. فقال خالد: وكيف صالحتهم من غير أمري وأنا صاحب رايتك والأمير عليك ولا أرفع السيف عنهم حتى أفنيهم عن آخرهم. فقال أبو عبيدة: والله ما ظننت أنك تخالفني إذا عقدت عقداً ورأيت رأيا فالله الله في أمري، فوالله لقد حقنت دماء القوم عن آخرهم وأعطيتهم الأمان من الله جل جلاله وأمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رضي من معي من المسلمين، والغدر ليس من شيمنا. قال وارتفع الصياح بينهما وقد شخص الناس إليهما وخالد مع ذلك لا يرجع عن مراده، ونظر أبو عبيدة إلى ذلك فرأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع خالد وهم جيش البوادي من العرب مشتبكون على قتال الروم ونهب أموالهم. قال فنادى أبو عبيدة واثكلاه خفرت والله ونقض عهدي وجعل يدرك جواده ويشير إلى العرب مرة يميناً ومرة شمالاً وينادي: معاشر المسلمين أقسمت عليكم برسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تمد أيديكم نحو الطريق الذي جئت منه حتى نرى ما نتفق أنا وخالد عليه، فلما دعاهم بذلك سكتوا عن القتل والنهب واجتمع إليهما فرسان المسلمين والأمراء وأصحاب الرايات مثل معاذ بن جبل رضي الله عنه ويزيد بن أبي سفيان رضي الله عنه وعمرو بن العاص رضي الله عنه وشرحبيل بن حسنة رضي الله عنه وربيعة بن عامر رضي الله عنه وعبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين ونظرائهم، والتقوا عند الكنائس واجتمع هناك فرسان للمشورة والمناظرة. فقالت طائفة من المسلمين منهم معاذ بن جبل ويزيد بن أبي سفيان: الرأي أن تمشي إلى ما أمضاه أبو عبيدة بن الجراح وتكفوا عن القتال للقوم. فإن مدن الشام لم تفتح أبداً، وهرقل في أنطاكية كما تعلمون، وإن عد أهل المدن صالحتم وغدرتم لم تفتح لكم مدينة صلحاً ولأن تجعلوا هؤلاء الروم في صلحكم خير من قتلهم، ثم قالوا لخالد: أمسك عليك ما فتحت بالسيف ويعينك أبو عبيدة بجانبه واكتبا إلى الخليفة وتحاكما إليه، فكل ما أمر به فعلناه، فقال لهم خالد بن الوليد: قد أجبت إلى ذلك وقبلت مشورتكم، فأما أهل دمشق فقد أمنتهم إلا هذين اللعينين توما وهربيس وكان هربيس هو المؤمر على نصف البلدة ولاه توما حين رحمك الأمر إليه. فقال أبو عبيدة: إن هذين أول من دخل في صلحي فلا تخفر ذمتي رحمك الله تعالى. فقال خالد: والله لولا ذمامك لقتلتهما جميعاً، ولكن يخرجان من المدينة فلعنهما الله حيث سارا.
قال أبو عبيدة: وعلى هنا صالحتهما. قال ونظر توما وهربيس إلى خالد وهو يتنازع مع أبي عبيدة فخافا الهلاك فأقبلا على أبي عبيدة ومعهما من يترجم عنهما وقالا له: ما يقول هذا يعني خالداً. قال الترجمان لأبي عبيدة: ما تقول أنت وصاحبك فيه من المشاورة: إن صاحبك هنا يريد غدرنا فنحن وأهل المدينة دخلنا في عهدكم ونقض العهد ما هو من شيمكم، وإني أسألكم أن تدعوني أن أخرج أنا وأصحابي وأسلك أي طريق أردت. فقال: أنت في ذمتنا فاسلك أي طريق شئت، فإذا صرت في أرض تملكونها فقد خرجت من ذمتنا أنت ومن معك. فقال توما وهربيس: نحن في ذمتكم وجواركم ثلاثة أيام أي طريق سلكنا، فإذا كان بعد ثلاثة أيام فلا ذمة لنا عندكم، فمن لقينا منكم بعد ثلاثة أيام وظفر بنا فنحن لهم عبيد إن شاء أسرنا وإن شاء قتلنا. فقال خالد: قد أجبناك إلى ذلك، لكن لا تحملوا معكم من هذا البلد إلا الزاد الذي تتقوتون به. قال أبو عبيدة لخالد: هذا كلام داع لنقض العهد والصلح إنما وقع بيننا أنهم يخرجون برجالهم وأموالهم. فقال خالد: سمحت لهم بذلك إلا الحلقة يعني السلاح فإني لا أطلق لهم شيئاً من ذلك. فقال توما: لا بد لنا من السلاح نمنع به عن أنفسنا في طريقنا إن طرقنا طارق حتى نصل إلى بلدنا، وإلا فنحن بين أيديكم فاحكموا فينا بما أردتم. فقال أبو عبيدة: أطلق لكل واحد قطعة من السلاح إن أخذ سيفاً فلا يأخذ رمحاً، وإن أخذ رمحاً فلا يأخذ سيفاً، وإن أخذ قوساً فلا يأخذ سكيناً. فقال توما لما سمع منهم ذلك الكلام: قد رضينا بذلك وما يريد كل واحد منا إلا قطعة من السلاح لا غير، ثم قال توما لأبي عبيدة: إني خائف من هذا الرجل أعني خالد بن الوليد فليكتب لي بذلك قال أبو عبيدة: ثكلتك أمك إنا معاشر العرب لا نغدر ولا نكذب وإن الأمير أبا سليمان قوله قول وعهده عهد ولا يقول إلا الصدق. قال فانطلق توما وهربيس يجمعان قومهما ويأمرانهم بالخروج. قال وكان الملك له خزانة ديباج في دمشق فيها زهاء من ثلاثمائة حمل ديباج وحلل مذهبة فعزم على إخراجها وأمر توما فضربت له خيمة من القز ظاهر دمشق وأقبلت الروم تخرج الأمتعة والأموال والأحمال حتى أخرجوا شيئاً عظيماً، فنظر خالد بن الوليد إلى كثرة أحمالهم. فقال: ما أعظم رحالهم، ثم قرأ قوله تعالى: "ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون" الزخرف: 33، الآية، ثم نظر خالد إلى القوم كأنهم حمر مستنفرة ولم يلتفت أحد إلى أخيه من شدة عجلتهم، فلما نظر خالد إلى ذلك رفع يديه إلى السماء، وقال: اللهم اجعله لنا وملكنا إياه واجعل هذه الأمتعة قوتاً للمسلمين آمين إنك سميع الدعاء، ثم أقبل على أصحابه وقال لهم: إني رأيت أنا رأياً فهل أنتم تتبعوني عليه. فقالوا: نتبعك ولا نخالف لك أمراً، فقال خالد: قوموا بخيلكم حق القيام وأحسنوا إليها ما استطعتم وانجزوا سلاحكم فإني أسير بكم بعد ثلاثة أيام في طلب هؤلاء القوم وأرجو من الله أن يغنمنا هذه الغنيمة والأموال التي رأيتموها. وإن نفسي تحدثني أن القوم ما تركوا في دمشق متاعاً ولا ثوباً حسناً إلا وقد أخذوه معهم.
فقالوا: افعل ما تريد فما نخالف لك أمراً، ثم أخذوا في إصلاح شأنهم، وتوما وهربيس قد جمعوا مال الرساتيق وجميع المال، فلما جمعوه جاءوا به إلى أبي عبيدة. فقال لهم: وفيتم بما عليكم فسيروا حيث شئتم فلكم الأمان منا ثلاثة أيام. قال يزيد بن ظريف: فلما سلموا المال لأبي عبيدة ارتحلوا سائرين كأنهم سواد مظلم، وكان قد خر من القوم خلق كثير من أهل دمشق بأولادهم وكرهوا أن يكونوا في جوار المسلمين. قال واشتغل خالد عن اتباعهم بخلاف وقع بينهم وبين أهل دمشق في حنطة وشعير وجدوا في المدينة منه شيئاً كثيراً. فقال أبو عبيدة: هو للقوم دخل في صلحهم فكادت الفتنة أن تثور بين أصحاب خالد وبين أصحاب أبي عبيدة، واتفق رأيهم أن يكتبوا كتاباً إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه في ذلك وليس عندهم خبر أنه مات يوم دخولهم دمشق.
قال عطية بن عامر: كنت واقفاً على باب دمشق في اليوم الذي سارت فيه الروم مع توما وهربيس ومعهم ابنة الملك هرقل. قال فنظرت إلى ضرار بن الأزور وهو ينظر إلى القوم شزراً ويتحسر على ما فاته منهم، فقلت له: يا ابن الأزور ما لي أراك كالمتحسر أما عند الله أكثر من ذلك? فقال: والله ما أعني مالاً وإنما أنا متأسف على بقائهم وانفلاتهم منا، ولقد أساء أبو عبيدة فيما فعل بالمسلمين. فقلت: يا ابن الأزور ما أراد أمين الأمة إلا خيراً للمسلمين أن يحقن دمائهم وأزواجهم من تعب القتال فإن حرمة رجل واحد خير مما طلعت عليه الشمس، وإن الله سبحانه وتعالى اسكن الرحمة في قلوب المؤمنين وإن الرب يقول في بعض الكتب المنزلة إن الرب لا يرحم من لا يرم.
وقال تعالى: "والصلح خير" النساء: 128،. فقال ضرار: لعمري إنك لصادق، ولكن اشهدوا علي أني لا أرحم من يجعل له زوجة وولداً.
قال: حدثني عمر بن عيسى عن عبد الواحد بن عبد الله البصري عن واثلة بن الأسقع. قال: كنت مع خالد بن الوليد في جيش دمشق، وكان قد جعلني مع ضرار بن الأزور في الخيل التي تجوب من باب شرقي إلى باب توما إلى باب السلامة إلى باب الجابية إلى باب الصغير إلى باب قيان إذ سمعنا صرير الباب وذلك قبل فتوح الشام وإذا به قد خرج منه فارس فتركناه حتى قرب منا فأخذناه قبضاً بالكف وقلنا: إن تكلمت قتلناك فسكت وإذا قد خرج فارس آخر قام على الباب وجعل ينادي بالذي قد أخذناه، فقلنا له: كلمه حتى يأتي. قال فرطن له بالرومية إن الطير في الشبكة فعلم أنه قد أسر فرجع وأغلق الباب. قال فأردنا قتله، فقال بعضنا: لا تقتلوه حتى نمضي به إلى خالد الأمير. قال فأتينا به خالداً، فلما نظر إليه قال له: من أنت? قال له: أنا من الروم وإني تزوجت بجارية من قومي قبل نزولكم عليهم وكنت أحبها، فلما طال علينا حصاركم سألت أهلها أن يزفوها علي فأبوا ذلك، وقالوا إن بنا شغلاً عن زفافك وكنت أحب أن ألقاها ولنا في المدينة ملاعب نلعب فيها فوعدتها أن نخرج إلى الملاعب فخرجت وتحدثنا فسألتني أن أخرج بها إلى خارج المدينة ففتحنا الباب وخرجت أنظر أخباركم فأخذني أصحابك فنادتني. فقلت: إن الطير وقع في الشبكة أحذرها منكم مخافة عليها ولو كان غيرها لهان علي ذلك. فقال خالد: ما تقول في الإسلام. فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فكان يقاتل معنا قتالاً شديداً، فلما دخلنا المدينة صلحا أقبل يطلب زوجته. فقيل له: إنها لبست ثياب الرهبانية فأقبل إليها وهي لا تعرفه. فقال لها: ما حملك على الرهبانية. قالت: حملني على ذلك أني غررت بزوجي حتى أخذته العرب وترهبت حزناً عليه. قال: أنا زوجك وقد دخلت في دين العرب. قال فلما سمعت ذلك قالت: وما تريد? قال: أن تكوني في الذمة. فقالت: وحق المسيح لا كان ذلك أبداً وما لي إلى ذلك سبيل، وخرجت مع البطريق توما، فلما نظر إلى امتناعها أقبل إلى خالد بن الوليد فشكا له حاله.
فقال له خالد: إن أبا عبيدة فتح المدينة صلحاً ولا سبيل لك إليها ولما علم أن خالداً يسير وراء القوم. فقال: أسير معه لعلي أقع بها وأقام خالد بدمشق إلى اليوم الرابع، ثم أقبل إليه يونس الدمشقي زوج الجارية وقال: أيها الأمير قد عزمت على المسير في طلب هذين اللعينين توما وهربيس وأخذ ما معهما قال: بلى. فقال له: وما الذي أقعدك عن ذلك. قال: بعد القوم وبيننا وبينهم أربعة أيام بلياليها وهم يسيرون سير الخوف ما يمكن اللحاق بهم. فقال يونس: إن كان تخلفك لبعد المسافة بيننا وبينهم فأنا أعرف الديار وأسلك طريقاً فنلحقهم إن شاء الله تعالى، ولكن البسوا زي لخم وجذام وهو العرب المتنصرة وخذوا الزاد وسيروا. قال فسار خالد وأخذ عساكر الزحف وهم أربعة آلاف فارس فأمرهم أن يسيروا ويخففوا حمل الزاد ففعلوا ذلك، وخالد ومن معه قد صاروا ويونس الذليل أمامهم وهو يتبع آثار القوم وقد أوصى خالد أبا عبيدة على المدينة والمسلمين. قال زيد بن طريف: وكان يونس دليلنا. قال فرأى آثار القوم وأنهم إذا سقط منهم حمل جمل تركوه، وسار خالد ومن معه كلما دخلوا بلاد من بلاد الروم يظنون أنهم من العرب المتنصرة من لخم وجذام حتى أشرف بهم الذليل على ساحل البحر ونوى أن يطلب الأثر وإذا بالقوم قد عدوا أنطاكية ولم يدخلوها خيفة الملك. قال فوقع للدليل عند ذلك حيرة في أمره فعدل إلى قرية هناك، وسأل بعضاً من الناس فأخبروه أن الخبر قد اتصل إلى الملك بأن توما وهوبيس قد سلما دمشق للعرب فنقم عليهما ولم يدعهما يأتيان إليه، وذلك أنه جمع الجيوش وأرسلها إلى اليرموك فخاف أن يتحدثوا بشجاعة العرب وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتضعف قلوبهم فبعث إلى توما ومن معه أن يسيروا إلى القسطنطينية، فلما علم يونس أن القوم عدلوا وأخذوا في طلب التحيز فكر في ذلك وغاب عن المسلمين فوقف خالد وصلى بالناس وإذا بيونس قد أقبل وقال: أيها الأمير إني والله قد غررت بكم وبلغت الغاية في الطلب. قال خالد: وكيف الأمر. قال: أيها الأمير تبعثني في آثارهم في هذا المكان رجاء أن ألحقهم، وأن الملك منعهم من الدخول إلى أنطاكية لئلا يرعبوا عسكره وأمرهم أن يطلبوا القسطنطينية، وقد قطع بينكم وبينهم هذا الجبل العظيم وأنتم في جبل هرقل وهو يجمع عسكره ويسير إلى حربكم وإني خائف عليكم إن تركتم هذا الجبل خلف ظهوركم هلكتم وبعد هذا فالأمر إليك وكل ما أمرتني به فعلت. قال ضرار بن الأزور: فرأيت خالداً وقد انتقع لونه كالخضاب... وكان ذلك منه جزعاً وما عهدت به ذلك. فقلت: يا أمير على ماذا عولت. فقال: يا ضرار والله ما فزعت عن الموت ولا من القتل، وإنما خفت أن يؤتى المسلمون من قبلي وإني رأيت قبل فتح دمشق مناماً أفزعني وأنا منتظر تأويله وأرجو أن يجعل الله لنا خيراً وينصرنا على عدونا. فقال ضرار: خيراً رأيت وخيراً يكون إن شاء الله تعالى فما الذي رأيت. قال: رأيت المسلمين في برية قفرة ونحن سائرون فبينما نحن كذلك وإذا بقطيع من حمر الوحش كثيرة عظيمة أجسامها مهزولة أخفافها وهي لا تكدم برماحنا ونحن نضربها بأسيافنا وهي لا تكترث فيما نزل بها من الأذى ولا تهلع مما ينزل فلم نزل مثل ذلك حتى أجتهدنا واجتهدت خيولنا وأني أقبلت على أصحابي وفرقتهم عليها من أربعة جوانب البرية وحملت عليهم فجفلت من أيدينا إلى مضايق وتلال وأودية خصبة فلم نأخذ منها إلا اليسير فبينما نحن نطبخ ونشوي لحومها وإذا هي قد رجعت تطلب الحرب منا، فلما نظرت إليها وقد طرحت المضايق والآجام صحت بالمسلمين اركبوا في طلبها بارك الله فيكم فاستوى المسلمون على خيولهم وركبت معهم وطلبناها حتى وقعت بها وتصيدت منها بعيراً عظيماً فقتلته فجعل المسلمون يقتلون ويتصيدون فما بقي منها إلا اليسير فبينما أنا فرح وأنا أريد الرجوع بالمسلمين إلى وطنهم إذ عثرت فرسي فطارت عمامتي من على رأسي فهويت لآخذها فانتبهت من منامي وأنا فزع مرعوب، فهل فيكم أحد يفسره? فإني أقول الرؤيا ما نحن فيه. قال فصعب ذلك على القوم وجعل خالد يراود نفسه على الرجوع.
فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أما تفسير الوحوش فهؤلاء الأعاجم الذين نحن في طلبهم، وأما سقوطك عن فرسك فإنه أمر تنحط عليه من رفعة إلى خفضة، وأما سقوط العمامة عن رأسك فالعمائم تيجان العرب وهي معرة تلحقك. فقال خالد: أسأل الله العظيم إن كان ذلك تأويل ما رأيته أن يجعله من أمر الدنيا ولا يجعله من أمر الآخرة وبالله أستعين وعليه أتوكل في كل الأمور. قال ثم سار خالد والذليل أمامهم حتى قطعوا الجبل، فلما كانت الليلة التي أردنا أن نصبح فيها القوم أتى مطر كأفواه القرب وكان من توفيق الله عز وعلا أن حبس القوم عن المسير. قال روح بن طريف رضي الله عنه، ولقد رأيتنا ونحن نسير والمطر ينزل علينا كأفواه القرب طول ليلتنا، فلما أصبح الصباح وطلعت الشمس قال يونس: أيها الأمير قف حتى أنظر القوم لأنهم لا شك بالقرب منا وقد سمعت صياحهم. فقال له خالد بن الوليد: أحقاً سمعت صياحهم يا يونس. قال: نعم أيها الأمير وأريد منك أن تأذن لي بالمسير إليهم وآتيك بخبرهم. قال فعند ذلك التفت خالد بن الوليد إلى رجل اسمه المفرط بن جعدة. قال له: يا مفرط سر مع يونس وكن له مؤنساً وأحذر أن يأخذ خبركما القوم فقال المفرط: السمع والطاعة لله ولك أيها الأمير، ثم انطلقا إلى أن صعدا على جبل يقال له الأبرش والروم تسميه جبل باردة. قال المفرط: فلما علونا عليه وجدنا مرجاً واسعاً كثير الجنبات كثير النبات وفيه خضرة عظيمة، وإن القوم قد أصابهم المطر حتى بل رحالهم وقد حميت عليهم الشمس فخافوا إتلافها فأخرجوها وأخرجوا الديباج ونشروها في طول المرج، وقد نام أكثرهم من شدة السير والتعب والمطر الذي أصابهم. قال المفرط بن جعدة: فلما رأيت ذلك فرحت فرحاً شديداً ورجعت إلى خالد بن الوليد وتركت صاحبي يونس، فلما رآني خالد وحدي أسرع إلي وظن أن صاحبي كيد. فقال: ما وراءك يا ابن جعدة أخبرني وعجل بالخبر. فقلت: الخير والغنيمة يا أمير وإن القوم خلف هذا الجبل وقد أصابهم المطر وقد وجدوا الراحة بطلوع الشمس وقد نشروا أمتعتهم. فقال: بشرك الله بالخير، ثم ظهر لي من وجهه الخير والفرح والسرور، فبينما نحن كذلك وإذا بيونس قد أقبل. فقال له خالد: خيراً، فقال له: أبشر أيها الأمير فإن القوم أمنوا على أنفسهم، ولكن أوص أصحابك أن كل من وقع بزوجتي فليحفظها فما أريد من الغنيمة سواها. فقال له خالد: هي لك إن شاء الله تعالى، ثم إن خالداً قسم أصحابه أربع فرق فأمر ضرار بن الأزور على ألف فارس وعلى الألف الثاني رافع بن عميرة الطائي، وعلى الألف الثالث عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وبقي هو في الفرقة الرابعة. وقال: سيروا على بركة الله تعالى وإياكم أن تخرجوا إليهم دفعة واحدة، بل يخرج كل أمير منكم بينه وبين صاحبه قدر ساعة، ثم افترق القوم وحمل ضرار بن الأزور والروم مطمئنون وحدك من بعله رافع بن عميرة الطائي، ثم عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، ثم خالد بن الوليد سار في آخر القوم حتى وصلوا المرج. قال عبيد بن سعيد: والله لقد كدنا أن نفتنه من حسن منظره فزعق فينا خالد بن الوليد وقال: عليكم بأعداء الله ولا تشتغلوا بالغنائم ولا بالنظر إلى المرج فإنها لكم إن شاء الله تعالى.
ثم عطف خالد بن الوليد رضي الله عنه على الروم وقد نظرت الروم إلى الخيل وقد خرجت عليهم وخالد أمامهم، فعلموا أنها خيول المسلمين فبادروا إلى السلاح وركبوا الخيل وقال بعضهم لبعض: إنها خيل قليلة ساقها المسيح إليكم وجعلها غنيمة لكم فبادروا إليها. قال فتبادر الروم وهم يظنون أن ليس وراء خالد أحد، وإذا بضرار بن الأزور قد خرج عليهم في ألف فارس وطلع رافع بن عميرة الطائي بعده وطلع عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق بعدهم وطلبت كل كتيبة فرقة من الروم وتفرقوا من حولهم وطلبوا ما في أيديهم وقد رفعوا أصواتهم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله وانصبت خيل المسلمين على الروم كأنها السيل المنحدر ونادى هربيس برجاله قاتلوا عن نعمكم فما لهؤلاء القوم حيلة ولا يخلصون من هذا المكان أبداً، فانقسمت الروم طائفة معه وطائفة مع توما فكان من طلب خالداً توما وقد أحدق به خمسمائة فارس وقد رفع بين عينيه صليباً من الجوهر مقمعاً بالذهب الأحمر فعدل خالد وحمل عليه وقال: يا عدو الله أظننتم أنكم تفلتون منا والله تعالى يطوي لنا البلاد وكان توما أعور عورته امرأة أبان قال فحمل عليه وطعنه في عينه الأخرى ففقأها وأرداه عن جواده وحمل أصحابه على رجال توما ولله در عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فإنه لما نظر إلى توما وقد سقط عن جواده نزل وجلس على صدره واحتز رأسه ورفعها على السنان ونادى قد قتل والله توما اللعين فاطلبوا هربيس.
قال الواقدي: ففرح المسلمون بذلك. قال رافع بن عميرة الطائي: كنت في الميمنة مع خالد بن الوليد إذ نظر إلي فارس زيه زي الروم، وقد نزل عن جواده، وهو يقاتل علجة من نساء الروم وهي تظهر عليه مرة فدنوت أنظرها. فإذا هو يونس الذليل وهو يقاتل زوجته ويصارعها صراع الأسد. قال رافع: فدنوت أن أتقدم إليهما فأعينه فقصد إلى عشرة من النساء يرمين قوسي بالحجارة فخرج حجر كبير من امرأة حسناء عليها ثياب الديباج. قال فوقع الحجر في جبهة جوادي فانكب على رأسه، وكان جواداً شهدت عليه اليمامة فسقط الجواد ميتاً. قال فأسرعت في طلبها فهربت من بين يدي كأنها ظبية القناص وهربت النساء من وراءها فلحقتهن وقصدت قتلهن وزعقت عليهن وكنت أريد قتلهن وما لي قصد إلا الجارية التي قتلت حصاني فدنوت منها وعلوت بالسيف على رأسها فجعلت تقول الغوث الغوث فرجعت عن قتلها وأقبلت إليها، وإذا عليها ثياب الديباج وعلى رأسها شبكة من اللؤلؤ فأخذتها أسيرة من النساء وأوثقتها كتافاً، ورجعت على أثري فركبت جواداً من خيل الروم. ثم قلت: والله لأمضين وأنظر ما كان من أمر يونس فوجدته، وهو جالس وزوجته بجانبه وقد تلطخت بدمائها وهو يبكي عليها، فلما رأيتها قلت لها أسلمي، فقالت: لا وحق المسيح لا اجتمعت أنا وأنتم أبداً. ثم أخرجت سكيناً كانت معها فقتلت بها نفسها. فقلت: إن الله عز وجل أبدلك ما هي أعظم منها وعليها ثياب الديباج وشبكة من اللؤلؤ وهي كأنها القمر فخذها لك بدلاً عن زوجتك، فقال: أين هي? فقلت: هاهي معي.
قال: فلما نظر إليها وإلى ما عليها من الحلي والزينة وتبين حسنها وجمالها راطنها بالرومية وسألها عن أمرها فرطنت عليه، وهي تبكي فالتفت إلي، وقال لي: أتدري من هذه? قلت: لا، فقال: هذه ابنة الملك هرقل زوجة توما وما مثلي يصلح لها ولا بد لهرقل من طلبها ويفديها بماله. قال: وافتقد المسلمون خالداً فلم يجدوا له أثراً فقلقوا عليه قلقاً عظيماً وخالد رضي الله عنه غائص في المعركة وقصد اللعين هربيس بعد قتل توما، فبينما هو يحمل يميناً وشمالاً إذ نظر علجاً من علوج الرومان عظيم الخلقة أحمر اللون فظن خالد أنه اللعين فأطلق جواده نحوه وطلبه طلباً شديداً ليقتله، فلما نظر إليه العلج وإلى حملته فر هارباً من بين يديه فوكزه خالد بالرمح، وإذا هو واقع على الأرض على أم رأسه فانقض عليه خالد كالأسد، وهو يقول: ويلك يا هربيس أظننت أنك تفوتني وذلك العلج يعرف العربية. فقال: يا عربي ما أنا هربيس فأبق علي ولا تقتلني. فقال خالد: ما لك من يدي خلاص إلا إذا كنت تدلني على هربيس. فإذا دللتني عليه أطلقتك. فقال له العلج: أئذا دللتك عليه تطلقني? فقال خالد: نعم لك ذلك. فقال العلج: يا أخا العرب قم من على صدري حتى أدلك عليه، فقام خالد من على صدره فوثب العلج ونظر يميناً وشمالاً. ثم قال لخالد: أترى هذا الجبل وهذه الخيل الصاعدة اقصدها فإن هربيس فيها. قال فوكل خالد بالعلج واحداً، وهو ابن جابر ثم أطلق خالد عنان جواده حتى لحق بهم وصرخ عليهم، وقال: يا ويلكم أنى لكم مني خلاص. فلما سمع هربيس ذلك ظنه من بعض العرب فزعق فيه ورجع ورجعت البطارقة بالسلاح. فقال لهم خالد: يا ويلكم ظننتم أن الله لا يمكننا منكم أنا الفارس الصنديد أنا خالد بن الوليد. ثم طعن فارساً فرماه وآخر فأرداه. فلما سمع هربيس كلام خالد، قال لأصحابه: يا ويلكم هذا الذي قلب الشام على أصحابه، هذا صاحب بصرى وحوران ودمشق وأجنادين دونكم وإياه قال فطمع القوم فيه لانفراده عن أصحابه، وكان المسلمون في قتال الروم ونهب الأموال وكل منهم مشتغل بنفسه. قال فترجلت البطارقة حول خالد لأنهم في جبل كثير الوعر وأحاطوا بخالد بن الوليد فعندما ترجل عن جواده وأخذ سيفه وجحفته وصبر لقتالهم. قال حدثني شداد بن أوس وكان ممن حضر وقعة مرج الديباج، وقال خالد: قد صحت الرؤيا. فلما ترجل أقبل يقاتل بنفسه وأقبل إليه هربيس، وهو مشغل بالقتال وأتاه من ورائه وصوب خالداً بالسيف فوقع السيف على البيضة فقدها، وقد عمامته وانقض السيف من يد هربيس وخاف خالد أن يلتفت إلى ورائه فتهجم عليه الروم وخاف أن يفلت هربيس من بين يديه فعند ذلك صاح بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير كأنه مستبشر بشيء أغاثه أو أدركه وذلك خديعة منه وحيلة يريد بها أن يتمكن من الأعلاج. فبينما هو كذلك إذ سمع من المسلمين زعقات، وقد أخذت الروم من ورائهم وهم يصيحون بالتهليل والتكبير وقائل يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله أتاك النصر من رب العالمين أنا عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق. فلما سمع خالد صوته لم يلتفت إلى عبد الرحمن ولا إلى من معه ومضى يفرق الأعلاج ذات اليمين وذات الشمال، ولما أن سمع اللعين هربيس أصوات المسلمين أراد الهرب فلحقه سيدنا خالد وضربه ضربة فأرداه قتيلاً وعجل الله بروحه إلى النار واستطال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحاب هربيس ونزلوا فيهم بالسيف حتى أبادوهم صن آخرهم، وكان أكثرهم قتلأ من يد ضمرار بن الأزور. فلما انكشف الكرب عن خالد ونظر إلى ما فعل ضرار. قال: أفلح الله وجهك يا ابن الأزور فما زلت مباركاً في كل أفعالك أنجح الله أعمالك وأصلح ربي حالك. ثم سلم على عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وعلى المسلمين، وقال: من أين علمتم مكاني هذا، فقال عبد الرحمن: يا أمين بينما نحن في قتال الروم، وقد نصرنا الله عليهم والمسلمون قد اشتغلوا بالغنائم إذا سمعنا هاتفاً من الهواء يقول: اشتغلتم بالغنائم وخالد قد أحاطت به الروم. فلما سمعنا ذلك لم ندر أي مكان أنت ليه، وفقدنا شخصك فدلنا عليك علج كان بيد رجل من أصحابك، وقال: إن صاحبكم أنا الذي دللته على هربيس وإنه معه في هذا الجبل فسرنا إليك.
فقال خالد: لقد دلنا على عدونا? دل علينا المسلمين، وقد وجب له الحق علينا ورجع خالد وأصحابه إلى المسلمين، فلما رأوه بادروا وسلموا عليه فرد عليهم السلام. ثم إن خالداً رضي الله عنه دعا بذلك العلج الذي دله على هربيس، وقال له: إنك وفيت لنا ونريد أن نوفي لك بما وعدناك لأنك نصحت لنا فهل لك أن تكون أصحاب دين الصلاة والصيام وملة محمد صلى الله عليه وسلم فتكون من أهل الجنة، فقال: ما أريد بديني بدلاً فأطلق خالد سبيله. قال نوفل بن عمرو: فرأيته قد استوى على ظهر جواده يطلب بلاد الروم وحده. ثم إن خالداً رضي الله عنه أمر بجمع الغنائم والأسارى فجمع ذلك إليه، فلما رأى كثرته حمد الله تعالى وشكره وأثنى عليه ودعا بدليله يونس النجيب. ثم قال له: ما فعلت بزوجتك? فحدثه بحديثه معها، وما كان من أمرها فعجب من ذلك، فقال رافع بن عميرة: أيها الأمير إني أسرت ابنة الملك هرقل، وقد سلمتها إليه بدلاً من زوجته، فقال خالد: وأين ابنة الملك هرقل فمثلت بين يديه فنظر إلى حسنها وجمالها وما منحها الله به من الجمال فصرف وجهه عنها، وقال: سبحانك اللهم وبحمدك تخلق ما تشاء وتختار. ثم قرأ قوله تعالى: "ربك يخلق ما يشاء ويختار" القصص: 68، ثم قال ليونس: أتريدها بدلاً من زوجتك. قال: نعم ولكني أعلم أن الملك هرقل لا بد له أن يفديها بالأموال أو يخلصها بالقتال. فقال خالد: خذها لك الآن فإن لم يطلبها فهي لك، وإن طلبها فالله يعوضك خيراً منها. فقال يونس: أيها الأمير إنك في مكان ضيق ومكان صعب فاعزم على الخروج قبل أن يلحق نفير القوم. فقال خالد: الله لنا ومعنا وعطف راجعاً يجد في مسيره والغنائم أمامه والمسلمون في أثره فرحين بالغنيمة والسلامة والنصر.
قال روح بن عطية: فقطعنا الطريق كلها وما عرض لنا من الروم أحد ونحن نخوض في وسط ديار القوم خوضاً، فلما وصلنا مرج الصغير عند قنطرة أم حكيم نظرنا إلى غبرة من وراءنا. فلما عايناها أنكرنا ذلك فأسرع رجال من المسلمين إلى خالد يخبرونه بالغبرة. قال: أيكم يأتيني بخبرها? فبادر بالإجابة رجل من غفار يقال له صعصعة بن يزيد الغفاري. قال: أنا أيها الأمير. ثم نزل عن جواده، وكان بجريه يسبق الفرس الجواد لقوة عزمه فورد الغبرة واختبرها ورجع على عقبه، وهو ينادي: أيها الأمير أدركنا الصلبان من ورائنا وهم مصفدون في الحديد لم يبن منهم غير حماليق الحدق، فدعا خالد بيونس الدليل عندما قاربته الخيل وقال: يا يونس اقصد نحو الخيل وانظر ما يريدون. فقال: السمع والطاعة. ثم دنا من الخيل وقاربهم، ثم رجع إلى خالد، وقال له: ألم أقل لك أيها الأمير إن هرقل لا يغفل عن طلب ابنته وقد أنفذ هذه الخيل يريدون أن يأخذوا الغنيمة من أيدي المسلمين، فلما لحقوك ههنا قريباً من دمشق بعثوا رسولاً يسألك في الجارية إما بيعها وإما هدية، فبينما خالد يتحدث إذ أقبل إليه شيخ عليه لبس المسوح فأقبل حتى دنا من المسلمين فأوقفوه أمام خالد، وقال له: قل ما تشاء. فقال الشيخ: أنا رسول الملك هرقل وإنه يقول لك بلغني ما فعلت برجالي وقتلت توما زوج ابنتي وهتكت حرمتي، وقد ظفرت وسلمت فلا تفرط بمن معك، والآن إما أن تبيع ابنتي أو تهديها إلي فالكرم شيمتكم وطبعكم ولا يرحم من لا يرحم وإني أرجو أن يقع بيننا الصلح، فلما سمع خالد ذلك. قال للشيخ: قل لصاحبك والله لا رجعت عنه وعن أهل ملته حتى أملك سريره وما تحت قدميه، كما في علمك، وأما إبقاؤك علينا فلو وجدت إلى ذلك من سبيل فما قصرت، وأما ابنتك فهي لك هدية منا ثم إن خالداً أطلق ابنة الملك هرقل وسلمها للشيخ ولم يأخذ في فدائها شيئاً، فلما بلغ ذلك الرسول إلى الملك هرقل قال لعظماء الروم: هذا الذي أشرت عليكم فلم تقبلوه وأردتم قتلي وسيكون الأمر أعظم، ولكن ليس هذا منكم بل هو من رب السماء.
قال الواقدي: فبكت الروم بكاء شديداً وسار خالد حتى أتى دمشق، وكان المسلمون وأبو عبيدة قد أيسوا من خالد ومن معه فهم في أعظم القلق والإياس إذ قدم عليهم خالد رضي الله عنه والمسلمون فخرجوا إلى لقائه وهنئوه بالسلامة وسلم المسلمون بعضهم على بعض ووجد خالد في دمشق عمرو بن معد يكرب الزبيدي ومالك بن الأشتر النخعي ومن كان معهما وأقبل خالد إلى جانب أبي عبيدة، وهو يحدثه بما لاقى في غزوته وأبو عبيدة يتعجب من شجاعته وجسارته، فلما استقر بخالد مكانه أخذ الخصر من الغنائم وفرق الباقي على المسلمين ثم إن خالداً أعطى من ماله ليونس، وقال: خذ هذا فتزوج به أو اشتر به جارية لك من بنات الروم. قال يونس: والله لا أتزوج في هذه الدار الدنيا زوجة أبداً وما أريد إلا أن أتزوج في الآخرة بعيناء من الحور العين. قال رافع بن عميرة الطائي: فشهد معنا القتال إلى يوم اليرموك فما كنت أراه في حرب إلا ويجاهد جهاداً عظيماً، وقد أبلى في الروم بلاء حسنا فأتاه سهم في لبته فخز ميتاً رحمه الله تعالى. قال رافع: فحزنت عليه وأكثرت من الترحم عليه فرأيته في النوم وعليه حلل تلمع وفي رجليه نعلان من ذهب وهو يجول في روضة خضراء، فقلت له: ما فعل الله بك. قال: غفر لي وأعطاني بدلاً من زوجتي سبعين حوراء لو بدت واحدة منهن في الدنيا لكف ضوء وجهها نور الشمس والقمر فجزاكم الله خيراً فقصصت الرؤيا على خالد، فقال: ليس والله سوى الشهادة، طوبى لمن رزقها.
كتب خالد بالفتح
قال الواقدي: ولقد بلغني أن خالداً رضي الله عنه لما رجع من غزوته ومسيره غانماً ظن أن الخليفة أبا بكر الصديق رضي الله عنه حي لم يقبض فهم أن يكتب له كتاباً بالفتح والبشارة وما غنم من الروم، وأبو عبيدة لا يخبره بذلك ولا يعلمه أن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فدعا خالد بدواة وبياض وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم لعبد الله خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم من عامله على الشام خالد بن الوليد. أما بعد سلام عليك، فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ثم إنا لم نزل في مكابدة العدو على حرب دمشق حتى أنزل الله علينا نصره وقهر عدوه وفتحت دمشق عنوة بالسيف من باب شرقي، وكان أبو عبيدة على باب الجابية فخدعته الروم فصالحوه على الباب الآخر ومنعني أن أسبي وأقتل ولقيناه على كنيسة يقال لها كنيسة مريم وأمامه القسس والرهبان ومعهم كتاب الصلح، وإن صهر الملك توما وآخر يقال له هربيس خرجا من المدينة بمال عظيم وأحمال جسيمة فسرت خلفها في عساكر الزحف وانتزعت الغنيمة من أيديهما وقتلت الملعونين وأسرت ابنة الملك هرقل، ثم أهديتها إليه ورجعت سالماً، وأنا منتظر أمرك والسلام عليك، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وطوى الكتاب وختمه بخاتمه، ودعا برجل من العرب يقال له عبد الله بن قرط فدفع إليه الكتاب وسار إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فوردها والخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقرأ عنوان الكتاب، وإذا هو: من خالد إلى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: أما عرف المسلمون وفاة أبي بكر رضي الله عنه، فقال: لا يا أمير المؤمنين، فقال: قد وجهت بذلك كتاباً إلى أبي عبيدة وأمرته على المسلمين وعزلت خالداً وما أظن أبا عبيدة يريد الخلافة لنفسه، فسكت وقرأ الكتاب. قال أصحاب السير في حديثهم ممن تقدم ذكرهم وإسنادهم في أول الكتاب ممن روى فتوح الشام ونقلوها عنالثقات منهم محمد بن إسحاق وسيف بن عمرو وأبو عبد الله محمد بن عمر الواقدي رضى الله عنه كل حدث بما رواه وسمعه ثقة عن ثقة. قالوا جميعاً في أخبارهم: إنه لما قبض أبو بكر الصديق رضي الله عنه وولي الأمر بعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه وله من العمر اثنتان وخمسون سنة بايعه الناس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة تامة ولم يتخلف عن مبايعته أحد لا صغير ولا كبير وانقطع في إمارته الشقاق والنفاق وانحسم الباطل وقام الحق وقوي السلطان في إمارته وضعف كيد الشيطان وظهر أمر الله وهم كارهون، ومن أمره أنه كان يجلس مع الفقير ويتلطف بالناس والمسلمين ويرحم الصغير ويوقر الكبير ويعطف على اليتيم وينصف المظلوم من الظالم حتى يرد الحق إلى أهله ولا تأخذه في الله لومة لائم، وكان في إمارته يدور في أسواق المدينة وعليه مرقعة وبيده درته وكانت درته أهيب من سيف الملوك وسيوفكم هذه، وكان قوته في كل يوم خبز الشعير وادمه الملح الجريش، وربما أكل خبزه بغير ملح تزهداً واحتياطاً وترفقاً على المسلمين ورأفة ورحمة لا يريد بذلك إلا الثواب من الله سبحانه وتعالى ولا يشغله شاغل عن أداء الفريضة. وما أوجب الله عليه من حقوقه وسنة نبيه محمد عليه الصلاة والسلام قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد تولى والله عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخلافة فجد في التشمر وترك عن نفسه التكبر، ولقد كان أحرقه خبز الشعير والملح وأراد أكل الزيت واليابس من التمر، وربما أخذ شيئاً من السمن، ويقول: أكلت الزيت وخبز الشعير والملح والجوخ أهون غداً من نار جهنم، من حل بها لم يمت ولم يجد فيها راحة أبداً، قرارها بعيد وعذابها شديد وشرابها الصديد لا يؤذن لهم فيعتفرون، جند الجنود في إمارته وبعث العساكر وفتح الفتوحات ومصر الأمصار، وكان يخاف عذاب النار، رضي الله عنه.
قال الواقدي رحمه الله تعالى: ولقد بلغني أن هرقل لما بلغه أن عمر بن الخطاب قد ولي الأمر من بعد أبي بكر الصديق رضي الله عنه جمع الملوك والبطارقة وأرباب دولته وقام فيهم خطيباً على منبر قد نصب له في كنيسة القسيسين، وقال: يا بني الأصفر، هذا الذي كنت أحذركم منه فلم تسمعوا مني، وقد اشتد الأمر عليكم بولاية هذا الرجل الأسمر وقد دنا موعد صاحب الفتوح المشبه بنوح، والله ثم والله لا بد أن يملك ما تحت سريري هذا، الحذر ثم الحذر قبل وقوع الأمر ونزول الضرر، وهدم القصور وقتل القسس وتبطيل الناقوس، هذا صاحب الحرب والجالب على الروم والفرس الكرب، هذا الزاهد في دنياه، وهذا الغليظ على من اتبع في غير ملته هواه، وإني أرجو لكم النصر إن أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر وتركتم الظلم واتبعتم المسيح في أداء المفروضات ولزوم الطاعات وترك الزنا وأنواع الخطايا، وإن أبيتم إلا الفساد والفسوق والعصيان والركون إلى شهوات الدنيا يسقط الله عليكم عدوكم ويبلوكم بما لا طاقة لكم به، ولقد أعلم أن دين هؤلاء سيظهر على كل دين ولا يزال أهله بخير ما لم يغتروا ويبذلوا، فإما أن ترجعوا إليه، وإما أن تصالحوا القوم على أداء الجزية، فلما سمع القوم ذلك نفروا وبادروا إليه وهموا بقتله فسكن غضبهم بلين كلامه ولاطفهم. وقال لهم: إنما أردت أن أرى حميتكم لدينكم وهل تمكن خوف العرب في قلوبكم أم لا.
ثم استدعى برجل من المتنصرة يقال له طليعة بن ماران وضمن له مالاً، وقال له: انطلق من وقتك هذا إلى يثرب وانظر كيف تقتل عمر بن الخطاب، فقال له طليعة: نعم أيها الملك. ثم تجهز وسار حتى ورد مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكمن حولها، وإذا بعمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج يشرف على أموال اليتامى ويفتقد حدائقهم فصعد المتنصر إلى شجرة ملتفة الأغصان فاستتر بأوراقها، وإذا بعمر رضي الله عنه قد أقبل إلى أن قرب من الشجرة التي عليها المتنصر ونام على ظهره وتوسد بحجر، فلما نام هم المتنصر أن ينزل إليه ليقتله، وإذا بسبع أقبل من البرية فطاف حوله وأقبل يلحس قدميه، وإذا بهاتف يقول: يا عمر عدلت فأمنت، فلما استيقظ عمر رضي الله عنه ذهب السبع ونزل المتنصر وترامى على عمر رضي الله عنه فقبل يديه، وقال: بأبي أنت وأمي أفدى من الكائنات من السباع تحرسه والملائكة تصفه والجن تعرفه، ثم أعلمه بما كان منه وأسلم على يديه.
قال الواقدي: ثم إن عمر رضي الله عنه كتب كتاباً لأبي عبيدة بن الجراح يقول فيه: قد وليتك على الشام وجعلتك أميراً على المسلمين وعزلت خالد بن الوليد والسلام. ثم سلم الكتاب إلى عبد الله بن قرط وأقام قلقاً على ما يرد عليه من أمور المسلمين وصرف همته إلى الشام
تولية أبي عبيدة
. قال الواقدي: حدثني رافع بن عميرة الطائي. قال حدثني يونس بن عبد الأعلى، وقد قرأت عليه بجامع الكوفة. قال حدثني عبد الله بن سالم الثقفي عن أشياخه الثقات. قال: لما كانت الليلة التي مات فيها أبو بكر الصديق رضي الله عنه رأى عبد الرحمن بن عوف الزهري رضي الله عنه رؤيا قصها على عمر رضي الله عنه، وكانت تلك الليلة بعينها، قال: رأيت دمشق والمسلمون حولها وكأني أسمع تكبيرهم في أذني وعند تكبيرهم وزحفهم رأيت حصناً قد ساخ في الأرض حتى لم أر منه شيئاً ورأيت خالداً، وقد دخلها بالسيف وكأن ناراً أمامه وكأنه وقع على النار فانطفأت، فقال الإمام علي كرم الله وجهه ورضي الله تعالى عنهم أجمعين: أبشر فقد فتح الشام هذه الليلة أو قال: يومك هذا إن شاء الله تعالى، فبعد أيام قدم عقبة بن عامر الجهني صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه كتاب الفتح، فلما رآه قال: يا ابن عامر كم عهدك. قال: قلت: يوم الجمعة. قال: ما معك من الخبر. فقلت: خير وبشارة وإني سأذكرها بين يدي الصديق رضي الله عنه. فقال: قبض والله حميداً وصار إلى رب كريم، وقلدها عمر الضعيف في جسمه فإن عدل فيها نجا وإن ترك أو خلط هلك. قال عقبة بن عامر: فبكيت وترحمت على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأخرجت الكتاب فدفعته إليه، فلما قرأه نظر فيه وكتم الأمر إلى وقت صلاة الجمعة. فلما خطب وصلى ورقى المنبر واجتمع المسلمون إليه وقرأ عليهم كتاب الفتح، فضج المسلمون بالتهليل والتكبير وفرحوا، ثم نزل عن المنبر وكتب إلى أبي عبيدة رضي الله عنه بتوليته وعزل خالد، ثم سلمني الكتاب وأمرني بالرجوع، قال فرجعت إلى دمشق فوجدت خالداً قد سار خلف توما وهربيس فدفعت الكتاب إلى أبي عبيدة فقرأه سراً ولم يخبر أحداً بموت أبي بكر الصديق رضي الله عنه ثم كتم أمره وكتم عزل خالد وتوليته على المسلمين حتى ورد خالد من السرية فكتب الكتاب بفتح دمشق ونصرهم على عدوهم وبما ملكوا من مرج الديباج وإطلاق بنت الملك هرقل وسلم الكتاب إلى عبد الله بن قرط، فلما ورد به إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقرأ عنوان الكتاب من خالد بن الوليد إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنكر الأمر ورجعت حمرته إلى البياض، وقال: يا ابن قرط أما علم الناس بموت أبي بكر رضي الله عنه وتوليتي أبا عبيدة بن الجراح? قال عبد الله بن قرط: قلت: لا، فغضب وجمع الناس إليه وقام على المنبر. ثم قال: يا معاشر الناس إني أمرت أبا عبيدة الرجل الأمين، وقد رأيته لذلك أهلاً، وقد عزلت خالداً عن إمارته، فقال رجل من بني مخزوم: أتعزل رجلاً قد أشهر الله بيده سيفاً قاطعاً ونصر به دينه، وإن الله لا يعذرك في ذلك ولا المسلمين إن أنت أغمدت سيفاً وعزلت أميراً أمره الله لقد قطعت الرحم، ثم سكت الرجل، فنظر عمر رضي الله عنه إلى الرجل المخزومي فرآه غلاماً حدث السن. فقال شاب حدث السن غضب لابن عمه ثم نزل عن المنبر وأخذ الكتاب وجعله تحت رأسه وجعل يؤامر نفسه في عزل خالد، فلما كان من الغد صلى صلاة الفجر وقام فرقى المنبر خطيباً فحمد الله وأثنى عليه وذكر الرسول صلى الله عليه وسلم فصلى عليه وترحم على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ثم قال: أيها الناس إني حملت أمانة عظيمة وإني راع وكل راع مسؤول عن رعيته، وقد جئت لإصلاحكم والنظر في معايشكم وما يقربكم إلى ربكم أنتم ومن حضر في هذا البلد فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من صبر على أذاها وشرها كنت له شفيعاً يوم القيامة" وبلادكم بلاد لا زرع فيها ولا ضرع ولا ما أوقر به الإبل إلا من مسيرة شهر وقد وعدنا الله مغانم كثيرة وإني أريدها للخاصة والعامة لأولي الأمانة والتوقير للمسلمين... وما كرهت ولاية خالد على المسلمين إلا لأن خالداً فيه تبذير المال يعطي الشاعر إذا مدحه ويعطي للمجاهد والفارس بين يديه فوق ما يستحقه من حقه ولا يبقي لفقراء المسلمين ولا لضعفائهم شيئاً، وإني أريد عزله وولاية أبي عبيدة مكانه والله يعلم أني ما وليته إلا أميناً فلا يقول قائلكم: عزل الرجل الشديد وولى الأمين اللين للمسلمين فإن الله معه يسدده ويعينه، ثم نزل عن المنبر وأخذ جلد أدم منشور وكتب إلى أبي عبيدة كتاباً فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى أبي عبيدة عامر بن الجراح سلام عليك فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وبعد، فقد وليتك أمور المسلمين فلا تستحي فإن الله لا يستحي من الحق، وإني أوصيك بتقوى الله الذي يبقى ويفنى ما سواه والذي استخرجك من الكفر إلى الإيمان، ومن الضلال إلى الهدى، وقد استعملتك على جند ما هنالك مع خالد فاقبض جنده واعزله عن إمارته ولا تنفذ المسلمين إلى هلكة رجاء غنيمة ولا تنفذ سرية إلى جمع كثير ولا تقل إني أرجو لكم النصر فإن النصر إنما يكون مع اليقين والثقة بالله، وإياك والتغرير بإلقاء المسلمين إلى الهلكة، وغض عن الدنيا عينيك وإله عنها قلبك، وإياك أن تهلك كما هلك من كان قبلك فقد رأيت مصارعهم وخبرت سرائرهم وإنما بينك وبين الآخرة ستر الخمار وقد تقدم فيها سلفك وأنت كأنك منتظر سفراً ورحيلاً من دار قد مضت نضرتها وذهبت زهرتها فأحزم الناس فيها الراحل منها إلى غيرها ويكون زاده التقوى وراع المسلمين ما استطعت، وأما الحنطة والشعير الذي وجدت بدمشق وكثرت في ذلك مشاجرتكم فهو للمسلمين، وأما الذهب والفضة ففيهما الخمس والسهام، وأما اختصامك أنت وخالد في الصلح أو القتال فأنت الولي وصاحب الأمر وإن صلحك جرى على الحقيقة أنها للروم فسلم إليهم ذلك والسلام ورحمة الله وبركاته عليك وعلى جميع المسلمين.
وأما هديتك ابنة الملك هرقل فهديتها إلى أبيها بعد أسرها تفريط، وقد كان يأخذ في فديتها مالاً كثيراً يرجع به على الضعفاء من المسلمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وطوى الكتاب وختمه بخاتمه، ثم دعا بعامر بن أبي وقاص أخي سعد ودفع الكتاب إليه، وقال له: انطلق إلى دمشق وسلم كتابي هذا إلى أبي عبيدة وأمره أن يجمع الناس إليه واقرأه أنت على الناس يا عامر وأخبره بموت أبي بكر الصديق رضي الله عنه ثم دعا عمر رضي الله عنه بشداد بن أوس فصافحه، وقال له: امض أنت وعامر إلى الشام فإذا قرأ أبو عبيدة الكتاب فأمر الناس يبايعونك لتكون بيعتك بيعتي.
قال الواقدي: فانطلقا يجدان في السير إلى أن وصلا إلى دمشق والناس مقيمون بها ينتظرون ما يأتيهم من خبر أبي بكر الصديق رضي الله عنه وما يأمرهم به فأشرف صاحبا عمر رضي الله عنه على المسلمين، وقد طالت أعناقهم إليهما وفرحوا بقدومهما فأقبلا حتى نزلا في خيمة عمر رضي الله عنه وقال له عامر بن أبي وقاص: تركته يعني عمر بخير ومعي كتاب وإنه أمرني أن أقرأه على الناس بالاجتماع فاستنكر خالد ذلك واستراب الأمر وجمع المسلمين إليه فقام عامر بن أبي وقاص فقرأ الكتاب فلما انتهى إلى وفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ارتفع للناس ضجة عظيمة بالبكاء والنحيب وبكى خالد رضي الله عنه، وقال: إن كان أبو بكر قد قبض وقد استخلف عمر فالسمع والطاعة لعمر وما أمر به وقرأ عامر الكتاب إلى آخره، فلما سمع الناس بما فيه من أمر المبايعة لشداد بن أوس بايعوه، وكانت المبايعة بدمشق لثلاث خلت من شهر شعبان سنة ثلاث عشر من الهجرة.
قال الواقدي رحمه الله تعالى: قد بلغني أنه كان على العدو بعد عزله أشد فظاعة وأصعب جهاداً لا سيما في حصن أبي القدس.
__________________
اللهم يا من جعلت الصلاة على النبي قربة من القربات نتقرب اليك
بكل صلاة صليت عليه من اول النشأة الى ما لا نهاية الكمالات
admin غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-09-2012
  #4
أبو أنور
يارب لطفك الخفي
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 3,299
معدل تقييم المستوى: 19
أبو أنور is on a distinguished road
افتراضي رد: معارك الشام

سيرتهم تنعش الارواح
__________________
أبو أنور غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-09-2012
  #5
محب الصالحين
محب فعال
 
تاريخ التسجيل: Apr 2011
المشاركات: 65
معدل تقييم المستوى: 13
محب الصالحين is on a distinguished road
افتراضي رد: معارك الشام

لا أظن أن معارك الشام اليوم تقل أهمية عن معاركها بالأمس .
ولكن الشام عصية على الطغام اللئام الأقزام .
محب الصالحين غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-10-2012
  #6
فراج يعقوب
عضو شرف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 1,269
معدل تقييم المستوى: 16
فراج يعقوب is on a distinguished road
افتراضي رد: معارك الشام

اللهم فرج عن الشام
وقهم مكر اللئام
وكذا سائر أمة الإسلام
بجاه الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم
__________________
اللهم صل على سيدنا محمد صاحب الكوثر صلاة لاتعد ولاتكيف ولاتحصر ننال بها الرضوان الأكبر وجواره يوم المحشر وعلى آله وسلم
فراج يعقوب غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 06-09-2012
  #7
admin
مدير عام
 الصورة الرمزية admin
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: uae
المشاركات: 717
معدل تقييم المستوى: 10
admin تم تعطيل التقييم
افتراضي رد: معارك الشام

اللهم امين
__________________
اللهم يا من جعلت الصلاة على النبي قربة من القربات نتقرب اليك
بكل صلاة صليت عليه من اول النشأة الى ما لا نهاية الكمالات
admin غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 06-09-2012
  #8
محب الصالحين
محب فعال
 
تاريخ التسجيل: Apr 2011
المشاركات: 65
معدل تقييم المستوى: 13
محب الصالحين is on a distinguished road
افتراضي رد: معارك الشام

حفظ الله بلاد الشام المباركة وحفظ اهلها الكرام
ووقاهم شر الرافضه الصفويين المجوس.
محب الصالحين غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
تين الشام نوح ركن بلاد الشام 6 09-12-2009 03:27 PM
ست الشام نوح ركن بلاد الشام 1 02-24-2009 08:23 AM
رسالة من داخل معارك الفرقان جندي من القسام صبا الجمال ركن بلاد الشام 8 01-09-2009 12:47 AM
معارك العقيدات مع شمر نوح ركن وادي الفرات 0 08-31-2008 05:53 PM
الشام أبوانس ركن بلاد الشام 2 08-11-2008 09:40 PM


الساعة الآن 03:48 AM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir